4. مصاحف

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 13. و14. المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 مجلد 13. و14. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

13.

مجلد 13. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد
 مسألة وفصل : شرط دعوى الرجل الرجعة ودعوى المرأة انقضاء العدة
مسألة : قال : وإذا قال قد ارتجعتك فقالت قد انفضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها ما ادعت من ذلك ممكنا
وجملة ذلك أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها في مدة يمكن انقضاؤها فيها قبل قولها لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } قيل في التفسير هو الحيض والحمل فلولا أن قولهن مقبول لم يحرجن بكتمانه ولأنه أمر تختص بمعرفته فكان القول قولها فيه كالنية من الإنسان فيما تعتبر فيه النية أو أمر لا يعرف إلا من جهتها فقبل قولها فيه كما يجب على التابعي قبول خبر الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما ما تنقضي به العدة فلا يخلو من ثلاثة أقسام
القسم الأول : أن تدعي انقضاء عدتها بالقروء وأقل ذلك ينبني على الخلاف في أقل الطهر بين الحيضتين وعلى الخلاف في القروء هل هي الحيض أو الاطهار ؟ فإن قلنا هي الحيض وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما فأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظة وذلك أن يطلقها مع آخر الطهر ثم تحيض بعده يوما وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض وإن لم تكن هذه اللحظة من عدتها فلا بد منها لمعرفة انقطاع حيضها ولو صادفتها رجعته لم تصح ومن اعتبر الغسل في قضاء العدة فلا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض وإن قلنا القرء الحيض والطهر خمسة عشر يوما فأقل ما تنقضي به العدة ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة تزيد أربعة أيام في الطهرين وإن قلنا القروء الأطهار وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما فإن عدتها تنقضي بثمانية وعشرين يوما ولحظتين وهو أن يطلقها في آخر لحظة من طهرها فتحتسب بها قرءا ثم تحتسب طهرين آخرين ستة وعشرين يوما وبينهما حيضتين يومين فإذا طعنت في الحيضة الثالثة لحظة انقضت عدتها وإن قلنا الطهر خمسة عشر يوما زدنا على هذا أربعة أيام في الطهرين فيكون اثنين وثلاثين يوما ولحظتين وهذا قول الشافعي فإن كانت أمة انقضت عدتها بخمسة عشر يوما ولحظة على الوجه الأول وتسعة عشر يوما ولحظة على الوجه الثاني وبأربعة عشر يوما ولحظتين على الوجه الثالث وستة عشر يوما ولحظتين على الوجه الرابع فمتى ادعت انقضاء عدتها بالقروء في أقل من هذا لم يقبل قولها عند أحد فيما أعلم لأنه لا يحتمل صدقها
وإن ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر لم يقبل قولها إلا ببينة لأن شريحا قال : إذا ادعت انها حاضت ثلاث حيض في شهر وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله انها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها وإلا فهي كاذبة وقال له علي بن أبي طالب : قالون ومعناه بالرومية أصبت أو أحسنت فأخذ أحمد بقول علي في الشهر فإن ادعت ذلك في أكثر من شهر صدقها على حديث [ إن المرأة أؤتمنت على فرجها ] ولأن حيضها في الشهر ثلاث حيض يندر جدا فرجح ببينة ولا يندر فيما زاد على الشهر كندرته فيه فقبل قولها من غير بينة وقال الشافعي : لا يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين ولا يقبل في أقل من ذلك بحال لأنه لا يتصور عنده أقل من ذلك
وقال النعمان : لا تصدق في أقل من ستين يوما وقال صاحباه : لا تصدق في أقل من تسعة وثلاثين يوما لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام فثلاث حيض تسعة أيام وطهران ثلاثون يوما والخلاف في هذا ينبني على الخلاف في أقل الحيض وأقل الطهر وفي القروء ما هي وقد سبق
ومما يدل عليه في الجملة قبول علي وشريح بينتها على انقضاء عدتها في شهر ولولا تصوره لما قبلت عليه بينة ولا سمعت فيه دعوى ولا يتصور إلا بما قلناه فأما إن ادعت انقضاء العدة في أقل من ذلك لم تسمع دعواها ولا يصغى إلى بينتها لأننا نعلم كذبها فإن بقيت على دعواها حتى أتى عليها ما يمكن صدقها فيه نظرنا فإن بقيت على دعواها المردودة لم يسمع قولها لأنها تدعي محالا وإن ادعت انها انقضت عدتها في هذه المدة كلها أو في ما يمكن منها قبل قولها لأنه أمكن صدقها ولا فرق في ذلك بين الفاسقة والمرضية والمسلمة والكافرة لأن ما يقبل فيه قول الإنسان على نفسه لا يختلف باختلاف حاله كإخباره عن بينة فيما تعتبر فيه بينة
القسم الثاني : أن تدعي انقضاء عدتها بوضع الحمل فلا يخلو إما أن تدعي وضع الحمل التام أو انها أسقطته قبل كماله فإن ادعت وضعه لتمام فلا يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد العقد لأنه لا يكمل في أقل من ذلك وإن ادعت أنها أسقطته لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوما من حين إمكان الوطء بعد عقد النكاح لأن أقل سقط تنقضي به العدة ما أتى عليه ثمانون يوما لأنه يكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة بعد الثمانين ولا تنقضي به العدة قبل أن يصير مضغة بحال وهذا ظاهر قول الشافعي
القسم الثالث : أن تدعي انقضاء عدتها بالشهور فلا يقبل قولها فيه لأن الخلاف في ذلك ينبني على الاختلاف في وقت الطلاق والقول قول الزوج فيه فيكون القول قوله فيما ينبني عليه إلا أن يدعي الزوج انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها مثل أن يقول طلقتك في شوال فتقول هي بل في ذي الحجة فالقول قولها لأنه يدعي ما يسقط النفقة والأصل وجوبها فلا يقبل إلا ببينة ولو ادعت ذلك ولم يكن لها نفقة قبل قولها لأنها تقر على نفسها بما هو أغلظ
ولو انعكست الدعوى فقال طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك فقالت بل طلقتني في شوال فلا رجعة لك فالقول قوله لأن الأصل بقاء نكاحه ولأن القول قوله في إثبات الطلاق ونفيه فكذلك في وقته إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا القول قولها فأنكرها الزوج فقال الخرقي : عليها اليمين وهو قول الشافعي و أبو يوسف و محمد وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب
وقال القاضي : قياس المذهب أن لا يجب عليها يمين وقد أومأ إليه أحمد فقال : لا يمين في نكاح ولا طلاق وهو قول أبي حنيفة لأن الرجعة لا يصح بذلها فلا يستحلف فيها كالحدود والأول أولى لقول رسول الله : [ اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق آدمي يمكن صدق مدعيه فيجب اليمين فيه كالأموال فإن نكلت عن اليمين فقال القاضي : لا يقضى بالنكول لأنه مما لا يصح بذله ويحتمل أن يستحلف الزوج وله رجعتها بناء على القول برد اليمين على المدعي وذلك لأنه لما وجد النكول منها ظهر صدق الزوج وقوي جانبه واليمين تشرع في حق من قوي جانبه ولذلك شرعت في حق المدعى عليه لقوة جانبه باليد في العين وبالأصل في براءة الذمة في الدين وهذا مذهب الشافعي
فصل : وإذا ادعى الزوج في عدتها كان راجعها أمس أو منذ شهر قبل قوله لأنه لما ملك الرجعة ملك الإقرار بها كالطلاق وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وإن قال بعد انقضاء عدتها : كنت راجعتك في عدتك فأنكرته فالقول قولها بإجماعهم لأنه ادعاها في زمن لا يملكها والأصل عدمها وحصول البينونة فإن كان اختلافهما في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها وبقاؤها فبدأت فقالت انقضت عدتي فقال قد كنت راجعتك فأنكرته لم يقبل قوله لأن خبرها بانقضاء عدتها مقبول لإمكانه فصارت دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضاء عدتها فلم تقبل فإن سبقها بالدعوى فقال قد كنت راجعتك أمس فقالت قد انقضت عدتي قبل دعواك فالقول قوله لأن دعواه للرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها في زمن الظاهر قبول قوله فيه فلا يقبل قولها بعد ذلك في إبطاله ولو سبق فقال قد راجعتك فقالت قد انقضت عدتي قبل رجعتك فأنكرها فقال القاضي : القول قوله لما ذكرنا وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي وظاهر كلام الخرقي أن قولها مقبول سواء سبقها بالدعوى أو سبقته وهو وجه ثان لأصحاب الشافعي لأن الظاهر البينونة والأصل عدم الرجعة فكان الظاهر معها ولأن من قبل قوله سابقا قبل قوله مسبوقا كسائر من يقبل قوله ولهم وجه ثالث أن القول قول الزوج بكل حال لأن المرأة تدعي ما يرفع النكاح وهو ينكره فكان القول قوله كما لو ادعى المولي والعنين إصابة امرأته فأنكرته وهذا لا يصح فإنه قد انعقد سبب البينونة وهو مفض إليها ما لم يوجد ما يرفعه ويزيل حكمه والأصل عدمه فكان القول قول من ينكره بخلاف ما قاسوا عليه وإن وقع القول منهما جميعا فلا رجعة لأن خبرها بانقضاء عدتها يكون بعدها فيكون قوله بعد العدة فلا يقبل قال أبو الخطاب : ويحتمل أن يقرع بينهما فيكون القول قول من تقع له القرعة والصحيح الأول

فصل : حكم ما لو اختلفا في الإصابة
فصل : وإن اختلفا في الإصابة فقال قد أصبتك فلي رجعتك فأنكرته أو قالت قد أصابني فلي المهر كاملا فالقول قول المنكر منهما لأن الأصل معه فلا يزول إلا بيقين وليس له رجعتها في الموضعين لأنه أنكر الإصابة فهو يقر على نفسه ببينونتها وانه لا رجعة له عليها وإن أنكرتها هي فالقول قولها ولا تستحق إلا نصف المهر في الموضعين لأنها إن أنكرتها فهي مقرة إنها لا تستحق إلا نصف المهر وإن أنكرها فالقول قوله هذا إن كان غير مقبوض فإن كان اختلافهما بعد قبضها لها وادعى إصابتها فأنكرته لم يرجع عليها بشري لأنه يقر لها به ولا يدعيه وإن كان هو المنكر رجع عليها بنصفه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن قيل فلم قبلتم قول المولي والعنين في الإصابة ولم تقبلوه ههنا ؟
قلنا لأن المولي والعنين يدعيان ما يبقي النكاح على الصحة ويمنع فسخه والأصل صحة العقد وسلامته فكان قولهما موافقا للأصل فقبل وفي مسألتنا قد وقع ما يرفع النكاح ويزيله وهو مار إلى بينونة وقد اختلفا فيما يرفع حكم الطلاق ويثبت له الرجعة والأصل عدم ذلك فكان قوله مخالفا للأصل فلم يقبل ولأن المولي والعنين يدعيان الإصابة في موضع تحققت فيه الخلوة والتمكين من الوطء لأنه لو لم يوجد ذلك لما استحقتا الفسخ بعد الوطء فكان الاختلاف فيما يختص به وفي مسألتنا لم تتحقق خلوة ولا تمكين لأنه لو تحقق ذلك لوجب المهر كاملا فكان الاختلاف في أمر ظاهر لا يختص به فلم يقبل فيه قول مدعيه إلا ببينة وهل يشرع اليمين في حق من القول قوله ههنا ؟ على وجهين

فصول : الخلوة كالإصابة في إثبات الرجعة للزوج
فصل : والخلوة كالإصابة في إثبات الرجعة للزوج على المرأة التي خلا بها في ظاهر قول الخرقي لقوله حكمها حكم الدخول في جميع أمورها وهذا قول الشافعي في القديم وقال أبو بكر : لا رجعة له عليها إلا أن يصيبها وبه قال النعمان وصاحباه و الشافعي في الجديد لأنها غير مصابة فلا تستحق رجعتها كغير التي خلا بها
ولنا قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } - إلى قوله - { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ولأنها معتدة من طلاق لا عوض فيه ولم تستوف عدده فثبت عليها الرجعة كالمصابة ولأنها معتدة يلحقها طلاقه فملك رجعتها كالتي أصابها وفارق التي لم يخل بها فإنها بائن منه لا عدة لها ولا يلحقها طلاقه وإنما تكون الرجعة للمعتدة التي يلحقها طلاقه
فصل : وإن ادعى زوج الأمة بعد عدتها أنه كان راجعها في عدتها فكذبته وصدقه مولاها فالقول قولها نص عليه أحمد وبذلك قال أبو حنيفة و مالك وقال أبو يوسف و محمد : القول قول الزوج وهو أحق بها لأن إقرار مولاها مقبول في نكاحها فقبل قوله في رجعتها كالحرة إذا أقرت
ولنا أن قولها في انقضاء عدتها مقبول فقبل في إنكارها للرجعة كالحرة ولأنه اختلاف منهما فيما يثبت به النكاح فيكون المنازع هي دون سيدها كما لو اختلفا في الإصابة وإنما قبل قول السيد في النكاح لأنه يملك إنشاءه فملك الإقرار به بخلاف الرجعة وإن صدقته هي وكذبه مولاها لم يقبل إقرارها لأن حق السيد يتعلق بها وحلت له بانقضاء عدتها فلم يقبل قولها في ابطال حقه كما لو تزوجت ثم أقرت أن مطلقها كان راجعها ولا يلزم من قبول إنكارها قبول تصديقها كالتي تزوجت فإنه يقبل إنكارها ولا يقبل تصديقها إذا ثبت هذا فإن مولاها إذا علم صدق الزوج في رجعتها لم يحل له وطؤها ولا تزويجها وإن علمت هي صدق الزوج في رجعتها فهي حرام على سيدها ولا يحل لها تمكينه من وطئها إلا مكرهة كما قبل طلاقها
فصل : ولو قالت انقضت عدتي ثم قالت ما انقضت بعد فله رجعتها لأنها أقرت بكذبها في ما يثبت به حق عليها فقبل إقرارها ولو قال أخبرتني بانقضاء عدتها ثم راجعتها ثم أقرت بكذبها في انقضاء عدتها وأنكرت ما ذكر عنها وأقرت بأن عدتها لم تنقض فالرجعة صحيحة لأنه لم يقر بانقضاء عدتها وإنما أخبر بخبرها عن ذلك وقد رجعت عن خبرها فقبل رجوعها لما ذكرناه

مسألة : قال : وإذا طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية بنت على ما مضى من العدة
مسألة : قال : وإذا طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية بنت على ما مضى من العدة
وبهذا قال أبو حنيفة وهو قول الشافعي وله قول ثان إنها تستأنف العدة لأنها طلقة واقعة في حق مدخول بها فاقتضت عدة كاملة كالأولى
ولنا أنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة فلم يجب بهما أكثر من عدة كما لو والى بينهما أو كما لو انقضت عدتها ثم نكحها وطلقها قبل دخوله بها وهكذا الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما أو لعتقها تحت عبد أو غيره أو انفسخ نكاحها لرضاع أو اختلاف دين أو غير ذلك لأن الفسخ في معنى الطلاق

فصل : حكم لو طلقها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخوله بها
فصل : وإن طلقها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخوله بها ففيه روايتان إحداهما : تبني على ما مضى من العدة نقلها الميموني وهي اختيار أبي بكر وقول عطاء وأحد قولي الشافعي لأنهما طلاقان لم يتخللهما دخول بها فكانت العدة من الأول منهما كما لو لم يرتجعها ولأن الرجعة لم يتصل بها دخول فلم يجب بالطلاق منها عدة كما لو نكحها ثم طلقها قبل الدخول
والثانية : تستأنف العدة نقلها ابن منصور وهي أصح وهذا قول طاوس و أبي قلابة و عمرو بن دينار و جابر و سعيد بن عبد العزيز و إسحاق و أبو ثور و أبي عبيد وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال الثوري : أجمع الفقهاء على هذا
وحكى أبو الخطاب عن مالك إن قصد الاضرار بها بنت وإلا استأنفت لأن الله تعالى إنما جعل الرجعة لمن أراد الاصلاح بقوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } والذي قصد الإضرار لم يقصد الإصلاح
ولنا انه طلاق في نكاح مدخول بها فيه فأوجب عدة كاملة كما لو لم يتقدمه طلاق وهذا لأن الطلقة الأولى شعثت النكاح والرجعة لمت شعثه وقطعت عمل الطلاق فصار الطلاق الثاني في نكاح غير مشعث مدخول بها فيه فأوجب عدة كالأول وكما لو ارتدت ثم أسلمت ثم طلقها فإنها تستأنف عدة كذا ههنا ويفارق الطلاق قبل الرجعة فإنه جاء بعد طلاق مفض إلى بينونة فإن راجعها ثم دخل بها ثم طلقها فإنها تستأنف عدة بغير اختلاف بين أهل العلم لأنه بالوطء بعد الرجعة صار كالناكح ابتداء إذا وطئ

فصل : حكم لو خالع زوجته ثم نكحها في عدتها
فصل : وإن خالع زوجته أو فسخ النكاح ثم نكحها في عدتها ثم طلقها فإن كان دخل بها فعليها العدة بلا خلاف لأنه طلاق في نكاح مدخول بها فيه لم يتقدمه طلاق سواه وإن لم يكن دخل بها بنت على العدة الأولى في الصحيح من المذهب وعنه أنها تستأنف العدة وهو قول أبي حنيفة لأن النكاح أقوى من الرجعة ولو طلقها بعد الرجعة استأنفت العدة فههنا أولى
ولنا انه طلاق من نكاح لم يصبها فيه فلم تجب به عدة كما لو نكحها بعد انقضاء عدتها وفارق الرجعة لأنها ردت المرأة إلى النكاح الأول فكان الطلاق الثاني في نكاح اتصل به الدخول وهذا النكاح الجديد بعد البينونة من الأولى ولم يوجد فيه دخول فأشبه التزويج بعد قضاء العدة وأما بناؤها على العدة الأولى فلأنها إنما قطع حكمها النكاح وقد زال فيعود إليها ولو أسلمت زوجته ثم أسلم في عدتها أو أسلم هو ثم أسلمت في عدتها وطلقها قبل وطئه أو بعده أو ارتدت ثم أسلمت ثم طلقها فعليها عدة مستأنفة بلا خلاف لأنه طلاق في نكاح وطئ فيه أشبه الطلاق في النكاح الأول

فصل : حكم وطء الرجعية وما يترتب عليه
فصل : ومتى وطئ الرجعية وقلنا إن الوطء لا تحصل به الرجعة فعليها أن تستأنف العدة من الوطء ويدخل فيها بقية عدة الطلاق لأنهما عدتان من رجل واحد فتداخلتا كما لو طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها وله ارتجاعها في بقية العدة الأولى لأنها عدة من الطلاق فإذا مضت البقية لم يكن له إرتجاعها في بقية عدة الوطء لأنها عدة من وطء شبهة فإن حبلت من الوطء صارت في عدة الوطء وتدخل فيها البقية الأولى ولأنهما عدتان لواحد فأشبه ما لو كانا بالاقراء وتنقضي العدتان جميعا بوضع الحمل لأنه لا يتبعض وله مراجعتها قبل وضعه لأنها في عدة من الطلاق ويحتمل أن لا يتداخلا لأنهما من جنسين فعلى هذا تصير معتدة من الوطء خاصة وهل له رجعتها في مدة الحمل ؟ على وجهين مضى توجيههما فيما إذا حملت من وطء زوج ثان فإذا وضعت أتمت عدة الطلاق وله ارتجاعها في هذه البقية لأنها من عدة الطلاق ولو طلقها حاملا ثم وطئها انقضت عدتها بوضع الحمل منهما جميعا ويحتمل أن تستأنف عدة الوطء بعد وضع الحمل لما ذكرنا ولا رجعة له بعد وضع الحمل في هذه الصورة بكل حال ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على ما ذكرنا سواء

مسألة : مراجعة الزوج امرأته الرجعية من غير علمها
مسألة : قال : وإذا طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم فاعتدت ثم نكحت من أصابها ردت إليه ولا يصيبها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين والأخرى هي زوجة الثاني
وجملة ذلك أن زوج الرجعية إذا راجعها وهي لا تعلم صحت المراجعة لأنها لا تفتقر إلى رضاها فلم تفتقر إلى علمها كطلاقها فإذا راجعها ولم تعلم فانقضت عدتها ثم تزوجت ثم جاء وادعى انه كان راجعها قبل انقضاء عدتها وأقام البينة على ذلك ثبت أنها زوجته وأن نكاح الثاني فاسد لأنه تزوج امرأة غيره وترد إلى الأول سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها هذا هو الصحيح وهو مذهب أكثر الفقهاء منهم الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الراي وروي ذلك عن علي رضي الله عنه
وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية ثانية إن دخل بها الثاني فهي امرأته ويبطل نكاح الأول روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول مالك وروي معناه عن سعيد بن المسيب و عبد الرحمن بن القاسم و نافع لأن كل واحد منهما عقد عليها وهي ممن يجوز له العقد في الظاهر ومع الثاني مزية الدخول فقدم بها
ولنا أن الرجعة قد صحت وتزوجت وهي زوجة الأول فلم يصح نكاحها كما لو لم يطلقها فإذا ثبت هذا فإن كان الثاني ما دخل بها فرق بينهما وردت إلى الأول ولا شيء على الثاني وإن كان دخل بها فلها عليه مهر المثل لأن هذا وطء شبهة وتعتد ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها منه وإن اقام البينة قبل دخول الثاني بها ردت إلى الأول بغير خلاف في المذهب وهو إحدى الروايتين عن مالك وأما إن تزوجها مع علمهما بالرجعة أو علم أحدهما فالنكاح باطل بغير خلاف والوطء محرم على من علم منهما وحكمه حكم الزاني في الحد وغيره لأنه وطئ امرأة غيره مع علمه فأما إن لم يكن لمدعي الرجعة بينة فأنكره أحدهما لم يقبل قوله ولكن إن أنكراه جميعا فالنكاح صحيح في حقهما وإن اعترفا له بالرجعة ثبتت والحكم فيه كما لو قامت به البينة سواء وإن أقر له الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه فتبين منه وعليه مهرها إن كان بعد الدخول أو نصفه إن كان قبله لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاط حقها عنه ولا تسلم المرأة إلى المدعي لأنه لا يقبل قول الزوج الثاني عليها وإنما يلزمه في حقه ويكون القول قولهما وهل هو مع يمينها أو لا ؟ على وجهين والصحيح أنها لا تستحلف لأنها لو أقرت لم يقبل إقرارها فإذا أنكرت لم تجب اليمين بإنكارها وإن اعترفت المرأة وأنكر الزوج لم يقبل اعترافها على الزوج في فسخ النكاح لأن قولها إنما يقبل على نفسها في حقها وهل يستحلف ؟ يحتمل وجهين
أحدهما : لا يستحلف اختاره القاضي لأنه دعوى في النكاح فلم يستحلف كما لو ادعى زوجية امرأة فأنكرته
والثاني : يستحلف قال القاضي وهو قول الخرقي لعموم قوله عليه السلام : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأنه دعوى في حق آدمي فيستحلف فيه كالمال فإن حلف فيمينه على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير فإن زال نكاحه بطلاق أو فسخ أو موت ردت إلى الأول من غير عقد لأن المنع من ردها إنما كان لحق الثاني فإذا زال زال المانع وحكم بأنها زوجة الأول كما لو شهد بحرية عبد ثم اشتراه عتق عليه ولا يلزمها للأول مهر بحال وذكر القاضي أن عليها له مهرا وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنها أقرت أنها حالت بينه وبين بضعها بغير حق فأشبه شهود الطلاق إذا رجعوا
ولنا أن ملكها استقر على المهر فلم يرجع به عليها كما لو ارتدت أو أسلمت أو قتلت نفسها فإن مات الأول وهي في نكاح الثاني فينبغي أن ترثه لإقراره بزوجيتها أو إقرارها بذلك وإن ماتت لم يرثها لأنها لا تصدق في إبطال ميراث الزوج الثاني كما لم تصدق في إبطال نكاحه ويرثها الزوج الثاني لذلك وإن مات الزوج الثاني لم ترثه لأنها تنكر صحة نكاحه فتنكر ميراثه

مسألة : أحكام المطلقة المبتوتة التي انقضت عدتها
مسألة : قال : وإذا طلقها ثلاثا وانقضت عدتها منه ثم أتته فذكرت أنها نكحت من أصابها ثم طلقها أو مات عنها وانقضت عدتها منه وكان ذلك ممكنا فله أن ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم ينكحها حتى يصح عنده قولها
وجملة ذلك أن المطلقة المبتوتة إذا مضى زمن بعد طلاقها يمكن فيه انقضاء عدتين بينهما نكاح ووطء فأخبرته بذلك وغلب على ظنه صدقها إما لمعرفته بأمانتها أو بخبر غيرها ممن يعرف حالها فله أن يتزوجها في قول عامة أهل العلم منهم الحسن و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي وذلك لأن المرأة مؤتمنة على نفسها وعلى ما أخبرت به عنها ولا سبيل إلى معرفة هذه الحال على الحقيقة إلا من جهتها فيجب الرجوع إلى قولها كما لو أخبرت بانقضاء عدتها فأما إن لم يعرف ما يغلب على ظنه صدقها لم يحل له نكاحها وقال الشافعي : له نكاحها لما ذكرنا أولا والورع أن لا ينكحها ولنا أن الأصل التحريم ولم يوجد غلبة ظن تنقل عنه فوجب البقاء عليه كما لو أخبره فاسق عنها

فصل : ادعاء المرأة أن الزوج الثاني أصابها
فصل : وإذا أخبرت أن الزوج أصابها فأنكر القول قولها في حلها للأول والقول قول الزوج في المهر ولا يلزمه إلا نصفه إذا لم يقر بالخلوة بها فإن قال الزوج الأول أنا أعلم أنه ما أصابها لم يحل له نكاحها لأنه يقر على نفسه بتحريمها فإن عاد فاكذب نفسه وقال قد علمت صدقها دين فيما بينه وبين الله تعالى لأن الحل والحرمة من حقوق الله تعالى فإذا علم حلها له لم تحرم بكذبه وهذا مذهب الشافعي ولأنه قد يعلم ما لم يكن علمه ولو قال ما أعلم أنه أصابها لم تحرم عليه بهذا لأن المعتبر في حلها له خبر يغلب على ظنه صدقه لا حقيقة العلم

فصل : هل يلزم الرجعية عدم الزواج احتياطا ؟
فصل : وإذا طلقها طلاقا رجعيا وغاب وقضت عدتها وأرادت التزوج فقال وكيله : توقفي كيلا يكون راجعك لم يجب عليها التوقف لأن الأصل عدم الرجعة وحل النكاح فلا يجب الزوال عنه بأمر مشكوك فيه ولأنه أمر لو وجب عليها التوقف في هذه الحال لوجب عليها التوقف قبل قوله لأن احتمال الرجعة موجودة سواء قال أو لم يقل فيفضي إلى تحريم النكاح على كل رجعية غاب زوجها أبدا

فصل : تصديق المطلقة ثلاثا إذا اخبرت بما عليها
فصل : فإذا قالت قد تزوجت من أصابني ثم رجعت عن ذلك قبل أن يعقد عليها لم يجز العقد لأن الخبر المبيح للعقد قد زال فزالت الإباحة وإن كان بعد ما عقد عليها لم يقبل لأن ذلك ابطال للعقد الذي لزمها بقولها فلم يقبل كما لو ادعى زوجية امرأة فأقرت له بذلك ثم رجعت عن الإقرار

كتاب الإيلاء تعريف الايلاء في اللغة وفي الشرع
الإيلاء في اللغة الحلف يقال آلى يولي إيلاء وألية وجمع الألية الألايا قال الشاعر :
( قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا صدرت منه الألية برت )
ويقال تألى يتألى وفي الخبر من يتأل على الله يكذبه فأما الايلاء في الشرع فهو الحلف على ترك وطء المرأة والأصل فيه قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } وكان أبي بن كعب وابن عباس يقرآن يقسمون

مسألة : قال : والمولى الذي يحلف بالله عز و جل
مسألة : قال : والمولي الذي يحلف بالله عز و جل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر
وجملته أن شروط الإيلاء أربعة : أحدها أن يحلف بالله تعلى أو بصفة من صفاته ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك إيلاء فأما إن حلف على ترك الوطء بغير هذا مثل أن حلف بطلاق أو عتاق أو صدقة المال أو الحج أو الظهار ففيه روايتان إحداهما : لا يكون موليا وهو قول الشافعي القديم
والرواية الثانية : هو مول وروي عن ابن عباس أنه قال كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء وبذلك قال الشعبي و النخعي و مالك وأهل الحجاز و الثوري و أبو حنيفة وأهل العراق و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد وغيرهم : لأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء كالحلف بالله ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف بدليل أنه لو قال متى حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال إن وطئتك فأنت طالق طلقت في الحال وقال أبو بكر كل يمين من حرام أو غيرها يجب بها كفارة يكون الحالف بها موليا وأما الطلاق والعتاق فليس الحلف به إيلاء لأنه يتعلق به حق آدمي وما أوجب كفارة تعلق بها حق الله تعالى والرواية الأولى هي المشهورة لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسم ولهذا قرأ أبي وابن عباس يقسمون مكان يؤلون وروي عن ابن عباس في تفسير يؤلون قال يحلفون بالله هكذا ذكره الإمام أحمد والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ولا يجاب بجوابه ولا يذكره أهل العربية في باب القسم فلا يكون إيلاء وإنما يسمى حلفا تجوزا لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر والكلام عند إطلاقه لحقيقته يدل على هذا قول الله تعالى { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله وأيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] وقوله [ إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ] متفق عليه وإن سلمنا أن غير القسم حلف لكن الحلف بإطلاقه إنما ينصرف إلى القسم وإنما يصرف إلى غير القسم بدليل ولا خلاف في أن القسم بغير الله تعالى وصفاته لا يكون إيلاء لأنه لا يوجب كفارة ولا شيئا يمنع من الوطء فلا يكون إيلاء كالخبر بغير القسم وإذا قلنا بالرواية الثانية فلا يكون موليا إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث فيه حق كقوله إن وطئتك فعبدي حر أو فأنت طالق أو فأنت علي كظهر أمي أو أنت علي حرام أو فلله علي صوم سنة أو الحج أو صدقة فهذا يكون إيلاء لأنه يلزمه بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه وإن قال إن وطئتك فأنت زانية لم يكن موليا لأنه لا يلزمه بالوطء حق ولا يصير قاذفا بالوطء لأن القذف لا يتعلق بالشرط ولا يجوز أن تصير زانية بوطئه لها كما لا تصير زانية بطلوع الشمس وإن قال إن وطئتك فلله علي صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها بعد مضيه لم يلزمه حق فإن صوم هذا الشهر لا يتصور بعد مضيه فلا يلزم بالنذر كما لو قال إن وطئتك فلله علي صوم أمس وإن قال إن وطئتك فلله علي أن أصلي عشرين ركعة كان موليا
وقال أبو حنيفة : لا يكون موليا لأن الصلاة لا يتعلق بها مال ولا تتعلق بمال فلا يكون الحالف بها موليا كما لو قال إن وطئتك فلله علي أن أمشي في السوق
ولنا ان الصلاة تجب بالنذر فكان الحالف بها موليا كالصوم والحج وما ذكره لا يصح فإن الصلاة تحتاج إلى الماء والسترة وأما المشي في السوق فقياس المذهب على هذه الرواية أنه يكون موليا لأنه يلزمه بالحنث في هذا النذر أحد شيئين : إما الكفارة وإما المشي فقد صار الحنث موجبا لحق عليه فعلى هذا يكون موليا بنذر فعل المباحات والمعاصي أيضا فإن نذر المعصية موجب للكفارة في ظاهر المذهب وإن سلمنا فالفرق بينهما أن المشي لا يجب بالنذر بخلاف مسألتنا وإذا استثنى في يمينه لم يكن موليا في قول الجميع لأنه لا يلزمه كفارة بالحنث فلم يكن الحنث موجبا لحق عليه وهذا إذا كانت اليمين بالله تعالى أو كانت يمينا مكفرة فأما الطلاق والعتاق فمن جعل الاستثناء فيهما غير مؤثر فوجوده كعدمه ويكون موليا بهما سواء استثنى أو لم يستثن

فصل : المدة المعتبرة لصحة الايلاء
فصل : الشرط الثاني : أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر وهذا قول ابن عباس و طاوس و سعيد بن جبير و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور و أبي عبيد وقال عطاء و الثوري وأصحاب الرأي إذا حلف على أربعة أشهر فما زاد كان موليا وحكى ذلك القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد لأنه ممتنع من الوطء باليمين أربعة أشهر فكان موليا كما لو حلف على ما زاد وقال النخعي و قتادة و حماد و ابن أبي ليلى و إسحاق : من حلف على ترك الوطء في قليل من الأوقات أو كثر وتركها أربعة أشهر فهو مول لقول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } وهذا مول فإن الإيلاء الحلف وهذا حالف
ولنا أنه لم يمنع نفسه من الوطء باليمين أكثر من أربعة أشهر فلم يكن موليا كما لو حلف على ترك قبلتها والآية حجة لنا لأنه جعل له تربص أربعة أشهر فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربص لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك ومع انقضائه وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة تناولها الإيلاء ولأن المطالبة انما تكون بعد أربعة أشهر فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون لم تصح المطالبة من غير إيلاء و أبو حنيفة ومن وافقه بنوا ذلك على قولهم في الفيئة انها تكون في مدة الأربعة أشهر وظاهر الآية خلافه فإن الله تعالى قال : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا } فعقب الفيء عقيب التربص بفاء التعقيب فيدل على تأخرها عنه
إذ ثبت هذا فحكي عن ابن عباس أن المولي من يحلف على ترك الوطء أبدا أو مطلقا لأنه إذا حلف على ما دون ذلك أمكنه التخلص بغير حنث فلم يكن موليا كما لو حلف لا وطئها في مدينة بعينها
ولنا أنه لا يمكنه التخلص بعد التربص من يمينه بغير حنث فأشبه المطلقة بخلاف اليمين على مدينة معينة فإنه يمكن التخلص بغير الحنث ولأن لأربعة الأشهر مدة تضرر المرأة بتأخير الوطء عنها فإذا حلف على أكثر منها كان موليا كالأبد ودليل الوصف ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول :
( تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبه )
( فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه )
( مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه )
فسأل عمر نساءه : كم تصبر المرأة عن الزوج ؟ فقلن شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفد الصبر فكتب إلى أمراء الأجناد أن لا تحبسوا رجلا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر

فصل : تعليق الإيلاء على شرط مستحيل
فصل : وإذا علق الإيلاء بشرط مستحيل كقوله : والله لا وطئتك حتى تصعدي السماء أو تقلبي الحجر ذهبا أو يشيب الغراب فهو مول لأن معنى ذلك ترك وطئها فإن ما يراد إحالة وجوده يعلق على المستحيلات قال الله تعالى في الكفار { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } ومعناه لا يدخلون الجنة أبدا وقال بعضهم
( إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب )
وإن قال والله لا وطئتك حتى تحبلي فهو مول لأن حبلها بغير وطء مستحيل عادة فهو كصعود السماء وقال القاضي و أبو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس بمول إلا أن تكون صغيرة يغلب على الظن أنها لا تحمل في أربعة أشهر أو آيسة فأما إن كانت من ذوات الأقراء فلا يكون موليا لأنه يمكن حملها قال القاضي : وإذا كانت الصغيرة بنت تسع سنين لم يكن موليا لأن حملها ممكن
ولنا أن الحمل بدون الوطء مستحيل عادة فكان تعليق اليمين عليه إيلاء كصعود السماء ودليل استحالته قول مريم { أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } وقوله تعالى { يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } ولولا استحالته لما نسبوها إلى البغاء لوجود الولد وأيضا قول عمر رضي الله عنه : الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأن العادة أن الحبل لا يوجد من غير وطء فإن قالوا يمكن حبلها من وطء الغير أو باستدخال منيه قلنا أما الأول فلا يصح فإنه لو صرح به فقال لا وطئتك حتى تحبلي من غيري أو ما دمت في نكاحي أو حتى تزني كان موليا ولو صح ذكروه لم يكن موليا وأما الثاني فهو من المستحيلات عادة إن وجد كان من خوارق العادات بدليل ما ذكرناه وقد قال أهل الطب أن المني إذا برد لم يخلق منه ولد وصحح قولهم قيام الأدلة التي ذكرنا بعضها وجريان العادة على وفق ما قالوا وإذا كان تعليقه على موته أو موتها أو موت زيد إيلاء فتعليقه على حبلها بغير وطء أولى وإن قال أردت بقولي حتى تحبلي السببية ولم أرد الغاية ومعناه لا أطؤك لتحبلي قبل منه ولم يكن موليا لأنه ليس بحالف على ترك الوطء وإنما هو حالف على قصد ترك الحبل به فإن حتى تستعمل بمعنى السببية

فصلان : الايلاء بتعليق الوطء على أمر ممكن
فصل : وإن علقه على غير مستحيل فذلك على خمسة أضرب
أحدها : ما يعلم أنه لا يوجد قبل أربعة أشهر كقيام الساعة فإن لها علامات تسبقها فلا يوجد ذلك في أربعة أشهر وكذلك إن قال حتى تأتي الهند أو نحوه فهذا مول لأن يمينه على أكثر من أربعة أشهر
الثاني : ما الغالب أنه لا يوجد في أربعة أشهر كخروج الدجال والدابة وغيرهما من أشراط الساعة أو يقول حتى أموت أو تموتي أو يموت ولدك أو زيد أو حتى يقدم زيد من مكة والعادة أنه لا يقدم في أربعة أشهر فيكون موليا لأن الغالب أن ذلك لا يوجد في أربعة أشهر فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك في نكاحي هذا وكذلك لو علق الطلاق على مرضها أو مرض إنسان بعينه
الثالث : أن يعلقه على أمر يحتمل الوجود في أربعة أشهر ويحتمل أن لا يوجد احتمالا متساويا كقدوم زيد من سفر قريب أو من سفر لا يعلم قدره فهذا ليس بإيلاء لأنه لا يعلم حلفه على أكثر من أربعة أشهر ولا يظن ذلك
الرابع : أن يعلقه على ما يعلم أنه يوجد في أقل من أربعة أشهر أو يظن ذلك كذبول بقل وجفاف ثوب ومجيء المطر في أوانه وقدوم الحاج في زمانه فهذا لا يكون موليا لما ذكرناه ولأنه لم يقصد الاضرار بترك وطئها أكثر من أربعة أشهر فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك شهرا
الخامس : أن يعلقه على فعل منها هي قادرة عليه أو فعل من غيرها وذلك ينقسم أقساما ثلاثة أحدها : أن يعلقه على فعل مباح لا مشقة فيه كقوله والله لا أطؤك حتى تدخلي الدار أو تلبسي هذا الثوب أو حتى اتنفل بصوم يوم أو حتى أكسوك فهذا ليس بإيلاء لأنه ممكن الوجود بغير ضرر عليها فيه فأشبه الذي قبله
والثاني : أن يعلقه على محرم كقوله والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر أو تزني أو تسقطي ولدت أو تتركي صلاة الفرض أو حتى أقتل زيدا أو نحوه فهذا إيلاء لأنه علقة بممتنع شرعا فأشبه الممتنع حسا
الثالث : أن يعلقه على ما على فاعله فيه مضرة مثل أن يقول والله لا أطؤك حتى تسقطي صداقك عني أو دينك أو حتى تكفلي ولدي أو تهبيني دارك أو حتى يبيعني أبوك داره أو نحو ذلك فهذا ايلاء اخذه لمالها أو ما غيرها من غير رضا صاحبه محرم فجرى مجرى شرب الخمر وإن قال والله لا أطؤك حتى أعطيك مالا أو أفعل في حقك جميلا لم يكن إيلاء لأن فعله لذلك ليس بمحرم ولا ممتنع فجرى مجرى قوله حتى أصوم يوما
فصل : وإن قال والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن موليا لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث ولأنه محسن في كونه ألزم نفسه اجتناب سخطها وعلى قياس ذلك كل حال يمكنه الوطء فيها بغير حنث كقوله والله لا وطئتك مكرهة أو محزونة ونحو ذلك فإنه لا يكون موليا وإن قال والله لا وطئتك مريضة لم يكن موليا لذلك إلا أن يكون بها مرض لا يرجى برؤه أو لا يزول في أربعة أشهر فينبغي أن يكون موليا لأنه حالف على ترك وطئها أربعة أشهر فإن قال ذلك لها وهي صحيحة فمرضت مرضا يمكن برؤه قبل أربعة أشهر لم يصر موليا وان لم يرج برؤه فيها صار موليا وكذلك إن كان الغالب أنه لا يزول في أربعة أشهر صار موليا لأن ذلك بمنزلة ما لا يرجى زواله إن قال والله لا وطئتك حائضا ولا نفساه ولا محرمة ولا صائمة ونحو هذا لم يكن موليا لأن ذلك محرم ممنوع منه شرعا فقد أكد منع نفسه منه بيمينه وإن قال والله لا وطئتك وطئا مباحا صار موليا لأنه حالف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة فكان موليا كما لو قال والله لا وطئتك في قبلك وإن قال والله لا وطئتك ليلا أو والله لا وطئتك نهارا لم يكن موليا لأن الوطء يمكن بدون الحنث وإن قال والله لا وطئتك في هذه البلدة أو في هذا البيت أو نحو ذلك من الأمكنة المعينة لم يكن موليا وهذا قول الثوري و الأوزاعي و الشافعي والنعمان وصاحبيه وقال ابن أبي ليلى و إسحاق هو مول لأنه حالف على ترك وطئها ولنا أنه يمكن وطؤها بغير حنث فلم يكن موليا كما لو استثنى في يمينه

فصل : الخروج من الايلاء بالتكفير عن اليمين
فصل : وإن حلف على ترك وطئها عاما ثم كفر عن يمينه انحل الإيلاء قال الأثرم قيل لأبي عبد الله : المولي يكفر عن يمينه قبل مضي الأربعة الأشهر ؟ قال يذهب عنه الإيلاء ولا يوقف بعد الأربعة وذهب الإيلاء حين ذهبت اليمين وذلك لأنه لم يبق ممنوعا من الوطء بيمينه فأشبه من حلف واستثنى فإن كان تكفيره قبل مضي الأربعة الأشهر انحل الإيلاء حين التكفير وصار كالحلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر وإن كفر بعد الأربعة وقبل الوقوف صار كالحالف على أكثر منها إذا مضت مدة يمينه قبل وقفه

فصل : الايلاء بتعليق ترك الوطء على المشيئة
فصل : فإن قال والله لا وطئتك إن شاء فلان لم يصر موليا حتى يشاء فإذا شاء صار موليا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يصير ممتنعا من الوطء حتى يشاء فلا يكون موليا حتى يشاء وإن قال والله لا وطئتك وإن شئت فكذلك وقال أصحاب الشافعي إن شاءت على الفور جوابا لكلامه صار موليا وإن أخرت المشيئة انحلت يمينه لأن ذلك تخيير لها فكان على الفور كقوله اختاري في الطلاق
ولنا أنه علق اليمين على المشيئة بحرف إن فكان على التراخي كمشيئة غيرها فإن قيل فهلا قلتم لا يكون موليا فإنه علق ذلك بإرادتها فأشبه ما لو قال لا وطئتك إلا برضاك ؟ قلنا الفرق بينهما أنها إذا شاءت انعقدت يمينه من وطئها بحيث لا يمكنه بعد ذلك الوطء بغير حنث وإذا قال والله لا وطئتك إلا برضاك فما حلف إلا على ترك وطئها في بعض الأحوال وهو حال سخطها فيمكنه الوطء في الحال الأخرى بغير حنث وإذا طالبته بالفيئة فهو برضاها ولو قال والله لا وطئتك حتى تشائي فهو كقوله إلا برضاك ولا يكون موليا بذلك وإن قال والله لا وطئتك إلا أن يشاء أبوك أو فلان لم يكن موليا لأنه علقه بفعل منه يمكن وجوده في الأربعة الأشهر إمكانا غيربعيد وليس بمحرم ولا فيه مضرة فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك إلا أن تدخلي الدار وإن قال والله لا وطئتك إلا أن تشائي لم يكن موليا وكان بمنزلة قوله إلا برضاك أو حتى تشائي وقال أبو الخطاب : إن شاءت في المجلس لم يصر موليا وإلا صار موليا وقال أصحاب الشافعي : إن شاءت على الفور تعقيب كلامه لم يصر موليا وإلا صار موليا لأن المشيئة عندهم على الفور وقد فاتت بتراخيها وقال القاضي : تنعقد يمينه فإن شاءت انحلت وإلا فهي منعقدة
ولنا أنه منع نفسه بيمينه من وطئها إلا عند إرادتها فأشبه ما لو قال إلا برضاك أو حتى تشائي ولأنه علقه على وجود المشيئة أشبه ما لو علقه على مشيئة غيرها فأما قول القاضي فإن أراد وجود المشيئة على الفور فهو كقولهم وإن أراد وجود المشيئة على التراخي تنحل به اليمين لم يكن ذلك إيلاء لأن تعليق اليمين على فعل يمكن وجوده في مدة الأربعة الأشهر إمكانا غير بعيد ليس بإيلاء والله أعلم

فصلان : تقيد الايلاء بمدة
فصل : فإن قال والله لا وطئتك فهو إيلاء لأنه قول يقتضي التأبيد وإن قال والله لا وطئتك مدة أو ليطولن تركي لجماعك ونوى مدة تزيد على أكثر من أربعة أشهر فهو إيلاء لأن اللفظ يحتمله فانصرف إليه بنيته وإن نوى مدة قصيرة لم يكن إيلاء لذلك وإن لم ينو شيئا لم يكن إيلاء لأن يقع على القليل والكثير فلا يتعين للكثير فإن قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر أو فإذا مضت فوالله لا وطئتك شهرين فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ففيه وجهان :
أحدهما : ليس بمول لأنه حالف بكل يمين على مدة ناقصة عن مدة الإيلاء فلم يكن موليا كما لو لم ينو إلا مدتهما ولأنه يمكنه الوطء بالنسبة إلى كل يمين عقيب مدتها من غير حنث فيها فأشبه ما لو اقتصر عليها
والثاني : يصير موليا لأنه منع نفسه من الوطء بيمينه أكثر من أربعة أشهر متوالية فكان موليا كما لو منعها بيمين واحدة ولأنه لا يمكنه الوطء بعد المدة إلا بحنث في يمينه فأشبه ما لو حلف على ذلك بيمين واحدة ولو لم يكن هذا إيلاء أفضى إلى أن يمنع من الوطء طول دهره باليمين فلا يكون موليا وهكذا الحكم في كل مدتين متواليتين يزيد مجموعهما على أربعة كثلاثة أشهر وثلاثة أو ثلاثة وشهرين لما ذكرنا من التعليلين والله أعلم
فصل : فإن قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك لم يكن موليا في الحال لأنه لا يلزمه بالوطء حق لكن إن وطئها صار موليا لأنها تبقى يمينا تمنع الوطء على التأبيد وهذا الصحيح عن الشافعي وحكي عنه قول قديم أنه يكون موليا من الأول لأنه لا يمكنه الوطء إلا بأن يصير موليا فيلحقه بالوطء ضرر وكذلك على هذا القول إن قال وطئتك فوالله لا دخلت الدار لم يكن موليا من الأول فإن وطئها انحل الإيلاء لأنه لم يلق ممتنعا من وطئها بيمين ولا غيرها وإنما بقي ممتنعا باليمين من دخول الدار
ولنا أن يمينه معلقة بشرط ففيما قبله ليس بحالف فلا يكون موليا ولأنه يمكنه الوطء من غير حنث فلم يكن موليا كما لو لم يقل شيئا وكونه يصير موليا لا يلزمه به شيء وإنما يلزمه بالحنث ولو قال والله لا وطئتك في السنة إلا مرة لم يصر موليا في الحال لأنه يمكنه الوطء متى شاء بغير حنث فلم يكن ممنوعا من الوطء بحكم يمينه فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر صار موليا وهذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وظاهر مذهب الشافعي في قوله القديم يكون موليا في الابتداء لما ذكرنا في التي قبلها وقد أجبنا عنه وإن قال والله لا وطئتك سنة إلا يوما فكذلك وبهذا قال أبو حنيفة لأن اليوم منكر فلم يختص يوما دون يوم ولذلك لو قال : صمت رمضان إلا يوما لم يختص اليوم الآخر ولو قال لا أكلمك في السنة إلا يوما لم يختص يوما منها
وفيه وجه آخر أنه يصير موليا في الحال وهو قول زفر لأن اليوم المستثنى يكون من آخر المدة كالتأجيل ومدة الخيار بخلاف قوله لا وطئتك في السنة إلا مرة فإن المرة لا تختص وقتا بعينه ومن نصر الأول فرق بين هذا وبين التأجيل ومدة الخيار من حيث ان التأجيل ومدة الخيار تجب الموالاة فيهما ولا يجوز أن يتخللهما يوم لا أجل فيه ولا خيار لأنه لو جازت له المطالبة في أثناء الأجل لزم قضاء الدين فيسقط التأجيل بالكلية ولو لزم العقد في أثناء مدة الخيار لم يعد إلى الجواز فتعين جعل اليوم المستثنى من آخر المدة بخلاف ما نحن فيه فإن جواز الوطء في يوم من أول السنة أو أوسطها لا يمنع ثبوت حكم اليمين فيما بقي من المدة فصار ذلك كقوله لا وطئتك في السنة إلا مرة والله أعلم

فصل : حصول الايلاء الواحد بيمينين
فصل : فإن قال والله لا وطئتك عاما ثم قال والله لا وطئتك عاما فهو إيلاء واحد حلف عليه بيمينين إلا ان ينوي عاما آخر سواه وإن قال والله لا وطئتك عاما ثم قال والله لا وطئتك نصف عام أو قال والله لا وطئتك نصف عام ثم قال والله لا وطئتك عاما دخلت المدة القصيرة في الطويلة لأنها بعضها ولم يجعل إحداهما بعد الأخرى فأشبه ما لو أقر بدرهم ثم أقر بنصف درهم أو أقر بنصف درهم ثم أقر بدرهم فيكون إيلاء واحدا لهما وقت واحد وكفارة واحدة وإن نوى بإحدى المدتين غير الأخرى في هذه أو في التي قبلها أو قال والله لا وطئتك عاما ثم والله لا وطئتك عاما آخر أو نصف عام آخر أو قال والله لا وطئتك عاما فإذا مضى فوالله لا وطئتك عاما فهما إيلاءان في زمانين لا يدخل حكم أحدهما في الآخر أحدهما منجز والآخر متأخر فإذا مضى حكم أحدهما بقي حكم الآخر لأنه أفرد كل واحد منهما بزمن غير زمن صاحبه فيكون له حكم ينفرد به
فإن قال في المحرم والله لا وطئتك هذا العام ثم قال والله لا وطئتك عاما من رجب إلى تمام اثني عشر شهرا أو قال في المحرم والله لا وطئتك عاما ثم قال في رجب والله لا وطئتك عاما فهما إيلاءان في مدتين بعض إحداهما داخل في الأخرى فإن فاء في رجب أو فيما بعده من بقية العام الأول حنث في اليمينين وتجزئه كفارة واحدة وينقطع حكم الإيلاءين وإن فاء قبل رجب أو بعد العام الأول حنث في إحدى اليمينين دون الأخرى وإن فاء في الموضعين حنث في اليمينين وعليه كفارتان

فصول : توجيه الايلاء لاكثر من زوجة
فصل : فإن قال لأربع نسوة والله لا أقربكن انبنى ذلك على أصل وهو الحنث بفعل بعض المحلوف عليه أولا فإن قلنا يحنث فهو مول منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطء واحدة بغير حنث فصار مانعا لنفسه من وطء كل واحدة منهن في الحال فإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وزال الإيلاء من البواقي وإن طلق بعضهن أو مات لم ينحل الإيلاء في البواقي
وإن قلنا لا يحنث بفعل البعض لم يكن موليا منهن في الحال لأنه يمكنه وطء كل واحدة منهن من غير حنث فلم يمنع نفسه بيمينه من وطئها فلم يكن موليا منها فإن وطئ ثلاثا صار موليا من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها من غير حنث في يمينه وإن مات بعضهن أو طلقها انحلت يمينه وزال الإيلاء لأنه لا يحنث بوطئهن وإنما يحنث بوطء الأربع فإن راجع المطلقة أو تزوجها بعد بينونتها عاد حكم يمينه وذكر القاضي أنا إذا قلنا يحنث بفعل البعض فوطئ واحدة حنث ولم ينحل الإيلاء في البواقي لأن الإيلاء من امرأة لا ينحل بوطء غيرها
ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فوجب أن تنحل كسائر الأيمان ولأنه إذا وطئ واحدة حنث ولزمته الكفارة فلا يلزمه بوطء الباقيات شيء فلم يبق ممتنعا من وطئهن بحكم يمينه فانحل الإيلاء كما لو كفرها واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم : لا يكون موليا منهن حتى يطأ ثلاثا فيصير موليا من الرابعة وحكى المزني عن الشافعي أنه يكون موليا منهن كلهن يوقف لكل واحدة منهن فإذا أصاب بعضهن خرجت من حكم الإيلاء ويوقف لمن بقي حتى يفيء أو يطلق ولا يحنث حتى يطأ الأربع وقال أصحاب الرأي : يكون موليا منهن كلهن فإن تركهن أربعة أشهر بن منه جميعا بإيلاء وإن وطئ بعضهن سقط الإيلاء في حقها ولا يحنث إلا بوطئهن جميعا ولنا أن من لا يحنث بوطئها لا يكون موليا منها كالتي يحلف عليها
فصل : فإن قال والله لا وطئت واحدة منكن ونوى واحدة بعينها تعلقت يمينه بها وحدها وصار موليا منها دون غيرها وإن نوى واحدة مبهمة منهن لم يصر موليا مهن في الحال فإذا وطئ ثلاثا كان موليا من الرابعة ويحتمل أن تخرج المولى منهن بالقرعة كالطلاق إذا أوقعه في مبهمة من نسائه وإن أطلق صار موليا منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بالحنث فإن طلق واحدة منهن أو ماتت كان موليا من البواقي وإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وسقط حكم الإيلاء في الباقيات لأنها يمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لم يحنث مرة ثانية ولا يبقى حكم اليمين بعد حنثه فيها بخلاف ما إذا طلق واحدة أو ماتت فإنه لم يحنث فبقي حكم يمينه فيمن بقي منهن وهذا مذهب الشافعي وذكر القاضي أنه إذا أطلق كان الإيلاء في واحدة غير معينة وهو اختيار بعض أصحاب الشافعي لأن لفظه تناول واحدة منكرة فلا يقتضي العموم
ولنا أن النكرة في سياق النفي تعم كقوله : { ولم تكن له صاحبة } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وقوله : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } ولو قال إنسان والله لا شربت ماء من إداوة حنث بالشرب من أي إداوة كانت فيحب حمل اللفظ عند الإطلاق على مقتضاه في العموم وإن قال نويت واحدة معينة أو واحدة مبهمة قبل منه لأن اللفظ يحتمله احتمالا غير بعيد وهذا مذهب الشافعي إلا أنه إذا أبهم المحلوف عليها فله أن يعينها بقوله وأصل هذا مذكور في الطلاق
فصل : فإن قال والله لا وطئت كل واحدة منكن صار موليا منهن كلهن في الحال ولا يقبل قوله نويت واحدة منهن معينة ولا مبهمة لأن لفظة كل أزالت احتمال الخصوص ومتى حنث في البعض انحل الإيلاء في الجميع كالتي قبلها وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي : لا تنحل في الباقيات
ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فسقط حكمها كما لو حلف على واحدة ولأن اليمين الواحدة إذا حنث فيها مرة لم يمكن الحنث فيها مرة أخرى فلم يبق ممتنعا من وطء الباقيات بحكم اليمين فلم يبق الإيلاء كسائر الأيمان التي حنث فيها وفي هذه المواضع التي قلنا بكونه موليا منهن كلهن إذا طالبن كلهن بالفيئة وقف لهن كلهن وإن طالبن في أوقات مختلفة ففيه روايتان :
إحداهما : يوقف للجميع وقت مطالبة أولاهن قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد
والثانية : يوقف لكل واحدة منهن عند مطالبتها اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي فإذا وقف للأولى وطلقها ووقف للثانية فإن طلقها وقف للثالثة فإن طلقها وقف للرابعة وكذلك من مات منهن لم يمنع من وقفه للاخرى لأن يمينه لم تنحل وإيلاؤه باق لعدم حنثه فيهن وإن وطئ إحداهن حين وقف لها أو قبله انحلت يمينه وسقط حكم الإيلاء في الباقيات على ما قلناه وعلى قول القاضي ومن وافقه يوقف للباقيات كما لو طلق التي وقف لها
فصل : فإن قال كلما وطئت واحدة منكن فضرائرها طوالق فإن قلنا ليس هذا بإيلاء فلا كلام وإن قلنا هو إيلاء فهو مول منهن جميعا لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بطلاق ضرائرها فيوقف لهن فإن فاء إلى واحدة طلق ضرائرها فإن كان الطلاق بائنا انحل الإيلاء لأنه لم يبق ممنوعا من وطئها بحكم يمينه وإن كان رجعيا فراجعهن بقي حكم الإيلاء في حقهن لأنه لا يمكنه وطء واحدة إلا بطلاق ضرائرها وكذلك إن راجع بعضهن لذلك إلا أن المدة تستأنف من حين الرجعة ولو كان الطلاق بائنا فعاد فتزوجهن أو تزوج بعضهن عاد حكم الإيلاء واستؤنفت المدة من حين النكاح وسواء تزوجهن في العدة أو بعدها أو بعد زوج آخر وإصابة لما سنذكره فيما بعد وإن قال نويت واحدة بعينها قبل منه وتعلقت يمينه بها فإذا وطئها طلق ضرائرها وإن وطئ غيرها لم يطلق منهن شيء ويكون موليا من المعينة دون غيرها لأنها التي يلزمه بوطئها الطلاق دون غيرها

فصل : محل الوطء المعتبر لصحة الايلاء
فصل : الشرط الثالث أن يحلف على ترك الوطء في الفرج ولو قال : والله لا وطئتك في الدبر لم يكن موليا لأنه لم بترك الوطء الواجب عليه ولا تتضرر المرأة بتركه وإنما هو وطء محرم وقد أكد منع نفسه منه بيمينه وإن قال والله لا وطئتك دون الفرج لم يكن مؤليا لأنه لم يحلف على الوطء الذي يطالب به في الفيئة ولا ضرر على المرأة في تركه وإن قال والله لاجامعتك إلا جماع سوء سئل عما أراد فإن قال أردت الجماع في الدبر فهو مول لأنه حلف على ترك الوطء في الفرج وكذلك إن قال أردت أن لا أطأها إلا دون الفرج وإن قال أردت جماعا ضعيفا لا يزيد على التقاء الختانين لم يكن موليا لأنه يمكنه الوطء الواجب عليه في الفيئة بغير حنث وإن قال أردت وطئا لا يبلغ التقاء الختانين فهو مول لأنه لا يمكنه الوطء الواجب عليه في الفيئة بغير حنث وإن لم تكن له نية فليس بمول لأنه محتمل فلا يتعين ما يكون به موليا وإن قال والله لا جامعتك جماع سوء لم يكن موليا بحال لأنه لم يحلف على ترك الوطء إنما حلف على ترك صفته المكروهة

فصل : حكم الايلاء من السرية والأجنبية
فصل : الشرط الرابع أن يكون المحلوف عليها امرأة لقول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه فلا يكون مؤليا منها كالأجنبية فإن حلف على ترك وطء أمته لم يكن موليا لما ذكرنا
وإن حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها لم يكن مؤليا لذلك وبه قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال مالك : يصير مؤليا إذا بقي من مدة يمينه أكثر من أربعة أشهر لأنه ممتنع من وطء امرأته بحكم يمينه مدة الإيلاء فكان مؤليا كما لو حلف في الزوجية وحكي عن أصحاب الرأي أنه إن مرت به امرأة فحلف أن لا يقربها ثم تزوجها لم يكن موليا وإن قال إن تزوجت فلانة فوالله لا قربتها صار موليا لأنه أضاف اليمين إلى حال الزوجية فأشبه ما لو حلف بعد تزويجها
ولنا قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } وهذه ليست من نسائه ولأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح فلم يتقدمه كالطلاق والقسم ولأن المدة تضرب له لقصده الإضرار بها بيمينه وإذا كانت اليمين قبل النكاح لم يكن قاصدا للإضرار فأشبه الممتنع بغير يمين قال الشريف أبو جعفر وقد قال أحمد : يصح الظهار قبل النكاح لأنه يمين فعلى هذا التعليل يصح الإيلاء قبل النكاح والمنصوص انه لا يصح لما ذكرناه

فصلان : صفة الزوجة التي يصح الايلاء منها
فصل : فإن آلى من الرجعية صح إيلاؤه : وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذكر ابن حامد أن فيه رواية أخرى أنه لا يصح إيلاؤه لأن الطلاق يقطع مدة الإيلاء إذا طرأ فلأن يمنع صحته ابتداء أولى
ولنا أنها زوجة يلحقها طلاقه فصح إيلاؤه منها كغير المطلقة وإذا آلى منها احتسب بالمدة من حين آلى وإن كانت في العدة ذكر ابن حامد وهو قول أبي حنيفة ويجيء على قول الخرقي أن لا يحتسب عليه بالمدة إلا من حين راجعها لأن ظاهر كلامه أن الرجعية محرمة وهذا مذهب الشافعي لأنها معتدة منه فأشبهت البائن ولأن الطلاق إذا طرأ قطع المدة ثم لا يحتسب عليه بشيء من المدة قبل رجعتها فأولى أن يستأنف المدة في العدة
ووجه الأول أن من صح إيلاؤه احتسب عليه بالمدة من حين إيلائه كما لو لم تكن مطلقة ولأنها مباحة فاحتسب عليه بالمدة فيها ولو لم يطلقها وفارق البائن فإنها ليست زوجة ولا يصح الإيلاء منها بحال فهي كسائر الأجنبيات
فصل : ويصح الإيلاء من كل زوجة مسلمة كانت أو ذمية حرة كانت أو أمة لعموم قوله سبحانه : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ولأن كل واحدة منهن زوجة فصح الإيلاء منها كالحرة المسلمة ويصح الإيلاء قبل الدخول وبعده وبهذا قال النخعي و مالك و الأوزاعي و الشافعي وقال عطاء و الزهري و الثوري : إنما يصح الإيلاء بعد الدخول
ولنا عموم الآية والمعنى لأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه فأشبه ما بعد الدخول ويصح الإيلاء من المجنونة والصغيرة إلا أنه لا يطالب بالفيئة في الصغر والجنون لأنهما ليسا من أهل المطالبة فأما الرتقاء والقرناء فلا يصح الإيلاء منهما لأن الوطء متعذر دائما فلم تنعقد اليمين على تركه كما لو حلف لا يصعد السماء ويحتمل أن يصح وتضرب له المدة لأن المنع بسبب من جهتها فهي كالمريضة فعلى هذا ينبغي أن يفيء فيئة المعذور لأن الفيئة بالوطء في حقها متعذرة فلا تمكن المطالبة به فأشبه المجبوب

فصلان : من يصح ايلاؤه
فصل : ويصح الإيلاء من كل زوج مكلف قادر على الوطء وأما الصبي والمجنون فلا يصح إيلاؤهما لأن القلم مرفوع عنهما ولأنه قول تجب بمخالفة كفارة أو حق فلم ينعقد منهما كالنذر وأما العاجز عن الوطء فإن كان لعارض مرجو زواله كالمرض والحبس صح إيلاؤه لأنه يقدر على الوطء فصح منه الامتناع منه وإن كان غير مرجو الزوال كالجب والشلل لم يصح إيلاؤه لأنها يمين على ترك مستحيل فلم تنعقد كما لو حلف أن لا يقلب الحجارة ذهبا ولأن الإيلاء : اليمين المانعة من الوطء وهذا لا يمنعه يمينه فإنه متعذر منه ولا تضر المرأة يمينه
قال أبو الخطاب : ويحتمل أن يصح الإيلاء منه قياسا على العاجز بمرض أو حبس وللشافعي في ذلك قولان والأول أولى لما ذكرنا فأما الخصي الذي سلت بيضتاه أو رضت فيمكن منه الوطء وينزل ماء رقيقا فيصح إيلاؤه وكذلك المجبوب الذي بقي من ذكره ما يمكن الجماع به
فصل : ويصح إيلاء الذمي ويلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور : وإن أسلم لم ينقطع حكم إيلائه وقال مالك : إن أسلم سقط حكم يمينه وقال أبو يوسف و محمد : إن حلف بالله لم يكن موليا لأنه لا يحنث إذا جامع لكونه غير مكلف وإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق فهو مؤل لأنه يصح عتقه وطلاقه
ولنا قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ولأنه مانع نفسه باليمين من جماعها فكان موليا كالمسلم ولأن من صح طلاقه صح إيلاؤه كالمسلم ومن صحت يمينه عند الحاكم صح إيلاؤه كالمسلم

فصل : ولا يشترط الغضب والضرر في الايلاء
فصل : ولا يشترط في الإيلاء الغضب ولا قصد الإضرار روي ذلك عن ابن مسعود وبه قال الثوري و الشافعي وأهل العراق و ابن المنذر وروي عن علي رضي الله عنه ليس في إصلاح إيلاء وعن ابن عباس قال : إنما الإيلاء في الغضب ونحو ذلك عن الحسن و النخعي و قتادة وقال مالك و الأوزاعي و أبو عبيد : من حلف لا يطأ زوجته حتى تفطم ولده لا يكون إيلاء إذا أراد الإصلاح لولده
ولنا عموم الآية ولأنه مانع نفسه من جماعها بيمينه فكان مؤليا كحال الغضب يحققه ان حكم الإيلاء يثبت لحق الزوجة فيجب ان يثبت سواء قصد الإضرار أو لم يقصد كاستيفاء ديونها وإتلاف مالها ولأن الطلاق والظهار وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضا فكذلك الإيلاء ولأن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغضب والرضا فكذلك في الإيلاء وأما إذا حلف أن لا يطأها حتى تفطم ولده فإن أراد وقت الفطام وكانت مدته تزيد على أربعة أشهر فهو مؤل وإن أراد فعل الفطام لم يكن مؤليا لأنه ممكن قبل الأربعة الأشهر وليس بمحرم ولا فيه تفويت حق لها فلم يكن مؤليا كما لو حلف لا يطؤها حتى تدخل الدار

فصول : ألفاظ الإيلاء بكل لغة
فصل : في الألفاظ التي يكون بها مؤليا وهي ثلاثة أقسام أحدها : ما هو صريح في الحكم والباطن جميعا وهو ثلاثة ألفاظ قوله والله لا آتيك ولا أدخل ولا أغيب أو أولج ذكري في فرجك ولا افتضضتك للبكر خاصة فهذه صريحة ولا يدين فيها لأنها لا تحتمل غير الإيلاء
القسم الثاني : صريح في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وهي عشرة ألفاظ لا وطئتك ولا جامعتك ولا أصبتك ولا باشرتك ولا مسستك ولا قربتك ولا أتيتك ولا باضعتك ولا باعلتك ولا اغتسلت منك فهذه صريحة في الحكم لأنها تستعمل في العرف في الوطء وقد ورد القرآن ببعضها فقال الله سبحانه : { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن } وقال : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقال تعالى : { من قبل أن تمسوهن }
وأما الجماع والوطء فهما أشهر الألفاظ في الاستعمال فلو قال أردت بالوطء الوطء بالقدم وبالجماع اجتماع الأجسام وبالإصابة الإصابة باليد دين فما بينه وبين الله تعالى ولم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر والعرف وقد اختلف قول الشافعي فيما عدا الوطء والجماع من هذه الألفاظ فقال في موضع ليس بصريح في الحكم لأنه حقيقة في غير الجماع وقال في لا باضعتك ليس بصريح لأنه يحتمل أن يكون التقاء البضعتين البضعة من البدل بالبضعة منه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فاطمة بضعة مني ]
ولنا أنه مستعمل في الوطء عرفا وقد ورد به القرآن والسنة فكان صريحا كلفظ الوطء والجماع وكونه حقيقة في غير الجماع يبطل بلفظة الوطء والجماع وكذلك قوله فارقتك وسرحتك في ألفاظ الطلاق فإنهم قالوا : هي صريحة في الطلاق مع كونها حقيقة في غيره وأما قوله باضعتك فهو مشتق من البضع ولا يستعمل هذا اللفظ في غير الوطء فهو أولى أن يكون صريحا من سائر الألفاظ لأنها تستعمل في غيره وبهاذ قال أبو حنيفة
القسم الثالث : ما لا يكون إيلاء إلا بالنية وهو ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل الجماع كقوله والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء لا ساقف رأسي رأسك لأسوءنك لأغيظنك لتطولن غيبتي عنك لا مس جلدي جلدك لا قربت فراشك لا أويت معك لا نمت عندك فهذه إن أراد بها الجماع واعترف بذلك كان موليا وإلا فلا لأن هذه الألفاظ ليس ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها ولم يرد النص باستعمالها فيه إلا أن هذه الألفاظ منقسمة إلى ما يفتقر فيه إلى نية الجماع والمدة معا وهي قوله لأسوءنك ولأغيظنك ولتطولن غيبتي عنك فلا يكون مؤليا حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر لأن غيظها يكون بترك الجماع فيما دون ذلك وفي سائر هذه الألفاظ يكون مؤليا بنية الجماع فقط وإن قال والله ليطولن تركي لجماعك أو لوطئك أو لإصابتك فهذا صريح في ترك الجماع وتعتبر نية المدة دون ينة الوطء لأنه صريح فيه وإن قال والله لا جامعتك إلا جماعا ضعيفا لم يكن مؤليا إلا أن ينوي جماعا لا يبلغ التقاء الختانين وإن قال والله لا أدخلت جميع ذكري في فرجك لم يكن مؤليا لأن الوطء الذي يحصل به الفيئة يحصل بدون إيلاج جميع الذكر وإن قال والله لا أولجت حشفتي في فرجك كان موليا لأن الفيئة لا تحصل بدون ذلك
فصل : وإن قال لأحدى زوجتيه والله لا وطئتك ثم قال للأخرى أشركتك معها لم يصر موليا من الثانية لأن اليمين بالله لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم أو صفة والتشريك بينهما كناية فلم تصح به اليمين وقال القاضي : يكون موليا منهما وإن قال إن وطئتك فأنت طالق ثم قال للأخرى أشركتك معها ونوى فقد صار طلاق الثانية معلقا على وطئها أيضا لأن الطلاق يصح بالكناية فإن قلنا إن ذلك إيلاء في الأولى صار إيلاء في الثانية لأنها صارت في معناها وإلا فليس وإلا فليس بإيلاء في واحدة منهما وكذلك لو آلى رجل من زوجته فقال آخر لامرأته : أنت مثل فلانة لم يكن موليا وقال أصحاب الرأي هو مول
ولنا أنه ليس بصريح في القسم فلا يكون موليا به كما لو لم يشبهها بها
فصل : ويصح الإيلاء بكل لغة من العجمية وغيرها ممن يحسن العربية وممن لا يحسنها لأن اليمين تنعقد بغير العربية وتجب بها الكفارة والمؤلي هو الحالف بالله على ترك وطء زوجته الممتنع من ذلك بيمينه فإن آلى بالعجمية من لا يحسنها وهو لا يدري معناها لم يكن موليا وإن نوى موجبها عند أهلها وكذلك الحكم إذا آلى بالعربية من لا يحسنها لأنه لا يصح منه قصد الإيلاء بلفظ لا يدري معناه فإن اختلف الزوجان في معرفته بذلك فالقول قوله إذا كان متكلما بغير لسانه لأن الأصل عدم معرفته بها فأما إن آلى العربي بالعربية ثم قال جرى على لساني من غير قصد أو قال ذلك العجمي في إيلائه بالعجمية لم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر

فصل : مدة الإيلاء
فصل : ومدة الإيلاء في حق الأحرار والعبيد والمسلمين وأهل الذمة سواء ولا فرق بين الحرة والأمة والمسلمة والذمية والصغيرة والكبيرة في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى أن مدة إيلاء العبيد شهران وهو اختيار أبي بكر وقول عطاء و الزهري و مالك و إسحاق لأنهم على النصف في الطلاق وعدد المنكوحات فكذلك في مدة الإيلاء وقال الحسن و الشعبي إيلاؤه من الأمة شهران ومن الحرة أربعة وقال الشعبي : إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك تتعلق به البينونة عنده واختلف بالرق والحرية كالطلاق ولأنها مدة يثبت ابتداؤها بقول الزوج فوجب أن يختلف برق المرأة وحريتها كمدة العدة
ولنا عموم الآية ولأنها مدة ضربت للوطء فاستوى فيها الرق والحرية كمدة العنة ولا نسلم أن البينونة تتعلق بها ثم يبطل ذلك بمدة العنة ويخالف مدة العدة لأن العدة مبنية على الكمال بدليل أن الاستبراء يحصل بقرء واحد وأما مدة الإيلاء فإن الاستمتاع بالحرة أكثر وكان ينبغي أن تتقدم مطالبتها مطالبة الأمة والحق على الحر في الاستمتاع أكثر منه على العبد فلا تجوز الزيادة في مطالبة العبد عليه

مسألة : قال : فإذا مضت أربعة اشهر ورافعته أمر بالفيئة
مسألة : قال : فإذا مضت أربعة أشهر ورافعته أمر بالفيئة والفيئة الجماع
وجملة ذلك أن المولي يتربص أربعة أشهر كما أمر الله تعالى ولا يطالب فيهن فإذا مضت أربعة أشهر ورافعته امرأة إلى الحاكم وقفه وأمره بالفيئة فإن أبى أمره بالطلاق ولا تطلق زوجته بنفس مضي المدة قال أحمد : في الإيلاء يوقف عن الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن عمر شيء يدل على ذلك وعن عثمان وعلي وجعل يثبت حديث علي وبه قال ابن عمر وعائشة وروي ذلك عن أبي الدرداء وقال سليمان بن يسار : كان تسعة عشر رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يوقفون في الإيلاء وقال سهيل بن أبي صالح : سألت اثني عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فكلهم يقول ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق وبهذا قال سعيد بن المسيب و عروة و مجاهد و طاوس و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال ابن مسعود وابن عباس و عكرمة و جابر بن زيد و عطاء و الحسن و مسروق و قبيصة و النخعي و الأوزاعي و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة وروي ذلك عن عثمان وعلي وزيد وابن عمر وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن و مكحول و الزهري تطليقة رجعية ويحكى عن ابن مسعود أنه كان يقرأ :
{ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } ولأن هذه مدة ضربت لاستدعاء الفعل منه فكان ذلك في المدة كمدة العنة
ولنا قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } وظاهر ذلك أن الفيئة بعد أربعة أشهر لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب ثم قال : { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ولو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه وقوله { سميع عليم } يقتضي أن الطلاق مسموع ولا يكون المسموع إلا كلاما ولأنها مدة ضربت له تأجيلا فلم يستحق المطالبة فيها كسائر الآجال ولأن هذه مدة لم يتقدمها إيقاع فلا يتقدمها وقوع كمدة العنة ومدة العنة حجة لنا فإن الطلاق لا يقع إلا بمضيها ولأن مدة العنة ضربت له ليختبر فيها ويعرف عجزه عن الوطء بتركه في مدتها وهذه ضربت تأخيرا له وتأجيلا ولا يستحق المطالبة إلا بعد مضي الأجل كالدين

فصل : بيان ابتداء المدة
فصل : وابتداء المدة من حين اليمين ولا يفتقر إلى ضرب مدة لأنها ثبتت بالنص والإجماع فلم تفتقر إلى ضرب كمدة العنة ولا يطالب بالوطء فيها لما ذكرنا فإن وطئها فيها فقد عجلها حقها قبل محله وخرج من الإيلاء كمن عليه دين دفعه قبل الأجل وهكذا إن وطئ بعد المدة قبل المطالبة أو بعدها خرج من الإيلاء وسواء وطئها وهي عاقلة أو مجنونة أو يقظانة أو نائمة لأنه فعل ما حلف عليه فإن وطئها وهو مجنون لم يحنث ذكره ابن حامد وهو قول الشعبي
وقال أبو بكر : يحنث وعليه الكفارة لأنه فعل ما حلف عليه والأول أصح لأنه غير مكلف والقلم عنه مرفوع ويخرج بوطئه عن الإيلاء لأنه قد وفاها حقها وحصل منه في حقها ما يحصل من العاقل وإنما تسقط الكفارة عنه لرفع القلم عنه وذكر هذا ابن حامد وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وذكر القاضي ما يدل على أنه يبقى موليا فإنه قال إذا وطئ بعد إفاقته تجب عليه الكفارة لأن وطأه الأول ما حنث به وإذا بقيت يمينه بقي الإيلاء كما لو لم يطأ وهذا قول المزني
وينبغي أن يستأنف له مدة الإيلاء من حين وطئ لأنه لا ينبغي أن يطالب بالفيئة مع وجودها منه ولا يطلق عليه لانتفائها وهي موجودة ولكن تضرب له مدة لبقاء حكم يمينه وقيل تضرب له المدة إذا عقل لأنه حينئذ يمنع من الوطء بحكم يمينه ومن قال بالأول قال قد وفاها حقها فلم يبق الإيلاء كما لو حنث ولا يمتنع اكتفاء الإيلاء مع اليمين كما لو حلف لا يطأ أجنبية ثم تزوجها

فصول : أحكام وطء المولى امرأته وعفوها عن المطالبة
فصل : وإن وطئ العاقل ناسيا ليمينه فهل يحنث ؟ على روايتين فإن قلنا يحنث انحل إيلاؤه وذهبت يمينه وإن قلنا لا يحنث فهل ينحل إيلاؤه ؟ على وجهين قياسا على المجنون وكذلك يخرج فيما إذا آلى من إحدى زوجتيه ثم وجدها على فراشه فظنها الأخرى فوطئها لأنه جاهل بها والجاهل كالناسي في الحنث وكذلك إن ظنها أجنبية فبانت زوجته
وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه ولأن القلم مرفوع عنه وهل يخرج من حكم الإيلاء يحتمل وجهين :
أحدهما : يخرج لأن المرأة وصلت إلى حقها فأشبه ما لو وطئ
والثاني : لا يخرج من حكم الإيلاء لأنه ما وفاها حقها وهو باق على الامتناع من الوطء بحكم اليمين فكان موليا كما لو لم يفعل به ذلك والحكم فيما إذا وطئ وهو نائم كذلك لأنه لا يحنث به
فصل : وإن وطئها وطأ محرما مثل أن وطئها حائضا أو نفساء أو محرمة أو صائمة صوم فرض أو كان محرما أو صائما أو مظاهرا حنث وخرج من الإيلاء وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : قياس المذهب أن لا يخرج من الإيلاء لأنه وطء لا يؤمر به في الفيئة فلم يخرج به من الإيلاء كالوطء في الدبر ولا يصح هذا لأن يمينه انحلت ولم يبق ممتنعا من الوطء بحكم اليمين فلم يبق الإيلاء كما لو كفر يمينه أو كما لو وطئها مريضة
وقد نص أحمد فيمن حلف ثم كفر يمينه أنه لا يبقى موليا لعدم حكم اليمين مع انه ما وفاها حقها فلأن يزول بزوال اليمين بحنثه فيها أولى وقد ذكر القاضي في المحرم والمظاهر انهما إذا وطئا فقد وفياها حقها وفارق الوطء في الدبر فإنه لا يحنث به وليس بمحل للوطء بخلاف مسألتنا
فصل : وإذا آلى منها وثم عذر يمنع الوطء من جهة الزوج كمرضه أو حبسه أو إحرامه أو صيامه حسبت عليه المدة من حين إيلائه لأن المانع من جهته وقد وجد التمكين الذي عليها ولذلك لو أمكنته من نفسها وكان ممتنعا لعذر وجبت لها النفقة وإن طرأ شيء من هذه الأعذار بعد الإيلاء أو جن لم تنقطع المدة للمعنى الذي ذكرناه وإن كان المانع من جهتها نظرنا فإن كان حيضا لم يمنع ضرب المدة لأنه لو منع لم يمكن ضرب المدة لأن الحيض في الغالب لا يخرو منه شهر فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكم الإيلاء وإن طرأ الحيض لم يقطع المدة لما ذكرنا وفي النفاس وجهان أحدهما : هو كالحيض لأن أحكامه أحكام الحيض
والثاني : هو كسائر الأعذار التي من جهتها لأنه نادر غير معتاد فأشبه سار الأعذار وأما سائر الأعذار التي من جهتها كصغرها ومرضها وحبسها وإحرامها وصيامها واعتكافها المفروضين ونشوزها وغيبتها فمتى وجد منها شيء حال الإيلاء لم تضرب له المدة حتى يزول لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها والمنع ههنا من قبلها وإن وجد شيء من هذه الأسباب استؤنفت المدة ولم يبن على ما مضى لأن قوله سبحانه : { تربص أربعة أشهر } يقتضي متوالية فإذا قطعتها وجب استئنافها كمدة الشهرين في صوم الكفارة وإن حنث وهربت من يده انقطعت المدة وإن بقيت في يده وأمكنه وطؤها احتسب عليه بها فإن قيل فهذه الأسباب منها ما لا صنع لها فيه فلا ينبغي أن تقطع المدة كالحيض قلنا إذا كان المنع لمعنى فيها فلا فرق بين كونه بفعلها أو بغير فعلها كما أن البائع إذا تعذر عليه تسليم المعقود عليه لم يتوجه له المطالبة بعوضه سواء كان لعذر أو غيره عذر وإن آلى في الردة لم تضرب له المدة إلا من حين رجوع المرتد منهما إلى الإسلام وإن طرأت الردة في أثناء المدة انقطعت لأن النكاح قد تشعث وحرم الوطء فإذا عاد إلى الإسلام استؤنفت المدة سواء كانت الردة منهما أو من أحدهما وكذلك إن أسلم أحد الزوجين الكافرين أو خالعها ثم تزوجها والله أعلم
فصل : وإذا انقضت المدة فلها المطالبة بالفيئة إن لم يكن عذر فإن طالبته فطلب الامهال فإن لم يكن له عذر لم يمهل لأنه حق توجه عليه لا عذر له فيه فلم يمهل به كالدين الحال ولأن الله تعالى جعل المدة أربعة أشهر فلا تجوز الزيادة عليها بغير عذر وإنما يؤخر قدر ما يتمكن من الجماع في حكم العادة فإنه لا يلزمه الوطئ في مجلسه وليس ذلك بإمهال فإن قال أمهلوني حتى آكل فإني جائع أو ينهضم الطعام فإني كظيظ أو أصلي الفرض أو أفطر من صومي أمهل بقدر ذلك فإنه يعتبر أن يصير إلى حال يجامع في مثلها في العادة وكذلك يمهل حتى يرجع إلى بيته لأن العادة فعل ذلك في بيته وإن كان لها عذر يمنع من وطئها لم يكن لها المطالبة بالفيئة لأن الوطء ممتنع من جهتها فلم يكن لها مطالبته بما يمنعه منه ولأن المطالبة مع الاستحقاق وهي لا تستحق الوطء في هذه الأحوال وليس لها المطالبة بالطلاق لأنه إنما يستحق عند امتناعه من الفيئة الواجبة ولم يجب عليه شيء ولكن تتأخر المطالبة إلى حال زوال العذر إن لم يكن العذر قاطعا للمدة كالحيض أو كان العذر حدث بعد انقضاء المدة
فصل : فإن عفت عن المطالبة بعد وجوبها فقال بعض أصحابنا يسقط حقها وليس لها المطالبة بعده وقال القاضي : هذا قياس المذهب لأنها رضيت بإسقاط حقها من الفسخ لعدم الوطء فسقط حقها منه كامرأة العنين إذا رضيت بعنته ويحتمل أن لا يسقط حقها ولها المطالبة متى شاءت وهذا مذهب الشافعي لأنها تثبت لرفع الضرر بترك ما يتجدد مع الأحوال فكان لها الرجوع كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ ثم طالبت وفارق الفسخ للعنة فإنه فسخ لعيبه فمتى رضيت بالعيب سقط حقها كما لو عفا المشتري عن عيب المبيع وإن سكتت عن المطالبة ثم طالبت بعد فلها ذلك لأن حقها يثبت على التراخي فلم يسقط بتأخير المطالبة كاستحقاق النفقة
فصل : والأمة كالحرة في استحقاق المطالبة سواء عفا السيد عن ذلك أو لم يعف لأن الحق لها حيث كان الاستمتاع يحصل لها فإن تركت المطالبة لم يكن لمولاها الطلب لأنه لا حق له فإن قيل حقه في الولد ولهذا لم يجز العزل عنها إلا بإذنه قلنا لا يستحق على الزوج استيلاد المرأة ولذلك لو حلف ليعزلن عنها أو لا يستولدها لم يكن موليا ولو أن المولي وطئ بحيث يوجد التقاء الختانين حصلت الفيئة وزالت عنه المطالبة وإن لم ينزل وإنما استؤذن السيد في العزل لأنه يضر بالأمة فربما نقص قيمتها
فصل : فإن كانت المرأة صغيرة أو مجنونة فليس لهما المطالبة لأن قولهما غير معتبر وليس لوليهما المطالبة لهما لأن هذا طريقه الشهوة فلا يقوم غيرهما مقامهما فيه فإن كانتا ممن لا يمكن وطؤهما لم يحتسب عليه بالمدة لأن المنع من جهتهما وإن كان وطؤهما ممكنا فإن أفاقت المجنونة أو بلغت الصغيرة قبل انقضاء المدة تممت المدة ثم لها المطالبة وإن كان ذلك بعد انقضاء المدة فلهما المطالبة يومئذ لأن الحق لهما ثابت وإنما تأخر لعدم إمكان المطالبة وقال الشافعي : لا تضرب المدة في الصغيرة حتى تبلغ وقال أبو حنيفة : تضرب المدة سواء أمكن الوطء أو لم يمكن الوطء فإن لم يمكن فاء بلسانه وإلا بانت بانقضاء المدة وكذلك الحكم عنده في الناشز والرتقاء والقرناء والتي غابت في المدة لأن هذا إيلاء صحيح فوجب أن تتعقبه المدة كالتي يمكنه جماعها
ولنا أن حقها من الوطء يسقط بتعذر جماعها فوجب أن تسقط المدة المضروبة له كما يسقط أجل الدين بسقوطه وأما التي أمكنه جماعها فتضرب له المدة في حقها لأنه إيلاء صحيح ممن يمكنه جماعها فتضرب له المدة كالبالغة ومتى قصد الإضرار بها بترك الوطء أثم ويستحب أن يقال له اتق الله فإما أن تفيء وإما أن تطلق فإن الله تعالى قال : { وعاشروهن بالمعروف } وقال تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وليس الاضرار من المعاشرة بالمعروف

مسألة : خروج المولى من الايلاء وطء
مسألة : قال : والفيئة الجماع
ليس في هذا اختلاف بحمد الله قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظه عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع كذلك قال ابن عباس : وروي ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال مسروق و عطاء و الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيدة وأصحاب الرأي : إذا لم يكن عذر وأصل الفيء الرجوع ولذلك يسمى الظل بعد الزوال فيئا لأنه رجع من المغرب إلى المشرق فسمي الجماع من المولي فيئة لأنه رجع إلى فعل ما تركه وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة أن تغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطء تتعلق به ولو وطئ دون الفرج أو في الدبر لم يكن فيئة لأنه ليس بمحلوف على تركه ولا يزول الضرر بفعله

فصلان : إذا أفاء المولى بالوطء لزمته الكفارة
فصل : وإذا فاء لزمته الكفارة في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن زيد وابن عباس وبه قال ابن سيرين و النخعي و الثوري و قتادة و مالك وأهل المدينة وأبو عبيد وأصحاب الرأي و ابن المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر لا كفارة عليه وهو قول حسن وقال النخعي : كانوا يقولون ذلك لأن الله تعالى قال : { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } قال قتادة : هذا خالف الناس يعني قول الحسن ؟
ولنا قول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } - الآية إلى قوله - { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقال سبحانه : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] متفق عليه ولأنه حالف حانث في يمينه فلزمته الكفارة كما لو حلف على ترك فريضة ثم فعلها والمغفرة لا تنافي الكفارة فإن الله تعالى قد غفر لرسوله صلى الله عليه و سلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد كان يقول : [ إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] متفق عليه
فصل : وإن كان الإيلاء بتعليق عتق أو طلاق وقع بنفس الوطء لأنه معلق بصفة وقد وجدت وإن كان على نذر أو عتق أو صوم أو صلاة أو صدقة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات فهو مخير بين الوفاء به وبين كفارة يمين لأنه نذر لجاج وغضب فهذا حكمه وإن علق طلاقها الثلاث بوطئها لم يؤمر بالفيئة وأمر بالطلاق لأن الوطء غير ممكن لكونها تبين منه بإيلاج الحشفة فيصير مستمتعا بأجنبية وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وأكثرهم قالوا تجوز الفيئة لأن النزع ترك للوطء وترك الوطء ليس بوطء وقد ذكر القاضي أن كلام أحمد يقتضي روايتين كهذين الوجهين واللائق بمذهب أحمد تحريمه لوجوه ثلاثة
أحدها : أن آخر الوطء حصل في أجنبية كما ذكرنا فإن النزع يلتذ به كما يلتذ بالإيلاج فيكون في حكم الوطء ولذلك قلنا فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع إنه يفطر والتحريم ههنا أولى لأن الفطر بالوطء ويمكن منع كون النزع وطئا والمحرم ههنا الاستمتاع والنزع استمتاع فكان محرما ولأن لمسها على وجه التلذذ بها محرم فلمس الفرج بالفرج أولى بالتحريم فإن قيل فهذا إنما يحصل ضرورة ترك الوطء المحرم قلنا فإذا لم يمكن الوطء إلا بفعل محرم حرم ضرورة ترك الحرام كما لو اختلط لحم الخنزير بلحم مباح لا يمكنه أكله إلا بأكل لحم الخنزير حرم ولو اشتبهت ميتة بمذكاة أو امرأته بأجنبية حرم الكل
الوجه الثاني : انه بالوطء يحصل الطلاق بعد الإصابة وهو طلاق بدعة وكما يحرم إيقاعه بلسانه يحرم تحقيق سببه
الثالث : أن يقع به طلاق البدعة من وجه آخر وهو جمع الثلاث فإن وطئ فعليه أن ينزع حين يولج الحشفة ولا يزيد على ذلك ولا يلبث ولا يتحرك عند النزع لأنها أجنبية فإذا فعل ذلك فلا حد ولا مهر لأنه تارك للوطء وإن لبث أو تمم الإيلاج فلا حد عليه لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجته وفي المهر وجهان :
أحدهما : يلزمه لأنه حصل منه وطء محرم في محل غير مملوك فأوجب المهر كما لو أولج بعد النزع
والثاني : لا يجب لأنه تابع الإيلاج في محل مملوك فكان تابعا له في سقوط المهر وإن نزع ثم أولج وكانا جاهلين بالتحريم فلا حد عليهما وعليه المهر لها ويلحقه النسب وإن كانا عالمين بالتحريم فعليهما الحد لأنه إيلاج في أجنبية بغير شبهة فأشبه ما لو طلقها ثلاثا ثم وطئها ولا مهر لها لأنها مطاوعة على الزنا ولا يلحقه النسب لأنه من زنا لا شبهة فيه
وذكر القاضي وجها أنه لا حد عليهما لأ هذا مما يخفى على كثير من الناس وهو وجه لأصحاب الشافعي والصحيح الأول لأن الكلام في العالمين وليس هو في مظنة الخفاء فإن أكثر المسلمين يعلمون أن الطلاق الثلاث محرم للمرأة وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا نظرت فإن كان هو العالم فعليه الحد ولها المهر ولا يلحقه النسب لأنه زاد محدود وإن كانت هي العالمة دونه فعليها الحد وحدها ولا مهر لها والنسب لاحق بالزوج لأن وطأه وطء شبهة

فصل : الايلاء بتعليق الظهار على الوطء
فصل : وإن قال إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي فقال أحمد : لا يقر بها حتى يكفر وهذا نص في تحريمها قبل التكفير وهو دليل على تحريم الوطء في المسألة التي قبلها بطريق التنبية لأن المطلقة ثلاثا أعظم تحريما من المظاهر منها وإذا وطئ ههنا فقد صار مظاهرا من زوجته وزال حكم الإيلاء ويحتمل أن أحمد إنما أراد إذا وطئها مرة فلا يطؤها حتى يكفر لكونه صار بالوطء مظاهرا إذ لا يصح تقديم الكفارة على الظهار لأنه سببها ولا يجوز تقديم الحكم على سببه ولو كفر كفر قبل الظهار لم يجزئه وقد روى إسحاق قال قلت ل أحمد فيمن قال لزوجته أنت علي كظهر أمي إن قربتك إلى سنة قال إن جاءت تطلب فليس له أن يعضلها بعد مضي الأربعة الأشهر يقال له إما ان تفيء وإما أن تطلق فإن وطئها فقد وجب عليه كفارة وإن أتى وأرادت مفارقته طلقها الحاكم عليه فينبغي أن تحمل الرواية الأولى على المنع من الوطء بعد الوطء الذي صار به مظاهرا لما ذكرناه فتكون الروايتان متفقتين والله تعالى أعلم

مسألة وفصلان : فيئة من له عذر بمنع الوطء
مسألة : قال : أو يكون له عذر من مرض أو إحرام أو شيء لا يمكن معه الجماع فيقول متى قدرت جامعتها فيكون ذلك من قوله فيئة للعذر
وجملة ذلك أنه إذا مضت المدة وبالمولي عذر يمنع الوطء من مرض أو حبس بغير حق أو غيره لزمه أن يفيء بلسانه فيقول متى قدرت جامعتها ونحو هذا وممن قال يفيء بلسانه إذا كان ذا عذر ابن مسعود وجابر بن زيد و النخعي و الحسن و الزهري و الثوري و الأوزاعي و عكرمة و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال سعيد بن جبير : لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره وقال أبو ثور : إذا لم يقدر لم يوقف حتى يصح أو يصل إن كان غائبا ولا تلزمه الفيئة بلسانه لأن الضرر بترك الوطء لا يزول بالقول وقال بعض الشافعية : يحتاج أن يقول قد ندمت على ما فعلت وإن قدرت وطئت
ولنا أن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الاضرار وقد ترك قصد الاضرار بما أتى به من الاعتذار والقول مع العذر يقوم مقام فعل القادر بدليل أن إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها يقوم مقام طلبها في الحضور في إثباتها ولا يحتاج أن يقول ندمت لأن الغرض أن يظهر رجوعه عن المقام على اليمين وقد حصل بظهور عزمه عليه وحكى أبو الخطاب عن القاضي أن فيئة المعذور أن يقول فئت إليك وهو قول الثوري و أبي عبيد وأصحاب الرأي والذي ذكر القاضي في المجرد مثل ما ذكر الخرقي وهو أحسن لأن وعده بالفعل عند القدرة عليه دليل على ترك قصد الاضرار وفيه نوع من الاعتذار واخبار بإزالته للضرر عند إمكانه ولا يحصل بقوله فئت إليك شيء من هذا فأما العاجز لجب أو شلل ففيئته أن يقول لو قدرت لجامعتها لأن ذلك يزيل ما حصل بإيلائه
فصل : والاحرام كالمرض في ظاهر قول الخرقي وكذلك على قياسه الاعتكاف المنذور والظهار وذكر أصحابنا أن المظاهر لا يمهل ويؤمر بالطلاق فيخرج من هذا أن كل عذر من فعله يمنعه الوطء لا يمهل من أجله وهو مذهب الشافعي لأن الامتناع بسبب منه فلا يسقط حكما واجبا عليه فعلى هذا لا يؤمر بالوطء لأنه محرم عليه ولكن يؤمر بالطلاق ووجه القول الأول أنه عاجز عن الوطء بأمر لا يمكنه الخروج منه فأشبه المريض فأما المظاهر فيقال له إما أن تكفر وتفيء وإما أن تطلق فإن قال أمهلوني حتى أطلب رقبة أو أطعم فإن علم أنه قادر على التكفير في الحال وإنما يقصد المدافعة والتأخير لم يمهل لأن الحق حال عليه وإنما يمهل للحاجة ولا حاجة وإن لم يعلم ذلك أمهل ثلاثة أيام لأنها قريبة ولا يزاد على ذلك وإن كان فرضه الصيام فطلب الامهال ليصوم شهرين متتابعين لم يمهل لأنه كثير ويتخرج أن يفيء بلسانه فيئة المعذور ويمهل حتى يصوم كقولنا في المحرم فإن وطئها فقد عصى وانحل إيلاؤه ولها منعه منه لأن هذا الوطء محرم عليها
وقال القاضي : يلزمها التمكين وإن امتنعت سقط حقها لأن حقها في الوطء وقد بذله لها ومتى وطئها فقد وفاها حقها والتحريم عليه دونها
ولنا أنه وطء حرام فلا يلزم التمكين منه كالوطء في الحيض والنفاس وهذا ينقض دليلهم ولا نسلم كون التحريم عليه دونها فإن الوطء متى حرم على أحدهما حرم على الآخر لكونه فعلا واحدا ولو جاز اختصاص أحدهما بالتحريم لاختصت المرأة بتحريم الوطء في الحيض والنفاس وإحرامها وصيامها لاختصاصها بسببه
فصل : وإن انقضت المدة وهو محبوس بحق يمكن أداؤه طولب بالفيئة لأنه قادر عليها بأداء ما عليه فإن لم يفعل أمر بالطلاق وإن كان عاجزا عن أدائه أو حبس ظلما أمر بفيئة المعذور وإن انقضت وهو غائب والطريق آمن فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها أو حملها إليه فإن لم يفعل أخذ بالطلاق وإن كان الطريق مخوفا أو له عذر يمنعه فاء فيئة المعذور
فصل : فإن كان مغلوبا على عقله بجنون أو إغماء لم يطالب لأنه لا يصح للخطاب ولا يصح منه الجواب وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر ثم يطالب حينئذ وإن كان مجبوبا وقلنا يصح إيلاؤه فاء فيئة المعذور فيقول لو قدرت جامعتها
فصل : وإذا انقضت المدة فادعى انه عاجز عن الوطء فإذا كان قد وطئها مرة لم تسمع دعواه العنة كما لم تسمع دعواها عليه ويؤخذ بالفيئة أو بالطلاق كغيره وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة فقال القاضي : تسمع دعواه ويقبل قوله لأن التعنين من العيوب التي لا يقف عليها غيره وهذا ظاهر نص الشافعي ولها أن تسأل الحاكم فيضرب له مدة العنة بعد أن يفيء فيئة أهل الأعذار
وفيه وجه آخر انه لا يقبل قوله لأنه متهم في دعوى ما يسقط عنه حقا توجه عليه الطلب به والأصل سلامته منه وإن ادعت انه قد أصابها مرة وأنكر ذلك لم يكن لها المطالبة بضرب مدة العنة لاعترافها بعدم عنته والقول قوله في عدم الإصابة

مسألة : قال فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق
مسألة : قال : فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق
وجملة الأمر أن المولي إذا وقف وطولب بالفيئة وهو قادر عليها فلم يفعل أمر بالطلاق وهذا قول كل من يقول يوقف المولي لأن الله تعالى قال : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فإذا امتنع من أداء الواجب لها عليه فقد امتنع من الإمساك بمعروف فيؤمر بالتسريح بالإحسان وإن كان معذورا ففاء بلسانه ثم قدر على الوطء أمر به فإن فعل وإلا أمر بالطلاق وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر : إذا فاء بلسانه لم يطالب بالفيئة مرة أخرى وخرج من الإيلاء وهو قول الحسن و عكرمة و الأوزاعي لأنه فاء مرة فخرج من الإيلاء ولم تلزمه فيئة ثانية كما لو فاء بالوطء وقال أبو حنيفة : تستأنف له مدة الإيلاء لأنه وفاها حقها بما أمكنه من الفيئة فلا يطالب إلا بعد استئناف مدة الإيلاء كما لو طلقها
ولنا أنه أخر حقها لعجزه عنه فإذا قدر عليه لزمه أن يوفيها إياه كالدين على المعسر إذا قدر عليه وما ذكروه فليس بحقها ولا يزول الضرر عنها به وإنما وعدها بالوفاء ولزمها الصبر عليها وإنكاره كالغريم المعسر

فصل : وليس على من فاء بلسان كفارة
فصل : وليس على من فاء بلسانه كفارة ولا حنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإنما وعد بفعله فهو كمن عليه دين حلف أن لا يوفيه ثم أعسر به فقال متى قدرت وفيته

مسألة وفصل : فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه
مسألة : قال : فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه
وجملة الأمر أن المولي إذا امتنع من الفيئة بعد التربص أو امتنع المعذور من الفيئة بلسانه أو امتنع من الوطء بعد زوال عذره أمر بالطلاق فإن طلق وقع طلاقه الذي أوقعه واحدة كانت أو أكثر وليس للحاكم إجباره على أكثر من طلقة لأنه يحصل الوفاء بحقها فإنه يفضي إلى البينونة والتخلص من ضرره وإن امتنع من الطلاق طلق الحاكم عليه وبهذا قال مالك وعن أحمد رواية أخرى ليس للحاكم الطلاق عليه لأن ما خير الزوج فيه بين أمرين لم يقم الحاكم مقامه فيه كالاختيار لبعض الزوجات في حق من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أو أختان فعلى هذا يحبسه ويضيق عليه حتى يفيء أو يطلق و للشافعي قولان كالروايتين
ولنا أن ما دخلته النيابة وتعين مستحقه وامتنع من هو عليه قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين وفارق الاختيار فإنه ما تعين مستحقه وهذا أصح في المذهب وليس للحاكم أن يأمر بالطلاق ولا يطلق إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه حق لها وإنما الحاكم يستوفي لها الحق فلا يكون إلا عند طلبها
فصل : والطلاق الواجب على المولي رجعي سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه وبهذا قال الشافعي قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله في المولي فإن طلقها قال تكون واحدة وهو أحق بها وعن أحمد رواية أخرى ان فرقة الحاكم تكون بائنا ذكر أبو بكر الروايتين جميعا
وقال القاضي : المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم أنها تكون بائنا فإن رواية الأثرم وقد سئل إذا طلق عليه السلطان أتكون واحدة ؟ فقال : إذا طلق فهي واحدة وهو أحق بها فأما تفريق السلطان فليس فيه رجعة وقال أبو ثور : طلاق المولي بائن سواء طلق هو أو طلق عليه الحاكم لأنها فرقة لرفع الضرر فكان بائنا كفرقة العنة ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر لأنه يرتجعها فيبقى الضرر وقال أبو حنيفة : يقع الطلاق بانقضاء العدة بائنا ووجه الأول انه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعيا كالطلاق في غير الإيلاء ويفارق فرقة العنة لأنها فسخ لعيب وهذه طلقة ولأنه لو أبيح له ارتجاعها لم يندفع عنها الضرر وهذه يندفع عنها الضرر فإنه إذا ارتجعها ضربت له مدة أخرى ولأن العنين قد يئس من وطئه فلا فائدة في رجعته وهذا غير عاجز ورجعته دليل على رغبته فيها وإقلاعه عن الاضرار بها فافترقا والله أعلم

مسألة : قال : فإن طلق عليه ثلاث فهي ثلاث
مسألة : قال : فإن طلق عليه ثلاثا فهي ثلاث
وجملة الأمر أن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق معا وقام الحاكم مقامه فإنه يملك من الطلاق ما يملكه المولي وإليه الخيرة فيه إن شاء طلق واحدة وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثا وإن شاء فسخ قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي : ليس له إلا واحدة لأن إيفاء الحق يحصل بها فلم يملك زيادة عليها كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع
ولنا أن الحاكم قائم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه كما لو وكله في ذلك وليس ذلك زيادة على حقها فإن حقها الفرقة غير أنها تتنوع وقد يرى الحاكم المصلحة في تحريمها عليه ومنعه رجعتها لعلمه بسوء قصده وحصول المصلحة ببعده قال أبو عبد الله : إذا قال فرقت بينكما فإنما هو فسخ وإذا قال طلقت واحدة فهي واحدة وإذا قال ثلاثا فهي ثلاث

مسألة : انقطاع مدة التربص بالطلاق الرجعي واستئنافها بالرجعة
مسألة : قال : وإن طلق واحدة وراجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر كان الحكم كما حكمنا في الأول
وجملة الأمر أنه إذا طلق المولي أو طلق الحاكم عليه أقل من ثلاث فله رجعتها وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن تفريق الحاكم ليس فيه رجعة فإنه قال وأما تفريق السلطان فليس فيه رجعة في العدة ولا بعدها فعلى هذه الرواية يكون طلاق الحاكم بائنا ليس فيه رجعة وقال أبو بكر : في كل فرقة فرقها الحاكم روايتان لعانا كانت أو غيره
إحداهما : تحرم على التأبيد واختارها
والثانية : له المراجعة فيها بعقد جديد وهذا الصحيح وليس في كلام أحمد ما يقتضي تحريمها عليه وقوله ليس فيه رجعة في العدة ولا بعدها يمكن حمله على أنه ليس له رجعتها بغير نكاح جديد لأنه قد صرح في سائر الروايات به ولأنه لم يوجد سبب يقتضي تحريمها عليه وتفريق الحاكم لا يقتضي سوى التفريق بينهما في هذا النكاح ولذلك لو فرق بينهما لأجل العنة لم تحرم عليه
وأما فرقة اللعان فإنها تحصل بدون تفريق الحاكم ولو حصلت بتفريق الحاكم غير أن المقتضي للتفريق والتحريم اللعان بدليل أنه لا يجوز إقرارهما على النكاح وإن تراضوا به بخلاف مسألتنا وأما على قول الخرقي فإن الطلاق إذا كان دون الثلاث فهو رجعي سواء أكان من المولي أو الحاكم وهذا مذهب الشافعي لأن الحاكم نائبه فلا يقع طلاقه مفيدا كما لم يفده طلاق المولي كالوكيل فإن لم يراجع حتى انقضت عدتها بانت ولم يلحقها طلاق ثان وهذا مذهب الشافعي وروي عن علي إذا سبق حد الإيلاء حد الطلاق فهما تطليقتان وإن سبق حد الطلاق حد الإيلاء فهي واحدة ويقتضيه مذهب الزهري وهذا مبني على أن الطلاق يقع بانقضاء مدة الإيلاء من غير إيقاع وقد سبق ذكر ذلك فأما إن فسخ الحاكم النكاح فليس للمولي الرجوع عليها إلا بنكاح جديد سواء كان في العدة أو بعدها ولا ينقص به عدد طلاقه لأنه ليس بطلاق فأشبه فسخ النكاح لعيبه أو عنته وإن طلق المولي أو الحاكم ثلاثا لم تحل له إلا بعد زوج ثان وإصابة ونكاح جديد إذا ثبت هذا فإنه إذا طلق دون الثلاث فراجعها في عدتها فإن مدة الإيلاء تنقطع بالطلاق ولا يحتسب عليه بما قبل الرجعة من المدة لأنها صارت ممنوعة منه بغير اليمين فانقطعت المدة كما لو كان الطلاق بائنا فإن راجع استؤنفت المدة من حين رجعته فإن كان الباقي منها أقل من أربعة أشهر سقط الإيلاء وإن كان أكثر منها تربصنا به أربعة أشهر ثم وقفناه ليفيء أو يطلق ثم يكون الحكم ههنا كالحكم في وقفه الأول فإن طلق أو طلق الحاكم عليه واحدة ثم راجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر انتظرناه أربعة أشهر ثم طولب بالفيئة أو الطلاق فإن طلق فقد كملت الثلاث وحرمت عليه وهذا مذهب الشافعي ويقتضي مذهب أبي عبد الله بن حامد أنه إذا طلق استؤنفت المدة الأخرى من حين طلق فلو تمت أربعة أشهر قبل انقضاء عدة الطلاق وقف ثانيا فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ونحو هذا مذهب مالك و أبي عبيد وإن انقضت العدة قبل مدة الإيلاء بانت وانقطع الإيلاء فإن راجع في العدة قبل مدة الإيلاء تربص به تمام أربعة أشهر من حين طلق وعن ابن مسعود و عطاء و الحسن و النخعي و الأوزاعي أن الطلاق يهدم الإيلاء وهذا يحتمل أن يكون معناه أن يقطع مدته فلا يحتسب بمدته قبل الرجعة فيكون قول الخرقي مثله ويحتمل أنه يزيل حكمه بالكلية لأنه قد وفاها حقها بالطلاق فسقط حكم الإيلاء كما لو وطئها والجواب عن هذا أن حكم اليمين باق في المنع من الوطء فيبقى الإيلاء كما لو لم يطلق بخلاف الفيئة فإنها ترفع اليمين لحصول الحنث فيها

مسألة وفصل : ادعاء الموالي الوطء
مسألة : قال : ولو وقفناه بعد الأربعة أشهر فقال قد أصبتها فإن كانت ثيبا كان القول قوله مع يمينه
وهذا قول الشافعي لأن الأصل بقاء النكاح والمرأة تدعي ما يلزمه به رفعه وهو يدعي ما يوافق الأصل ويبقيه فكان القول قوله كما لو ادعى الوطء في العنة ولأن هذا أمر خفي ولا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كقول المرأة في حيضها وتلزمه اليمين لأن ما تدعيه المرأة محتمل فوجب نفيه باليمين ونص أحمد في رواية الأثرم على أنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضي فيه بالنكول وهذا اختيار أبي بكر فأما إن كانت بكرا واختلفا في الإصابة أريت النساء الثقات فإن شهدن بثيوبتها فالقول قوله وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها لأنه لو وطئها زالت بكارتها وظاهر قول الخرقي أنه لا يمين ههنا لقوله في باب العنين فإن شهدن بما قالت أجل سنة ولم يذكر يمينه وهذا قول أبي بكر لأن البينة تشهد لها فلا تجب اليمين معها
فصل : ولو كانت هذه المرأة غير مدخول بها فادعى أنه أصابها وكذبته ثم طلقها وأراد رجعتها كان القول قولها فنقبل قوله في الإصابة في الإيلاء ولا نقبله في إثبات الرجعة له وقد سبق تعليل ذلك في كتاب الرجعة

مسألة وفصل : عودة حكم الايلاء بعودة النكاح بعد الفرقة البائنة
مسألة : قال : ولو آلى منها فلم يصبها حتى طلقها وانقضت عدتها منه ثم نكحها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر وقف لها كما وصفت
وجملة الأمر أن المولي إذا أبان زوجته انقطعت مدة الإيلاء بغير خلاف علمناه سواء بانت بفسخ أو طلاق ثلاث أو بخلع أو بانقضاء عدتها من حين الطلاق الرجعي لأنها صارت أجنبية منه ولم يبق شيء من أحكام نكاحها فإن عاد فتزوجها عاد حكم الإيلاء من حين تزوجها واستؤنفت المدة حينئذ فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون لم يثبت حكم الإيلاء لأن مدة التربص أربعة أشهر وإن كان أكثر من أربعة أشهر تربص أربعة أشهر ثم وقف لها فإما أن يفيء أو يطلق وإن لم يطلق طلق الحاكم عليه وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة : إن كان الطلاق أقل من ثلاث ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم نكحها عاد الإيلاء وإن استوفى عدد الطلاق لم يعد الإيلاء لأن حكم النكاح الأول زال بالكلية ولهذا يرجع إليه على طلاق ثلاث فصار إيلاؤه في النكاح الأول كإيلائه من أجنبية وقال أصحاب الشافعي يتحصل من أقواله ثلاثة أقاويل : قولان كالمذهبين وقول ثالث لا يعود حكم الإيلاء بحال وهو قول ابن المنذر لأنها صارت بحال لو آلى منها لم يصح إيلاؤه فبطل حكم الإيلاء منها كالمطلقة ثلاثا
ولنا أنه ممتنع من وطء امرأته بيمين في حال نكاحها فثبت له حكم الإيلاء كما لو لم يطلق وفارق الإيلاء من الأجنبية فإنه لا يقصد باليمين عليها الإضرار بها بخلاف مسألتنا أر
فصل : ولو آلى من امرأته الأمة ثم اشتراها ثم أعتقها وتزوجها عاد الإيلاء ولو كان المولي عبدا فاشترته امرأته ثم أعتقه وتزوجته عاد الإيلاء ولو بانت الزوجة بردة أو إسلام من أحدهما أو غيره ثم تزوجها تزويجا جديدا عاد الإيلاء وتستأنف المدة في جميع ذلك وسواء عادت إليه بعد زوج ثان أو قبله لأن اليمين كانت منه في حال الزوجية فيبقى حكمها ما وجدت الزوجية وهكذا لو قال لزوجته : إن دخلت الدار فوالله لا جامعتك ثم طلقها ثم نكحت غيره ثم تزوجها الأول عاد حكم الإيلاء لأن الصفة المعقودة في حال الزوجية لا تنحل بزوال الزوجية فإن دخلت الدار في حال البينونة ثم عاد فتزوجها لم يثبت حكم الإيلاء في حقه لأن الصفة وجدت في حال كونها أجنبية ولا ينعقد الإيلاء بالحلف على الأجنبية بخلاف ما إذا دخلت وهي امرأته

مسألة وفصل : الاختلاف في وقت صدور يمين الايلاء
مسألة : قال : ولو آلى منها واختلفا في مضي الأربعة أشهر كان القول قوله في أنها لم تمض مع يمينه
إنما كان كذلك لأن الاختلاف في مضي المدة ينبني على الخلاف في وقت يمينه فإنهما لو اتفقا على وقت اليمين حسب من ذلك الوقت فعلم هل انقضت المدة أو لا وزال الخلاف أما إذا اختلفا في وقت اليمين فقال حلفت في غرة رمضان وقالت بل حلفت في غرة شعبان فالقول قوله لأنه صدر من جهته وهو أعلم به فكان القول قوله فيه كما لو اختلفا في أصل الإيلاء ولأن الأصل عدم الحلف في غرة شعبان فكان قوله في نفيه موافقا للأصل قال الخرقي : ويكون ذلك مع يمينه وهو مذهب الشافعي وذهب أبو بكر إلى أنه لا يمين عليه قال القاضي : وهو أصح لأنه اختلاف في أحكم النكاح فلم تشرع فيه يمين كما لو ادعى زوجية امرأة فأنكرته ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق لآدمي يجوز بذله فيستحلف فيه كالديون
فصل : فإن ترك الوطء بغير يمين لم يكن موليا لأن الإيلاء الحلف ولكن إن ترك ذلك لعذر من مرض أو غيبة ونحوه لم تضرب له مدة وإن تركه مضرا بها فهل تضرب له مدة ؟ على روايتين :
إحداهما : تضرب له مدة أربعة أشهر فإن وطئها وإلا دعي بعدها إلى الوطء فإن امتنع منه أمر بالطلاق كما يفعل في الإيلاء سواء لأنه أضر بها بترك الوطء في مدة الإيلاء فيلزم حكمه كما لو حلف ولأن ما وجب أداؤه إذا حلف على تركه وجب أداؤه إذا لم يحلف كالنفقة وسائر الواجبات يحققه أن اليمين لا تجعل غير الوجب واجبا إذا أقسم على تركه فوجوبه معها يدل على وجوبه قبلها ولأن وجوبه في الإيلاء إنما كان لدفع حاجة المرأة وإزالة الضرر عنها وضرها لا يختلف بالإيلاء وعدمه فلا يختلف الوجوب فإن قيل فلا يبقى للإيلاء أثر فلم أفردتم له بابا ؟ قلنا بل له أثر فإنه يدل على قصد الاضرار فيتعلق الحكم به وإن لم يظهر منه قصد الاضرار اكتفي بدلالته وإذا لم توجد اليمين احتجنا إلى دليل سواه يدل على المضارة فيعتبر الإيلاء لدلالته عل المقتضي لا لعينه
والثانية : لا تضرب له مدة وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأنه ليس بمول فلم تضرب له مدة كما لو لم يقصد الاضرار ولأن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه إذ لو ثبت هذا الحكم بدونه لم يكن له أثر والله أعلم

كتاب الظهار تعريف الظهار وحكمه
الظهار مشتق من الظهر وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء لأن كل مركوب يسمى ظهرا لحصول الركوب على ظهره في الأغلب فشبهوا الزوجة بذلك وهو محرم لقول الله تعالى : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم قال الله تعالى : { ما هن أمهاتهم } وقال تعالى : { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } والأصل في الظهار الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } والآية التي بعدها وأما السنة فروى أبو داود بإسناده [ عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت : تظاهر مني أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم أشكو ورسول الله صلى الله عليه و سلم يجادلني فيه ويقول : اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } فقال : يعتق رقبة فقلت لا يجد قال : فيصوم شهرين متتابعين فقلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال : فليطعم ستين مسكينا قلت ما عنده من شيء يتصدق به قال : فإني سأعينه بعرق من تمر فقلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر قال : قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك ] قال الأصمعي : العرق بفتح العين والراء هو ما سف من خوص كالزنبيل الكبير وروي أيضا بإسناده عن سليمان بن يسار [ عن سلمة بن صخر البياضي قال : كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتتابع حتى أصبح فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا لا والله فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته الخبر فقال : أنت بذاك يا سلمة ؟ فقلت أنا بذاك يا رسول الله وأنا صابر لحكم الله فاحكم في ما أراك الله قال : حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال : صم شهرين متتابعين قلت وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ؟ قال : فاطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك - قال - فاطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم ]

فصلان : من صح طلاقه صح ظهاره
فصل : وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره وهو البالغ العاقل سواء كان مسلما أو كافرا حرا أو عبدا قال أبو بكر : وظهار السكران مبني على طلاقه قال القاضي : وكذلك ظهار الصبي مبني على طلاقه والصحيح أن ظهار الصبي غير صحيح لأنها يمين موجبة للكفارة فلم تنعقد منه كاليمين بالله تعالى ولأن الكفارة وجبت لما فيه من قول المنكر والزور وذلك مرفوع عن الصبي لكون القلم مرفوعا عنه وقد قيل لا يصح ظهار العبد لأن الله تعالى قال : { فتحرير رقبة } والعبد لا يملك الرقاب
ولنا عموم الآية ولأنه يصح طلاقه فصح ظهاره كالحر فأما إيجاب الرقبة فإنما هو على من يجدها ولا يبقى الظهار في حق من لا يجدها كالمعسر فرضه الصيام ويصح ظهار الذمي وبه قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يصح منه لأن الكفارة لا تصح منه وهي الرافعة للتحريم فلا يصح منه التحريم ودليل أن الكفارة لا تصح منه انها عبادة تفتقر إلى النية فلا تصح منه كسائر العبادات
ولنا أن من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فأما ما ذكروه فيبطل بكفارة الصيد إذا قتله في الحرم وكذلك الحد يقام عليه ولا نسلم أن التكفير لا يصح منه فإنه يصح منه العتق والإطعام وإنما لا يصح منه الصوم فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد والنية إنما تعتبر لتعيين الفعل للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الكافر كالنية في كنايات الطلاق ومن يخنق في الأحيان يصح ظهاره في إفاقته كما يصح طلاقه فيه
فصل : ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره كالطفل والزائل العقل بجنون أو إغماء أو نوم أو غيره لا نعلم في هذا خلافا وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا يصح ظهار المكره وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو يوسف : يصح ظهاره والخلاف في ذلك مبني على الخلاف في صحة طلاقه وقد مضى ذلك

فصل : ويصح الظهار من كل زوجة كبيرة
فصل : ويصح الظهار من كل زوجة كبيرة كانت أو صغيرة مسلمة كانت أو ذمية ممكنا وطؤها أو غير ممكن وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو ثور : لا يصح الظهار من التي لا يمكن وطؤها لأنه لا يمكن وطؤها والظهار لتحريم وطئها
ولنا عموم الآية ولأنها زوجة يصح طلاقها فصح الظهار منها كغيرها

مسألة : متى ظاهر منها لا يحل له وطؤها حتى يكفر
مسألة : قال : وإذا قال لزوجته أنت علي كظهر أمي أو كظهر امرأة أجنبية أو أنت علي حرام أو حرم عضوا من أعضاها فلا يطؤها حتى يأتي بالكفارة

فصول : حكم التشبه بظهر الأب وبالأم والألفاظ التي تحصل فيها الظهار
في هذه المسألة فصول خمسة أحدها : أنه متى شبه امرأته بمن تحرم عليه على التأييد فقال أنت علي كظهر أمي أو أختي وغيرهما فهو مظاهر وهذا على ثلاثة أضرب
أحدها : أن يقول أنت علي كظهر أمي فهذا ظهار إجماعا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول أنت علي كظهر أمي وفي حديث خويلة امرأة أوس بن الصامت أنه قال لها أنت علي كظهر أمي فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأمره بالكفارة
الضرب الثاني : أن يشبهها بظهر من تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته فهذا ظهار في قول أكثر أهل العلم منهم الحسن و عطاء و جابر بن زيد و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و الأوزاعي و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي وهو جديد قولي الشافعي وقال في القديم : لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة لأنها أم أيضا لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالام مختص بالام فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه
ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم فأما الآية فقد قال فيها : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } وهذا موجود في مسألتنا فجرى مجراه وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها إذا كانت مثلها
الضرب الثالث : أن يشبهها بظهر من تحرم عيه على التأبيد سوى الأقارب كالأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة وحلائل الآباء والأبناء وأمهات النساء والربائب اللائي دخل بأمهن فهو ظهار أيضا والخلاف فيها كالتي قبلها ووجه المذهبين ما تقدم ويزيد في الأمهات المرضعات دخولها في عموم الأمهات فتكون داخلة في النص وسائرهن في معناها فثبت فيهن حكمها
الفصل الثاني : إذا شبهها بظهر من تحرم عليه تحريما مؤقتا كأخت امرأته وعمتها أو الأجنبية فعن أحمد فيه روايتان
إحداهما : انه ظهار وهو اختيار الخرقي وقول أصحاب مالك والثانية : ليس بظهار وهو مذهب الشافعي لأنها غير محرمة على التأبيد فلا يكون التشبيه بها ظهارا كالحائض والمحرمة من نسائه ووجه الأول انه شبهها بمحرمة فأشبه ما لو شبهها بالأم ولأن مجرد قوله أنت علي حرام ظهار إذا نوى به الظهار والتشبيه بالمحرمة تحريم فكان ظهارا فأما الحائض فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج والمحرمة يحل له النظر إليها ولمسها من غير شهوة وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف مسألتنا واختار أبو بكر أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحارم من النساء قال فبهذا أقول
فصل : وإن شبهها بظهر أبيه أو بظهر غيره من الرجال أو قال أنت علي كظهر البهيمة أو أنت علي كالميتة والدم في ذلك كله روايتان :
إحداهما : انه ظهار قال الميموني : قلت ل أحمد إن ظاهر من ظهر الرجل قال فظهر الرجل حرام يكون ظهارا وبهذا قال ابن القاسم : صاحب مالك فيما إذا قال أنت علي كظهر أبي وروي ذلك عن جابر بن زيد
والرواية الثانية : ليس بظهار وهو قول أكثر العلماء لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه ما لو قال أنت علي كمال زيد وهل فيه كفارة ؟ على روايتين :
إحداهما : فيه كفارة لأنه نوع تحريم فأشبه ما لو حرم ماله
والثانية : ليس فيه شيء نقل ابن القاسم عن أحمد فيمن شبه امرأته بظهر الرجل لا يكون ظهارا ولم أره يلزمه فيه شيء وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه التشبيه بمال غيره وقال أبو الخطاب : في قوله أنت علي كالميتة والدم وإن نوى به الطلاق كان طلاقا وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى اليمين كان يمينا وإن لم ينو شيئا ففيه روايتان إحداهما : هو ظهار والأخرى : هو يمين ولم يتحقق عندي معنى إرادته الظهار واليمين والله أعلم
فصل : فإن قال أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي كان ظهارا بمنزلة علي لأن هذه الألفاظ في معناه وإن قال جملتك أو بدنك أو جسمك أو ذاتك أو كلك علي كظهر أمي كان ظهارا لأنه أشار إليها فهو كقوله أنت وإن قال أنت كظهر أمي كان ظهارا لأنه أتى بما يقتضي تحريمها عليه فانصرف الحكم إليه كما لو قال أنت طالق وقال بعض الشافعية : ليس بظهار لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه وليس بصحيح فإنها إذا كانت كظهر أمه محرم عليه
فصل : وإن قال أنت علي كأمي أو مثل أمي ونوى به الظهار فهو ظهار في قول عامة العلماء منهم أبو حنيفة وصاحباه و الشافعي و إسحاق وإن نوى به الكرامة والتوقير أو انها مثلها في الكبر أو الصفة فليس بظهار والقول قوله في نيته وإن أطلق فقال أبو بكر : هو صريح في الظهار وهو قول مالك و محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى فيه روايتان أظهرهما انه ليس بظهار حتى ينويه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق
ووجه الأول انه شبه امرأته بجملة أمه فكان مشبها لها بظهرها فيثبت الظهار كما لو شبهها به منفردا والذي يصح عندي في قياس المذهب أنه إن وجدت قرينة تدل على الظهار مثل أن يخرجه مخرج الحلف فيقول إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار لأنه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شيء أو الحث عليه وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه ولأن كونها مثل أمه في صفتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط فيدل على أنه إنما أراد الظهار ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب ودليل على أنه أراد به ما يتعلق بأذاها ويوجب اجتنابها وهو الظهار وإن عدم هذا فليس بظهار لأنه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل ونحو هذا قول أبي ثور وهكذا لو قال أنت علي كأمي أو مثل أمي أو قال أنت أمي أو امرأتي أمي مع الدليل الصارف له إلى الظهار كان ظهارا إما بنية أو ما يقوم مقامها وإن قال أمي امرأتي أو مثل امرأتي لم يكن ظهارا لأنه تشبيه لأنه ووصف لها وليس يوصف لامرأته

فصول : تحريم الرجل امرأته على نفسه وجمع الظهار والطلاق معا
الفصل الثالث : أنه إذا قال أنت علي حرام فإن نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي وإن نوى به الطلاق فقد ذكرناه في باب الطلاق وإن أطلق ففيه روايتان إحداهما : هو ظهار ذكره الخرقي في موضع آخر ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه وذكره إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي انهم قالوا : الحرام ظهار وروي عن أحمد ما يدل على أن التحريم يمين وروي عن ابن عباس أنه قال إن التحريم يمين في كتاب الله عز و جل قال الله عز و جل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } - ثم قال - { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وأكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار ليس بظهار وهو قول مالك و أبي حنيفة و الشافعي ووجه ذلك الآية المذكورة وإن التحريم يتنوع منه ما هو بظهار وبطلاق وبحيض وإحرام وصيام فلا يكون التحريم صريحا في واحد منهما ولا ينصرف إليه بغير نية كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق ووجه الأول إنه تحريم أوقعه في امرأته فكان باطلاقه ظهارا كتشبيهها بظهر أمه وقولهم ان التحريم يتنوع قلنا إلا أن تلك الأنواع منتفية ولا يحصل بقوله منها إلا الطلاق وهذا أولى منه لأن الطلاق تبين به المرأة وهذا يحرمها مع بقاء الزوجية فكان أدنى التحريمين فكان أولى فأما إن قال لمحرمة عليه بحيض أو نحوه وقصد الظهار فهو ظهار وإن قصد انها محرمة عليه بذلك السبب فلا شيء فيه فإن أطلق فليس بظهار لأنه يحتمل الخبر عن حالها ويحتمل إنشاء التحريم فيها بالظهار فلا يتعين أحدهما بتغير تعيين
فصل : فإن قال الحل علي حرام أو ما أحل الله علي حرام أو ما أنقلب إليه حرام وله امرأة فهو مظاهر نص عليه أحمد في الصور الثلاث وذلك لأن لفظه يقتضي العموم فيتناول المرأة بعمومه وإن صرح بتحريم المرأة أو نواها فهو آكد قال أحمد : فيمن قال ما أحل الله علي حرام من أهل وما عليه كفارة الظهار هو يمين وتجزئه كفارة واحدة في ظاهر كلام أحمد هذا واختار ابن عقيل أنه يلزمه كفارتان للظهار ولتحريم المال لأن التحريم تناولهما وكل واحد منهما لو انفرد أوجب كفارة فكذلك إذا اجتمعا
ولنا أنها يمين واحدة فلا توجب كفارتين كما لو تظاهر من امرأتين أو حرم من ماله شيئين وما ذكره ينتقض بهذا وفي قول أحمد هو يمين إشارة إلى التعليل بما ذكرناه لأن اليمين الواحدة لا توجب أكثر من كفارة وإن نوى بقوله ما أحل الله علي حرام وغيره من لفظات العموم لم يلزمه إلا كفارة يمين لأن اللفظ العام يجوز استعماله في الخاص وعلى الرواية الأخرى التي تقول إن الحرام بإطلاقه ليس بظهار لا يكون ههنا مظاهرا إلا أن ينوي الظهار
فصل : وإن قال أنت علي كظهر أمي حرام فهو صريح في الظهار لا ينصرف إلى غيره سواء نوى الطلاق أو لم ينوه وليس فيه اختلاف بحمد الله لأنه صرح بالظهار وبينه بقوله حرام وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي أو كأمي فكذلك وبه قال أبو حنيفة : وهو أحد قولي الشافعي والقول الثاني : إذا نوى الطلاق فهو طلاق وهو قول أبي يوسف و محمد إلا أن أبا يوسف قال لا أقبل قوله في نفي الظهار ووجه قولهم ان قوله أنت علي حرام إذا نوى به الطلاق فهو طلاق وزيادة قوله كظهر أمي بعد ذلك لا ينفي الطلاق كما لو قال أنت طالق كظهر أمي
ولنا أنه أتى بصريح الظهار فلم يكن طلاقا كالتي قبلها وقولهم إن التحريم مع نية الطلاق طلاق لا نسلمه وإن سلمناه لكنه فسر لفظه ههنا بصريح الظهار بقوله فكان العمل بصريح القول أولى من العمل بالنية
فصل : وإن قال أنت طالق كظهر أمي طلقت وسقط كظهر أمي لأنه أتى بصريح الطلاق أولا وجعل قوله كظهر أمي صفة له فإن نوى بقوله كظهر أمي تأكيد الطلاق لم يكن ظهارا كما لو أطلق وإن نوى به الظهار وكان الطلاق بائنا فهو كالظهار من الأجنبية لأنه أتى بعد بينونتها بالطلاق وإن كان رجعيا كان ظهارا صحيحا ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه أتى بلفظ الظهار فيمن هي زوجة وإن نوى بقوله أنت طالق الظهار لم يكن ظهارا لأنه نوى الظهار بصريح الطلاق وإن قال أنت علي كظهر أمي طالق وقع الظهار والطلاق معا سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا لأن الظهار سبق الطلاق
فصل : فإن قال أنت علي حرام ونوى الطلاق والظهار معا كان ظهارا ولم يكن طلاقا لأن اللفظ الواحد لا يكون ظهارا وطلاقا والظهار أولى بهذا اللفظ فينصرف إليه وقال بعض أصحاب الشافعي : يقال له اختر أيهما شئت وقال بعضهم : إن قال أردت الطلاق والظهار كان طلاقا لأنه بدأ به وإن قال أردت الظهار والطلاق كان ظهارا لأنه بدأ به فيكون ذلك اختيارا له ويلزمه ما بدأ به
ولنا أنه أتى بلفظ الحرام ينوي بها الظهار فكانت كما لو انفرد الظهار بنيته ولا يكون طلاقا لأنه زاحمت نيته نية الظهار وتعذر الجميع والظهار أولى بهذه اللفظة لأن معناهما واحد وهو التحريم فيجب أن يغلب ما هو الأولى أما الطلاق فإن معناه الإطلاق وهو حل قيد النكاح وإنما التحريم حكم له في بعض أحواله وقد ينفك عنه فإن الرجعية مطلقة بماحة وأما التخيير فلا يصح لأن هذه اللفظة قد ثبت حكمها حين لفظ بها لكونه أهلا والمحل قابلا ولهذا لو حكمنا بأنه طلاق لكانت عدتها من حين أوقع الطلاق وليس إليه رفع حكم ثبت في المحل باختياره وإبداله بإرادته والقول الآخر مبني على أن له الاختيار وهو فاسد على ما ذكرنا ثم أن الاعتبار بجميع لفظه لا بما بدأ به ولذلك لو قال طلقت هذه أو هذه لم يلزمه طلاق الأولى

فصلان : الظهار من بعض المرأة
الفصل الرابع : أنه إذا شبه عضوا من امرأته بظهر أمه أو عضو من أعضائها فهو مظاهر فلو قال فرجك أو ظهرك أو رأسك أو جلدك علي كظهر أمي أو بدنها أو رأسها أو يدها فهو مظاهر وبهذا قال مالك : وهو نص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى انه ليس بمظاهر حتى يشبه جملة امرأته لأنه لو حلف بالله لا يمس عضوا منها لم يسر إلى غيره فكذلك المظاهرة ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص لأن تشبيه جملتها تشبيه لمحل الاستمتاع بما يتأكد تحريمه وفيه تحريم لجملتها فيكون آكد وقال أبو حنيفة : إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم كالفرج والفخذ ونحوهما فهو مظاهر وإن لم يحرم النظر إليه كالرأي والوجه لم يكن مظاهرا لأنه شبهها بعضو لا يحرم النظر إليه فلم يكن مظاهرا كما لو شبهها بعضو زوجة له أخرى
ولنا أنه شبهها بعضو من أمه فكان مظاهرا كما لو شبهها بظهرها وفارق الزوجة فإنه لو شبهها بظهرها لم يكن مظاهرا والنظر إن لم يحرم فإن التلذذ يحرم وهو المستفاد بعقد النكاح
فصل : وإن قال كشعر أمي أو سنها أو ظفرها أو شبه شيئا من ذلك من امرأته بأمه أو بعضو من أعضائها الثلاثة لم يكن مظاهرا لأنها ليست من أعضاء الأم الثابتة ولا يقع الطلاق بإضافته إليها فكذلك الظهار وكذلك لو قال كزوج أمي فإن الزوج لا يوصف بالتحريم ولا هو محل للاستمتاع وكذلك الريق والعرق والدمع وإن قال وجهي من وجهك حرام فليس بظهار نص علي أحمد وقال هذا شيء يقوله الناس ليس بشيء وذلك لأن هذا يستعمل كثيرا في غير الظهار ولا يؤدي معنى الظهار فلم يكن ظهارا كما لو قال لا أكلمك

فصلان : بيان ما يحرم وما يباح من المرأة المظاهر منها قبل التكفير
فصل : فإن قال أنا مظاهر أو علي الظهار أو علي الحرام أو الحرام لي لازم ولا نية له لم يلزمه شيء لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار وإن نوى به الظهار أو اقترنت به قرينة تدل على إرادته الظهار مثل أن يعلقه على شرط فيقول علي الحرام إن كلمتك احتمل أن يكون ظهارا لأنه أحد نوعي تحريم الزوجة فصح بالكناية مع النية كالطلاق ويحتمل أن لا يثبت به الظهار لأن الشرع إنما ورد به بصريح لفظه وهذا ليس بصريح فيه ولأنه يمين موجة للكفارة فلم يثبت حكمه بغير الصريح كاليمين بالله تعالى
فصل : يكره أن يسمي الرجل امرأته بمن تحرم عليه كأمه أو أخته أو بنته لما روى أبو داود بإسناده [ عن أبي تميمة الهجيمي أن رجلا قال لامرأته يا أخية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أختك هي ؟ فكره ذلك ونهى عنه ] ولأنه لفظ يشبه لفظ الظهار ولا تحرم بهذا ولا يثبت حكم الظهار فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل له حرمت عليك ولأن هذا اللفظ ليس بصريح في الظهار ولا نواه به فلا يثبت التحريم وفي الحديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أن إبراهيم عليه السلام أرسل إليه جبار فسألها عنها يعني عن سارة فقال : إنها أختي ولم يعد ذلك ظهارا ]
الفصل الخامس : أن المظاهر يحرم عليه وطء امرأته قبل أن يكفر وليس في ذلك اختلاف إذا كانت الكفارة عتقا أو صوما لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وقوله سبحانه : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } وأكثر أهل العلم على أن التكفير بالاطعام مثل ذلك وأنه يحرم وطؤها قبل التكفير منهم عطاء و الزهري و الشافعي وأصحاب الرأي وذهب أبو ثور إلى إباحة الجماع قبل التكفير بالإطعام وعن أحمد ما يقتضي ذلك لأن الله تعالى لم يمنع المسيس قبله كما في العتق والصيام
ولنا ما روى عكرمة [ عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : إني تظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ؟ فقال : ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأنه مظاهر لم يكفر فحرم عليه جماعها كما لو كانت كفارته العتق أو الصيام وترك النص عليها لا يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها

فصلان ومسألة : يصح الظهار مؤقتا ويصح تعليقه بشروط
فصل : فأما التلذذ بما دون الجماع من القبلة واللمس والمباشرة فيما دون الفرج ففيه روايتان
إحداهما : يحرم وهو اختيار أبي بكر وهو قول الزهري و مالك و الأوزاعي و أبي عبيد وأصحاب الرأي وروي ذلك عن النخعي وهو أحد قولي الشافعي لأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه كالطلاق والإحرام
والثانية : لا تحرم قال أحمد أرجو أن لا يكون به بأس وهو قول الثوري و إسحاق و أبي حنيفة وحكي عن مالك وهو القول الثاني لل شافعي لأنه وطء يتعلق بتحريمه مال فلم يتجاوزه التحريم كوطء الحائض
فصل : ولا يصح الظهار من أمته ولا أم ولده روي ذلك عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو و سعيد بن المسيب و مجاهد و الشعبي و ربيعة و الأوزاعي و الشافعي و أبي حنيفة وأصحابه وروي عن الحسن و عكرمة و النخعي و عمرو بن دينار و سليمان بن يسار و الزهري و قتادة و الحكم و الثوري و مالك في الظهار من الأمة كفارة تامة لأنها مباحة له فصح الظهار منها كالزوجة وعن الحسن و الأوزاعي إن كان يطؤها فهو ظهار وإلا فلا لأنه إذا لم يطأها فهو كتحريم ماله وقال عطاء عليه نصف كفارة حرة لأن الأمة على النصف من الحرة في كثير من أحكامها وهذا من أحكامها فتكون على النصف
ولنا قول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } فخصهن به ولأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجة فلا تحرم به الأمة كالطلاق ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه وبقي محله قال أحمد قال أبو قلابة و قتادة ان الظهار كان طلاقا في الجاهلية وروي عن أحمد أن على المظاهر من أمته كفارة ظهار وقال أبو بكر لا يتوجه هذا على مذهبه لأنه لو كانت عليه كفارة ظهار كان ظهارا ولكن عليه كفارة يمين لأنه تحريم لمباح من ماله فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله قال نافع حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم جاريته فأمره الله أن يكفر يمينه ويحتمل أن لا يلزمه شيء بناء على قوله في المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أبي لا يلزمها شيء وإن قال لأمته أنت علي حرام فعليه كفارة لقول الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؟ } - إلى قوله تعالى - { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } نزلت في تحريم النبي صلى الله عليه و سلم لجاريته في قول بعضهم ويخرج على الرواية الأخرى أن تلزمه كفارة ظهار لأن التحريم ظهار والأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى
ويصح الظهار مؤقتا مثل أن يقول أنت علي كظهر أمي شهرا أو حتى ينسلخ شهر رمضان فإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة ولا يكون عائدا بالوطء في المدة وهذا قول ابن عباس و عطاء و قتادة و الثوري و إسحاق و أبي ثور وأحد قولي الشافعي وقوله الآخر لا يكون ظهارا وبه قال ابن أبي ليلى و الليث لأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت وقال طاوس إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة وإن بر وقال مالك يسقط التأقيت ويكون ظهارا مطلقا لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة فإذا وقته لم يتوقت كالطلاق
ولنا حديث سلمة بن صخر وقوله تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه أصابها في الشهر فأمره بالكفارة ولم يعتبر عليه تقييده ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة فصح مؤقتا كالإيلاء وفارق الطلاق فإنه يزيل الملك وهو يوقع تحريما يرفعه التكفير فجاز تأقيته ولا يصح قول من أوجب الكفارة وإن بر لأن الله تعالى إنما أوجب الكفارة على الذين يعودون لما قالوا ومن بر وترك العود في الوقت الذي ظاهر فلم يعد لما قال فلا تجب عليه كفارة وفارق التشبيه بمن لا تحرم عليه على التأبيد لأن تحريمها غير كامل وهذه حرمها في هذه المدة تحريما مشبها بتحريم ظهر أمه على أننا نمنع الحكم فيها إذا ثبت هذا فإنه لا يكون عائدا إلا بالوطء في المدة وهذا هو منصوص عن الشافعي وقال بعض أصحابه إن لم يطلقها عقيب الظهار فهو عائد عليه الكفارة وقال أبو عبيد إذا أجمع على غشيانها في الوقت لزمته الكفارة وإلا فلا لأن العود العزم على الوطء
ولنا حديث سلمة بن صخر وانه لم يوجب عليه الكفارة إلا بالوطء ولأنها يمين لم يحنث فيها فلا يلزمه كفارتها كاليمين بالله تعالى ولأن المظاهر في وقت عازم على امساك زوجته في ذلك الوقت فمن أوجب عليه الكفارة بذلك كان قوله كقول طاوس فلا معنى لقوله يصح الظهار مؤقتا لعدم تأثير الوقت
فصل : ويصح تعليق الظهار بالشروط نحو أن يقول إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي وإن شاء زيد فأنت علي كظهر أمي فمتى شاء زيد أو دخلت الدار صار مظاهرا وإلا فلا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي لأنه يمين فجاز تعليقه على شرط كالإيلاء ولأن أصل الظهار أنه كان طلاقا والطلاق يصح تعليقه بالشرط فكذلك الظهار ولأنه قول تحرم به الزوجة فصح تعليقه على شرط كالطلاق ولو قال لامرأته إن تظاهرت من امرأتي الأخرى فأنت علي كظهر أمي ثم تظاهر من الأخرى صار مظاهرا منهما جميعا وإن قال إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم قال للأجنبية أنت علي كظهر أمي صار مظاهرا من امرأته عند من يرى الظهار من الأجنبية ومن لا فلا وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
فصل : فإن قال أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم ينعقد كظهاره نص عليه أحمد فقال إذا قال لامرأته عليه كظهر أمه إن شاء الله فليس عليه شيء هي يمين وإذا قال ما أحل الله علي حرام إن شاء الله وله أهل هي يمين ليس عليه شيء وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنها يمين مكفرة فصح الاستثناء فيها كاليمين بالله تعالى أو كتحريم ماله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ] رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي لفظ [ من حلف فاستثنى فإن شاء فعل وإن شاء رجع غير حنث ] رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي وإن قال أنت علي حرام ووالله لا أكلمك إن شاء الله عاد الاستثناء إليهما في أحد الوجهين لأن الاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها إلا أن ينوي الاستثناء في بعضها فيعود إليه وحده وإن قال أنت علي حرام إذا شاء الله أو إلا ما شاء الله أو إلى أن يشاء الله أو ما شاء الله فكله استثناء يرفع حكم الظهار وإن قال إن شاء الله فأنت حرام فهو استثناء يرفع حكم الظهار لأن الشرط إذا تقدم يجاب بالفاء وإن قال إن شاء الله أنت حرام فهو استثناء لأن الفاء مقدرة وإن قال إن شاء الله فأنت حرام صح أيضا والفاء زائدة وإن قال أنت حرام إن شاء الله وشاء زيد فشاء زيد لم يصر مظاهرا لأنه علقه على مشيئتين فلا يحصل إحداهما

مسألة : قال : فإن ماتت أو مات لم تلزم الكفارة
مسألة : قال : فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة فإن عاد فتزوجها لم يطأها حتى يكفر لأن الحنث بالعهود وهو الوطء لأن الله عز و جل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث
الكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول
أحدها : أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار فلو مات أحدهما أو فارقها قبل العود فلا كفارة عليه وهذا قول عطاء و النخعي و الأوزاعي و الحسن و الثوري و مالك و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال طاوس و مجاهد و الشعبي و الزهري و قتادة عليه الكفارة بمجرد الظهار لأنه سبب للكفارة وقد وجد ولأن الكفارة وجبت لقول المنكر والزور وهذا يحصل بمجرد الظهار وقال الشافعي متى أمسكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فعليه الكفارة لأن ذلك هو العود عنده
ولنا قول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } فأوجب الكفارة بأمرين ظهار وعود فلا تثبت بأحدهما ولأن الكفارة في الظهار كفارة يمين فلا يحنث بغير الحنث كسائر الأيمان والحنث فيها هو العود وذلك فعل ما حلف على تركه وهو الجماع وترك طلاقها ليس بحنث فيها ولا فعل لما حلف على تركه فلا تجب به الكفارة ولأنه لو كان الإمساك عودا لوجبت الكفارة على المظاهر الموقت وإن بر وقد نص الشافعي على أنها لا تجب عليه
إذا ثبت هذا فإنه لا كفارة عليه إذا مات أحدهما قبل وطئها وكذلك إن فارقها سواء كان ذلك متراخيا عن يمينه أو عقيبه وأيهما مات ورثه صاحبه في قول الجمهور وقال قتادة إن ماتت لم يرثها حتى يكفر ولنا أن من ورثها إذا كفر ورثها وإن لم يكفر كالمولي منها

فصلان : إذا طلق من ظاهر منها لم يحل له وطؤها
الفصل الثاني : انه إذا طلق من ظاهر منها ثم تزوجها لم يحل له وطؤها حتى يكفر سواء كان الطلاق ثلاثا أو أقل منه وسواء رجعت إليه بعد زوج آخر أو قبله نص عليه أحمد وهو قول عطاء و الحسن و الزهري و النخعي و مالك و أبي عبيد وقال قتادة إذا بانت سقط الظهار فإذا عاد فنكحها فلا كفارة عليه و للشافعي قولان كالمذهبين وقول ثالث إن كانت البينونة بالثلاث لم يعد الظهار وإلا عاد وبناه على الأقاويل في عود صفة الطلاق في النكاح الثاني
ولنا عموم قول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وهذا قد ظاهر من امرأته فلا يحل أن يتماسا حتى يكفر ولأنه ظاهر من امرأته فلا يحل له مسها قبل التكفير كالتي لم يطلقها ولأن الظهار يمين مكفرة فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء
الفصل الثالث : أن العود هو الوطء فمتى وطئ لزمته الكفارة ولا تجب قبل ذلك إلا أنها شرط لحل الوطء فيؤمر بها من أراده ليستحله بها كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حل المرأة وحكي نحو ذلك عن الحسن و الزهري وهو قول أبي حنيفة إلا أنه لا يوجب الكفارة على من وطئ وهي عنده في حق من وطئ كمن لم يطأ
وقال القاضي وأصحابه : العود العزم على الوطء إلا أنهم لم يوجبوا الكفارة على العازم على الوطء إذا مات أحدهما أو طلق قبل الوطء إلا أبا الخطاب فإنه قال إذا مات بعد العزم أو طلق فعليه الكفارة وهذا قول مالك و أبي عبيد وقد أنكر أحمد هذا فقال مالك يقول إذا أجمع لزمته الكفارة فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه كفارة ؟ إلا أن يكون يذهب إلى قول طاوس إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق ولم يعجب أحمد قول طاوس
وقال أحمد : في قوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا } قال العود الغشيان إذا أراد أن يغشى كفر واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس وما حرم قبل الكفارة فلا يجوز كونه متقدما عليها ولأنه قصد بالظهار تحريمها فالعزم على وطئها عود فيما قصده ولأن الظهار تحريم فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التحريم فكان عائدا وقال الشافعي العود امساكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه لأنه ظهاره منها يقتضي ابانتها فامساكها عود فيما قال وقال داود العود تكرار الظهار مرة ثانية لأن العود في الشيء إعادته
ولنا أن العود فعل ضد قوله ومنه العائد في هبته هو الراجع في الموهوب والعائد في عدته التارك للوفاء بما وعد والعائد فيما نهى عنه فاعل المنهي عنه قال الله تعالى { ثم يعودون لما نهوا عنه } فالمظاهر محرم للوطء على نفسه ومانع لها منه فالعود فعله وقولهم ان العود يتقدم التكفير والوطء يتأخر عنه قلنا المراد بقوله { ثم يعودون } أي يريدون العود كقول الله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } أي أردتم ذلك وقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } فإن قيل فهذا تأويل ثم هو رجوع إلى إيجاب الكفارة بالعزم المجرد قلنا دليل التأويل ما ذكرنا
وأما الأمر بالكفارة عند العزم فإنما أمر بها شرطا للحل كالأمر بالطهارة لمن أراد صلاة النافلة والأمر بالنية لمن أراد الصيام فأما الإمساك فليس بعود لأنه ليس بعود في الظهار المؤقت فكذلك في المطلق ولأن العود فعل ضد ما قاله والإمساك ليس بضد له وقولهم ان الظهار يقتضي إبانتها لا يصح وإنما يقتضي تحريمها واجتنابها ولذلك صح توقيته ولأنه قال { ثم يعودون لما قالوا } وثم للتراخي والإمساك غير متراخ وأما قول داوود فلا يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أوسا وسلمة بن صخر بالكفارة من غير إعادة اللفظ ولأن العود إنما هو في مقوله دون قوله كالعود في الهبة والعدة والعود لما نهى عنه ويدل على إبطال هذه الأقوال كلها أن الظهار يمين مكفرة فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الايمان وتجب الكفارة بذلك كسائر الايمان ولأنها يمين تقتضي ترك الوطء فلا تجب كفارتها إلا به كالإيلاء

مسألة : صحة الظهار من الأجنبية
مسألة : قال : وإذا قال لامرأة أجنبية أنت علي كظهر أمي لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بالكفارة
وجملته أن الظهار من الأجنبية يصح سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال كل النساء علي كظهر أمي وسواء أوقعه مطلقا أو علقه على التزويج فقال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي ومتى تزوج التي ظاهر منها لم يطأها حتى يكفر يروى نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال سعيد بن المسيب و عروة و عطاء و الحسن و مالك و إسحاق ويحتمل أن لا يثبت حكم الظهار قبل التزويج وهو قول الثوري و أبي حنيفة و الشافعي ويروى ذلك عن ابن عباس لقول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } والأجنبية ليست من نسائه ولأن الظهار يمين ورد الشرع بحكمها مقيدا بنسائه فلم يثبت حكمها في الأجنبية كالإيلاء فإن الله تعالى قال { والذين يظاهرون من نسائهم } كما قال { للذين يؤلون من نسائهم } ولأنها ليست بزوجة فلم يصح الظهار منها كأمته ولأنه حرم محرمة فلم يلزمه شيء كما لو قال أنت حرام ولأنه نوع تحريم فلم يتقدم النكاح كالطلاق
ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب أنه قال في رجل قال : إني تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي فتزوجها قال عليه كفارة الظهار ولأنها يمين مكفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى أما الآية فإن التخصيص خرج مخرج الغالب فإن الغالب أن الإنسان إنما يظاهر من نسائه فلا يوجب تخصيص الحكم بهن كما أن تخصيص الربيبة التي في حجره بالذكر لم يوجب اختصاصها بالتحريم وأما الإيلاء فإنما اختص حكمه بنسائه لكونه يقصد الاضرار بهن دون غيرهن والكفارة وجبت ههنا لقول المنكر والزور ولا يختص ذلك بنسائه ويفارق الظهار الطلاق من وجهين
أحدهما : أن الطلاق حل قيد النكاح ولا يمكن حله قبل عقده والظهار تحريم للوطء فيجوز تقديمه على العقد كالحيض
الثاني : أن الطلاق يرفع العقد فلم يجز أن يسبقه وهذا لا يعرفه وإنما تتعلق الإباحة على شرط فجاز تقدمه وأما الظهار من الأمة فقد انعقد يمينا وجبت به الكفارة ولم تجب كفارة الظهار لأنها ليست امرأة له حال التكفير بخلاف مسألتنا

فصل ومسألتان : أحكام الظهار والمظاهرة من الأمة
فصل : وإذا قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي ثم تزوج نساء وأراد العود فعليه كفارة واحدة سواء تزوجهن في عقد أو في عقود متفرقة نص عليه أحمد وهو قول عروة و إسحاق لأنها يمين واحدة فكفارتها واحدة كما لو ظاهر من أربع نساء بكلمة واحدة وعنه أن لكل عقد كفارة فلو تزوج اثنتين في عقد وأراد العود فعليه كفارة واحدة ثم إذا تزوج أخرى وأراد العود فعليه كفارة أخرى وروي ذلك عن إسحاق لأن المرأة الثالثة وجد العقد عليها الذي يثبت به الظهار وأراد العود إليها بعد التكفير عن الأولتين فكانت عليه لها كفارة كما لو ظاهر منها ابتداء ولو قال لأجنبية أنت علي كظهر أمي وقال أردت أنها مثلها في التحريم في الحال دين في ذلك وهل يقبل في الحكم ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يقبل لأنه صريح للظهار فلا يقبل صرفه إلى غيره
والثاني : يقبل لأنها حرام عليه كما أن أمه حرام عليه
مسألة : قال : ولو قال أنت حرام وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء وإن تزوجها لأنه صادق وإن أراد في كل حال لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار
أما إذا أراد بقوله لها أنت علي حرام الاخبار عن حرمتها في الحال فلا شيء عليه لأنه صادق لكونه وصفها بصفتها ولم يقل منكرا ولا زورا وكذلك لو أطلق هذا القول ولم يكن له نية فلا شيء عليه لذلك وإن أراد تحريمها في كل حال فهو ظهار لأن لفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة فكذلك في الأجنبية فصار كقوله أنت علي كظهر أمي
مسألة : قال : ولو ظاهر من زوجته وهي أمة فلم يكفر حتى ملكها انفسخ النكاح ولم يطأها حتى يكفر
وجملته أن الظهار يصح من كل زوجة أمة كانت أو حرة فإذا ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها انفسخ النكاح واختلف أصحابنا في بقاء حكم الظهار فذكر الخرقي ههنا أنه باق ولا يحل له الوطء حتى يكفر وبه يقول مالك و أبو ثور وأصحاب الرأي ونص عليه الشافعي وقال القاضي المذهب ما ذكر الخرقي وهو قول أبي عبد الله بن حامد لقول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وهذا قد ظاهر من امرأته فلم يحل له مسها حتى يكفر ولأن الظهار قد صح فيها وحكمه لا يسقط بالطلاق المزيل للملك والحل فبملك اليمين أولى ولأنها يمين انعقدت موجبة لكفارة فوجبت دون غيرها كسائر الأيمان وقال أبو بكر عبد العزيز يسقط الظهار بملكه لها وإن وطئها حنث وعليه كفارة يمين كما لو تظاهر منها وهي أمته لأنها خرجت عن الزوجات وصار وطؤه لها بملك اليمين فلم يكن موجبا لكفارة الظهار كما لو تظاهر منها وهي أمته ويقتضي قول أبي بكر هذا أن تباح قبل التكفير لأنه أسقط الظهار وجعله يمينا كتحريم أمته فإن أعتقها عن كفارته صح على القولين فإن تزوجها بعد ذلك حلت له بغير كفارة لأنه كفر عن ظهاره بإعتاقها ولا يمتنع اجزاؤها عن الكفارة التي وجبت بسببها كما لو قال إن ملكت أمه فلله علي عتق رقبة فملك أمة فأعتقها وإن أعتقها عن غير الكفارة ثم تزوجها عاد حكم الظهار ولم تحل له حتى يكفر

مسألة وفصلان : التظاهر من أربعة نسوة بكلمة واحدة ومن امرأة واشراك غيرها
مسألة : قال : ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة لم يكن عليه أكثر من كفارة
وجملته أنه إذا ظاهر من نسائه الأربع بلفظ واحد فقال أنتن علي كظهر أمي فليس عليه أكثر من كفارة بغير خلاف في المذهب وهو قول علي و عروة و طاوس و عطاء و ربيعة و مالك و الأوزاعي و إسحاق و أبي ثور و الشافعي في القديم وقال الحسن و النخعي و الزهري و يحيى الأنصاري و الحكم و الثوري وأصحاب الرأي و الشافعي في الجديد عليه لكل امرأة كفارة لأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن فوجب عليه عن كل واحدة كفارة كما لو أفردها به
ولنا عموم قول عمر وعلي رضي الله عنهما رواه عنهما الأثرم ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا فكان إجماعا ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى وفارق ما إذا ظاهر منها بكلمات فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها وههنا الكلمة واحدة فالكفارة الواحدة ترفع حكمها وتمحو اثمها فلا يبقى لها حكم
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا ظاهر منهن بكلمات فقال لكل واحدة أنت علي كظهر أمي فإن لكل يمين كفارة وهذا قول عروة و عطاء قال أبو عبد الله بن حامد : المذهب رواية واحدة في هذا قال القاضي : المذهب عندي ما ذكر الشيخ أبو عبد الله وقال أبو بكر : فيه رواية أخرى أنه يجزئه كفارة واحدة واختار ذلك وقال هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب و الحسن و عطاء و إبراهيم و ربيعة و قبيصة و إسحاق لأن كفارة الظهار حق لله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد وعليه يخرج الطلاق
ولنا أنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى فلا تكفرها كفارة واحدة كالأصل ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات فأما إن ظاهر من زوجته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة لأن الحنث واحد فوجبت كفارة واحدة كما لو كانت اليمين واحدة
فصل : إذا ظاهر من امرأة ثم قال لأخرى أشركتك معها أو أنت شريكتها أو كهي ونوى المظاهرة من الثانية صار مظاهرا منها بغير خلاف علمناه وبه يقول مالك و الشافعي وإن أطلق صار مظاهرا أيضا إذا كان عقيب مظاهرته من الأولى ذكره أبو بكر وبه قال مالك قال أبو الخطاب : ويحتمل أن لا يكون مظاهرا وبه قال الشافعي : لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار فلم يكن ظهارا كما لو قال ذلك قبل أن يظاهر من الأولى ولأنه يحتمل أنها شريكتها في دينها أو في الخصومة أو في النكاح أو سوء الخلق فلم تخصص بالظهار لا بالنية كسائر الكنايات
ولنا أن الشركة والتشبيه لا بد أن يكون في شيء فوجب تعليقه بالمذكور معه كجواب السؤال فيما إذا قيل له ألك امرأة فقال قد طلقتها وكالعطف مع المعطوف عليه والصفة مع الموصوف وقولهم إنه كناية لم ينوبها الظهار قلنا قد وجد دليل النية فيكتفى بها وقولهم إنه يحتمل قلنا ما ذكرنا من القرينة يزيل الاحتمال وإن بقي احتمال ما كان مرجوحا فلا يلتفت إليه كالاحتمال في اللفظ الصريح

مسائل وفصول : بيان الكفارة الواجبة في الظهار وصفتها
مسألة : قال : والكفارة عتق رقبة مؤمنة سالمة من العيوب المضرة بالعمل
في هذه المسألة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : أن كفارة المظاهر القادر على الاعتاق عتق رقبة لا يجزئه غير ذلك بغير خلاف علمناه بين أهل العلم والأصل في ذلك قول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } - إلى قوله - { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته : يعتق رقبة قلت لا يجد قال : فيصوم ] وقوله لسلمة بن صخر مثل ذلك فمن وجد رقبة يستغني عنها أو وجد ثمنها فاضلا عن حاجته ووجدها به لم يجزئه إلا الاعتاق لأن وجود المبدل إذا منع الانتقال إلى البدل كانت القدرة على ثمنه تمنع الانتقال كالماء وثمنه يمنع الانتقال إلى التيمم
المسألة الثانية : أنه لا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار وسائر الكفارات هذا ظاهر المذهب وهو قول الحسن و مالك و الشافعي و إسحاق و أبي عبيد وعن أحمد رواية ثانية أنه يجزئ فيما عدا كفارة القتل من الظهار وغيره عتق رقبة ذمية وهو قول عطاء و النخعي و الثوري و أبي ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر لأن الله تعالى أطلق الرقبة في هذه الكفارة فوجب أن يجزئ ما تناوله الاطلاق
ولنا ما [ روى معاوية بن الحكم قال كانت لي جارية فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت علي رقبة فأعتقها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ فقالت في السماء فقال : من أنا ؟ فقالت أنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم : أعتقها فإنها مؤمنة ] أخرجه مسلم و النسائي فعلل جواز إعتاقها عن الرقبة التي عليه بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة ولأنه تكفير بعتق فلم يجز إلا مؤمنة ككفارة القتل والمطلق يحمل على المقيد من جهة القياس إذا وجد المعنى فيه ولا بد من تقييده فإنا أجمعنا على أنه لا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى
المسألة الثالثة : أنه لا يجزئه إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا لأن المقصود تمليك العبد منافعه ويمكنه من التصرف لنفسه ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا فلا يجزئ الأعمى لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ولا المقعد ولا المقطوع اليدين أو الرجلين لأن اليدين آلة البطش فلا يمكنه العمل مع فقدهما والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما والشلل كالقطع في هذا ولا يجزئ المجنون جنونا مطبقا لأنه وجد فيه المعنيان ذهاب منفعة الجنس وحصول الضرر بالعمل وبهذا كله قال مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن داود أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم أخذا باطلاق اللفظ
ولنا أن هذا نوع كفارة فلم يجزئ ما يقع عليه الاسم كالاطعام فإنه لا يجزئ أن يطعم مسوسا ولا عفنا وإن كان يسمى طعاما والآية مقيدة بما ذكرناه
فصل : ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ولا أشلها ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك وإن قطعت كل واحدة من يد جاز لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الأبهام كقطع جميعها فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين وإن كان من غير الإبهام لم يمنع لأن منفعتها لا تذهب فإنها تصير كالأصابع القصار حتى لو كانت أصابعه كلها غير الأبهام قد قطعت من كل واحدة منها أنملة لم يمنع وإن قطع من الأصبع أنملتان فهو كقطعها لأنه يذهب بمنفعتها وهذا جميعه مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : يجزئ مقطوع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ولو قطعت يده ورجله جميعا من خلاف أجزأت لأن منفعة الجنس باقية فأجزأت في الكفارة كالأعور فأما إن قطعتا من وفاق أي من جانب واحد لم يجزئ لأن منفعة المشي تذهب
ولنا أن هذا يؤثر في العمل ويضر ضررا بينا فوجب أن يمنع اجزاءها كما لو قطعتا من وفاق ويختلف العور فإنه لا يضر ضررا بينا والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس فإنه لو ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا لأنه يضر بالعمل فهو كقطع الرجل وإن كان عرجا كثيرا لا يمنع الأخرى لأنه قليل الضرر
فصل : ويجزئ الأعور في قولهم جميعا وقال أبو بكر فيه قول آخر : لا يجزئ لأنه نقص يمنع التضحية والاجزاء في الهدي فأشبه العمى والصحيح ما ذكرناه فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد المنافع والعور لا يمنع ذلك ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما وأما الأضحية والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل ويجزئ المقطوع الأذنين وبذلك قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك و زفر لا يجزئ لأنهما عضوان فيهما الديه أشبها اليدين
ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين فلم يمنع كنقص السمع بخلاف قطع اليدين ويجزئ مقطوع الأنف لذلك ويجزئ الأصم إذا فهم بالإشارة ويجزئ الأخرس إذا فهمت إشارته وفهم بالإشارة وهذا مذهب الشافعي و أبي ثور وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ لأن منفعة الجنس ذاهبة فأشبه زائل العقل وهذا المنصوص عليه عن أحمد لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام مثل القضاء والشهادة وأكثر الناس لا يفهم إشارته فيتضرر في ترك استعماله وإن اجتمع الخرس والصمم فقال القاضي : لا يجزئ وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس ووجه الاجزاء ان الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزئ في العتق كالذي ذهب شمه فأما الذي ذهب شمه فيجزئ لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره
فأما المريض فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة وإن كان غير مرجو الزوال كالسل ونحوه لم يجزئ لأن زواله يندر ولا يتمكن من العمل مع بقائه وأما نضو الخلق فإن كان يتمكن معه من العمل أجزأ وإلا فلا ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ على بصير ويصنع الأشياء لغير فائدة ويرى الخطأ صوابا ومن يخنق في الأحيان والخصي والمجبوب والرتقاء والكبير الذي يقدر على العمل لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه وتكميل أحكامه فيحصل الاجزاء به كالسالم من العيوب
فصل : ويجزئ عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده إذا قلنا بصحة عتقهم وعتق المدبر والخصي وولد الزنا لكمال العتق فيهم
فصل : ولا يجزئ عتق المغصوب لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره لأنه لا يعلم حياته فلا يعلم صحة عتقه وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه لأنه عتق صحيح ولا يجزئ عتق الحمل لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا ولذلك لم تجب فطرته ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته ولا عتق أم الولد لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة والملك فيها غير كامل ولهذا لا يجوز بيعها وقال طاوس و البتي : يجزئ عتقها لأنه عتق صحيح ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا وسنذكر هذا في الكفارات إن شاء الله تعالى

مسائل وفصول : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين وفروع فيها
مسألة : قال : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة أن فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } وحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر وأجمعوا على أن من وجد رقبة فاضلة عن حاجته فليس له الانتقال إلى الصيام وإن كانت له رقبة يحتاج إلى خدمتها لزمن أو كبر أو مرض أو عظم خلق ونحوه مما يعجزه عن خدمة نفسه أو يكون ممن لا يخدم نفسه في العادة ولا يجد رقبة فاضلة عن خدمته فليس عليه الإعتاق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي : متى وجد رقبة لزمه اعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام أن لا يجد رقبة بقوله : { فمن لم يجد } وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليه لم يلزمه شراؤها وبه قال أبو حنيفة وقال مالك : يلزمه لأن وجدان ثمنها كوجدانها
ولنا أن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم وإن كان له خادم وهو ممن يخدم نفسه عادة لزمه اعتاقها لأنه فاضل عن حاجته بخلاف من لم تجر عادته بخدمة نفسه فإن عليه مشقة في إعتاق خادمه وتضييعا لكثير من حوائجه وإن كان له خادم يخدم امرأته وهي ممن عليه اخدامها أو كان له رقيق يتقوت بخراجهم أو دار يسكنها أو عقار يحتاج إلى غلته لمؤنته أو عرض للتجارة لا يستغني عن ربحه في مؤنته لم يلزمه العتق وإن استغنى عن شيء من ذلك مما يمكنه أن يشتري به رقبة لزمه لأنه واجد للرقبة وإن كانت له رقبة تخدمه يمكنه بيعها وشراء رقبتين بثمنها يستغني بخدمة إحداهما ويعتق الأخرى لزمه لأنه لا ضرر في ذلك وهكذا لو كانت له ثياب فاخرة تزيد على ملابس مثله يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه في لباسه ورقبة لزمه ذلك وإن كانت له دار يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه لسكنى مثله ورقبة أو ضيعة يفضل منها عن كفايته ما يمكنه شراء رقبة لزمه ويراعى في ذلك الكفاية التي يحرم معها أخذ الزكاة فإذا فضل عن ذلك شيء وجبت فيه الكفارة ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه على نحو مما قلنا وإن كانت له سرية لم يلزمه اعتاقها لأنه يحتاج إلأيها وإن أمكنه بيعها وشراء سرية أخرى ورقبة يعتقها لم يلزمه ذلك لأن الفرض قد يتعلق بعينها فلا يقوم غيرها مقامها سيما إذا كان بدون ثمنها
فصل : فإن كان موسرا حين وجوب الكفارة إلا أن ماله غائب فإن كان مرجو الحضور قريبا لم يجز الانتقال إلى الصيام لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة وإن كان بعيدا لم يجز الانتقال إلى الصيام في غير كفارة الظهار لأنه لا ضرر في الانتظار وهل يجوز ذلك في كفارة الظهار ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز لوجود الأصل في ماله فأشبه سائر الكفارات
والثاني : يجوز لأنه يحرم عليه المسيس فجاز له الانتقال لموضع الحاجة فإن قيل فلو عدم المال وثمنه جاز له الانتقال إلى التيمم وإن كان قادرا عليهما في بلده قلنا الطهار تجب لأجل الصلاة وليس له تأخيرها عن وقتها فدعت الحاجة إلى الانتقال بخلاف مسألتنا ولأننا لو منعناه من التيمم لوجود القدرة في بلده بطلت رخصة التيمم فإن كل أحد يقدر على ذلك
فصل : وإن وجد ثمن الرقبة ولم يجد رقبة يشتريها فله الانتقال إلى الصيام كما لو وجد ثمن الماء ولم يجد ما يشتريه وإن وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن المثل تجحف بماله لم يلزمه شراؤها لأن فيه ضررا وإن كانت لا تجحف بماله احتمل وجهين :
أحدهما : يلزمه لأنه قادر على الرقبة بثمن يقدر عليه لا يجحف به فأشبه ما لو بيعت بثمن مثلها
والثاني : لا يلزمه لأنه لم يجد رقبة بثمن مثلها أشبه العادم وأصل الوجهين العادم للماء إذا وجده بزيادة على ثمن مثله فإن وجد رقبة بثمن مثلها إلا أنها رقبة رفيعة يمكن أن يشتري بثمنها رقابا من غير جنسها لزمه شراؤها لانها بثمن مثلها ولا يعد شراؤها بذلك الثمن ضررا وإنما الضرر في اعتاقها وذلك لا يمنع الوجوب كما لو كان مالكا لها
مسألة : قال : فإن أفطر فيها من عذر بنى وإن أفطر من غير عذر ابتدأ
أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في كفارة الظهار وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر ثم قطعه لغير عذر وأفطر عليه استئناف الشهرين وإنما كان كذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامهما فلا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفارة ولا يفتقر التتابع إلى نية ويكفي فعله لأنه شرط وشرائط العبادات لا تحتاج إلى نية وإنما تجب النية لأفعالها وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والوجه الآخر أنها واجبة لكل ليلة لأن ضم العبادة إلى العبادة إذا كان شرطا وجبت النية فيه كالجمع بين الصلاتين والثالث تكفي نية التتابع في الليلة الأولى
ولنا أنه تتابع واجب في العبادة فلم يفتقر إلى نية كالمتابعة بين الركعات ويفارق الجمع بين الصلاتين فإن ذلك رخصة فافتقر إلى نية الترخص وما ذكروه ينتقض بالمتابعة بين الركعات وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا إذا حاضت قبل إتمامه تقضي إذا طهرت وتبني وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس وفيه تغرير بالصوم لأنها ربما ماتت قبله والنفاس كالحيض في أنه لا يقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه بمنزلته في أحكامه ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما وإنما ذلك الزمان كزمان الليل في حقهما
والوجه الثاني : أن النفاس يقطع التتابع لأنه فطر أمكن التحرز منه لا يتكرر كل عام فقطع التتابع كالفطر لغير عذر ولا يصح قياسه على الحيض لأنه أندر منه ويمكن التحرز عنه وإن أفطر لمرض مخوف لم ينقطع التتابع أيضا روي ذلك عن ابن عباس وبه قال ابن المسيب و الحسن و عطاء و الشعبي و طاوس و مجاهد و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر و الشافعي في القديم وقال في الجديد ينقطع التتابع وهذا قول سعيد بن جبير و النخعي و الحكم و الثوري وأصحاب الرأي لأنه أفطر بفعله فلزمه الاستئناف كما لو أفطر لسفر
ولنا أنه أفطر لسبب لا صنع له فيه فلم يقطع التتابع كإفطار المرأة للحيض وما ذكروه من الأصل ممنوع وإن كان المرض غير مخوف لكنه يبيح الفطر فقال أبو الخطاب فيه وجهان :
أحدهما : لا يقطع التتابع لأنه مرض أباح الفطر أشبه المخوف
والثاني : يقطع التتابع لأنه أفطر اختيارا فانقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر فأما الحامل والمرضع فإن أفطرتا خوفا على أنفسهما فهما كالمريض وإن أفطرتا خوفا على ولديهما ففيهما وجهان :
أحدهما : لا ينقطع التتابع اختاره أبو الخطاب لأنه فطر أبيح لهما بسبب لا يتعلق باختيارهما فلم ينقطع التتابع كما لو أفطرتا خوفا على أنفسهما
والثاني : ينقطع لأن الخوف على غيرهما ولذلك يلزمهما الفدية مع القضاء وإن أفطر لجنون أو إغماء لم ينقطع التتابع لأنه عذر لا صنع له فيه فهو كالحيض
فصل : وإن أفطر لسفر مبيح للفطر فكلام أحمد يحتمل الأمرين وأظهرهما أنه لا يقطع التتابع فإنه قال في رواية الأثرم : كان السفر غير المرض وما ينبغي أن يكون أوكد من رمضان وظاهر هذا أنه لا يقطع التتابع وهذا قول الحسن ويحتمل أن ينقطع به التتابع وهو قول مالك وأصحاب الرأي واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال فيه قولان كالمرض ومنهم من يقول بنقطع التتابع وجها واحدا لأن السفر يحصل باختياره فقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر
ووجه الأول أنه فطر لعذر مبيح للفطر فلم ينقطع به التتابع كإفطار المرأة بالحيض وفارق الفطر لغير عذر فانه لا يباح وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أفطر ويتخرج في انقطاع التتابع وجهان أحدهما : لا ينقطع لأنه فطر لعذر
والثاني : يقطع التتابع لأنه بفعل أخطأ فيه فأشبه ما لو ظن أنه قد أتم الشهرين فبان خلافه وإن أفطر ناسيا لوجوب التتابع أو جاهلا به أو ظنا منه أنه قد أتم الشهرين انقطع التتابع لأنه أفطر لجهله فقطع التتابع كما لو ظن أن الواجب شهر واحد وإن أكره على الأكل أو الشرب بأن أوجر الطعام أو الشراب لم يفطر وإن أكل خوفا فقال القاضي : لا يفطر ولم يذكر غير ذلك وفيه وجه آخر أنه يفطر فعلى ذلك هل يقطع التتابع ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يقطعه لأنه عذر مبيح للفطر فأشبه المرض والثاني : ينقطع التتابع وهو مذهب الشافعي لأنه أفطر بفعله لعذر نادر
فصل : وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر أو قطع التتابع بصوم نذر أو قضاء أو تطوع أو كفارة أخرى لزمه استئناف الشهرين لأنه أخل بالتتابع المشروط ويقع صومه عما نواه لأن هذا الزمان ليس بمستحق متعين للكفارة ولهذا يجوز صومها في غيره بخلاف شهر رمضان فإنه متعين لا يصلح لغيره وإذا كان عليه صوم نذر غير معين أخره إلى فراغه من الكفارة وإن كان متعينا في وقت بعينه أخر الكفارة عنه أو قدمها عليه إن أمكن وإن كان أياما من كل شهر كيوم الخميس أو أيام البيض قدم الكفارة عليه وقضاه بعدها لأنه لو وفى بندره لانقطع التتابع ولزمه الاستئناف فيفضي إلى أن لا يتمكن من التكفير والنذر يمكن قضاؤه فيكون هذا عذرا في تأخيره كالمرض

مسائل وفصول : قال فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا وفروع
مسألة : قال : وإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صيامه وابتدأ الشهرين
وبهذا قال مالك و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي لأن الله تعالى قال : { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } فأمر بها خاليين عن وطء ولم يأت بهما على ما أمر فلم يجزئه كما لو وطئ نهارا ولأنه تحريم للوطء لا يختص النهار فاستوى فيه الليل والنهار كالإعتكاف وروى الأثرم عن أحمد أن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني وهو مذهب الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لأنه وطء لا يبطل الصوم فلا يوجب الاستئناف كوطء غيرها ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم للذي قبله من غير فارق وهذا متحقق وإن وطئ ليلا وارتكاب النهي في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه كما لو وطئ قبل الشهرين أو وطئ ليلة أو الشهرين وأصبح صائما والإتيان بالصيام قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه سواء بنى أو استأنف
وإن وطئها أو وطئ غيرها في نهار الشهرين عامدا أفطر وانقطع التتابع إجماعا إذا كان غير معذور وإن وطئها أو وطئ غيرها نهارا ناسيا أفطر وانقطع التتابع في إحدى الروايتين لأن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يفطر ولا ينقطع التتابع وهو قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لأنه فعل المفطر ناسيا أشبه ما لو أكل ناسيا وإن أبيح له الفطر لعذر فوطئ غيرها نهارا لم ينقطع التتابع لأن الوطء لا أثر له في قطع التتابع وإن وطئها كان كوطئها ليلا هل ينقطع التتابع ؟ على وجهين وإن وطئ غيرها ليلا لم ينقطع التتابع لأن ذلك ليس بمحرم عليه ولا هو مخل باتباع الصوم فلم ينقطع التتابع كالأكل ليلا وليس في هذا اختلاف نعلمه وإن لمس المظاهر منها أو باشرها دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع لإخلاله بموالاة الصيام وإلا فلا ينقطع والله أعلم
مسألة : قال : فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا
أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة ولم يستطع الصيام أن فرضه إطعام ستين مسكينا على ما أمر الله تعالى في كتابه وجاء في سنة نبيه صلى الله عليه و سلم سواء عجز عن الصيام لكبر أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه أو الشبق فلا يصبر فيه عن الجماع [ فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصيام قالت إمرأته : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال : فليطعم ستين مسكينا ولما أمر سلمة إبن صخر بالصيام قال : وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ؟ قال : فاطعم ] فنقعله إلى الإطعام لما أخبره بن من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام وقسنا على هذين ما يشبههما في معناهما ويجوز أن ينتقل إلى الإطعام إذا عجز عن الصيام للمرض وإن كان مرجو الزوال لدخول في قوله سبحانه وتعالى : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ولأنه لا يعلم أن له نهاية فأشبه الشبق ولا يجوز أن ينتقل لأجل السفر لأن السفر لا يعجزه عن الصيام وله نهاية ينتهي إليها وهو من أفعاله الاختيارية والواجب في الإطعام إطعام ستين مسكينا لا يجزئه أقل من ذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكينا واحدا في ستين يوما أجزأه وحكاه القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد لأن هذا المسكن لم يستوف قوت يومه من هذه الكفارة فجاز أن يعطى منها كاليوم الأول
ولنا قول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } وهذا لم يطعم إلا واحدا فلم يمتثل الأمر ولأنه لم يطعم ستين مسكينا فلم يجزئه كما لو دفعها إليه في يوم واحد ولأنه لو جاز الدفع إليه في أيام لجاز في يوم واحد كالزكاة وصدقة الفطر يحقق هذا أن الله تعالى أمر بعدد المساكين لا بعدد الأيام وقائل هذا يعتبر عدد الأيام دون عدد المساكين والمعنى في اليوم الأول أنه لم يستوف حقه من هذه الكفارة وفي اليوم الثاني قد استوفى حقه منها وأخذ منها قوت يوم فلم يجز أن يدفع إليه في اليوم الثاني كما لو أوصى إنسان بشيء لستين مسكينا
مسألة : قال : لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير
وجملة الأمر أن قدر الطعام في الكفارات كلها مد من بر لكل مسكين أو نصف صاع من تمر أو شعير وممن قال مد بر زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد ورواه عنهم الأثرم وعن عطاء و سليمان بن موسى وقال سليمان بن يسار : أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه و سلم وقال أبو هريرة : يطعم مدا من أي الأنواع كان وبهذا قال عطاء و الأوزاعي و الشافعي لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء عن أوس ابن أخي عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكينا وروى الأثرم بإسناده عن أبي هريرة في حديث المجامع في رمضان أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال خذه وتصدق به وإذا ثبت في المجامع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه ولأنه إطعام واجب فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج كالفطرة وفدية الأذى وقال مالك لكل مسكين مدان من جميع الأنواع وممن قال مدان من قمح مجاهد و عكرمة و الشعبي و النخعي لأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام فكان لكل مسكين نصف صاع كفدية الأذى وقال الثوري وأصحاب الرأي : من القمح مدان ومن التمر والشعير صاع لكل مسكين لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث سلمة بن صخر : [ فاطعم وسقا من تمر ] رواه الإمام أحمد في المسند و أبو داود وغيرهما وروى الخلال بإسناده عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ] وفي رواية أبي داود والعرق ستون صاعا وروى ابن ماجة بإسناده عن ابن عباس قال كفر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصاع من تمر وأمر الناس : [ فمن لم يجد فنصف صاح من بر ] وروى الأثرم بإسناده عن عمر رضي الله عنه قال أطعم عني صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من ابن عبد البر ولأنه إطعام للمساكين فكان صاعا من التمر والشعير أو نصف صاع من ابن عبد البر كصدقة الفطر
ولنا ما روى الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي يزيد المدني قال جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ف [ قال النبي صلى الله عليه و سلم للمظاهر : أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر ] وهذا نص ويدل على أنه مد بر أنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وعلى أنه نصف صاع من التمر والشعير ما روى عطاء بن يسار [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لخولة امرأة أوس بن الصامت : اذهبي إلى فلان الأنصاري فإن عنده شطر وسق من تمر أخبرني أنه يريد أن يتصدق به فلتأخذيه فليتصدق به على ستين مسكينا ] و [ في حديث أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر قال : قد أحسنت اذهبي فاطعمي بها عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك ] وروى أبو داود بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال العرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا فعرقان يكونان ثلاثين صاعا لكل مسكين نصف صاع ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير كفدية الأذى فأما رواية أبي داود أن العرق ستون صاعا فقد ضعفها وقال غيرها أصح منها وفي الحديث ما يدل على الضعف لأن ذلك في سياق قوله : [ إني سأعينه بعرق فقالت امرأته إن سأعينه بعرق آخر قال : فاطعمي بها عنه ستين مسكينا ] فلو كان العرق ستين صاعا لكانت الكفارة مائة وعشرين صاعا ولا قائل به
وأما حديث المجامع الذي أعطاه خمسة عشر صاعا فقال تصدق به فيحتمل أنه إقتصر عليه إذا لم يجد سواه ولذلك لما أخبره بحاجته إليه أمره بأكله وفي الحديث المتفق عليه قريب من عشرين صاعا وليس ذلك مذهبا ل أحمد فيدل على أنه اقتصر على البعض الذي لم يجد سواه وحديث أوس ابن أخي عبادة مرسل يرويه عنه عطاء ولم يدركه على أنه حجة لنا لأن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه عرقا وأعانته امرأته بآخر فصارا جميعا ثلاثين صاعا وسائر الأخبار تجمع بينها وبين أخبارنا بحملها على الجواز وأخبارنا على الجواز وأخبارنا على الأجزاء وقد عضد هذا أن ابن عباس راوي بعضها ومذهبه أن المد من البر يجزئ وكذلك أبو هريرة وسائر ما ذكرنا من الأخبار مع الإجماع الذي نقله سليمان بن يسار والله أعلم
فصل : وبقي الكلام في الإطعام في أمور ثلاثة : كيفيته وجنس الطعام ومستحقه فأما كيفيته فظاهر المذهب أن الواجب تمليك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له من الكفارة ولو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه سواء فعل ذلك بالقدر الواجب أو أقل أو أكثر ولو غدى كل واحد بمد لم يجزئه إلا أن يملكه إياه وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم وهو قول النخعي و أبي حنيفة وأطعم أنس في فدية الصيام قال أحمد : أطعم شيئا كثيرا وصنع الجفان وذكر حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وذلك لقول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } وهذا قد أطعمهم فينبغي أن يجزئه ولأنه أطعم المساكين فأجزأه كما لو ملكهم
ولنا أن المنقول عن الصحابة اعطاؤهم ففي قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة مد لكل فقير و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لكعب في فدية الأذى : أطعم ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين ] ولأنه مال وجب للفقراء شرعا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة فإن قلنا يجزئ اشترط أن يغديهم بستين مدا فصاعدا ليكون قد أطعمهم قدر الواجب وإن قلنا لا يجزئه أن يغديهم فقدم إليهم ستين مدا وقال هذا بينكم بالسوية فقبلوه أجزأ لأنه ملكهم التصرف فيه والانتفاع قبل القسمة وهذا ظاهر مذهب الشافعي
وقال أبو عبد الله بن حامد : يجزئه وإن لم يقل بالسوية لأن قوله خذوها عن كفارتي يقتضي التسوية لأن ذلك حكمها وقال القاضي : إن علم أنه وصل إلى كل واحد قدر حقه أجزأ وإن لم يعلم لم يجزئه لأن الأصل شغل ذمته ما لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه ووجه الأول أنه دفع الحق إلى مستحقه مشاعا فقبلوه قبرئ منه كديون غرمائه
فصل : ولا يجب التتابع في الإطعام نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقيل له تكون عليه كفارة يمين فيطعم اليوم واحدا وآخر بعد أيام وآخر بعد حتى يستكمل عشرة ؟ فلم ير بذلك بأسا وذلك لأن الله تعالى لم يشترط التتابع فيه ولو وطىء في أثناء الإطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يستأنف لأنه وطىء في أثناء كفارة الظهار فوجب الإستئناف كالصيام
ولنا أنه وطىء في أثناء ما لا يشترط التتابع فيه فلم يوجي الاستئناف كوطء غير المظاهر منها أو كالوطء في كفارة اليمين وبهذا فارق الصيام
مسألة : قال : ولو أعطى مسكينا مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأ في إحدى الوايتين
وهذا مذهب الشافعي لأنه دفع القدر الواجب إلى العدد الواجب فأجزأ كما كما لو دفع إليه المدين في يومين
والأخرى : لا يجزئه وهو قول أبي حنيفة لأنه استوفى قوت يوم من كفارة فلم يجزئه الدفع إليه ثانيا في يومه كما لو دفعهما إليه من كفارة واحدة فعلى هذه الرواية يجزئه عن إحدى الكفارتين وهل له الرجوع في الأخرى ؟ ينظر فإذ كان أعلمه أنها عن كفارة فله الرجوع وإلا فلا ويخرج أن لا يرجع بشيء على ما ذكرناه في الزكاة والرواية الأولى أقيس وأصح فإن اعتبار عدد المساكين أولى نت اعتبار عدد الأيام ولو دفع إليه ذلك في يومين أجزأ ولأنه لو كان الدافع اثنين أجزأ عنهما فكذلك إذا كان الدافع واحدا ولو دفع ستين مدا إلى ثلاثين فقيرا من كفارة واحدة اجزأه من ذلك ثلاثون ويطعم ثلاثين آخرين وإن دفع الستين من كفارتين أجزأ ذلك على احدى الوايتين ولا يجزىء في الأخرى إلا عن ثلاثين
الأمر الثاني : أن المجزىء في الإطعام ما يجزىء في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب سواء كانت قوته أو لم تكن وما عداها فقال القاضي : لا يجزىء إخراجه سواء كان قوت بلده أو لم يكن لأن الخبر ورد بإخراج هذه الأصناف على ما جاء في الأحاديث التي رويناها ولأنه الجنس المخرج في الفطرة فلم يجزىء غيره كما لو لم يكن قوت بلده وقال أبو الخطاب : عندي أنه يجزئه الإخراج من جميع الحبوب التي هي قوت بلده كالذرة والدخن والأرز لأن الله تعالى قال : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهذا مما يطعمه أهله فوجب أن يجزئه بظاهر النص وهذا مذهب الشافعي فإن أخرج غير قوت بلده أجود منه فقد زاد خيرا وإن كان أنقص لو يجزئه وهذا أجود
فصل : والأفضل عند أبي عبد الله إخراج الحب لأنه يخرج به من الخلاف وهي حالة كماله لأنه يدخر فيها ويتهيأ لمنافعه كلها بخلاف غيره فإن أخرج دقيقا جاز لكن يزيد على قدر المد قدرا يبلغ المد حبا أو يخرجه بالوزن لأن للحب ربعا فيكون في مكيال الحب أكثر مما في مكيال الدقيق
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فيعطي البر والدقيق ؟ فقال أما الذي جاء فالبر ولكن إن أعطاهم الدقيق بالوزن جاز وقال الشافعي : لا يجزىء لأنه ليس بحال الكمال لأجل ما يفوت به من وجوه الانتفاع فلم يجز كالهريسة
ولنا قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } والدقيق من أوسط ما يطعمه أهله ولأن الدقيق أجزأ الحنطة وقد كفاهم مؤنته وطحنه وهيأه وقربه من الأكل وفارق الهريسة فإنها تتلف على قرب ولا يمكن الانتفاع بها في غير الأكل في تلك الحال بخلاف مسألتنا وعن أحمد في إخراج الخبز روايتان
إحداهما : يجزىء اختارها الخرقي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال قلت لأبي عبد الله رجل أخذ ثلاثة عشر رطلا وثلثا دقيقا وهو كفارة اليمين فخبزه للمساكين وقسم الخبز على عشرة مساكين أيجزئه ذلك ؟ قال ذلك أعجب إلي وهو الذي جاء فيه الحديث أن يطعمهم مد بر وهذا فعل فأرجو أن يجزئه قلت إنما قال الله : { إطعام عشرة مساكين } فهذا اطعم عشرة مساكين وأوفاهم المد قال أرجو أن يجزئه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ونقل الأثرم في موضع آخر أن أحمد سأله رجل عن الكفارة قال أطعمهم خبزا وتمرا قال ليس فيه تمر قال فخبز ؟ قال لا ولكن برا أو دقيقا بالوزن رطل وثلث لكل مسكين فظاهر هذا أنه لا يجزئه وهو مذهب الشافعي لأنه خرج عن حالة الكمال والادخار فأشبه الهريسة والأول أحسن لأن الله تعالى قال : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهذا من أوسط ما يطعم أهله وليس الإدخار مقصودا في الكفارة فإنها مقدرة بما يقوت المسكين في يومه فيدل ذلك على أن المقصود كفايته في يومه وهذا قد هيأه للأكل المعتاد للاقتيات وكفاهم مؤنته فأشبه ما لو نقى الحنطة وغسلها
وأما الهريسة والكبولا ونحوها فلا يجزىء لأنهما خرجا عن الإقتيات المعتاد إلى خبز الأدام وأما السويق فالصحيح أنه لا يجزىء لأنه يقتات في بعض البلدان ولا يجزئه من الخبز والسويق أقل من شيء يعمل من مد فإن أخذ مد حنطة أو رطلا وثلثا من الدقيق وصنعه خبزا أجزأه وقال الخرقي : يجزئه رطلان
قال القاضي : المد يجيء رطلان وذلك لأن الغالب أن رطلين من الخبز لا تكون إلا من مد وذلك بالرطل الدمشقي خمس أواق وأقل من خمس أوقية وهذا في البر فأما إن كان المخرج من الشعير فلا يجزئه إلا ضعف ذلك على ما قررناه

فصل : ولا تجزىء قيمة الكفارة
فصل : ولا تجزىء القيمة في الكفارة نقلها الميموني و الأثرم وهو مذهب الشافعي وخرج بعض أصحابنا من كلام أحمد رواية أخرى أنه يجزئه وهو ما روى الأثرم أن رجلا سأل أحمد قال : أعطيت في كفارة خمسة دوانيق فقال : لو استشرتني قبل أن تعطي لم أشر عليك ولكن اعط على ما بقي من الأثمان على ما قلت لك وسكت عن الذي أعطى وهذا ليس برواية وإنما سكت عن الذي اعطى لأنه مختلف فيه فلم ير التضييق عليه فيه
الأمر الثالث : أن مستحقي الكفارة هم المساكين الذين يعطون من الزكاة لقول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } والفقراء يدخلون فيهم لأن فيهم المسكنة وزيادة ولا خلاف في هذا فأما الأغنياء فلا حق لهم في الكفارة سواء كانوا من أصناف الزكاة كالغزاة والمؤلفة أو لم يكونوا لأن الله تعالى خص بها المساكين واختلف أصحابنا في المكاتب فقال القاضي في المجرد و أبو الخطاب في الهداية : لا يجوز دفعها إليه وهو مذهب الشافعي وقال الشريف أبو جعفر و أبو الخطاب في مسائلهما : يجوز الدفع إليه وهو مذهب أبي حنيفة و أبي ثور لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته فأشبه المسكين
ووجه الأول أن الله تعالى خص بها المساكين والمكاتبون صنف آخر فلم يجز الدفع إليهم كالغزاة والمؤلفة ولأن الكفارة قدرت بقوت يوم لكل مسكين وصرفت إلى من يحتاج إليها للاقتيات والمكاتب لا يأخذ لذلك فلا يكون في معنى المسكين ويفارق الزكاة فإن الأغنياء يأخذون منها وهم الغزاة والعاملون عليها والمؤلفة والغارمون ولأنه غني بكسبه أو بسيده فأشبه العامل ولا خلاف بينهم في أنه لا يجوز دفعها إلى عبد لأن نفقته واجبة على سيده وليس هو من أصناف الزكاة ولا إلى مالك ولد لأنها أمة نفقتها على سيدها وكسبها له ولا إلى من تلزمه نفقته وقد ذكرنا ذلك في الزكاة وفي دفعها إلى الزوج وجهان بناء على دفع الزكاة إليه
ولا يجوز دفعها إلى كافر وبهذا قال الشافعي وخرج أبو الخطاب وجها في إعطائهم بناء على الواية في إعتاقهم وهو قول أبي ثور و أصحاب الرأي لأن الله تعالى قال : { إطعام عشرة مساكين } وأطلق فيدخلون في الإطلاق
ولنا أنه كافر فلم يجز الدفع إليه كمساكين أهل الحرب وقد سلمه أصحاب الرأي والآية مخصومة بأهل الحرب فنقيس عليهم سائر الكفار ويجوز صرفها إلى الصغير والكبير إن كان ممن يأكل الطعام وإذا أراد صرفه إلى الصغير فإنه يدفعه إلى وليه يقبض له فغن الصغير لا يصح منه القبض فأما من لا يأكل الطعام فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز الدفع إليه لأنه لا يأكله فيكون بمنزلة دفع القيمة وقال أبو الخطاب : يجزىء لأنه مسكين يدفع إليه من الزكاة فأشبه الكبير وإذا قلنا يجوز الدفع إلى المكاتب جاز للسيد الدفع من كفارته إلى مكاتبه لأنه يجوز أن يدفع إليه من زكاته

فصل : ويجوز دفع الكفارة لمن ظاهره الفقر
فصل : ويجوز دفع الكفارة إلى من ظاهره الفقر فإن بان غنيا فهل تجزئه ؟ فيه وجهان بناء على الوايتين في الزكاة وإن بان كافرا او عبدا لم يجزئه وجها واحدا

مسائل وفصول : حكم ما إذا تخلل صوم الظهار زمان لا يصح صومه وفروع أخرى
مسألة : قال : ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى كذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم النحر وأيام التشريق وبنى على ما مضى من صيامه
وجملة ذلك أنه إذا تخلل صوم الظهار زمان لا يصح صومه عن الكفارة مثل أن يبتدىء الصوم من أول شعبان فيتخلله رمضان ويوم الفطر أو يبتدىء من ذي الحجة فيتخلله يوم النحر وأيام التشريق فإن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني على ما مضى من صيامه وقال الشافعي : ينقطع التتابع ويلزمه الاستئناف لأنه أفطر في أثناء الشهرين بما كان يمكنه التحرز منه فأشبه إذا أفطر بغير ذلك أو صام عن نذر أو كفارة أخرى
ولنا أنه منعه الشرع عن صومه في الكفارة فلم يقطع التتابع كالحيض والنفاس فإن قال : والحيض والنفاس غير ممكن التحرز منه قلنا : قد يمكن التحرز من النفاس بأن لا تبتدىء الصوم في حال الحمل ومن الحيض إذا كان طهرها يزيد عن الشهرين بأن تبتدى الصوم عقيب طهرها من الحيضة ومع هذا فإنه لا ينقطع التتابع به ولا يجوز للمأموم مفارقة إمامه لغير عذر ويجوز ان يدخل معه المسبوق في أثناء الصلاة مع علمه بلزوم مفارقته قبل إتمامها ويتخرج في أيام التشريق رواية أخرى أنه يصومها عن الكفارة ولا يفطر إلا يوم النحر وحده فعلى هذا إن أفطرها استأنف لأنها أيام أمكنه صيمها في الكفارة ففطرها يقطع التتابع كغيرها إذا ثبت هذا فإنه إن ابتدأ الصوم من أول شعبان أجزأه صوم شعبان عن شهر ناقصا كان أو تاما وأما شوال فلا يجوز أن يبدأ به من أوله لأن أوله يوم الفطر وصومه حرام فيشرع في صومه من اليوم الثاني ويتمم شهرا بالعدد ثلاثين يوما وإن بدأ من أول ذي الحجة إلى آخر المحرم قضى أربعة أيام وأجزأه لأنه بدأ بالشهرين من أولهما ولو ابتدأ صوم الشهرين من يوم الفطر لم يصح صوم يوم الفطر وصح صوم بقية الشهر وصوم ذي القعدة ويحتسب له بذي القعدة ناقصا كان أو تاما لأنه بدأه من أوله وأما شوال فإن كان تاما صام يوما من ذي الحجة مكان يوم الفطر وأجزأه وإن كان ناقصا صام من ذي الحجة يومين لأنه لم يبدأه من أوله وإن بدأ بالصيام من أول أيام التشريق وقلنا يصح صومها عن الغرض فإنه يحتسب له بالمحرم ويكمل صوم ذي الحجة بتمام ثلاثين يوما من صفر وإن قلنا لا يصح صومها عن الفرض صام مكانها من صفر
فصل : ويجوز أن يبتدىء صوم الشهرين من أول شهر ومن أثنائه لا نعلم في هذا خلافا لأن الشهر اسم لما بين الهلالين ولثلاثين يوما فأيهما صام فقد أدى الواجب فإن بدأ من أول شهر فصام شهرين بالأهلة أجزأه ذلك تامين كانا أو ناقصين إجماعا وبهذا قال الثوري وأهل العراق و مالك في الحجاز و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد وغيرهم لأن الله تعالى قال : { فصيام شهرين متتابعين } وهذان شهران متتابعان وإن بدأ من أثناء شهر فصام ستين يوما أجزأه بغير خلاف أيضا قال ابن المنذر أجمع على هذا من نحفظ عنه من اهل العلم فأما إن صام شهرا بالهلال وشهرا بالعدد فصام خمسة عشر يوما من المحرم وصفر جميعه وخمسة عشر يوما من ربيع فإنه يجزئه سواء كان صفر تاما أو ناقصاص لأن الأصل اعتبار الشهور بالأهلة لكن تركناه في الشهر الذي بدأ من وسطه لتعذره ففي الشهر الذي أمكن اعتباره يجب أن يعتبر وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ويتوجه أن يقال لا يجزئه إلا شهران بالعدد لأننا لما ضممنا إلى الخمسة عشر من المحرم خمسة عشر من صفر فصار ذلك شهرا صار ابتداء صوم الشهر الثاني من أثناء شهر أيضا وهذا قول الزهري
فصل : فإن نوى صوم شهر رمضان عن الكفارة لم يجزئه عن رمضان ولا عن الكفارة وانقطع التتابع حاضرا كان أو مسافرا لأنه تخلل صوم الكفارة فطر غير مشروع وقال مجاهد و طاوس يجزئه عنهما وقال أبو حنيفة إن كان حاضرا أجزأه عن رمضان دون الكفارة لأن تعيين النية غير مشترطة لرمضان وإن كان في سفر أجزأه عن الكفارة دون رمضان وقال صاحباه يجزىء عن رمضان دون الكفارة سفرا وحضرا ولنا أن رمضان متعين لصومه محرم صومه من غيره فلم يجزئه عن غيره كيومي العيدين ولا يجزىء عن رمضان لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرىء ما نوى ] وهذا ما نوى رمضان فلا يجزئه ولا فرق بين الحضر والسفر لأن الومان متعين وإنما جاز فطره في السفر رخصة فإذا تكلف وصام رجع إلى الأصل فإن سافر في رمضان المتخلل لصوم الكفارة وأفطر لم ينقطع التتابع لأنه زمن لا يستحق صومه عن الكفارة فلم ينقطع التتابع بفطره كالليل
مسألة : قال : وإذا كان المظاهر عبدا لم يكفر إلا بالصيام وإذا صام فلا يجزئه إلا شهران متتابعان
قد ذكرنا أن ظهار العبد صحيح وكفارته بالصيام لأن الله تعالى قال : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } والعبد لا يستطيع الإعتاق فهو كالحر والمعسر وأسوأ منه حالا وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه غير الصيام سواء أذن له سيده في التكفير بالعتق أو لم يأذن وحكي هذا عن الحسن و أبي حنيفة و الشافعي وعن أحمد رواية أخرى إن أذن له سيده في التكفير بالمال جاز وهو مذهب الأوزاعي و أبي ثور لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال فجاز له ذلك كالحر وعلى هذه الرواية يجوز له التكفير بالإطعام عند العجز عن الصيام وهل له العتق ؟ على روايتين
إحداهما : لا يجوز وحكي هذا عن مالك وقال أرجو أن يجزئه الإطعام وأنكر ذلك ابن القاسم صاحبه وقال لا يجزئه إلا الصيام وذلك لأن العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث وليس ذلك للعبد
والرواية الثانية : له العتق وهو قول الأوزاعي واختارها أبو بكر لأن من صح تكفيره بالإطعام صح بالعتق ولا يمتنع صحة العتق مع انتفاء الإرث كما لو أعتق من يخالفه في دينه ولأن المقصود بالعتق إسقاط الملكية عن العبد وتمليكه نفع نفسه وخلوصه من ضرر الرق وما يحصل من توابع ذلك ليس هو المصقود فلا يمنع من صحته ما يحصل منه المقصود لامتناع بعض توابعه
ووجه الأول أن العبد مال لا يملك المال فيقع تكفيره بالمال بمال غيره فلم يجزئه كما لو أعتق عبد غيره عن كفارته وعلى كلتا الوايتين لا يلزمه التكفير بالمال وإن أذن له سيده فيه لأن فرضه الصيام فلم يلزمه غيره كما لو أذن موسر لحر معسر في التكفير من ماله وإن كان عاجزا عن الصيام فأذن له سيده في التكفير بما شاء من العتق والإطعام فإن له التكفير بالإطعام لأن من لا يلزمه الإعتاق مع قدرته على الصيام لا يلزمه مع عجزه عنه كالحر المعسر ولأن عليه ضررا في التزام المنة الكبيرة في قبول الرقبة ولا يلزم مثل ذلك في الطعام لقلة المنة فيه وهذا فيما إذا أذن له سيده في التكفير قبل العود فإن عاد وجبت الكفارة في ذمته ثم أذن له سيده في التكفير انبنى مع ذلك على أصل آخر وهو أن التكفير هل هو معتبر لحالة الوجوب أو بأغلظ الأحوال ؟ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وعلى كل حال فإذا صام لا يجزئه إلا شهران متتابعان لدخوله في عموم قوله تعال : { فصيام شهرين متتابعين } ولأنه صوم في كفارة فاستوى فيه الحر والعبد ككفارة اليمين وبهذا قال الحسن و الشعبي و النخعي و إسحاق ولا نعلم لهم مخالفا إلا مكا روى عن عطاء أنه لو صام شهرا أجزأه وقاله النخعي ثم رجع عنه إلى قول الجماعة
فصل : والاعتبار في الكفارة بحالة الوجوب في أظهر الروايتين وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه قال إذا حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم لا يجزئه غيره وكذلك قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن عبد حلف على يمين فحنث فيها وهو عبد فلم يكفر حتى عتق أيكفر كفارة حر أو كفارة عبد ؟ قال يكفر كفارة عبد إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث لا يمو حلف قلت له حلف وهو عبد وحنث وهو حر قال يوم حنث واحتج فقال افترى وهو عبد أي ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد وهو احد أقوال الشافعي فعلى هذه الرواية يعتبر يساره وإعساره حال وجوبها عليه فإن كان موسرا حال الوجوب استقر وجوب الرقبة عليه فلم تسقط بإعساره بعد ذلك وإن كان معسرا ففرضه الصوم فإذا أيسر بعد ذلك لم يلزمه الانتقال إلى الرقبة
والرواية الثانية : الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين التكفير فمتى وجد رقبة فيما بين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا الإعتاق وهذا قول لـ الشافعي لأنه حق يجب في الذمة بوجود مال فاعتبر فيه أغلظ الحالين كالحج وله قول ثالث أن الإعتبار بحالة الاداء وهو قول أبي حنيفة و مالك لأنه حق له بدل من غير جنسه فكان الاعتبار فيه بحالة الأداء كالوضوء
ولنا أن الكفارة تجب على وجه الطهرة فكان الاعتبار فيها بحالة الوجوب كالحد أو نقول من وجب عليه الصيام في الكفارة لم يلزمه غيره كالعبد إذا اعتق ويفارق الوضوء فإنه لو تيمم ثم وجد الماء بطل تيممه وههنا لو صام ثم قدر على الرقبة لم يبطل صومه وليس الاعتبار في الوضوء بحالة الاداء فغن أداؤه فعله وليس الاعتبار به وإنما الاعتبار بأداء الصلاة وهي غير الوضوء وأما الحج فهو عبادة العمر وجميعه وقت لها فمتى قدر عليه في جزء من وقته وجب بخلاف مسألتنا ثم يبطل ما ذكروه بالعبد إذا أعتق فإنه لا يلزمه الانتقال إلى العتق مع ما ذكروه فإن قيل العبد لم يكن ممن تجب عليه الرقبة ولا تجزئه فلما لم تجزئه الزيادة لم تلزمه بتغير الحال بخلاف مسألتنا قلنا هذا لا أثر له
إذا ثبت هذا فإنه إذا أيسر فأحب أن ينتقل إلى الإعتاق جاز له في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي لم يكن عليه الخروج إلا أن يشاء وهذا يدل على أنه إذا شائ فله الانتقال إليه ويجزئه إلا أن يكون الحانث عبدا فليس له إلا إلا الصوم وان عتق وهو قول الشافعي على القول الذي توافقنا فيه وذلك لأن العتق هو الأصل فوجب أن يجزئه كسائر الأصول فأما إن استمر به العجز حتى شرع في الصيام لم يلزمه الانتقال إلى العتق بغير خلاف في المذهب وهو مذهب الشعبي و قتادة و مالك و الأوزاعي و الليث و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وهو أحد قولي الحسن وذهب ابن سيرين و عطاء و النخعي و الحكم و حماد و الثوري و أبو عبيد و أصحاب الرأي إلى أنه بلزمه العتق لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل فلزمه العود إليه كالمتيمم يجد الماء قبل الصلاة أو في أثنائها
ولنا أنه لم يقدر على العتق قبل تلبسه بالصيام فلم يسقط عنه كما لو استمر العجز إلى بعد الفراغ ولا يشبه الوضوء فإنه لو وجد الماء بعد التيمم بطل وههنا بخلافه ولأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل فلم يلزم الانتقال إليه كالمتمتع يجد الهدي بعد الشروع في صيام لسبعة
فصل : إذا قلنا الاعتبار بحالة الوجوب فوقته في الظهار زمن العود لا وقت المظاهرة لأن الكفارة لا تجب حتى يعود وقته في اليمين زمن الحنث لا وقت اليمين وفي القتل زمن الزهوق لا زمن الحرج وتقديم الكفارة قبل الوجوب تعجيل لها قبل وجوبها سببها كتعجيل الزكاة قبل الحول وبعد وجود النصاب
فصل : فإذا كان المظاهر ذميا فتكفيره بالعتق أو الإطعام لأنه يصح منه في غير الكفارة فصح منه فيها ولا يجوز بالصيام لأنه عبادة محضة والكافر ليس من أهلها ولأنه لا يصح منه في غير الكفارة فلا يصح منه فيها ولا يجزئه في العتق إلا عتق رقبة مؤمنة فإن كانت في ملكه إو ورثها أجزأت عنه وإن لم يكن كذلك فلا سبيل له إلى شراء رقبة مؤمنة لأن الكافر لا يصح منه شراء المسلم ويتعين تكفيره بالإطعام إلا أن يقول لمسلم أعتق عبدك عن كفارتي وعلي ثمنه فيصح في إحدى الروايتين وإن أسلم الذمي قبل التكفير بالإطعام فحكمه حكم العبد يعتق قبل التكفير بالصيام على ما مضى لأنه في معناه وإن ظاهر وهو مسلم ثم ارتد فصام في ردته عن كفارته لم يصح وإن كفر بعتق إو إطعام فقد أطلق أحمد القول أنه لا يجزئه وقال القاضي المذهب أن ذلك موقوف فإن أسلم تبينا أنه أجزأه وإن مات أو قتل بينا لم يصح منه كسائر تصرفاته

مسألة : حكم من وطىء قبل أن يكفر
مسألة : قال : ومن وطىء قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصيا وعليه الكفارة المذكورة
قد ذكرنا أن المظاهر يحرم عليه وطء زوجته قبل التكفير لقول الله تعالى في العتق والصيام { من قبل أن يتماسا } فإن وطىء عصى ربه لمخالفة أمره وتستقر الكفارة في ذمته فلا تسقط بعد ذلك بموت ولا طلاق ولا غيره وتحريم زوجته عليه باق بحاله حتى يكفر هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و جابر بن زيد و مورق العجلي و أبي مجلز و النخعي و عبد الله بن أذينة و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وروى الخلال عن الصلت بن دينار قال سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل ان يكفر قالوا : ليس عليه إلا كفارة واحدة الحسن و ابن سيرين و بكر المزني و مورق العجلي و عطاء و طاوس و مجاهد و عكرمة و قتادة وقال وكيع وأظن العاشر نافعا وحكي عن عمرو بن العاص أن عليه كفارتين وروى ذلك عن قبيصة و سعيد بن جبير و الزهري و قتادة لأن الوطء يوجب كفارة والظهار موجب بلأخرى وقال أبو حنيفة : لا تثبت الكفارة في ذمته وإنما هي شرط للإباحة بعد الوطء كما كانت قبله وحكي عن بعض الناس أن الكفارة تسقط لأنه فات وقتها لكونها وجبت قبل المسيس
ولنا حديث سلمة بن صخر حين ظاهر ثم وطىء قبل التكفير فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بكفارة واحدة ولأنه وجد الظهار والعود فيدخل في عموم قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وأما قولهم فات وقتها فيبطل بما ذكرناه وبالصلاة وسائر العبادات يجب قضاؤها بعد فوات عتقها

مسألة : وإذا قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أبي
مسألة : قال : وإذا قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أبي لم تكن مظاهرة ولزمتها كفارة الظهار لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور
وجملة ذلك أن المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أبي أو قالت إن تزوجت فلانا فهو علي كظهر أبي فليس ذلك بظهار قال القاضي : لا تكون مظاهرة رواية واحدة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الزهري و الأوزاعي : هو ظهار وروي ذلك عن الحسن و النخعي قال إذا قالت ذلك بعد ما تزوج فليس بشيء ولعلهم يحتجون بأنها أحد الزوجين ظاهر من الآخر فكان مظاهرا كالرجل
ولنا قول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } فخصهم بذلك ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة يملك الزوج رفعه فاختص به الرجل كالطلاق ولأن الحل في المرأة حق للرجل فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه إذا ثبت هذا فاختلف عن أحمد في الكفارة فنقل عنه جماعة عليها كفارة الظهار لما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي فسألت أهل الميدنة فرأوا أن عليها الكفارة وروى علي بن مسهر عن الشيباني قال كنت جالسا في المسجد أنا وعبد الله بن مغفل المزني فجاء رجل حتى جلس إلينا فسألته من أنت فقال أنا مولى لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها خطبها مصعب بن الزبير فقالت هو علي كظهر أبي إن تزوجته ثم رغبت فيه فاستفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه فأعتقتني وتزوجته وروى سعيد هذين الخبرين مختصرين ولأنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور فلزمه كفارة الظهار كالآخر ولأن الواجب كفارة يمين فاستوى فيها الزوجان بالله تعالى
والرواية الثانية : ليس عليها كفارة وهو قول مالك و الشافعي و إسحاق و أبي ثور لأنه قول منكر وزور وليس بظهار فلم يوجب كفارة كالسب والقذف ولأنه قول ليس بظهار فلم يوجب كفارة الظهار كسائر الأقوال أو تحريم مما لا يصح منه الظهار فأشبه الظهار من أمته
والرواية الثالثة : عليها كفارة اليمين قال أحمد : قد ذهب عطاء مذهبا حسنا جعله بمنزلة من حرم على نفسه شيئا مثل الطعام وما أشبهه وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله لأنه ليس بظهار ومجرد القول من الشكر والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب والظهار قبل العود والظهار من أمته وأم ولده ولأنه تحريم لا يثبت التحريم في المحل فلم يوجب كفارة الظهار كتحريم سائر الحلال ولأنه ظهار من غير امرأته فأشبه الظهار من أمته وما روي عن عائشة بنت طلحة في عتق الرقبة فيجوز أن يكون اعتاقها تكفيرا ليمينها فإن عتق الرقبة أحد خصال كفارة اليمين ويتعين حمله على هذا لكون الموجود منها ليس بظهار وكلام أحمد في رواية الأثرم لا يقتضي وجوب كفارة الظهار وإنما قال الأحوط أن تكفر وكذا حكاه ابن المنذر ولا شكل في أن الأحوط التكفير بأغلظ الكفارات ليخرج من الخلاف ولكن ليس ذلك بواجب عليه لأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص وإنما هو تحريم للحلال من غير ظهار فأشبه ما لو حرم أمته أو طعامه وهذا قول عطاء والله أعلم

فصل : حكم ما لو قلنا بوجوب الكفارة عليها
فصل : وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فلا تجب عليها حتى يطأها وهي مطاوعة فإن طلقها أو مات أحدهما قبل وطئها أو إكراهها على الوطء فلا كفارة عليها لأنها يمين فلا تجب كفارتها قبل الحنث فيها كسائر الأيمان ولا يجب تقديمها قبل المسيس ككفارات سائر الأيمان ويجوز تقديمها لذلك وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير لأنه حق له عليها فلا يسقط بيمينها ولأنه ليس بظهار وإنما هو تحريم للحلال فلا يثبت تحريما كما لو حرم طعامه وحكي أن ظاهر كلام أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير إلحاقا بالرجل وليس ذلك بجيد لأن الرجل الظهار منه صحيح ولا يصح ظهار المرأة ولأن الحل حق الرجل فملك رفعه والحل حق عليها فلا تملك إزالته والله أعلم

مسألة : وإذا ظاهر امرأته مرارا
مسألة : قال : وإذا ظاهر من زوجته مرارا فلم يكفر فكفارة واحدة
هذا ظاهر المذهب سواء كان في مجلس أو مجالس ينوي بذلك التأكيد أو الاستئناف أو أطلق نقله عن أحمد جماعة واختاره أبو بكر و ابن حامد و القاضي وروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء و جابر بن زيد و طاوس و الشعبي و الزهري و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وهو قول الشافعي القديم ونقل عن أحمد فيمن حلف أيمانا كثيرة فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة فمفهومه أنه إن نوى الاستئناف فكفارتان وبه قال الثوري و الشافعي في الجديد وقال أصحاب الرأي إن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس فكفارات وروي ذلك عن علي وعمرو بن دينار وقتادة لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فإذا نوى الاستئناف تعلق بكل مرة حكم حالها كالطلاق
ولنا أنه قول لم يؤثر تحريما في الزوجة فلم تجب به كفارة الظهار كاليمين بالله تعالى ولا يخفى أنه لم يؤثر تحريما فإنها قد حرمت بالقول الأول ولم يزد تحريمها ولأنه لفظ يتعلق به كفارة فإذا كرره كفاه واحدة كاليمين بالله تعالى وأما الطلاق فما زاد على ثلاث لا يثبت له حكم بالإجماع وبهذا ينتقض ما ذكروه وأما الثالثة فإنها تثبت تحريما زائدا وهو التحريم قبل زوج وإصابة بخلاف الظهار الثاني فإنه لا يثبت به تحريم فنظيره ما زاد على الطلقة الثالثة لا يثبت له حكم فكذلك الظهار الثاني فأما إن كفر عن الأول ثم ظاهر لزمته للثاني كفارة بلا خلاف لأن الظهار الثاني مثل الأول فإنه حرم الزوجة المحللة فأوجب الكفارة كالأول بخلاف ما قبل التكفير

فصل : والنية شرط في صحة الكفارة
فصل : والنية شرط في صحة الكفارة لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الأعمال بالنيات ] ولأن العتق يقع متبرعا به وعن كفارة أخرى أو نذر فلم ينصرف إلى هذه الكفارة إلا بنية وصفتها أن ينوي العتق أو الصيام او الإطعام عن الكفارة فإن زاد الواجبة كان تأكيدا وإلا أجزأت نيته الكفارة وإن نوى وجوبها ولم ينو الكفارة لم يجزئه لأن الوجوب يتنوع عن كفارة ونذر فوجب تمييزه وموضع النية مع التكفير أو قبله بيسير وهذا الذي نص عليه الشافعي وقال به بعض أصحابه وقال بعضهم لا يجزئ حتى يستصحب النية وإن كانت الكفارة صياما اشترط نية الصيام عن الكفارة في كل ليلة لقوله عليه السلام [ لا صيام لمن لم يثبت الصيام من الليل ] وإن اجتمعت عليه كفارات من جنس واحد لم يجب تعيين سببها وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا فعلى هذا لو كان مظاهرا من أربع نساء فأعتق عبدا عن ظهاره أجزأه عن إحداهن وحلت له واحدة غير معينة لأنه واجب من جنس واحد فأجزأته نية مطلقة كما لو كان عليه صوم يومين من رمضان وقياس المذهب أن يقرع بينهن فتخرج بالقرعة المحللة منهن وهذا قول أبي ثور وقال الشافعي له أن يصرفها إلى أيتهن شاء فتحل وهذا يفضي إلى أنه يتخير بين كون هذه المرأة محللة له أو محرمة عليه وإن كان الظهار من ثلاث نسوة فأعتق عبدا عن إحداهن ثم صام شهرين متتابعين عن أخرى ثم مرض فأطعم ستين مسكينا عن أخرى اجزأه وحل له الجميع من غير قرعة ولا تعيين وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يقرع بينهن فمن تقع لها القرعة فالعتق لها ثم يقرع بين الباقيتين فمن تقع لها القرعة فالصيام لها والإطعام عن الثالثة لأن كل واحدة من هذه الخصال لو انفردت احتاجت إلى قرعة فكذلك إذا اجتمعت
ولنا أن التكفير قد حصل عن الثلاث وزالت حرمة الظهار فلم يحتج إلى قرعة كما لو أعتق ثلاثة أعبد عن ظهارهن دفعة واحدة فأما إن كانت الكفارة من أجناس كظهار وقتل وجماع في رمضان ويمين فقال أبو الخطاب لا يفتقر إلى تعيين السبب وهذا مذهب الشافعي لأنها عبادة واجبة فلم تفتقر صحة أدائها إلى تعيين سببها كما لو كانت من جنس واحد وقال القاضي يحتمل أن يشترط تعيين سببها ولا تجزئ نية مطلقة وحكاه أصحاب الشافعي عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنهما عبادتان من جنسين فوجب تعيين النية لهما كما لو وجب عليه صوم من قضاء ونذر فعلى هذا لو كانت عليه كفارة واحدة لا يعلم سببها فكفر كفارة واحدة أجزأه على الوجه الأول قاله أبو بكر وعلى الوجه الثاني ينبغي أن يلزمه التكفير بعدد أسباب الكفارات كل واحدة عن سبب كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها فإنه يلزمه خمس صلوات ولو علم أن عليه صوم يوم لا يعلم أمن قضاء هو أو نذر لزمه صوم يومين فإن كان عليه صوم ثلاثة أيام لا يدري أهي من كفارة يمين أو قضاء أو نذر لزمه صوم تسعة أيام كل ثلاثة عن واحدة من الجهات الثلاث

فصل : أحكام عتق عبدين عن كفارتين
فصل : وإذا كانت على رجل كفارتان فأعتق عنهما عبدين لم يخل من أربعة أحوال أحدها : أن يقول أعتقت هذا عن هذه الكفارة وهذا عن هذه فيجزئه إجماعا
الثاني : أن يقول أعتقت هذا عن إحدى الكفارتين وهذا عن الأخرى من غير تعيين فينظر فإن كانا من جنس واحد ككفارتي ظهار أو كفارتي قتل أجزأه وإن كانتا من جنسين ككفارة ظهار وكفارة قتل خرج على الوجهين في اشتراط تعيين السبب إن قلنا يشترط لم يجزئه واحد منهما وإن قلنا لا يشترط أجزأه عنهما
الثالث : أن يقول أعتقتهما عن الكفارتين فإن كانتا من جنس واحد أجزأ عنهما ويقع كل واحد عن كفارة ولأن عرف الشرع والاستعمال إعتاق الرقبة عن الكفارة فإذا أطلق ذلك وجب حمله عليه وإن كانتا من جنسين خرج على الوجهين
الرابع : أن يعتق كل واحد عنهما جميعا فيكون معتقا عن كل واحدة من الكفارتين نصف العبدين فينبني ذلك على أصل آخر وهو إذا أعتق نصف رقبتين عن كفارة هل يجزئه أو لا ؟ فعلى قول الخرقي يجزئه لأن الأشقاص بمنزلة الأشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير بدليل الزكاة فإن من ملك نصف ثمانين شاة كان بمنزلة من ملك أربعين ولا تلزم الأضحية فإنه يمنع منه العيب اليسير
وقال أبو بكر و ابن حامد : لا يجزئه وهو قول مالك و أبي حنيفة لأن ما أمر بصرفه إلى شخص في الكفارة لم يجز تفريقه على اثنين كالمد في الإطعام ولأصحاب الشافعي كهذين الوجهين ولهم وجه ثالث وهو أنه إن كان باقيهما حرا أجزأ وإلا فلا لأنه متى كان باقيهما حرا حصل تكميل الأحكام والتصرف وخرجه القاضي وجها لنا أيضا إلا أن للمعترض عليه أن يقول ان تكميل الأحكام ما حصل بعتق هذا وإنما حصل بانضمامه إلى عتق النصف الآخر فلم يجزئه فإذا قلنا لا يجزئ عتق النصفين لم يجزئ في هذه المسألة عن شيء من الكفارتين وإن قلنا يجزئ وكانت الكفارتان من جنس أجزأ العتق عنهما وإن كانتا من جنسين فقد قيل يخرج على الوجهين والصحيح أنه يجزئ وجها واحدا لأن عتق النصفين عنهما كعتق عبدين عنهما

فصل : امتناع تقديم كفارة الظهار قبل العتق
فصل : ولا يجوز تقديم كفارة الظهار قبله لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه فلو قال لعبده أنت حر الساعة عن ظهاري إن تظهرت عتق ولم يجزئه عن ظهاره إن تظاهر لأنه قدم الكفارة على سببها المختص فلم يجز كما لو قدم كفارة اليمين عليها أو كفارة القتل على الجرح ولو قال لامرأته ان دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي لم يجز التكفير قبل دخول الدار لأنه تقديم للكفارة قبل الظهار فإن أعتق عبدا عن ظهاره ثم دخلت الدار عتق العبد وصار مظاهرا ولم يجزئه لأن الظهار معلق على شرط فلا يوجد قبل وجود شرطه وإن قال لعبده إن تظاهرت فأنت حر عن ظهاري ثم قال لامرأته أنت علي كظهر أمي عتق العبد لوجود الشرط وهل يجزئه عن الظهار ؟ فيه وجهان
أحدهما : يجزئه لأنه عتق بعد الظهار وقد نوى إعتاقه عن الكفارة
والثاني : لا يجزئه لأن عتقه مستحق بسبب آخر وهو الشرط ولأن النية لم توجد عند العتق والنية عند التعليق لا تجزئ لأنه تقديم لها على سببها وإن قال لعبده إن تظاهرت فأنت حر عن ظهاري فالحكم فيه كذلك أنه تعليق لعتقه على المظاهرة

معنى اللعان ومشروعيته
كتاب اللعان : قال رحمه الله تعالى :
وهو مشتق من اللعن لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا وقال القاضي : سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا فتحصل اللعنة عليه وهي الطرد والإبعاد
والأصل فيه قول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآيات [ روى سهل بن سعد الساعدي أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه وروى أبو داود بإسناده [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فجاء أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا على رسول الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني جئت أهلي فوجدت عندهم رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما جاء به واشتد عليه فنزلت : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم } الآيتين كلتيهما فسري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا قال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال : والله لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لاعنوا بينهما فقيل لهلال : اشهد فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قال : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفا عنها وقال : إن جاءت به أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سالغ الأليتيتن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ] قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب ولأن الزوج يبتلى بقذف امرأته لينفي العار والنسب الفاسد وتتعذر عليه البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه و سلم : أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا

مسألة وفصلان صفة الزوجين اللذين يصح اللعان بينهما
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة فقال لها زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن مسلما كان أو كافرا حرا كان أو عبدا
الكلام في هذه المسألة في فصول :
الفصل الأول : في صفة الزوجين اللذين يصح اللعان بينهما وقد اختلفت الرواية فيهما فروي أنه يصح من كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو عدلين أو فاسقين أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك وبه قال سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و الحسن و ربيعة و مالك و إسحاق قال أحمد في رواية ابن منصور : جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية وعن أحمد رواية أخرى : لا يصح اللعان إلا من زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف وروي هذا عن الزهري و الثوري و الأوزاعي و حماد وأصحاب الرأي وعن مكحول ليس بين المسلم والذمية لعان وعن عطاء و النخعي في المحدود في القذف يضرب الحد ولا يلاعن وروي فيه حديث لا يثبت كذلك قال الشافعي و الساجي لأن اللعان شهادة بدليل قوله سبحانه : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } فاستثنى أنفسهم من الشهداء وقال تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات } فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة وإن كانت المرأة ممن لا يجد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لإسقاط الحد بدليل قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } ولا حد ههنا فينتفي اللعان لانتفائه
وذكر القاضي في المجرد أن من لا يجب الحد بقدفها وهي الأمة والذمية والمحدودة في الزنا لزوجها لعانها لنفي الولد خاصة وليس له لعانها القذف والتعزير لأن الحد لا يجب واللعان إنما يشرع لإسقاط حد أو نفي ولد فإذا لم يكن واحد منهما لم يشرع اللعان
ولنا عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } الآية ولأن اللعان يمين فلا يفتقر إلى ما شرطوه كسائر الأيمان ودليل أنه يمين [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ] وأنه يفتقر إلى إسم الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى
وأما تسميتة شهادة فلقوله في يمينه أشهد بالله فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينا كما قال الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } ولأن الزوج يحتاج إلى نفي الولد فيشرع له طريقا إلى نفيه كما لو كانت امرأته ممن يحد بقذفها وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية الجماعة وما يخالفها شاذ في النقل
وأما قول الخرقي : وإذا قذف زوجته البالغة الحرة المسلمة فيحتمل أنه شرط هذا لوجوب الحد عليه لا لنفي اللعان ويحتمل أن يكون هذا شرطا عنده في المرأة لتكون ممن يجب عليه الحد بقذفها فينفيه باللعان ولا يشترط في الزوج شيء من ذلك لأن الحد يجب عليه بقذف المحصنة وإن كان ذميا أو فاسقا فأما قوله مسلما كان أو كافرا ففيه نظر لأنه أوجب عليه بقذف زوجته المسلمة والكافر لا يكون زوجا لمسلمة فيحتاج إلى تأويل لفظه بحمله على أحد شيئين أحدهما : أنه أراد أن الزوج يلاعن زوجته وإن كان كافرا فرد ذلك إلى اللعان لا إلى الحد الثاني : أنه أراد ما إذا أسلمت زوجته فقذفها في عدتها ثم أسلم الزوج فإنه يلاعن
فصل : ولا فرق بين كون الزوجة مدخولا بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم عطاء و الحسن و الشعبي و النخعي و عمرو بن دينار و قتادة و مالك وأهل المدينة و الثوري وأهل العراق و الشافعي بظاهر قول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } فإن كانت غير مدخول بها فلها نصف الصداق لأنها فرقة منه كذلك قال الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و مالك وفي رواية أخرى لا صداق لها لأن الفرقة حصلت بلعانهما جميعا فأشبه الفرقة لعيب في أحدهما

فصل لعان غير المكلف
فصل : فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لأنه قول تحصل به الفرقة ولا يصح من غير المكلف كالطلاق أو يمين فلا تصح من غير المكلف كسائر الايمان ولا يخلو غير المكلف من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما فإن كان الزوج فله حالان أحدهما : أن يكون طفلا والثاني : أن يكون بالغا زائل العقل فإن كان طفلا لم يصح منه القذف ولا يلزمه به حد لأن القلم مرفوع عنه وقوله غير معتبر وأن أتت امرأته بولد نظرنا فإن كان لدون عشر سنين لم يلحقه الولد ويكون منفيا عنه لأن العلم يحيط به بأنه ليس منه فإن الله عز و جل لم يجر العادة بأن يولد له لدون ذلك فينتفي عنه كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزويجها
وإن كان ابن عشر فصاعدا فقال أبو بكر لا يلحق به إلا بعد البلوغ أيضا لأن الولد لا يخلق إلا من جاء الرجل والمرأة ولو أنزل لبلغ وقال ابن حامد يلحق به قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد وهذا مذهب الشافعي لأن الولد يلحق بالإمكان وإن خالف الظاهر ولهذا لو أتت بولد لستة أشهر من حين العقد لحق بالزوج وإن كان خلاف الظاهر وكذلك يلحق به إذا أتت به لأربع سنين مع ندرته وليس له نفيه في الحال حتى يتحقق بلوغه بأحد أسباب البلوغ فله نفي الولد واستلحاقه فإن قيل : فإذا ألحقتم به الولد فقد حكمتم ببلوغه فهلا سمعتم نفيه ولعانه ؟ قلنا إلحاق الولد يكفي فيه الإمكان والبلوغ لا يثبت إلا بسبب ظاهر ولأن إلحاق الولد به حق عليه واللعان حق له فلم يثبت مع الشك فإن قيل فإن لم يكن بالغا انتفى عنه الولد وإن كان بالغا انتفى عنه اللعان قلنا إلا أنه لا يجوز أن يبتدىء اليمين مع الشك في صحتها فسقطت للشك فيها
الثاني : إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لأن القلم عنه مرفوع أيضا وإن أتت امرأته بولد فنسبه لا حق به لإمكانه ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله فإذا عقل فله نفي الولد حينئذ واستلحاقه وإن ادعى أنه ان ذاهب العقل حين قذقه وأنكرت ذلك ولأحدهما بينة بما قال ثبت قوله وإن لم يكن لواحد منهما بينة ولم يكن له حالة علم فيها زوال عقله فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل والظاهر الصحة والسلامة وإن عرفت له حالة جنون ولم تعرف له حالة إفاقة فالقول قوله مع يمينه وإن عرفت له حالة جنون وحالة إفاقة ففيه وجهان أحدهما :
القول قولها قال القاضي هذا قياس قول أصحابنا في الملفوف إذا ضربه فقده ثم ادعى أنه كان ميتا وقال الولي كان حيا والوجه الثاني : أن القول قوله لأن الأصل براءة ذمته من الحد فلا يجب بالشك ولأن الحد يسقط بالشبهة ولا يشبه هذا الملفوف لأن الملفوف قد علم أنه كان حيا ولم يعلم منه ضد ذلك فنظيره في مسألتنا أنه يعرف له حالة إفاقة ولا يعلم منه ضدها وفي مسألتنا قد تقدم في مسألتنا قد تقدم له حالة جنون فيجوز أن تكون قد استمرت إلى حين قذفه وأما إن كانت الزوجة غير مكلفة فقذفها الزوج نظرنا فإن كانت طفلة لا يجامع مثلها فلا حد على قاذفها لأنه قول يتقين كذبه فيه وبراءة عرضها منه فلم يجب به حد كما لو قال : أهل الدنيا زناة ولكنه يعزر للسبب لا للقذف فلا يحتاج في التعزيز إلى مطالبة لأنه مشروع لتأديبه وللإمام فعله إذا رأى ذلك فإن كانت يجامع مثلها كابنة تسع سنين فعليه الحد وليس لوليها ولا لها المطالبة به حتى تبلغ فإذا بلغت فطالبت فلها الحد وله إسقاطه باللعان وليس له لعانها قبل البلوغ لأن اللعان يراد لإسقاط الحد أو نفي الولد ولا حد عليه قبل بلوغها ولا ولد فينفيه فإن أتت بولد حكم ببلوغها لأن الحمل أحد أسباب البلوغ ولأنه لا يكون إلا من نطفتها فمن ضرورته إنزالها وهو من أسباب بلوغها وإن قذف امرأته المجنونة بزنا أضافه إلى حال إفاقتها أو قذفها وهي عاقة ثم حنث لم يكن لها المطالبة ولا لوليها قبل إفاقتها لأن هذا طريقه التشفي فلا ينوب عنه الولي فيه كالقصاص فإذا أفاقت فلها المطالبة بالحد وللزوج إسقاطه باللعان فإن أراد لعانها في حال جنونها ولا ولد ينفيه لم يكن له ذلك لعدم الحاجة إليه لأنه لم يتوجه عليه حد فيسقطه ولا نسب فينفيه وإن كان هناك ولد يريد نفيه فاذي يقتضيه المذهب أنه لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفي باللعان من الزوجين وهذه لا يصح منها لعان وقد نص أحمد في الخرساء أن زوجها لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفي باللعان من الزوجين وهذا لا يصح منها لعان وقد نص أحمد في الخرساء أن زوجها لا يلاعن فهذه أولى وقال الخرقي في العاقلة لا يعرض له حتى تطالبه زوجته وهذا قول أصحاب الرأي لأنه أحد الزوجين فلم يشرع اللعان مع جنونه كالزوج ولأن لعان الزوج وحده لا ينتفي به الولد فلا فائدة في مشروعيته وقال القاضي : له أن يلاعن لنفي الولد لأنه محتاج إلى نفيه فشرع له طريق إلى نفيه وقال الشافعي : له أن يلاعن وظاهر مذهبه أن له لعانها مع عدم الولد لدخوله في عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأنه زوج مكلف قاذف لامرأته التي يولد لمثلها فكان له أن يلاعنها كما لو كانت عاقلة

فصول لعان الأخرس
فصل : فأما الأخرس والخرساء فإن كانا غير معلومي الإشارة والكتابة فهما كالمجنونين فيما ذكرناه لأنه لا يتصور منهما لعان ولا يعلم من الزوج قذف ولا من المرأة مطالبة وإن كانا معلومي الإشارة والكتابة فقد قال أحمد : إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لأنه لا تعلم مطالبتها وحكاه ابن المنذر عن أحمد و أبي عبيد وأصحاب الرأي وكذلك ينبغي أن يكون في الأخرس وذلك لأن اللعان لفظ يفتقر إلى الشهادة فلم يصح من الأخرس كالشهادة الحقيقية ولأن الحد يدرأ بالشهبات والشهادة لنسبه صريحة كالنطق فلا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على أجنبي بشهادته وقال القاضي وأبو الخطاب : هو كالناطق في قذفه ولعانه وهو مذهب الشافعي لأنه يصح طلاقه فصح قذفه ولعانه كالناطق ويفارق الشهادة لأنه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إلى الأخرس وفي اللعان لا يحصل إلا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق والأول أحسن لأن موجب القذف وجوب الحد وهو يدرأ بالشهادة ومقصود اللعان الأصلي نفي النسب وهو يثبت بالإمكان مع ظهور انتفائه فلا ينبغي أن يشرع ما ينفيه ولا ما يوجب الحد مع الشبهة العظيمة ولذلك لم تقبل شهادته وقولهم إن الشهادة تحصل من غيره قلنا قد لا تحصل إلا منه لاختصاصه برؤية المشهود له أو إسماعه إياه
فصل : فإن قذف الأخرس أو لاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل إنكاره للقذف لأنه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر فلا يقبل إنكاره له ويقبل إنكاره اللعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه النسب ولا تعود الزوجية فإن قال أنا ألاعن للحد ونفي النسب كان له ذلك لأنه إنما لزمه بإقراره أنه لم يلاعن فإذا أراد أن يلاعن كان له ذلك
فصل : فإن قذفها وهو ناطق ثم خرس وأيس من نطقه فحكمه حكم الأصلي وإن رجي عود نطقه وزوال خرسه انتظر به ذلك ويرجع في معرفة ذلك إلى قول عدلين من أطباء المسلمين وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وذكر بعضهم أنه يلاعن في الحالين بالإشارة لأن أمامة بنت أبي العاص أصمتت فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا ؟ فاشارت أن نعم فرأوا أنها وصية وهذا لا حجة فيه لأنه لم يذكر من الراوي لذلك ولم يعلم أنه قول من قوله حجة ولا علم هل كان ذلك لخرس يرجى زواله أو لا ؟ وقال أبو الخطاب فيمن اعتقل لسانه وأيس من نطقه هل يصح لعانه بالإشارة ؟ على وجهين :

فصل لحوق النسب إذا قذف الرجل زوجته ما لم يكن لعان
فصل : وكل موضع لالعان فيه فالنسب لاحق فيه ويجب بالقذف موجبه من الحد والتعزير إلا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه ولا لعان كذلك قال الثوري و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال : ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم

فصل تعليل تسمية المرأة فراشا وحكم دعوى الاستبراء
الفصل الثاني : أنه لا لعان بين غير الزوجين فإذا قذف أجنبية محصنة حد ولم يلاعن وإن لم تكن محصنة عزر ولا لعان أيضا ولا خلاف في هذا وذلك لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ثم خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله : { والذين يرمون أزواجهم } ففيما عداهن يبقى على قضية العموم وإن ملك أمة ثم قذفها فلا لعان سواء كانت فراشا له أو لم تكن ولا حد عليه بقذفها ويعزر فإن أتت بولد نظرنا فإن لم يعترف بوطئها لم يحلقه نسبه ولم يحتج إلى نفيه وإن اعترف بوطئها فراشا له وإذا أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطء لحقه وبهذا قال مالك و الشافعي وقال الثوري و أبو حنيفة لا تصير فراشا له حتى يقر بولدها فإذا أقر به صارت فراشا له ولحقه أولادها بعد ذلك لأنها لو صارت فراشا بالوطء لصارت فراشا بإباحته كالزوجة
[ ولنا أن سعدا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ] متفق عليه وروى ابن عمر عن عمر رضي الله عنه قال : ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ولأن الوطء يتعلق به تحريم المصاهرة فإذا كان مشروعا صارت به المرأة فراشا كالنكاح ولأن المرأة إنما سميت فراشا تجوزا إما لمضاجعته لها على الفراش وإما لكونها تحته في حال المجامعة وكلا الأمرين يحصل في الجماع وقياسهم الوطء على الملك لا يصح لأن الملك لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا يحصل منه الولد بدون الوطء ويفارق النكاح فإنه لا يراد للوطء ويتعلق به تحريم المصاهرة ولا ينعقد في محل يحرم الوطء فيه كالمجوسية والوثنية وذواتي محارمه إذا ثبت هذا فإن أراد نفي ولد أمته التي يلحقه ولدها فطريقه أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها بحيضه فينتفي بذلك وإن ادعى أنه كان يعزل عنها لم ينتف عنه بذلك لما روى جابر قال : [ جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها قال : فلبث الرجل ثم أتاه فقال : إن الجارية قد حملت قال : قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ] رواه أبو داود وروي عن أبي سعيد أنه قال : كنت أعزل عن جارتي فولدت احب الخلق إلي يعني ابنه ولحديث عمر الذي ذكرناه ولأنه حكم تعلق بالوطء فلم يعتبر معه الإنزال كسائر الأحكام وقد قيل إنه ينزل من الماء ما لا يحس به وإن أقر بالوطء دون الفرج أو في الدبر لم تصر بذلك فراشا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولنه ينتفي عنه الولد بدعوى الاستبراء إذا أتت به بعد الاستبراء بمدة الحمل فههنا أولى وروي عن أحمد أنها تصير فراشا لأنه قد يجامع فيسبق الماء إلى الفرج ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا ادعى الاستبراء قبل قوله بغير يمين في أحد الوجهين لأن من قبل قوله في الاستبراء قبل بغير يمين كالمرأة تدعي انقضاء عدتها وفي الآخر يستحلف وهو مذهب الشافعي لعموم [ قوله عليه السلام : ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأن الاستبراء غير مختص به فلم يقبل فيه بغير يمين كسائر الحقوق بخلاف العدة ومتى لم يدع الاستبراء لحقه ولدها ولم ينتف عنه وقال الشافعي في أحد قوليه : له نفيه باللعان لأنه لم يرض به فأشبه ولد المرأة
ولنا قوله تعالى { والذين يرمون أزواجهم } فخص بذلك الأزواج ولأنه ولد يلحقه نسبه من غير الزوجة فلم يملك نفيه باللعان كما لو وطىء أجنبية بشبهة فألحقت القافة ولدها به ولأن له طريقا إلة نفي الولد بغير اللعان فلم يحتج إلى نفيه باللعان فلا يشرع ولأنه إذا وطىء أمته ولم يستبرئها فأتت بولد احتمل أن يكون منه فلم يجز له نفيه لكون النسب يلحق بالإمكان فكيف مع ظهور وجود سببه ؟ ولو ادعى الاستبراء فأتت بولدين فأقربأحدهما ونفى الآخر لحقاه معا لأنه لا يمكن جعل أحدهما منه والآخر من غيره وهما حمل واحدولا يجوز نفي الولد المقر به عنه مع إقراره به فوجب إلحاقهما به معا وكذلك إن أتت أمته التي لم يعترف بوطئها بتوأمين فاعترف بأحدهما ونفى الآخر

فصل حكم المرأة المنكوحة نكاحا فاسدا ثم قذفها
فصل : وإذا نكح امرأة نكاحا فاسدا ثم قذفها وبينهما ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه ولا حد عليه وإن لم يكن بينهما ولد حد ولا لعان بينهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لأنها أجنبية فأشبهت سائر الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد
ولنا أن هذا ولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح صحيحا ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية ويفارق سائر الأجنبيات لأنه لا يلحقه ولدهن فلا حاجة به إلى قذفهن ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم الولد لكونها خانته وغاظته وأفسدت فإذا كان له منها ولد فالحاجة موجودة فيهما وإذا لاعن سقط الحد لأنه لعان مشروع لنفي الحد فأسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح وهل يثبت التحريم المؤبد ؟ فيه وجهان :
احدهما : يثبته لأنه لعان صحيح أشبه لعان الزوجة
والثاني : لا ثبته لأن الفرقة لم تحصل به فإنه لا نكاح بينهما يحصل قطعة به بخلاف لعان الزوجة فإن الفرقة حصلت به ولو لاعنها من غير ولد لم يسقط الحد ولم يثبت التحريم المؤبد لأنه لعان فاسد فلم تثبت أحكامه وسواء أعتقد أن النكاح صحيح أو لم يعتقد ذلك لأن النكاح في نفسه ليس بنكاح صحيح فأشبه ما لو لاعن أجنبية يظنها زوجته

فصل حكم الذي أبان زوجته ثم قذفها
فصل : فلو أبان زوجته ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية فهي كالمسألة التي قبلها إن كان بينهما ولد يريد نفيه فله أن ينفيه باللعان وإلا حد ولم يلاعن وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة يحد ويلحقه الولد ولا يلاعن وهو قول عطاء ووجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها وقال عثمان البتي : له أن يلاعن وإن لم يكن بينهما ولد وروي عن ابن عباس و الحسن أنه يلاعنها لأنه قذف مضاف إلى حال الزوجية أشبه ما لو كانت زوجته
ولنا أنه إذا كان بينهما ولد فيه حاجة إلى القذف فشرع كما لو قذفه وهي زوجته وإذا لم يكن له ولد فلا حاجة به إليه وقد قذفها وهي أجنبية فأشبه ما لو لم يضفه إلى حال الزوجية ومتى لاعنها لنفي ولدها انتفى وسقط عنه الحد وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان وهل له أن يلاعنها قبل وضع الولد ؟ فيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لأن من كان له لعانها بعد الوضع كان له لعانها قبله كالزوجة
والثاني : ليس له ذلك وهو ظاهر قول الخرقي لأن الولد عنده لا ينتفي في حال الحمل ولأن اللعان إنما يثبت ههنا لأجل الولد فلم يجز أن يلاعن إلا بعد تحققه بوضعه بخلاف الزوجة فإنه يجوز لعانها مع عدم الولد وهكذا الحكم في نفي الحمل في النكاح الفاسد

فصول قذف الرجل لمطلقته الرجعية وللأجنبية ثم تزويجها
فصل إذا اشترى زوجته الأمة ثم أقر بوطئها ثم أتت بولد لستة أشهر كان لاحقا له ولم ينتف عنه إلا بدعوى الاستبراء لأنه ملحق به بالوطء في الملك دون النكاح لكون الملك حاضرا فصار كالزوج الثاني يلحق به الولد وإن أمكن أن يكون من الأول وإن لم يكن أقر بوطئها أو أقر به فأتت بولد لدون ستة أشهر منذ وطىء كان ملحقا بالنكاح إن أمكن ذلك وله نفيه باللعان وهل يثبت هذا اللعان التحريم المؤبد ؟ على وجهين :
فصل : إذا قذف مطلقته الرجعية فله لعانها سواء كان بينهما ولد أم أو لم يكن قال أبو طالب : سألت أبا عبد الله عن الرجل يطلق تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال : قال ابن عباس : لا يلاعن ويجلد وقال ابن عمر : يلاعن ما دامت في العدة قال : وقول ابن عمر أجود لأنها زوجته وهو يرثها وترثه فهو يلاعن وبهذا قال جابر بن زيد و النخعي و الزهري و قتادة و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن عمر لأن الرجعية زوجة فكان له لعانها كما لو لم يطلقها
فصل : وإن قذف زوجته ثم أبانها فله لعانها نص عليه أحمد سواء كان له ولد أو لم يكن روي ذلك عن ابن عباس وبه قال الحسن و القاسم بن محمد و مكحول و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال الحارث العكلي و جابر بن زيد و قتادة و الحكم : يجلد وقال حماد بن أبي سليمان و أصحاب الرأي : لا حد ولا لعان لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ولا يحد لأنه لم يقذف أجنبية :
ولنا قول الله تعالى { والذين يرمون أزواجهم } وهذا قد رمى زوجته فيدخل في عموم الآية وإذا لم يلاعن وجب الحد بعموم قوله : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ولأنه قاذف لزوجته فوجب أن يكون له أن يلاعن كما لو كانا على النكاح إلى حالة اللعان
فصل : وإن قالت قذفني قبل أن يتزوجني وقال بل بعده أو قالت قذفني بعد ما بنت منه وقال بل قبله فالقول قوله لأن القول قوله في أصل القذف فكذلك في وقته وإن قالت أجنبية قذفني فقال كنت زوجتي حينئذ فأنكر الزوجية فالقول قولها لأن الأصل عدمها
فصل : ولو قذف أجنبية ثم تزوجها فعليه الحد ولا يلاعن لأنه وجب في حال كونها أجنبية فلم يملك اللعان من أجله كما لو لم يتزوجها وإن قذفها بعد تزوجها بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن وهو قول مالك و أبي ثور وروي ذلك عن سعيد بن المسيب و الشعبي وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي : له أن يلاعن لأنه قذف امرأته فيدخل في عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك وقال الشافعي : إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان
ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة أشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق الزوجة لأنه محتاج إليه لأنها غاظتة وخانته وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه وههنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنا فلا يشرع له طريق إلى نفيه

فصول وجوب اللعان في جميع أنواع القذف
فصل : ولو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية فنقل مهنا قال : سألت أحمد عن رجل قال لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثا فقال : يلاعن قلت : إنهم يقولون يحد ولا يلزمها إلا واحدة قال : بئس ما يقولون فهذا يلاعن لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها فأشبه قذف الرجعية
وأما في المسألة الأولى فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه وإلا حد ولم يلاعن لأنه يتعين إضافة القذف إلى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد إبانتها : زنيت إذ كنت زوجتي على ما قررناه
الفصل الثالث : إن كل قذف للزوجة يجب به اللعان سواء قال لها زنيت أو رأيتك تزنين سواء كان القذف أعمى أو بصيرا نص عليه أحمد وبهذا قال الثوري و الشافعي و أبو عبيد و ابو ثور وهو قول عطاء
وقال يحيى الأنصاري وأبو زناد و مالك : لا يكون اللعان إلا بأحد أمرين : إما رؤية وإما إنكار للحمل لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية وكان قال : رأيت بعيني وسمعت باذني فلا يثبت اللعان إلا في مثله
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } الآية وهذا رام لزوجته فيدخل في عموم الآية ولأن اللعان معنى يتخلص به من موجب القذف فيشرع في حق كل رام لزوجته كالبينة والأخذ بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب ثم لم يعملوا به في قوله وسمعت بأذني وسواء قذفها بزنا في القبل أو في الدبر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يثبت اللعان بالقذف بالوطء في الدبر وبناه على أصله في ان ذلك لا يجب به الحد
ولنا أنه رام لزوجته بوطء في فرجها فأشبه ما لو قذفها بالوطء في قبلها وأما إن قذفها بالوطء دون الفرج أو بشيء من الفواحش غير الزنا فلا حد عليه ولا لعان لأنه قذفها بما لا يجب به الحد فلم يثبت به الحد واللعان كما لو قذفها بضرب الناس وأذاهم
الفصل الرابع : أنه إذا قذف زوجته المحصنة وجب عليه الحد وحكم بفسقه ورد شهادته إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن فإن لم يأت بأربعة شهداء أو امتنع من اللعان لزمه ذلك كله وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة يجب اللعان دون الحد فإن أبى حبس حتى يلاعن لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات } الآيات فلم يوجب بقذف الأزواج إلا اللعان
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } وهذا عام في الزوج وغيره وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه وأيضا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : البينة ولا حد في ظهرك ] وقوله لما لاعن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ولأنه قاذف يلزمه الحد لو أكذب نفسه فلزمه إذ لم يأت بالبينة المشروعة كالأجنبي فأما إن قذف غيرها كالكتابية والأمة والمجنونة والطفلة فإنه يجب عليه التعزير بذلك لأنه أدخل عليهن المعرة بالقذف ولا يحد لهن حدا كاملا لنقصانهن بذلك ولا يتعلق به فسق ولا رد شهادة لأنه لا يوجب الحد قال القاضي : وليس له إسقاط هذا التعزير باللعان لأن اللعان إما لنفي النسب أو لدرء الحد وليس ههنا واحد منهما وقال الشافعي : له إسقاطه باللعان لأنه إذا ملك إسقاط الحد الكامل باللعان فإسقاط ما دونه أولى وللقاضي أن يقول : لا يلزم من مسروعيته لدفع الحد الذي يعظم ضرره مشروعيته لدفع ما يقل ضرره كما لو قذف طفلة لا يتصور وطؤها فإنه يعزر تعزير السب والأذى وليس له إسقاطه باللعان كذا ههنا وأما إن كان لأحد هؤلاء ولد يريد نفيه فقال القاضي : له أن يلاعن لنفيه وهذا قول الشافعي وهو ظاهر كلام أحمد في الأمة والكتابية سواء كان لهما ولد أو لم يكن وقد ذكرنا ذلك فيما مضى

مسألة إقامة الحد على الزوج بطلب من زوجته
مسألة : قال : ولا يعرض له حتى تطلبه زوجته
يعني لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالب زوجته بذلك فإن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقهما وليس لوليها المطالبة عنها إن كانت مجنونة أو محجورا عليها ولا لولي الصغيرة وسيد الأمة المطالبة بالتعزير من أجلهما لأن هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم الغير فيه مقام المستحق كالقصاص فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك نسب يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن وكذلك كل موضع سقط فيه الحد مثل أن أقام البينة بزناها أو أبرأته من قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان وهذا قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفا إلا بعض أصحاب الشافعي قالوا : له الملاعنة لإزالة الفراش والصحيح عندهم مثل قول الجماعة لأن إزالة الفراش تمكنه بالطلاق والتحريم المؤبد ليس بمقصود يشرع اللعان من أجله وإنما حصل ذلك ضمنا
فأما إن كان هناك ولد يريد نفيه فقال القاضي : له أن يلاعن لنفيه وهذا مذهب الشافعي لأن هلال بن أمية لما قذف امرأته وأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره أرسل إليها فلاعن بينهما ولم تكن طالبته ولأنه محتاج إلى نفيه فشرع له طريق إليه كما لو طالبته ولأن نفي النسب الباطل حق له فلا يسقط برضاها به كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد يحتمل أن لا يشرع اللعان ههنا كما لو قذفها فصدقته وهو قول أصحاب الرأي لأنه أحد موجبي القذف فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد

مسألة وفصل سقوط اللعان والحد بموت الزوج أو المقذوف قبل المطالبة به
فصل وإذا قذفها ثم مات قبل لعانهما أو قبل إتمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته في قول الجميع لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه وإن مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكذلك وقال الشافعي تبين بلعانه ويسقط التوارث وينتفي الولد ويلزمها الحد إلا أن تلتعن
ولنا أنه مات قبل إكمال اللعان أشبه ما لو مات قبل إكمال التعانة وذل لأن الشرع إنما رتب هذه الأحكام على اللعان التام والحكم لا يثبت قبل كمال سببه وإن ماتت المرأة قبل اللعان فقد ماتت على الزوجية ويرثها في قول عامة أهل العلم روي عن ابن عباس إن التعن لم يرث ونحو ذلك عن الشعبي وعكرمة لأن اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث كما لو التعن في حياتها
ولنا أنها ماتت على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن ولأن اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكم بعد موتها كالطلاق وفارق اللعان في الحياة فإنه يقطع الزوجية على أننا قد ذكرنا أنه لو لاعنها ولم تلتعن هي لم تنقطع الزوجية أيضا فههنا أولى فإن قيل أليس قد قلتم لو التعن من الولد الميت ونفاه لم يرثه فكذلك الزوجة ؟ قلنا لو التعن الزوج وحده دونها لم ينتف الولد ولم يثبت حكم اللعان على ما ذكرنا ثم الفرق بينهما أنه إذا نفى الولد تبينا أنه لم يكن منه أصلا في حال من الأحوال والزوجة قد كانت امرأته فيما قبل اللعان وإنما يزيل نكاحها اللعان كما يزيله الطلاق وإذا ماتت قبله فقد ماتت قبل وجود ما يزيله فيكون موجودا حال الموت فيوجب التوارث وينقطع بالموت فلا يمكن انقطاعه مرة أخرى وإن أراد الزوج اللعان ولم تكن طالبت بالحد في حياتها لم يكن له أن يلتعن سواء كان ثم ولد يريد نفيه أو لم يكن
وقال الشافعي إن كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن وهذا ينبني على أصل وهو أن اللعان إنما يكون بين الزوجين فإن لعان الرجل وحده لا يثبت به حكم وعندهم بخلاف ذلك فأما إن كانت طالبت بالحد في حياتها فإن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها فإن طولب به فله إسقاطه باللعان ذكره القاضي وإلا فلا لأنه لا حاجة إليه مع عدم الطلب فإنه لا حد عليه وقال أصحاب الشافعي : إن كان للمرأة وارث غير الزوج فله اللعان ليسقط الحد عن نفسه وإلا فلا لعدم الحاجة إليه
فصل : وإذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد سقط ولم يكن لورثته الطلب به وقال أصحاب الشافعي يورث وإن لم يكن طالب به ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من ترك حقا فلورثته ] ولأنه حق ثبت له في الحياة يورث إذا طالب به فيورث وإن لم يطالب به كحق القصاص
ولنا أنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة والحديث يدل على أن الحق المتروك يورث وهذا ليس بمتروك وأما حق القصاص فإنه حق يجوز الإعتياض عنه وينتقل إلى المال بخلاف ما نحن فيه فأما إن طالب به ثم مات فإنه يرثه العصبات من النسب دون غيرهم لأنه حق يثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي ومتى ثبت للعصبات فلهم استيفاؤه وإن طلب أحدهم وحده فله استيفاؤه وإن عفا بعضهم لم يسقط وكان للباقين استيفاؤه ولو بقي واحد كان له استيفاء واحد كان له استيفاء جميعه لأنه حق يراد للردع والزجر فلم يتبعض كسائر الحدود ولا يسقط فيثبت له جميعه ولاية النكاح ويفارق حق القصاص لأن ذلك يفوت إلى بدل ولو أسقطناه ههنا لسقط حق غير العافي إلى غير بدل فعلى هذا لو قذف امرأته فماتت بعد المطالبة ولها أحد من عصباتها غيره فله استيفاؤه وإن كان زوجها عصبتها وليس لها أحد سواء سقط وإن كان لها من عصبتها غيره فله الطلب به ولا يسقط بما ذكرنا من أنه يكمل لكل واحد بخلاف القصاص

فصل وإذا قدف زوجته وله بينة تشهد بزناها
فصل : وإذا قذف امرأته وله بينة تشهد بزناها فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة لأنهما بينتان فكانت له الخيرة في إقامة أيتهما شاء كمن له بدين شاهدان وشاهد وامرأتان ولأن ل واحدة منهما يحصل بها ما لا يحصل بالأخرى فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل ولا يحصل ذلك بالبينة ويحصل بالبينة ثبوت زناها وإقامة الحد عليها ولا يحصل باللعان فإن لاعنها ونفى ولدها ثم أراد إقامة البينة فله ذلك فإذا اقامها ثبت موجب اللعان وموجب البينة وإن أقام البينة أولا ثبت الزنا وموجبه ولم ينتف عنه الولد فإنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه وإن أراد لعانها بعد ذلك وليس بينهما ولد يريد نفيه لم يكن له ذلك لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة فلا حاجة إليه وإن كان بينهما ولد يريد نفيه فعلى قول القاضي : له أن يلاعن وقد ذكرنا ذلك فيما مضى

فصول حكم ما لو قذفها فطالبته بالحد وشهد عليه شاهدان
فصل : : وإن قذفها فطالبته بالحد فأقام شاهدين على إقرارها بالزنا سقط عنه الحد لأنه ثبت تصديقها إياه ولم يجب عليها الحد لأن الحد لا يجب إلا بالإقرار أربع مرات ويسقط بالرجوع عن الإقرار وهل يثبت الإقرار بالزنا بشاهدين ؟ قال أبو بكر : فيه قولان أحدهما يثبت بشاهدين كسائر الأقارير واختاره
والثاني : لا يثبت لأنه لا يثبت به المقر به فلا يثبت به الإقرار به كرجل وامرأتين وإن لم تكن له بينة حاضرة فقال لي بينة غائبة أقيمها على الزنا أمهل اليومين والثلاثة لأن ذلك قريب فإن أتى بالبينة وإلا حد إلا أن يلاعن إذا ان زوجا فإن قال : قذفتها وهي صغيرة فقالت : قذفني وأنا كبيرة وأقام كل واحد منهما بينة قال فهما قذفان وذلك إن اختلفا في الكفر والرق أو الوقت لأنه لا تنافي بينهما إلا أن يكونا مؤرخين تاريخا واحدا فيسقطان في أحد الوجهين وفي الآخر يقرع بينهما فمن خرجت قرعته قدمت بينته
فصل فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعدواته لهما وشهادة العدو لا تقبل على عدوه فإن أبرآه وزالت العدواة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ثم أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ولو شهدا أنه قذف امرأته ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين وإن انا بعد الحكم لم يبطل لأن الحكم تم قبل وجود المانع كظهور الفسق وإن شهدا امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما لأنها ردت في البعض للتهمة فةجب أن ترد للكل وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي في الجديد وقال في القديم لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشيء لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به وإن شهدا بطلاق الضرة ففيه وجهان أحدهما : لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما والثاني تقبل لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا
فصل : ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية تمت الشهادة لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها وشهد آخر أنه أقر بذاك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أوأنه قذفها بالعربية أو بالعجمية أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة ففيه وجهان
أحدهما : تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة بالفذف وكذلك اللسان فلم يؤثر الإختلاف كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية
والآخر لا تكمل الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم تثبت كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين

مسائل وفصول قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما والخلاف في حصول الفرقة
مسألة : قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا
في هذه المسألة مسألتان :
المسألة الأولى : أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بلعانهما جميعا وهل يعتبر تفريق الحاكم بينهما ؟ فيه روايتان :
إحداهما : أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي وقول أصحاب الرأي لقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله وفي حديث عويمر قال : كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا يقتضي إمكان إمساكها وأنه وقع طلاقه ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها ولأن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم فالفرقة المتعلقة به لم تقع إلا بحكم الحاكم كفرقة العنة
والرواية الثانية : تحصل الفرقة بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر وقول مالك و أبي عبيد عنه و أبي ثور و داود و زفر و ابن المنذر وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا رواه سعيد ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يقف على حكم الحاكم الرضاع ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه كالتفريق للعيب والإعسار ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما أن يبقى النكاح مستمرا و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا سبيل لك عليها ] يدل على هذا وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق ولا نعلم أحدا وافق الشافعي على هذا القول وحكي عن البتي أنه لا يتعلق باللعان فرقة لما [ روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين المتلاعنين ] رواه عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وأخرجهما مسلم وقال سهل فكانت سنة لمن كان بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وقال عمر : المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا
وأما القول الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما وإنما فرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه و سلم ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إنا أيمان على زناها أو شهادة بذلك ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما فلا يجوز تعليفه على بعضه كما لم يجز تعليقه على بعض لعان الزوج ولأنه فسخ ثبت بأيمان مختلفين فلم يثبت بيمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول الزوج اختاري وأمرك بيدك أو وهبتك أو لنفسك واشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قلنا إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان منهما وإن قلنا لا تحصل إلا بتفريق الحاكم لم يجز له أن يفرق بينهما إلا بعد كمال لعانهما فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلا وجوده كعدمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي : لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات أخطأ السنة والفرقة جائزة وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر فيتعلق الحكم به
ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة ولأنها أيمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كأيمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال : من سبق إلى خمس إصابات فسبق إلى ثلاثة وبسائر الأسباب فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما ] [ وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم فرق بين المتلاعنين ] أخرجهما سعيد ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح باق بحاله لأن ما يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن
فصل : وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هي طلاق لأنها فرقة من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا كالفرقة بقوله : أنت طالق
ولنا أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح ولأنه لو كان طلاقا لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة
فصل : وذكر بعض أهل العلم أن الفرقة إنما حصلت باللعان لأن لعنة الله وغضبه قد وقع لأحدهما لتلاعنهما ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال عند الخامسة : أنها الموجبة ] أي إنها توجب لعنة الله وغضبه ولا نعلم من هو منهما يقينا ففرقنا بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو امرأة غير ملعونة وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يعلو المسلمة كافر ويمكن أن يقال على هذا : لو كان هذا الاحتمال مانعا من دوام نكاحهما لمنعة من نكاح غيرها فإن هذا الاحتمال متحقق فيه ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة وقوع اللعنة والغضب بأحدهما غير معين فيفضي إلى علو ملعون لغير أو إلى إمساكه لملعونة مغضوب عليها ويحتمل أن سبب الفرقة النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه فإن الرجل إن كان صادقا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام خزي وحقق عليها اللعنة والغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كاذبا فقد اضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرية العظيمة والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي فحصل لكل واحد نفرة من صاحبه لما حصل إليه من إساءته لا يكاد يلتئم لهما معها حال فاقتضت حكمه الشارع انحتام الفرقة بينهما وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة ولأنه إن كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ولهذا قال العجلاني : كذبت عليها أن أمسكتها
المسألة الثانية : أنها تحرم عليه باللعان تحريما مؤبدا فلا تحل له وإن أكذب نفسه في ظاهر المذهب ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له إلا أن يكون قولا شاذا وأما إذا أكذب نفسه فالذي رواه الجماعة عن أحمد أنها لا تحل له أيضا وجاءت الأخبار عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهم أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وبه قال الحسن و عطاء و جابر بن زيد و النخعي و الزهري و الحكم و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و أبو يوسف وعن أحمد رواية أخرى : إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه قال أبو بكر : لا نعلم أحدا رواها غيره وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما الحاكم فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله وقد ذكرنا أن مذهب البتي أن اللعان لا يتعلق به فرقة وعن سعيد بن المسيب إن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب وبه قال أبو حنيفة و محمد بن الحسن لأن فرقة اللعان عندهما طلاق وقال سعيد بن جبير : إن أكذب ردت إليه ما دامت في العدة
ولنا ما روى سهل بن سعد قال : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا رواه الجوزجاني في كتابه بإسناده وروي مثل هذا عن الزهري و مالك ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الحد والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع
فصل : فإن كانت أمة فاشتراها ملاعنها لم تحل له لأن تحريمها تحريم مؤبد فحرمت به على مشتريها كالرضاع ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لا تحل له قبل زوج وإصابة فههنا أولى لأن هذا التحريم مؤبد وتحريم الطلاق ليس بمؤبد ولأن تحريم الطلاق يختص النكاح وهذا لا يختص به وهذا مذهب الشافعي

مسألة وفصلان قال : فإن كذب نفسه فلها عليه الحد ويلحقه نسب الولد وإن لم يكذب
مسألة : قال فإن أكذب نفسه فلها عليه الحد
وجملة ذلك أن الرجل إذا قذف امرأته ثم أكذب نفسه فلها عليه الحد سواء أكذبها قبل لعانها أو بعده وهذا قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا وذلك لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج فإذا أكذب نفسه بان أن لعانها كذب وزيادة في هتها وتكرار لقذفها فلا أقل من أن يجب الحد الذي كان واجبا بالقذف المجرد فإن عاد عن إكذاب نفسه وقال : لي بينة أقيمها بزناها أو اراد إسقاط الحد عنه باللعان لم يسمع منه لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله وقد أقر بكذب نفسه فلا يسمع منه خلافه وهذا فيما إذا كانت المقذوفة محصنة فإن كانت غير محصنة فعليه التعزير
فصل : ويلحقه نسب الولد سواء كان الولد حيا أو ميتا غنيا كان أو فقيرا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال الثوري إذا استحلق الولد الميت نظرنا فإن كان ذا مال لم يلحقه لأنه إنما يدعي مالا وإن لم يكن ذا مال لحقه وقال أصحاب الرأي : إن كان الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من المستلحق وتبعه نسب ابنه وإن لم يكن ترك ولدا لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا يرث منه المدعي شيئا لأن نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه فإذا كان له ولد مستلحقا لولده وتبعه نسب الميت
ولنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا أو كان له ولد ولأن ولد الولد يتبع نسب الولد وقد جعل أبو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب ابنه فجعل الأصل تابعا للفرع وذلك باطل فأما قول الثوري إنه إنما يدعي مالا قلنا إنما يدعي النسب والميراث والمال تبع له فإن قيل فهو متهم في أن غرضه حصول الميراث قلنا إن النسب لا تمنع التهمة لحوقه بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن لزمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حيا وهو غني والأب فقير فاستلحقه فهو متهم في إيجاب نفقته على ابنه ويقبل قوله فكذلك ههنا ثم كان ينبغي أن يثبت النسب ههنا لأنه حق للولد ولا تهمة فيه ولا يثبت الميراث المختص بالتهمة ولا يلزم من انقطاع التبع انقطاع الأصل قال القاضي : ويتعلق باللعان أربعة أحكام : حقان عليه وجوب الحد ولحوق النسب وحقان له : الفرقة والتحريم المؤبد فإذا أكذب نفسه قبل قوله فيما عليه فلزمه الحد والنسب فلم يقبل فيما له فلم تزل الفرقة ولا التحريم المؤبد
فصل : فإن لم يكذب نفسه ولكن لم يكن به بينة ولا لاعن أقيم عليه الحد فإن أقيم عليه بعضه فبذل اللعان وقال أنا ألاعن قبل منه لأن اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه كالبينة فإن ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها بالزنا فقال : صدقت البينة وليس ذلك قذفا لأن القذف الرمي بالزنا كذبا وأنا صادق فيما رميتها به لم يكن ذلك إكذابا لنفسه لأنه مصر على رميها بالزنا وله إسقاط الحد باللعان ومذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا فإن قال ما زنت ولا رميتها بالزنا فقامت البينة عليه بقذفها لزمه الحد ولم تسمع بينته ولا لعانه نص عليه أحمد لأن قوله : ما زنت تكذيب للبينة واللعان فلا تثبت له حجة قد أكذبها وجرى هذا مجرى قوله في الوديعة إذا ادعيت عليه فقال ما أودعتني فقامت عليه البينة بالوديعة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ولو أجاب بأنه ما له عندي شيء ولا يستحق علي شيئا فقامت عليه البينة فادعى الرد أو التلف قبل منه

مسائل وفصول شروط اللعان التام وضروب القذف واستلحاق التوأمين
مسألة : قال : وإن قذفها وانتفى من ولدها وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم نفي عنه إذا ذكره في اللعان
وجملة ذلك أن الزوج إذا ولدت امرأته ولدا يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم الولد للفراش ] ولا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان التام الذي اجتمعت شروطه وهي أربعة :
أحدها أن يوجد اللعان منهما جميعا وهذا قول عامة أهل العلم وقال الشافعي : ينتفي بلعان الزوج وحده لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانة لا بيمين المرأة على تكذيبه ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي تثبته وتكذب قول من ينفيه وإنما لعانها لدرء الحد عنها كما قال الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما نفى الولد عنه بعد تلاعنهما فلا يجوز النفي ببعضه كبعض لعان الزوج ( والثاني ) أن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعا
الشرط الثالث : أن يبدأ بلعان الزوج قبل المرأة فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به وبه قال أبو ثور و ابن المنذر وقال مالك وأصحاب الرأي : إن فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينتفي الولد عنه لأن الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو وهي لا تقتضي ترتيبها ولأن اللعان قد وجد منهما جمعا فأشبه ما لو رتبت وعند الشافعي لا يتم اللعان إلا بالترتيب إلا أنه يكفي عنده لعان الرجل وحده لنفي الولد وذلك حاصل مع إخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظ اللعان من المرأة
ولنا أنه أتي باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة فلم يصح ما لو اقتصر على لفظة واحدة ولأن لعان الرجل بينته لإثبات زناها ونفي ولدها ولعان المرأة للإنكار فقدمت بينة الإثبات كتقديم الشهود على الأيمان ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل فإذا قدمت لعانها على لعانه فقد قدمته على وقته فلم يصح كما لو قدمته على القذف
الشرط الرابع : أن يذكر نفي الولد في اللعان فإذا لم يذكر لم ينتف إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار القاضي ومذهب الشافعي وقال أبو بكر : ولا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه وينتفي بزوال الفراش ولأن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد وقال فيه ف [ فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ] رواه أبو داود وفي حديث رواه مسلم عن عبد الله [ أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ففرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما وألحق الولد بأمه ]
ولنا أن من سقط حقه باللعان كان ذكره شرطا كالمرأة ولأن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها وذلك لا يوجب نفي الولد كما لو أقرت به أو قامت به بينة فأما حديث سهل بن سعد فقد روي فيه : وكانت حاملا فأنكر حملها من رواية البخاري [ وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وألحق الولد بالمرأة ] والزيادة من الثقة مقبولة فعلى هذا لا بد من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لأنها من لفظات اللعان
وذكر الخرقي شرطا خامسا وهو تفريق الحاكم بينهما وهذا على الرواية التي تشترط تفريق الحاكم لوقوع الفرقة فأما على الرواية الأخرى فلا يشترط تفريق الحاكم لنفي الولد كما لا يشترط لدرء الحد عنه ولا لفسخ النكاح وشرط أيضا شرطا سادسا وهو أن يكون قد قذفها وهذا شرط اللعان فإنه لا يكون إلا بعد القذف وسنذكره إن شاء الله تعالى
فصل : وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر فاستحلق أحدهما ونفى الآخر لحقا به لأن الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استحلقه ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتباطا لنفيه فإن : كان قد قذف أمها فطالبته بالحد فله إسقاطه باللعان وحكي عن القاضي أنه يحد ولا يملك إسقاطه باللعان وهو مذهب الشافعي لأنه باستلحاقه اعترف بكذبه في قذفه فلم يسمع إنكاره بعد ذلك
ووجه الأول أنه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من وجو الزنا منها كون الولد منه ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه فلا تنافي بين لعانه وبين استحلقاه للولد وإن استحلق أحد التوأمين وسكت عن الآخر لحقه لأنه لو نفاه لحقه فإذا سكت عنه كان أولى ولأن امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر لحقاه جميعا فإن قيل : ألا نفيتم المسكوت عنه لأنه قد نفى أخاه وهما حمل واحد ؟ قلنا : لحوق النسب مبني على التغليب وهو يثبت بمجرد الإمكان وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول لأن اللعان تناول الأول وحده ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ويحتمل أنه ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان ذكره القاضي فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ولا ينتفي بغير اللعان لأنه حمل منفرد وإن استحلقه أو ترك نفيه لحقه وإن كانت قد بانت باللعان لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول وإن لاعنها قبل وضع الأول فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني لأنها بانت اللعان وانقضت عدتها بوضع الأول وكان حملها الثاني بعد انقضاء عدتها في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه
فصل : وإن مات أحد التوأمين أو ماتا معا فله أن يلاعن لنفي نسبهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمه نسب الحي ولا يلاعن إلا لنفي الحد لأن الميت لا يصح نفيه باللعان فإن نسبه قد انقطع بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح لكونه قد انقطع وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي لأنهما حمل واحد
ولنا أن الميت ينسب إليه فيقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له نفي وإسقاط مؤنته كالحي وكما لو كان للميت ولد
مسألة : قال : وإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد
وجملة ذلك أن الرجل لاعن امرأته ونفى ولدها ثم أكذب نفسه لحقه الولد إذا كان حيا بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان ميتا لحقه نسبه أيضا في قول أكثر أهل العلم سواء كان له ولد أو لم يكن وسواء خلف مالا أو لم يخلف وذلك لأن النسب حق للولد فإذا أقر به لزمه وسواء تقدم إنكاره له أو لم يكن ولأن سبب نفيه عنه نفيه له فإذا أكذب نفسه فقد زال سبب النفي وبطل فوجب أن يلحقه نسبه بحكم النكاح للحوق نسبه به
فصل : والقذف على ثلاثة أضرب : واجب : وهو أن يرى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه فإنه يلزمه اعتزالها حتى تنقضي عدتها فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا وأمكنه نفيه عنه لزمه قذفها ونفي ولدها لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني فإذا لم ينفه لحقه الولد وورثه وورث أقاربه وورثوا منه ونظر إلى بناته وأخواته وليس ذلك بجائز فيجب نفيه لإزالة ذلك ولو أقرت بالزنا ووقع في قلبه صدقها فهو كما لو رآها الثاني : أن يراها تزني أو يثبت عنده زناها وليس ثم ولد يلحقه نسبه أو ثم ولد لكن لا يعلم أنه من الزنا أو يخبره بزناها ثقة يصدقه أو يشيع في الناس أن فلانا يفجر بفلانة ويشاهده عندها أو داخلا إليها أو خارجا من عندها أو يغلب على ظنه فجورها فهذا له قذفها لأنه [ روي عن عبد الله أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينكر على هلال والعجلاني قذفهما حين رأيا ] وإن سكت جاز وهو أحسن لأنه يمكنه فراقها بطلاقها ويكون فيه سترها وستر نفسه وليس ثم ولد يحتاج إلى نفيه
الحال الثالث : محرم وهو ما عدا ذلك من قذف أزواجه والأجانب فإن من الكبائر قال الله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ] رواه أبو داود
وقوله [ وهو ينظر إليه ] يعني يراه منه فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم حرم على الرجل جحد ولده ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لأنه غير مأمون على الكذب عليها ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها لأنه يجوز أن يكون دخل سارقا أو هاربا أو لحاجة أو لغرض فاسد فلم يمكنه ولا لاستفاضه ذلك في الناس من غير قرينة تدل على صدقهم لاحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك عنها وفيه وجه آخر أنه يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة ولا بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما ولا لشبهة بغير والديه لما روى أبو هريرة قال : [ جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن امرأتي جاءت بولد أسود يعرض بنفيه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : هل لك من إبل ؟ قال نعم قال : فما ألوانها ؟ قال حمر قال : هل فيها من أورق ؟ قال إن فيها قال : فأنى اتاها ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق قال : فهذا عسى أن يكون نزعه عرق قال ولم يرخص له في الانتفاء منه ] متفق عليه ولأن الناس كلهم من آدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة فلولا مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على خلقة واحدة ولأن دلالة الشبه ضعيفة ودلالة ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوي لمعرضة الضعيف ولذلك لما [ تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأى النبي صلى الله عليه و سلم فيه شبها بينا بعتبة ألحق الولد بالفراش وترك الشبه ] وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي
وذكر القاضي وأبو الخطاب أن ظاهر كلام أحمد جواز نفيه وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث اللعان : إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فأتت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ] فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه والصحيح الأول وهذا الحديث إنما يدل على نفيه عنه مع ما تقدم من لعانه ونفيه إياه عن نفسه فجعل الشبه مرجحا لقوله ودليلا على تصديقه وما تقدم من الأحاديث يدل على استقلال الشبه بالنفي ولأن هذا كان في موضع زال الفراش وانقطع نسب الولد عن صاحبه فلا يثبت مع بقاء الفراش المقتضي لحوق نسب الولد بصاحبه وإن كان يعزل عن امرأته فأتت بولد لم يبح له نفيه لما ذكرنا من حديث جابر وأبي سعيد
[ وعن أبي سعيد أنه قال يا رسول الله إن نصيب من النساء ونحب الأثمان أفنعزل عنهم ؟ قال : إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها ] ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق وأما إن كان لا يطؤها إلا دون الفرج أو في الدبر فأتت بولد فذكر أصحابنا أنه ليس له نفيه لأنه لا يأمن أن يسبق الماء إلى الفرج فيعلق به وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو بعيد لأنه من أحكام الوطء في الفرج فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام ودلالة عدم الوطء في الفرج على انتفاء الولد أشد من دلالة مخالفة الولد لون والديه فأما إن وجد أحد هذه الوجوه التي ذكرنا مع الزنا ويحتمل كونه منه أو من الزاني مثل أن زنت في طهر أصابها فيه أو زنت فلم يعتزلها ولكنه كان يعزل عنها أو كان لا يطؤها إلا دون الفرج أو كان الولد شبيها بالزاني دونه لزمه نفيه لأن هذا مع الزنا يوجب نسبته إلى الزاني بدليل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم بولد امرأة هلال لشريك بن سحماء بشبهه له مع لعان هلال لها وقذفه إياها ] وأما إذا أتت زوجته بولد فشك فيه من غير معرفته لزناها فلا يحل له قذفها ولا لعانها لما تقدم من حديث الفزاري وكذلك إن عرف زناها ولم يعلم أن الولد من الزاني ولا وجد دليل عليه فليس له نفيه لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر
فصل : فإن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه فأتت بولد يمكن أن يكون من الواطىء فهو منه وليس للزوج قذفها بالزنا لأن هذا ليس بزنا منها وقياس المذهب أنه ليس له نفيه ويلحقه النسب لأن نفي الولد لا يكون إلا باللعان ومن شرط اللعان القذف ولأن اللعان لا يتم إلا بلعان المرأة ولا يصح اللعان من المرأة ههنا لأنها لا تكذب الزوج في إكراهها على ذلك وهذا قول أصحاب الرأي
وذكر بعض أصحابنا في ذلك روايتين إحداهما : له نفيه باللعان لأنه محتاج إلى نفيه فكان له نفيه كما لو زنت مطاوعة وهذا مذهب الشافعي وهذا إنما يصح عند الشافعي لأنه يرى نفي الولد بلعان الزوج وحده وأما من لا يرى ذلك فلا يصح عنده النفي باللعان ههنا والله تعالى أعلم

مسألة وفصول قال : وإن نفى الحمل في التعانة وحكم ما لو ولدت امرأته فسكت عن نفيه
مسألة : قال : وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف عنه حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن
اختلف أصحابنا فيما إذا لاعن امرأته وهي حامل ونفى حملها في لعانه فقال الخرقي وجماعة : ولا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة لأن الحمل غير متسيقن يجوز أن يكون ريحا أو غيرها فيصير نفيه مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط وقال مالك و الشافعي وجماعة من أهل الحجاز : يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه و سلم وألحقه بالأول ولا خفاء بأنه كان حملا ولهذا [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : انظروها فإن جاءت به كذا وكذا ] قال ابن عبد البر : الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة وأوردها ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها وغير ذلك مما يطول ذكره ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان وقال أبو بكر : ينتفي الولد يزوال الفراش ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجا بظاهر الأحاديث حيث لم ينقل فيها نفي الحمل ولا التعرض لنفيه وقد ذكرنا ذلك فأما من قال إن الولد لا ينتفي إلا بنفيه بعد الوضع فإنه يحتاج في نفيه إلى إعادة اللعان بعد الوضع وقال أبو حنيفة ومن وافقه : إن لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه ولم يتمكن من نفيه لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانها في حال حملها وهذا فيه إلزامه ولدا ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا والله تعالى قد جعل له إلى ذلك طريقا فلا يجوز سده وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف الزنا إليها فيه لأن الولد الذي تاتي به يلحقه إذا لم ينفه فيحتاج إلى نفيه وهذه كانت زوجة في تلك الحال فملك نفي ولدها والله أعلم
فصل : وإن استحلق الحمل فمن قال لا يصح نفيه قال لا يصح استلحاقه وهو المنصوص عن أحمد ومن جاز نفيه قال لا يصح استلحاقه وهو مذهب الشافعي لأنه محكوم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث فصح الإقرار به كالمولود وإذا استلحقه لم يملك نفيه بعد ذلك كما لو استلحقه بعد الوضع ومن قال لا يصح استلحاقه قال : لو صح استلحاقه لزمه بترك نفيه كالمولود ولا يلزمه ذلك بالإجماع ولأن للشبه أثرا في الإلحاق بدليل حديث الملاعنة وذلك مختص بما بعد الوضع فاختص صحة الاستلحاق به فعلى هذا لو استلحقه ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك فأما إن سكت عنه فلم ينفه ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحد علمنا قوله لأن تركه يحتل أن يكون لأنه لا يتحقق وجوده إلا أن يلاعنها فإن أبا حنيفة ألزمه الولد على ما أسلفناه
فصل : وإذا ولدت امرأته ولدا فسكت عن نفيه مع إمكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك وبهذا قال الشافعي قال أبو بكر : لا يتقدر ذلك بثلاث بل هو على ما جرت به العادة إن كان ليلا فحتى يصبح وينتشر الناس وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب أو ينام إن كان ناعسا أو يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلي إن حضرته الصلاة ويحرز ماله إن كان غير محرز وأشباه ذلك من أشغاله فإن أخره بعد هذا كله لم يكن له نفيه وقال أبو حنيفة له تأخير نفيه يوما ويومين استحسانا لأن النفي عقيب الولادة يشق فقدر باليومين لقلته وقال أبو يوسف و محمد : يتقدر بمدة النفاس لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم وحكي عن عطاء و مجاهد أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه كحالة الولادة
ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على الفور كخيار الشفعة وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الولد للفراش ] عام خرج منه ما اتفقنا عليه مع السنة الثابتة فما عداه يبقى على عموم الحديث وما ذكره أبو حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والأخذ بالشفعة وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل عليه وما قاله عطاء يبطل أيضا بما ذكرناه ولا يلزم القصاص لأنه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لأنه لم يتحقق ضرره إذا ثبت هذا فهل يتقدر الخيار في النفي بمجلس العلم أو بإمكان النفي على وجهين بناء على المطالبة بالشفعة فإن أخر نفيه عن ذلك ثم ادعى أنه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في موضع يخفى عليه ذلك مثل أن يكون في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم العلم وإن لم يمكن مثل أن يكون معها في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لي نفيه أو علمت ذلك ولم أعلم أنه على الفور وكان ممن يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل منه لأن هذا مما يخفى عليهم فأشبه ما لو كان حديث عهد بالإسلام وإن كان فقيها لم يقبل ذلك منه لأنه مما لا يخفى عليه ذلك ويحتمل أن يقبل منه لأن الفقيه يخفى عليه كثير من الأحكام وقال أصحابنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشيء ببادية وحديث العهد بالإسلام وهل يقبل من سائر العامة ؟ على وجهين وإن كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه المرض والحبس أو الاشتغال بحفظ مال يخاف ضيعته أو بملازمة غريم يخاف قوته أو غيبته نظرت فإن كانت مدة ذلك قصيرة فأخره إلى الحضور ليزول عذره لم يبطل نفيه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح وإن كانت تتطاول فأمكنه النتفيذ إلى الحاكم لبيعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي فلم يفعل سقط نفيه فإن لم يمكنه أشهد على نفسه أن ناف لولد امرأته فإن لم يفعل بطل خياره لأنه إذا لم يقدر على نفيه كان الإشهاد قائما مقامه كما يقيم المريض الفيئة بقوله بدلا عن الفيئة بالجماع فإن قال : لم أصدق المخبر عنه نظرت فإن كان مستفيضا منتشرا لم يقبل قوله وإن لم يكن مستفيضا وكان المخبر مشهور العدالة لم يقبل وإلا قبل وإن قال : لم أعلم أن علي ذلك قبل قوله لأنه مما يخفى وإن علم وهو غائب فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره وإن أقام من غير حاجة بطل لأنه أخره لغير عذر وإن كانت له حاجة تمنعه من السير فهو على ما ذكرنا من قبل وإن أخر نفيه لغير عذر وقال : أخرت نفيه رجاء أن يموت فأستر عليه وعلي بطل خياره لأنه أخر نفيه مع الإمكان لغير عذر
فصل : فإن هنىء به فأمن على الدعاء لزمه في قولهم جميعا وإن قال : أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لزمه الولد وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يلزمه لأنه جازاه على قصده وإذا قال رزقك الله مثله فليس ذلك إقرارا ولا متضمنا له
ولنا أن ذلك جواب الراضي في العادة فكان إقرارا كالتأمين على الدعاء وإن سكت كان إقرارا ذكره أبو بكر لأن السكوت صلح دالا على الرضا في حق البكر وفي مواضع أخر فههنا أولى وفي ل موضع لزمه الولد لم يكن له نفيه بعد ذلك في قول جماعة أهل العلم منهم الشعبي و النخعي وعمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي وقال الحسن : له أن يلاعن لنفيه ما دامت أمه عنده يصير لها الولد ولو أقر به والذي عليه الجمهور أولى فإنه أقر به فلم يملك جحده كما لو بانت منه أمه ولأنه أقر بحق عليه فلم يقبل منه جحده كسائر الحقوق

مسألة وفصل انكار الولد الذي ولدته امرأته لا يوجب الحد
مسألة : قال : ولو جاءت امرأته بولد فقال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم ولا حد عليه لها
وجملة ذلك أن المرأة إذا ولدت فقال زوجها ليس هذا الولد مني أو قال : ليس هذا ولدي فلا حد عليه لأن هذا ليس بقذف بظاهره لاحتمال أنه يريد أنه من زوج آخر أو من وطء بشبهة أو غير ذلك ولكنه يسأل فإن قال زنت فولدت هذا من الزنا فهذا قذف يثبت به اللعان وإن قال أردت أنه لا يشبهني خلقا ولا خلقا فقالت بل أردت قذفي فالقول قوله لأنه أعلم لمراده لا سيما إذا صرح بقوله : لم تزن وإن قال : وطئت بشبهة والولد من الواطىء فلا حد عليه أيضا لأنه لم يقذفها ولا قذف واطئها وإن قال : أكرهت على الزنا فلا حد أيضا لأنه لم يقذفها ولا لعان في هذه المواضع لأنه لم يقذفها ومن شرط اللعان القذف ويلحقه نسب الولد وبهذا قال أبو حنيفة
وذكر القاضي أن في هذه الصورة الآخرة رواية أخرى أن له اللعان لأنه محتاج إلى نفي الولد بخلاف ما إذا قال : وطئت بشبهة فإنه يمكن نفي النسب بعرض الولد على القافة فيستغني بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع لعان أمته لما أمكن نفي نسب ولدها بدعوى الاستبراء وهذا مذهب الشافعي
ولنا أن اللعان إنما ورد الشرع بعد القذف في قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآية ولما لاعن النبي صلى الله عليه و سلم بين هلال وامرأته كان بعد قذفه إياها وكذلك لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته كان بعد قذفه إياها ولايثبت الحكم إلا في مثله ولأن نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بتمامه منهما ولا يتحقق اللعان من المرأة ههنا فأما ههنا فأما إن قال : وطئك فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فقد قذفها وله لعانها ونفي نسب ولدها وقال القاضي : ليس له نفيه باللعان وكذلك قال أصحاب الشافعي لأنه يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة فأشبه ما لو قال : واشتبه علي أيضا
ولنا أنه رام لزوجته فيدخل في عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأنه رام لزوجته بالزنا فملك لعانها ونفى ولدها كما لو قال : زنى بك فلان وما ذكروه لا يصح فإنه لا يوجد قافة وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه أو يغيب أو يموت فلا ينتفي الولد وإن قال ما ولدته وإنما التقطته أو استعارته فقالت بل هو ولدي منك لم يقبل قول المرأة إلا ببينة وهذا قول الشافعي و أبي ثور واصحاب الرأي لأن لولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم تقبل دعواها من غير بينة كالدين قال القاضي : وكذلك لا تقبل دعواها للولادة فيما إذا علق طلاقها بها ولا دعوى الأمة لها لتصير بها أم ولد ويقبل قولها فيه لتقضي عدته بها فعلى هذا لا يلحقه الولد إلا أن تقيم بينة وهي امرأة نرضية تشهد بولادتها له فإذا ثبتت ولادتها له لحقه نسبه لأنه ولد على فراشه والولد للفراش
وذكر القاضي في موضع آخر أن القول قول المرأة لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه ولأنه خارج من المرأة تنقضي به عدتها فقبل قولها فيه كالحيض ولأنه حم يتعلق بالولادة فقبل قولها فيه كالحيض فعلى هذا النسب لاحق به وهل له نفيه باللعان ؟ فيه وجهان :
أحدهما : ليس له نفيه لإن إنكاره لولادتها إياه إقرار بأنها لم تلده من زنا فلا يقبل إنكاره لذلك لأنه تكذيب لنفسه والثاني : له نفيه لأنه رام لزوجته وناف لولدها فكان له نفيه باللعان كغيره
فصل : ومن ولدت مرأته ولدا لا يمكن كونه منه في النكاح لم يلحقه نسبه ولم يحتج إلى نفيه لأنه يعلم أنه ليس منه فلم يلحقه كما لو أتت به عقيب نكاحه لها وذلك مثل أن تأتي به لدون ستة أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به في قول كل من علمنا قوله من أهل العلم لأننا نعلم أنها علقت به قبل أن يتزوجها وإن كان الزوج طفلا له أقل من عشر سنين فأتت بولد لم يلحقه لأنه لم يوجد ولد لمثله ولا يمكنه الوطء وإن كان له عشر فحملت المرأته لحقه ولدها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : واضربوهم على الصلاة لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] وقال القاضي : يلحق به إذا أتت به لتسعة أعوام ونصف عام مدة الحمل لأن لجارية يولد لها لتسع فكذلك الغلام وقال أبو بكر : لا يلحقه حتى يلغ لأن الولد إنما يكون من الماء ولا ينزل حتى يبلغ
ولنا أنه زمن يمكن البلوغ فيه فيلحقه الولد كالبالغ [ وقد روي أن عمرو بن العاص وابنه عبد الله لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عاما ] وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتفريق بينهم دليل على إمكان الوطء الذي هو سبب الولادة وأما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح فإن الجارية يمكن الاستمتاع بها لتسع عادة والغلام لا يمكنه الاستمتاع لتسع وقد تحيض لستع وما عهد بلوغ غلام لتسع ولو تزوج رجل إمرأة في مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ثم أتت إمرأة بولد لستة أشهر من حين العقد أو تزوج مشرقي بمغربية ثم ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه وبذلك قال مالك والشافعي وقال أيو حنيفة : يلحقه نسبه لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء
ولنا أنه لم يحصل إمكان الوطء بهذا العقد فلم يلحق به الولد كزوجة ابن سنة أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر وفارق ما قاسوا عليه لأن الإمكان إذا وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن يكون وطئها من حيث لا يعلم ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطء فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح ولم يجز حذف الإمكان عن الاعتبار لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه فلم يجز إلحاقه به مع يقين كونه ليس منه وإن ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحق نسبه به في قول عامة أهل العلم لأنه يستحيل منه الإنزال والإيلاج وإن قطعت أنثياه دون ذكره فكذلك لأنه لا ينزل ما يخلق منه الولد وقال أصحابنا : يلحقه النسب لأنه يتصور مته الإيلاج وينزل ماء رقيقا
ولنا أن هذا لا يخلق منه ولد عادة ولا وجد ذلك فأشبه ما لو قطع ذكره معهما ولا اعتبار بإيلاج لا يخلق منه الولد كما لو أولج أصبعه وأما قطع ذكره وحده فإنه يلحقه الولد لأنه يمكن أن يساحق فينزل ماء يخلق منه الولد ولأصحاب الشافعي اختلاف في ذلك على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا قال ابن اللبان : لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور
وقال بعضهم : يلحقه بالفراش وهو غلط لأن الولد إنما يلحق بالفراش إذا أمكن ألا ترى أنها إذا ولدت بعد شهر منذ تزوجها لم يلحقه وههنا لا يمكن لفقد المني من المسلول وتعذر إيصال المني إلى قرار الرحم من المجبوب ولا معنى لقول من قال : يجوز أن تستدخل المرأة مني الرجل فتحمل لأن الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعا ولذلك يأخذ الشبه منهما وإذا استدخلت المني بغير جماع لم تحدث لها لذة تمني بها فلا يختلط منهما
ولو صح ذلك لكان الأجنبيان الرجل والمرأة إذا تصادقا أنها استدخلت منيه وإن الولد من ذلك المني يلحقه نسبه وما قال ذلك أحد

فصول ولادة المطلقة ولدا ثم آخر وحكم من غاب عن زوجته سنين فطلقت منه ثم عاد
فصل : وإن طلق امرأته وهي حامل فوضعت ولدا ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر فهو من الزوج لأننا نعلم أنهما حمل واحد فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق الزوج وانتفى عنه من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة وكونها أجنبية فهي كسائر الأجنبيات وإن طلقها فاعتدت بالإقراء ثم ولدت ولدا قبل مضي ستة أشهر من آخر إقرائها لحقه لأننا تيقنا أنها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ونعلم أنها كانت حاملا به في زمن رؤية الدم فيلزم أن لا يكون الدم حيضا فلم تنقض عدتها به وإن أتت به لأكثر من ذلك لم يلحق بالزوج وهذا قول أبي العباس بن سريج وقال غيره من أصحاب الشافعي : يلحق به لأنه يمكن أن يكون منه والولد يلحق بالإمكان
ولنا أنها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل وإنما يعتبر الإمكان مع بقاء الزوجة أو العدة وأما بعدهما فلا يكتفى بالإمكان للحاقه وإنما يكتفى بالإمكان لنفيه وذلك لأن الفراش سبب ومع وجود السبب يكتفى بإمكان الحكمة واحتمالها فإذا انتفى السبب وآثاره فينتفي الحكم لانتفائه ولا يلتفت إلى مجرد الإمكان والله أعلم فأما إن وضعته قبل انقضاء العدة لأقل من أربع سنين لحق بالزوج ولم ينتف عنه إلا باللعان وإن وضعته لأثر من أربع سنين من حين الطلاق وكان بائنا انتفى عنه بغير لعان لأننا علمنا أنها علقت به بعد زوال الفراش وإن كان رجعيا فوضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة فكذلك لأنها علقت به بعد البينونة وإن وضعته لأكثر من أربع سنين منذ الطلاق ولأقل منها منذ انقضت العدة ففيه روايتان : إحداهما : لا يلحقه لأنها لم تعلق به قبل طلاقها فأشبهت البائن والثانية : يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء والحل في رواية فأشبه ما قبل الطلاق
فصل : فإن غاب عن زوجته سنين فبلغتها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر ودخل بها الثاني وأولدها أولادا ثم قدم الأول فسخ نكاح الثاني وردت إلى الأول وتعتد من الثاني ولها عليه صداق مثلها والأولاد له أنهم ولدوا على فراشه روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري وأهل العراق و ابن أبي ليلى و مالك و أهل الحجاز و الشافعي و إسحاق و أبي يوسف وغيرهم من أهل العلم إلا أبا حنيفة قال : الولد للأول لأنه صاحب الفراش لأن نكاحه صحيح ثابت ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي
ولنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له دون غيره كولد الأمة من زوجها يلحقه دون سيدها وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح
فصل : وإن وطىء رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه وهذا قول الشافعي و أبي حنيفة وقال القاضي : وجدت بخط أبي بكر أنه لا يلحق به لأن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح أو فاسد أو ملك أو شبهة ملك ولم يوجد شيء من ذلك ولأنه وطء لا يستند إلى عقد فلم يلحق الولد فيه بالوطء كالزنا والصحيح في المذهب الأول
قال أحمد : كل من درأت عند الحد ألحقت به الولد ولأنه وطء اعتقد الواطىء حله فلحق به السنب كالوطء في النكاح الفاسد وفارق وطء الزنا فإنه لا يعتقد الحل فيه ولو تزوج رجلان اختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطىء لأنه وطء يعتقد حله فلحق به النسب كالوطء في نكاح فاسد
وقال أبو بكر لا يكون الولد للواطىء وإنما يكون للزوج وهذا الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة لأن الولد للفراش ولنا أن الواطىء انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به كما لو لم تكن ذات زوج وكما لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا والخبر مخصوص بهذا فنقيس عليه ما كان في معناه وإن وطئت امرأته أو أمته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى أتت بولد لستة أشهر من حين الوطء لحق الواطىء وانتفى عن الزوج من غير لعان وعلى قول أبي بكر و ابي حنيفة : يلحق الزوج لأن الولد للفراش وإن أنكر الواطىء الوطء فالقول قوله بغير يمين ويلحق نسب الولد بالزوج لأنه لا يمكن إلحاقه بالمنكر ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد وإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطء لحق الزوج بكل حال لأننا نعلم أنه ليس من الواطىء وإن اشتركا في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لأن الولد للفراش وقد أمكن كونه منه وإن ادعى الزوج أنه من الواطىء فقال بعض أصحابنا : يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته منهما فإن ألحقته بالواطىء لحقه ولم يملك نفيه عن نفسه وانتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج لحق ولم يملك نفيه باللعان في أصح الراويتين والأخرى : له ذلك وإن ألحقته بهما لحق بهما ولم يملك الواطىء نفيه عن نفسه وهل يملك الزوج نفيه باللعان ؟ على روايتين وإن لم توجد قافة أو أنكر الواطىء الوطء أو اشتبه على القافة لحق الزوج لأن المقتضي للحاق النسب به متحقق ولم يوجد ما يعارضه فوجب إثبات حكمه ويحتمل أن يلحق الزوج بكل حال لأن دلالة قول القافة ضعيفة ودلالة الفراش قوية فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة
فصل : وإن أتت بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرنا فإن كانت تزوجت بعد انقضاء العدة لم يلحق بالأول بحال وإن كان بعد أربع سنين منذ بانت من الأول لم يلحق به أيضا وإن وضعته لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني : لم يلحق به وينتفي عنهما وإن كان لأكثر من ستة أشهر فهو ولده وإن كان لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولأقل من أربع سنين من طلاق الأول ولم يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما فإن ألحقته بالأول انتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج انتفى عن الأول ولحق الزوج وهل له نفيه باللعان ؟ على روايتين

مسائل وفصول اللعان الذي يبرأ به من الحد وألفاظ اللعان وصفته وشروطه
مسألة : قال : واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم : أشهد بالله لقد زنت ويشير إليها وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يوقف عند الخامسة ويقال به : اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب أربع مرات ثم توقف عند الخامسة تخوف كما خوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل : وغضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا
في هذه المسألة مسألتان :
المسألة الأولى : أن اللعان لا يصح إلا بمحضر من الحاكم أو من يقوم مقامه وهذا مذهب الشافعي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما ولأنه إما يمين وإما شهادة فأيهما كان فمن شرطه الحاكم ] وإن تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن بينهما لم يصح ذلك لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد وسواء كان الزوجان حرين أو مملوكين في ظاهر كلام الخرقي وقال أصحاب الشافعي : للسيد أن يلاعن بين عبده وأمته لأن له إقامة الحد عليهما
ولنا أنه لعان بين زوجين فلم يجز لغير الحاكم أو نائبه كاللعان بين الحرين ولا نسلم أن السيد يملك إقامة الحد على أمته المزوجة ثم لا يشبه اللعان الحد لأن الحد زجر وتأديب واللعان إما شهادة وإما يمين فافترقا ولأن اللعان دارىء للحد وموجب له فجرى مجرى إقامة البينة على الزنا والحكم به أو بنفيه وإن كانت المرأة خفرة لا تبرز لحوائجها بعث الحاكم نائبه وبعث معه عدولا ليلاعنوا بينهما وإن بعث نائبه وحده جاز لأن الجمع غير واجب
فصل : ويستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعا للرجال ولأن اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع به والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك ويستحب أن لا ينقصوا عن أربعة لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة وليس شيء من هذا واجبا ويستحب أن يتلاعنا قياما فيبدأ الزوج فيلتعن وهو قائم فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لهلال بن أمية : قم فاشهد أربع شهادات ] ولأنه إذا قام شاهده الناس فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس ذلك واجبا وبهذا كله قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
فصل : قال القاضي : ولا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان وبهذا قال أبو حنيفة لأن الله تعالى أطلق الأمر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز تقييده إلا بدليل ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرجل بإحضار امرأته ] ولم يخصه بزمن ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل وقال أبو الخطاب : يستحب أن يتلاعنا في الأزمان والأماكن التي تعظم وهذا مذهب الشافعي إلا أن عنده في التغليظ بالمكان قولين : أحدهما : أن التغليظ به مستحب كالزمان والثاني : أنه واجب ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لاعن عند المنبر ] فكان فعله بيانا للعان ومعنى التغليظ بالمكان أنهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين الركن والمقام فإنه أشرف البقاع وإن كان في المدينة فعند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في جوامعها وأما الزمان فبعد العصر لقول الله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } وأجمع المفسرون على أن المراد بالصلاة صلاة العصر قال أبو الخطاب : في موضع أو بين الأذانين لأن الدعاء بينهما لا يرد والصحيح الأول ولو استحب ذلك لفعله النبي صلى الله عليه و سلم ولو فعله لنقل ولم يسغ تره وإهماله وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه و سلم لاعن بينهما عند المنبر فليس هذا في شيء من الأحاديث المشهورة وإن ثبت هذا فيحتمل أنه كان بحكم الإتفاق لأن مجلسه كان عنده فلاعن بينهما في مجلسه فإن كان اللعان بين كافرين فالحكم فيه كالحكم في اللعان بين المسلمين ويحتمل أن يغلظ في المكان لقوله في الأيمان وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها فعلى هذا يلاعن بينهما في مواضعهم اللاتي يعظمونها النصراني في البيعة واليهودي في الكنيسة والمجوسي في بيت النار وإن لم يكن لهم مواضع يعظمونها حلفهم الحاكم في مجلسه لتعذر التغليظ بالمكان وإن كانت المسلمة حائضا وقلنا إن للعان بينهما يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله لأن ذلك أقرب المواضع إليه
المسألة الثانية : في ألفاظ اللعان وصفته : اما ألفاظه فهي خمسة في حق كل واحد منهما وصفته أن الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له : قل أربع مرات أشهد إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ويشير إليها إن كانت حاضرة ولا يحتاج مع الحضور والإشارة إلى نسبه وتسميته كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود وإن كانت غائبة أسماها ونسبها فقال : امرأتي فلانة بنت فلان ويرفع في نسبها حتى ينفي المشاركة بينها وبين غيرها فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له : اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون ن عذاب الآخر وكل شيء أهون من لعنة الله ويأمر رجلا فيضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه فإن رآه يمضي في ذلك قال له : قل : وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا
ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها : قولي أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه وإن كان غائبا أسمته ونسبته فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا في حق الزوج ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها فإن رآها تمضي على ذلك قال لها : قولي : وإن غضب الله علي إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا
قال إسحاق بن منصور قلت لـ أحمد كيف يلاعن ؟ قال علي ما في كتاب الله يقول أربع مرات أشهد بالله إني فيما رميتها به لمن الصادقين ثم يوقف عند الخامسة فيقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين والمرأة مثل ذلك توقف عند الخامسة فيقال له : اتقي الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فإن حلفت قالت غضب الله عليها إن كان من الصادقين وعدد هذه الألفاظ الخمسة شرط في اللعان فإن أخل بواحدة منها لم يصح على ما ذكرناه فيما مضى وإن أبدل لفظا منها فظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يبدل قوله : إني لمن الصادقين بقوله : لقد زنت لأن معناهما واحد ويجوز لها إبدال إنه لمن الكاذبين بقولها : لقد كذب لأنه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أولى وأحسن وإن أبدل لفظه أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال أحلف أو أقسم أو أولي لم يعتد به
وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يعتد به لأنه أتى بالمعنى فأشبه ما لو أبدل إني لمن الصادقين بقوله لقد زنت ولـ لشافعي وجهان في هذا والصحيح أنه لا يصح لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق ولأن اللعان يقصد فيه الغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز تركه ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد
والثاني : يعتد به لأنه أتى بالمعنى أشبه ما قبله ولـ لشافعي وجهان كهذين وإن أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد لم يجز لأن لفظ اللعنة أبلغ في الزجر وأشد في أنفس الناس ولأنه عدل عن المنصوص وقيل : يجوز لأن معناهما واحد وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا خصت المرأة به لأن المعزة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدلتها بالسخط خرج على وجهين فيما إذا أبدل الرجل لفظة اللعنة بالإبعاد وإن أبدل الرجل لفظة اللعنة بالغضب احتمل أن يجوز لأنه أبلغ واحتمل أن لا يجوز لمخالفته المنصوص
قال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى : من الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين فيما رميتها به من الزنا واشترط في نفيها عن نفسها فيما رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج إليه لأن الله سبحانه أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الاشتراط
وأما موعظة الإمام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهي مستحبة في قول أكثر أهل العلم لما روى ابن عباس قال : لما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وروى أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده حديث المتلاعنين قال : فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل فقال لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ثم أمر بها فأمسك على فيها وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من عذاب الله وذكر الحديث
فصل : ويشترط في صحة اللعان شروط ستة أحدها : أن يكون بمحضر الإمام أو نائبه الثاني : أن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد إلقائه عليه فإن بادر به قبل أن يلقيه الإمام عليه لم يصح كما لو حلف قبل أن يحلفه الحاكم الثالث : استكمال لفظات اللعان الخمسة فإن نقص منها لفظة لم يصح الرابع : أن يأتي بصورته إلا ما ذكرنا من الاختلاف في إبدال لفظة بمثلها في المعنى الخامس : الترتيب فإن قدم لفظة اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل لم يعتد به السادس : الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضرا وتسميته ونسبته إن كان غائبا ولا يشترط حضورهما معا بل لو كان أحدهما غائبا عن صاحبه مثل : أن لاعن الرجل في المسجد والمرأة على بابه لعدم إمكان دخولها جاز
فصل : وإذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية وإن كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما الالتعان بلسانهما لموضع الحاجة فإن كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ويستحب أن يحضر معه أربعة يحسنون لسانهما وإن كان الحاكم لا يحسن لسانهما فلا بد من ترجمان قال القاضي : ولا يجزىء في الترجمة أقل من اثنين عدلين وهو قول الشافعي وظاهر قول الخرقي لأنه قال : ولا يقبل في الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه أقل من عدلين يعرفان لسانه وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أنه يجزىء قول عدل واحد وهو قول أبي حنيفة وسنذكر ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى

مسألة قال : وإن كان بينهما في اللعان ولد
مسألة : قال : وإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد فإذا قال : أشهد بالله لقد زنت يقول : وما هذا الولد ولدي وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب وهذا الولد ولده
وجملة ذلك أنه متى كان اللعان لنفي ولد فلا بد من ذكره في لعانهما وقال الشافعي : لا تحتاج المرأة إلى ذكره لأنها لا تنفيه وإنما احتاج الزوج إلى ذكره لنفيه وقال أبو بكر : لا يحتاج واحد منهما إلى ذكره وينتفي بزوال الفراش
ولنا أن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه المرأة والمرأة أحد الزوجين فكان ذكر الولد شرطا في لعانها كالزوج ولأنهما متحالفان على شيء فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين في اليمين وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقول الزوج : وما هذ الولد ولدي ومن المرأة بقولها : وهذا الولد ولده وقال القاضي يشترط أن يقول هذا الولد من زنا وليس هو مني وهو مذهب الشافعي لأنه قد يريد بقوله ليس هو مني يعني خلقا وخلقا ولم نقتصر على قوله من زنا لأنه قد يعتقد أن الوطء في نكاح فاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعا
ولنا أنه نفى الولد في اللعان فاكتفى به كما لو ذكر اللفظين وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل ولا ينتفي الاحتمال بضم إحدى اللفظتين إلى الأخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطء فاسد واعتقد أن ذلك زنا صح منه أن يقول اللفظتين جميعا وقد يريد أنه لا يشبهني خلقا وخلقا او أنه من وطء فاسد فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عنه وإن أراد نفيه أعاد اللعان ويذكر نفي الولد فيه

فصول قذف الرجل امرأته بالزنا برجل وقذف أكثر من زوجته وتكرار القذف
فصل : وإذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه فقد قذفهما وإذا لاعنها سقط الحد عنه لهما سواء ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره وإن لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة وأيهما طالب حد له ومن لم يطالب فلا يحد له كما لو قذف رجلا بالزنا بامرأة معينة وبهذا قال أبو حنيفة مالك إلا في أنه لا يسقط حده بلعانها وقال بعض أصحابنا : القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة ولا الحد لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك ابن سحماء فلم يحده النبي صلى الله عليه و سلم ولا عزره له
وقال بعض أصحاب الشافعي : يجب الحد وهل يجب حد واحد أو حدان ؟ على وجهين وقال بعضهم : لا يحد إلا حد واحد قولا واحدا ولا خلاف بينهم أنه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه أنه يسقط عنه حكمه وإن لم يذكره فعلى وجهين
ولنا أن اللعان في احد الطرفين فكان بينة في الطرف الآخر كالشهادة ولأن به حاجة إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد للمقذوف على صدق قاذفه كما استدل النبي صلى الله عليه و سلم على صداق هلال بشبه الولد لشريك بن سحماء فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها قياسا له عليها
فصل : ولو قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما فيخرج من حد الأجنبية بالبينة خاصة ومن حد الزوجة بالبينة أو اللعان وإن قذفهما بكلمة فكذلك إلا أنه إذا لم يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما واحدا أو حدين ؟ على روايتين إحداهما : يحد حدا واحدا وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في القديم وزاد أبو حنيفة سواء كان بكلمة أو بكلمات لأنهما حدود من جنس فوجب أن تتداخل كحدود الزنا والثانية : إن طالبوا مجتمعين فحد واحد وإن طالبوا متفرقين فلكل واحد حد لأنهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن إيفاؤهم بالحد الواحد وإذا تفرقوا لم يمكن جعل الحد الواحد إيفاء لمن لم يطالب لأنه لا يجوز إقامة الحد له قبل المطالبة منه وقال الشافعي في الحد : يقام لكل واحد حد بكل حال لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون
ولنا أنه إذا قذفهما بكلمة واحدة يجزىء حد واحد لأنه يظهر كذبه في قذفه وبراءة عرضهما من رميه بحد واحد فأجزأ كما لو كان القذف لواحد وإذا قذفهما بكلمتين وجب حدان لأنهما قذفان لشخصين فوجب لكل واحد حد كما لو قذف الثاني بعد حد الأول وهكذا الحكم فيما إذ قذف أجنبيتين أو أجنبيات فالتفصيل فيه على ما ذكرناه وإن قذف أربع نسائه فالحكم في الحد كذلك وإن أراد اللعان فعليه أن يلاعن لكل واحدة لعانا مفردا ويبدأ بلعان التي تبدأ بالمطالبة فإن طالبن جميعا وتشاححن بدأ بإحداهن بالقرعة وإن لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة من المشاحة صح ويحتمل أن يجزئه لعان واحد فيقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به كل واحدة من زوجاتي هؤلاء الأربع من الزنا وتقول كل واحدة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا لأنه يحصل المقصود بذلك والأول أصح لأن اللعان أيمان فلا تتداخل لجماعة كالأيمان في الديون
فصل : ولو قال لزوجته يا زانية بنت الزانية فقد قذفها وقذف أمها بكلمتين والحكم في الحد لهما على ما مضى في التفصيل فيه فإن اجتمعا في المطالبة ففي أيتهما يقدم ؟ فيه وجهان أحدهما : الأم لأن حقها آكد لكونه لا يسقط إلا بالبينة ولأن لها فضيلة الأمومة والثاني : تقديم البنت لأنه بدأ بقذفها ومتى حد لإحداهما ثم وجب عليه الحد للأخرى لم يحد حتى يبرأ جلده من حد الأولى فإن قيل إن الحد ههنا حق لآدمي فلم لا يتوالى بينهما كالقصاص فإنه لو قطع يدي رجلين قطعنا يديه لهما ولم نؤخره ؟ قلنا لأن حد القذف لا يتكرر بتكرر سببه قبل إقامة حده فالموالاة بين حدين فيه تخرجه عن موضوعه والقصاص يجوز أن تقطع الأطراف كلها في قصاص واحد فإذا جاز لواحد فلاثنين أولى
فصل : وإن قذف محصنا مرات فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا آخر أو كرر القذف بالأول لأنهما حدان ترادف سببهما فتداخلا كالزنا مرارا وإن قذفه فحد له ثم قذفه مرة أخرى بذلك الزنا فلا حد عليه لأنه قد تحقق كذبه فيه بالحد فلا حاجة إلى إظهار كذبه فيه ثانيا ولما جلد عمر ابا بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة أعاد قذفه فهم عمر بإعادة الحد عليه فقال له علي إن جلدته فارجم صاحبه فتركه ولكنه يعزر تعزير السب والشتم وذكر القاضي أن فيه رواية أخرى أن عليه الحد ثانيا لأنه قذف ثان بعد إقامة الحد عليه فأشبه ما لو قذفه بزنا ثان وأما إن قذفه بزنا آخر فعليه حد آخر لأنه قذف لمحصن لم يحد فيه فوجب أن يتعقبه الحد كالأول ولأن سبب الحد وجد بعد إقامته فأعيد عليه كالزنا والسرقة وعن أحمد رواية أخرى لا حد عليه في الثاني لأنه حد لصاحبه مرة فلا يعاد عليه الحد كما لو قذفه بالزنا الأول وعلى هذه الرواية يعزر تعزير السب والشتم وهذه الرواية الثانية فيما إذا تقارب القذف الثاني من الحد فأما إذا تباعد زمانهما وجب الحد بكل حال لأنه لا يجوز أن يكون حده مرة من أجله فوجب إطلاق عرضه له ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا إلا أنهم حكوا عن الشافعي فيما إذا أعاد القذف بزنا ثان قبل إقامة الحد قولين أحدهما : يجب حد واحد والثاني : يجب حدان فأما إن قذف أجنبية ثم تزوجها ثم قذفها فعليه الحد للقذف الأول ولا شيء عليه للثاني في قول أبي بكر و حكي نحو ذلك عن الزهري و الثوري و أصحاب الرأي لأنه لو قذف أجنبية قذفين لم يجب عليه أكثر من حد واحد واختار القاضي أنه إن قذفها بالزنا الأول لم يكن عليه أكثر من حد واحد وليس له إسقاطه إلا بالبينة وإن قذفها بزنا آخر فهو على الراويتين فيما إذا قذف الأجنبية ثم حد لها ثم قذفها بزنا آخر فإن قلنا يجب حدان فطالبت المرأة بموجب القذف الأول فاقام به بينة سقط عنه حده ولم يجب في الثاني حد لأنها غير محصنة وإن لم يقم بينة حد لها ومتى طالبته بموجب الثاني فأقام به بينة أو لاعنها سقط وإلا وجب عليه الحد أيضا لأن هذا القذف موجبه غير موجب الأول فإن لأول موجبه الحد على الخصوص والثاني موجبه للعان والحد إن بدأت بالمطالبة بموجب الثاني فأقام بينة به أو لاعن سقط حده ولها المطالبة بموجب الأول فإن أقام به بينة وإلا حد
قال القاضي : إن أقام بالثاني بينة سقط موجب الأول وهو مذهب الشافعي لأنها صارت غير محصنة ولا يثبت لها حد المحصنات
ولنا أن سقوط إحصانها في الثاني لا يوجب سقوطه فيما قبل ذلك كما لو استوفى حده قبل إقامة البينة ولعل هذا ينبني على ما إذا قذف رجلا فلم يقم الحد على القاذف حتى زنى المقذوف وإن لم يقم بينة عليهما ولم يلتعن للثاني لم يجب إلا حد واحد نص عليه أحمد ولأنهما حدان من جنسين ترادفا فلم يقم أحدهما فتداخلا كما لو قذفها وهي أجنبية قذفين ولو قذف زوجته فحد لها ثم أعاد قذفها بذلك الزنا لم يحد لها لما ذكرنا في إعادة قذف الأجنبي لكن يعزر للأذى والسب وليس له إسقاط التعزير باللعان لأنه تعزير سب لا تعزير قذف إلا على الرواية التي تلزم الأجنبي حدان بإعادة القذف فإن هيلزمه ههنا حد وله إسقاطه باللعان وإن ولد له ولد بعد حده فذكر أنه من ذلك الزنا فله اللعان لإسقاطه على كلتا الروايتين لأنه محتاج إلى نفيه وإن قذفها في الزوجية قذفين بزناءين فليس عليه إلا حد واحد ويكفيه لعان واحد لأنه يمين فإذا كان الحقان لواحد كفته يمين واحدة لكنه يحتاج أن يقول : اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءين وفارق ما إذا قذف زوجتين حيث لا يكفيه لعان واحد لأن اليمين وجبت لكل واحد منهما فلا تتداخل كسائر الأيمان وإن أقام البينة بالأول سقط عنه موجب الثاني لأنه زال إحصانها ولا لعان إلا أن يكون فيه نسب يريد نفيه وإن أقامها بالثاني لم يسقط الحد الأول وله إسقاطه باللعان إلا على قول القاضي فإنه يسقط بإقامة البينة على الثاني وإن قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الأول فلا حد عليه لأنه قد حققه لعانه ويحتمل أن يحد كما لو قذفها به أجنبي وهو قول القاضي ولو قذفها به أجنبي أو بزنا غيره فعليه الحد في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس و الزهري و الشعبي و النخعي و قتادة و مالك و الشافعي و أبو عبيد وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأي أنهم قالوا : إن لم ينف بلعانها ولدا حد قاذفها وإن نفاه فلا حد على قاذفها لأنه منتف عن زوجها بالشرع
ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من رماها أو ولدها فعليه الحد ] رواه أبو داود وهذا نص فإنه نص على ما رماها مع أن ولدها منفي عن الملاعن شرعا ولأنه لم يثبت زناها ولا زال إحصانها فيلزم قاذفها الحد بقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وكما لو لم ينف ولدها فأما إن أقام بينة فقذفها قاذف بذلك الزنا أو بغيره فلا حد عليه لأنه قد زال إحصانها ولأن هذا القذف لم يدخل المعرة عليها وإنما دخلت المعرة بقيام البينة ولكنه يعزر تعزير السب والأذى وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على قاذفه وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولكنه يعزر تعزير السب والأذى ولا يملك الزوج إسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه وإن قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا آخر فعليه الحد لأنها بانت منه باللعان وصارت أجنبية إلا أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية فعند ذلك إن كان ثم نسب يريد نفيه فله الملاعنة لنفيه وإلا لزمه الحد ولا لعان بينهما

مسألتان وفصل التعان الرجل دون المرأة وحكم ما لو أقرت دون الأربع مرات
مسألة : قال : فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها والزوجية بحالها
وجملة ذلك أنه إذا لاعنها وامتنعت من الملاعنة فلا حد عليها وبه قال الحسن و الأوزاعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن الحارث العكلي و عطاء الخراساني وذهب مكحول و الشعبي و مالك و الشافعي و بو عبيد و أبو ثور و أبو إسحاق الجوزجاني و ابن المنذر إلى أن عليها الحد لقول الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات } والعذاب الذي يدرؤه لعانها هو الحد المذكور في قوله سبحانه : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ولأنه بلعانه حقق زناها فوجب عليها الحد كما لو شهد عليها أربعة
ولنا أنه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد كما لو لم يلاعن ودليل ذلك أن تحقيق زناها لا يخلو إما أن يكون بلعان الزوج أو بنكولها أو بهما معا لا يجوز أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو ثبت زناها به لما سمع لعانها ولا وجب الحد على قاذفها ولأنه إما يمين وإما شهادة وكلاهما لا يثبت له الحق على غيره ولا يجوز أن يثبت بنكولها لأن لحد لا يثبت بالنكول فإنه يدرأ بالشبهات فلا يثبت بها وذلك لأن النكول يحتمل أن يكون لشدة خفرها أو لعقله على لسانها أو غير ذلك فلا يجوز إثبات الحد لذي اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود واعتبر في حقهم أن يصفوا صورة الفعل وأن يصرحوا بلفظه وغير ذلك مبالغة في نفي الشبهات عنه وتوسلا إلى إسقاطه ولا يجوز أن يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة لا يقضى به في شيء من الحدود ولا العقوبات ولا ما عدا الأمول مع أن الشافعي لا يرى القضاء بالنكول في شيء فكيف يقضي به في أعظم الأمور وأبعدها ثبوتا وأسرعها سقوطا ولأنها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلأن لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين على براءتها أولى ولا يجوز أن يقضى فيه بهما لأن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق ولأن ما في كل واحد منهما من الشبهة لا ينتفي بضم أحدهما إلى الآخر فإن احتمال نكولها لفرط حيائها وعجزها عن النطق باللعان في مجمع الناس لا يزول بلعان الزوج والعذاب يجوز أن يكون الحبس أو غيره فلا يتعين في الحد وإن احتمل أن يكون هو المراد فلا يثبت الحد بالاحتمال وقد يرجح ما ذكرناه بقول عمر رضي الله عنه إن الحد على من زنا وقد أحصن إذا كانت بينة أو كان الحمل أو الاعتراف فذكر موجبات الحد ولم يذكر اللعان
واختلفت الرواية فيما يصنع بها فروي أنها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعا قال أحمد : فإن أبت المرأة أن تلتعن بعد التعاون الرجل أجبرتها عليه وهبت أن أحكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت بلسانها لم ارجمها إذا رجعت فكيف إذا أبت اللعان ؟ ولا يسقط النسب إلى بالتعانهما جميعا لأن الفراش قائم حتى تلتعن والولد للفراش قال القاضي : هذه الرواية أصح وهذا قول من وافقنا في أنه لا حد عليها وذلك لقول الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } فيدل على أنها إذا لم تشهد لا يندرىء عنها العذاب
والرواية الثانية : يخلى سبيلها وهو قول أبي بكر لأنه لم يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها كما لو لم تكمل البينة فأما الزوجية فلا تزول والولد لا ينتفي ما لم يتم اللعان بينهما في قول عامة أهل العلم إلا الشافعي فإنه قضى بالفرقة ونفي الولد بمجرد لعان الرجل وقد ذكرنا ذلك
مسألة : قال : وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات
وجملته أن الرجل إذا قذف امرأته فصدقته وأقرت بالزنا مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليها الحد لأنه لا يثبت إلا بإقرار أربع مرات على ما يذكر في الحدود ثم إن كان تصديقها أنه قبل لعانه فلا لعان بينهما لأن اللعان كالبينة إنما يقام مع الإنكار وإن كان بعد لعانه لم تلاعن هي لأنها لا تحلف مع الإقرار وحكمها حكم ما لو امتنعت من غير إقرار وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : إن صدقته قبل لعانه فعليها الحد وليس له أن يلاعن إلا أن يكون ثم نسب ينفيه فيلاعن وحده وينتفي النسب بمجرد لعانه فإن كان بعد لعانه فقد انتفى النسب ولزمها الحد بناء على أن النسب ينتفي بمجرد لعانه وتقع الفرقة ويجب الحد فإن الحد بإقرار مرة وهذه الأصول قد مضى أكثرها ولو أقرت أربعا وجب الحد ولا لعان بينهما إذا لم يكن ثم نسب ينفي وإن رجعت سقط الحد عنها بغير خلاف علمناه وبه يقول الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي فإن الرجوع عن الإقرار بالحد مقبول وليس له ان يلاعن للحد فإنه لم يجب عليه لتصديقها إياه وإن أراد لعانها لنفي نسب فظاهر قول الخرقي أنه ليس له ذلك في جميع هذه الصور وهو قول أصحاب الرأي
وقال الشافعي : له لعانها لنفي النسب فيها كلها لأنها لو كانت عفيفة صالحة فكذبته ملك نفي ولدها فإذا كانت فاجرة فصدقته فلأن يملك نفي ولدها أولى ووجه الأول أن نفي الولد إنما يكون بلعانهما معا وقد تعذر اللعان منهما ولأنها لا تستحلف على نفي ما تقر به فتعذر نفي الولد لتعذر سببه كما لو مات بعد القذف وقبل اللعان
فصل : ولو قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت فلا حد عليها ولا عليه وقال أصحاب الشافعي : عليه حد القذف لأنه يحتمل أنها أرادت بذلك نفي الزنا عن نفسها كما يستعمل أهل العرف فيما إذا قال قائل : سرقت قال معك سرقت أي أنا لم اسرق لكونك أنت لم تسرق
ولنا أنها صدقته في قذفه إياها فأشبه ما لو قال : صدقت ولا حد عليها لأن حد الزنا لايثبت إلا بالإقرار اربع مرات وليس عليها حد القذف لأنها لم تقذفه وإنما أقرت على نفسها بزناها به ويمكن ذلك من غير كونه زانيا بأن يظنها زوجته وهي عالمة أنه أجنبي ولأنه يحتمل أن تريد نفي ذلك عنهما كما ذكروه أو أنه يطأني سواك فإن لم يكن زنا فأنت شريكي فيه ولا يجب الحد مع الاحتمال ولا يلزم من سقوطه عن الرجل بظاهر تصديقها وجوبه عليها مع الاحتمال فإن الحد يدرأ بالشبهات ولا يجب بها ولو قال يا زانية فقالت أنت أزنى مني فقال أبو بكر فيها كالتي قبلها لا حد على الزوج بتصديقها له ولا على المرأة لما ذكرنا في التي قبلها
وقال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي : ليس قولها قذفا قال الشافعي : إلا أن تريد القذف لأنه يحتمل أن تريد أنه أصابني وهو زوجي فإن كان ذلك فهو أبلغ مني منه وقال القاضي : عليها حد لقذفها ولا حد عليه لتصديقها إياه وقد أتت بصريح قذفه بالزنا فوجب عليها الحد كما لو قالت : أنت زان والاحتمال مع التصريح بالقذف لا يمنع الحد كما لو قالت أنت زان فأما إن قال يا زانية فقالت : بل أنت زان فكل واحد منهما قاذف لصاحبه عليه حد القذف إلا أن المرأة لا تملك إسقاط حدها إلا بالبينة والزوج يملك إسقاطه ببينة أو لعان

فصل كتاب العدد
الأصل في وجوب العدة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقوله سبحانه : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] [ وقال لفاطمة بنت قيس : اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ] في آي وأحاديث كثيرة وأجمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع منها وأجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } ولأن العدة تجب لبراءة الرحم وقد تيقناها وهكذا كل فرقة في الحياة كالفسخ لرضاع أو عيب أو عتق أو لعان أ واختلاف دين

فصول وجوب العدة وأقسام المعتدات وفروع من الفرقة بين الزوجين
فصل : وتجب العدة على الذمية من الذمي والمسلم وقال أبو حنيفة : إن لم تكن من دينهم لم تلزمها لأنهم لا يخاطبون بفروع الدين
ولنا عموم الآيات ولأنها بائن بعد الدخول أشبه المسلمة وعدتها كعدة المسلمة في قول علماء الأمصار منهم مالك و الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي ومن تبعهم إلا ما روي عن مالك أنه قال : تعتج من الوفاة بحيضة
ولنا عموم قول الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ولأنها معتدة من الوفاة أشبهت المسلمة
فصل : والمعتدات ثلاثة أقسام :
الأول : معتدة بالحمل وهي امرأة حامل من زوج إذا فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو موته عنها حرة كانت أو أمة مسلمة أو كافرة فعدتها بوضع الحمل ولو بعد ساعة لقول الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
والثاني : معتدة بالقروء وهي كل معتدة من فرقة في الحياة أو وطء في غير نكاح إذا كانت ذات قرء فعدتها القرء لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }
والثالث : معتدة بالشهور وهي كل من تعتد بالقرء إذا لم تكن ذات قرء لصغر أو إياس لقول الله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } وذات القرء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة اشهر للحمل وعدة الآيسة وكل من توفي عنها زوجها ولا حمل بها قبل الدخول أو بعده حرة أو أمة فعدتها بالشهور لقول الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }
فصل : وكل فرقة بين زوجين فعدتها عدة الطلاق سواء كانت بخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ بعيب أو إعسار أو إعتاق أو اختلاف دين أو غيره في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس أن عدة الملاعنة تسعة أشهر وأبى ذلك سائر أهل العلم وقالوا : عدتها عدة الطلاق لأنها مفارقة في الحياة فأشبهت المطلقة وأكثر اهل العلم يقولون : عدة المختلعة عدة المطلقة منهم سعيد بن المسيب و سالم بن عبد الله و عروة و سليمان بن يسار و عمر بن عبد العزيز و الحسن و الشعبي و النخعي و الزهري و قتادة و خلاس بن عمرة وأبو عياض و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي وروي عن عثمان بن عفان وابن عمر وابن عباس وأبان بن عثمان و إسحاق و ابن المنذر أن عدة المختلعة حيضة ورواه ابن القاسم عن أحمد [ لما روى ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه و سلم عدتها حيضة ] رواه النسائي وعن ربيع بنت معوذ مثل ذلك وأن عثمان قضى به رواه النسائي و ابن ماجة
ولنا قول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : قرء الأمة حيضتان ] عام وحديثهم يرويه عكرمة مرسلا قال أبو بكر ضعيف مرسل وقول عثمان وابن عباس قد خالفه قول عمر وعلي فإنهما قالا عدتها ثلاث حيض وقولهما أولى وأما ابن عمر فقد روى مالك عن نافع أنه قال عدة المختلعة عدة مطلقة وهو اصح عنه
فصل : والموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة وكذلك الموطوءة في نكاح فاسد وبهذا قال الشافعي لأن وطء الشبهة وفي النكاح الفاسد في شغل الرحم ولحقوق النسب كالوطء في النكاح الصحيح فكان مثله فيما تحصل به البراءة وإن وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها كيلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين لأنها زوجة حرم وطؤها لعارض مختص بالفرج فابيح الاستمتاع منها بما دونه كالحائض
فصل : والمزني بها كالموطوءة بشبهة في العدة وبهذا قال الحسن و النخعي وعن أحمد رواية أخرى أنها تستبرأ بحيضة ذكرها ابن أبي موسى وهذا قول مالك وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : لا عدة عليها وهو قول الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي لأن العدة لحفظ النسب ولا يلحقه نسب وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على ذلك
ولنا أنه وطء يقتضي شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطء الشبهة وأما وجوبها كعدة المطلقة فلأنها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة وقولهم إنما تجب لحفظ النسب لا يصح فإنها لو اختصت بذلك لما وجبت على الملاعنة المنفي ولدها والآيسة والصغيرة ولما وجب استبراء الأمة التي لا يلحق ولدها بالبائع ولو وجبت لذلك لكان استبراء الأمة على البائع ثم لو ثبت أنها وجبت لذلك فالحاجة إليها داعية فإن المزني بها إذا تزوجت قبل الاعتداد اشتبه ولد الزوج بالولد من الزنا فلا يحصل حفظ النسب

مسأل وفصول عدة من طلقها زوجها وقد خلا بها وبيان عدة المطلقة الحرة
مسألة : قال رحمه الله تعالى : وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض غير الحيضة التي طلقها فيها
في هذه المسألة ثلاثة فصول :
الفصل الأول : ان العدة تجب على كل من خلا بها زوجها وإن لم يمسها ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس فأما إن خلا بها ولم يصبها ثم طلقها فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وبه قال عروة وعلي بن الحسين و عطاء و الزهري و الثوري و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي و الشافعي في قديم قوليه وقال الشافعي في الجديد : لا عدة عليها لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وهذا نص ولأنها مطلقة لم تمس فأشبهت من لم يخل بها
ولنا إجماع الصحابة روى الإمام أحمد و الأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة ورواه الأثرم أيضا عن الأحنف عن عمر وعلي وعن سعيد بن المسيب عن عمر وزيد بن ثابت وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعا وضعف أحمد ما روي في خلاف ذلك وقد ذكرناه في كتاب الصداق ولأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة والآية مخصوصة بما ذكرناه ولا يصح القياس على من لم يخل بها لأنه لم يوجد منها التمكين
فصل : وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يخلو بها مع المانع من الوطء أو مع عدمه سواء كان المانع حقيقيا كالجب والعنة والفتق والرتق أو شرعيا كالصوم والإحرام أو الحيض والنفاس والظهار لأن الحكم علق ههنا على الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها ولهذا لو خلا به فأتت بولد لمدة الحمل لحقه نسبه وإن لم يطأ وقد روي عن أحمد أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع فكذلك يخرج في العدة وروي عنه أن صوم شهر رمضان يمنع كمال الصداق مع الخلوة وهذا يدل على أنه متى كان المانع متأكدا كالإحرام وشبهه منع كمال الصداق ولم تجب العدة لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس لأنها مظنة له ومع المانع لا تتحقق المظنة وأما إن خلا بها وهي صغيرة لا يمكن وطؤها أو كان أعمى فلم يعلم بها فلا عدة عليها ولا يكمل صداقها لأن المظنة لا تتحقق مع ظهور استحالة المسيس
الفصل الثاني : إن عدة المطلقة إذا كانت حرة وهي من ذوات القروء ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم وذلك لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } والقرء في كلام العرب يقع على الحيض والطهر جميعا فهو من الأسماء المشتركة قال أحمد بن يحيى ثعلب : القروء الأوقات الواحد قرء وقد يكون حيضا وقد يكون طهرا لأن كل واحد منهما يأتي لوقت قال الشاعر :
( كرهت العقر عقر بني تميم ... إذا هبت لقارئها الرياح )
يعني لوقتها وقال الخليل بن أحمد : يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها وفي الحديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : دعي الصلاة أيام إقرائك فهذا الحيض ] وقال الشاعر :
( مورثة عزا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا )
فهذا الطهر واختلف أهل العلم المراد بقوله سبحانه : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد فروي أنها الحيض روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس و سعيد بن المسيب و الثوري و الأوزاعي و العنبري و إسحاق و أبي عبيد و أصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء قال القاضي : الصحيح عن أحمد أن الإقراء الحيض وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالإطهار فقال في رواية النيسابوري : كنت أقول إنه الاطهار وأنا أذهب اليوم إلى أن الإقراء الحيض وقال في رواية الأثرم كنت أقول الاطهار ثم وقفت لقول الأكابر والرواية الثانية : عن أحمد أن القروء الأطهار وهو قول زيد وابن عمر وعائشة و سليمان بن يسار و القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله وأبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز و الزهري و مالك و الشافعي و أبي ثور وقال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك قال ابن عبد البر : رجع أحمد إلى أن القروء الأطهار قال في رواية الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف والأحاديث عمن قال أنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح وقوية واحتج من قال ذلك بقول الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي في عدتهن كقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } أي في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض ويدل عليه [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عمر : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ] متفق عليه [ وفي رواية ابن عمر : فطلقوهن في قبل عدتهن ] ولأنها عدة عن طلاق مجرد مباح فوجب أن يعتبر عقيب الطلاق وكعدة الآيسة والصغيرة
ولنا قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فدل ذلك على أن الأصل الحيض كما قال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا } الآية ولأن المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : تدع الصلاة أيام أقرائها ] رواه أبو داود [ وقال لفاطمة بنت أبي حبيش : انظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ] رواه النسائي ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : طلا ق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان ] رواه أبو داود و غيره فإن قالوا هذا يرويه مظاهر بن مسلم وهو منكر الحديث قلنا : قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر كذلك أخرجه ابن ماجة في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه وهو نص في عدة الأمة فكذلك عدة الحرة ولأن ظاهر قوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وجوب التربص ثلاثة كاملة ومن جعل الحيض القروء الأطهار لم يوجب ثلاثة لأنه يكتفي بطهرين وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص ومن جعله الحيض أوجب ثلاثة كاملة فيوافق ظاهر النص فيكون أولى من مخالفته ولأن العدة استبراء فكانت بالحيض كاستبراء الأمة وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل على الحيض فوجب أن يكون الاستبراء به فإن قيل لا نسلم ان استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي قبل الحيضة كذلك فال ابن عبد البر وقال : قولهم إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين دخل عليه في مناظرته إياه قلنا هذا يرده قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] ولأن الاستبراء تعرف براءة الرحم وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها ولأن العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه فأما قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } فيحتمل أنه أراد قبل عدتهن إذ لا يمكن جمله على الطلاق في العدة ضروة أن الطلاق سبق العدة لكونه سببها والسبب يتقدم على الحكم فلا يوجد قبله والطلاق في الطهر تطليق قبل العدة إذا كانت الأقراء الحيض
الفصل الثالث : إن الحيضة التي طلق فيها لا تحسب من عدتها بغير خلاف بين أهل العلم لأن الله تعالى أمر بثلاثة قروء فتناول ثلاثة كاملة والتي طلق فيها لم يبق منها ما تتم به مع اثنتين كاملة فلا يعتد بها ولأن الطلاق إنما حرم في الحيض لما فيه من تطويل العدة عليها فلو احتسبت بتلك الحيضة قرءا كان أقصر لعدتها وأنفع لها فلم يكن محروما ومن قال : القروء الأطهار احتسب لها بالطهر الذي طلقها فيه قرءا فلو طلقها وقد بقي من قرئها لحظة حسبها قرءا وهذا قول كل من قال القروء الأطهار إلا الزهري وحده قال : تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه وحكي عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم يحتسب ببقيته لأنه زمن حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن الحيض
ولنا أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها فلو لم يحتسب ببقية الطهر قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها وما ذكر عن أبي عبيد لا يصح لأن تحريم الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن تجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا وإنما تحرم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها فأما إن انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر فإن الطلاق يقع في أول الحيضة ويكون محرما ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها وتحتاج أن تعتد بثلاث حيض بعدها أو ثلاثة أطهار على الرواية الأخرى ولو قال لها أنت طالق في آخر طهرك أو في آخر جزء من طهرك أو انقضت حروف الإيقاع ولم يبق من الطهر إلا زمن الوقوع فإنها لا تحتسب بالطهر الذي وقع فيه الطلاق لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق وليس بعده طهر تعتد به ولا يجوز الاعتداد بما قبله ولا بما قاربه ومن جعل القرء الحيض اعتد لها بالحيضة التي تلي الطلاق لأنها حيضة كاملة لم يقع طلاق فوجب أن تعتد بها قرءا وإن اختلفا فقال الزوج : وقع الطلاق في أول الحيض وقالت : بل في آخر الطهر او قال : انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر وقالت : بل وقد بقي منه بقية فالقول قولها لأن قولها مقبول في الحيض وفي انقضاء العدة

مسائل وفصول متى تباح المعتدة للأوزاج ؟ وعدة الآياسات والأمة واللآتي لم يحضن
مسألة : قال : فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج
حكى أبو عبد الله بن حامد في هذه المسألة روايتين إحداهما : أنها في العدة ما لم تغتسل فيباح لزوجها ارتجاعها ولا يحل لغيره نكاحها قال أحمد : عمر وعلي وابن مسعود يقولون قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة وروى ذلك عن سعيد بن المسيب و الثوري و إسحاق وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم ؟ قال شريك : له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة قال أبو بكر : وروي عن أبي عبد الله أنها في عدتها ولزوجها رجعتها حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا قول الثوري وبه قال أبو حنيفة إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض فإن انقطع لأكثر انقضت العدة بانقطاعه ووجه اعتبار الغسل قول الأكثر ين من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا ولأنها ممنوعة من الصلاة بحكم حدث الحيض فأشبهت الحائض
والرواية الثانية : أن العدة تنقضي بطهرها من الحيض الثالثة وانقطاع دمها اختاره أبو الخطاب وهو قول سعيد بن جبير و الأوزاعي و الشافعي في القديم لأن الله تعالى قال : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقد كملت القروء بدليل وجوب الغسل عليها ووجوب الصلاة وفعل الصيام وصحته منها ولأنه لم يبق حكم العدة في الميراث ووقوع الطلاق بها واللعان والنفقة فكذلك فيما نحن فيه قال القاضي : إذا شرطنا الغسل أفاد عدمه إباحة الرجعة وتحريمها على الأزواج فأما سائر الأحكام فإنها تنقطع بانقطاع دمها
وإن قلنا القروء والأطهار فطلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة وإن طلقها حائضا انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الرابعة وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والقاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله وأبان بن عثمان و مالك و أبي ثور و هو ظاهر مذهب الشافعي وحكي عنه قول آخر لا تنقضي العدة حتى يمضي زمن الدم يوم وليلة الجواز أن يكون الدم دم فساد فلا نحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال وحكى القاضي هذا احتمالا في مذهبنا أيضا
ولنا أن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول عليه ولأنه قول من سمينا من الصحابة رواه الأثرم عنهم بإسناده ولفظ حديث زيد بن ثابت : إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها ولا ترثه ولا يرثها وقولهم إن الدم يكون دم فساد قلنا : قد حكم بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض فكذلك في انقضاء العدة ثم إن كان التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم كما لو قال لها : إن حضت فانت طالق اختلف القائلون بهذا القول فمنهم من قال اليوم والليلة من العدة لأنه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الأطهار ومنهم من قال ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها ولأننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضي يوم وليلة ولو راجعها زوجها فيها لم تصح الرجعة وهذا أصح الوجهين
مسألة : قال : وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية
أكثر أهل العلم يقولون : عدة الأمة بالقرء قرءان منهم عمر وعلي وابن عمر و سعيد بن المسيب و عطاء و عبد الله بن عتبة والقاسم و سالم وزيد بن أسلم و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وعن ابن سيرين : عدتها عدة الحرة إلا أن تكون قد مضت بذلك سنة وهو قول داود لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ قرء الأمة حيضتان ] وقد ذكرناه وقول عمر وعلي وابن عمر ولم نعرف لهم مخالفا في الصحابة فكان إجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأنه معنى ذو عدد بني على التفاضل فلا تساوي فيه الأمة الحرة كالحد وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا كما كان حدها على النصف من حد الحرة إلا أن الحيض لا يتبعض فكمل حيضتين ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لو أستطيع أن أجعل العدة حيضة ونصفا لفعلت : فإذا تقرر هذا فانقضاء عدتها بالغسل من الحيضة الثانية في إحدى الروايتين وفي الأخرى بانقطاع الدم من الحيضة الثانية وعلى الرواية التي تقول إن القروء الأطهار فانقضاء عدتها برؤية الدم من الحيضة الثانية
مسألة : قال : وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر
أجمع أهل العلم على هذا لأن الله تعالى ذكره في كتابه بقوله سبحانه : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتبر ثلاثة أشهر بالأهلة لقول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } وقال سبحانه : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم } ولم يختلف الناس في أن الأشهر الحرم معتبرة بالأهلة وإن وقع الطلاق في اثناء الشهر اعتدت بقيته ثم اعتدت شهرين بالأهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما وهذا مذهب مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : تحتسب بقية الأول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الأول أو ناقصا لأنه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالأهلة فإذا كان بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه وخرج أصحابنا وجها ثانيا أن جميع الشهور محسوبة بالعدد وهو قول ابن بنت الشافعي لأنه إذا حسب الأول بالعدد كان ابتداء الثاني من بعض الشهر فيجب أن يحسب بالعدد وكذلك الثالث
ولنا أن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والأصل الهلال فإذا أمكن اعتبار الهلال اعتبروا وإذا تعذر رجعوا إلى العدد وفي هذا انفصال عما ذكرلـ أبي حنيفة وأما التخريج الذي ذكرناه فإنه لا يلزمه تمام الشهر الأول من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع
فصل : وتجب العدة من الساعة التي فارقها زوجها فيها فلو فارقها نصف الليل أو نصف النهار اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله في قول أكثر أهل العلم وقال أبو عبد الله بن حامد : لا تحتسب بالساعات وإنما تحتسب بأول الليل والنهار فإذا طلقها نهارا احتسب من أول الليل الذي يليه وإن طلقها ليلا أحتسب بأول النهار الذي يليه وهذا قول مالك لأن حساب الساعات يشق فسقط اعتباره
ولنا قول الله تعالى : { فعدتهن ثلاثة أشهر } ولا تجوز الزيادة عليها بغير دليل وحساب الساعات ممكن إما يقينا وإما إستظهارا فلا وجه للزيادة على ما أوجبه الله تعالى
مسألة : قال : والأمة شهران
اختلفت الروايات عن أبي عبد الله في عدة الأمة فأكثر الروايات عنه أنها شهران رواه عنه جماعة من أصحابه واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه : عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كان عدتها شهرين رواه الأثرم عنه بإسناده وهذا قول عطاء و الزهري و إسحاق وأحد قولي الشافعي لأن الأشهر بدل من القروء وعدة ذات القروء قرءان فبدلهما شهران ولأنها معتدة بالشهور من غير الوفاة فكان عددها كعدد القروء ولو كانت ذات قرء كالحرة
والرواية الثانية : أن عدتها شهر ونصف نقلها الميموني و الأثرم واختارها أبو بكر وهذا قول علي رضي الله عنه وروي ذلك عن ابن عمر و ابن المسيب و سالم الشعبي و الثوري وأصحاب الرأي وهو قول ثان لـ لشافعي لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة وعدة الحرة ثلاثة أشهر فنصفها شهر ونصف وإنما كملنا للذات الحيض حيضتين لتعذر تبعيض الحيضة فإذا صرنا إلى الشهور أمكن التنصيف فوجب المصير إليه كما في عدة الوفاة ويصير هذا كالمحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد أجزأه إخراجه فإن أراد الصيام مكانه صام يوما كاملا ولأنها عدة أمكن تنصيفها فكانت على النصف من عدة الحرة كعدة الوفاة ولأنها معتدة بالشهور فكانت على النصف من عدة الحرة كالمتوفى عنها زوجها
والرواية الثالثة : أن عدتها ثلاثة أشهر وروي ذلك عن الحسن و مجاهد و عمر بن عبد العزيز و النخعي و يحيى الأنصاري و ربيعة و مالك وهو القول الثالث لـ لشافعي لعموم قوله تعالى : { فعدتهن ثلاثة أشهر } ولأنه استبراء للأمة الآيسة بالشهور فكان ثلاثة أشهر كاستبراء الأمة إذا ملكها أو مات سيدها ولأن اعتبار الشهور ههنا للعلم ببراءة الرحم ولا يحصل هذا بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة جميعا لأن الحمل نطفة أربعين يوما وعلقة أربعين يوما ثم يصير مضغة ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة فيظهر الحمل وهذا معنى لا يختلف بالرق والحرية ولذلك كان استبراء الأمة في حق سيدها ثلاثة أشهر ومن رد هذه الرواية قال : هي مخالفة لإجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول جميعهم ولا يجوز ذلك ولأنها معتدة لغير الحمل فكانت دون عدة الحرة كذات القرء المتوفى عنها زوجها
فصل : واختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات فعنه أوله خمسون سنة لأن عائشة قالت : لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة وعنه : إن كانت من نساء العجم فخمسون وإن كانت من نساء العرب فستون لأنهن أقوى طبيعة وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب أن هندا بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة وقال : يقال إنه لمن تلد بعد خمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية و لـ لشافعي قولان أحدهما : يعتبر السن الذي يتيقن أنه إذا بلغته لم تحض قال بعضهم : هو اثنان وستون سنة والثاني يعتبر السن الذي ييأس فيه نساء عشيرتها لأن الظاهر أن نشأها كنشئهن وطبعها كطعبهن والصحيح إن شاء الله أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة لأن وجود الحيض في حق هذه نادر بدليل قول عائشة وقلة وجوده فإذا انضم إلى هذا انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده فلها حينئذ أن تعتد بالأشهر وإن انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه على ما سنذكره إن شاء الله وإن رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض في الصحيح لأن دليل الحيض الوجود في زمن الإمكان وهذا يمكن وجود الحيض فيه وإن كان نادرا وإن رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض لأنه لم يوجد ذلك قال الخرقي : فإذا رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض فعند ذلك لا تعتد به وتعتد بالأشهر كالتي لا ترى دما
فصل : وأقل سن نحيض فيه المرأة تسع سنين لأن المرجع فيه في الوجود وقد وجد من تحيض لتسع وقد روي عن الشافعي أنه قال : رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة فهذه إذا أسقطت من عمها مدة الحملين في الغالب عاما ونصفا وقسمت الباقي بينهما وبين ابنتها كانت كل واحدة منهما قد حملت لدون عشر سنين فإن رأت دما قبل ذلك فليس بحيض لأنه لم يوجد من مثلها متكررا والمعتبر من ذلك ما تكرر ثلاث مرات في حال الصحة ولم يوجد ذلك فلا يعتد به
فصل : فإن بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر في ظاهر قول الخرقي وهو قول أبي بكر وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي وضعف أبو بكر الرواية المخالفة لهذا وقال : رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه وذلك ما روى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة قال القاضي : هذه الرواية أصح لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض صارت مرتابة يجوز أن يكون به حمل منع حيضها فيجب أن تعتد بسنة كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده
ولنا قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } وهذه من اللائي لم يحضن ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل بلوغ سن يحيض لمثله النساء في الغالب مثل أن تحيض ولها عشر سنين اعتدت بالحيض وفارق من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه فإنها من ذوات القروء وهذه لم تكن منهن

مسألة وفصل عدة الأم المطلقة طلاقا فيه الرجعية
مسألة : قال : وإذا طلقها طلاقا يملك فيه الرجعة وهي أمة فلم تنقض عدتها حتى أعتقت بنت على عدة حرة وإن طلقها طلاقا لا يملك فيه الرجعة فأعتقت اعتدت عدة أمة
هذا قول الحسن و الشعبي و الضحاك و إسحاق و أصحاب الرأي وهذا أحد أقوال الشافعي والقول الثاني : تكمل عدة أمة سواء كانت بائنا أو رجعية وهو قول مالك و أبي ثور لأن الحرية طرأت بعد وجوب العدة عليها فلا يعتبر حكمها كما لو كانت بائنا أو كما لو طرأت بعد وجوب الاستبراء ولأنه معنى يختلف بالرق والحرية فكان الاعتبار بحالة الوجوب كالحد وقال عطاء و الزهري و قتادة : تبني على عدة حرة بكر حال وهو القول الثالث لـ لشافعي لأن سبب العدة الكاملة إذا وجد في أثناء العدة انتقلت إليها وإن كانت بائنا كما لو اعتدت بالشهور ثم رأت الدم
ولنا أنها إذا اعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة تعتد عدة الوفاة لو مات فوجب أن تعتد عدة الحرائر كما لو أعتقت قبل الطلاق وإن أعتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية فلم تجب عليها عدة الحرائر كما لو أعتقت بعد مضي القرأين ولأن عدة الرجعية تنتقل إلى عدة الوفاة لو مات فتنتقل إلى عدة الحرائر والبائن لا تنتقل إلى عدة الوفاة فلا تنتقل إلى عدة الحرائر كما لو انقضت عدتها وما ذكرناه لـ مالك يبطل بما إذا مات زوج الرجعية فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة والفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا حاضت الصغيرة أن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل زال حكم البدل كالمتيمم يجد الماء وليس كذلك ههنا فإن عدة الأمة ليست ببدل ولذلك تبني الأمة على ما مضى من عدتها اتفاقا وإذا حاضت الصغيرة استأنفت العدة فافترق وتخالف الاستبراء فإن الحرية لو قارنت سبب وجوبه لم تكمل ألا ترى أن أم الولد إذا مات سيدها عتقت لموته ووجب الاستبراء كما يجب على التي لم تعتق ولأن الاستبراء لا يختلف بالرق والحرية بخلاف مسألتنا
فصل : إذا أعتقت الأمة تحت العبد فاختارت نفسها اعتدت عدة الحرة لأنه بانت من زوجها وهي حرة
[ وقد روى الحسن أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بريرة أن تعتد عدة الحرة ] وإن طلقها العبد طلاقا رجعيا فأعتقها سيدها بنت على عدة الحرة سواء فسخت أو أقامت على النككاح لأنها عتقت في عدة رجعية وإن لم تفسخ فراجعها في عدتها فلها الخيار بعد رجعتها فإن اختارت الفسخ قبل المسيس فهل تستأنف العدة أم تبني على ما مضى من عدتها ؟ على وجهين فإن قلنا تستأنف فإنها تستأنف عدة حرة وإن قلنا تبني على عدة حرة

مسائل وفصول حكم عدة المطلقة وقد حاضت فارتفع حيضها ولا ندري ما رفعه وعدة المستحاضة
مسألة : قال : وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ؟ اعتدت سنة
وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق امرأته وهي من ذوات الاقراء فلم تر الحيض في عادتها ولم تدر ما رفعه ؟ فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر هذا قول عمر رضي الله عنه قال الشافعي : هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكر علمناه وبه قال مالك و الشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن الحسن وقال الشافعي في قول آخر : تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لأن هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا
وقال في الجديد تكون في عدة أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس تعتد حينئذ بثلاثة أشهر وهذا قول جابر بن زيد و عطاء و طاوس و الشعبي و النخعي و الزهري و أبي الزناد و الثوري و أبي عبيد وأهل العراق لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس فلم يجز قبله وهذه ليست آيسة ولأنها ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور كما لو حيضها لعارض
ولنا الاجماع الذي حكاه الشافعي ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها وهذا تحصل به براءة رحمها فاكتفي به ولهذا اكتفي في حق ذات القرء بثلاثة قروء وفي حق الآيسة بثلاثة أشهر ولو روعي اليقين الاعتبر أقصى مدة الحمل ولأن عليها في تطويل العدة ضررا فإنها تمنع من الأزواج وتحبس دائما ويتضرر الزوج بإيجاب السكنى والنفقة عليه وقد قال ابن عباس لا تطولوا عليه الشقة كفاها تسعة أشهر فإن قيل : فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهرا فلم اعتبرتم ثلاثة أشهر بعدها ؟ قلنا : الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل وقد تجب العدة مع العلم ببراءة الرحم بدليل ما لو علق طلاقها بوضع الحمل فوضعته موقه الطلاق لزمتها العدة
فصل : فإن عاد الحيض إليها في السنة ولو في آخرها لزمها الانتقال إلى القروء لأنها الأصل فبطل بها حكم البدل وإن عاد بعد مضيها ونكاحها لم تعد إلى القروء لأن عدتها انقضت وحكمنا بصحة نكاحها فلم تبطل كما لو اعتدت الصغيرة بثلاثة أشهر وتزوجت ثم حاضت وإن حاضت بعد السنة وقبل نكاحها ففيه وجهان أحدهما : لا تعود لأن العدة انقضت بالشهور فلم تعد كالصغيرة والثاني : تعود لأنها من ذوات القروء وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق زوج بها فلزمها العود كما لو حاضت في السنة
مسألة : قال : وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهرا تسعة أشهر للحمل وشهران للعدة
هذه المسألة مبنية على أصلين أحدهما : أن الحرة تعتد بسنة إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه والثاني : أن عدة الأمة الآيسة شهران فتتربص تسعة أشهر لأن مدة الحمل تتساوى فيها الحرة والأمة لكونه أمرا حقيقيا فإذا يئست من الحمل اعتدت عدة الآيسة شهرين وعلى الرواية التي جعل عدتها شهرا ونصفا تكون عدتها عشرة أشهر ونصفا ومن جعلها ثلاثة أشهر فعدتها سنة كالحرة
مسألة : قال : وإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به إلا أن تصير من الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عداد الآيسات
أما إذا عرفت أن ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم وإن طال إلا أن تصير في سن اليأس وقد ذكرناه فعند ذلك تعتد عدة الآيسات وقد روى الشافعي في مسنده بإسناده عن حبان بن منقذ أنه طلق امرأته طلقة واحدة وكانت لها منه بنية ترضعها فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له إنك إن مت ورثتك فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد : ما تريان ؟ فقالا نرى أنها إن ماتت ورثها وإن مات ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئس من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها فعاد إليها الحيض فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة فورثها عثمان رضي الله عنه وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كانت عند جده امرأتان هاشمية وأنصارية وهي مرضع فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض فقالت الأنصارية : لم أحض فاختصموا إلى عثمان رضي الله عنه فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال : هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا ـ يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه
مسألة : قال : وإن حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه لم تنقض عدتها إلا بعد سنة بعد انقطاع الحيض
وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تجلس تسعة أشهر فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة ولا نعرف له مخالفا قال ابن المنذر قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم يرتفع حيضها قال : اذهب إلى حديث عمر إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت فإنها تنتظر سنة قيل له : فحاضت دون السنة فقال : ترجع إلى الحيضة قيل له : فإن ارتفعت حيضتها أيضا لا تدري مما ارتفعت ؟ قال : تقعد سنة أخرى وهذا قول كل من وافقنا في المسألة الأولى وذلك لأنها لما ارتفعت حيضتها حصلت مرتابة فوجب أن تنتقل إلى الاعتداد بسنة كما لو ارتفع حيضها حين طلقها ووجب عليها سنة كاملة لأن العدة لا تنبني على عدى أخرى ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست انتقلت إلى ثلاثة أشهر كاملة ولو اعتدت الصغيرة شهرا أو شهرين ثم حاضت انتقلت إلى ثلاثة قروء
فصل : فإن كانت عادة المرأة أن يتباعد ما بين حيضتيها لم تنقض عدتها حتى تحيض ثلاث حيض وإن طالت لأن هذه لم يرتفع حيضها ولم تتأخر عن عادته فهي من ذوات القروء باقية على عادتها فأشبهت من لم يتباعد حيضها ولا نعلم في هذا مخالفا
فصل : في عدة المستحاضة لا تخلو إما أن يكون لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز أو لا تكون كذلك فإن كان لها حيض محكوم به بذلك فحكمها فيه حكم غير المستحاضة إذا مرت لها ثلاثة قروء فقد انقضت عدتها قال أحمد : المستحاضة تعتد أيام إقرائها التي كانت تعرف وإن علمت أن لها في كل شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها ثلاثة أشهر وإن شكت في شيء تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاث قد انقضت وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتا ولا تمييزا فعن أحمد فيها روايتان :
إحداهما : أن عدتها ثلاثة أشهر وهو قول عكرمة و قتادة و أبي عبيد ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر حمنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة ] فجعل لها حيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصيام ويثبت فيها سائر أحكام الحيض فيجب أن تنقضي به العدة لأن ذلك من أحكام الحيض
والرواية الثانية : تعتد سنة بمنزلة من رفعت حيضتها لا تدري ما رفعها قال أحمد : إذا كانت قد اختلطت ولم تعلم إقبال الدم وإدباره اعتدت سنة لحديث عمر لأن به يتبين الحمل وهو قول مالك و إسحاق لأنها لم نتيقن لها حيضا مع أنها من ذوات القروء فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها وعلى الرواية الأولى ينبغي أن يقال إننا متى حكمنا بأن حيضها سبعة أيام من كل شهر فمضى لها شهران بالهلال وسبعة أيام من أول الثالث فقد انقضت عدتها وإن قلنا القروء الأطهار فطلقها في آخر شهر ثم مر لها شهران وهل الثالث انقضت عدتها وهذا مذهب الشافعي

مسائل وفصول عدة اللائي لم يحضن أو أصبحن من الآيسات
مسألة : قال : ولو طلقها وهي من اللائي لم يحضن فلم تنقض عدتها بالشهر حتى حاضت استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة وبحيضتين إن كانت أمة
وجملته أن الصغيرة التي لم تحض أو البالغ التي لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة لزمها استئناف العدة في قول عامة علماء الأمصار منهم سعيد بن المسيب و الحسن و مجاهد و قتادة و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أصحاب الرأي وأهل المدينة وأهل البصرة وذلك لأن الشهور بدل الحيض فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء ويلزمها أن تعتد بثلاث حيض إن قلنا القروء الحيض وإن قلنا القروء الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تعتد به لأنه طهر انتلقت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين والثاني : لا تعتد به وهو ظاهر كلام الشافعي لأن القرء هو الطهر بين الحيضتين وهذا لم يتقدمه حيض فلم يكن قرءا فأما إن انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت بعدها ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة كالتي حاضت بعد انقضاء العدة بزمن طويل ولا يمكن منع هذا الأصل لأنه لو صح منعه لم يحصل لمن لم تحض الاعتداد بالشهور بحال
فصل : ولو حاضت حيضة أو حيضتين ثم صارت من الآيسات استأنفت العدة بثلاثة أشهر لأن العدة لا تلفق من جنسين وقد تعذر إتمامها بالحيض فوجب تكميلها بالأشهر وإن ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وتبين أن ما رأته من الدم لم يكن حيضا لأن الحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل لأقل من ستة أشهر منذ انقضت الحيضة الثالثة تبينا أن الدم ليس بحيض لأنها كانت حاملا مع رؤية الدم والحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل يمكن أن يكون حادثا بعد قضاء العدة بأن تأتي به لستة أشهر منذ فرغت من عدتها لم تلحق بالزوج وحكمنا بصحة الاعتداد وكان هذا الولد حادثا وإن أتت به لدون ذلك تبينا أن الدم ليس بحيض لأنه لا يجوز وجوده في مدة الحمل
فصل : وإذا ارتابت المعتدة ومعناه أن ترى أمارات الحمل من حركة أو نفخة ونحوهما وشكت هل هو حمل أم لا ؟ فلا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تحدث به الريبة قبل انقضاء عدتها فإنما تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة فإن بان حملا انقضت عدتها بوضعه فإن زالت وبان أنه ليس بحمل تبينا أن عدتها انقضت بالقروء أو الشهور فإن زوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لأنها تزوجت وهي في حكم المعتدات في الظاهر ويحتمل أنه إذا تبين عدم الحمل أنه يصح النكاح لأنا تبينا أنها تزوجت بعد انقضاء عدتها
الثاني : أن تظهر الريبة بعد انقضاء عدتها والتزويج فالنكاح صحيح لأنه وجد بعد قضاء العدة ظاهرا والحمل مع الريبة مشكوك فيه ولا يزل به ما حكم بصحته لكن لا يحل لزوجها وطؤها لأننا شككنا في صحة النكاح ولأنه لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره ثم ننظر فإن وضعت الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل لأنه نكحها وهي حامل وإن أتت به لأكثر من ذلك فالولد لاحق به ونكاحه صحيح
الحال الثالث : ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان أحدهما : لا يحل لها أن تتزوج وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها تتزوج مع الشك في انقضاء العدة فلم يصح كما لو وجدت الريبة في العدة ولأننا لو صححنا النكاح لوقع موقوفا ولا يجوز كون النكاح موقوفا ولهذا لو أسلم وتخلفت امرأته في الشرك لم يجز أن يتزوج أختها لأن نكاحها يكون موقوفا على إسلام الأولى والثاني : يحل لها النكاح ويصح لأننا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط النفقة والسكنى فلا يجوز زوال حكم به بالشك الطارىء ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود
فصل : وإذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها خرجت بالقرعة وعليها العدة دون غيرها وتحسب عدتها من حين طلقها لا من حين القرعة وإن طلق واحدة بعينها وأنسبها ففي قول أصحابنا الحكم فيها كذلك والصحيح أنه يحرم عليه الجميع فإن مات فعلى الجميع الاعتداد باقصى الأجلين من عدة الطلاق والوفاة لأن النكاح كان ثابتا بيقين وكل واحدة منهن يجوز أن تكون هي المطلقة وأن تكون زوجة فوجب أقصى الأجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات لكن باتداء القرء من حين طلق وابتداء عدة الوفاة من حين الموت وهذا مذهب الشافعي وإن طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن ثلاثا وإن طلق ثلاثا وأنسبهن فهو كما لو طلق واحدة
مسألة : قال : ولو مات عنها وهو حر أو عبد قبل الدخول أو بعده انقضت عدتها لتمام أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة ولتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة
أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير مدخول بها سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ وذلك لقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة شهر وعشرا ] متفق عليه
فإن قيل ألا حملتم الآية على المدخول بها كما قلتم في قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ؟ قلنا : إنما خصصنا هذه بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ولم يرد تخصيص عدة الوفاة ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص لوجهين أحدهما : أن النكاح عقد عمر فإذا مات انتهى والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الإجارة بانقضائها والعدة من أحكامه الثاني : أن المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا يؤمن أن تاتي بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها من التصرف والمبيت في غير منزلها حفظا لها
إذا ثبت هذا فإنه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة أهل العلم وحكي عن مالك أنها إذا كانت مدخولا بها وجب أربعة أشهر وعشر فيها حيضة واتباع الكتب والسنة أولى ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة وهذا الخلاف يختص بذات القرء فأما الآيسة والصغيرة فلا خلاف فيها وأما الأمة المتوفى عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام في قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب و عطاء و سليمان ابن يسار و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وغيرهم إلا ابن سيرين فإنه قال : ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنة فإن السنة أحق ان تتبع وأخذ بظاهر النص وعمومه ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة
فصل : والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها فتجب عشرة أيام مع الليل وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر و أصحاب الرأي وقال الأوزاعي يجب عشر ليالي وتسعة أيام لأن العشر تستعمل في الليالي دون الأيام وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعا قلنا العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى لزكريا : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } يريد أيامها بدليل أنه قال في موضع آخر : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } يريد بلياليها ولو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان لزمه الليالي والأيام ويقول القائل : سرنا عشرا يريد الليالي بأيامها فلم يجز نقلها عن العدة إلى الإباحة بالشك
فصل : وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا خلاف قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة وإن مات مطلق البائن في عدتها بنت على عدة طلاق إلا أن يطلقها في مرض موته فإنها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء نص على هذا أحمد وبه قال الثوري و أبو حنيفة و محمد بن الحسن وقال مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر تبني على عدة الطلاق لأنه مات وليست زوجة له لأنها بائن من النكاح فلا تكون منكوحة
ولنا أنها وارثة له فيجب عليها عدة الوفاة كالرجعية وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروا في دليلهم وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان قبل الدخول فليس عليها عدة لموته وقال القاضي : عليهن عدة الوفاة إذا قلنا يرثنه لأنهن يرثنه بالزوجية فتجب عليهن عدة الوفاة كما لو مات بعد الدخول وقبل قضاء العدة ورواه أبو طالب عن أحمد في التي انقضت عدتها وذكر ابن موسى فيها روايتين والصحيح أنها لا عدة عليها لأن الله تعالى قال : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وقال : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ـ وقال : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فلا يجوز تخصيص هذه النصوص بالتحكم ولأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل للمطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب عليها عدة لموته كما لو تزوجت وتخالف التي مات في عدتها فإنها لا تحل لغيره في هذه الحال ولم تنقض عدتها ولا نسلم أنها ترثه فإنها لو ورثته لأفضى إلى أن يرث الرجل ثماني زوجات فأما إن تزوجت إحدى هؤلاء فلا عدة عليه بغير خلاف نعلمة ولا ترثه أيضا وإن كانت المطلقة البائن لا ترث كالأمة أو الحرة يطلقها العبد أو الذمية يطلقها المسلم والمختلفة أو فاعلة ما يفسخ نكاحها لم تلزمها عدة سواء مات زوجها في عدتها أو بعدها على قياس قول أصحابنا فهم عللوا نقلها إلى عدة الوفاة بإرثها وهذه ليست وارثة فأشبهت المطلقة في الصحة وأما المطلقة في الصحة إذا كانت بائنا فمات زوجها فإنها تبني على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة وهذا قول مالك و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور و ابن المنذر وقال الثوري و أبو حنيفة : عليها أطول الأجلين كما لو طلقها في مرض موته
ولنا قوله سبحانه : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولأنها أجنبية منه في نكاحه وميراثه والحل له ووقوع طلاقه وظهاره وتحل له أختها وأربع سواها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت عدتها وذكر القاضي في المطلقة في المرض أنها إذا كانت حاملا تعتد أطول الأجلين وليس هذا بشيء لأن وضع الحمل تنقضي به كل عدة ولا يجوز أن يجب عليها الاعتداد بغير الحمل على ما نذكره في المسألة التي تلي هذا إن شاء الله تعالى

مسألة وفصل عدة المطلقة أو مات عنها زوجها وهي حامل
مسألة : قال : ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل أمة كانت أو حرة
أجمع أهل العلم في جميع الأعصار على أن المطلقة الحامل تنقضي بوضع حملها وكذلك كل مفارقة في الحياة وأجمعوا أيضا على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا أجلها وضع حملها إلا ابن عباس وروي عن علي من وجه منقطع انها تعتد بأقصى الأجلين وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم قوله وقد روي عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة وكره الحسن و الشعبي أن تنكح في دمها ويحكى عن حماد و إسحاق أن عدتها لا تنقضي حتى تطهر وأبى سائر أهل العلم هذا القول وقالوا : لو وضعت بعد ساعة من وفاة زوجها حل هلا أن تتزوج ولكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل وذلك لقول الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ وروي عن أبي بن كعب قال : قلت لنبي صلى الله عليه و سلم : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } للمطلقة ثلاثا أو للمتوفى عنها ؟ قال : هي المطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها ] وقال ابن مسعود : من شاء بأهلته أو لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } نزلت بعد التي في سورة البقرة { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } يعني أن هذه الآية هي الأخيرة فتقدم على ما خالفها من عموم الآيات المتقدمة ويخص بها عمومها
[ وروى عبد الله بن الأرقم أن سبيعة الأسلمية أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أو السنابل بن بعكك فقال مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح ؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزويج إن بدا لي ] متفق عليه قال ابن عبد البر هذا حديث صحيح قد جاء من وجوه شتى كلها ثابتة إلا ما روي عن ابن عباس وروي عن علي من وجه منقطع ولأنها معتدة حامل فتنقضي عدتها بوضعه كالمطلقة يحققه أن العدة إنما شرعت لعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة ولأنه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به كما في حق المطلقة
فصل : وإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه وإن ظهر بعضه فهي في عدتها حتى ينفصل باقيه لأنها لا تكون واضعة لحملها ما لم يخرج كله وإن كان الحمل اثنين أو أكثر لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر لأن الحمل هو الجميع هذا قول جماعة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة فإنهما قالا : تنقضي عدتها بوضع الأول ولا تتزوج حتى تضع الآخر
وذكر ابن أبي شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال : إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها قيل له فتتزوج قال لا : قال قتادة : خصم العبد وهذا قول شاذ يخالف ظاهر الكتاب وقول أهل العلم والمعنى فإن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها ولأنها لو انقضت عدتها بوضع الأول لأبيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان لم تنقض عدتها حتى تزول الريبة وتتيقن أنها لم يبق معها حمل لأن الأصل بقاؤها فلا يزول بالشك

مسألة وفصل صفة الحمل وأحوال الوضع
مسألة : قال : والحمل الذي تنقضضي به العدة ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان حرة كانت أو أمة
وجملة ذلك أن المرأة إذا ألقت بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل من خمسة أحوال أحدها : أن تضع ما بان فيه خلق الآدمي من الرأس واليد والرجل فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف بينهم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذ علم أنه ولد وممن نحفظ عنه ذلك الحسن و ابن سيرين و شريح و الشعبي و النخعي و الثوري و مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله : إذا نكس في الخلق الرابع ؟ يعني تنقضي به العدة ؟ فقال : إذا نكس في الخلق الرابع فليس فيه اختلاف ولكن إذا تبين خلقه هذا أدل وذلك لأنه إذا بان فيه شيء من خلق الآدمي علم أنه حمل فيدخل في عموم قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
الحال الثاني : ألقت نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمي أو لا فهذا لا يتعلق به شيء من الأحكام لأنه لم يثبت انه ولد لا بالمشاهدة ولا بالبينة
الحال الثالث : ألقت مضغة لم تبن فيها الخلقةة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بان أنها خلقة آدمي فهذا في حكم الحال الأول لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أنه ولد
الحال الرابع : إذا ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي فاختلف عن أحمد فنقل أبو طالب أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير به أم ولد لأنه لم يبن فيه خلق آدمي فاشبه الدم وقد ذكر هذا قولا لـ لشافعي وهو اختيار أبي بكر
ونقل الأثرم عن أحمد أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه ولدا فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه ولم يجز بيع الأمة الوالدة له مع الشك في رقها فيثبت كونها أم ولد احتياطا ولا تنقضي العدة احتياطا ونقل حنبل أنها تصير أم ولد ولم يذكر العدة فقال بعض اصحابنا : على هذا تنقضي به العدة وهو قول الحسن وظاهر مذهب الشافعي لأنهم شهدوا بأنه خلقة آدمي أشبه ما لو تصور والصحيح أن هذا ليس برواية في العدة لأنه لم يذكرها ولم يتعرض لها
الحال الخامس : أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي فهذا لا تنقضي به عدة ولا تصير به أم ولد لأنه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة فأشبه العلقة فلا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال سواء كان نطفة أو علقة وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمي أو لم يقل نص عليه أحمد فقال : أما إذا كان علقة فليس بشيء إنما هي دم لا تنقضي به عدة ولا تعتق به أمة ولا نعلم مخالفا في هذا إلا الحسن فإنه قال : إذا علم أنها حمل انقضت به العدة وفيه الغرة والأول أصح وعليه الجمهور وأقل ما تنقضي به العدة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما منذ أمكنه وطؤها ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ] ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين فأما ما بعد الأربعة أشهر فليس فيه إشكال لأنه منكس في الخلق الرابع
فصل : وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له علي : ليس لك ذلك قال الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وقال تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا لا رجم عليها فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرة لذلك الحد ورواه الأثرم أيضا عن عكرمة ان ابن عباس قال ذلك قال عاصم الأحول : فقلت لعكرمة إنا بلغنا أن عليا قال هذا فقال عكرمة : لا ما قال هذا إلا ابن عباس وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر وهذا قول مالك و الشافعي واصحاب الرأي وغيرهم

مسألة وفصول بيان أقصى مدة الحمل واتيان زوجة الصغير الذي لا يولد لمثله
مسألة : قال : ولو طلقها أو مات عنها فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين لحقه الولد وانقضت عدتها به
ظاهر المذهب أن أقصى مدة الحمل أربع سنين به قال الشافعي وهو المشهور عن مالك وروي عن أحمد أن أقصى مدته سنتان وروي ذلك عن عائشة وهو مذهب الثوري و أبي حنيفة لما روت جميلة بنت سعد عن عائشة : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل ولأن التقدير إنما يعلم بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف ههنا ولا اتفاق إنما هو على ما ذكرنا وقد وجد ذلك فإن الضحاك بن مزاحم وهرم بن حيان حملت أم كل واحد منهما به سنتين وقال الليث : أقصاه ثلاث سنين حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين وقال عباد بن العوام خمس سنين وعن الزهري قال : قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين وقال أبو عبيد : ليس لأقصاه وقت يوقف عليه
ولنا أن ما لا نص فيه يرجع إلى الوجود وقد وجد الحمل لأربع سنين فروى الوليد بن مسلم قال : قلت لـ مالك بن أنس حديث جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل قال مالك : سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد وقال الشافعي : بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين وقال أحمد : نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في بطن أمه أربع سنين وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك أبو الخطاب وإذا تقرر وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد ولأن عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك إلا أنه غاية الحمل وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما إذ ثبت هذا فإن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها منقضية به
فصل : وإن أتت بالولد لأربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلان أو فسخ أو انقضاء عدتها إن كانت رجعية لم يلحقه ولدها لأننا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح والبينونة منه وكونها قد صارت منه أجنبية فأشبهت سار الأجنبيات ومفهوم كلام الخرقي أن عدتها لا تنقضي به لأنه لا ينتفي عنه بغير لعان فلم تنقض عدتها منه بوضعه كما لو أتت به لأقل من ستة أشهر منذ نكحها قال أبو الخطاب : هل تنقضي به العدة ؟ على وجهين
وذكر القاضي أن عدتها تنقضي به وهو مذهب الشافعي لأنه ولد يمكن أن يكون منه بعد نكاحه بأن يكون قد وطئها بشبهة أو جدد نكاحها فوجب أن تنقضي به العدة وإن لم يلحق به كالولد المنفي باللعان وبهذا فارق الذي أتت به لأقل من ستة أشهر فإنه ينتفي يقينا ثم ناقضوا قولهم فقالوا لو تزوجت في عدتها وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين دخل بها الثاني ولأكثر من أربع سنين من حين بانت من الأول فالولد منتف عنهما ولا تنقضي عدتها بوضعه عن واحد منهما وهذا أصح فإن احتمال كونه منه لم يكف في إثبات نسب الولد منه مع أنه يثبت بمجرد الإمكان فلأن لا يكفي في انقضاء العدة أولى وأحرى وما ذكروه منتقض بما سلموه وما ذكروه من الفرق بين هذا وبين الذي أتت به لأقل من ستة أشهر غير صحيح فإنه يحتمل أن يكون أصابها قبل نكاحها بشبهة أو بنكاح غير هذا النكاح الذي أتت بالولد فيه فاستويا
وأما المنفي باللعان فإنا نفينا الولد عن الزوج بالنسبة إليه ونفينا حكمه في كونه منه بالنسبة إليها حتى أوجبنا الحد على قاذفها وقاذف ولدها وانقضاء عدتها من الأحكام المتعلقة بها دونه فثبتت
فصل : وإن أقرت المرأة بانقضاء عدتها بالقروء ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من بعد انقضائها لم يحلق نسبه بالزوج وبه قال أبو حنيفة و ابن سريج وقال مالك و الشافعي : يلحق به وما لم تتزوج و يبلغ أربع سنين وكلام لخرقي يحتمل ذلك فإنه أطلق قوله إذا أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين لحقه الولد وذلك لأنه ولد يمكن كونه منه وليس معه من هو أولى منه ولا من يساويه فوجب أن يلحق به كما لو أتت به بعد عقد النكاح
ولنا أنها أتت به بعد الحكم بقضاء عدتها وحل النكاح لها بمدة الحمل فلم يلحق به كما لو أتت به بعد انقضاء عدتها بوضع حملها لمدة الحمل وإنما يعتبر الإمكان مع بقاء النكاح أو آثاره وقد زال ذلك وإن انقضت عدتها بالشهور ثم أتت بولد لدون أربع سنين لحقه نسبه لأنها إن كانت تدعي الإياس تبينا كذبها فإن من تحمل ليست بآيسة وإن كانت من اللائي لم يحضن أو متوفى عنها لحقه ولدها لأنه لم يوجد في حقها ما ينافي كونها حاملا
فصل : وإذا مات الصغير الذي لا يولد لمثله عن زوجته فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض العدة بوضعه وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : إن مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع فإن ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به
وقد روي عن احمد في الصبي مثل قول ابي حنيفة وذكره ابن أبي موسى قال أبو الخطاب وفيه بعد وهكذا الخلاف فيما إذا تزوج بإمرأة ودخل بها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعنده تعتد به واحتج بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
ولنا أن هذا حمل منفي عنه يقينا فلم تعتد بوضعه كما لو ظهر بعد موته والآية واردة في المطلقات ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه إذا ثبت هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطء الذي علقت به منه سواء كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير مثل ان يكون من عقد فاسد أو وطء شبهة أو كان من زنا لا يلحق بأحد لأن العدة تجب من كل وطء فإذا وضعته اعتدت من الصبي بأربعة أشهر وعشر لأن العدتين من رجلين لا يتداخلان وإن كانت الفرقة في الحياة بعد الدخول كزوجة كبير دخل بها ثم طلقها وأتت بولد لودن ستة أشهر منذ تزوجها فإنها تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء وكذلك إذا طلق الخصي المجبوب امرأته أو مات عنها فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض عدتها بوضعه وتنقضي به عدة الوطء ثم تستأنف عدة الطلاق أو عدة الطلاق أو عدة الوفاة على ما بيناه وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أن الولد يلحق به لأنه قد يتصور منه الإنزال بأن يحك موضع ذكره بفرجها فينزل فعلى هذا القول يلحق به الولد وتنقضي به العدة والصحيح أن هذا لا يلحق به ولد لأنه لم تجر به عادة فلا يلحق به ولدها كالصبي الذي لم يبلغ عشر سنين ولو تزوج امرأة في مجلس الحاكم ثم طلقها في المجلس أو تزوج المشرقي بالمغربية ثم أتت بولد لا يمكن أن يكون منه بعد اجتماعهما بمدة الحمل فإنه لا يلحقه نسبه ولا تنقضي العدة بوضعه

مسألة قال ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها
مسألة : قال : ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها فرق بينهما وبنت على ما مضى من عدة الأول ثم استقبلت العدة من الثاني
وجملة الأمر أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها إجماعا أي عدة كانت لقول الله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحا باطلا كما لو تزوجت وهي في نكاحه ويجب أن يفرق بينه وبينها فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها ولا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه بالعقد شيء وتسقط سكناها ونفقتها عن الزوج الأول لأنها ناشز وإن وطئها انقطعت العدة سواء علم التحريم أو جهله وقال ابو حنيفة : لا تنقطع لأن كونها فراشا لغير من له العدة لا يمنعها كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشا للزوج وقال القاضي : إن وطئها عالما بأنها معتدة وأنها تحرم فهو زان فلا تنقطع العدة بوطئه لأنها لا تصير به فراشا ولا يلحق به نسب وإن كان جاهلا أنها معتدة أو بالتحريم العدة بالوطء لأنها تصير به فراشا والعدة تراد للاستبراء وكونها فراشا ينافي ذلك فوجب أن يقطعها فأما طريانه عليها فلا يجوز
ولنا أن هذا وطء بشبهة نكاح فتنقطع به العدة كما لو جهل وقولهم : إنها لا تصير به فراشا قلنا : لكنه لا يلحق نسب الولد الحادث من وطئه بالزوج الأول فهما شيئان إذا ثبت هذا فعليه فراقها فإن لم يفعل وجب التفريق بينها فإن فارقها أو فرق بينهما وجب عليها أن تكمل عدة الأول لأن حقه أسبق وعدته وجبت عن وطء في نكاح صحيح فإذا أكملت عدة الأول وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو حنيفة : يتداخلان فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن بقية عدة الأول و عدة الثاني لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعا
ولنا ما روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات بمخفقة وفرق بينهما ثم قال : أيما ارأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينها ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا
وروى بإسناده عن علي أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر وهذان قولا سيدين من الخلفاء لم يعرف لهما في الصحابة مخالف ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين واليمينين ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء فلم يجز أن تكون المرأة ف يحبس رجلين كحبس الزوجة

مسألة حل نكاح المرأة لزوجها الثاني بعد انقضاء عديتها
مسألة : قال : وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين
يعني للزوج الثاني أن يتزوجها بعد قضاء العدتين فأما الزوج الأول فإن كان طلاقه ثلاثا لم تحل له بهذا النكاح وإن وطىء فيه لأنه نكاح باطل وإن كان طلاقه دون الثلاث فله نكاحها أيضا بعد العدتين وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه
وعن أحمد رواية أخرى أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد وهو قول مالك وقديم قولي الشافعي لقول عمر لا ينكحها أبدا ولأنه استعجل الحق قبل وقته فحرمه في وقته كالوارث إذا قتل موروثه ولأنه يفسد النسب فيوقع التحريم المؤبد كاللعان
وقال الشافعي في الجديد : له نكاحها بعد قضاء عدة الأول ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه ولأنه وطء يلحق به النسب فلا يمنع من نكاحها في عدتها منه كالوطء في النكاح ولأن العدة إنما شرعت حفظا للنسب وصيانة للماء والنسب لاحق به ههنا فأشبه ما لو خلعها ثم نكحها في عدتها وهذا حسن موافق للنظر
ولنا على إباحتها بعد العدتين أنه لا يخلو إما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطء في النكاح الفاسد أو بهما وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو نكحها بلا ولي ووطئها ولأنه لو زنى بها لم تحرم عليه على التأبيد فهذا أولى ولأن آيات الإباحة عامة كقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وقوله : { والمحصنات من المؤمنات } فلا يجوز تخصيصها بغير دليل وما روي عن عمر في تحريمها فقد خالفه علي فيه
وروي عن عمر أنه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن عليا قال : إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب فقال عمر : ردوا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي وقياسهم يبطل بما إذا زنى بها فإنه قد استعجل وطأها ولا تحرم عليه على التأبيد ووجه تحريمها قبل قضاء عدة الثاني عليه قول الله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ولأنه وطء يفسد به النسب فلم يجز النكاح في العدة منه كوطء الأجنبي

فصل انقضاء العدة مطلقا بوضع الحمل
فصل : وكل معتدة من غير النكاح الصحيح كالزانية والموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد فقياس المذهب تحريم نكاحها على الواطىء وغيره والأولى حل نكاحها لمن هي معتدة منه إن كان يلحقه نسب ولدها لأن العدة لحفظ مائه وصيانة نسبه ولا يصان ماؤه المحترم عن مائه المحترم ولا يحفظ نسبه عنه ولذلك أبيح للمختلعة نكاح من خالعها ومن لا يلحقه نسب ولدها كالزانية لا يحل له نكاحها لأن نكاحها يفضي إلى اشتباه النسب فالواطىء كغيره في أن الولد لا يلحق نسبه بواحد منهما

مسألة وإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما
مسألة : قال : وإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما أري القافة وألحق بمن ألحقوه منما وانقضت عدتها من واعتدت للآخر
وجملته أنها إذا كانت حاملا انقضت عدتها منه بوضع حملها لقوله سبحانه : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ثم ننظر فإن كان يمكن أن يكون من الأول دون الثاني وهو أن يأتي به لدون ستة أشهر من وطء الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول فإنه يلحق بالأول وتنقضي عدتها به منه بوضعه ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني وإن أمكن كونه من الثاني دون الأول وهو أن تأتي لستة أشهر فما زاد إلى اربع سنين من وطء الثاني ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول فهو ملصق بالثاني دون الأول فتنقضي به عدتها من الثاني ثم تتم عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا على الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان والعدة من غيره وإن أمكن أن يكون منهما وهو أن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول أري القافة فإن الحقته بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني وإن ألحقته بالثاني لحق به وكان الحكم كما له أمكن كونه من الثاني دون الأول فإن أشكل أمره على القافة أو لم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ليسقط الفرض بيقين فأما الولد فقال ابو بكر : يضيع نسبه لأنه لا دليل على نسبته إلى واحد منهما فأشبه ما لو كان مجنونا لم ينتسب إلى واحد منهما وقال أبو عبد الله بن حامد : يترك حتى يبلغ فينتسب إلى أحدهما وإن ألحقته القافة بهما لحق بهما ومقتضى المذهب أن تنقضي عدتها به منهما جميعا لأن نسبه ثبت منهما كما تنقضي عدتها به من الواحد الذي يثبت نسبه منهما
وإن نفته القافة عنهما فحكمه حكم ما لو أشكل أمره وتعتد بعد وضعه بثلاثة قروء ولا ينتفي عنهما بقول القافة لأن عمل القافة في ترجيح أحد صاحبي الفراش لا في النفي عن الفراش كله ولهذا لو كان صاحب الفراش واحدا فنفته القافة عنه لم ينتف عنه بقولها
فأما إن ولدت لدون ستة أشهر من وطء الثاني ولأكثر من أربع من فراق الأول لم يلحق بواحد منهما ولا تنقضي به عدتها منه لأننا نعلم أنه من وطء آخر فتنقضي به عدتها من ذلك الوطء ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني لأنه قد وجد ما يقتضي عدة ثالثة وهو الوطء الذي حملت منه فتجب عليها عدتان وإتمام العدة الأولى

فصل وإذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وتحريم النكاح فيها ووطئها
فصل : وإذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وتحريم النكاح فيها ووطئها فهما زانيان عليهما حد الزنا ولا مهر لها ولا يلحقه النسب وإن كان جاهلين بالعدة أو بالتحريم ثبت النسب وانتفى الحد ووجب المهر وإن علم هو دونها فعليه الحد والمهر ولا نسب له وإن علمت هي دونه فعليها الحد ولا مهر لها ولانسب لاحق به وإنما كان كذلك لأن هذا نكاح متفق على بطلانه فأشبه نكاح ذوات محارمه

فصول اباحة نكاح المعتدة من خلع أو فسخ لزوجها في عدتها وارتجاع الرجعية في عدتها ثم وطئها وطلاقها
فصل : وإذا خالع الرجل زوجته أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول جمهور الفقهاء وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و الزهري و الحسن و قتادة و مالك و مالك و الشافعي واصحاب الرأي وشذ بعض المتأخرين فقال : لا يحل له نكاحها ولا خطبتها لأنها معتدة
ولنا أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح فإذا تزوجها انقطعت العدة لأن المرأة تصير فراشا به بعقده ولا يجوز أن تكون زوجة معتدة فإن وطئها ثم طلقها لزمتها عدة مستأنفة ولا شيء عليها من الأولى لأنها قد انقطعت وارتفعت وإن طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف العدة أو تبني على ما مضى ؟ قال القاضي : فيه روايتان إحداهما : تستأنف وهو قول أبي حنيفة لأنه طلاق لا يخلو من عدة فأوجب عدة مستأنفة كالأول والثانية : لا يلزمها استئناف عدة وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله سبحانه : { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها }
وذكر القاضي في كتاب الروايتين أنه لا يلزمها استئناف العدة رواية واحدة لكن يلزمها إتمام بقية العدة الأولى لأن إسقاطها يفضي إلى اختلاط المياه لأنه يتزوج امرأة ويطؤها ويخلعها ثم يتزوجها ويطلقها في الحال ويتزوجها الثاني في يوم واحد فإن خلعها حاملا ثم تزوجها حاملا ثم طلقها وهي حامل انقضت عدتها بوضع الحمل على كلتا الروايتين ولا نعلم فيه مخالفا ولا تنقضي عدتها قبل وضعها بغير خلاف نعلمه وإن وضعت حملها قبل النكاح الثاني فلا عدة عليها للطلاق من النكاح الثاني بغير خلاف أيضا لأنه نكحها بعد قضاء عدة الأول وإن وضعته بعد النكاح الثاني وقبل طلاقه فمن قال يلزمها استئناف عدة أوجب عليها الاعتداد بعد طلاق الثاني بثلاثة قروء ومن لا يلزمها استئناف عدة لم يوجب عليها ههنا عدة لأن العدة الأولى انقضت بوضع الحمل إذ لا يجوز أن تعتد الحامل بغير وضعه وإن كانت من ذوات القروء أو الشهور فنكحها الثاني بعد مضي قرء او شهر ثم مضى قرآن أو شهران قبل طلاقه من النكاح الثاني فقد انقطعت العدة بالنكاح الثاني فإن قلنا تستانف العدة فعليها عدة تامة بثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر وإن قلنا تبني أتمت العدة الأولى يقرأين أو شهرين
فصل : وإن طلقها طلاقا رجعيا ثم ارتجعها في عدتها ووطئها ثم طلقها انقطعت العدة الأولى برجعته لأنه زال حكم الطلاق وتستأنف عدة من الطلاق الثاني لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس وإن طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف عدة أو تبني على العدة الأولى ؟ فيه روايتان أولاهما : أنها تستأنف لأن الرجعة أزالت شعهث الطلاق الأول وردتها إلى النكاح الأول فصار الطلاق الثاني طلاقا من نكاح اتصل به المسيس والثانية تبني لأن الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد ولو نكحها ثم طلقها قبل المسيس لم يلزمها لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة فإن فسخ نكاحها قبل الرجعة بخلع أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق لأن موجبه في العدة موجب الطلاق ولا فرق بينهما واحتمل أن تستأنف العدة لأنهما جنسان بخلاف الطلاق وإن لم يرتجعها بلفظه لكن وطئها في عدتها فهل تحصل بذلك رجعة أو لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تحصل به الرجعة فيكون حكمها حكم من ارتجعها بلفظه ثم وطئها سواء والثانية : لا تحصل الرجعة به ويلزمها استئناف عدة لأنه وطء في نكاح تشعث فهو كوطء الشبهة وتدخل بقية عدة الطلاق فيها لأنهما من رجل واحد وإن حملت من هذا الوطء فهل تدخل فيها بقية الأولى ؟ على وجهين أحدهما : تدخل لأنهما من رجل واحد والثاني : لا تدخل لأنهما من جنسين فعلى هذا إذا وضعت حملها أتمت عدة الطلاق وإن وطئها وهي حامل ففي تداخل العدتين وجهان فإن قلنا يتداخلان فانقضاؤهما معا بوضع الحمل وإن قلنا لا يتداخلان فانقضاء عدة الطلاق بوضع الحمل وتستأنف عدة الوطء بالقروء
فصل : فإن طلقها طلاقا رجعيا فنكحت في عدتها من وطئها فقد ذكرنا أنها تبني على عدة الأول ثم تستأنف عدة الثاني ولزوجها الأول رجعتها في بقية عدتها منه لأن الرجعة إمساك للزوجة وطريان الوطء من أجنبي على النكاح لا يمنع الزوج إمساك زوجته كما لو كانت في صلب النكاح وقيل : ليس له رجعتها لأنها محرمة عليه فلم يصح له ارتجاعها كالمرتدة والصحيح الأول فإن التحريم لا يمنع الرجعة كالإحرام ويفارق الردة لأنها جارية إلى بينونة بعد الرجعة بخلاف العدة وإذا انقضت عدتها منه فليس له رجعتها في عدة الثاني لأنها ليست منه وإذا ارتجعها في عدتها من نفسه وكانت بالقروء أو بالأشهر انقطعت عدته بالرجعة وابتدأت عدة من الثاني ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدة الثاني كما لو وطئت بشبهة في صلب نكاحه وإن كانت معتدة بالحمل لم يمكن شروعها في عدة الثاني قبل وضع الحمل لأنها بالقروء فإذا وضعت حملها شرعت في عدة الثاني وإن كان الحمل ملحقا بالثاني فإنها تعتد به عن الثاني وتقدم عدة الثاني على الأول فإذا أكملتها شرعت في إتمام عدة الأول وله حينئذ أن يرتجعها لأنها في عدته وإن أحب أن يرتجعها في حال حملها ففيه وحهان أحدهما : ليس له ذلك لأنها ليست في عدته وهي محرمة عليه فأشبهت الأجنبية أو المرتدة والثاني له رجعتها لأن عدتها منه لم تنقض وتحريمها لا يمنع رجعتها كالمحرمة

فصل تزوج الرجل امرأة لها ولد من غيره
فصل : إذا تزوج رجل امرأة لها ولد من غيره فمات ولدها فإن أحمد قال : يعتزل امرأته حتى تحيض حيضة وهذا يروى عن علي بن أبي طالب و الحسن ابنه ونحوه عن عمر بن الخطاب وعن الحسن بن علي والصعب بن جثامة وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز و النخعي و مالك و إسحاق و أبو عبيد قال عمر بن عبد العزيز لا يقربها حتى ينظر بها حمل أم لا وإنما قالوا ذلك لأنها إن كانت حاملا حين موته ورثه حملها وإن حدث الحمل بعد الموت لم يرثثه فإن كان للميت ولد أو أب أو جد لم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل لا ميراث له وإن كانت حاملا قد تبين حملها لم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل معلوم وإن كانت آيسة لم يحتج إلى استبرائها لليأس من حملها وإن كانت ممن يمكن حملها ولم يبين لها حمل ولم يعتزلها زوجها فأتت بولد قبل ستة أشهر ورث وإن أتت به بعد ستة أشهر من حين وطئها بعد موت ولدها لم يرث لأنا لا نتيقن وجوده حال موته هذا يروى عن سفيان وهو قياس قول الشافعي

فصول أحكام المفقود الغائب وقد تزوجت امرأته
فصل : في أحكام المفقود إذا غاب الرجل عن امرأته لم يخل من حالين أحدهما : أن تكون غيبة غير منقطعة يعرف خبره ويأتي كتابه فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم أجمعين إلا أن يتعذر الانفاق عليها من ماله فلها أن تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه وأجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته وهذا قول النخعي و الزهري و يحيى بن الأنصاري و مكحول و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور و إسحاق وأصحاب الرأي وإن ابق العبد فزوجته على الزوجية حتى تعلم موته أو ردته وبه قال الأوزاعي و الثوري و الشافعي و إسحاق وقال الحسن : إباقه طلاقه
ولنا أنه ليس بمفقود فلم ينفسخ نكاحه كالحر ومن تعذر الإنفاق من ماله على زوجته فحكمها في الفسخ حكم ما ذكرنا إلا أن العبد نفقة زوجته على سيده أو في كسبه فيعتبر تعذر الإنفاق من محل الوجوب
الحال الثاني : أن يفقد وينقطع خبره ولا يعلم له موضع فهذا ينقسم قسمين أحدهما : أن يكون ظاهر غيبته السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وإباق العبد وطلب العلم والسياحة فلا تزول الزوجية أيضا ما لم يثبت موته وروي ذلك عن علي وإليه ذهب ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و ابو حنيفة و الشافعي في الجديد وروي ذلك عن أبي قلابة و النخعي و أبي عبيد
وقال مالك و الشافعي في القديم : تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالعنة وتعذر النفقة بالإعسار فلأن يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى واحتجوا بحديث عمر في المفقود مع موافقة الصحابة له وتركهم إنكاره
ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله وهذا يقتضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج قال أصحابنا : إنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلال والمذهب الأول لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل الأربع سنين أو كما قبل التسعين ولأن هذا التقدير بغير توقيف والتقدير لا ينبغي أن يصار إليه إلا بالتوقيف لأن تقديرها بتسعين سنة من يوم ولادته يفضي إلى اختلاف العدة في حق المرأة باختلاف عمر الزوج ولا نظير لهذا وخبر عمر ورد فيمن ظاهر غيبته الهلاك فلا يقاس عليه غيره
القسم الثاني : أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع فلا يظهر له خبر أو يفقد بين الصفين أو ينكسر بهم مركب فيغرق بعض رفقته أو يفقد مهلكه كبرية الحجاز ونحوها فمذهب أحمد الظاهر عنه أن زوجته تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله تذهب إلى حديث عمر ؟ قال : هو أحسنها يروى عن عمر من ثمانية وجوه ثم قال : زعموا أن عمر رجع عن هذا هؤلاء الكذابين قلت فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف هذا
قال : لا إلا أن يكون إنسان يكذب وقلت له مرة إن إنسانا قال لي إن أبا عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك فضحك ثم قال : من ترك هذا القول أي شيء يقول ؟ وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير قال أحمد : خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز و الحسن و الزهري و قتادة و الليث و علي بن المديني وعبد العزيز بن أبي سلمة وبه يقول مالك و الشافعي في القديم إلا أن مالكا قال : ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت وقال سعيد بن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين : تتربص سنة لأن غلبة هلاكه هنا أكثر من غلبة غيره لوجود سببه
وقد نقل عن أحمد أنه قال : كنت أقول : إذا تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرا تزوجت وقد ارتبت فيها وهبت الجواب فيها لما اختلف الناس فيها فكأني أحب السلامة وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله وتتربص أبدا ويحتمل التورع ويكون المذهب ما قاله أولا
قال القاضي : أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية واحدة وعندي أن المسألة على روايتين وقال أبو بكر الذي أقول به إن صح الاختلاف في المسألة أن لا يحكم بحكم ثان إلا بدليل على الانتقال وإن ثبت الإجماع فالحكم فيه على ما نص عليه وظاهر المذهب على ما حكيناه من رواية أولا نقله عن أحمد الجماعة وقد أنكر أحمد رواية من روى عنه الرجوع على ما حكيناه من رواية الأثرم
وقال أبو قلابة و النخعي و الثوري و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة وأصحاب الرأي و الشافعي في الجديد : [ لا تتزوج امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه لما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها ] وروى الحكم و حماد عن علي : لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه لأنه شك في زوال الزوجية فلم تثبت به الفرقة كما لو كان ظاهر غيبته السلامة
ولنا ما روى الأثرم و الجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير قال : فقد رجل في عهد عمر فجاءت امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له فقال : انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم أتته فقال : انطلقي فاعتدي أربعة اشهر وعشرا ففعلت ثم أتته فقال : أين ولي هذا الرجل ؟ فقال : طلقها ففعل فقال لها عمر : انطلقي فتزوجي من شئت فتزوجت ثم جاء زوجها الأول فقال عمر أين كنت ؟ قال يا أمير المؤمنين استهوتني الشياطين فوالله ما أدري في أي أرض الله كنت عند قوم يستعبدونني حتى اغتزاهم منهم قوم مسلمون فكنت فيما غنموه فقالوا لي : أنت رجل من الإنس وهؤلاء من الجن فما لك وما لهم ؟ فأخبرتهم خبري فقالوا : بأي أرض الله تحب أن تصبح ؟ قلت المدينة هي أرضي فأصبحت وأنا أنظر إلى الحرة فخيره عمر إن شاء امرأته وإن شاء الصداق فاختار الصداق وقال : قد حبلت لا حاجة لي فيها قال أحمد : يروى عن عمر من ثلاثة وجوه ولم يعرف في الصحابة له مخالف
وروى الجوزجاني وغيره بإسنادهم عن علي في امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين امرأته وقضى به عثمان أيضا وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تنكر فكانت إجماعا
فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه و سلم فلم يثبت ولم يذكره أصحاب السنن ومارووه عن علي فيرويه الحكم و حماد مرسلا والمسند عنه مثل قولنا ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر غيبته السلامة جمعا بينه وبين ما رويناه وقولهم إنه شك في زوال الزوجية ممنوع فإن الشك ما تساوى فيه الأمران والظاهر في مسألتنا هلاكه
فصل : وهل يعتبر أن يطلقها ولي زوجها ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة قروء ؟ فيه روايتان إحداهما : يعتبر ذلك لأنه في حديث عمر الذي رويناه وقد قال أحمد : هة احسنها وذكر في حديث علي أنه يطلقها ولي زوجها والثانية : لا يعتبر ذلك كذلك قال ابن عمر وابن عباس وهو القياس فإن ولي الرجل لا ولاية له في طلاق امرأته ولأننا حكمنا عليها بعدة الوفاة فلا تجب عليها مع ذلك عدة الطلاق كما لو تيقنت وفاته ولأنه قد وجد دليل هلاكه على وجه أباح لها التزويج وأوجب عليها عدة الوفاة فأشبه ما لو شهد به شاهدان
فصل : وهل يعتبر ابتداء المدة من حين الغيبة أو من حين ضرب الحاكم المدة ؟ على روايتين إحداها : يعتبر ابتداؤها من حين ضربها الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فافتقرت إلى ضرب الحام كمدة العنة والثاني : من حين انقطع خبره وبعد اثره لأن هذا ظاهر في موته فكان ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان ولـ لشافعي وجهان كالروايتين

فصلان حكم قدوم المفقود الغائب وقد تزوجت امرأته
فصل : فإن قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج فهي امرأته وقال بعض أصحاب الشافعي : إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول والذي ذكرنا أولى لأننا إنما أبحنا لها التزويج لأن الظاهر موته فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا ولأنه أحد الملكين فأشبه ملك المال فأما إن قدم بعد أن تزوجت نظرنا فإن كان قبل دخول الثاني بها فهي زوجة الأول ترد إليه ولا شيء قال أحمد : أما قبل الدخول فهي امرأته وإنما التخيير بعد الدخول وهذا قول الحسن و عطاء و خلاس ابن عمرو و النخعي و قتادة و مالك و إسحاق وقال القاضي : فيه رواية أخرى أنه يخير وأخذه من عموم قول أحمد : إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على خاصه في رواية الأثرم وأنه لا تخيير إلا بعد الدخول فتكون زوجة الأول رواية واحدة لأن النكاح إنما يصح في الظاهر دون الباطن فإذا قدم تبينا ان النكاح كان باطلا لأنه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته وليس عليه صداق لأنه نكاح فاسد لم يتصل به دخول ويعود الزوج بالعقد الأول كما لو لم تتزوج وإن قدم بعد دخول الثاني بها خير الأول بين أخذها فتكون زوجته بالعقد الأول وبين أخذ صداقها وتكون زوجة الثاني وهذا قول مالك لإجماع الصحابة عليه فروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قالا : إن جاء زوجها الأول خير بين المرأة وبين الصداق الذي ساق هو رواه الجوزجاني و الأثرم وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وقال عي ذلك في الحديث الذي رويناه ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا فعلى هذا إن أمسكها الأول فهي زوجته بالعقد الأول والمنصوص عن أحمد أنه لا يحتاج الثاني إلى طلاق لأن نكاحه كان باطلا في الباطن وقال القاضي : قياس قوله أنه يحتاج إلى طلاق لأن هذا نكاح مختلف في صحته فكام مأمورا بالطلاق ليقطع حكم العقد الثاني كسائر الأنكحة الفاسدة ويجب على الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني وإن لم يخترها الأول فإنها تكون مع الثاني ولم يذكروا لها عقدا جديدا والصحيح أنه يجب أن يستأنف لها عقدا لأننا تبينا بطلان عقده بمجيء الأول ويحمل قول الصحابة على هذا لقيام الدليل عليه فإن زوجه الإنسان لا تصير زوجة لغيره بمجرد تركه لها وقال أبو الخطاب : القياس أننا إن حكمنا بالفرقة ظاهرا وباطنا فهي امرأة الثاني ولا خيار للأول لأنها بانت منه بفرقة الحاكم فأشبه ما لو فسخ نكاحها لعسرته وإن لم نحكم بفرقته باطنا فهي امرأة الأول ولا خيار له
فصل : ومتى اختار الأول تركها فإنه يرجع على الثاني بصداقها لقضاء الصحابة بذلك ولأنه حال بينه وبينها بعقده عليها دخوله بها واختلف عن أحمد فيما يرجع به فروي عنه أنه يرجع بالصداق الذي أصدقها هو وهو اختيار أبي بكر وقول الحسن و الزهري و قتادة وعلي بن المديني لقضاء علي وعثمان أنه يخير بينهما وبين الصداق الذي ساق هو ولأنه أتلف عليه المعوض فرجع عليه بالعوض كشهود الطلاق إذا رجعوا عن الشهادة فعلى هذا إن كان لم يدفع إليها الصداق لم يرجع بشيء وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع ويحتمل أن يرجع عليه بالصداق وترجع المرأة بما بقي عليه من صداقها وعن أحمد أنه يرجع عليه بالمهر الذي أصدقها الثاني لأن إتلاف البضع من جهته والرجوع عليه بقيمته والبضع لا يتقوم إلا على زوج أو من جرى مجراه فيجب الرجوع عليه بالمسمى الثاني دون الأول وهل يرجع الزوج الثاني على الزوجة بما أخذ منه ؟ فيه روايتان ذكر ذلك أبو عبد الله بن حامد إحداهما : يرجع به لأنها غرامة لزمت الزوج بسبب وطئه لها فرجع بها كالمغرور والثانية : لا يرجع بها وهو أظهر لأن الصحابة لم يقضوا بالرجوع فإن سعيد بن المسيب روى أن عمر وعثمان قضيا في المرأة التي لا تدري ما مهلك زوجها ؟ أن تربص أربع سنين ثم تعتد عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ثم تزوج إن بدا لها فإن جاء زوجها خير إما امرأته وإما الصداق فإن اختار الصداق فالصداق على زوجها الآخر وتثبت عنده وإن اختار امرأته عزلت عن زوجها الآخر حتى تنقضي عدتها وإن قدم زوجها وقد توفي زوجها الآخر ورثت واعتدت عدة المتوفى عنها وترجع إلى الأول رواه الجوزجاني ولأن المرأة لا تغرير منها فلم يرجع عليها بشيء كغيرها فإن قلنا : يرجع عليها فإن كان قد دفع إليها الصداق رجع به وإن كان لم يدفعه إليها دفعه إلى الأول ولم يرجع عليها بشيء وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع وإن قلنا لا يرجع عليها وكان قد دفع إليها الصداق لم يرجع به وإن لم يكن دفعه إليها لزمه دفعه ويدفع إلى الأول صداقا آخر

فصل حكم ما لو اختارت امرأة المفقود المقام والصبر
فصل : وإن اختارت امرأة المفقود المقام والصبر حتى يتبين أمره فلها النفقة ما دام حيا وينفق عليها من ماله حتى يتبين أمره لأنها محكوم لها بالزوجية فتجب لها النفقة كم لو علمت حياته فإذا تبين أنه مات أو فارقها فلها النفقة إلى يوم موته أو بينونتها منه ويرجع عليها بالباقي لأنا تبينا أنها أنفقت مال غيره أو أنفقت من ماله وهي غير زوجة له وإن رفعت أمرها إلى الحاكم فضرب لها مدة فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأن مدة التربص لم يحكم فيه بينونتها من زوجها فهي محبوسة عليه بحكم الزوجية فأشبه ما قبل المدة وأما مدة العدة فلأنها غير متيقنة بخلاف عدة الوفاة فإن موته متيقن وما بعد العدة إن تزوجت أو فرق الحاكم بينهما سقطت نفقتها لأنها أسقطتها بخروجها عن حكم نكاحه وإن لم تتزوج ولا فرق الحاكم بينهما فنفقتها باقية لأنها لم تخرج بعد من نكاحه وإن قدم الزوج بعد ذلك وردت إليه عادت نفقتها من حين الرد وقد روى الأثرم و الجوزجاني عن ابن عمر وابن عباس قالا : تنتظر امرأة المفقود أربع سنين قال ابن عمر ينفق عليها من مال زوجها وقال ابن عباس : إذا يجحف ذلك بالورثة ولكنها تستدين فإن جاء زوجها أخذت من ماله وإن مات أخذت من نصيبها من الميراث وقالا : ينفق عليها بعد في العدة بعد الأربع سنين من مال زوجها جميعه أربعة أشهر وعشرا وإن قلنا : ليس لها أن تتزوج لم تسقط نفقتها مالم تتزوج فإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها بالتزويج تخرج عن يديه وتصير ناشزا وإن فرق بينهما فلا نفقة لها ما دامت في العدة فإذا انقضت فلم تعد إلى مسكن زوجها فلا نفقة لها أيضا لأنها باقية على النشوز وإن عادت إلى مسكنه احتمل أن تعود النفقة لأن النشوز مسكن المسقط لنفقتها قد زال ويحتمل ألا تعود لأنها ما سلمت نفسها إليه وإن عاد فتسلمها عادت نفقتها ومتى أنفق عليها ثم بان أن الزوج كان قد مات قبل ذلك حسب عليها ما أنفق عليها من حين موته من ميراثها فإن لم ترث شيئا فهو عليها لأنها انفقت من مال الوارث ما لا تستحقه فأما نفقتها على الزوج الثاني فإن قلنا لها أن تتزوج فنكاحها صحيح حكمه في النفقة حكم غيره من الأنكحة الصحيحة وإن قلنا ليس لها أن تتزوج فلا نفقة لها فإن انفق عليها لم يرجع بشيء لأنه تطوع به إلا أن يجبره على ذلك حاكم فيحتمل أن يرجع بها لأنه الزمه أداء ما لم يكن واجبا عليه ويحتمل ألا يرجع به لأن ما حكم به الحاكم لا يجوز نقضه ما لم يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا فإن فارقها بتفريق الحاكم أو غيره فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملا فينبني وجوب النفقة على الروايتين في النفقة هل هي للحمل أو لها من أجله ؟ فإن قلنا هي للحمل فلها النفقة لأن نسب الحمل لاحق به فيجب عليه الإنفاق على ولده وإن قلنا لها من أجله فلا نفقة لها لأنه في غير نكاح صحيح فأشبه حمل الموطءة بشبهة وإذا أتت بولد يمكن كونه من الثاني لحقه نسبه لأنها صارت فراشا له وقد علمنا أن الولد ليس من الأول لأنها تربصت بعد فقده أكثر من مدة الحمل وتنقضي عدتها من الثاني بوضعه لأن الولد منه و عليها أن ترضعه اللبأ لأن الولد لا يقوم بدنه إلا به فإن ردت إلى الأول فله منعها من إرضاعه كما له أن يمنعها من رضاع أجنبي لأن ذلك يشغلها عن حقوقه إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه التلف فليس له منعها من إرضاعه لأن هذا حال ضرورة فإن أرضعته في بيت الزوج الأول لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته ويده وإن أرضعته في غير بيته بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها ناشز وإن كان بإذنه خرج على الروايتين فيما إذا سافرت لحاجتها بإذنه

فصل ميراث الزوجة من الزوجين وتوريثهما منها
فصل : في ميراثها من الزوجين وتوريثهما منها متى مات زوجها الأول أو ماتت قبل تزوجها للثاني ورثته وورثها وكذلك إن تزوجت الثاني فلم يدخل بها لأننا قد تبينا أنه متى قدم قبل الدخول بها ردت إليه بغير تخيير
وقد ذكرنا أن القاضي ذكر أن فيها رواية أخرى أنه يخير فيها فعلى هذه الرواية حكمه حكم ما لو دخل بها الثاني فأما إن دخل الثاني بها نظرنا فإن قدم الأول فاختارها وردت إليه ورثها وورثته ولم ترث الثاني ولم يرثها لأنه لا زوجية بينهما وإن مات أحدهما قبل اختيارها إما في الغيبة أو بعد قدومه فإن قلنا : لها أن تتزوج ورثت الزوج الثاني وورثها ولم ترث الأول ولم يرثها لأن من خير بين شيئين فتعذر أحدهما تعين الآخر وإن ماتت قبل اختيار الأول خير فإن اختارها ورثها وإن لم يخترها ورثها الثاني هذا ظاهر قول أصحابنا وأما على ما اختاره فإنها لا ترث الثاني ولا يرثها بحال إلا أن يجدد لها عقدا أو لا يعلم أن الأول كان حيا ومتى علم أن الأول كان حيا ورثها وورثته إلا أن يختار تركها فتبين منه بذلك فلا ترثه ولا يرثها
وعلى قول أبي الخطاب : إن حكمنا بوقوع الفرقة بتفريق الحاكم ظاهرا وباطنا ورثت الثاني وورثها ولم ترث الأول ولم يرثها فأما عدتها منهما فمن ورثته اعتدت لوفاته عدة الوفاة وإن مات الثاني في موضع لا ترثه فالمنصوص عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة في النكاح الفاسد فعلى هذا عليها عدة الوفاة لوفاته وهو اختيار أبي بكر
وقال ابن حامد : لا عدة عليها لوفاته لكن تعتد من وطئه بثلاثة قروء فإن ماتا معا اعتدت لكل واحد منهما وبدأت بعدة الأول فإذا أكملتها اعتدت للآخر وإن مات الأول أولا فكذلك وإن مات الثاني أولا بدأت بعدته فإذا مات الأول انقطعت عدة الثاني ثم ابتدأت عدة الأول فإذا أكملتها أتمت عدة الثاني وإن علم موت أحدهما وجهل وقت موت الآخر أو جهل موتهما فعليها أن تعتد عدتين من حين تيقنت الموت وتبدأ بعدة الأول لأنه أسبق وأولى وإن كانت حاملا فبوضع الحمل تنقضي عدة الثاني لأن الولد منه ثم تبتدىء بعده بعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا

فصل حكم ما لو تزوجت مرأة المفقود في وقت ليس لها فيه أن تتزوج
فصل : وإذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه مثل أن تتزوج قبل مضي المدة التي يباح لها التزويج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا فنكاحها باطل وقال القاضي إن تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان :
أحدهما : هو صحيح لأنها ليست في نكاح ولا عدة فصح تزويجها كما لو علمت ذلك
والثاني : لا يصح لأنها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه وأصل هذا من باع عينا في يده يعتقدها لموروثه فبان موروثه ميتا والعين مملوكة له بالإرث هل يصح البيع ؟ فيه وجهان كذا ههنا ومذهب الشافعي مثل هذا
ولنا أنها تزوجت في مدة منعها الشرع من النكاح فيها فلم يصح كما لو تزوجت المعتدة في عدتها أو المرتابة قبل زوال ريبتها

فصل اقتسام مال المفقود
فصل : ويقسم مال المفقود في الوقت الذي تؤمر زوجته بعدة الوفاة فيه وبهذا قال قتادة وقال الشافعي و مالك و أصحاب الرأي و ابن المنذر : لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته لأن الأصل البقاء فلا يزول بالشك وإنما صرنا إلى إباحة التزويج لامرأته لإجماع الصحابة ولأن بالمرأة حاجة إلى النكاح وضررا في الانتظار فاختص ذلك بها
ولنا أن من اعتدت زوجته للوفاة قسم ماله كمن قامت البينة بموته وما أجمع عليه الصحابة يقاس عليه ما كان في معناه وتأخير القسمة ضرر بالورثة وتعطيل لمنافع المال وربما تلف أو قلت قيمته فهو في معنى الضرر بتأخير التزويج

فصول حكم تصرف الزوج المفقود في زوجته بطلاق أو ظهار ونكاح المرأة نكاحا متفقا على بطلانه
فصل : وإن تصرف الزوج المفقود في زوجته بطلاق أو ظهار أو إيلاء أو قذف صح تصرفه لأن نكاحه باق ولهذا خير في أخذها وإنما حكمنا بإباحة تزويجها لأن الظاهر موته فلا يبطل في الباطن كما لو شهدت بموته بينة كاذبة
فصل : وإذا فقدت الأمة زوجها تربصت أربع سنين ثم اعتدت للوفاة شهرين وخمسة أيام وهذا اختيار أبي بكر وقال القاضي : تتربص تربص الحرة ورواه أبو طالب عن أحمد وهو قول الأوزاعي و الليث لأنها مدة مضروبة للمرأة لعدم زوجها فكانت الأمة فيه على النصف من الحرة كالعدة
ولنا أن الأربع سنين مضروبة كونها أكثر مدة الحمل ومدة الحمل في الحرة والأمة سواء فاستويا في التربص لها كالتسعة الأشهر في حق من ارتفع حيضها لا تدري مارفعه ؟ وكالحمل نفسه وبهذا ينتقض قياسهم فأما العبد فإن كانت زوجته حرة فتربصها تربص الحرة تحت الحر وإن كانت أمة فهي كالأمة تحت الحر لأن العدة معتبرة بالنساء دون الرجال وكذلك مدة التربص وحكي عن الزهري و مالك أنه يضرب له نصف أجل الحر والأولى ما قلناه لأنه تربص مشروع في حق المرأة لفرقة زوجها فأشبه العدة
فصل : فإن غاب رجل عن زوجته فشهد ثقات بوفاته فاعتدت زوجته للوفاة أبيح لها أن تتزوج فإن عاد الزوج بعد ذلك فحكمه حكم المفقود يخير زوجها بين أخذها وتركها وله الصداق وكذلك إن تظاهرت الأخبار بموته وقد روى الأثرم بإسناده عن أبي المليح عن شهية أن زوجها صيفي بن فشيل نعي لها من قيذائيل فتزوجت بعده ثم إن زوجها الأول قدم فأتينا عثمان وهو محصور فأشرف علينا فقال : كيف أقضي بينكم وأنا على هذا الحال ؟ فقلنا : قد رضينا بقولك فقضى أن يخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فرجعنا فلما قتل عثمان أتينا عليا فخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فاختار الصداق فأخذ مني ألفين ومن زوجي الآخر ألفين فإن حصلت الفرقة بشهادة محصورة فما حصل من غرامة فعليهما لأنهما سبب في إيجابها وإن شهدوا بموت رجل فقسم ماله ثم قدم فما وجد من ماله أخذه وما تلف منه تعذر رجوعه فيه فله تضمين الشاهدين لأنهما سبب الاستيلاء عليه وللمالك تضمين المتلف لأنه أتلف ماله بغير إذنه
فصل : وإذا نكح رجل امرأة نكاحا متفقا على بطلانه مثل أن ينكح ذات محرمة أو معتدة يعلم حالها وتحريمها فلا حك لعقده والخلو بها كالخلوة بالأجنبية لا توجب عدة وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة وإن وطئها اعتدت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها كما لو زنى بها من غير عقد وإن نكحها نكاحا مختلفا فيه فهو فاسد فإن مات عنها فنقل جعفر بن محمد أن عليها عدة الوفاة وهذا اختيار أبي بكر
وقال أبو عبد الله بن حامد : ليس عليها عدة الوفاة وهو مذهب الشافعي لأنه نكاح لا يثبت الحل فأشبه الباطل فعلى هذا إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء ووجه الأول أنه نكاح يلحق به النسب فوجبت به عدة الوفاة النكاح الصحيح وفارق الباطل فإنه لا يحلق به النسب وإن فارقها في الحياة بعد الإصابة اعتدت بعد فرقته بثلاثة قروء ولا اختلاف فيه وإن كان قبل الخلوة فلا عدة عليها فلا خلاف لأن المفارقة في الحياة في النكاح الصحيح لا عدة عليها بلا خلاف ففي الفاسد أولى وإن كان بعد الخلوة قبل الإصابة فالمنصوص عن أحمد أن عليها العدة لأنه مجرى مجرى النكاح الصحيح في لحوق النسب فكذلك في العدة وقال الشافعي : لا عدة عليها لوجهين أحدهما : أنها خلوة في غير نكاح صحيح أشبهت التي نكاحها باطل والثاني : أن الخلوة عنده في النكاح الصحيح لا توجب العدة ففي الفاسد أولى وهذا مقتضى قول ابن حامد
فصل : في عدة المعتق بعضها ومتى كانت معتدة بالحمل أو بالقروء بالحمل أو بالقروء فعدتها كعدة الحرة لأن عدة الحامل لا تختلف بالرق والحرية وعدة الأمة بالقروء قرآن فأدنى ما يكون فيها من الحرية يوجب قرءا ثالثا لأنه لا يتبعض وإن كانت معتدة بالشهور إما للوفاة وإما للإياس أو الصغر فعدتها بالحساب من عدة حرة وأمة فإذا كان نصفها حرا فاعتدت للوفاة فعليها ثلاثة أشهر وثمان ليال لأن الليل يحسب مع النهار فيكون عليها ثلاثة أرباع ذلك وإن كانت معتدة بالشهور عن الطلاق وقلنا إن عدة الأمة شهر ونصف كان عدو المعتق نصفه شهرين وربعا وإن قلنا عدة الأمة شهران أوثلاثة أشهر فعدة بعضها كعدة الحرة سواء وأم الولد والمدبرة والمكاتبة عدتهن كعدة الأمة سواء لأنهن إماء

مسائل وفصول أحكام عدة أم الولد إذا مات سيدها وحكم ما لو كانت آيسة أو رفع حيضها أو حامل
مسألة : قال : وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة كاملة
هذا المشهور عن أحمد وهو قول ابن عمر وروي ذلك عن عثمان وعائشة و الحسن و الشعبي و القاسم بن محمد وأبي قلابة و مكحول و مالك و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور وروي عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وهو قول سعيد بن المسيب وأبي عياض و ابن سيرين و سعيد بن جبير و مجاهد وخلاس بن عمرو وعمر بن عبد العزيز و الزهري ويزيد بن عبد الملك و الأوزاعي و إسحاق لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه و سلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر رواه أبو داود ولأنها حرة تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا كالزوجة الحرة وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة تعتد شهرين وخمسة أيام ولم أجد هذه الرواية عن أحمد في الجامع ولا أظنها صحيحة عن أحمد وروي ذلك عن عطاء و طاوس و قتادة ولأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة الأمة كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت بعد موته ويروى عن علي وابن مسعود و عطاء و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي أن عدتها ثلاث حيض لأنها حرة تستبرىء فكان استبراؤها بثلاث حيض كالحرة المطلقة
ولنا أنه استبراء لزوال الملك عن الراقبة فكان حيضة في حق من تحيض كسائر استبراء المعتقات والمملوكات ولأنه استبراء لغير الزوجات والموطوءات بشبهة فأشبه ما ذكرنا قال القاسم بن محمد : سبحان الله يقول الله تعالى في كتابه : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } ما هن بأزواج فأما حديث عمرو بن العاص فضعيف قال ابن المنذر : ضعف أحمد و أبو عبيد حديث عمرو بن العاص
وقال محمد بن موسى : سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال : لا يصح وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال : أين سنة النبي صلى الله عليه و سلم في هذا ؟ وقال أربعة أشهر وعشر إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية ويلزم من قال بهذا أن يورثها وليس لقول من قال : تعتد بثلاث حيض وجه وإنما تعتد بذلك المطلقة وليست هذه مطلقة ولا في معنى المطلقة وأما قياسهم إياها على الزوجات فلا يصح فإن هذه ليست زوجة ولا في حكم الزوجة ولا مطلقة ولا في حكم المطلقة
فصل : ولا يكفي في الاستبراء طهر واحد ولا بعض حيضة وهذا قول أكثر أهل العلم وقل بعض أصحاب مالك : متى طعنت في الحيضة فقد تم استبراءها وزعم أنه مذهب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه : يكفي طهر واحد إذا كان كاملا وهو أن يموت في حيضها فإذا رأت الدم من الحيضة الثانية حلت وتم استبراؤها وهكذا الخلاف في الاستبراء كله وبنوا هذا على أن القروء الأطهار وهذا يرده [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ]
و [ قال رويفع بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم خيبر : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه الأثرم وهذا صريح فلا يعول على ما خالفه ولأن الواجب استبراء والذي يدل على البراءة هو الحيض فإن الحامل لا تحيض فأما الطهر فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز أن يعول في الاستبراء على ما لا دلالة عليه دون ما يدل عليه وبناؤهم قولهم هذا على قولهم : إن القروء الأطهار بناء للخلاف على الخلاف ليس ذلك بحجة ثم لم يمكنهم بناء هذا على ذلك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءا ولم يجعلوا الطهر الذي مات فيه سيد أم الولد قرءا وخالفوا الحديث والمعنى فإن قالوا : إن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة قلنا فيكون الاعتماد حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءا عند أحد فإذا تقرر هذا فإن مات عنها وهي طاهر فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة حلت وإن كانت حائضا لم تعتد ببقية تلك الحيضة ولكن متى طهرت من الحيضة الثانية حلت لأن استبراء هذه بحيضة فلا بد من حيضة كاملة
مسألة : قال : وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر
وهذا المشهور عن أحمد أيضا وهو قول الحسن و ابن سيرين و النخعي و أبي قلابة وأحد قولي الشافعي وسأل عمر بن عبد العزيز أهل المدينة والقوابل فقالوا : لا تستبرأ الحبلى في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه قولهم وعن أحمد رواية أخرى أنها تستبرىء بشهر وهو قول ثان لـ لشافعي لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلقة فكذلك في الاستبراء
وذكر القاضي رواية ثالثة أنها تستبر بشهرين كعدة الأمة المطلقة ولم أر لذلك وجها ولو كان استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القرء بقرأين ولم نعلم به قائلا وقال سعيد بن المسيب و عطاء و الضحاك و الحكم في الأمة التي لا تحيض : تستبرأ بشهر ونصف رواه حنبل عن أحمد فإنه قال : قال عطاء : إن كانت لا تحيض فخمس وأربعون ليلة قال علي كذلك أذهب لأن عدة الأمة المطلقة الآيسة كذلك والمشهور عن أحمد الأول
قال أحمد بن القاسم قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا ؟ فقال : إنما قلنا بثلاثة أشهر من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروه أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود إن النطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك
قال أبو عبد الله : فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحم فتبين حينئذ وقال لي : هذا معروف عند النساء فأما شهر فلا معنى فيه ولا نعلم به قائلا ووجه استبرائه بشهر أن الله تعالى جعل الشهر مكان الحيضة ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء وعدة الأمة شهرين مكان قرأين وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها عشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة فجب أن يكون مكان الحيضة ههنا شهر كما في حق من ارتفع حيضها فإن قيل فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر قلنا : وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس فاستويا
مسألة : قال : وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة
وفي هذه المسألة أيضا روايتان إحداهما : أنها تستبرأ بعشرة أشهر والثانية : بسنة تسعة أشهر للحمل لأنها غالب مدته وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات وقد ذكرنا الروايتان في الآيسة وذكرنا أن المختار عن أحمد استبراؤها بثلاثة أشهر وههنا جعل مكان الحيضة شهرا لأن اعتبار تكراها في الآيسة لتعلم براءتها من الحمل وقد علم براءتها منه ههنا بمضي غالب مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس
فصل : وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرىء نفسها بحيضة إلا أن تصير آيسة فتستبرىء نفسها استبراء الآيسات وإن ارتابت بنفسها فهي كالحرة المستريبة وقد ذكرنا حكمها فيما مضى من هذا الباب والله تعالى أعلم
مسألة : قال : وإن كانت حاملا فحتى تضع
وهذه بحمد الله لا خلاف فيها فإن الله تعالى قال : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ حامل حتى تضع ] ولأن عدة الحرة والأمة والمتوفى عنها والمطلقة واستبراء كل أمة إذا كانت حاملا بوضع حملها وذلك لأن المقصود من العدة والاستبراء معرفة براءة الرحم من الحمل وهذا يحصل بوضعه ومتى كانت حاملا باثنين أو أكثر فلا ينقضي استبراؤها حتى تضع آخر حملها على ما ذكرناه في المعتدة
فصل : وإذا زوج أم ولده ثم مات عتقت ولم يلزمها استبراء لأنها محرمة على المولى وليست له فراشا وإنما هي فراش للزوج فلم يلزمها الاستبارء ممن ليست له فراشا ولأنه لم يزوجها حتى استبرأها فإنه لا يحل له تزويجها قبل استبرائها فإن طلقها الزوج قبل دخوله بها فلا عدة عليها أيضا وإن طلقها بعد المسيس أو مات عنها قبل ذلك أو بعده فعليها عدة حرة كاملة لأنها قد صارت حرة في حال وجوب العدة عليها وإن مات سيدها وهي في عدة الزوج عتقت ولم يلزمها استبراء لما ذكرناه ولأنه زال فراشه عنها قبل موته فلم يلزمها استبراء من أجله كغير أم الولد إذا باعها ثم مات وتبني على عدة أمة إن كان طلاقها بائنا أو كانت متوفى عنها وإن كانت رجعية بنت على عدة حرة على ما مضى وإن بانت من الزوج قبل الدخول بطلاق أو بانت بموت زوجها أو طلاقه بعد الدخول فقضت عدته ثم مات سيدها فعليها الاستبراء لأنها عادت إلى فراشه وقال أبو بكر : لا يلزمها استبراء إلا ن يردها السيد إلى نفسه لأن فراشه قد زال بتزويجها ولم يتجدد لها ما يردها إليه فاشبهت الأمة غير الموطوءة
فصل : فإن مات زوجها وسيدها ولم تعلم أيهما مات أولا فعلى قول ابي بكر ليس عليها استبراء لأن فراش سيدها قد زال عنها ولم تعد إليه وعليها ان تعتد لوفاة زوجها عدة الحرئر ولأنه يحتمل أن سيدها مات أولا ثم مات زوجها وهي حرة فلزمها عدة الحرة لتخرج من العدة بيقين وعلى القول الآخر إن كان بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون فليس عليها استبراء لأن السيد إن كان مات أولا فقد مات وهي زوجته وإن كان مات آخرا فقد مات وهي معتدة وليس عليها استبراء في هاتين الحالتين وعليها أن تعتد بعد موت الآخر منهما عدة لحرة لما ذكرناه وإن كان بين موتهما أكثر من ذلك فعليها بعد موت الآخر منهما أطول الأجلين من أربعة أشهر وعشر واستبراء بحيضة لأنه يحتمل أن يكون السيد مات أولا فيكون عليها عدة الحرة من الوفاة ويحتمل أنه مات آخرا بعد انقضاء عدتها من الزوج وعودها إلى فراشه فلزمها الاستبراء بحيضة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين قال ابن عبد البر : وعلى هذا جميع القائلين من العلماء بأن عدة الأمة من سيدها بحيضة ومن زوجها شهران وخمس ليال فإن جهل ما بين موتهما فلحكم فيه كما لو علمنا أن بينهما شهرين وخمس ليال احتياطا لإسقاط الفرض بيقين كما أخذنا بالاحتياط في الإيجاب بين عدة حرة وحيضة فيما إذا علمنا أن بينهما شهرين وخمس ليال وقول أصحاب الشافعي في هذا القول مثل قولنا وكذلك قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أنهم جعلوا مكان الحيضة ثلاث حيضات بناء على أصلهم في استبراء أم الولد
وقال ابن المنذر : حكمها حكم الإماء وعليها شهران وخمسة أيام ولا أنقلها إلى حكم الحرائر إلا بإحاطة أن الزوج مات بعد المولى وقيل إن هذا قول أبي بكر عبد العزيز أيضا والي ذكرناه أحوط فأما الميراث فإنها لا ترث من زوجها شيئا لأن الأصل الرق والحرية مشكوك فيها فلم ترث مع الشك والفرق بين الإرث والعدة أن إيجاب العدة عليها استظهار لا ضرر فيه على غيره وإيجاب الإرث إسقاط لحق غيرها ولأن الأصل تحريم النكاح عليها فلا يزول إلا بيقين والأصل عدم الميراث لها فلا ترث إلا بيقين فإن قيل : أفليس المفقود إذا ماتت زوجته وقف ميراثه منها مع الشك في إرثه ؟ قلنا الفرق بينهما أن الأصل ههنا الرق والشك في زواله وحدوث الحال التي يرث فيها والمفقود الأصل حياته والشك في موته وخروجه عن كونه وارثا فافترقا

مسألة وفصول حكم من اعتق أم ولد أو أمة كان يصبيها
مسألة : قال : وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها
لا يختلف المذهب في ان الاستبراء ههنا بحيضة في ذات القروء وهو قول الشافعي وهو قول الزهري و الثوري فيمن أراد تزويج أمة كان يصيبها وقال أصحاب الرأي : ليس عليها استبراء لأن له بيعها فكان له تزويجها كالتي لا يصيبها وقال عطاء و قتادة : عدتها حيضتان كعدة الأمة المطلقة
ولنا أنها فراش لسيدها فلم يجز أن تنتقل إلى فراش غيره بغير استبراء كما لو مات عنها ولأن هذه موطوءة وطئا له حرمة فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء كالموطوءة بشبهة وهذا لأنه إذا وطئها سيدها اليوم ثم زوجها فوطئها الزوج في آخر اليوم أفضى إلى اختلاط المياه وامتزاج النساب وهذا لا يحل ويخالف البيع فإنها لا تصير به فراشا ولا يحل لمشتريها وطؤه حتى يستبرئها فلا يفضي إلى اختلاط المياه ولهذا يصح في المعتدة والمزوجة بخلاف التزويج
فصل : فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما ذكرنا في أم الولد على ما شرحنا ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا كانت أمة لا يطؤها سيدها لم يلزمها استبراء لأنها ليست فراشا لسيدها فلم يلزمها الاستبراء كالمزوجة والمعتدة ولأن تركها للاستبراء لا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب بخلاف الموطوءة
فصل : وإن مات عن أمة كان يصيبها فاستبراؤها بما ذكرنا في أم الولد لأنها فراش لسيدها فأشبهت أم الولد إلا أنها إذا كانت من ذوات القروء فاستبراؤها بحيضة واحدة رواية واحدة لأنها لا تصير حرة
فصل : وإن أعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو غيرها ممن تحل له إصابتها فله أن يتزوجها في الحال من غير استبراء ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها ]
و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ثلاثة يوفون أجرهم مرتين : رجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها ] ولم يذكر الاستبراء ولأن الاستبراء لصيانة مائه وحفظه عن الاختلاط بماء غيره ولا يصان ماؤه عن مائه ولهذا كان له أن يتزوج مختلعة في عدتها
وقد روى عن أحمد في الأمة التي لا يطؤها : إذا أعتقها لا يتزوجها بغير استبراء لأنه لو باعها لم تحل للمشتري بغير استبراء والصحيح أنه يحل له ذلك لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين فكذلك بالنكاح كالتي كان يصيبها ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعتق صفية وتزوجها ولم ينقل أنه كان أصابها والحديث الآخر يدل على حلها له بظاهره لدخولها في العموم ] ولأنها تحل لمن تزوجها سواه فله أولى ولأنه لو استبرأها ثم أعتقها وتزوجها في لحال كان جائزا حسنا فكذلك هذه فإنه تارك لوطئها ولأن وجوب الاستبراء في حق غيره إنما كان لصيانة مائه عن الاختلاط بغيره ولا يوجد ذلك ههنا وكلام أحمد محمول على من اشتراها ثم تزوجها قبل أن يستبرئها

فصول حكم من اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها
فصل : وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها لم يجز أن يتزوجها حتى يستبرئها وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : له ذلك ويحكى أن الرشيد اشترى جارية فتاقت نفسه إلى جماعها قبل استبرائها فأمره أبو يوسف أن يعتقها ويتزوجها ويطأها قال أبو عبد الله : وبلغني أن المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها قال أبو عبد الله : سبحان الله ما أعظم هذا ؟ أبطلوا الكتاب والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل [ وسن رسول الله صلى الله عليه و سلم استبراء الأمة بحيضة من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا فإن كانت حاملا كيف يصنع ؟ هذا نقض الكتاب والسنة قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض ] وهذا لا يدري أهي حامل أم لا ؟ ما أسمج هذا ؟ قيل له : إن قوما يقولون هذا فقال قبح الله هذا وقبح من يقوله وفيما نبه عليه أو بو عبد الله من الأحاديث كفاية مع ما ذكرنا فيما قبل هذا الفصل
إذا ثبت هذا فليس له تزويجها لغيره قبل استبرائها إذا لم يعتقها لأنها ممن يجب استبراؤها فلم يجز أن يتزوج كالمعتدة وسواء في ذلك المشتراه من رجل يطؤها أو من رجل قد استبرأها ولم يطأها أو ممن لا يمكنه الوطء كالصبي والمرأة والمجبوب وقال الشافعي : إذا اشتراها ممن لا يطؤها فله تزويجها سوء أعتقها أو لم يعتقها وله أن يتزوجها إذا أعتقها لأنها ليست فراشا وقد كان لسيدها تزويجها قبل بيعها فجاز ذلك بعد بيعها ولأنها لو عتقت على البائع باعتاقه أو غيره لجاز لكل أحد نكاحها فكذلك إذا أعتقها المشتري
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة ] ولأنها أمة يحرم عليه وطؤها قبل استبرائها فحرم عليه تزويجها والتزوج بها كما لو كان بائعها يطؤها فأما إن أعتقها في هذه الصورة فله تزويجها لغيره لأنها حرة لم تكن فراشا فأبيح لها النكاح كما لو أعتقها البائع وفارق الموطوءة فإنها فراش يجب عليها استبراء نفسها إذا أعتقت فحرم عليها النكاح كالمعتدة وفارق ما إذا أراد سيدها نكاحها فإنه لم يكن له وطؤها بملك اليمين فلم يكن له أن يتزوجها كالمعتدة ولأن هذا يتخذ حيلة على إبطال الاستبراء فمنع منه بخلاف تزويجها لغيره
فصل : وإذا كانت أمة يطؤها فاستبرأها ثم أعتقها لم يلزمها استبراء لأنها خرجت عن كونها فراشا باستبرائه لها وإن باعها فأعتقها المستري قبل وطئها لم تحتج إلى استبراء لذلك وإن باعها قبل استبرائها فأعتقها المشتري قبل وطئها واستبرائها فعليها استبراء نفسها وإن مضى بعض الاستبراء في ملك المشتري لزمها إتمامه بعد عتقها ولا ينقطع بانتقال الملك فيها لأنه لم تصر فراشا للمشتري ولم يلزمها استبراء بإعتاقه
فصل : وإذا كانت الأمة بين شريكين فوطئاها لزمها استبراءان وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين : يلزمها استبراء واحد لأن لقصد معرفة براءة الرحم ولذلك لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة واحدة وبراءة الرحم تعلم باستبراء واحد
ولنا أنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالعدتين ولأنهم استبراءان من رجلين فأشبها العدتين وما ذكروه يبطل بالعدتين من رجلين

مسألة وفصول من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها وفروع في استبراء لأمة
مسألة : قال : ومن ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بعد تمام ملكه لها بحيضة إن كانت ممن تحيض أو بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بمضي ثلاثة اشهر إن كانت من الآيسات أو من اللائي لم يحضن
وجملته أن من ملك أمة بسبب من أسباب الملك كالبيع والهبة والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها بكرا أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة ممن تحمل أو ممن لا تحمل وبهذا قال الحسن و ابن سيرين وأكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي واصحاب الرأي وقال ابن عمر : لا يجب استبراء البكر وهو قول داود لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجة إلى الاستبراء وقال الليث : إن كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراؤها لذلك وقال عثمان البتي : يجب الاستبراء على البائع دون المشتري لأنه لو زوجها لكان الاستبراء على المزوج دون الزوج كذلك ههنا
[ ولنا ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عام أو طاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض ] رواه أحمد [ في المسند وعن رويفع بن ثابت قال : إنني لا أقول إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته يقول : لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه أبو داود [ وفي لفظ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه الأثرم ولأنه ملك جارية محرمة عليه فلم تحل له قبل استبرائها كالثيب التي تحمل ولأنه سبب موجب للاستبراء فلم يفترق الحال فيه بين البكر والثيب والتي تحمل والتي لا تحمل كالعدة قال أبو عبد الله : قد بلغني أن العذراء تحمل فقال له بعض أهل المجلس : نعم قد كان في جيراننا وذكر ذلك بعض أصحاب الشافعي وما ذكروه يبطل بما إذا اشتراها من امرأة أو صبي أو ممن تحرم عليه برضاع أو غيره ما ذكره البتي لا يصح لأن الملك قد يكون بالسبي والإرث والوصية فلو لم يستبرئها المشتري أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب والفرق بين البيع ولتزويج أن النكاح لايراد إلا للاستمتاع فلا يجوز إلا فيمن تحل له فوجب أن يتقدمه الاستبراء ولهذا لا يصح تزويج معتدة ولا مرتدة ولا مجوسية ولا وثنية ولا محرمة بالرضاع ولا المصاهرة والبيع يراد لغير ذلك فصح قبل الاستبراء ولهذا صح في هذه المحرمات ووجب الاستبراء على المشتري لما ذكرناه فأما الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فظاهر كلام الخرقي تحريم قبلتها ومباشرته لشهوة قبل استبرائها وهو ظاهر كلام أحمد وفي أكثر الروايات عنه قال : تستبرأ وإن كانت في المهد وروي عنه أنه قال : إن كانت صغيرة بأي شيء تستبرأ إذا كانت رضيعة ؟ وقال في رواية أخرى : تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض وإلا بثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل فظاهر هذا نه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها
وهذا اختيار أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق وليس على تحريمها دليل فإنه لا نص فيه ولا معنى نص لأن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعيا إلى الوطء المحرم أو خشية أن تكون أم ولد لغيره ولا يتوهم في هذه فوجب العمل بمقتضى الإباحة فأما من يمكن وطؤها فلا تحل قبلتها ولا الاستمتاع منها بما دون الفرج قبل الاستبراء إلا المسبية على إحدى الروايتين وقال الحسن : لا يحرم من المشتراه إلا فرجها وله أن يستمتع منها بما لم يمس لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما نهى عن الوطء ولأنه تحريم للوطء مع ثبوت الملك فاختص بالفرج كالحيض
ولنا أنه استبراء يحرم الوطء فحرم الاستمتاع كالعدة ولأنه لا يأمن من كونها حاملا من بائعها فتكون أم ولد والبيع باطل فيكون مستمتعا بأم ولد غيره وبهذا فارق تحريم الوطء للحيض فأما المسبية فظاهر كلام الخرقي تحريم مباشرتها فيما دون الفرج لشهوة وهو الظاهر عن أحمد لأن كل استبراء حرم الوطء حرم دواعيه كالعدة ولأنه داعية إلى الوطء المحرم لأجل اختلاط المياه واشتباه الأنساب فأشبهت المبيعة وروي عن أحمد أنه لا يحرم لما روي عن ابن عمر أنه قال : وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأنه لا نص في المسبية ولا يصح قياسها على المبيعة لأنها تحمل أن تكون أم ولد للبائع فيكون مستمتعا بأم ولد غيره ومباشرا لمملوكة غيره والمسبية مملوكة له على كل حال وإنما حرم وطؤها لئلا يسقي ماءه زرع غيره وقول الخرقي بعد تمام ملكه لها يعني أن الاستبراء لا يكون إلا بعد ملك المشتري لجميعها على نقل الملك بعضها ثم ملك باقيها لم يحتسب الاستبراء إلا من حين ملك باقيها وإن ملكها ببيع فيه الخيار انبنى على نقل الملك في مدته فإن قلنا : ينتقل فابتداء الاستبراء من حين البيع وإن قلنا : لا ينتقل فابتداؤه م نحين انقطع الخيار وإن كان المبيع قبل القبض أو من حين القبض ؟ فيه وجهان : أحدهما : من حين البيع لأن الملك ينتقل به والثاني : من حين القبض لأن القصد معرفة براءتها من ماء البائع ولا يحصل ذلك مع كونها في يده وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها ثم صارت إلى السيد حلت له بغير استبراء لأن ملكه ثابت على ما في يد عبده فقد حصل استبراؤها في ملكه وإن اشترى مكاتبه أمة فاستبرأها ثم صارت إلى سيده فعليه استبراؤها لأن ملكه تجدد عليها إذ ليس للسيد ملك على ما في يد مكاتبه إلا أن تكون الجارية من ذوات محارم المكاتب فقال أصحابنا : تباح للسيد بغير استبراء لأنه يصير حكمها حكم المكاتب إن رق رقت وإن عتق عتقت والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والاستبراء الواجب ههنا في حق الحامل بوضعه بلا خلاف وفي ذات القروء بحيضة في قول أكثر أهل العلم وقال سعيد بن المسيب و عطاء : بحيضتين وهو مخالف للحديث الذي رويناه وللمعنى فإن المقصود معرفة براءتها من الحمل وهو حاصل بحيضة وفي الآيسة والتي لم تحض والتي ارتفع حيضها بما ذكرناه في أم الولد على ما مضى من الخلاف فيه
فصل : ومن ملك مجوسية أو وثنية فأسلمت قبل استبرائها لم تحل له حتى يستبرئها أو تتم ما بقي من استبرائها لما مضى وإن استبرأها ثم أسلمت حلت له بغير استبرائها وقال الشافعي : لا تحل له حتى تجدد استبراءها بعد إسلامها لأن ملكه تجدد على استمتاعها فأشبهت من تجدد ملكه على رقبتها
ولنا قوله عليه السلام : [ لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة ] وهذا ورد في سبايا أوطاس وكن مشركات ولم يأمر في حقهن بأكثر من حيضة ولأنه لم يتجدد ملكه عليها ولا أصابها وطء من غيره فلم يلزمه استبراؤها كما لو حلت المحرمة ولأن الاستبراء إنما وجب كيلا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب ومظنة ذلك تجدد الملك على رقبتها ولم يوجد ولو باع أمته ردت عليه بفسخ أو إقالة بعد قبضها أو افتراقهما لزمه استبراؤها لأنه تجديد ملك سواء كان المشتري لها امرأة أو غيرها فإن كان ذلك قبل افتراقهما أو قبل غيبة المشتري بالجارية ففيها روايتان إحداهما : عليه الاستبراء وهو مذهب الشافعي لأنه تجديد ملك والثانية : ليس عليه استبراء وهو قول أبي حنيفة إذا تقابلا قبل القبض لأنه لا فائدة في الاستبراء مع تعين البراءة
فصل : وإذا زوج الرجل أمته فطلقها الزوج لم يلزم السيد استبراءها ولكن إن طلقت بعد الدخول أو مات عنها فعليها العدة ولو ارتدت أمته أو كاتبها ثم أسلمت المرتدة وعجزت المكاتبة حلت لسيدها بغير استبراء وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يجب عليه الاستبراء في هذا كله لأنه زال ملكه عن استمتاعها ثم عاد فأشبهت المشتراه
ولنا أنه لم يتجدد ملكه عليها فأشبهت المحرمة إذا حلت والمرهونة إذا فكت فإنه لا خلاف في حلهما بغير استبراء ولأن الاستبراء شرع لمعنى مظنته تجدد الملك فلا يشرع مع تخلف المظنة والمعنى
فصل : وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قبل الدخول لم تبح بغير استبراء نص عليه أحمد وقال : هذه حيلة وضعها أهل الرأي لابد من استبراء
ووجه ذلك أن هذه تجدد الملك فيها ولم يحصل استبراؤها في ملكه فلم تحل بغير استبراء كما لو تكن مزوجة ولأن إسقاط الاستبراء ههنا ذريعة إلى إسقاطه في حق من أراد إسقاطه بأن يزوجها عند بيعها ثم يطلقها زوجها بعد تمام البيع والحيل حرام فأما إن كان الزوج دخل بها ثم طلقها فعليها العدة ولا يلزم المشتري استبراؤها لأن ذلك قد حصل بالعدة ولأنها لو عتقت لم يجب عليها مع العدة استبراء ولأنها قد استبرأت نفسها ممن كانت فراشا له فجزأ ذلك كما لو كانت استبرأت نفسها من سيدها إذ كنت خالية من زوج وإن اشتراها وهي معتدة من زوجها لم يجب عليها استبراء لأنها لم تكن فراشا لسيدها وقد حصل الاستبراء من الزوج بالعدة ولذلك لو عتقت في هذه الحال لم يجب عليها استبراء وقال أبو الخطاب في المزوجة هل يدخل الاتسبراء في العدة ؟ على وجهين
وقال القاضي في المعتدة : يلزم السيد استبراؤها بعد قضاء العدة ولا يتداخلان لأنهما من رجلين ومفهوم كلام أحمد ما ذكرناه أولا لأنه علل فيما قبل الدخول بأنها حيلة وضعها أهل الرأي ولا يوجد ههنا ولا يصح قولهم : إن الاستبراء من رجلين فإن السيد ههنا ليس له استبراء
فصل : وإن كانت الأمة لرجلين فوطئاها ثم باعاها لرجل أجزأه استبراء واحد لأنه يحصل به معرفة البراءة فإن قيل : فلو أعتقها لألزمتموها استبراءين قلنا : وجوب الاستبراء في حق المعتقة معلل بالوطء ولذلك لو أعتقها وهي ممن لا يطؤها لم يلزمها استبراء وقد وجد الوطء من اثنين فلزمها حكم وطئهما وفي مسألتنا هو معلل بتجديد الملك لا غير ولهذا يجب على المشتري الاستبراء سواء كان سيدها يطؤها أو لم يكن والملك واحد فوجب أن يتجدد الاستبراء
فصل : وإذا اشترى الرجل زوجته الأمة لم يلزمه استبراؤها لأنها فراش له فلم يلزمه استبراؤها من مائه لكن يستحب ذلك ليعلم هل الولد من النكاح فيكون عليه ولاء له لأنه عتق بملكه له ولا تصير به الأمة أم ولد أو هو حادث في ملك يمينه فلا يكون عليه ولاء وتصير به الأمة أم ولد ومتى تبين حملها فله وطؤها لأنه قد علم الحمل وزال الاشتباه
فصل : وإن وطىء الجارية التي يلزمه استبراؤها قبل استبرائها أثم والاستبراء باق بحله لأنه حق عليه فلا يسقط بعدوانه فإن لم تعلق منه استبرأها بما كان يستبرئها به قبل الوطء وتبني على ما مضى من الاستبراء وإن علقت منه فمتى وضعت حملها استبرأها بحيضة ولا يحل له الاستمتاع منها في حال حمله لأنه لم يستبرئها وإن وطئها وهي حامل حملا كان موجودا حين البيع من غير البائع فمتى وضعت حملها انقضى استبراؤها قال أحمد : ولا يلحق بالمشتري ولا تبيعه ولكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد
وقد روى أبو داود بإسناده عن أبي الدرداء [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعله يريد أن يلم بها فقالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد هممت أن ألعنه يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له أو كيف يستخدمه وهو لا يحل له ] ومعناه أنه إن استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وإن اتخذه مملوكا لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الوطء يزيد في الولد [ وعن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم وطء الحبالى حتى يضعن ما في بطونهن ] رواه النسائي و الترمذي
فصل : ومن أراد بيع أمته فإن كان لا يطؤها لم يلزمه استبراؤها لكن يستحب ذلك ليعلم خلوها من الحمل فيكون أحوط للمشتري وأقطع للنزاع قال أحمد : وإن كانت لامرأة فإني أحب أن لا تبيعها حتى تستبرئها بحيضة فهو أحوط لها وإن كان يطؤها وكانت آيسة فليس عليه استبراؤها لأن انتفاء الحمل معلوم وإن كانت ممن تحمل وجب عليه استبراؤها وبه قال النخعي و الثوري وعن أحمد رواية أخرى : لا يجب عليه استبراؤها وهو قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لأن عبد الرحمن بن عوف باع جارية كان يطؤها قبل استبرائها ولأن الاستبراء على المشتري فلا يجب على البائع فإن الاستبراء في حق الحرة آكد ولا يجب قبل النكاح وبعده كذلك لا يجب في الأمة قبل البيع وبعده
ولنا أن عمر أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية كان يطؤها قبل استبرائها فروى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها فظهر بها حمل عند الذي اشتراها فخاصموه إلى عمر فقال له عمر : كنت تقع عليها ؟ قال نعم قال : فبعتها قبل أن تستبرئها ؟ قال نعم قال : ما كنت لذلك بخليق قال : فدعا القافة فنظروا إليه فألحقوه به ولأنه يجب على المشتري الاستبراء لحفظ مائه فكذلك البائع ولأنه قبل الاستبراء مشكوك في صحة البيع وجوازه لاحتمال أن تكون أم ولد فيجب الاستبراء لإزالة الاحتمال فإن خالف وباع فالبيع صحيح في الظاهر لأن الأصل عدم الحمل ولأن عمر وعبد الرحمن لم يحكما بفساد البيع في الأمة التي باعها قبل استبرائها إلا بلحقا الولد به ولو كان البيع باطلا قبل ذلك لم يحتج إلى ذلك وذكر أصحابنا الروايتين في كل أمة يطؤها من غير تفريق بين الآيسة وغيرها والأولى أن ذلك لا يجب في الآيسة لأن علة الوجوب احتمال الحمل وهو وهم بعيد والأصل عدمه فلا نثبت به حكما بمجرده
فصل : وإذا اشترى جارية فظهر بها حمل لم يخل من أحوال خمسة أحدها : أن يكون البائع أقر بوطئها عند البيع أو قبله وأتت بولد لدون ستة أشهر أو يكون البائع ادعى الولد فصدقه المشتري فإن الولد يكون للبائع والجارية أم ولد له والبيع باطل
الحال الثاني : أن يكون أحدهما استبرأها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها المشتري فالولد للمشتري والجارية أم ولد له
الحال الثالث : أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر بعد استبراء أحدهما لها ولأقل من ستة أشهر منذ وطئها المشتري فلا يلحق نسبه بواحد منهما ويكون ملكا للمشتري ولا يملك فسخ البيع لأن الحمل تجدد في ملكه ظاهرا فإن ادعاه كل واحد منهما فهو للمشتري لأنه ولد في ملكه مع احتمال كونه منه وإن ادعاه البائع وحده فصدقه المشتري لحقه وكان البيع باطلا وإن كذبه فالقول قول المشتري في ملك الولد لأن الملك انتقل إليه ظاهرا فلم تقبل دعوى البائع فيما يبطل حقه كما لو أقر بعد البيع أن الجارية مغصوبة أو معتقة وهل يثبت نسب الولد من البائع ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يثبت لأنه نفع للولد من غير ضرر على المشتري فيقبل قوله فيه كما لو أقر لولده بمال
والثاني : لا يقبل لأنه فيه ضررا على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه وذلك لو أقر عبدان كل واحد منهما أنه أخو صاحبه لم يقبل إلا ببينة
الحال الرابع : أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ وطئها المشتري قبل استبرائها فنسبه لاحق بالمشتري فإن ادعاه البائع فأقر له المشتري لحقه وبطل البيع وإن كذبه فالقول قول المشتري وإن ادعى كل واحد منهما أنه من الآخر عرض على القافة فألحق بمن ألحقه به لحديث عبد الرحمن بن عوف ولأنه يحتمل كونه من كل واحد منهما وإن ألحقته القافة بهما لحق بهما وينبغي أن يبطل البيع وتكون أم ولد للبائع لأننا نتبين أنها كانت حاملا منه قبل بيعها
الحال الخامس : إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ باعها ولم يكن أقر بوطئها فالبيع صحيح في الظاهر والولد مملوك للمشتري فإن ادعى البائع فالحكم فيه كما ذكرنا في الحال الثالث سواء

مسائل وفصول الاحداد على الزوج وأحكامه وما يجب على المحدة
مسألة : قال : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب
هذا يسمى الإحداد ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن فإنه قال لا يجب الإحداد وهو قول شذ به أهل العلم وخالف به السنة فلا يعرج عليه ويستوفي في وجوبه الحرة والأمة والمسلمة والذمية والكبيرة والصغيرة وقال أصحاب الرأي : لا إحداد على ذمية ولا صغيرة لأنهما غير مكلفتين
ولنا عموم الأحاديث التي سنذكرها ولأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا وإنما يفترقان في الإثم فكذلك الإحداد ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة فكذلك فيما عليها
فصل : ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها قال ابن المنذر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك وكذلك الأمة التي يطؤها سيدها إذا مات عنها ولا الموطوءة بشبهة والمزني بها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] ولا إحداد على الرجعية بغير خلاف نعلمه لأنها في حكم الزوجات لها أن تتزين لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها وتتفق عنده كما تفعل في صلب النكاح ولا إحداد على المنكوحة نكاحا فاسدا لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت تحل له ويحل لها فتحزن على فقده
فصل : وتجتنب الحادة ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها وذلك أربعة أشياء : أحدها : الطيب ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذه من قسط أو اظفار ] متفق عليه [ وروت زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سفيان فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضها ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] متفق عليه ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة ولا يجوز لها استعمال الأدهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والياسمين والبان وما أشبهه لأنه استعمال للطيب فأما الأدهان بغير المطيب كالزيت والسريج والسمن فلا بأس به لأنه ليس بطيب الثاني : اجتناب الزينة وذلك واجب في قول عامة أهل العلم منهم ابن عمر وابن عباس و عطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه وهو ثلاثة أقسام :
أحدها : الزينة في نفسها فيحرم عليها أن تخضب وأن تحمر وجهها بالكلكون وأن تبيضه باسفيداج العرايس وأن تجعل عليه صبرا بصفرة وأن تنقش وجهها ويديها وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة وذلك لما [ روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ] رواه النسائي و أبو داود [ وروت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذه من قسط أو اظفار ] متفق عليه [ وعن أم سلمة قالت : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا مرتين أو ثلاثا ] متفق عليه [ وروت أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال : ماذا يا أم سلمة ؟ قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب قال : إنه يشب الوجه لا تجعليه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قال : قلت بأي شيء أمتشط قال : بالسدر تغلفين به رأسك ] ولأن الكحل من أبلغ الزينة والزينة تدعو إليها وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه وحكي عن بعض الشافعية أن للسوداء أن تكتحل وهو مخالف للخبر والمعنى فإنه يزينها ويحسنها وإن اضطرت الحادة إلى الكحل بالإثمد للتداوي فلها أن تكتحل ليلا وتمسحه نهارا ورخص فيه عند الضرورة عطاء و النخعي و مالك وأصحاب الرأي لما روت أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت : لا تكتحلي إلا لما بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار رواه أبو داود و النسائي وإنما منع من الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهمت فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب ولهذا [ قال النبي صلى الله عليه و سلم أنه يشب الوجه ] ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة ولأنه يراد للتنظيف لا للتطييب
القسم الثاني : زينة الثياب فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر والمزعفر وسائر الأحمر وسائر الملون للتحسين كالأزرق الصافي والأخضر الصافي والأصفر فلا يجوز لبسه ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تلبس ثوبا مصبوغا ] وقوله : [ لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ] فأما ما لا يقصد بصبغه حسنة كالكحلي والأسود والأخضر المشبع فلا تمنع منه لأنه ليس بزينة وما صبغ غزله ثم نسج فيه احتمالان : أحدهما : يحرم لبسه لأنه أرفع وأحسن ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسخه والثاني لا يحرم ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث أم سلمة : إلا ثوب عصب ] وهو ما صبغ غزله قبل نسجه ذكره القاضي ولأنه لم يصبغ وهو ثوب فأشبه ما كان حسنا من الثياب غير مصبوغ والأول أصح وأما العصب فالصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب قال صاحب الروض الأنف : الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي صلى الله عليه و سلم للحادة في لبس ما صبغ لبسه مع حصول الزينة بصبغة كحصولها بما صبغ بعد نسجه ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة وإن كان رقيقا سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغيره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها
القسم الثالث : الحلي فيحرم عليها لبس الحلي له حتى الخاتم في قول أهل العلم ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : ولا الحلي ] وقال عطاء : يباح حلي الفضة دون الذهب وليس بصحيح لأن النهي عام ولأن الحلي يزيد حسنها ويدعو إلى مباشرتها قالت امرأة :
( وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... تتم من حسن إذا الحسن قصرا )
فصل : الثالث مما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمنع من ذلك وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه ما تفعل المحرمة
فصل : والرابع المبيت في غير منزلها وممن أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد في منزلها عمر وعثمان رضي الله عنهما وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأم سلمة وبه يقول مالك و الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق وقال ابن عبد البر : : وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر
وقال جابر بن زيد و الحسن و عطاء : تعتد حيث شاءت وروي ذلك عن علي وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكتت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى : { فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن } قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت رواهما أبو داود
ولنا ما [ روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به رواه مالك في موطئه و الأثرم وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان مملوكا لزوجها أو بإجارة أو عارية لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفريعة : امكثي في بيتك ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض ألفاظه اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك ] وفي لفظ [ اعتدي حيث أتاك الخبر ] فإن أتاها الخبر في غير مكسنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه وقال سعيد بن المسيب و النخعي : لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها اتباعا للفظ الخبر الذي رويناه
ولنا [ قوله عليه السلام : امكثي في بيتك ] واللفظ الآخر قضية في عين والمراد به هذا فإن قضايا الأعيان لا عموم لها ثم لا يمكن حمله على العموم فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق والبرية إذا أتاها الخبر وهي فيها

فصل حكم ما إذا خافت المحدة هدما أو غرقا
فإن خافت هدما أو غرقا أو عدوا أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية رجع فيها أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى تعديا أو امتنع من إجارته أو طلب به أكثر من أجرة المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذلك أجر المسكن وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن وإذا تعذرت السكنى سقطت ولها أن تسكن حيث شاءت ذكره القاضي
وذكر أبو الخطاب أنها تنتقل إلى أقرب ما يمكنها النقلة إليه وهو مذهب الشافعي لأنه أقرب إلى موضع الوجود فأشبه من وجبت عليه الزكاة في وضع لا يجد فيه أهل السهمان فإنه ينقلها إلى أقرب موضع يجدهم فيه
ولنا أن الواجب سقط لعذر ولم يرج الشرع له ببدل فلا يجب كما لو سقط الحج للعجز عنه وفوات شرط والمعتكف إذا لم يقدر على الاعتكاف في المسجد ولأنه ما ذكروه اثبات حكم بلا نص ولا معنى نص فإن معنى الاعتداد في بيتها لا يوجد في السكنى فيما قرب منه ويفارق أهل السهمان فإن القصد نفع الأقرب وفي نقلها إلى أقرب موضع يجده نفع الأقرب فوجب لذلك

فصول لا سكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلا
فصل : قال أصحابنا : ولا سكنى للمتوفى عنها إذ كانت حائلا رواية واحدة وإن كانت حاملا فعلى روايتين ولـ لشافعي في سكنى المتوفى عنها قولان : وجه الوجوب قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } فنسخ بعض المدة وبقي باقيها على الوجوب
ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر فريعة بالسكنى في بيتها من غير استئذان الورثة ولو لم تجب السكنى لم يكن لها أن تسكن إلا بإذنهم كما أنها ليس لها أن تتصرف في شيء من مال زوجها بغير إذنهم
ولنا أن الله تعالى إنما جعل للزوجة ثمن التركة أو ربعها وجعل باقيها لسائر الورثة والمسكن من التركة فوجب أن لا يستحق منه أكثر من ذلك ولأنها بائن من زوجها فأشبهت المطلقة ثلاثا وأما إذا كانت حاملا وقلنا : لها السكنى فلأنها حامل من زوجها فوجب لها السكنى قياسا على المطلقة فأما الآية التي احتجوا بها فإنها منسوخة
وأما أمر النبي صلى الله عليه و سلم فريعة بالسكنى فقضية في عين يحتمل أنه عليه السلام علم أن الوارث يأذن في ذلك أو يكون الأمر يدل على وجوب السكنى عليها ويتقيد ذلك بالإمكان وإذن الوارث من جملة ما يحصل الإمكان به فإذا قلنا : لها السكنى فهي أحق بسكنى المسكن الذي كانت تسكنه من الورثة والغرماء من رأس مال المتوفى ولا يباع في دينه بيعا يمنعها السكنى فيه حتى تقضي العدة وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو حنيفة وجمهور العلماء وإن تعذر المسكن فعلى الوارث أن يكتري لها مسكنا من مال الميت فإن لم يفعل أجبره الحاكم وليس لها أن تنتقل من مسكنها إلا لعذر كما ذكرنا وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم بجز لأن هذه السكنى يتعلق بها حق الله تعالى لأنها تجب للعدة والعدة يتعلق بها حق الله تعالى فلم يجز اتفاقهما على إبطالها بخلاف سكنى النكاح فإنها حق لهما ولأن السكنى ههنا من الإحداد فلم يجز الإتفاق على تركها كسائر خصال الإحداد وليس لهم أن يخرجوها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة لقول الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي أن تطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الأكثرين
وقال ابن مسعود و الحسن : هي الزنا لقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } واخراجهن هو الإخراج لإقامة حد الزنا ثم ترد إلى مكانها
ولنا أن الآية تقتضي الإخراج عن السكنى وهذا لا يتحقق فيما قالاه وأما الفاحشة فهي اسم للزنا وغيره من الأقوال الفاحشة يقال أفحش فلان في مقاله [ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قالت له عائشة يا رسول الله قلت لفلان بئس أخو العشيرة فلما دخل ألنت له القول فقال : يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ] إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار إن كانت كبيرة تجمعهم فإن كانت لا تجمعهم أو لم يمكن نقلها إلى غيره في الدار ولم يتخلصوا من أذاها بذلك فلهم نقلها وقال بعض أصحابنا : ينتقلون هم عنها لأن سكناها واجب في المكان وليس بواجب عليهم والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه ولأن الفاحشة منها فكان الإخراج لها وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوا هم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج بمقتضى النص ولأن الذنب لهم فيخضون بالإخراج
وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه بإسكانها فيه لزمها الاعتداد به وإن أبى أن يسكنها إلا بأجرة وجب بذلها من مال الميت إلا أن يتبرع إنسان ببذلها فيلزمها الاعتداد به فإن حولها صاحب المكان أو طلب أكثر من أجرة المثل فعلى الورثة إسكانها إن كان للميت تركة يستأجر لها به مسكن لأنه حق لها يقدم على الميراث فإن اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لأن سكناها به حق لها وليس بواجب عليها فإن المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به هو الذي كانت تسكنه حين موت زوجها وقد سقطت عنها السكنى به وسواء كان المسكن الذي كانت به لأبويها أو لأحدهما أو لغيرهم وإن كانت تسكن في دارها فاختارت الإقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة جاز ويلزم الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها وإن طلبت أن تسكنها غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك لأنه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم إسكانها
فصل : فأما إذا قلنا : ليس لها السكنى فتطوع الورثة بإسكنها في مسكن زوجه أو السلطان أو اجنبي لزمها الاعتداد به وإن منعت السكنى به أو طلبوا منها الأجرة فلها أن تنتقل عنه إلى غيره كما ذكرنا فيما إذا أخرجها المؤجر عند انقضاء الإجارة وسواء قدرت على الأجرة أو عجزت عنها لأنه إنما تلزمها السكنى لا تحصيل المسكن وإن كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا لها مسكنا آخر لم تلزمها السكنى وكذلك إن أخرجت من المسكن الذي هي به أو خرجت لأي عارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواه سواء بذله الورثة أو غيرهم لأنها إنما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره وكذلك إذا قلنا : لها السكنى فتعذر سكنها في مسكنها وبذل لها سواه وإن طلبت مسكنا سواه لزم الورثة تحصيله بأجرة أو بغيرها إن خلف الميت تركه نفي بذلك ويقدم ذلك على الميراث لأنه حق على الميث فأشبه الدين فإن كان على الميت دين يستغرق ماله ضربت بأجرة المسكن مع الغرماء لأن حقها مساو لحقوق الغرماء وتستأجر بما يصيبها موضعا تسكنه وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها فإنها تضرب بأجرة المسكن لمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا فإن قيل : فهلا قدمتم حق الغرماء لأنه أسبق ؟ قلنا : لأن حقها ثبت عليه بغير اختيارها فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف المفلس مالا لإنسان أو جنى عليه وإن مات وهي في مسكنه لم يجز إخراجها منه لأن حقها تعلق بعين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء بعينه فكان حقها مقدما كحق المرتهن وإن طلب الغرماء بيع هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لأنها إنما تستحق السكنى إذا كانت حاملا ومدة الحمل مجهولة فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة وإن أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها في ا لسكنى لم يكن لهم ذلك وإن أرادوا التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لأنه لا ضرر عليها فيه
فصل : وإذا قلنا : أنها تضرب نع الغرماء بقدر مدة عدتها فإنها تضرب بمدة عادتها في وضع الحمل إن كانت حاملا وإن كانت مطلقة من ذوات القروء وقلنا لها لسكنى صربت بمدة عادتها في القروء فإن لم تكن لها عادة ضربت بغالب عادات النساء وهو تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر لكل قرء شهر أو بما بقي من ذلك إن كان قد مضى من مدة حملها شيء لأنه لا يمكن تأخير القسمة لحق الغرماء فإذا ضربت بذلك فوافق الصواب فلم تزد ولم تنقص استقر الحكم وتستأجر بما يحصل لها مكانا تسكنه إذا تعذر ذلك سكنت حيث شاءت وإن كانت المدة أقل مما ضربت به مثل أن وضعت حملها لستة أشهر أو تربصت ثلاثة قروء في شهرين فعليها رد الفضل وتضرب فيه بحصتها منه وإن طالت العدة أكثر من ذلك مثل أن وضعت حملها في عام أو رأت ثلاثة قروء في نصف عام رجعت بذلك على الغرماء كما يرجعون عليها في صورة النقص ويحتمل أن لا ترجع يه ويكون في ذمة زوجها لأننا قدرنا ذلك مع تجويز الزيادة فلم تكن لها الزيادة عليه

فصل للمعتدة الخروج في حوائجها نهارا
فصل : وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها لما [ روى جابر قال : طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرا ] رواه النسائي و ابو داود [ وروى مجاهد قال : اسشتهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقلن يا رسول الله نستوحش بالليل أفبنيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها ] وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلا إلا لضرورة لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه وإن وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين والحد وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم من يستوفي الحق منها في منزلها وإن كانت برزة جاز إحضارها لاستيفائه فإذا فرغت رجعت إلى منزلها

فصل كون الأمة كالحرة في الإحداد
فصل : والأمة كالحرة في الإحداد والاعتداد في المنزل إلا أن سكناها في العدة كسكناها في حياة زوجها للسيد إمساكها نهارا وإرسالها ليلا فإن أرسلها ليلا ونهارا اعتدت زمانها كله في المنزل وعلى الورثة سكناها فيهما كالحرة سواء

فصل والبدوية كالحضرية في الاعتداد في منزلها
فصل : والبدوية كالحضرية في الاعتداد في منزلها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه فإن انتقلت الحلة انتقلت معهم لأنها لا يمكنها المقام وحدها وإن انتقل غير أهلها لزمها المقام معهم وإن انتقل أهلها انتقلت معهم إلا أن يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم فتكون مخيرة بين الإقامة والرحيل وإن هرب أهلها فخافت هربت معهم وإن أمنت أقامت لقضاء العدة في منزلها

فصل حكم المسافرة في السفينة التي مات فيها زوجها
فصل : فإن مات صاحب السفينة وامرأته في السفينة ولها مسكن في البر فحكمها حكم المسافرة في البر على ما سنذكره وإن لم يكن لها مسكن سواها وكان فيها بيت يمكنها السكنى فيه بحيث لا تجتمع مع الرجال وأمكنها المقام فيه بحيث تأمن على نفسها ومعها محرمها لزمها أن تعتد به فإن كانت ضيقة وليس معها محرمها أو لا يمكنها الإقامة فيها إلا بحيث تختلط بالرجال لزمها الانتقال منها إلى موضع سواها

فصل المطلقة البائن هل يجب عليها الاحدااد ؟
مسألة : قال : والمطلقة ثلاثا تتوقي الطيب والزينة والكحل بالإثمد
اختلفت الرواية عن أحمد في وجوب الإحداد على المطلقة البائن فعنه يجب عليها وهو قول سعيد بن المسيب و أبي عبيد و أبي ثور وأصحاب الرأي والثانية لا يجب عليها وهو عطاء و ربيعة و مالك و ابن المنذر ونحوه قول الشافعي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] وهذه عدة الوفاة فيدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة ولأنها معتدة عن غير وفاة فلم يجب عليها الإحداد كالرجعية والموطوءة بشبهة ولأن الإحداد في عدة الوفاة لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ولأن المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج وليس له من نفيه فاحتيط عليها بالإحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه بخلاف المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره
ووجه الرواية الأولى أنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها وذلك لأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه ويخرج على هذا الرجعية فإنها زوجة والموطوءة بشبهة ليست معتدة من نكاح فلم تكمل الحرمة فأما الحديث فإنما مدلوله تحريم الإحداد على ميت غير الزوج ونحن نقول به ولهذا جاز الإحداد ههنا بالإجماع فإذا قلنا يلزمها الإحداد لزمها شيئان : توقي الطيب والزينة في نفسها على ما قدمنا فيها ولا تمنع من النقاب ولا من الاعتداد في غير منزلها ولذلك [ أمر النبي صلى الله عليه و سلم فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ] على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

فصلان وجوب السكنى للمبتوتة الحامل
فصل : وإذا كانت المبتوتة حاملا وجب لها السكنى رواية واحدة ولا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه وإن لم تكن حاملا ففيها روايتان :
إحداهما : لا يجب لها ذلك وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء و طاوس و الحسن و عمرو بن ميمون وعكرمة و إسحاق و أبو ثور و داود
والثانية : يجب لها ذلك وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعائشة و سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي بكر ابن عبد الرحمن وخارجة بن زيد سليمان بن يسار و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي لقول الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وقال تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } فأوجب لها السكنى مطلقا ثم خص الحامل بالإنفاق عليها
[ ولنا روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال : والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال لها : ليس لك عليه نفقة ولا سكنى فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ـ ثم قال ـ إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ] متفق عليه فإن قيل فقد أنكرعليها عمر وقال : ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وقال عروة : لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب وقال إنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها وقال سعيد بن المسيب : تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى قلنا أما مخالفة الكتاب فإن فاطمة لما أنكروا عليها قالت : بيني وبينكم كتاب لله قال الله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها فكيف تحبس امرأة بغير نفقة ؟ وأما قولهم : إن عمر قال لا ندع كتاب ربنا فقد أنكر أحمد هذا القول عن عمر قال : ولكنه قال لا نجيز في ديننا قول امرأة وهذا مجمع على خلافه وقد أخذنا بخبر فريعة وهي امرأة وبرواية عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم في كثير من الأحكام وصار أهل العلم إلى خبر فاطمة هذا في كثير من الأحكام مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا ونظر المرأة إلى الرجال وخطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن سكنت إلى الأول
وأما تأويل من تأول حديثها فليس بشيء فإنها تخالفهم في ذلك وهي أعلم بحالها ولم يتفق المتأولون على شيء وقد رد على من رد عليها فقال ميمون بن مهران لـ سعيد بن المسيب لما قال : تلك امرأة فتنت الناس : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فتنت الناس وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس له عليها رجعة ولا بينهما ميراث [ وقول عائشة إنها كانت في مكان وحش لا يصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم علل ذلك فقال : يا ابنة آل قيس إنما السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك الرجعة ] هكذا رواه الحميدي و الأثرم ولأنه لو صح ما قالته عائشة أو غيرها من التأويل ما احتاج عمر في رده إلا أن يعتذر بأنه قول امرأة ثم فاطمة صاحبة القصة وهي أعرف بنفسها وبحالها وقد أنكرت على من أنكر عليها وردت على من رد خبرها أو تأوله بخلاف ظاهره فيجب تقديم قولها لمعرفتها بنفسها وموافقتها ظاهر الخبر كما في سار ما هذا سبيله
فصل : قال أصحابنا ولا يتعين الموضع الذي تسكنه في الطلاق سواء قلنا لها السكنى أو لم نقل بل يتخير الزوج بين إقرارها في الموضع الذي طلقها وبين نقلها إلى مسكن مثلها والمستحب إقرارها لقوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ولأن فيه خروجا من الخلاف فإن الذين ذكرنا عنهم أن لها السكنى يرون وجوب الاعتداد عليها في منزلها فإن كانت في بيت يملك الزوج سكناه ويصلح لمثلها اعتدت فيه فإن ضاق عنهما انتقل عنها وتركه لها لأنه يستحب سكناها في الموضع الذي طلقها فيه وإن اتسع الموضع لهما وفي الدار موضع لها منفرد كالحجرة أو علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق سكنت فيه وسكن الزوج في الباقي لأنهما كالحجرتين المتجاورتين وإن لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع تتستر فيه بحيث لا يراها ومعها محرم تتحفظ به جاز لأن مع المحرم يؤمن الفساد ويكره في الجملة لأنه لا يؤمن النظر وإن لم يكن معها محرم لم يجز لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يخلون رجل بامراة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان ] وإن امتنع من إسكانها وكانت ممن لها عليه السكنى أجبره الحاكم فإن كان الحاكم معدوما رجعت على الزوج وإن كان الحاكم موجودا فهل ترجع ؟ على روايتين وإن كان الزوج حاضرا ولم يمنعها من السكن فاكترت لنفسها موضعا أو سكنت في موضع تملكه لم ترجع بالأجرة لأنها تبرعت بذلك فلم ترجع به على أحد وإن عجز الزوج عن إسكانها لعسرته أو غيبته أو امتنع من ذلك مع قدرته سكنت حيث شاءت وكذلك المتوفى عنها زوجها إذا لم يسكنها ورثته لأنه إنما تلزمها السكنى في منزله لتحصين مائه فإذا لم تفعل لم يلزمها ذلك

مسألة وفصل ليس للمعتدة الخروج للحج
مسألة : قال : وإذا خرجت إلى الحج فتوفي عنها زوجها وهي بالقرب رجعت لتقضي العدة فإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها فإن رجعت وقد بقي من عدتها شيء أتت به في منزلها
وجملته أن المعتدة من الوفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره روي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب و القاسم مالك و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي و الثوري وإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت إن كانت قريبة لأنها في حكم الإقامة وإن تباعدت مضت في سفرها وقال مالك : ترد ما لم تحرم والصحيح أن البعيدة لا ترد لأنه يضر بها وعليها مشقة ولا بد لها من سفر وإن رجعت قال القاضي : ينبغي أن يحد القريب بما لا تقصر فيه الصلاة والبعيد ما تقصر فيه لأن ما لا تقصر الصلاة فيه أحكامه أحكام الحضر وهذا قول أبي حنيفة إلا أنه لا يرى القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام فقال : متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه وإن كان فوق ذلك لزمها المضي إلى مقصدها والاعتداد فيه إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام وإن كان بينه وبينها ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي به موضع يمكنها الإقامة فيه لزمها الإقامة وإن لم يمكنها الإقامة مضت إلى مقصدها
وقال الشافعي : إن فارقت البنيان فلها الخيار بين الرجوع والتمام لأنها صارت في موضع أذن لها زوجها فيه وهو السفر فأشبه مالو كانت قد بعدت
ولنا على وجوب الرجوع إذا كانت قريبة ما روى سعيد ثنا جرير عن منصور عن سعيد بن المسيب قال : توفي أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة حتى يعتددن في بيوتهن ولأنه أمكنها الاعتداد في منزلها قبل أن يبعد سفرها فلزمها كما لولم تفارق البنيان وعلى أن البعيدة لا يلزمها الرجوع لأن عليها مشقة وتحتاج إلى سفر في رجوعها فاشبهت من بلغت مقصدها وإن اختارت البعيدة الرجوع فلها ذلك إذا كانت تصل إلى منزلها قبل انقضاء عدتها ومتى كان عليها في الرجوع خوف أو ضرر فلها المضي في سفرها ما لو بعدت ومتى رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها لزمها أن تأتي به في منزل زوجها بلا خلاف نعلمه بينهم في ذلك لأنه أمكنها الاعتداد فيه فلزمها كما لو لم تسافر منه
فصل : ولو كانت عليها حجة الإسلام فمات زوجها لزمها العدة في منزلها وإن فاتها الحج لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام وإن مات زوجها بعد إحرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها زوجها فيه نظرت فإن كان وقت الحج متسعا لا تخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها الاعتداد في منزلها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز إسقاط أحدهما وإن خشيت فوات الحج لزمها المضي فيه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمها المقام وإن فاتها الحج لأنها معتدة فلم يجز لها أن تنشىء سفرا كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها
ولنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق منهما كما لو كانت العدة أسبق ولأن الحج آكد لأنه أحد أركان الإسلام والمشقة بتفويته تعظم فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها إليه وإن أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته احتمل أن يجوز لها المضي إليه لما في بقائها في الإحرام من المشقة واحتمل أن يلزمها الاعتداد في منزلها لأن العدة أسبق ولنها فرطت وغلطت على نفسها فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها ذلك فإن أدركته وإلا تحللت بعمل عمرة وحكمها في القضاء حكم من فاته الحج وإن لم يمكنها السفر فحكمها حكم المحصر كالتي يمنعها زوجها من السفر وحكم الإحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف

فصلان حكم ما أذن لها بالسفر قبل أن يموت فخرجت فمات
فصل : وإذا أذن لها زوجها للسفر لغير النقلة فخرجت ثم مات زوجها فالحكم في ذلك كالحكم في سفر الحج على ما ذكرنا من التفصيل وإذا مضت إلى مقصدها فلها الإقامة حتى تقضي ما خرجت إليه وتنقضي حاجتها من تجارة أو غيرها وإن كان خروجها لنزهة أو زيارة أو لم يكن قدر لها مدة فإنها تقيم إقامة المسافر ثلاثا وإن قدر لها مدة فلها إقامتها لأن سفرها بحكم إذنه فكان لها إقامة ما أذن لها فيه فإذا مضت مدتها أو قضت حاجتها ولم يمكنها الرجوع لخوف أو غيره أتمت العدة في مكانها وإن أمكنها الرجوع لكن لا يمكنها الوصول إلى منزلها حتى تنقصي عدتها لزمتها الإقامة في مكانها لأن الاعتداد وهي مقيمة أولى من الإتيان بها في السفر وإن كانت تصل وقد بقي من عدتها شيء لزمها العود لتأتي بالعدة في مكانها
فصل : وإن أذن الزوج لها في الانتقال إلى دار أخرى أو بلد آخر فمات قبل انتقالها لزمها الاعتداد في الدار التي هي بها لأنها بيتها وسواء مات قبل نقل متاعها أو بعده لأنها مسكنها ما لم تنتقل عنه وإن مات بعد انتقالها إلى الثانية اعتدت فيها لأنها مسكنها وسواء كانت قد نقلت متاعها أو لم تنقله وإن مات وهي بينهما مخيرة لا مسكن لها منهما فإن الأولى قد خرجت عنها منتقلة فخرجت عن كونها لها والثانية : لم تسكن بها فهما سواء وقيل يلزمها الاعتداد في الثانية لأنه المسكن الذي أذن لها زوجها في السكنى به وهذا يمكن في الدارين فأما إذا كانا بلدين لم يلزمها الانتقال إلى البلد الثاني بحال لأنها إنما كانت تنتقل لغرض زوجها في صحتبها إياه وإقامتها معه فلو ألزمناها ذلك بعد موته لكلفناها السفر الشاق والتغرب عن وطنها وأهلها والمقام مع غير محرمها والمخاطرة بنفسها مع فوات الغرض وظاهر حال الزوج أنه لو علم أنه يموت لما نقلها فصارت الحياة مشروطة في النقلة فأما إن انتقلت إلى الثانية ثم عادت إلى الأولى لنقل متاعها فمات زوجها وهي بها فعليها الرجوع إلى الثانية لأنها صارت مسكنها بانتقالها إليها وإنما عادت إلى الأولى لحاجة والاعتبار بمسكنها دون موضعها وإن مات وهي في الثانية فقالت أذن لي زوجي في السكنى بهذا المكان وأنكر ذلك الورثة أو قالت : إنما أذن لي زوجي في المجيء إليه لا في الإقامة به وأنكر ذلك الورثة فالقول قولها لأنها أعرف بذلك منهم وكل موضع قلنا يلزمها السفر عن بلدها فهو مشروط بوجود محرمها مسافرا معها والأمن على نفسها ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها ] أو كما قال

مسألة حكم ما لو طلقت أو مات وهو ناء عنها
مسألة : قال : وإذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو ناء عنها فعدتها من يوم مات أو طلق إذا صح ذلك عندها وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة
هذا المشهور في المذهب وأنه متى مات زوجها أو طلقها فعدتها من يوم موته وطلاقه قال أبو بكر : لا خلاف عن أبي عبد الله أعلمه أن العدة تجب من حين الموت والطلاق إلا ما رواه إسحاق بن إبراهيم وهذا قول ابن عمر وابن عباس وابن مسعود و مسروق و عطاء و جابر بن زيد و ابن سيرين و سعيد بن جبير و عكرمة و طاوس و سليمان بن يسار و أبي قلابة وأبي العالية و النخعي و نافع و مالك و الشافعي و إسحاق و أبي عبيد و أبي ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد إن قامت بذلك بينة فكما ذكرنا وإلا فعدتها من يوم يأتيها الخبر
وروى ذلك عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز عن علي و الحسن و قتادة و عطاء الخراساني وخلاس بن عمرو أن عدتها من يوم يأتيها الخبر لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها
ولنا أنها لو كانت حاملا فوضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها فكذلك سائر أنواع العدد ولأنه زمان عقيب الموت أو الطلاق فوجب أن تعتد به كما لو كان حاضرا ولأن القصد غير معتبر في العدة بدليل أن الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتهما من غير قصد ولم يعدم ههنا إلا القصد وسواء في هذا اجتنبت ما تجتنبه المعتدات أو لم تجتنبه فإن الإحداد الواجب ليس بشرط في العدة فلو تركته قصدا أو عن غير قصد لانقضت عدتها فإن الله تعالى قال : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقال : { فعدتهن ثلاثة أشهر } وقال : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وفي اشتراط الإحداد مخالفة هذه النصوص فوجب ألا يشترط

كتاب الرضاع
الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع : وأما الكتاب فقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ذكرهما الله سبحانه في جملة المحرمات
وأما السنة فما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ] متفق عليه وفي لفظ [ يحل من الرضاع ما يحرم من النسب ] رواه النسائي وعن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في بنت حمزة : لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة ] متفق عليه في أخبار كثيرة نذكر أكثرها إن شاء الله تعالى في تضاعيف الباب وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع إذا ثبت هذا فإن تحريم الأم والأخت ثبت بنص الكتاب وتحريم البنت ثبت بالتنبيه فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة وتثبت المحرمية لأنها فرع على التحريم إذا كان بسبب مباح فأما بقية أحكام النسب من النفقة والعتق ورد الشهادة وغير ذلك فلا يتعلق به لأن النسب أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما يشبه به فيما نص عليه فيه

مسألتان وفصلان الرضاع الذي لا يشك في تحريمه وشروط الرضعات المحرمات
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعدا
في هذه المسألة مسألتان :
المسألة الأولى : أن الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعدا هذا الصحيح في المذهب وروي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير و عطاء و طاوس وهو قول الشافعي وعن أحمد رواية ثانية أن قليل الرضاع وكثيرة يحرم وروي ذلك عن علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن و مكحول و الزهري و قتادة و الحكم و حماد و مالك و الأوزاعي و الثوري و الليث وأصحاب الرأي وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرم في المهد ما يفطر به الصائم واحتجوا بقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وقوله عليه السلام : [ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ]
[ وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ؟ ] متفق عليه ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء ولا يلزم اللعان لأنه قول
والرواية الثانية : لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات وبه قال أبو ثور و أبو عبيد و داود و ابن المنذر ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا تحرم المصة ولا المصتان ] [ وعن أم الفضل بنت الحارث قالت : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ] رواهما مسلم ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث [ وروي عن حفصة : لا يحرم دون عشر رضعات وروي ذلك عن عائشة لأن عروة روى في حديث سهلة بنت سهيل فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا : أرضعيه عشر رضعات فيحرم بلبنها ] وجه الأولى ما روي عن عائشة أنها قالت : انزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم والأمر على ذلك رواه مسلم وروى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة عن سهلة بنت سهيل : أرضعي سالما خمس رضعات فيحرم بلبنها والآية فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم ما رووه فنجمع بين الأخبار ونحملها على الصريح الذي رويناه
فصل : وإذا وقع الشك في وجود الرضاع أو في عدد الرضاع المحرم هل كملا أو لا لم يثبت التحريم لأن الأصل عدمه فلا تزول عن اليقين بالشك كما لو شك في وجود الطلاق وعدده
المسألة الثانية : أن تكون الرضعات متفرقات وبهذا قال الشافعي والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف لأن الشرع ورد بها مطلقا ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل ذلك على أنه ردهم إلى العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعا بينا باختياره وكان ذلك رضعه فإذا عاد كانت رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي أو لشيء يلهيه أو قطعت عليه المرضعة نظرنا فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في الحال ففيه وجهان :
أحدهما : أن الأول رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه قال : أما ترى الصبي يرتضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس أو يستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة وذلك لأن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره والوجه الآخر : أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف إليه من الطعام إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمنا أو قطع لشرب الماء أو انتقال من لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا ههنا والأول أصح لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا

مسألة وفصل والسعوط والوجور مثل الرضاع
مسألة : قال : والسعوط كالرضاع وكذلك الوجور
معنى السعوط أن يصب اللبن في أنفه من إناء أو غيره والوجور أن يصب في حلقه صبا من غير الثدي
واختلفت الرواية في التحريم بهما فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع وهو قول الشعبي و الثوري و أصحاب الرأي وبه قال مالك في الوجور
والثانية : لا يثبت بهما التحريم وهو اختيار ابي بكر ومذهب داود وقول عطاء الخراساني في السعوط لأن هذا ليس برضاع وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع ولأنه حصل من غير ارتضاع فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه
ولنا ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم ] رواه أبو داود ولأن هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع فيجب أن يساويه في التحريم والأنف سبيل الفطر للصائم فكان سبيلا للتحريم كالرضاع بالفم
فصل : وإنما يحرم من ذلك مثل الذي يحرم بالرضاع وهو خمس في الرواية المشهورة فإنه فرع على الرضاع فيأخذ حكمه فإن ارتضع وكمل الخمس بسعوط أو وجور أو استعط أو أوجر وكمل الخمس برضاع ثبت التحريم لأنا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم فكذلك في إكمال العدد ولو حلبت في إناء دفعة واحدة ثم سقته غلاما في خمسة أوقات فهو خمس رضعات فإنه لو أكل من طعام خمس أكلات متفرقات لكان قد أكل خمس أكلات وإن حلبت في إناء حلبات في خمسة أوقات ثم سقيه دفعة واحدة كان رضعة واحدة كما لو جعل الطعام في إناء واحد في خمسة أوقات ثم أكله دفعة واحدة كان أكلة واحدة وحكي عن الشافعي قول في الصورتين عكس ما قلنا اعتبارا بخروجه منها لأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه
ولنا أن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم ولهذا ثبت التحريم به من غير رضاع ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به وما وجد منه إلا دفعة واحدة فكان رضعة واحدة وإن سقته في أوقات فقد وجد في خمسة أوقات فكان خسم رضعات فأما إن سقته اللبن المجموع جرعة بعد جرعة متتابعة فظاهر قول الخرقي أنه رضعة واحدة لاعتباره خمس رضعات متفرقات ولأن المرجع في الرضعة إلى العرف وهم لا يعدون هذا رضعات فأشبه ما لو أكل الآكل الطعام لقمة بعد لقمة فإنه لا يعد أكلات ويحتمل أن يخرج على ما إذا قطعت عليه المرضعة الرضاع على ما قدمنا

مسألتان وفصول التحريم باللبن ولو عمل جبنا ولبن الميتة كلبن الحية
فصل : وإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي ثبت به التحريم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يحرم به لزوال الإسم وكذلك على الرواية التي تقول لا يثبت التحريم بالوجور لا يثبت ههنا بطريق الأولى ولنا أنه واصل من الحلق يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فحصل به التحريم كما لو شربه
فصل : فأما الحقنة فقال أبو الخطاب : المنصوص عن أحمد أنها لا تحرم وهو مذهب أبي حنيفة و مالك وقال ابن حامد وابن أبي موسى : تحرم وهذا مذهب الشافعي لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر فتعلق به التحريم كالرضاع
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو قطر في إحليله ولأنه ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز إثبات حكمه فيه ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه إثبات فيه إنبات اللحم ولا إنشاز العظم وهذا لا يحرم فيه إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق أشبه ما لو وصل من جرح
مسألة : قال : واللبن المشوب كالمحض
المشوب المختلط بغيره والمحض الخالص الذي لا يخالطه سواه وسوى الخرقي بينهما سواء شيب بطعام أو شراب أو غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر : قياس قول أحمد أنه لا يحرم لأنه وجور وحكي عن ابن حامد قال : إن كان الغالب اللبن حرم وإلا فلا وهو قول أبي ثور و ألمزني لأن الحكم للأغلب ولأنه يزول بذلك الإسم والمعنى المراد به ونحو هذا قول أصحاب الراي وزادوا فقالوا : إن كانت النار قد مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع ووجه الأول أن اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه ويحصل منه إنبات اللحم وإنشاز العظم فحرم كما لو كان غالبا وهذا فيما إذا كانت صفات اللبن باقية فأما إن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت به التحريم لأن هذا ليس بلبن مشوب ولا يحصل به التغذي ولا إنبات اللحم ولا إنشاز العظم وحكي عن القاضي أن التحريم يثبت به وهو قول الشافعي لأن أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه ما لو كان لونه ظاهرا
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا في معناه فوجب أن لا يثبت حكمه فيه
فصل : وإن حلب من نسوة وسقيه الصبي فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب بماء أو عسل لم يخرج عن كونه رضاعا محرما فكذلك إذا شيب بلبن آخر
مسألة : قال : ويحرم لبن الميتة كما يحرم لبن الحية لأن اللبن لا يموت
المنصوص عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي أنه ينشر الحرمة وهو اختيار أبي بكر وهو قول أبي ثور و الأوزاعي وا بن القاسم وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال الخلال : لا ينشر الحرمة وتوقف عنه أحمد في رواية مهنا وهو مذهب الشافعي لأنه لبن ممن ليس بمحل للولادة فلم يتعلق به التحريم كلبن الرجل
ولنا أنه وجد الارتضاع على وجه ينبت اللحم وينشز العظم من امرأة فأثبت التحريم كما لو كانت حية ولأنه لا فارق بين شربه في حياتها وموتها إلا الحياة والموت أو النجاسة وهذا لا أثر له فإن اللبن لا يموت والنجاسة لا تمنع كما لو حلب في وعاء نجس ولأنه لو حلب منها في حياتها فشربه بعد موتها لنشر الحرمة وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الإناء في عدم الحياة وهي لا تزيد على عظم الميتة في ثبوت النجاسة

فصل ومسألة بيان من ينتشر إليه التحريم بسبب الرضاع
فصل : ولو حلبت المرأة لبنها في إناء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل الوجور محرما وبه قال أبو ثور و الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وذلك لأنه لبن امرأة في حياتها فأشبه ما لو شربه وهي في الحياة
مسألة : قال : وإذا حلبت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن فأرضعت به طفلا خمس رضعات متفرقات في حولين حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها وإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها لأن اللبن من الحمل الذي هو منه
وجملة ذلك أن المرأة إذا حملت من رجل وثاب لها لبن فأرضعت به طفلا رضاعا محرمأ صار الطفل المرتضع ابنا للمرضعة بغير خلاف وصار أيضا ابنا لمن ينسب الحمل إليه فصار في التحريم وإباحة الخلوة ابنا لهما وأولاده من البنين والبنات أولاد أولادهما وإن نزلت درجتهم وجميع أولاد المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها إخوة المرتضع وأخواته وأولاد أولادها أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم وأم المرضعة جدته وأبوها جده وإخوتها أخواله وأخواتها خالاته وأبو الرجل جده وأمه جدته وإخوته أعمامه وأخواته عماته وجميع أقاربهما ينتسبون إلى المرتضع كما ينتسبون إلى ولدهما من النسب لأن اللبن الذي ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة فنشر التحريم إليهما ونشر الحرمة إلى الرجل وإلى أقاربه وهو الذي يسمى لبن الفحل وفي التحريم به اختلاف ذكرناه في باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه والحجة القاطعة فيه ما [ روت عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب فقلت : والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته قال : ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ] قال عروة : فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول : [ حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب ] متفق عليه
وسئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما هل يتزوج الغلام بالجارية ؟ فقال لا اللقاح واحد قال مالك : اختلف قديما في الرضاعة من قبل الأب ونزل برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا في ذلك فاختلفت عليهم ففارقوا زوجاتهم فأما المرتضع فإن الحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا ولا تتنشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته ولا إلى أعلى منه كأبيه وأمه وأعمامه وأخواله وخالاته وأجداده وجداته فلا يحرم على المرضعة نكاح أبي الطفل المرتضع ولا أخيه ولا عمه ولا خاله ولا يحرم على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته ولا بأس أن يتزوج أولاد المرضعة وأولاد زوجها إخوة الطفل المرتضع وأخواته قال أحمد : لا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخته من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب وإنما الرضاع بين الجارية وأخته
إذا ثبت هذا فإن شرط تحريم الرضاع أن يكون في الحولين وهذا قول أكثر أهل العلم روي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي و ابن شبرمة و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف ومحمد و أبو ثور ورواية عن مالك وروي عنه إن زاد شهرا جاز وروي شهران
وقال أبو حنيفة : يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا لقوله سبحانه : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال وقال زفر مدة الرضاع ثلاث سنين وكانت عائشة ترى رضاعة الكبيرة تحرم ويروى هذا عن عطاء و الليث و داود لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة : والله ما ندري لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه و سلم لسالم دون الناس رواه النسائي و أبو داود وغيرهما
ولنا قول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما [ وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة ] متفق عليه [ وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون الناس كما قال سائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة فقد روينا عن علي وابن عباس أن المراد بالحمل حمل البطن وبه استدل على أنه أقل مدة الحمل ستة أشهر وقد دل على هذا قول الله تعالى : { وفصاله في عامين } فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما لحصل التحريم ولو لم يفطم حتى تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم وقال ابن القاسم صاحب مالك : لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم تحرم عليه لقوله عليه السلام : وكان قبل الفطام
ولنا قول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وروي عنه عليه السلام : [ لا رضاع إلا ما كان في الحولين ] والفطام معتبر بمدته لا بنفسه قال أبو الخطاب : لو ارتضع بعد الحولين بساعة لم يحرم
وقال القاضي : لو شرع في الخامسة فحال الحول قبل كمالها لم يثبت التحريم ولا يصح هذا لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كاف في التحريم بدليل ما لو انفصل مما بعده فلا ينبغي أن يسقط حكم بإيصال ما لا أثر له به واشترط الخرقي نشر الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه أن يكون لبن حمل ينتسب إلى الواطىء إما لكون الوطء في نكاح أو ملك يمين أو شبهة فأما لبن الزاني أو النافي للولد باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما في مفهوم كلام الخرقي وهو قول أبي عبد الله بن حامد ومذهب الشافعي وقال أبو بكر عبد العزيز : تنتشر الحرمة بينهما لأنه معنى ينشر الحرمة فاستوى في ذلك مباحة ومحظورة كالوطء يحققه أن الواطىء حصل منه لبن وولد ثم أن الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطىء كذلك اللبن ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فنشرها إلى الوطء كصورة الإجماع ووجه القول الأول أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها ويفارق تحريم ابنته من الزنا لأنها من نطفته حقيقة بخلاف مسألتنا ويفارق تحريم المصاهرة فإن التحريم ثم لا يقف على ثبوت النسب ولهذا تحرم أم زوجته وابنتها من غير نسب وتحريم الرضاع مبني على النسب ولهذا قال عليه السلام : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع وكذلك يحرم جميع أولادها وأقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاع باللبن المباح وإن كان المرتضع جارية حرمت على الملاعن بغير خلاف أيضا لأنها ربيبته فإنها بنت امرأته من الرضاع وتحرم على الزاني عند من يرى تحريم المصاهرة وكذلك يحرم بناتها وبنات المرتضع من الغلمان لذلك
فصل : وإذا وطىء رجلان امرأة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلا صار ابنا لمن ثبت الولد منه سواء ثبت نسبه منه بالقافة أو بغيرها وإن ألحقته القافة بهما صار المرتضع ابنا لهما فالمرتضع في كل موضع تبع للمناسب فمتى لحق المناسب بشخص فالمرتضع مثله وإن انتفى المناسب عن أحدهما فالمرتضع مثله لأنه بلبنه ارتضع وحرمته فرع على حرمته وإن لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة أو لاشتباهه عليهم ونحو ذلك حرم عليهما تغليبا للخطر لأنه يحتمل أن يكون منهما ويحتمل أن يكون أحدهما فيحرم عليه أقاربه دون أقارب الآخر وقد اختلطت أخته بغيرها فحرم الجميع كما لو علم أخته بعينها ثم اختلطت بأجنبيات وإن انتفى عنهما جميعا بأن تأتي يه لدون شتة أشهر من وطئهما أو لأكثر من أربع سنين أو لدون ستة أشهر من وطء أحدهما أو لأكثر من أربع سنين من وطء الآخر انتفى المرتضع عنهما أيضا فإن كان المرتضع جارية حرمت عليهما تحريم المصاهرة ويحرم أولادهما عليها أيضا لأنها ابنة موطوءتهما فهي ربيته لهما

فصل لا تنشر الحرمة بغير لبن الآدمية
فصل : ولا تنتشر الحرمة بغير لبن الآدمية بحال فلو ارتضع اثنان من لبن بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي و ابن القاسم و ابو ثور وأصحاب الرأي لو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين ولم تنتشر الحرمة بينه وبينهما في قول عامتهم وقال الكرابيسي : يتعلق به التحريم لأنه لبن آدمي أشبه لبن الآدمية وحكي عن بعض السلف أنهما إذا ارتضعا من لبن بهيمة صارا أخوين وليس بصحيح لأن هذا لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يثبت به تحريم الأخوة لأن الأخوة فرع على الأمومة وكذلك لا يتعلق به تحريم الأبوة لذلك ولأن هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام فإن ثاب لخنثى مشكل لبن لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك وقال ابن حامد : يقف الأمر حتى ينكشف أمر الحنثى فعلى قوله يثبت التحريم إلا أن يتبين كونه رجلا لأنه لا يأمن كونه محرما

مسألة وفصول فروع في الرضاع المحرم
فصل : وإن ثاب لامرأة لبن من غير وطء فأرضعت به طفلا نشر الحرمة في أظهر الروايتين وهو قول ابن حامد ومذهب مالك و الثوري و الشافعي و أبي ثور و أصحاب الرأي وكل من نحفظ عنه ابن المنذر لقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطء ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال فإن كان هذا نادرا فجنسه معتاد
والرواية الثانية : لا تنشر الحرمة لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن الرجال والأول أصح
فصل : إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد له منهن لبن فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة لم يصرن أمهات له وصار المولى أبا له وهذا قول ابن حامد لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات وفيه وجه آخر لا تثبت الأبوة لأنه رضاع لم يثبت الأمومة فلم يثبت الأبوة كالارتضاع بلبن الرجل والأول أصح فإن الأبوة إنما تثبت لكونه رضع من لبنه لا لكون المرضعة أما له ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا قلنا بثبوت الأبوة حرمت عليه المرضعات لأنه ربيبهن وهن موطوءات أبيه وإن كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرف أمهات له وهل يصير الرجل جدا له وأودلاه أخوالا له وخالات ؟ على وجهين أحدهما : يصير جدا وأخوهن خالا لأنه قد كمل للمرتضع خمس رضعات من لبن بناته أو أخواته فأشبه ما لو كان من واحدة والآخر لا يثبت ذلك لأن كونه جدا فرع كون ابنته أما وكونه خالا فرع كون أخته أما ولم يثبت ذلك فلا يثبت الفرع وهذا الوجه يترجح في هذه المسألة لأن الفرعية محتققة بخلاف التي قبلها فإن قلنا : يصير أخوهن خالا لم تثبت الخؤولة في حق منهن لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات ولكن يحتمل التحريم لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم خمس رضعات ولو كمل للطفل خمس رضعات من أمه وأخته وابنته وزوجته وزوجة أبيه من كل واحدة رضعة خرج على الوجهين
فصل : إذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت طفلا ثلاث رضعات وانقطع لبنها فتزوجت آخر فصار لها منه لبن فأرضعت منه الصبي رضعتين صارت أما له بغير خلاف علمناه عند القائلين بأن الخمس محرمات ولم يصر واحد من الزوجين أبا له لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما
مسألة : قال : ولو طلق زوجته ثلاثا وهي ترضع من لبن ولده فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته فحرمت عليه ثم تزوجت بآخر بها ووطئها ثم طلقها أو مات عنها لم يجز أن يتزوجها الأول لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به
هذه المسألة من فروع التي قبلها وهو أن المرتضع يصير ابنا للرجل الذي ثاب اللبن بوطئه فهذه المرأة لما تزوجت صبيا ثم أرضعته بلبن مطلقها صار ابنا لمطلقها فحرمت عليه لأنها أمه وبانت منه وكانت زوجة له فصارت زوجة لابن مطلقها فحرمت على الأول على التأبيد لكونها صارت من حلائل أبنائه ولو تزوجت امرأة صبيا فوجدت به عيبا ففسخت نكاحه ثم تزوجت كبيرا فصار لها منه لبن فأرضعت به الصبي خمس رضعات حرمت على زوجها لأنها صارت من حلائل أبنائه ولو زوج الرجل أم ولده أو أمته بصبي مملوك فأرضعته بلبن سيدها خمس رضعات انفسخ نكاحه وحرمت على سيدها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه فإن كان الصبي حرا لم يتصور هذا الفرع لم يصح نكاحه لأن من شرط جواز نكاح الحر الأمة خوف العنت ولا يوجد ذلك في الطفل فإن زوج بها كان النكاح فاسدا وإن أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة
فصل : وإذا طلق الرجل زوجته ولها منه لبن فتزوجت آخر لم يخل من خمسة أحوال أحدها أن يبقى لبن الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول سواء حملت من الثاني أو لم تحمل لا نعلم فيه خلافا لأن اللبت كان للأول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول والثاني : أن لا تحمل من الثاني فهو للأول سواء زاد أو لم يزد أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع الثالث : أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي سواء زاد أو لم يزد انقطع أو اتصل لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني فإن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره الحال الرابع : أن يكون لبن الأول باقيا وزاد بالحمل من الثاني فاللبن منهما جميعا في قول أصحابنا وقال ابو حنيفة : هو للأول ما لم تلد من الثاني
وقال الشافعي : إن لم ينته الحمل إلى حال ينزل منه اللبن فهو للأول فإن بلغ إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان : أحدهما : هو للأول والثاني : هو لهما
ولنا أن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه وبقاء لبن يقتضي كون أصله منه فيجب أن يضاف إليهما كما لو كان الولد منهما الحال الخامس : انقطع من الأول ثم ثاب بالحمل من الثاني فقال أبو بكر : هو منهما وهو أحد أقوال الشافعي إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن وذلك لأن اللبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن ثاب بسبب الحمل الثاني فكان مضافا إليهما كما لو لم ينقطع واختار أبو الخطاب أنه من الثاني وهو القول الثاني لـ لشافعي لأن لبن الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني فكان له كما لو لم يكن لها لبن من الأول وقال أبو حنيفة : هو للأول ما لم تلد من الثاني وهو القول الثالث لـ لشافعي لأن الحمل لا يقتضي اللبن وإنما يخلقه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه والكلام عليه قد سبق

مسألة وفصول إرضاع الكبرى الصغرى من امرأتين لرجل واحد
مسألة : قال : ولو تزوج كبيرة وصغيرة ولم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في الحولين حرمت عليه الكبيرة وثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعا ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة
نص أحمد على هذا كله في هذه المسألة فصول أربعة :
الفصل الأول : أنه متى تزوج كبيرة وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة قبل دخوله بها فسد نكاح الكبيرة في الحال وحرمت على التأبيد وبهذا قال الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي : نكاح الكبيرة ثابت وتنزع منه الصغيرة وليس بصحيح فإن الكبيرة صارت من أمهات النساء فتحرم أبدا لقول الله سبحانه : { وأمهات نسائكم } ولم يشترط دخوله بها فأما الصغيرة ففيها روايتان :
إحداهما : نكاحها ثابت لأنها ربيبة ولم تدخل بأمها فلا تحرم لقول الله سبحانه : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم }
والرواية الثانية : ينفسخ نكاحها وهو قول الشافعي و أبي حنيفة لأنهما صارتا أما وبنتا واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين وكما لو عقد عليهما بعد الرضاع عقدا واحدا
ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحها محرم على التأبيد فلم يبطل نكاحهما به كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية ولأأن الجمع طرأ على نكاح الأم والبنت فاختص الفسخ بنكاح الأم كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين لأنه ليست إحداهما أولى بالفسخ من الأخرى وفارق ما لو ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء
الفصل الثاني : أنه إن كان دخل بالكبيرة حرمتا جميعا على الأبد وانفسخ نكاحهما لأن الكبيرة صارت من أمهات النساء والصغيرة ربيبة قد دخل بأمها فتحرم تحريما مؤبدا وإن كان الرضاع بلبنه صارت الصغيرة بنتا محرمة عليه لوجهين لكونها بنته وربيبته التي دخل بأمها
الفصل الثالث : أن عليه نصف مهر الصغيرة لأن نكاحا انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها والفسخ إذا جاء من أجنبي كان الطلاق الزوج في وجوب الصداق عليه ولا مهر للكبيرة إن لم يكن دخل بها لأن فسخ نكاحها بسبب من جهتها فسقط صداقها كما لو ارتدت وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا وإن كان دخل بالكبيرة لم يسقط مهرها لأنه استقر بدخوله بها استقرارا لا يسقطه شيء ولذلك لا يسقط بردتها ولا بغيرها
الفصل الرابع : أنه يرجع على الكبيرة بما لزمه من صداق الصغيرة وبهذا قال الشافعي وحكي عن بعض أصحابه أنه يرجع بجميع صداقها لأنها أتلفت البضع فوجب ضمانه وقال أصحاب الرأي : إن كانت المرضعة أرادت الفساد رجع عليها بنصف الصداق وإلا فلا يرجع بشيء وقال مالك : يرجع بشيء
ولنا أنه يرجع عليها بالنصف أنها قررته عليها وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته فوجب عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع
ولنا على أبي حنيفة أن ما ضمن في العمد ضمن في الخطأ كالمال ولأنها أفسدت نكاحه وقررت عليه نصف الصداق فلزمها ضمانه كما لو قصدت الإفساد
ولنا على أن الزوج إنما يرجع بالنصف أن الزوج لم يغرم إلا النصف فلم يجب له أكثر مما غرم ولأنه بالفسخ يرجع إليه بدل النصف الآخر فلم يجب له بدل ما أخذ بدله مرة أخرى ولأن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له إنما صمنت المرضعة ههنا لما ألزمت الزوج ما كان معرضا للسقوط بسبب يوجد من الزوجة فلم يرجع ههنا بأكثر مما ألزمته
فصل : والواجب نصف المسمى لا نصف المهر المثل لأنه إنما يرجع بما غرم والذي غرم نصف ما فرض لها فرجع به وبهذا قال أبو حنيفة : وقال الشافعي : يرجع بنصف مهر المثل لأنه ضمان متلف فكان الاعتبار بقيمته دون ما ملكه به كسائر الأعيان
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له بدليل ما لو قتلت نفسها أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بإرضاعه فإنها لا تغرم له شيئا وإنما الرجوع ههنا بما غرم فلا يرجع بغيره وأنه لو رجع بقيمة المتلف لرجع بمهر المثل كله ولم يختص بنصفه لأن التلف لم يختص بالنصف ولأن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لزمهم نصف المسمى كذا ههنا

فصول ارضاع زوجة الرجل أو بلبن ينسب إليه وما يترتب عليع من أحكام
فصل : وكل امرأ ة تحرم بنتها إذا أرضعت زوجته الصغيرة افسدت نكاحه وحرمتها عليه ولزمهانصف الصداق فإن أرضعتها أمه صارت أخته وإن أرضعتها جدته صارت عمته أو خالته وإن أرضعتها أخته صارت بنت أخيه وكل امرأة تحرم بنت زوجها إذا أرضعتها بلبن زوجها حرمتها عليه وعليها نصف مهرها كامرأة ابنه وامرأة أبيه وامرأة أخيه وامرأة جده لأنها إن أرضعتها امرأة أبيه بلبنه صارت أخته وإن أرضعتها امرأة ابنه صارت بنت أبيه وإن أرضعتها امرأة أخيه صارت بنت أخيه وإن أرضعتها امراة جده بلبنه صارت عمته أو خالته وإن أرضعتها امرأة أحد هؤلاء بلبن غيره لم تحرم عليه لأنها صارت ربيبة زوجها وإن أرضعتها من لا تحرم بنتها كعمته وخالته لم تحرمها عليه ولو تزوج ابنة عمه فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار عم زوجته وإن أرضعت الزوجة صارت عمة وإن أرضعتهما جميعا صار كل واحد منهما عم الآخر وإن تزوج بنت عمته فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار خالا لها وإن أرضعت الزوجة صارت عمته وإ ن تزوج ابنة خاله فأرضعت جدتها الزوج صار عم زوجته وإن أرضعتها صارت خالته وإن تزوج ابنة خالته فأرضعت الزوج صار خال زوجته وإن أرضعتها صارت خالة زوجها
فصل : إن تزوج كبيرة ثم طلقها فأرضعت صغيرة بلبنه صارت بنتا له وإن أرضعتها بلبن غيره صارت ربيبة فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأبيد وإن كان لم يدخل بها لم تحرم لأنها ربيبة لم يدخل بأمها وإن تزوج صغيرة ثم طلقها فأرضعتها امرأة حرمت المرضعة على التأبيد لأنها من أمهات نسائه وإن تزوج كبيرة وصغيرة ثم طلق الصغيرة فأرضعتها الكبيرة حرمت الكبيرة وانفسخ نكاحها وإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها وله نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها فلها مهرها وتحرم هي والصغيرة على التأبيد وإن طلق الكبيرة وحدها قبل الرضاع فأرضعت الصغيرة ولم يكن دخل بالكبيرة ثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ويرجع على الكبيرة بنصف صداقها وإن طلقهما جميعا فالحكم في التحريم على ما مضى ولو تزوج رجل كبيرة وآخر صغيرة ثم طلقاهما ونكح كل واحد منهما زوجة الآخر ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت عليهما الكبيرة وانفسخ نكاحها وإن كان زوج الصغيرة دخل بالكبيرة حرمت عليه وانفسخ نكاحها وإلا فلا
فصل : وإن أرضعت بنت الكبيرة الصغيرة فالحكم في التحريم والفسخ حكم ما لو أرضعتها الكبيرة لأنها صارت جدتها والرجوع بالصداق على المرضعة التي أفسدت النكاح وإن أرضعتها أم الكبيرة انفسخ نكاحهما معا لأنهما صارتا أختين فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن ينكح من شاء منهما ويرجع على المرضعة بنصف صداقهما وإن كان قد دخل بالكبيرة فله نكاحها لأن الصغيرة لا عدة عليها وليس له نكاح الصغيرة حتى تنقضي عدة الكبيرة لأنها قد صارت أختها فلا ينكحها في عدتها وكذلك الحكم إن أرضعتها جدة الكبيرة لأنها تصير عمة الكبيرة أو خالتها والجمع بينهما محرم وكذلك الحكم إن أرضعتها أختها أو زوجة أخيها بلبنه لأنها صارت بنت أخت الكبيرة أو بنت أخيه وكذلك إن أرضعتها بنت أخيها أو بنت أختها ولا يحرم في شيء من هذا واحدة منهن على التأبيد لأنه تحريم جمع إلا إذا أرضعتها بنت الكبيرة وقد دخل بأمها

فصول تغريم نصف الصداق على من أفسد النكاح قبل الدخول
فصل : ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول غرم نصف صداقها وإن كان بعد الدخول فنص أحمد على أنه يرجع عليه بالمهر كله وهو مذهب الشافعي لأن المرأة تستحق المهر كله على زوجها فترجع بما لزمه كنصف المهر في غير المدخول بها والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا يرجع على المرضعة بعد الدخول بشيء لأنها لم تقرر على الزوج شيئا ولم تلزمه إياه فلم يرجع عليها بشيء كما لو أفسدت نكاح نفسها ولأنه لو ملك الرجوع بالصداق بعد الدخول لسقط إذا كانت المرأة هي المفسدة للنكاح كالنصف قبل الدخول ولأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم على ما ذكرناه فيما مضى ولذلك لا يجب مهر المثل وإنما رجع الزوج بنصف المسمى قبل الدخول لأنها قررته عليه ولذلك يسقط إذا كانت هي المفسدة لنكاحها ولم يوجد ذلك ههنا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ولأنه لو رجع بالمهر بعد الدخول لم يخل إما أن يكون رجوعه ببدل البضع الذي فوتته أو بالمهر الذي أداه لا يجوز أن يكون ببدل البضع لأنه لو وجب بدله لوجب له على الزوجة إذا فات بفعلها أو بقتلها ولكان الواجب لها مهر مثلها ولا يجوز له بدل ما أداه إليها لذلك ولأنها ما أوجبته ولا لها أثر في إيجابه ولا أدئاه ولا تقريره ولا نعلم بينهم خلافا في أنها إذا أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول أنه لا يسقط مهرها ولا يرجع عليها بشيء إن كان أداه إليها ولا في أنها إذا افسدته قبل الدخول أنه يسقط صداقها وأنه يرجع عليها بما أعطاها فلو دبت صغيرة إلى كبيرة فارتضعت منها خمس رضعات وهي نائمة وهما زوجتا رجل انفسخ نكاح الكبيرة وحرمت على التأبيد فإن كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ولا مهر للصغيرة لأنها فسخت نكاح نفسها وعليه مهر الكبيرة يرجع به على الصغيرة عند أصحابنا ولا يرجع على ما اخترناه وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه نصف صداقها يرجع به على مال الصغيرة لأنها فسخت نكاحها وإن ارتضعت الصغيرة منها رضعتين وهي نائمة ثم انتبهت الكبيرة فأتمت لها ثلاث رضعات فقد حصل الفساد بفعلهما فيتقسط الواجب عليهما وعليه مهر الكبيرة وثلاثة أعشار مهر الصغيرة يرجع به على الكبيرة وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه خمس مهرها يرجع به على الصغيرة وهل ينفسخ نكاح الصغيرة ؟ على روايتين
فصل : وإن أفسد النكاح جماعة تقسط المهر عليهم فلو جاء خمس فسقين زوجة صغيرة من لبن أم الزوج خمس مرات انفسخ نكاحها ولزمهن نصف مهرها بينهن فإن سقتها واحدة شربتين وأخرى ثلاثا فعلى الأولى الخمس وعلى الثانية خمس وعشر وإن سقتها واحدة شربتين وسقاها ثلاث ثلاث شربات فعلى الأولى الخمس وعلى كل واحدة من الثلاث عشر وإن كان له ثلاث نسوة كبار وواحدة صغيرة فأرضعت كل واحدة من الثلاث الصغيرة أربع رضعات ثم حلبن في إناء وسقينه الصغيرة حرم الكبار وانفسخ نكاحهن فإن لم يكن دخل بهن فنكاح الصغيرة ثابت على إحدى الروايتين وعليه لكل واحدة منهن ثلث صداقها ترجع به على ضرتيها لأن فساد نكاحها حصل بفعلها وفعلهما فسقط ما قابل فعلها وهو سدس الصداق وبقي عليه الثلث فرجع به على ضرتيها فإن كان صداقهن متساويا سقط ولم يجب شيء لأنه يتقاص ما لها على الزوج بما يرجع به عليها إذ لا فائدة في أن يجب لها عليه ما يرجع به عليها وإن كان مختلفا وهو من جنس واحد تقاصا منه بقدر أقلهما ووجبت الفضلة به لصاحبها وإن كان من أجناس ثبت التراجع على ما ذكرنا وإن كان قد دخل بإحدى الكبار حرمت الصغيرة أيضا وانفسخ نكاحها ووجب لها نصف صداقها ترجع به عليهن أثلاثا وللتي دخل بها المهر كاملا وفي الرجوع به ما أسلفناه من الخلاف وإن حلبن في إناء فسقته إحداهن الصغيرة خمس مرات كان صداق ضراتها يرجع به عليها إن كان قبل الدخول بهن لأنها أفسدت نكاحهن ويسقط مهرها إن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها فلها مهرها ولا ترجع به على أحد وإن كانت كل واحدة من الكبار أرضعت الصغيرة خمس رضعات حرم الثلاث فإن كان لم يدخل بهن فلا مهر لهن عليه وإن كان دخل بهن فعليه لكل واحدة مهرها لا يرجع به على أحد وتحرم الصغيرة ويرجع بما لزمه من صداقها على المرضعة الأولى أنها التي حرمتها عليه وفسخت نكاحها ولو أرضع الثلاث الصغيرة بلبن الزوج فأرضعتها كل واحدة رضعتين صارت بنتا لزوجها في الصحيح وينفسخ نكاحها ويرجع بنصف صداقها عليهن على المرضعتين الأوليين منه أربعة أخماسه وعلى الثالثة خمسه لأن رضعتها الأولى حصل بها التحريم لكمال الخمس بها والثانية لا أثر لها في التحريم فلم يجب عليها بها شيء ولا ينفسخ نكاح الأكابر لأنهن لم يصرن أمهات لها ولو كان لامرأته الكبيرة خمس بنات لهن لبن فأرضعن امرأته الصغيرة رضاعا تصير به إحداهن أما لها لحرمت أمها وانفسخ نكاحها وهل ينفسخ نكاح الصغيرة على روايتين وإن أرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة فالصحيح أن الكبيرة لا تحرم بهذا لأن كونها جدة يبنى على كون ابنتها أما وما صارت واحدة من بناتها أما ويحتمل أن تحرم لأنه قد كمل لها من بناتها خمس رضعات وكذلك الحكم لو أرضعتها بنتها رضعة وبنت ابنها رضعة وبنات بناتها ثلاث رضعات ولو كمل لها من زوجته بلبنه ومن أمه وأخته وابنته وابنة ابنه خمس رضعات فعلى وجهين أصحهما : لا يثبت تحريمها وفي الآخر يثبت فعلى على الوجه ينفسخ نكاحها ويرجع عليهن بما غرم من صداقها على قدر رضاعهن فإن قيل : فلم لا يرجع عليهن على عدد رؤوسهن لكون الرضاع مفسدا فيستوي قليله وكثيره كما لو طرح النجاسة جماعة في مائع في حالة واحدة ؟ قلنا لأن التحريم يتعلق بعدد الرضعات فكان الضمان متعلقا بالعدد بخلاف النجاسة فإن التنجيس لا يتعلق بقدر فيستوي قليله وكثيره ليكون القليل والكثير سواء في الإفساد فنظير ذلك أن يشرب في الرضعة من إحداهما أكثر مما يشرب من الأخرى
فصل : إذا كانت له زوجة أمة فأرضعت امرأته الصغيرة فحرمتها عليه وفسخت نكاحها كان مالزمه من صداق الصغيرة له في رقبة الأمة لأن ذلك من جنايتها وإن أرضعتها أم ولده أفسدت نكاحها وحرمتها عليه لأنها ربيبة دخل بأمها وتحرم أم الولد عليه أبدا لأنها من أمهات نسائه ولا غرامة عليها لأنها أفسدت على سيدها فإن كان قد كاتبها رجع عليها لأن المكاتبة يلزمها أرش جنايتها وإن أرضعت أم ولده امرأة ابنه بلبنه فسخت نكاحها وحرمتها عليه لأنها صارت أخته وإن أرضعت زوجة أبيه بلبنه حرمتها عليه لأنها صارت بنت ابنه ويرجع الأب على ابنه بأقل الأمرين مما غرمه لزوجته أو قيمتها لأن ذلك من جناية أم ولده وإن ارضعت واحدة منهما بغير لبن سيدها لم تحرمها لأن كل واحدة منهما صارت بنت أم ولده

مسألة وفصلان حكم ما لو تزوج بكبيرة وصغيرتين ولو أرضعت الصغيرتين أجنبية
مسألة : قال : ولو تزوج بكبيرة وصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين حرمت عليه الكبيرة وانفسخ نكاح الصغيرتين ولا مهر عليه للكبيرة ويرجع عليها بنصف صداق الصغيرتين وله أن ينكح من شاء منهما
أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات النساء وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما صارتا أختين واجتمعتا في الزوجية فينفسخ نكاحهما كما لو أرضعتا معا ولا مهر للكبيرة لأن الفساد جاء من قبلها ويرجع عليها بنصف صداق الصغيرتين لأنها أفسدت نكاحهما وله أن ينكح من شاء منهما لأن انفساخ نكاحهما للجمع ولا يوجب تحريما مؤبدا وهذا على الرواية التي قلنا أنها إذا أرضعت الصغيرة اختص الفسخ بالكبيرة فأما على الرواية التي تقول ينفسخ نكاحهما معا فإنه يثبت نكاح الأخيرة من الصغيرتين لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحهما ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معمها في النكاح فلم ينفسخ نكاحهما فأما إن كان دخل بالكبيرة حرمت وحرمت الصغيرتان على التأبيد لأنهما ربيبتان قد دخل بأمهما
فصل : فإن أرضعت الصغيرتين أجنبية انفسخ نكاحهما أيضا وهذا قول أبي حنيفة و المزني وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر ينفسخ نكاح الآخرة وحدها لأن سبب البطلان حصل بها وهو الجمع فأشبه ما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى
ولنا أنه جامع بين الأختين في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما معا وفارق مالو عقد على واحدة بعد الأخرى فإن عقد الثانية لم يصح فلم يصح فلم يصر به جامعا بينهما وههنا حصل الجمع برضاع الثانية ولا يمكن القول بأنه لم يصح فحصلتا معا في نكاحه وهما أختان لا محالة
فصل : وإن أرضعتهما بنت الكبيرة فالحكم في الفسخ كما لو أرضعته الكبيرة نفسها لأن الكبيرة تصير جدة لهما ولكن الرجوع يكون على المرضعة المفسدة لنكاحهن

مسألة وإن كن الأصاغر ثلاثا فأرضعتهن منفردات
مسألة : قال : وإن كن الأصاغر ثلاثا فأرضعتهن منفردات حرمت الكبيرة وانفسخ نكاح المرضعتين أولا وثبت نكاح آخرهن رضاعا فإن ارضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معا حرمت الكبيرة وانفسخ نكاح الأصاغر وتزوج من شاء من الأصاغر وإن كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد
إنما حرمت الكبيرة لأنها صارت من أمهات النساء وانفسخ نكاح المرضعتين أولا لأنهما صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الأخيرة لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الصغيرتين اللتين قبلها فلم يصادف إخوتها جمعا في النكاح وإن أرضعت إحداهن منفردة وأثنتين بعد ذلك معا بأن تلقم كل واحدة منهما ثديا فيمتصان معا أو تحلب من لبنها في إناء فتسقيهما انفسخ نكاح الجميع لأنهن صرن أخوات في نكاحه وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأبيد فإنهن ربائب لم يدخل بأمهن وإن دخل بالكبيرة حرم الكل على الأبد لأنهن ربائب مدخول بأمهن هذا على الرواية الأولى وعلى الأخرى لما ارضعت الأولى انفسخ نكاحها ونكاح الكبيرة لأنها صارت أمها واجتمعتا في نكاحه ثم ارتضعت الثانية فلم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة بالرضاع في النكاح فلما أرضعت الثالثة صارتا أختين فانفسخ نكاحهما

فصل وإن أرضعتهن بنت الكبيرة
فصل : فإن أرضعتهن بنت الكبيرة فهو كما لو أرضعتهن أمها ولو كان لها ثلاث بنات فأرضعت كل واحدة منهن زوجة من الأصاغر حرمت الكبيرة بإرضاع أولاهن ويرجع على مرضعتها بما لزمه من مهرها لأنها أفسدت نكاحها ولا ينفسخ نكاح الأصاغر لأنهن لم يصرن أخوات وإنما هن بنات خالات وعلى الرواية الأخرى ينفسخ نكاح المرضعة الأولى لاجتماعها مع جدتها في النكاح ويثبت نكاح الأخيرتين ويرجع بما لزمه من مهر التي فسد نكاحها على التي أرضعتها وإن كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد ورجع على كل واحدة بما لزمه من مهر التي أرضعتها وإن قلنا إنه يرجع بمهر الكبيرة رجع به على المرضعة الأولى لأنها التي أفسدت نكاحها

مسألة وفصل قال وإن شهدت امرأة واحدة على الرضاع أو المرضعة على نفسها
مسألة : قال : وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إذا كانت مرضية وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إن كانت مرضية استحلفت فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنه
وجملة ذلك أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية وبهذا قال طاوس و الزهري و الأوزاعي و ابن أبي ذئب و سعيد بن عبد العزيز وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل إلا شهادة امرأتين وهو قول الحكم لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى وعن أحمد رواي ثالثة أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة وتستحلف مع شهادتها وهو قول ابن عباس و إسحاق لأن ابن عباس قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله فقال إن كان مرضية استحلفت وفارق امرأته وقال : إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها يعني يصيبها فيهما برص عقوبة على كذبها وهذا لا يقتضيه قياس ولا يهتدى إليه رأي فالظاهر أنه لا يقوله إلا توقيفا وقال عطاء و قتادة و الشافعي : لا يقبل من النساء أقل من أربع لأن كل امرأتين كرجل وقال أصحاب الرأي : لا يقبل فيه إلا رجلان أو رجل وامرأتان وروى ذلك عن عمر لقول الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }
[ ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال : تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : كيف وقد زعمت ذلك ؟ ] متفق عليه وفي لفظ رواه النسائي قال : [ فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة قال : كيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ؟ خل سبيلها ؟ ] وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة
وقال الزهري : فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع وقال الأوزاعي فرق عثمان بين أربعة نسائهم بشهادة امرأة في الرضاع وقال الشعبي : كانت القضاة تفرق بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ولأن هذا شهادة على عورة فقبل فيها شهادة النساء المنفردات كالولادة وعلى الشافعي بأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فقبل فيه شهادة المرأة المنفردة كالخبر
فصل : ويقبل فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها لما ذكرنا [ من حديث عقبة من أن الأمة السوداء قالت : قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه و سلم شهادتها ] ولأنه فعل لا يحصل لها به نفع مقصود ولا تدفع عنها به ضررا فقبلت شهادتها به كفعل غيرها فإن قيل فإنها تستبيح الخلوة به والسفر معه وتصير محرما له قلنا : ليس هذا من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة ألا ترى أن رجلين لو شهدا أن فلانا طلق زوجته وأعتق أمته قبل شهادتهما وإن كان يحل لهما نكاحها بذلك ؟

فصل لا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مفسرة
فصل : ولا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مفسرة فلو قالت : أشهد أن هذا ابن هذه من الرضاع لا يقبل لأن الرضاع المحرم يختلف الناس فيه منهم من يحرم بالقليل ومنهم من يحرم بعد الحولين فلزم الشاهد تبيين كيفيته ليحكم الحاكم فيه باجتهاده فيحتاج الشاهد أن يشهد أن هذا ارتضع من ثدي هذه خمس رضعات متفرقات خلص اللبن فيهن إلى جوفه في الحولين فإن قيل : خلوص اللبن إلى جوفه لا طريق له إلى مشاهدته فكيف تجوز الشهادة ؟ قلنا إذا علم أن هذه المرأة ذات لبن ورأى الصبي قد التقم ثديها وحرك فمه في الامتصاص وحلقه في الاجتراع حصل ظن يقرب إلى اليقين أن اللبن قد وصل إلى جوفه وما يتعذر الوقوف عليه بالمشاهدة اكتفي فيه بالظاهر كالشهادة بالملك وثبوت الدين في الذمة والشهادة على النسب بالاستفاضة
ولو قال الشاهد : أدخل رأسه تحت ثيابها والتقم ثديها لا يقبل لأنه قد يدخل رأسه ولا يأخذ الثدي وقد يأخذ الثدي ولا يمص فلا بد من ذكر ما يدل عليه وإن قال : أشهد أن هذه أرضعت هذا فالظاهر أنه يكتفى في ثبوت أصل الرضاع لأن المرأة التي قالت : قد أرضعتكما اكتفي بقولها

مسألة وفصلان اقرار الزوج بما يتضمن تحريم زوجته عليه قبل الدخول
مسألة : قال : وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول : هي أختي من الرضاعة انفسخ النكاح فإن صدقته المرأة فلا مهر لها وإن كذبته فلها نصف المهر
وجملته أن الزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاعة انفسخ نكاحه ويفرق بينهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا قال وهمت أو أخطأت قبل قوله لأن قوله ذلك يتضمن أنه لم يكن بينهما نكاح ولو جحد النكاح ثم أقر به قبل كذلك ههنا
ولنا أنه أقر بما يتضمن تحريمها عليه فلم يقبل رجوعه عنه كما لو أقر بالطلاق ثم رجع أو أقر أن أمته أخته من النسب وما قاسوا عليه غير مسلم وهذا الكلام في الحكم فأما فيما بينه وبين ربه فينبني ذلك على علمه بصدقه فإن علم أن الأمر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما وإن علم كذب نفسه فالنكاح باق بحاله وقوله كذب لا يحرمها عليه لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول وإن شك في ذلك لم نزل عن اليقين بالشك وقيل في حلها له إذا علم كذب نفسه روايتان والصحيح ما قلناه لأن قوله ذلك إذا كان كذبا لم يثبت التحريم كما لو قال لها وهي أكبر منه : هي ابنتي من الرضاعة إذا ثبت هذا فإنه إن كان قبل الدخول وصدقته المرأة فلا شيء لها لأنهما اتفقا على أن النكاح فاسد من أصله لا يستحق فيه مهر فأشبه ما لو ثبت ذلك ببينة وإن أكذبته فالقول قولها لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها فلزمه إقراره فيما هو حق له وهو تحريمها عليه وفسخ نكاحه ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر
فصل : فإن قال : هي عمتي أو خالتي أو ابنة أخي أو أختي أو أمي من الرضاع وأمكن صدقه فالحكم فيه كما لو قال هي أختي وإن لم يمكن صدقه مثل أن يقول لأصغر منه أو لمثله هي أمي أو لأكبر منه أو لمثله هذه ابنتي لم تحرم عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد : تحرم عليه لأنه إقرار بما يحرمها عليه فوجب أن يقبل كما لو أمكن
ولنا أنه أقر بما تحقق كذبه فيه فأشبه ما لو قال أرضعتني وإياها حواء أو كما لو قال هذه حواء وما ذكروه منتقض بهذه الصور ويفارق إذا أمكن فإنه لا يتحقق كذبه والحكم في الإقرار بقرابة من النسب تحرمها عليه كالحكم في الإقرار بالرضاع لأنه في معناه
فصل : إذا ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل شهادتهما لأن شهادة الوالدة لولدها والوالد لولده غير مقبولة وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت وعنه لا يقبل بناء على شهادة الوالد على ولده والولد على والده وفي ذلك روايتان : وإن ادعت ذلك المرأة وأنكره الزوج فشهدت لها أمها أو أبنتها لم تقبل وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته فعلى روايتين :

مسألة اقرار المرأة أن زوجها أخوها من الرضاع
مسألة : قال : وإن كانت المرأة هي التي قالت هو أخي من الرضاعة فأكذبها ولم تأت بالبينة على ما وصفت فهي زوجته في الحكم
وجملته أن المرأة إذا أقرت أن زوجها أخوها من الرضاعة فأكذبها لم يقبل قولها في فسخ النكاح لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه فإن كانت قد قبضته لم يكن للزوج أخذه منها لأنه يقر بأنه حق لها وإن كان بعد الدخول فأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه ومطاوعة له في الوطء فلا مهر لها أيضا لإقرارها بأنها زانية مطاوعة وإن أنكرت شيئا من ذلك فلها المهر لأنه وطء بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها عليه غير مقبول فأما فيما بينها وبين الله تعالى فإن علمت صحة ما اقرت به لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها بما أمكنها لأن وطأة لها زنا فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما قلنا في التي عملت أن زوجها طلقها ثلاثا وجحدها ذلك وينبغي أن يكون الواجب لها من المهر بعد الدخول أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل فلا يقبل قولها في وجوب زائد عليه وإن كان الأقل مهر المثل لم تستحق أكثر منه لاعترافها بأن استحقاقها له بوطئها لا بالعقد فلا تستحق أكثر منه وإن كان إقرارها بأخوته قبل النكاح لم يجز لها نكاحه ولا يقبل رجوعها عن إقرارها في ظاهر الحكم لأن إقرارها لم يصادف زوجية عليها يبطلها فقبل إقرارها على نفسها بتحريمه عليها وكذلك لو أقر الرجل أن هذه أخته الرضاع أو محرمة عليه برضاع أو غيره وأمكن صدقه لم يحل له تزوجها فيما بعد ذلك في ظاهر الحكم وأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني على علمه بحقيقة الحال على ما ذكرناه

فصل ادعاء أحد الزوجين على الآخر أنه أخو صاحبه
فصل : وإن ادعى أحد الزوجين على الآخر أنه أقر أنه أخو صاحبه من الرضاع فأنكر لم يقبل في ذلك شهادة النساء المنفردات لأنها شهادة على الإقرار مما يطلع عليه الرجال فلم يحتج فيه إلى شهادة النساء المنفردات فلم يقبل ذلك بخلاف الرضاع نفسه

فصل كراهة الارتضاع بلبن الفجور والمشركات
فصل : كره أبو عبد الله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات وقال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما : اللبن يشتبه فلا تستق من يهوديه ولا نصرانية ولا زانية ولا يقبل أهل الذمة المسلمة ولا يرى شعورهن ولأن لبن الفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور ويجعلها أما لولده فيعتبر بها ويتضرر طبعا وتعيرا الإرتضاع من المشتركة يجعلها أما لها حرمة الأم مع شركها ربما مال إليها في محبة دينها ويكره الإرتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق فإنه يقال : إن الرضاع بغير الطباع والله تعالى أعلم

كتاب النفقات نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع
نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعال : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } ومعنى قدر عليه أي ضيق عليه ومنه قوله سبحانه : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وقال الله تعالى : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم }
وأما السنة فما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس فقال : [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] رواه مسلم و أبو داود ورواه الترمذي بإسناده عن عمرو بن الأحوص قال : [ ألا أن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ] وقال : هذا حديث حسن صحيح [ وجاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال : خذي ما يكفيك ووولدك بالمعروف ] متفق عليه وفيه دلالة بالمعروف وإن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده

مسألة و فصل كيفية تقدير نفقة الزوجة
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله تعالى : وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غناء بها عنه وكسوتها
وجملة الأمر أن المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج على الوجه الواجب عليها فلها عليه جميع حاجتها من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن قال أصحابنا : ونفقتها معتبرة بحال الزوجين جميعا فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين وإن كانا معسرين فعليه نفقة المعسرين وإن كانا متوسطين فلها عليه نفقة المتوسطين وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان الموسر وقال أبو حنيفة و مالك : يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها لقول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } والمرعوف الكفاية ولأنه سوى بين النفقة والكسوة والكسوة على قدر حالها فكذلك النفقة [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فاعتبر كفايتها دون حال زوجها ولأن نفقتها واجبة لدفع حاجتها فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها دون حال من وجبت عليه كنفقة المماليك ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر فكان معتبرا بها كمهرها وكسوتها وقال الشافعي : الاعتبار بحال الزوج وحده لقول الله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } ولنا أن فيما ذكرناه جمعا بين الدليلين وعملا بكلا النصين ورعاية لكلا الجانبين فيكون أولى
فصل : والنفقة مقدرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال القاضي : هي مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات وإنما يختلفان في صفته وجوته لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وفيما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة الواجبة وقال الشافعي : نفقة المقتر مد بمد النبي صلى الله عليه و سلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال سبحانه : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وعلى الموسر مدان لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في كفارة الأذى وعلى المتوسط مد ونصف ونصف نفقة الموسر ونصف نفقة الفقير
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص ولأن الله تعالى قال : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف وإيجاب قدر الكفاية وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق بالمعروف فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب والسنة واعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ولا هي مقدرة بالكفارة وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر ولهذا لا يجب فيها الأدم

فصول ما تشمله نفقة الزوجة
فصل : ولا يجب فيها الحب وقال الشافعي : الواجب فيها الحب اعتبارا بالإطعام في الكفارة حتى لو دفع إليها دقيقا أو سويقا أو خبزا لم يلزمها قبوله كما لا يلزم ذلك المسكين في الكفارة قال بعضهم : يجيء على قول أصحابنا أنه لا يجوز وإن تراضيا لأنه بيع حنطة بجنسها متفاضلا
ولنا قول ابن عباس في قولع تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال الخبز والزيت وعن ابن عمر الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمونهن الخبز واللحم ففسر إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم ولأن الشرع ورد بالإنفاق مطلقا من غير تقييد ولا تقدير فوجب أن يرد إلى العرف كما في القبض والإحراز وأهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الإنفاق على أهليهم الخبز والأدم دون الحب والنبي صلى الله عليه و سلم وصحابته إنما كانون ينفقون ذلك دون ما ذكروه فكان ذلك هو الوجوب ولأنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية فكان الواجب الخبز كنفقة العبد ولأن الحب تحتاج فيه إلى طحنة وخبزه فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقته وفارق الإطعام في الكفارة لأنها لا تتقدر بالكفاية ولا يجب فيها الأدم فعلى هذا لو طلبت مكان الخبز دارهم أو حبا أو دقيقا أو غير ذلك لم يلزمه بذله ولو عرض عليها بدل الواجب لها لم يلزمها قبوله لأنها معاوضة فلا يجبر واحد منهما على قبوله كالبيع وإن تراضيا على ذلك جاز لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه كالطعام في القرض ويفارق الطعام في الكفارة لأنه حق الله تعالى وليس هو لآدمي معين فيرضى بالعوص عنه وإن أعطاها مكان الخبز حبا أو دقيقيا جاز إذا تراضيا عليه لأن هذا ليس بمعاوصة حقيقة فإن الشارع لم يعتبر الوابج بأكثر من الكفاية فبأي شيء حصلت الكفاية كان ذلك هو الواجب وإنما صرنا إلى إيجاب الخبز عند الاختلاف لترحجه بكونه القوت المعتاد
فصل : ويرجع في تقدير الواجب إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه إن لم يتراضيا على شيء فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والأدم فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالهما وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها من أدنى خبز البلد وللمتوسطة تحت المتوسط من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت به العادة في حق أمثاله وكذلك الأدم للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع الأدم من اللحم والأرز واللبن وما يطبخ به اللحم والدهن على اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشيرج في آخر وللمعسرة تحت المعسر من الأدم أدونه كالباقلاء والخل والبقل والكامخ وما جرت به عادة أمثالهم وما يحتاج إليه من الدهن وللمتوسطة تحت المتوسط أوسط ذلك من الخبز والأدم كل على حسب عادته قال الشافعي : الواجب من جنس قوت البلد لا يختلف باليسار والإعسار سوى المقدار والأدم هو الدهن خاصة لأنه أصلح للأبدان وأجود في المؤنة لأنه لا يحتاج إلى طبخ وكلفة ويعتبر الأدم بغالب عادة أهل البلد كالزيت بالشام والشيرج بالعراق والسمن بخراسان ويعتبر قدر الأدم بالقوت فإذا قيل إن الرطل تكفيه الأوقية من الدهن فرض ذلك وفي كل يوم جمعة رطل لحم فإن كان في موضع يرخص اللحم زادها على الرطل شيئا وذكر القاضي في الأدم مثل هذا وهذا مخالف لقول الله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] ومتى أنفق الموسر نفقة المعسر فما أنفق من سعته ولا رزقها بالمعروف وقد فرق الله عز و جل بين الموسر والمعسر في الإنفاق وفي هذا جمع بين ما فرق الله تعالى وتقدير الأدم بما ذكروه تحكم لا دليل عليه وخلاف العادة والعرف بين الناس في إنفاقهم فلا يعرج على مثل هذا وقد قال ابن عمر : من أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم والصحيح ما ذكرناه من رد النفقة المطلقة في الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم في حق الموسر والمتوسط كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك ولأن النفقة من مؤنة المرأة على الزوج فاختلف جنسها بالإيسار والإعسار كالكسوة
فصل : وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر لأنهما ليس باحسن حالا منه ومن نصفه حر إن كان موسرا فحكمه حكم المتوسط لأنه متوسط نصفه موسر ونصفه معسر
فصل : ويجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها والسدر أو نحوه مما تغسل به رأسها وما يعود بنظافتها لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها فأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج منها لم يلزمه لأنه يراد للزينة وإن طلبه منها فهو عليه وأما الطيب فما يراد منه لقطع السهوكة كدواء العرق لزمه لأنه يراد للتطيب وما يراد منه للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجب عليه ما يدعوه إليه ولا يجب عليه شراء الأدوية ولا أجرة الطبيب لأنه يراد إصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ أصولها وكذلك أجرة الحجام والفاصد
فصل : وتجب عليه كسوتها بإجماع أهل العلم لما ذكرنا من النصوص ولأنها لابد منها الدوام فلزمته كالنفقة وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع كما قلنا في النفقة ووافق أصحاب الشافعي على هذا ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها على قدر كفايتها على قدر يسرهما وعسرهما وما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة فيجتهد الحاكم في ذلك عند نزول الأمر كنحو اجتهاده في المتعة للمطلقة وكما قلنا في النفقة فيفرض للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والخبز والإبريسم وللمعسرة تحت المعسر غليظ القطن والكتان وللمتوسطة تحت المتوسط من ذلك فأقل ما يجب من ذلك قميص وسراويل ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد من عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غني عنه دون ما للتجمل والزينة والأصل في هذا قول الله عز و جل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] والكسوة بالمعروف هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه [ وقول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
فصل : وعليه لها ما تحتاج إليه للنوم من الفراش واللحاف والوسادة كل على حسب عادته فإن كانت ممن عادته النوم في الأكسية والبساط فعليه لها لنومها ما جرت عادتهم به ولجلوسها بالنهار البساط والزلى والحصير الرفيع أو الخشن الموسر على حسب إيساره والمعسر على قدر إعساره على حسب العوائد
فصل : ويجب لها مسكن بدليل قوله سبحانه وتعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى : { من وجدكم } ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة
فصل : فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } ومن العشرة أن يقيم لها خادما ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها ويحصل ذلك بواحد وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي إلا أن مالكا قال : إن كان لا يصلح المرأة إلا أكثر من خادم فعليه أن ينفق على أكثر من واحد ونحوه قال أبو ثور إذا احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين
ولنا أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها والزيادة تراد لحفظ ملكها أو للتجمل وليس عليه ذلك إذا ثبت هذا فلا يكون لخادم إلا ممن يحل له النظر إليها إما امرأة وإما ذو رحم محرم لأن الخادم يلزم المخدوم في غالب أحواله فلا يسلم من النظر وهل يجوز أن يكون من أهل الكتاب ؟ فيه وجهان : الصحيح منهما جوازه لأن استخدامهم مباح وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحيح إباحة النظر لهم : والثاني : لا يجوز لأن في إباحة نظرهم اختلافا وتعافهم النفس ولا يتنظفون من النجاسة ولا يلزم الزوج أن يملكها خادما لأن المقصود الخدمة فإذا حصلت من غير تمليك جاز كما أنه إذا أسكنها دارا بأجرة جاز ولا يلزمه تمليكها مسكنا فإن ملكها الخادم فقد زاد خيرا وإن أخدمها من يلازم خدمتها من غير تمليك جاز سواء كان له أو استأجره حرا كان أو عبدا وإن كان الخادم لها فرضيت بخدمته لها ونفقته على الزوج جاز وإن طلبت منه أجرة خادمها فوافقها جاز وإن قال لا أعطيك أجر هذا ولكن أنا آتيك بخادم سواه فله ذلك إذا أتاها بمن يصلح وإن قالت أنا أخدم نفسي وآخذ أجبر الخادم لم يلزم الزوج قبول ذلك لأن الأجر عليه فتعيين الخادم إليه ولأن في إخدامها توفيرها على حقوقه وترفيهها ورفع قدرها وذلك يفوت بخدمتها لنفسها وإن قال الزوج : أنا أخدمك بنفسي لم يلزمها لأنها تحتشمه وفيه غضاضة عليها لكون زوجها خادما وفيه وجه آخر أنه يلزمها الرضا به لأن الكفاية تحصل به
فصل : وعلى الزوج نفقة الخادم ومؤنته من الكسوة والنفقة مثل ما لامرأة المعسر إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن لرأسها والسدر لأن ذلك يراد للزينة والتنظيف ولا يراد ذلك من الخادم لكن إن احتاجت إلى خف لتخرج إلى شراء الحوائج لزمه ذلك

مسألة قال فإن منعها ما يجب لها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدرا حاجتها
مسألة : قال : فإن منعها ما يجب لها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف [ كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لهند حين قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ؟ فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
وجملته أن الزوج إذا لم يدفع إلى امرأته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة أو دفع إليها أقل من كفايتها فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه بإذنه وبغير إذنه بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وهذا إذن لها في الأخذ من ماله بغير إذنه ورد لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها وهو متناول لأخذ تمام الكفاية فإن ظاهر الحديث دل على أنه قد كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتممها لها فرخص النبي صلى الله عليه و سلم لها في أخذ تمام الكفاية بغير علمه لأنه موضع حاجة ] فإن النفقة لا غنى عنها ولا قوام إلا بها فإذا لم يدفعها الزوج ولن تأخذها افضى إلى ضياعها وهلاكها فرخص لها في أخذ قدر نفقتها دفعا لحاجتها ولأن النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا فتشق المرافعة إلى الحاكم والمطالبة بها في كل الأوقات فلذلك رخص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه وذكر القاضي بينهما وبين الدين فرقا آخر وهو أن نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض أهل العلم ما لم يكن فرضها لها لو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوط والإضرار بها بخلاف الدين فإن لا يسقط عند أحد بترك المطالبة فلا يؤدي ترك الأخذ إلى الإسقاط

فصل وقت وجوب نفقة الزوجة
فصل : يجب عليه دفع نفقتها إليها في صدر نهار كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت الحاجة فإن اتفقا على تأخيرها لأن الحق لها فإذا رضيت بتأخيره جاز كالدين وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر أو أقل من ذلك أو أكثر أو تأخيره جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه كالدين وليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه فإن سلم إليها نفقة يوم ثم ماتت فيه لم يرجع عليها بها لأنه دفع إليها ما وجب عليه دفعه إليها وإن أبانها بعد وجوب الدفع إليها لم تسقط نفقتها فيه ولها مطالبته بها لأنها قد وجبت فلم تسقط بالطلاق كالدين وإن عجل لها نفقة شهر أو عام ثم طلقها أو ماتت قبل انقضائه أو بانت بفسخ أو إسلام أحدهما أو ردته فله أن يسترجع نفقة سائر الشهر وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا يسترجعها لأنها صلة فإذا قبضتها لم يكن له الرجوع فيها كصدقة التطوع
ولنا أنه سلم إليها النفقة سلفا عما يجب في الثاني فإذا وجد ما يمنع الوجوب ثبت الرجوع كما لو أسلفها إياها فنشزت أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول وقولهم إنها صلة قلنا بل هي عوض عن التمكين وقد فات التمكين وذكر القاضي أن زوج الوثنية والمجوسية إذا دفع إليها نفقة سنتين ثم بانت بإسلامه فإن لم يكن أعلمها أنها نفقة عجلها لها لم يرجع عليها لأن الظاهر أنه تطوع بها وإن أعلمها ذلك انبنى على معجل الزكاة إذا أعلم الفقير أنها زكاة معجلة ثم تلف المال وفي الرجوع بها وجهان كذلك ههنا وكذلك ينبغي أن يكون في سائر الصور مثل هذا لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه من غير إعلام الآخر بتعجيله فلم يرجع به كمعجل الزكاة ولو سلم إليها نفقة اليوم فسرقت أو تلفت لم يلزمه عوضها لأنه بريء من الواجب بدفعه فأشبه ما لو تلفت الزكاة بعد قبض الساعي لها أو الدين بعد أخذ صاحبه له

فصول تصرف الزوجة في النفقة والذمية كالمسلمة في النفقة
فصل : وإذا دفع إليها نفقتها فلها أن تتصرف فيها بما أحبت من الصدقة والهبة والمعاوضة ما لم يعد ذلك عليها بضرر في بدنها وضعف في جسمها لأنه حق لها فلها التصرف فيه بما شاءت كالمهر وليس لها التصرف فيها على وجه يضر بها لأن فيه تفويت حقه منها ونقصا في استمتاعه بها
فصل : وعليه دفع الكسوة إليها في كل عام مرة لأنها العادة ويكون الدفع إليها في أوله لأنه أول وقت الوجوب فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه أن يدفع إليها كسوة أخرى لأن ذلك وقت الحاجة إليها وإن بليت قبل ذلك لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها لم يلزمه إبدالها لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف وإن مضى الزمان الذي تبلى في مثله بالاستعمال المعتاد ولم تبل فهل يلزمه بدلها ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يلزمه بدلها لأنها غير محتاجة إلى الكسوة والثاني : يلزمه لأن الاعتبار بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة بدليل أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها ولو أهدي إليها كسوة لم تسقط كسوتها وإن أهدي إليها طعام فأكلته وبقي قوتها إلى الغد لم يسقط قوتها فيه وإن كساها ثم طلقها قبل أن تبلى فهل له أن يسترجعها ؟ فيه وجهان : أحدهما : له ذلك لأنه دفعها للزمان المستقبل فإذا طلقها قبل مضيه كان له استرجاعها كما لو دفع إليها نفقة مدة ثم طلقها قبل انقضائها والثاني : ليس له الاسترجاع لأنه دفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه فلم يكن له الرجوع فيها كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها بخلاف النفقة المستقبلة
فصل : وإذا دفع إليها كسوتها فأرادت بيعها أو التصدق بها وكان ذلك يضر بها أو يخل بتجملها بها أو بسترها لم تملك ذلك كما لو أرادت الصدقة بقوتها على وجه يضر بها وإن لم يكن في ذلك ضرر احتمل الجواز لأنها تملكها فأشبهت النفقة واحتمل المنع لأن له استرجاعها لو طلقها في أحد الوجهين بخلاف النفقة
فصل : والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة في قول عامة أهل العلم وبه يقول مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لعموم النصوص والمعنى

مسألة قال فإذا منعها ولم تجد ما تأخذه
مسألة : قال : فإذا منعها ولم تجد ما تأخذه واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما
وجملته أن الرجل إذا منع امرأته النفقة لعسرته وعدم ما ينفقه فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه وبين فراقه وروي ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن وعمر بن عبد العزيز و حماد و مالك و يحيى القطان و عبد الرحمن بن مهدي و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وذهب عطاء و الزهري و ابن شبرمة و أبو حنيفة وصاحباه إلى أنها لا تملك فراقه بذلك ولكن يرفع يده عنها لتكتسب لأنه حق لها عليه فلا يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين وقال العنبري : يحبس إلى أن ينفق
ولنا قول الله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف فيتعين التسريح وروى سعيد عن سفيان عن أبن أبي الزناد قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال نعم قال سنة ؟ قال سنة وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن المنذر ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنه إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطء والضرر فيه أقل لأنه إنما هو فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه فلأن يثبت بالعجز عن النفقة التي لا يقوم البدن إلا بها أولى إذا ثبت هذا فإنه متى ثبت الإعسار بالنفقة على الإطلاق فللمرأة المطالبة بالفسخ من غير إنظار وهذا أحد قولي الشافعي وقال حماد بن أبي سليمان : يؤجل سنة قياسا على العنين وقال عمر بن عبد العزيز : اضربوا له شهرا أو شهرين وقال مالك : الشهر ونحوه وقال الشافعي قي القول الآخر : يؤجل ثلاثا لأنه قريب
ولنا ظاهر حديث عمر ولأنه معنى يثبت الفسخ ولم يرد الشرع بالإنظار فيه فوجب أن يثبت الفسخ في الحال كالعيب ولأن سبب الفسخ الإعسار وقد وجد فلا يلزم التأخير

فصلان كيفية تحقق عشرة الزوج
فصل : وإن لم يجد النفقة إلا يوما بيوم فليس ذلك إعسارا يثبت به الفسخ لأن ذلك هو الواجب عليه وقد قدر عليه وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعيشها لم يكن لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها وما يقوم به بدنها وإن كان صانعا يعمل في الأسبوع بما يبيعه في يوم بقدر كفايتها في الإسبوع كله لم يثبت الفسخ لأن هذا يحصل الكفاية في جميع زمانه وإن تعذر عليه الكسب في بعض زمانه أو تعذر البيع لم يثبت الفسخ لأنه يمكن الاقتراض إلى زوال العارض وحصول الاكتساب وإن عجز عن الاقتراض أياما يسيرة لم يثبت الفسخ لأن ذلك يزول عن قريب ولا يكاد يسلم منه كثير من الناس وإن مرض مرضا يرجى زواله في أيام يسيرة لم يفسخ لما ذكرناه وإن كان ذلك يطول فلها الفسخ لأن الضرر الغالب يلحقها ولا يمكنها الصبر وكذلك إن كان لا يجد من النفقة إلا يوما دون يوم فلها الفسخ لأنها لا يمكنها الصبر على هذا ويكون بمثابة من لا يجد إلا بعض القوت وإن أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دونها وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر فلا خيار لها لأن تلك الزيادة تسقط بإعساره ويمكن الصبر عنها ويقوم البدن بما دونها وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها خيار لما ذكرنا وكذلك إن أعسر بالأدم وإن أعسر بالكسوة فلها الفسخ لأن الكسوة لا بد منها ولا يمكن الصبر عنها ولا يقوم البدن بدونها وإن أعسر بأجرة مسكن ففيه وجهان : أحدهما : لها الخيار لأنه مما لا بد منه فهو كالنفقة والكسوة والثاني : لا خيار لها لأن البنية تقوم بدونه وهذا الوجه هو الذي ذكره القاضي وإن أعسر بالنفقة الماضية لم يكن لها الفسخ لأنها دين يقوم البدن بدونها فأشبهت سائر الديون
الحال الثاني : أن يمتنع من الإنفاق مع يساره فإن قدرت له على مال أخذت منه قدر حاجتها ولا خيار لها ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر هندا بالأخذ ولم يجعل لها الفسخ ] وإن لم رافعته إلى الحاكم فيأمره بالإنفاق ويجبره عليه فإن أبى حبسه فإن صبر على الحبس أخذ الحاكم النفقة من ماله فإن لم يجد عروضا أو عقارا باعها في ذلك وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد و أبو ثور وقال أبوحنيفة : النفقة في ماله من الدنانير والدارهم ولا يبيع عوضا إلا بتسليم لأن بيع مال الإنسان لا ينفذ إلا بإذنه أو إذن وليه ولا ولاية على الرشيد
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك ولم يفرق ولأن ذلك مال له فتؤخذ منه النفقة كالدراهم والدنانير وللحاكم ولاية عليه إذا امتنع بدليل ولايته على دراهمه ودنانيره ] وإن تعذرت النفقة في حال غيبته وله وكيل فحكم وكيله حكمه في المطالبة والأخذ من المال عند امتناعه وإن لم يكن له وكيل ولم تقدر المرأة على الأخذ أخذ لها الحاكم من ماله يجوز بيع عقاره وعروضه في ذلك إذا لم تجد ما تنفق سواه وينفق على المرأة يوما بيوم وبهذا قال الشافعي ويحيى بن آدم وقال أصحاب الرأي : يفرض لها في كل شهر
ولنا أن هذا تعجيل للنفقة قبل وجوبها فلم يجز كما لو عجل لها نفقة زيادة عن شهر
فصل : وإن غيب ماله وصبر على الحبس ولم يقدر الحاكم له على مال يأخذه أو لم يقدر على أخذ النفقة من مال الغائب فلها الخيار في الفسخ في ظاهر قول الخرقي واختيار أبي الخطاب واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الفسخ في المعسر لعيب الإعسار ولم يوجد ههنا ولأن الموسر في مظنة إمكان الأخذ من ماله وإذا امتنع في يوم فربما لا يمتنع في الغد بخلاف المعسر
ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع من الإنفاق ولأن الإنفاق عليها من ماله يتعذر فكان لها الخيار كحال الإعسار بل هذا أولى بالفسخ فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور فعلى غيره أولى ولأن في الصبر ضررا أمكن ازالته بالفسخ فوجبت إزالته ولأنه نوع تعذر يجوز الفسخ فلم يفترق الحال بين الموسر والمعسر كما إذا أدى ثمن المبيع فإنه لا فرق في جواز الفسخ بين أن يكون المشتري معسرا وبين أن يهرب قبل أداء الثمن وعيب الإعسار إنما جوز الفسخ لتعذر الإنفاق بدليل أنه لو اقترض ما ينفق عليها أو تبرع له إنسان بدفع ما ينفقه لم تملك الفسخ وقولهم إنه يحتمل أن ينفق فيما بعد هذا قلنا : وكذلك المعسر يحتمل أن يغنيه الله وإن يقترض أو يعطى ما ينفقه فاستويا

فصل المقاصة بين النفقة الزوجية والدين
فصل : ومن وجبت عليه نفقة امرأته وكان له عليها دين فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها فإن كانت موسرة فله ذلك لأن من عليه حق فله أن يقضيه من أي أمواله شاء وهذا من ماله وإن كانت معسرة لم يكن له ذلك لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته ن هذا لا يفضل عنها ولأن الله تعالى أمر بإنظار المعسر بقوله سبحانه : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } فيجب إنظارها بما عليها

فصل الفسخ لعدم النفقة إنما يكون بحكم حاكم
فصل : وكل موضع ثبت لها الفسخ لأجل النفقة لم يجز إلا بحكم الحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعنة ولا يجوز له التفريق إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه لحقها فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : هو تطليقة وهو أحق بها إن أيسر في عدتها لأنه تفريق لامتناعه من الواجب عليه لها فأشبه تفريقه بين المولى وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق
ولنا أنها فرقة لعجزه عن الواجب لها عليه أشبهت فرقة العنة فأما إن أجبره الحاكم على الطلاق فطلق أقل من ثلاث فله الرجعة عليها ما دامت في العدة فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها ولم يمكن الأخذ من ماله فطلبت المرأة الفسخ فللحاكم الفسخ لأن المقتضى له باق أشبه ما قبل الطلاق

فصلان رضا الزوجية بعدم الانفاق
فصل : وإن رضيت بالمقام معه مع عسرته أو ترك إنفاقه ثم بدا لها الفسخ أو تزوجت معسرا عالمة بحاله راضية بعسرته وترك إنفاقه أو شرك عليها أن لا ينفق عليها ثم عن لها الفسخ فلها ذلك وبهذا قال الشافعي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد ليس لها الفسخ ويبطل خيارها في الموضعين وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنينا عالمة بعنته أو قالت بعد العقد : قد رضيت به عنينا
ولنا أن وجوب النفقة يتجدد في كل يوم فيتجدد لها الفسخ ولا يصح إسقاط حقها فيما لم يجب لها كإسقاط شفعتها قبل البيع ولذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط ولو أسقطتها أو أسقطت المهر قبل النكاح لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به وإن أعسر بالمهر وقلنا لها الفسخ إعساره به فرضيت بالمقام لم يكن لها الفسخ لأن وجوبه لم يتجدد بخلاف النفقة ولو تزوجته عالمة بغعسار بالمهر راضية بذلك فينبغي أن لا تملك الفسخ بإعساره به لأنها رضيت بذلك في وقت لو أسقطته فيه سقط
فصل : إذا رضيت بالمقام مع ذلك لم يلزمها التمكين من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن في حبسها بغير نفقة إضرارا بها ولو كانت موسرة لم يكن له حبسها لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لا بد لها منه ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب عليها فإذا انتفى الأمران لم يملك حبسها

فصل ترك الانفاق الواجب مدة لا يسقط
فصل : ومن ترك الإنفاق الواجب لامرأته مدة لم يسقط بذلك وكان دينا في ذمته سواء تركه لعذر أو غير عذر في أظهر الروايتين وهذا قول الحسن و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر والرواية الأخرى تسقط نفقتها ما لم يكن الحاكم قد فرضها لها وهذا مذهب أبي حنيفة لأنها نفقة تجب يوما فيوما فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب لأن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها فتسقط كنفقة الأقارب
ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنها حق يجب مع اليسار والإعسار فلم يسقط بمضي الزمان كأجرة العقار والديون قال ابن المنذر : هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها ولأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة وفارق نفقة الأقارب فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب له وجبت لتزجية الحال فإذا مضى زمنها استغني عنها فأشبه لو استغنى عنها بيساره وهذه بخلاف ذلك إذا ثبت هذا فإنه إن ترك الإنفاق عليها مع يساره فعليه النفقة بكمالها وإن تركها لإعساره لم يلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزائد سقط بإعساره

فصل ضمان النفقة
فصل : ويصح ضمان النفقة ما وجب منها وما يجب في المستقبل إذا قلنا إنها تثبت في الذمة وقال الشافعي : يصح ضمان ما وجب وفي ضمان المستقبل وجهان بناء على أن النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين ومبنى الخلاف على ضما ما لم يجب إذا كان مآله إلى الوجب فعندنا يصح وعندهم لا يصح وقد ذكرنا ذلك في باب الضمان

فصل وإن أعسر بنفقة الخادم الخ
فصل : وإن أعسر بنفقة الخادم أو الأدم أو المسكن ثبت ذلك في ذمته وبهذا قال الشافعي وقال القاضي : لا يثبت لأنه من الزوائد فلم يثبت في ذمته كالزائد عن الواجب عليه
ولنا أنها نفقة تجب على سبيل العوض فتثبت في الذمة كالنفقة الواجبة للمرأة قوتا وفارق الزائد عن نفقة النعسر فإنه يسقط بالإعسار

فصل إذا انفقت الزوجة المرأة على نفسها
فصل : وإذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب ثم بان أنه قد مات قبل إنفاقها حسب عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم وبهذا قال أبو العالية ومحمد بن سيرين و الشافعي و ابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم لأنها أنفقت ما لا تستحق وإن فضل لها شيء فهو لها وإن فضل عليها شيء وكان لها صداق أو دين على زوجها حسب منه وإن لم يكن لها شيء من ذلك كان الفضل دينا عليها والله أعلم

فصل حكم ما لو أعسر
فصل : وإن أعسر الزوج بالصداق ففيه ثلاثة أوجه أصحها : ليس لها الفسخ وهو اختيار ابن حامد والثاني : لها الفسخ وهو اختيار أبي بكر لأنه أعسر بالعوض فكان لها الرجوع في المعوض كما لو أعسر بثمن مبيعها والثالث : إن أعسر قبل الدخول فلها الفسخ كما لو أفلس المشتري والمبيع بحاله وإن كان بعد الدخول لم تملك الفسخ لأن المعقود عليه قد استوفي فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد تلف المبيع أو بعضه
ولنا أنه دين فلم يفسخ النكاح للإعسار به كالنفقة الماضية ولأن تأخيره ليس فيه ضرر مجحف فأشبه نفقة الخادم والنفقة الماضية ولأنه لا نص فيه ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع لأن الثمن كل مقصود البائع والعاجة تعجيله والصداق فضلة ونحلة ليس هو المقصوج في النكاح ولذلك لا يفسد النكاح بفساده ولا بترك ذكره والعادة تأخيره ولأن أكثر من يشتري بثمن حال يكون موسرا له وليس الأكثر أن من تزوج بمهر يكون موسرا به ولا يصح قياسه على النفقة لأن الضرورة لا تندفع إلا بها بخلاف الصداق فأشبه شيء به النفقة الماضية ولـ لشافعي نحو هذه الوجوه وإذا قلنا لها الفسخ للإعسار به فتزوجته عالمة بعسرته فلا خيار لها وجها واحدا لأنها رضيت به كذلك وكذلك إن علمت عسرته بعد العقد فرضيت بالمقام سقط حقها من الفسخ لأنها رضيت بإسقاط حقها بعد وجوبه فسقط كما لو رضيت بعيبه

فصل نفقة الأمة المزوجة
فصل : ونفقة الأمة المزوجة حق لها ولسيدها لأن كل واحد منهما ينتفع بها ولكل واحد منهما طلبها إن امتنع الزوج من أدائها ولا يملك واحد منهما إسقاطها لأن في سقوطها بإسقاط أحدهما ضررا بالآخر وإن أعسر الزوج بها فلها الفسخ لأنه عجز عن نفقتها فملكت الفسخ كالحرة وإن لم تفسخ فقال القاضي لسيدها الفسخ لأن عليه ضررا في عدمها لما يتعلق بفواتها من فوات ملكه وتلفه فإن أنفق عليها سيدها محتسبا بالرجوع فله الرجوع بها على الزوج رضيت بذلك أو كرهت لأن الدين خالص حقه لا حق لها فيه وإنما تعلق حقها بالنفقة الحاضرة لوجوب صرفها إليها وقوام بدنها بها بخلاف الماضية وقال أبو الخطاب وأصحاب الشافعي : ليس لسيدها الفسخ لعسرة زوجها بالنفقة لأنها حق لها فلم يملك سيدها الفسخ دونها كالفسخ للعيب فإن كانت معتوهة أنفق المولى وتكون النفقة دينا في ذمة الزوج وإن كانت عاقلة قال لها السيد : إن أردت النفقة فافسخي النكاح وإلا فلا نفقة لك عندي

فصلان الاختلاف بين الزوجين في نفقة المعتدة الحامل
فصل : وإن اختلف الزوجان في الإنفاق عليها أو في تقبيضها نفقتها فالقول قول المرأة لأنها منكرة والأصل معها وإن اختلفا في التمكين الموجب للنفقة أو في وقته فقالت كان ذلك من شهر فقال بل من يوم فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه وإن اختلفا في يساره فادعته المرأة أو الزوج ليفرض لها نفقة الموسرين أو قالت كنت موسرا وأنكر ذلك فإن عرف له مال فالقول قولها وإلا فالقول قوله وبهذا كله قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وإن اختلفا في فرض الحاكم للنفقة أو في وقتها فقال فرضها منذ شهر فقالت بل منذ عام فالقول قوله وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك : إن كان مقيما معها فالقول قوله وإن كان غائبا عنها فالقول قول المرأة من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم
ولنا أن قوله يوافق الأصل فقدم كما لو كان مقيما معها وكل من قلنا القول قوله فلخصمه عليه اليمين لأنها دعاو في المال فأشبهت دعوى الدين ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ولكن اليمين على المدعى عليه ] وإن دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة أو بعث به إليها فقالت : إنما فعلت ذلك تبرعا وهبة وقال : بل وفاء للواجب علي فالقول قوله لأنه أعلم بنيته أشبه ما لو قضى دينه واختلفت هو وغريمه في نيته وإن طلق امرأته وكانت حاملا فوضعت فقال : طلقتك حاملا فانقضت عدتك بوضع الحمل وانقطعت نفقتك ورجعتك وقالت : بل بعد الوضع فلي النفقة ولك الرجعة فالقول قولها لأن الأصل بقاء النفقة وعدم المسقط لها وعليها العدة ولا رجعة للزوج لإقراره بعدمها وإن رجع فصدقها فله الرجعة لأنها مقرة له بها وإن قال طلقتك بعد الوضع فلي الرجعة ولك النفقة وقالت : بل وأنا حامل فالقول قوله لأن الأصل بقاء الرجعة ولا نفقة لها ولا عدة عليها لأنها حق الله تعالى فالقول قولها فيها وإن عاد فصدقها سقطت رجعته ووجبت لها النفقة هذا في ظاهر الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني على ما يعلمه من حقيقة الأمر دون ما قاله
فصل : وإن طلق الرجل امرأته فادعت أنها حامل لتكون لها النفقة عليها ثلاثة أشهر ثم ترى القوابل بعد ذلك لأن الحمل يبين بعد ثلاثة أشهر إلا أن تظهر براءتها من الحمل بالحيض أو بغيره فتنقطع نفقتها كما تنقطع إذا قال القوابل : ليست حاملا ويرجع عليها بما أنفق لأنها أخذت منه ما لا تستحقه فرجع عليها كما لو ادعت عليه دينا وأخذته من ثم تبين كذبها
وعن أحمد رواية أخرى لا يرجع عليها لأنه أنفق عليها بحكم آثار النكاح فلم يرجع به كالنفقة في النكاح الفاسد إذا تبين فساده وإن علمت براءتها من الحمل بالحيض فكتمته فينبغي أن يرجع عليها قولا واحدا لأنها أخذت النفقة مع علمها ببراءتها كما لو أخذتها من ماله بغير علمه وإن ادعت الرجعية الحمل فأنفق عليها أكثر من مدة عدتها رجع عليها بالزيادة ويرجع في مدة العدة إليها لأنها أعلم بها فالقول قولها فيها مع يمينها فإن قال : قد ارتفع حيضي ولم أدر ما رفعه فعدتها سنة إن كانت حرة وإن قالت : قد انقضت بثلاثة قروء وذكرت آخرها فلها النفقة إلى ذلك ويرجع عليها بالزائد وإن قالت : لا أدري متى آخرها رجعنا إلى عادتها فحسبنا لها بها وإن قالت : عادتي تختلف فتطول وتقصر انقضت العدة بالأقصر لأنه اليقين وإن قالت : عادتي تختلف ولا أعلم رددناها إلى غالب عادات النساء في كل شهر قرء لأنا رددنا المتحيرة إلى ذلك في أحكامها فكذلك هذه وإن بان أنها حامل من غيره مثل أن تلده بعد أربع سنين فلا نفقة عليه لمدة حملها لأنه من غيره وإن كانت رجعية فلها النفقة في مدة عدتها فإن كانت انقضت قبل حملها فلها النفقة إلى انقضائها وإن حملت في أثناء عدتها فلها النفقة إلى الوطء الذي حملت ثم لا نفقة لها حتى تضع حملها ثم تكون لها النفقة في تمام عدتها وإن وطئها زوجها في العدة الرجعية حصلت الرجعة وإن قلنا لا تحصل فالنسب لا حق به وعليه النفقة لمدة حملها وإن وطئها بعد انقضاء عدتها أو وطىء البائن عالما بذلك وبتحريمه فهو زان لا يلحقه نسب الولد ولا نفقة عليه من أجله وإن جهل بينونتها أو انقضاء عدة الرجعية أو تحريم ذلك وهو ممن يجهله لحقه نسبه وفي وجوب النفقة عليه روايتان :

مسألة وفصل حكم نفقة الأقارب
مسألة : قال : ويجبر الرجل على نفقة والديه وولده الذكور والإناث إذا كانوا فقراء وكان له ما ينفق عليهم
الأصل في وجوب نفقة الوالدين والمولدين الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } أوجب أجر رضاع الولد على أبيه وقال سبحانه : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقال سبحانه : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما [ ومن السنة قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه
[ وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ] رواه أبو داود وأما الإجماع فحكى ابن المنذر قال : أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم ولأن ولد الإنسان بعضه وهو بعض والده فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله
إذا ثبت هذا فإن الأم تجب نفقتها ويجب عليها أن تنفق على ولدها إذا لم يكن له أب وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و حكي عن مالك أنه لا نفقة عليها ولا لها لأنها ليست عصبة لولدها
ولنا قوله سبحانه : { وبالوالدين إحسانا } [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لرجل سأله من أبر ؟ قال : أمك ثم أمك ثم أمك أباك ثم الأقرب فالأقرب ] رواه أبو داود ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العتق فأشبهت الأب فإن أعسر الأب وجبت النفقة على الأم ولم ترجع بها عليه إن أيسر وقال أيو يوسف ومحمد : ترجع عليه ولنا أن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب
فصل : ويجب الإنفاق على الأجداد والجدات وإن علوا وولد الولد وإن سفلوا وبذلك قال الشافعي و الثوري و أصحاب الرأي وقال مالك : لا تجب النفقة عليهم ولا لهم لأن الجد ليس بأب حقيقي
ولنا قوله سبحانه : { وعلى الوارث مثل ذلك } ولأنه يدخل في مطلق اسم الولد والوالد بدليل أن الله تعالى قال : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } فيدخل فيهم ولد البنين وقال : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } وقال : { ملة أبيكم إبراهيم } ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالد القريبين

فصول الشروط المعتبرة لوجوب الانفاق وأحكام اعفاف الأب ابنه وبالعكس
فصل : ويشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط أحدها : أن يكونوا فقراء لا مال لهم ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يستغنون به فلا نفقة لهم لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة
الثاني : أن تكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم فاضلا عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شيء فليس عليه شيء لما [ روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته ] وفي لفظ : [ أبدأ بنفسك ثم بمن تعول ] حديث صحيح
[ وروى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال : تصدق به على نفسك ـ قال عندي آخر قال : ـ تصدق به على ولدك ـ قال عندي آخر قا ل : ـ تصدق به على زوجك ـ قال عندي آخر قال : ـ تصدق به على خادمك ـ قال عندي آخر قال : ـ أنت أبصر ] رواه أبو داود ولأنها مواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة
الثالث : أن يكون المنفق وارثا لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك وإن امتنع الميراث مع وجود القرابة لم يخل من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون أحدهما رقيقا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه بغير خلاف لأنه لا ولاية بينهما ولا إرث فأشبه الأجنبيين ولأن العبد لا مال له فتجب عليه النفقة وكسبه لسيده ونفقته على سيده فيتسغني بها عن نفقة غيره
الثاني : أن يكون دينهما مختلفا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه وذكر القاضي في عمودي النسب روايتين : إحداهما : تجب النفقة مع اختلاف الدين وهو مذهب الشافعي لأنها نفقة تجب مع اتفاق الدين فتجب مع احتلافه كنفقة الزوجة والمملوكة ولأنه يعتق على قريبه فيجب عليه الإنفاق عليه كما لو اتفق دينهما
ولنا أنها مواساة على سبيل البر والصلة فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب وأنهما غير متوارثين فلم يجب على الآخر نفقته بالقرابة كما لو كان أحدهما رقيقا وتفارق نفقة الزوجات لأنها عوض يجب مع الأعسار فلم ينافها اختلاف الدين كالصداق والأجرة وكذلك تجب مع الرق فيهما أو في أحدهما وكذلك نفقة المماليك والعتق عليه يبطل بسائر ذوي الرحم المحرم فإنهم يعتقون مع اختلاف الدين ولا نفقة لهم معه ولأن هذه صلة ومواساة فلا تجب مع اختلاف الدين كأداء زكاته إليه وعقله عنه وإرثه منه
الثالث : أن يكون القريب محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه فينظر فإن كان الأقرب موسرا فالنفقة عليه ولا شيء على المحجوب به لأن الأقرب أولى بالميراث منه فيكون أولى بالإنفاق وإن كان الأقرب معسرا وكان من ينفق عليه من عمودي النسب وجبت نفقته على الموسر ذكر القاضي في اب معسر وجد موسر أن النفقة على الجد وقال في أم معسرة وجدة موسرة : النفقة على الجدة وقد قال أحمد : [ لا يدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي صلى الله عليه و سلم : إن ابني هذا سيد ] فسماه ابنه وهو ابن ابنته وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم يجب أن تلزمه نفقتهم عند حاجتهم وهذا مذهب الشافعي وإن كان من غير عمودي النسب لم تجب النفقة عليه إذا كان محجوبا قال القاضي وأبو الخطاب في ابن فقير وأخ موسر : لا نفقة عليهما لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته والأخ لا نفقة عليه لعدم إرثه ولأن قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته له فإذا لم يكن وارثا لم تجب عليه النفقة كذوي الرحم ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان من يحجبه معسرا وجهان :
أحدهما : لا نفقة عليه لأنه ليس بوارث أشبه الأجنبي والثاني : عليه النفقة لوجود القرابة المقتضية للإرث والإنفاق والمانع من الإرث لا يمنع من الإنفاق لأنه معسر لا يمكنه الإنفاق فوجوده بالنسبة إلى الإنفاق كعدمه
فصل : فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإن كانوا من غير عمودي النسب فلا نفقة عليهم نص عليه أحمد فقال : الخالة والعمة لا نفقة عليهما قال القاضي : لا نفقة لهم رواية واحدة وذلك لأن قرابتهم ضعيفة وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث فهم كسائر المسليمن فإن المال يصرف إليهم إذا لم يكن للميت وارث وذلك الذي ياخذه بيت المال ولذلك يقدم الرد عليهم وقال أبو الخطاب : يخرج فيهم رواية أخرى أن النفقة تلزمهم عند عدم العصبات وذوي الفروض لأنهم وارثون في تلك الحال قال ابن أبي موسى : هذا يتوجه على معنى قوله والأول هو المنصوص عنه فأما عمود النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم سواء كانوا من ذوي الأرحام كأب الأم وابن البنت أو من غيرهم وسواء كانوا محجوبين أو وارثين وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضيه وتقتضي رد الشهادة تمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى
فصل : ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام في ظاهر المذهب وظاهر كلام الخرقي فإنه أوجب نفقتهم مطلقا إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم وقال القاضي : لا يشترط في الوالدين وهل يشترط ذلك في الولد ؟ فكلام أحمد يقتضي روايتين إحداهما : تلزمه نفقته لأنه فقير والثانية : إن كان يكتسب فينفق على نفسه لم تلزم نفقته وهذا القول يرجع إلى أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزم نفقته رواية واحدة سواء كان ناقص الأحكام كالصغير والمجنون أو ناقص الخلقة كالزمن وإنما الروايتان فيمن لا حرفة له ممن يقدر على الكسب ببدنه وقال الشافعي : يشترط نقصانه إما من طريق الحكم أو من طريق الخلقة وقال أبو حينفة : ينفق على الغلام حتى يبلغ فإذا بلغ صحيحا انقطعت نفقته ولا تسقط نفقة الجارية حتى تتزوج ونحوه قال مالك إلا أنه قال ينفق على النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن الأزواج ثم لا نفقة لهن وإن طلقن ولو طلقن قبل البناء بهن فهن على نفقتهن
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] لم يستثن منهم بالغا صحيحا ولأنه والد أو ولد فقير فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني كما لو كان زمنا أو مكفوفا فأما الوالد فإن ابا حنيفة وافقنا على وجوب نفقته صحيحا إذا لم يكن ذا كسب ولـ لشافعي في ذلك قولان ولنا أنه والد محتاج فأشبه الزمن
فصل : ومن كان له أب من أهل الإنفاق لم تجب نفقته على سواه لأن الله تعالى قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقا ل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فجعل النفقة على أبيهم دونها ولا خلاف في هذا نعلمه إلا أن لأصحاب الشافعي فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران وجيهن : أحدهما : أن النفقة على الأب وحده والثاني : عليهما جميعا لتساويهما في القرب
ولنا أن النفقة عى الأب منصوص عليها فيجب اتباع النص وترك ما عداه
فصل : ويلزم الرجل إعفاف ابنه إذا احتاج إلى النكاح وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولهم في إعفاف الأب الصحيح وجه آخر أنه لا يجب وقال أبو حينفة : لا يلزم الرجل إعفاف أبيه سواء وجبت نفقته أو لم تجب لأن ذلك من أعظم الملاد فلم تجب للأب كالحلواء ولأنه أحد الأبوين فلم يجب ذلك له كالأم
ولنا أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده فلزم ابنه له كالنفقة ولا يشبه الحلواء لأنه لا يستضر بفقدها وإنما يشبه الطعام والأدم وأما الأم فإنما إعفافها بتزويجها إذا طلبت وخطبها كفؤها ونحن نقول بوجوب ذلك عليه وهم يوافقوننا في ذلك إذا ثبت هذا فإنه يجب إعفاف من لزمت نفقته من الآباء والأجداد فإن اجتمع جدان ولم يمكن إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب إلا أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الأم فيقدم الذي من جهة الأب وإن بعد لأنه عصبة والشرع قد اعتبر جهته من التوريث والتعصيب فكذلك في الإنفاق والاستحقاق
فصل : وإذا وجب عليه إعفاف أبيه فهو مخير أن شاء زوجة حرة وإن شاء ملكه أمة أو دفع إليه ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة وليس للأب التخيير عليه إلا أن الأب إذا عين امرأة وعين الابن أخرى وصداقهما واحد قدم تعيين الأب لأن النكاح له والمؤنة واحدة فقدم قوله كما لو عينت البنت كفؤا وعين الأب كفؤا يقدم بتعيينها وإن اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر لأنه إنما يلزم أقل ما تحصل به الكفاية ولكن ليس له أن يزوجه أو يملكه قبيحة أو كبيرة لا استمتاع فيها وليس له أن يزوجه أمى لأن فيه ضررا عليه وهو إرقاق ولده والنقص في استمتاعه وإن رضي الأب بذلك لم يجز لأن الضرر يلحق بغيره وهو الولد ولذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة وإذا زوجة زوجة أو ملكة أمة فعليه نفقته ونفقتها ومتى أيسر الأب لم يكن للولد استرجاع ما دفعها إليه ولا عوص ما زوجه به لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه فلم يملك استرجاعه كالزكاة وإن زوجه أو ملكه أمة فطلق الزوجة أو أعتق الأمة لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانيا لأنه فوت ذلك على نفسه وإن ماتتا فعليه إعفافه ثانيا لأنه لا صنع له في ذلك
فصل : قال أصحابنا : وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجا إلى إعفافه وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : لا يجب ذلك عليه ولنا أنه من عمودي نسبه وتلزمه نفقته فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه كأبيه قال القاضي : وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته من أخ وعم أو غيرهم لأن أحمد قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع عليه وكل من لزمه إعفافه لزمته نفقة زوجته لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بذلك وقد روي عن أحمد أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الابن وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها

مسألة احكام نفقة الصبي المرضع الذي لا أب له ولا جد
مسألة : قال : وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب أجبر وارثه على نفقته على قدر ميراثهم منه
ظاهر المذهب أن النفقة تجب على كل وارث لموروثه إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرنا لها وبه قال الحسن و مجاهد و النخعي و قتادة و الحسن بن صالح و ابن أبي ليلى و أبو ثور وحكى ابن المنذر عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد : نفقة وأجر رضاعه على الرجال دون النساء وكذلك روى أبو بكر بن محمد عن أبيه عن أحمد : النفقة على العصبات وبه قال الأوزاعي و إسحاق وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته احتج به أحمد وقال ابن المنذر : روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء ولأنها مواساة ومعونة تختص القرابة فاختصت بالعصبات كالعقل وقال أصحاب الرأي : تجب النفقة على كل ذي رحم محرم ولا تجب على غيرهم لقول الله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر : [ لا نفقة إلا على المولودين والوالدين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل سأله عندي دينار قال : أنفقه على نفسك ـ قال عندي آخر ؟ قال ـ أنفقه على أهلك ـ قال عندي آخر قال ـ أنفقه على خادمك ـ قال عندي آخر ؟ قال ـ أنت أعلم به ] ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء ولأن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها فلا يصح قياسه عليهم
ولنا قول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ثم قال : { وعلى الوارث مثل ذلك } فأوجب على الأب نفقة الرضاع ثم عطف الوارث عليه فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد
[ وروى أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم من أبر ؟ قال : أمك وأباك وأختك وأخاك ] وفي لفظ : [ ومولاك الذي هو أدناك حقا ورحما موصولا ] رواه أبو داود وهذا نص لأن النبي صلى الله عليه و سلم ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة جعلها حقا واجبا وما احتج به أبو حنيفة حجة عليه فإن اللفظ عام في كل ذي رحم فيكون حجة عليه فيمن عدا ذا الرحم المحرم وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك في الإنفاق وأما خبر أصحاب الشافعي فقضية في عين يحتمل أنه لم يكن له غير من أمر بالإنفاق عليه ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد وقولهم لا يصح القياس قلنا إنما أثبتناه بالنص ثم أنهم قد ألحقوا أولاد بالأولاد مع التفاوت فبطل ما قالوه إذا ثبت هذا فإنه يختص بالوارث بفرض أو تعصيب لعموم الآية ولايتناول ذوي الأرحام على ما مضى بيانه فإن كان اثنان يرث أحدهما الآخر ولا يرثه الآخر كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة أخيه والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها فالنفقة على الوارث دون الموروث نص عليه أحمد في رواية ابن زياد فقال : يلزم الرجل نفقة عمته ولا يلزمه نفقة بنت أخيه وذكر أصحابنا رواية أخرى : لا تجب النفقة على الوارث ههنا لقول أحمد : العمة والخالة لا نفقة لهما إلا أن القاضي قال : هذه الرواية محمولة على العمة من الأم فإنه لايرثها لكونه ابن أخيها من أمها وقد ذكر الخرقي أن على الرجل نفقة معتقه لأنه وارثه ن ومعلوم أن المعتق لا يرث معتقه ولا تلزمه نفقته فعلى هذا يلزم الرجل نفقة عمته لأبويه أو لأبيه وابنة عمه وابنة أخيه كذلك ولا يلزمهن نفقته وهذا هو الصحيح إن شاء الله لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } وكل واحد من هؤلاء وارث

مسألة وفصل قال فإن كان للصبي أم وجد
مسألة : قال : فإن كان للصبي أم وجد فعلى الأم ثلث النفقة وعلى الجد ثلثا النفقة
وجملته أنه إذا لم يكن للصبي أب فالنفقة على وارثه فإن كان له وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه وإن كانوا ثلاثة أو أكثر فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه فإذا كان له أم وجد فعلى الأم الثلث والباقي على الجد لأنهما يرثان كذلك وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : النفقة كلها على الجد لأنه ينفرد بالتعصيب فأشبه الأب وقد ذكرنا رواية أخرى عن أحمد أن النفقة على العصبات خاصة
ولنا قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } والأم وارثه فكان عليها بالنص ولأنه معنى يستحق بالنسب فلم يختص به الجد دون الأم كالوراثة
فصل : وإن اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثا كالميراث وقال أبو حنيفة : النفقة عليهما سواء لأنهما سواء في القرب وإن كان أم وابن فعلى الأم السدس والباقي على الابن وإن كانت بنت وابن ابن فالنفقة بينهما نصفين وقال أبو حنيفة : النفقة على البنت لأنها أقرب وقال الشافعي في هذه المسائل الثلاث : النفقة على الابن لأنه العصبة وإن كانت له أم وبنت فالنفقة بينهما أرباعا لأنهما يرثانه كذلك وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : النفقة على البنت لأنها تكون عصبة مع أخيها وإن كانت له بنت وابن بنت فالنفقة على البنت وقال أصحاب الشافعي في احد الوجهين : النفقة على ابن البنت لأنه ذكر
ولنا قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } فرتب النفقة على الإرث فيجب أن تترب في المقدار عليه وإيجابها على ابن البنت بخلاف النص والمعنى فإنه ليس بعصبة ولا وارث فلا معنى لإيجابها عليه دون البنت الوارثة

مسألة قال فإن كانت جدة وأخا
مسألة : قال : فإن كانت جدة وأخا فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ وعلى هذا المعنى حساب النفقات
يعني أن ترتيب النفقات على ترتيب الميراث فكما أن للجدة ههنا سدس الميراث فعليها سدس النفقة وكما أن الباقي للأخ فكذلك الباقي من النفقة عليه وعند من لا يرى النفقة على غير عمودي النسب يجعل النفقة كلها على الجدة وهذا أصل قد سبق الكلام فيه فإن اجتمع بنت وأخت أو بنت وأخ أو بنت وعصبة أو أخت وعصبة أو أخت وأم أو بنت وبنت ابن أو أخت لأبوين وأخت لأب أو ثلاث أخوات متفرقات فالنفقة بينهم على قدر الميراث في ذلك سواء كان في المسألة رد أو عول أو لم يكن وعلى هذا تحسب ما أتاك من المسائل وإن اجتمع أم أم وأم أب فهما سواء في النفقة لاستوائهما في الميراث

فصول فيمن تجب عليه النفقة وقدر ما يجب وفروع أخرى
فصل : فإن اجتمع أبوا أم فالنفقة على أم الأم لأنها الوارثة وإن اجتمع أبوا أب فعلى أم الأب السدس والباقي على الجد وإن اجتمع جد وأخ فهما سواء وإن اجتمعت أم وأخ وجد فالنفقة بينهم أثلاثا وقال الشافعي : النفقة على الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى فالنفقة عليهما بالسوية وقد مضى الكلام على أصل هذا فيما تقدم
فصل : فإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه بقدر ميراثه فإن انكشف بعد ذلك حاله فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عله رجع بالزيادة على شريكه في الإنفاق وإن بان أنه أنفق أقل رجع عليه فلو كان للرجل ابن وولد خنثى عليهما نفقته فأنفقا عليه ثم بان أن الخنثى ابن رجع عليه أخوة بالزيادة وإن بان بنتا رجعت على أخيها بفضل نفقتها لأن له الفضل أدى ما لا يجب عليه أداؤه معتقدا وجوبه فإذا تبين خلافه رجع ذلك كما لو أدى ما يعتقده دينا فبان بخلافه
فصل : فإن كان له قرابتان موسران واحدهما محجوب عن ميراثه بفقير فقد ذكرنا أنه إن كان المحجوب من عمودي النسب فالظاهر أن الحجب لا يسقط النفقة عنه وإن كان من غيرهما فلا نفقة عليه فعلى هذا إذا كان له أبوان وجد والأب معسر كان الأب كالمعدوم فيكون على الأم ثلث النفقة والباقي على الجد وإن كان معهم زوجة فكذلك وإن قلنا لا نفقة على المحجوب فليس على الأم ههنا إلا ربع النفقة ولا شيء على الجد وإن كان أبوان وأخوان وجد والأب معسر فلا شيء على الأخوين لأنهما محجوبان وليسا من عمودي النسب ويكون على الأم الثلث والباقي على الجد كما لو لم يكن أحد غيرهما ويحتمل ان لا يجب على الأك إلا السدس لأنه لو كان الأب معدوما لم ترث إلا السدس وإن قلنا : إن كل محجوب لا نفقة عليه فليس على الأم إلا السدس ولا شيء على غيرها وإن لم يكن في المسألة جد فالنفقة كلها على الأم على القول الأول وعلى الثاني ليس عليها إلا السدس وإن قلنا إن على المحجوب بالمعسر النفقة وإن كان من غير عمودي النسب فعلى الأم السدس والباقي على الجد والأخوين أثلاثا كما يرثون إذا كان الأب معدوما وإن كان بعض من عليه النفقة غائبا وله مال حاضر أنفق الحاكم منه حصته وإن لم يوجد له مال حاضر فأمكن الحاكم الاقتراض عليه اقتراض فإذا قدم فعليه وفاؤه
فصل : ومن لم يفضل عن قوته إلا نفقة شخص وله امرأة فالنفقة لها دون الأقارب ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث جابر : إذا كان أحدكم فقيرا فيبدأ بنفسه فإن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل فعلى قرابته ] ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة المرأة تجب على سبيل المعاوضة فقدمت على مجرد المواساة ولذلك وجبت مع يسارهما وإعسارهما ونفقة القريب بخلاف ذلك ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القرابة كنفقة نفسه ثم من بعدها نفقة الرقيق لأنها تجب مع اليسار والإعسار فقدمت على مجرد المواساة ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب فإن اجتمع أب وجد وابن وابن ابن قدم الأب على الجد والابن على ابنه وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين : يستوي الأب والجد والابن وابنه لتساويهم في الولادة والتعصيب
ولنا أن الأب والابن أقرب وأحق بميراثه فكانا أحق كالأب مع الأخ وإن اجتمع ابن وجد أو أب وابن ابن احتمل وجهين : أحدهما : تقديم الابن والأب لأنهما أقرب فإنهما يليانه واسطة ولا يسقط إرثهما بحال والجد وابن الابن بخلافهما ويحتمل التسوية بينهما لأنهما سواء في الإرث والتعصيب والولادة وإن اجتمع جد وابن ابن فهما سواء لتساويهما في القرب والإرث والولادة والتعصيب ويحتمل فيهما ما يحتمل في الأب والابن على ما سنذكره
فصل : وإن اجتمع أب وابن فقال القاضي : إن كان الابن صغيرا أو مجنونا قدم لأن نفقتة وجبت بالنص مع أنه عاجز عن الكسب والأب قد يقدر عليه وإن كان الابن كبيرا والأب زمن فهو أحق لأن حرمته آكد وحاجته أشد ويحتلم تقديم الابن لأن نفقته وجبت بالنص وإن كانا صحيحين فقيرين ففيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : التسوية بينهما لتساويهما في القرب وتقابل مرتبتهما والثاني : تقديم الابن لوجوب نفقته بالنص والثالث : تقديم الأب لتأكد حرمته وإن اجتمع أبوان ففيهما الوجوه الثلاثة : أحدها : التسوية لما ذكرنا والثاني : تقديم الأم لأنها أحق بالبر ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية وزيادة الشفقة وهي أضعف وأعجز والثالث : تقديم الأب لفضيلته وانفراده بالولاية على ولده واستحقاق الأخذ من ماله وإضافة النبي صلى الله عليه و سلم الولد وماله إليه بقوله : [ أنت ومالك لأبيك ] والأول أولى وإن اجتمع جد وأخ احتمل التسوية بينهما لاستوائهما في استحقاق ميراثه والصحيح أن الجد أحق لأنه له مزية الولادة والأبوة ولأن ابن ابنه يرثه ميراث ابن ويرث الأخ ميراث أخ وميراث الابن آكد فالنفقة الواجبة به تكون آكد وإن كان مكان الأخ ابن أخ أو عم فالجد أولى بكل حال
فصل : والواجب في نفقة القريب قدر الكفاية من الخبز والأدم والكسوة بقدر العادة على ما ذكرناه في الزوجة لأنها وجبت للحاجة فتقرت بما تندفع به الحاجة وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية فإن احتاج إلى خادم فعليه إخدامه كما قلنا في الزوجة لأن ذلك من تمام كفايته

مسائل وفصول أحكام نفقة المعتق والأمة المزوجة ونفقة الولد من الأمة ونفقة ولد المكاتبة والمكاتب
مسألة : قال : وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا لأنه وارثه
هذا مبني على الأصل الذي تقدم وإن النفقة تجب على الوارث والمعتق وارث عتيقه فتجب عليه نفقته إذا كان فقيرا ولمولاه يسار ينفق عليه منه وقال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي : لا تجب عليه نفقة بناء على أصولهم التي ذكرناها
ولنا قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك ومولاك الذي يلي ذاك حقا واجبا ورحما موصولا ] ولأنه يرثه بالتعصيب فكانت عليه نفقته كالأب ويشترط في وجوب الإنفاق عليه لشروط المذكورة في غيره
فصل : فإن مات مولاه فالنفقة على الوارث من عصباته على ما بين في باب الولاء ويجب على السيد نفقة أولاد عتيقه إذا كان له عليهم ولاء لأنه عصبتهم ووارثهم وعليه نفقة أولاد معتقه إذا كان أبوهم عبدا كذلك فإن أعتق أبوهم فانجز الولاء إلى معتقه صار ولاؤهم لمعتق أبيهم ونفقتهم عليه إذا كملت الشروط وليس على المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا لأنه لا يرثه فإن كان كل واحد منهما مولى صاحبه مثل أن يعتق الحربي عبدا ثم يسبي العبد سيده فيتعقه فعلى كل واحد منهما نفقة الآخر لأنه يرثه
مسألة : قال : وإذا زوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكا نفقتها
وجملته أن زوج الأمة لا يخلو إما أن يكون حرا أو عبدا أو بعضه حر وبعضه عبد فإن كان حرا فنفقتها عليه للنص واتفاق أهل العلم على وجوب نفقه الزوجات على أزواجهن البالغين والأمة داخلة في عمومهن ولأنها زوجة ممكنة من نفسها فوجب على زوجها نفقتها كالحرة وإن كان زوجها مملوكا فالنفقة واجبة لزوجته لذلك وقال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن على العبد نفقة زوجته هذا قول الشعبي و الحكم و الشافعي وبه قال أصحاب الرأي إذا بوأها بيتا وحكي عن مالك أنه قال : ليس عليه نفقتها لأن النفقة مواساة وليس هو من أهلها ولذلك لا تجب عليه نفقة أقاربه ولا زكاة ماله
ولنا أنها عوض واجب في النكاح فوجبت على العبد كالمهر والدليل على أنها عوض انها تجب في مقابلة التمكين ولهذا تسقط عن الحر بفوات التمكين وفارق نفقة الأقارب إذا ثبت وجوبها على العبد فإنها تلزم سيده لأن السيد أذن له في النكاح المفضي إلى إيجابها وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى أنها تجب في كسب العبد وهو قول أصحاب الشافعي لأنه لم يمكن إيجابها في ذمته ولا رقبته ولا ذمة سيده ولا إسقاطها فلم يبق إلا أن تتعلق بكسبه وقال القاضي : تتعلق برقبته لأن الوطء في النكاح بمنزلة الجناية وأرش جناية العبد يتعلق برقبته يباع فيها أو يفديه سيده وهذا قول أصحاب الرأي
ولنا أنه دين أذن السيد فيه فلزم ذمته كالذي استدانه وكيله وقولهم إنه في مقابلة الوطء غير صحيح فإنه يجب من غير وطء ويجب للرتقاء والحائض والنفساء وزوجة المجبوب والصغير وإنما يجب بالتمكين وليس ذلك بجناية ولا قائم مقامها وقول من قال : إنه تعذر إيجابه في ذمة السيد غير صحيح فإنه لا مانع من إيجابه وقد ذكرنا وجود مقتضيه فلا معنى لدعوى التعذر
مسألة : قال : وإن كانت أمة تأوي بالليل عند الزوج وبالنهار عند المولى أنفق كل واحد منهما مدة مقامها عنده
هذه المسألة قد تقدمت وذكرنا أن النفقة في مقابلة التمكين وقد وجد منها في الليل فتجب على الزوج النفقة فيه والباقي منها على السيد بحكم أنها مملوكته لم تجب لها نفقة على غيره في هذا الزمن فيكون على هذا على كل واحد منهما نصف النفقة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا نفقة لها على الزوج لأنها لم تمكن من نفسها في جميع الزمان فلم يجب لها شيء من النفقة كالحرة إذا بذلت نفسها في أحد الزمانين دون الآخر
ولنا أنه وجد التمكين الواجب بعقد النكاح فاستحقت النفقة كالحرة إذا مكنت من نفسها في غير أوقات الصلوات المفروضات والصوم الواجب والحج المفروض وفارق الحرة إذا امتنعت في أحد الزمانين فإنها لم تبذل الواجب فتكون ناشزا وهذه ليست ناشزا ولا عاصية
مسألة : قال : فإن كان لها ولد لم تلزمه نفقة ولده حرا كان أو عبدا ونفقتهم على سيدهم
يعني الأمة ليس على زوجها نفقة ولده منها وإن كان حرا لأن ولد الأمة عبد لسيدها فإن الولد يتبع أمه في الرق والحرية فتكون نفقتهم على سيدهم دون أبيهم فإن العبد أخص بسيده من أبيه ولذلك لا ولاية بينه وبين أبيه ولا ميراث ولا إنفاق وكل ذلك للسيد وقد رويت عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن ولد العربي يكون حرا وعلى أبيه فداؤه فعلى هذا تكون نفقتهم عليه ولو أعتق الولد سيده أو علق عتقه بولادته أو تزوج الأمة على أنه حرة فولده منها أحرار وعلى أبيهم نفقتهم في هذه المواضع كلها إذا كان حرا وتحققت فيه شرائط الإنفاق
فصل : وإذا طلق الأمة طلاقا رجعيا فلها النفقة في العدة لأنها زوجة وإن أبانها وهي حائل فلا نفقة لها لأنها لو كانت حرة لم يكن لها نفقة فالأمة أولى وإن كانت حاملا فلها النفقة لقوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } نص على هذا أحمد وبه قال إسحاق وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله في نفقة الحامل روايتان : هل هي للحمل أو للحامل بسببه ؟ احداهما : هي للحمل فعلى هذا لا تجب للمملوكة الحامل البائن نفقة لأن الحمل مملوك لسيدها فنفقته عليه ولـ لشافعي في هذا قولان كالروايتين
فصل : وإن طلق العبد زوجته الحالم طلاقا بائنا على وجوب النفقة على الروايتين في النفقة هل هي للحمل أو للحامل ؟ فإن قلنا : هي للحمل فلا نفقة على العبد وبه قال مالك وروي ذلك عن الشعبي لأنه لا تجب عليه نفقة ولده وإن قلنا هي للحامل بسببه وجبت لها النفقة وهذا قول الأوزاعي لأن الله تعالى قال : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولأنها حامل فوجبت لها النفقة كما لو كان زوجها حرا
فصل : والمعتق بعضه عليه من نفقة امرأته بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على سيده أو في ضريبته أو في رقبته على ما ذكرنا في العبد والقدر الذي يجب عليه بالحرية يعتبر فيه حاله إن كان موسرا فنفقة الموسرين وإن كان معسرا فنفقة المعسرين والباقي تجب فيه نفقة المعسرين لأن النفقة مما يتبعض وما يتبعض بعضناه في حق المعتق بعضه كالميراث والديات وما لا يتبعض فهو فيه كالعبد لأن الحرية إما شرط فيه أو سبب له فلم يكمل وهذا اختيار المزني وقال الشافعي : حكمه حكم القن في الجميع إلحاقا لأحد الحكمين بالآخر
ولنا أنه يملك بنصفه الحر ملكا تاما ولهذا يورث عنه ويكفر بالإطعام ويجب فيه نصف دية الحر فوجب أن تتبعض نفقته لأنها من جملة الأحكام القابلة للتبعيض فأما نفقة أقاربه فيلزمه منها بقدر ميراثه لأن النفقة تنبني على الميراث وعند المزني تلزمه كلها لأنها لا تتبعض وعند الشافعي لا يلزمه شيء لأن حكمه حكم العبيد وقد سبق الكلام في هذا
مسألة : قال : وليس على العبد نفقة ولده حرة كانت الزوجة أو أمة
أما إذا كانت زوجة العبد حرة فولدها أحرار لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية وليس على العبد نفقة أقاربه الأحرار لأن نفقتهم تجب على سبيل المواساة وليس هذا من أهلها وأما إذا كانت زوجته مملوكة فولدها عبيد لسيدها لأنهم يتبعونها فتكون نفقتهم على سيدهم
فصل : وحكم المكاتب في نفقة الزوجات والأولاد والأقارب حكم العبد القن لأنه عبد ما بقي عليه درهم إلا أنه إذا كانت له زوجة أنفق عليها من كسبه لأن نفقة الزوجة واجبة بحكم المعاوضة مع اليسار والإعسار ولذلك وجبت على العبد فعلى المكاتب أولى ولأن نفقة المرأة لا تسقط عن أحد من الناس إذا لم يوجد منها ما يسقط نفقتها ولا يمكن إيجابها على سيده لأن نفقة المكاتب لا تجب على سيده فنفقة امرأته أولى فأما نفقة أولاده وأقاربه والأحرار فلا تجب عليه لأنه تجب على سبيل المواساة وليس هو من أهلها ولذلك لا تجب عليه الزكاة في ماله ولا الفطرة في بدنه فإن كانت زوجته حرة فنفقة أولادها عليها لأنهم يتبعونها في الحرية وإن كان لهم أقارب أحرار كجد حر وأخ حر مع الأم أنفق كل واحد منهم بحسب ميراثه والمكاتب كأنه معدوم بالنسبة إلى النفقة
مسألة : قال : وعلى المكاتبة نفقة ولدها دون أبيه المكاتب
وجملته أن المكاتب إذا كان له ولد لم يخل إما أن يكون من زوجته أو من أمته فإن كان من زوجة وكانت مكاتبة فولدها يتبعونها في الكتاب ويكونون موقوفين على كتابتها إن رقت رقوا وإن عتقت بالأداء عتقوا فتكون نفقتهم عليها مما في يدها لأنهم في حكم نفسها ونفقتها مما في يديها فكذلك على ولدها وأما زوجها المكاتب فليس عليه نفقتهم لأنهم عبيد لسيد المكاتبة وإن كانت زوجته حرة أو أمة فقد بينا حكمهم وإن أراد المكاتب التبرع بالإنفاق على لده وكان من أمة أو مكاتبة لغير سيده أو حرة لم يكن له ذلك لأن فيه تغريرا بمال سيده وإن كان من أمة لسيده جاز لأنه مملوك لسيده فهو ينفق عليه من المال الذي تعلق به جق سيده وإن كان من مكاتبة لسيده احتمل الجواز لأنه في الحال بمنزلة أمه وأمه مملوكة لسيدها ويحتمل أن لا يجوز لأن فيه تغريرا إذ لا يحتمل أن يعجز هو وتؤدي المكاتبة فيعتق ولدها فيحصل الإنفاق عليها من مال سيده ويصير حرا
مسألة : قال : وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته
أما ولد المكاتب من أمته فنفقتهم عليه لأن ولده من أمته تابع له يرق برقه ويعتق بعتقه فجرى مجرى نفسه في النفقة فكما أن المكاتب ينفق على نفسه فكذلك على ولده الذي هذا حاله ولأن هذا الولد ليس له من ينفق عليه سوى أبيه فإن أمة أمة للمكاتب وليس له من الأحرار أقارب فيتعين على المكاتب الإنفاق عليه كأمه ولأنه لا ضرر على السيد في إنفاق المكاتب على ولده من أمته لأنه إن أدى وعتق فقد وفى مال الكتابة وليس للسيد أكثر منها وإن عجز ورق عاد إليه المكاتب وولده الذي أنفق عليه فكأنه إنما أنفق على عبده وتصير نفقته عليه كنفقته على سائر رقيقه
فصل : وليس للمكاتب أن يتسرى بأمته إلا بإذن سيده لأن ملكه غير تام وعلى السيد ضرر في تسريه بها لما فيه من التغرير بها وإن أذن له سيده في ذلك جاز لأن المنع لحقه فجاز بإذنه كما لو أذن لعبده القن وإن وطىء بغير إذنه فلا حد عليه لأنه وطىء مملوكته فإن أولدها في الموضعين صارت أم ولد له ليس له بيعها ولا بيع ولده فإ عتق عتق ولدها وصارت الأمة أم ولده تعتق بموته وإن رق رقت هي وولدها وصارت أمة لسيده والمكاتب وولده عبدان له ويلزم المكاتب الإنفاق على عبيده وإمائه وأمهات أولاده لأنهم ملك له فلزمه الإنفاق عليه كبهائمه

باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج
مسألة : قال رحمه الله : وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ فلم تمنعه نفسها ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة
وجملة ذلك أن المرأة تستحق النفقة على زوجها بشرطين :
أحدهما : أن تكون كبيرة يمكن وطؤها فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها وبهذا قال الحسن و بكر بن عبد الله المزني و النخعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وهو المنصوص عن الشافعي وقال في موضع : او قيل لها النفقة كان مذهبا وهذا قول الثوري لأن تعذر الوطء لم يكن بفعلها فلم يمنع وجود النفقة لها كالمرض
ولنا أن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع فلم تجب نفقتها كما لو منعه أولياؤها من تسليم نفسها وبهذا يبطل ما ذكروه ويفارق المريضة فإن الاستمتاع بها ممكن وإنما نقص بالمرض ولأن من لا تمكن الزوج من نفسها لا يلزم الزوج نفقتها فهذه أولى لأن تلك يمكن الزوج قهرها والاستمتاع بها كرها وهذه لا يمكن ذلك فيها بحال
الشرط الثاني : أن تبذل التمكين التام من نفسها لزوجها فأما إن منعت نفسها أو منعها أولياؤها أو تساكتا بعد العقد فلم تبذل ولم يطلب فلا نفقة لها وإن أقاما زمنا [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج عائشة ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا بعد دخوله ولم يلتزم نفقتها لما مضى ] ولأن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح فإذا وجد استحقت وإذا فقد لم تستحق شيئا ولو بذلت تسليما غير تام بأن تقول أسلم إليك نفسي في منزلي دون غيره أو في الموضع الفلاني دون غيره لم تستحق شيئا إلا أن تكون قد اشترطت ذلك في العقد لأنها لم تبذل التسليم الواجب بالعقد فلم تستحق النفقة كما لو قال البائع : أسلم إليك السلع على أن تتركها في موضعها أو في مكان بعينه وإن شرطت دارها أو بلدها فسلمت نفسها في ذلك استحقت النفق لأنها سلمت التسليم الواجب عليها ولذلك لو سلم السيد أمته المزوجة ليلا دون النهار استحقت النفقة وفارق الحرة فإنها لو بذلت تسليم نفسها في بعض الزمان لم تستحق شيئا لأنها لم تسلم التسليم الواجب بالعقد وكذلك إن أمكنته من الاستمتاع ومنعته استمتاعا لم تستحق شيئا لذلك

فصل وإن غاب الزوج بعد تمكينها
فصل : وإن غاب الزوج بعد تمكينها ووجوب نفقتها عليه لم تسقط عنه بل تجب عليه في زمن غيبته لأنها استحقت النفق بالتمكين ولم يوجد منها ما يسقطها وإن غاب قبل تمكينها فلا نفقة لها عليه لأنه لم يوجد الموجب لها فإن بذلت التسليم وهو غائب لم تستحق نفقته لأنها بذلته في حال لا يمكنه التسليم فيه لكن إن مضت إلى الحاكم فبذلت التسليم كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي هو فيه ليستدعيه ويعلمه ذلك فإن سار إليها أو وكل من يسلمها إليه فوصل وسلمها هو أو نائبه وجبت النفقة حينئذ وإن لم يفعل فرض الحاكم عليه نفقتها من الوقت الذي كان يمكن الوصول إليها ويسلمها فيه لأن الزوج امتنع من تسلمها مع إمكان ذلك وبذلها إياه له فلزمته نفقتها كما لو كان حاضرا وإن كانت الزوجة صغيرة يمكن وطؤها أو مجنونة فسلمت نفسها إليه فتسلمها لزمته نفقتها كالكبيرة وإن لم يتسلمها لمنعها نفسها أو منع أوليائها فلا نفقة لها عليه وإن غاب الزوج فبذل وليها تسليمها فهو كما لو بذلت المكلفة التسليم فإن وليها يقوم مقامها وإن بذلت هي دون ولهيا لم يفرض الحاكم النفقة لها لأنه لا حكم لكلامها

مسألة ومتى استكلمت شروط الانفاق وكان زوجها صبيا
مسألة : قال : وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت وزوجها صبي أجبر وليه على نفقتها من مال الصغير فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما
يعني إذا كانت المرأة كبيرة يمكن الاستمتاع بها فمكنت من نفسها أو بذلت تسليمها ولم تمنع نفسها ولا منعها أولياؤها فعلى زوجها الصبي نفقتها وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن و الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر : لا نفقة لها وهو قول مالك لأن الزوج لا يتمكن من الاستمتاع بها فلم تلزمه نفقتها كما لو كانت غائبة صغيرة
ولنا أنها سلمت نفسها تسليما صحيحا فوجبت لها النفقة كما لو كان الزوج كبيرا ولأن الاستمتاع بها ممكن وإنما تعذر من جهة الزوج كما لو تعذر التسليم لمرضه أو غيبته وفارق ما إذا غابت أو كانت صغيرة فإنها لم تسلم نفسها تسليما صحيحا ولم تبذل ذلك فعلى هذا يجبر الولي على نفقتها من مال الصبي لأن النفقة على الصبي وإنما الولي ينوب عنه في أداء الواجبات عليه كما يؤدي أروش جناياته وقيم متلفاته وزكواته وإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما كما ذكرنا في حق الكبير فإن كان له مال وامتنع الولي من الإنفاق أجبره الحاكم بالحبس فإن لم ينفق أخذ الحاكم من مال الصبي وأنفق عليها فإن لم يمكنه وصبر الولي على الحبس وتعذر الإنفاق فرق الحاكم بينهما إذا طلبت ذلك على ما ذكرنا في حق الكبير وذكر القاضي في الكبير أنه لا يفرق بينهما فكذلك ههنا مثله لأنهما سواء في وجوب الإنفاق عليهما فكذلك في أحكامه

فصل حكم ما لو بذلت الرتقاء تسليم نفسها
فصل : وإن بذلت الرتقاء أو الحائض أو النفساء أو النضوة الخلق التي لا يمكن وطؤها أو المريضة تسليم نفسها لزمته نفقتها وإن حدث بها شيء من ذلك لم تسقط نفقتها لأن الاستمتاع ممكن ولا تفريط من جهتها وإن منع من الوطء ويفارق الصغيرة فإن لها حالا يتمكن من الاستمتاع بها فيها استمتاعا تاما والظاهر أنه تزوجها انتظارا لتلك الحال بخلاف هؤلاء ولذلك لو طلب تسليم هؤلاء وجب تسليمهن ولو طلب تسليم الصغيرة لم يجب فإن قيل : فلو بذلت الصحيحة الاستمتاع بما دون الوطء لم تجب لها النفقة فكذلك هؤلاء قلنا : لأن تلك منعت مما يجب عليها وهؤلاء لا يجب عليهن التمكين مما فيه ضرر فإن ادعت أن عليها ضررا في وطئه لضيق فرجها أو قروح به أو نحو ذلك وأنكره أريت امرأة ثقة وعمل بقولها وإن ادعت عبالة ذكره وعظمه جاز أن تنظر المرأة إليهما حال اجتماعهما لأنه موضع حاجة ويجوز النظر إلى العورة للحاجة والشهادة

مسألة حكم ما لو طالب الزوج بالدخول
مسألة : قال : وإن طالب الزوج بالدخول وقالت : لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي كان ذلك لها ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها
وجملته أن للمرأة أن تمنع نفسها حتى تتسلم صداقها لأن تسليم نفسها قبل تسليم صداقها يفضي إلى أن يستوفي منفعتها المعقود عليها بالوطء ثم لا يسلم صداقها فلا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها بخلاف المبيع إذا تسلمه المشتري ثم أعسر بالثمن فإنه يمكنه الرجوع فيه فلهذا ألزمناه تسليم صداقها أولا وجعلنا لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها لأنه إذا سلم إليها لاصداق ثم امتنعت من تسليم نفسها أمكن الرجوع فيه إذا ثبت هذا فمتى امتنعت من تسليم نفسها لتقبض صداقها فلها نفقتها لأنها امتنعت لحق فإن قيل فلو امتنعت لصغر أو مرض لم تلزمه نفقتها قلنا : الفرق بينهما أن امتناعها لمرض من جهتها وكذلك الامتناع للصغر وههنا الامتناع لمعنى من جهة الزوج وهو منعه لما وجب لها عليه فأشبه ما لو تعذر الاستمتاع لصغر الزوج فإنه لا تسقط نفقتها عنه ولو تعذر لصغرها لا تلزمه نفقتها

فصل حكم ما إذا سافرت الزوجة بدون إذن الزوج
فصل : إذا سافرت زوجته بغير إذنه سقطت نفقتها عنه لأنها ناشز وكذلك إن انتقلت من منزله بغير إذنه وإن سافرت بإذنه في حاجته فهي على نفقتها لأنها سافرت في شغله ومراده وإن كان في حاجة نفسها سقطت نفقتها لأنها فوتت التمكين لحظ نفسها وقضاء حاجتها فأشبه ما لو استنظرته قبل الدخول مدة فأنظرها إلا أن يكون مسافرا معها متمكنا من استمتاعها فلا تسقط نفقتها لأنها لم تفت التمكين فأشبهت غير المسافرة ويحتمل أن لا تسقط نفقتها وإن لم يكن معها لأنها مسافرة بإذنه أشبه ما لو سافرت في حاجته وسواء كان سفرها لتجارة أو حج تطوع أو زيارة ولو أحرمت بحج تطوع بغير إذنه سقطت مفقتها لأنها في معنى المسافرة وإن أحرمت به بإذنه فقال القاضي : لها النفقة والصحيح أنها كالمسافرة لأنها بإحرامها مانعة له من التمكين فهي كالمسافرة لحاجة نفسها على ما ذكرناه وإن أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواحبة في الوقت الواجب من الميقات فلها النفقة لأنها فعلت الواجب عليها بأصل في وقته فلم تسقط نفقتها كما لو صامت رمضان وإن قدمت الإحرام على الميقات أو قبل الوقت خرج فيها من القول ما في المحرمة بحج التطوع لأنها فوتت عليه التمكين بشيء مستغنى عنه

فصل فإن اعتكفت
فصل : فإن اعتكفت فالقياس أنه كسفرها إن كان بغير إذنه فهي ناشز لخروجها من منزل زوجها بغير إذنه فيما ليس بواجب بأصل الشرع وإن كان بإذنه فلا نفقة لها على قول الخرقي وقال القاضي : لها النفقة وإن صامت رمضان لم تسقط نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع لا يملك منعها منه فلم تسقط نفقتها كالصلاة ولأنه يكون صائما معها فيمتنع الاستمتاع لمعنى وجد فيه وإن كان تطوعا لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن قبضته ولم تأت بما يمنعه من الاستمتاع بها فإنه يمكنه تفطيرها ووطؤها فإن أراد ذلك منها فمنعته نفسها سقطت نفقتها بامتناعها من التمكين الواجب وإن كان صوما منذورا معلقا بوقت معين فقال القاضي : لها النفقة لأن أحمد نص على أنه ليس له منعها ويحتمل أنه إن كان نذرها فبل النكاح أو كان النذر بإذنه لم تسقط نفقتها لأنه كان واجبا عليها بحق سابق على نكاحه أو واجب أذن في سببه وإن كان النذر في نكاحه بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت عليه حقه من الاستمتاع باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه وإن كان النذر مطلقا أو كان صوم كفارة فصامت بإذنه فلها النفقة لأنها أدت الواجب بإذنه فأشبه ما لو صامت المعين في وقته وإن صامت بغير إذنه فقال القاضي : لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي وحق الزوج على الفور وإن كان قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك وإن كان وقته مضيقا مثل أن قرب رمضان الآخر فعليه نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان

مسألة وإذا طلق الرجل زوجته طلاقا لا يملك فيه الرجعة
مسألة : قال : وإذا طلق الرجل زوجته طلاقا لا يملك فيه الرجعة فلا سكنى لها ولا نفقة إلا أن تكون حاملا
وجملة الأمر أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا بائنا فإما أن يكون ثلاثا أو بخلع أو بانت بفسخ وكانت حاملا فلها النفقة والسكنى بإجماع أهل العلم لقول الله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وفي بعض أخبار فاطمة بنت قيس : [ لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا ] ولأن الحمل ولده فيلزمه الانفاق عليه ولا يمكنه النفقة عليه إلا بالانفاق عليها فوجب كما وجبت أجرة الرضاع وإن كانت حائلا فلا نفقة لها وفي السكنى روايتان : إحداهما : لها ذلك وهو قول عمر وابنه وابن مسعود وعائشة وفقهاء المدينة السبعة و مالك و الشافعي للآية والرواية الثانية : لا سكنى لها ولا نفقة وهي ظاهر المذهب وقول علي وابن عباس وجابر و عطاء و طاوس و الحسن و عكرمة و ميمون بن مهران و إسحاق و أبي ثور و داود وقال أكثر الفقهاء العراقيين : لها السكنى والنفقة وبه قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و أصحابه والبتي والعنبري لأن ذلك يروى عن عمر وابن مسعود ولأنها مطلقة فوجبت لها النفقة والسكنى كالرجعية وردوا خبر فاطمة بنت قيس بما روي عن عمر أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امراة وأنكرته عائشة و سعيد بن المسيب وتأولوه
[ ولنا ما روت فاطمة بنت قيس أن وجها طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم تذكر ذلك له فقال : ليس لك عليه نفقة ولا سكنى فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ] متفق عليه وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ انظري يا ابنة قيس إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة فإذا لم يكن له عليها الرجع فلا نفقة ولا سكنى ] رواه الإمام أحمد و الأثرم و الحميدي وغيرهم
قال ابن عبد البر من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحج لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم نصا صريحا فأي شيء يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي هو المبين عن الله مراده ولا شيء يدفع ذلك ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم }
وأما قول عمر ومن وافقه فقد خالفه علي وابن عباس ومن وافقهما والحجة معهم ولو لم يخالفه أحد منهم لما قبل قوله المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة على عمر وعلي غيره ولم يصح عن عمر أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فإن أحمد أنكره وقال : أما هذا فلا ولكن قال : لا نقبل في ديننا قول امرأة وهذا أمر يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع وترده السنة ويخالفه فيه علماء الصحابة ؟ قال إسماعيل بن إسحاق : نحن نعلم أن عمر لا يقول : لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملا بقوله سبحانه : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق
وقد روي أبو داود وغيره من الأئمة بإسنادهم [ عن ابن عباس قال : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما يعني المتلاعنين وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت ] ولأن هذه محرمة عليه تحريما لا تزيله الرجعة فلم يكن لها سكنى ولا نفقة كالملاعنة أو كالأجنبية وفارقت الرجعية في ذلك وأما الرجعية فلها السكنى والنفقة للآية والخبر والإجماع ولأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه

فصل كون الملاعنة لا سكنى لها ولا نفقة
فصل : فأما الملاعنة فلا سكنى لها ولا نفقة إن كانت غير حامل للخبر وكذلك إن كانت حاملا فنفى حملها وقلنا إنه ينتفي عنه أو قلنا إنه ينتفي بزوال الفراش وإن قلنا لا ينتفي بنفيه أو لم ينفه وقلنا إنه يلحقه نسبه فلها السكنى والنفقة لأن ذلك للحمل أو لها بسببه وهو موجود فأشبهت المطلقة البائن فإن نفى الحمل فأنفقت أمه وسكنت من غير الزوج وأرضعت ثم استلحقه الملاعن لحقه ولزمته النفقة وأجر المسكن والرضاع لأنها فعلت ذلك على أنه لا اب له فإذا ثبت له أب لزمه ذلك ورجع به عليه فإن قيل : النفقة لأجل الحمل نفقة الأقارب وهي تسقط بمضي الزمان فكيف ترجع عليه بما يسقط عنه ؟ قلنا : بل النفقة للحامل من أجل الحمل فلا تسقط كنفقتها في الحياة وإن سلمنا أنها للحمل إلا أنها مصروفة إليها ويتعلق بها حقها فلا تسقط بمضي الزمان كنفقتها

فصول بيان نفقة الحمل
فصل : فأما المعتدة من الوفاة فإن كانت حائلا فلا سكنى لها ولا نفقة لأن النكاح قد زال بالموت وإن كانت حاملا ففيها روايتان :
إحداهما : لها السكنى والنفقة لأنها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في الحياة
والثانية : لا سكنى لها ولا نفقة لأن المال قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها إنما هو للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه وإن لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الإنفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة قال القاضي : وهذه الرواية أصح
فصل : وهل تجب نفقة الحمل للحامل من أجل الحمل أو للحمل فيه روايتان : إحداهما : تجب للحمل اختارها أبو بكر لأنها تجب بوجوده وتسقط عند انفصاله فدل على أنها له
والثانية : تجب لها من أجله لأنها تجب مع اليسار والإعسار فكانت له كنفقة الزوجات ولأنها لا تسقط بمضي الزمان فأشبهت نفقتها في حياته و لـ لشافعي قولان كالروايتين وينبني على هذا الاختلاف فروع منها أنها إذا كانت المطلقة الحامل أمة وقلنا النفقة للحمل فنفقتها على سيدها لأنه ملكه وإن قلنا لها فعلى الزوج لأن نفقتها عليه وإن كان الزوج عبدا وقلنا هي للحمل فليس عليه نفقته لأنه لا تلزمه نفقة ولده وإن قلنا لها فالنفقة عليه لما ذكرنا وإن كانت حاملا من نكاح فاسد أو وطء شبهة وقلنا النفقة للحمل فعلى الزوج والواطىء لأنه ولده فلزمته نفقته كما بعد الوضع وإن قلنا للحامل فلا نفقة عليها لأنها ليست زوجة يجب الإنفاق عليها وإن نشزت امرأة إنسان وهي حامل وقلنا النفقة للحمل لم تسقط نفقتها لأن نفقة ولده لا تسقط بنشوز أمه وإن قلنا لها فلا نفقة لها لأنها ناشز
فصل : ويلزم الزوج دفع نفقة الحامل المطلقة إليها يوما فيوما كما يلزمه دفع نفقة الرجعية وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يلزمه دفعها إليها حتى تضع لأن الحمل غير متحقق ولهذا وقفنا الميراث وهذا خلاف قول الله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولأنها محكوم لها بالنفقة فوجب دفعها إليه كالرجعية وما ذكروه غير صحيح فإن الحمل يثبت بالأمارات وتثبت أحكامه في منع النكاح والحد والقصاص وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فهو كالمتحقق ولا يشبه هذا الميراث فإن الميراث لا يثبت إلا بمجرد الحمل فإنه يشترط له الوضع والاستهلال بعد الوضع ولا يوجد ذلك قبله ولأننا لانعلم صفة الحمل وقدره ووجوده توريثه بخلاف مسألتنا فإن النفقة تجب بمجرد الحمل ولا تختلف باختلافه فإذا ثبت هذا فمتى ادعت الحمل فصدقها دفع إليها إن كان حملا فقد استوفت حقها وإن بان أنها ليست حاملا رجع عليها سواء دفع إليها بحكم الحاكم أو بغيره وسواء شرط أنها نفقة أو لم يشترط وعنه : لا يرجع والصحيح أنه يرجع لأنه دفعه على أنه واجب فإذا بان أنه ليس بواجب استرجعه كما لو قضاها دينا فبان أنه لم يكن عليه دين وإن أنكر حملها نظر النساء الثقات فرجع إلى قولهن ويقبل قول المرأة الواحدة إذا كانت من أهل الخبرة والعدالة لأنها شهادة على ما لا يطلع عليه الرجال أشبه الرضاع وقد ثبت الأصل بالخبر

فصل سقوط النفقة عن الزوج في النكاح الفاسد
فصل : ولا تجب النفقة على الزوج في النكاح الفاسد لأنه ليس بينهما نكاح صحيح فإن طلقها أو فرق بينهما قبل الوطء فلا عدة عليها وإن كان بعد الوطء فعليها العدة ولا نفقة لها ولا سكنى إن كانت حائلا لأنه إذا لم يجب ذلك قبل التفريق فبعده أولى وإن كانت حاملا فعلى ما ذكرنا من قبل فإن قلنا لها النفقة إذا كانت حاملا فلها ذلك قبل التفريق لأنه إذا وجب بعد التفريق فقبله أولى ومتى أنفق عليها قبل مفارقتها أو بعدها لم يرجع عليها لأنه إن كان عالما بعدم الوجوب فهو متطوع به وإن لم يكن عالما فهو مفرط فلم يرجع به كما لو أنفق على أجنبية وكل معتدة من الوطء في غير نكاح صحيح كالموطوءة بشبهة وغيرها إن كان يلحق الواطىء نسب ولدها فهي كالموطوءة في النكاح الفاسد وإن كان لا يلحقه نسب ولدها كالزاني فليس عليه نفقتها حاملا كانت أو حائلا لأنه لا نكاح بينهما ولا بينهما ولد ينسب إليه

مسألة مخالعة المرأة زوجها على ابرائه من الحمل
مسألة : قال : وإذا خالعت المرأة زوجها وأبرأته من حملها لم يكن لها نفقة ولا للولد حتى تفطمه
أما إذا خالعته ولم تبرئه من حملها فلها النفقة كما لو طلقها ثلاثا وهي حامل لأن الحمل ولده فعليه نفقته وإن أبرأته من الحمل عوضا في الخلع صح سواء كان العوض كله أو بعضه وقد ذكرناه في الخلع ويبرأ حين تفطمه إذا كانت قد ابرأته من نفقة الحمل وكفالة الولد إلى ذلك أو أطلقت البراءة من نفقة الحمل وكفالته لأن البراءة المطلقة تنصرف إلى المدة التي تستحق المرأة العوض عليه فيها وهي مدة الحمل والرضاع لأن المطلق إذا كان له عرف انصرف إلى العرف وإن اختلفا في مدة الرضاع انصرف إلى حولين لقوله سبحانه : { وفصاله في عامين } وقال تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ثم قال : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } فدل على أنه لا يجوز فصاله قبل العامين إلا بتراض منهما وتشاور وإن قدرا مدة البراءة بزمن الحمل أو بعام أو نحو ذلك فهو على ما قدراه وهو احسن لأنه أقطع للنزاع وأبعد من اللبس والاشتباه ولو أبرأته من نفقة الحمل انصرف ذلك إلى زمن الحمل قبل وضعه قال القاضي : إنما صح مخالعتها على نفقة الولد وهي للولد دونها في حكم المالكة لها لأنها هي القابضة لها المستحقة المتصرفة فيها فإنها في مدة الحمل هي الآكلة لها المنتفعة بها وبعد الولادة هي أجر رضاعتها وهي الآخذة لها المتصرفة فيها أيضا فصارت كملك من أملاكها فصح جعلها عوضا فأما النفقة الزائدة على هذا من كسوة الطفل ودهنه ونحو ذلك فلا يصح أن يعارض به في الخلع لأنه ليس هو لها ولا هو في حكم ما هو لها

مسألة وفصل والناشز لا نفقة لها معنى النشوز
مسألة : قال : والناشز لا نفقة لها فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها
معنى النشوز معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح وأصله من الأرتفاع مأخوذ من النشز وهو المكان المرتفع فكأن الناشز ارتفعت عن طاعة زوجها فسميت ناشزا فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم منهم الشعبي و حماد و مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي و أبو ثور وقال الحكم : لها النفقة وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا خالف هؤلاء إلا الحكم ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها
ولنا أن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه وإذا منعها النفقة كان لها منعه التمكين فإذا منعته التمكين كان له منعها من النفقة كما قبل الدخول ويجانب المهر فإنه يجب بمجرد العقد ولذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة فأما إذا كان له منها ولد فعليه نفقة ولده لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبيرة وعليه ان يعطيها إياها إذا كانت هي الخاضعة له أو المرضعة له وكذلك أجر رضاعها يلزمه تسليمه إلهيا لأنه أجر ملكته عليه بالإرضاع لا في مقابلة الاستمتاع ولا يزول بزواله
فصل : وإذا سقطت نفقة المرأة بنشوزها فعادت عن النشوز والزوج حاضر عادت نفقتها الزوال المسقط لها ووجود التمكين المقتضي لها وإن كان غائبا لم تعد نفقتها حتى يعود التسليم بحضوره أو حضور وكيله أو حكم الحاكم بالوجوب إذا مضى زمن الإمكان ولو ارتدت امرأته سقطت نفقتها فإن عادت إلى الإسلام عادت نفقتها بمجرد عودها لأن المرتدة إنما سقطت نفقتها بخروجها عن الإسلام فإذا عادت إليه زال المعنى المسقط فعادت النفقة وفي النشوز سقطت النفقة بخروجها عن يده أو منعها له من التمكين المستحق عليها ولا يزول ذلك إلا بعودها إلى يده وتمكينه منها ولا يحصل ذلك في غيبته ولذلك لو بذلت تسليم نفسها قبل دخوله بها في حال غيبته لم تستحق النفقة بمجرد البدل كذا ههنا والله أعلم

باب من أحق بكفالة الطفل
كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك ويتعلق بها حق لقرابته لأن فيها ولاية على الطفل واستحقاقا له فيتعلق بها الحق ككفالة اللقيط ولا يثبت الحضانة لطفل ولا معتوه لأنه لا يقدر عليها وهو محتاج إلى من يكفله فكيف يكفل غيره ؟ ولا الفاسق لأنه غير موثوق به في أداء الواجب من الحضانة ولا حظ للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته ولا الرقيق وبهذا قال عطاء و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك في حر له ولد حر من أمة : الأم أحق به إلا أن تباع فتنقل فيكون الأب أحق به لأنها أم مشفقة فأشبهت الحرة
ولنا أنها لا تملك منافعها التي تحصل الكفالة بها لكونهت مملوكة لسيدها فلم يكن لها حضانة كما لو بيعت ونقلت ولا تثبت لكافر على مسلم وبهذا قال مالك و الشافعي وسوار والعنبري وقال ابن القاسم و أبو ثور واصحاب الرأي : تثبت له لما [ روي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع ابن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو أشبهه وقال رافع : ابنتي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اقعد ناحية ـ وقال لها ـ اقعدي ناحية ـ وقال ـ ادعواها فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها ] رواه أبو داود
ولنا أنها ولاية فلا تثبت لكافر على مسلم كولاية النكاح والمال ولأنها إذا لم تثبت للفاسق فالكافر أولى فإن ضرره أكثر فإنه يفتنه عن دينه ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتزيينه له وتربيته عليه وهذا أعظم الضرر والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه فأنا الحديث فقد روي على غير هذا الوجه ولا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال قال ابن المنذر : ويحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم علم أنها تختار أباها بدعوته فكان ذلك خاصا في حقه فأما من بعضه حر فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة فلا حضانة له لأنه لا يقدر عليها لكون منافعه مشترك بينه وبين سيده وإن كان بينهما مهايأة فقياس قول أحمد أن له الحضانة في أيامه لأنه قال : كل ما يتجزأ فعليه النصف من كل شيء وهذا اختيار أبي بكر وقال الشافعي : لا حضانة له لأنه كالقن عنده وهذا أصل قد تقدم =

14.

مجلد 14.  المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني  عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد
 مسألة وفصلان والأم أحق بكفالة الطفل
مسألة : قال : والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت
وجملته أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أو معتوه فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكرا كان أو أنثى وهذا قول يحيى الأنصاري و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و أبي ثور و إسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم [ والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت أحق به ما لم تنكحي ] رواه أبو داود ويروى أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب يعاصم لأمه أم عاصم وقال : ريحها وشمها ولطفها خير له منك رواه سعيد في سننه ولأنها اقرب إليه وأشفق عليه ولا يشاركها في القرب إلا أبوه وليس له مثل شفقتها ولا يتولى الحضانة بنفسه وإنما يدفعه إلى امرأته وأمه أولى به من امرأة أبيه
فصل : فإن لم تكن الأم من أهل الحضانة لفقدان الشروط التي ذكرنا فيها أو بعضها فهي كالمعدومة وتنتقل إلى من يليها في الاستحقاق ولو كان الأبوان من غير أهل الحضانة إلى من يليهما لأنهما كالمعدومين
فصل : ولا تثبت الحضانة إلا على الطفل أو المعتوه فأما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه وإليه الخيرة في الإقامة عند من شاء من أبويه فإن كان رجلا فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عنهما ويستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما وإن كانت جارية لم يكن لها الانفراد ولأبيها منعها منه لأنه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها ويلحق العار بها وبأهلها وإن لم يكن لها أب فلوليها وأهلها منعها من ذلك

مسألة وفصول قال وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير وشروط التخيير
مسألة : قال : وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان مع من اختار منهما
وجملته أن الغلام إذا بلغ سبعا وليس بمعتوه خير بين أبويه إذا تنازعا فيه فمن اختاره منها فهو أولى به قضى بذلك عمر وعلي و شريح وهو مذهب الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يخير لكن قال أبو حنيفة : إذا استقل بنفسه فأكل بنفسه ولبس بنفسه واستنجى بنفسه فالأب أحق به و مالك يقول : الأم أحق به حتى يتغر وأما التخيير فلا يصح لأن الغلام لا قول له ولا يعرف حظه وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدي إلى فساده ولأنه دون البلوغ فلم يخير كمن دون السبع
[ ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خير غلاما بين ابيه وأمه ] رواه سعيد بإسناده و الشافعي وفي لفظ عن أبي هريرة قال : [ جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال له النبي صلى الله عليه و سلم هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد ايهما شئت ] فأخذ بيد أمه فانطلقت به رواه أبو داود ولأنه إجماع الصحابة قروي عن عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد وروي عن عمارة الجرمي أنه قال : خيرني علي بين عمي وأمي وكنت ابن سبع أو ثمان وروي نحو ذلك عن أبي هريرة وهذه قصص في مظنة الشهرة ولم تنكر فكانت إجماعا ولأن التقديم في الحضانة يلحق به الولد فيتقدم من هو أشفق لأن حظ الولد عنده أكثر واعتبرنا الشفقة بمظنتها إذا لم يمكن اعتبارها بنفسها فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن نفسه ويميز بين الإكرام وضده فمال إلى أحد الأبوين دل على أنه أرفق به واشفق عليه فقدم بذلك وقيدناه بالسبع لأنها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالأمر بالصلاة ولأن الأم قدمت في حال الصغر لحاجته إلى حمله ومباشرته خدمته لأنها أعرف بذلك وأقوم به فإذا استغنى عن ذلك تساوى والداه لقربهما منه فرجح باختياره
فصل : ومتى اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار الآخر رد إليه فإن عاد فاختار الأول أعيد إليه هكذا أبدا كلما اختار أحدهما صار إليه لأنه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه في المأكول والمشروب وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت وعند الآخر في وقت وقد يشتهي التسوية بينهما وأن لا ينقطع عنهما وإن خيرناه فلم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما بالقرعة لأنه مزية لأحدهما على صاحبه ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فقدم أحدهما بالقرعة فإذا قدم بها ثم اختار الآخر رد إليه لأننا قدمنا اختياره الثاني على الأول فعلى القرعة التي هي بدل أولى
فصل : فإن كان الأب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالأخ والعم وابنه قام مقام الأب فيخير الغلام بين أمه وعصبته لأن عليا رضي الله عنه خير عمارة الجرمي بين أمه وعمه ولأن عصبة فأشبه الأب وكذلك إن كانت أمة معدومة أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى الجدة خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات فإن كان الأبوان معدومين أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته أو عمته أو خالته قامت مقام أمه في التخيير بينها وبين عصباته للمعنى الذي ذكرناه في الأبوين فإن كان الأبوان رقيقين وليس له أحد من أقاربه سواهما فقال القاضي : لا حضانة لهما عليه ولا نفقة له عليهما ونفقته في بيت المال ويسلم إلى من يحضنه من المسلمين
فصل : وإنما يخير الغلام بشرطين : أحدهما : أن يكونا جميعا من أهل الحضانة فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة كان كالمعدوم ويعين الآخر
الثاني : أن لا يكون الغلام معتوها فإن كان معتوها كان عند الأم ولم يخير لأن المعتوه بمنزلة الطفل وإن كان كبيرا ولذلك كانت الأم بكفالة ولدها المعتوه بعد بلوغه ولو خير الصبي فاختار أباه ثم زال عقله رد إلى الأم وبطل اختياره لأنه إنما خير حين استقل بنفسه فإذا زال استقلاله بنفسه كانت الأم أولى لأنها أشفق عليه وأقوم بمصالحه كما في حال طفوليته

مسألة وفصل حكم تخيير الجارية
مسألة : قال : وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها
وقال الشافعي : تخير الغلام لأن كل سن خير فيه الغلام خيرت فيه الجارية كسن البلوغ وقال أبو حنيفة : الأم أحق بها حتى تزوج أو تحيض وقال مالك : الأم أحق بها حتى تزوج أو يدخل بها الزوج لأنها لا حكم لاختيارها ولا يمكن انفرادها فكانت الأم أحق بها كما قبل السبع
ولنا أن الغرض بالحضانة الحفظ والحفظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى حفظ والأب أولى بذلك فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها ولأنها إذا بلغت السبع قاربت الصلاحية للتزويج [ وقد تزوج النبي صلى الله عليه و سلم عائشة وهي ابنة سبع ] وإنما تخطب الجارية من أبيها لأنه وليها والمالك لتزويجها وهو أعلم بالكفاءة واقدر على البحث فينبغي أن يقدم على غيره ولا يصار إلى تخييرها لأن الشرع لم يرد به فيها ولا يصح قياسها على الغلام لأنه لا يحتاج إلى الحفظ والتزويج كحاجتها إليه ولا على سن البلوغ لأن قولها حينئذ معتبر في إذنها وتوكيلها وإقرارها واختيارها بخلاف مسألتنا ولا يصح قياس ما بعد السبع على ما قبلها لما ذكرنا في دليلنا
فصل : إذا كانت الجارية عند الأم أو عند الأب فإنها تكون عنده ليلا ونهارا لأن تأديبها وتخريجها في جوف البيت من تعليمها الغزل والطبخ وغيرهما ولا حاجة بها إلى الإخراج منه ولا يمنع أحدهما من زيارتها عند الآخر من غير أن يخلو الزوج بأمها ولا يطيل ولا يتبسط لأن الفرقة بينهما تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها وإن كان الغلام عند الأم بعد السبع لاختياره لها كان عندها ليلا ويأخذه الأب نهارا ليسلمه في مكتب أو في صناعة لأن القصد حظ الغلام وحظه فيما ذكرناه وإن كان عند الأب كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيادة أمه لأن منعه من ذلك إغراء بالعقوق وقطعية الرحم وإن مرض كانت الأم أحق بتمريضه في بيتها لأنه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الأم أحق به كالصغير وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته سواء كان ذكرا أو أنثى لأن المرض يمنع المريض من المشي إلى ولده فمشي ولده إليه أولى فأما في حال الصحة فإن الغلام يزور أمه لأنها عورة فسترها أولى والأم تزور ابنتها لأن كل واحدة منهما عورة تحتاج إلى صيانة وستر وستر الجارية أولى لأن الأم قد تخرجت وعقلت بخلاف الجارية

فصل حكم ما لو أراد أحد الأبوين السفر
فصل : وإذا أراد أحد الأبوين السفر لحاجة ثم يعود والآخر مقيم فالمقيم أولى بالحضانة لأن في المسافرة بالولد إضرارا به وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفا فالمقيم أولى بالحضانة لأن في السفر به خطرا به ولو اختار الولد السفر في هذه الحال لم يجب إليه لأن فيه تغريرا به وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه آمن فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المنتقل إلا أن يكون بين البلدين قريب بحيث يراهم الأب كل يوم ويرونه فتكون الأم على حضانتها وقال القاضي : إذا كان السفر دون مسافة القصر فهو في حكم الإقامة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن ذلك في حكم الإقامة في غير هذا الحكم فكذلك في هذا ولأن مراعاة الأب له ممكنة والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه وهو أولى لأن البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله فأشبه مسافة القصر وبما ذكرناه من تقديم الأب عند افتراق الدار بهما قال شريح و مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي : إن انتقل الأب فالأم احق به وإن انتقلت الأم إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهي أحق وإن انتقلت إلى غيره فالأب أحق
وحكي عن أبي حنيفة : إن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق وإن انتقلت إلى بلد آخر فهي أحق لأن في البلد يمكن تعليمه وتخريجه
ولنا أنه اختلف مسكن الأبوين فكان الأب أحق كما لو انتقلت من بلد إلى قرية أو إلى بلد لم يكن فيه أصل النكاح وما ذكروه لا يصح لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب ابنه وتخريجه وحفظ نسبه فإذا لم يكن في بلده ضاع فأشبه ما لو كان في قرية وإن انتقلا جميعا إلى بلد واحد فالأم باقية على حضانتها وكذلك إن أخذه الأب لافتراق البلدين ثم اجتمعا عادت إلى الأم حضانتها وغير الأم ممن له الحضانة من النساء يقوم مقامها وغير الأب من عصبات الولد يقوم مقامه عند عدمهما أو كونهما من غير أهل الحضانة

مسألة وفصول سقوط حق الأم في الحضانة بتزوجها وبيان من يكون أحق بالحضانة
مسألة : قال : فإن لم تكن أم أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من الخالة
في هذه المسألة فصلان : الفصل الأول : أن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من اهل العلم قضى به شريح وهو قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن الحسن أنها لا تسقط بالتزويج
ونقل مهنا عن أحمد : [ إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها قيل له فالجارية مثل الصبي ؟ قال لا الجارية تكون معها إلى سبع سنين ] فظاهر أنه لم يزل الحضانة عن الجارية لتزويج أمها وأزالها عن الغلام ووجه ذلك ما [ روي أن عليا وجعفرا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة فقال علي : ابنة عمي وأنا أخذتها وقال زيد : بنت أخي لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم آخى بين زيد وحمزة وقال جعفر : بنت عمي وعندي خالتها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الخالة أم وسلمها إلى جعفر ] رواه أبو داود بنحو هذا المعنى فجعل لها الحضانة وهي مزوجة
والرواية الأولى هي الصحيحة قال ابن أبي موسى : عليها العمل ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم للمرأة : أنت أحق به ما لم تنكحي ] ولأنها إذا تزوجت اشتغلت بحقوق الزوج عن الحضانة فكان الأب أحظ له ولأن منافعها تكون مملوكة لغيرها فأشبهت المملوكة فأما بنت حمزة فإنما قضى لها لخالتها لأن زوجها من أهل الحضانة ولأنه لا يساويه في الاستحقاق إلا علي وقد ترجح جعفر بأن امرأته من أهل الحضانة فكان أولى وعلى هذا متى كانت المرأة متزوجة لرجل من أهل الحضانة كالجدة تكون متزوجة للجد لم تسقط حضانتها لأنه يشاركها في الولادة والشفقة على الولد فأشبه الأم إذا كانت متزوجة للأب ولو تنازع العمان في الحضانة وأحدهما متزوج للأم أو الخالة فهو أحق لحديث بنت حمزة وكذلك كل عصبتين تساويا وأحدهما متزوج بمن هي من أهل الحضانة قدم بها لذلك وظاهر قول الخرقي أن التزويج بأجنبي يسقط الحضانة بمجرد العقد وإن عري عن الدخول وهو قول الشافعي ويحتمل أن لا تسقط إلا بالدخول وهو قول مالك لأن به تشتغل عن الحضانة
ووجه الأول [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أنت أحق به ما لم تنكحي ] وقد وجد النكاح قبل الدخول ولأن بالعقد يملك منافعها ويستحق زوجها منعها من حضانته فزال حقها كما لو دخل بها
الفصل الثاني : إن الأم إذا عدمت أو تزوجت أو لم تكن من أهل الحضانة واجتمعت أم أب وخالة فأم الأب أحق وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في الجديد وحكي ذلك عن مالك و أبي ثور وروي عن أحمد أن الأخت والخالة أحق من لأب فعلى هذا يحتمل أن تكون الخالة أحق من أم الأب وهو قول الشافعي القديم لأنها تدلي بأم وأم الأب تدلي به فقدم من يدلي بالأم كتقديم أم الأم على أم الأب ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى ببنت حمزة لخالتها وقال : الخالة أم ]
ولنا أن أم الأب جدة فقدمت على الخالة كأم الأم ولأن لها ولادة ووراثة فأشبهت أم الأم فأما الحديث فيدل على أن للخالة حقا في الجملة وليس النزاع فيه إنما النزاع في الترجيح عند الاجتماع وقولهم تدلي بأم قلنا لكن لا ولادة لها فيقدم عليها من له ولادة كتقديم أم الأم على الخالة فعلى هذا متى وجدت جدة وارثة فهي أولى ممن هو من غير عمودي النسب بكل حال وإن علت درجتها لفضيلة الولادة والوراثة فأما أم أبي الأم فلا حصانة لها لأنها تدلي بأبي الأم ولا حضانة له ولا من أدلى به
فصل : فإن اجتمعت أم أم وأم أب فأم الأم أحق وإن علت درجتها لأن لها ولادة وهي تدلي بالأم التي تقدم على الأب فوجبت تقديمها عليها كتقديم الأم على الأب وعن أحمد أن أم الأب أحق وهو قياس قول الخرقي لأنه قدم خالة الأب على خالة الأم وخالة الأب أخت أمه وخالة الأم أخت أمها فإذا قدم أخت أم الأب دل على تقديمها وذلك لأنها تدلي بعصبة مع مساواتها للأخرى في الولادة فوجب تقديمها كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم وإنما قدمت الأم على الأب لأنها التي تلي الحضانة بنفسها فكذلك أمه فإنها أنثى تلي بنفسها فقدمت لما ذكرناه

مسائل وفصول بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة
مسألة : قال : والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم وأحق من الخالة
وجملته أنه إذا عدم من يستحق الحضانة من الآباء والأمهات وإن علو انتقلت إلى الأخوات وقدمن على سائر القرابات كالخالات والعمات وغيرهن لأنهن شاركن في النسب وقدمن في الميراث ولأن العمات والخالات إنما يدلين بأخوة والأمهات ولا ميراث لهن مع ذي فرض ولا عصبة فالمدلي إلى نفس المكفول ويرثه أقرب وأشفق فكان أولى وأولى الأخوات من كان لأبوين لقوة قرابتها ثم من كان لأب ثم من كان لأم نص عليه أحمد وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : الأخت من الأم أولى من الأخت من الأب وهو قول المزني وابن سريج لأنها أدلت بالأم فقدمت على المدلية بالأب كأم الأم مع أم الأب وقال ابن سريج : تقدم الخالة على الأخت من الأب لذلك ولـ أبي حنيفة فيه روايتان
ولنا أن الأخت من الأب أقوى في الميراث فقدمت كالأخت من الأبوين ولا تخفى قوتها فإنها أقيمت مقام الأخت من الأبوين عند عدمها وتكون عصبة مع البنات وتقاسم الجد وما ذكروه من الإدلاء لا يلزم لأن الأخت تدلي بنفسها لكونهما خلقا من ماء واحد لهما تعصيب فكانت أولى والله أعلم
مسألة : قال : وخالة الأب أحق من خالة الأم
وجملته أنه إذا عدمت الأمهات والآباء والأخوات انتقلت الحضانة إلى الخالات ويقدمن على العمات نص عليه أحمد ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات لأنه قدم خالة الأب وهي أخت أمه على خالة الأم وهي أخت أمها فيدل ذلك على تقديم قرابة الأب على قرابة الأم ولأنهن يدلين بعصبة فقدمن كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم
وقال القاضي : مراد الخرقي بقوله خالة الأب أي الخالة من الأب تقدم على الخالة من الأم كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم لأن الخالات أخوات الأم فيجرين في الاستحقاق والتقديم فيما بينهن مجرى الأخوات المفترقات وكذلك الحكم في العمات المفترقات فإن قلنا بتقديم الخالات فإذا انقرضن فالعمات بعدهن وإن قلنا بتقديم العمات فالخالات بعدهن فإذا عدمن انتقلت إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات الأم وهل يقدم خالات الأب على عماته ؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا على في الخالات والعمات فأما عمات الأم فلا حضانة لهن لأنهن يدلين بأبي الأم وهو رجل من ذوي الأرحام لا حضانة له ولا لمن أدلى به
فصل : وللرجال من العصبات مدخل في الحضانة وأولاهم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الأخ من الأبوين ثم الأخ من الأب ثم بنوهم وإن سفلوا على ترتيب الميراث ثم العمومة ثم بنوهم كذلك ثم عمومة الأب ثم بنوهم وهذا قول الشافعي وقال بعض أصحابه : لا حضانة لغير الآباء والأجداد لأنهم لا معرفة لهم بالحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم يكن لهم حضانة كالأجانب
[ ولنا أن عليا وجعفرا اختصما في حضانة ابنة حمزة فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه و سلم ادعاء الحضانة ولأن لهم ولاية وتعصيبا بالقرابة فتثبت لهم الحضانة كالأب والجد ] وفارق الأجانب فإنهم ليست لهم قرابة ولا شفقة ولأن الأجانب تساووا في عدم القرابة فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر والعصبات لهم قرابة يمتازون بها وأحقهم بالحضانة أحقهم بالميراث بعد الآباء والأجداد ويقومون مقام الأب في التخيير للصبي بينه وبين الأم أو غيرهما ممن له الحضانة من النساء ويكونون أحق بالجارية إذا بلغت سبعا إلا ابن العم فإن الجارية لا تسلم إليه إذا بلغت سبعا لأنه ليس بمحرم لها
فصل : فأما الرجال من ذوي الأرحام كالخال والأخ من الأم وأبي الأم وابن الأخت فلا حضانة لهم مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم لأنه ليس بامرأة يتولى الحضانة ولا له قوة قرابة كالعصبات ولا حضانة إلا يدلي بهم كأم أبي الأم وابنة الخال وابنة الأخ من الأم لأنهن يدلين بمن لا حضانة له فإذا لم تثتب للمدلي فللمدلين به أولى فإن لم يكن هناك غيرهم احتمل وجهين : أحدهما : هم أولى لأن لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أولى منهم كذلك الحضانة تكون لهم عند عدم من هو أولى بها منهم والثاني : لا حق لهم في الحضانة وينتقل الأمر إلى الحاكم والأول أولى
فصل : في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء
أولى الكل بها الأم ثم امهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهي في معنى الأم وعن أحمد أن أم الأب وأمهاتها مقدمات على أم الأم فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته والأولى هي المشهورة عند أصحابنا وإن المقدم الأم ثم أمهاتها ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم جد الأب ثم أمهاته وإن كن غير وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أبي الأم
وحكي عن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة من الأب فتكون الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما ومن جميع العصبات والأولى هي المشهورة في المذهب فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتقدم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضان فقدمت على من في درجتها من الرجال كالأم تقدم على الأب وأم الأب على أبي الأب وكل جد في درجة جد تقدم عليه لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه
وفيه وجه آخر أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه والأول أولى وفي تقديم الأخت من الأبوين أو من الأب على الجد وجهان وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ثم الأخ للأب ثم أبناؤهما ولا حضانة للأخ للأم لما ذكرنا فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات ولا حضانة للأخوال فإذا عدمن صارت للعمات ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الأخوة ثم للعم للأبوين ثم للعم للأب ولا حضانة للعم من الأم ثم أبناؤهما ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات الأم ثم إلى عمات الأب ولا حضانة لعمات الأم لأنهن يدلين بأبي الأم ولا حضانة له وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة

فصل إذا تركت الأم الحضانة مع استحقاقها لها
فصل : فإن تركت الأم الحضانة مع استحقاقها لها ففيه وجهان : أحدهما : تنتقل إلى الأب لأن أمهاتها فرع عليها في الاستحقاق فإذا أسقطت حقها سقط فروعها والثاني : تنتقل إلى أمها وهو أصح لأن الأب أبعد فلا تنتقل الحضانة إليه مع وجود أقرب منه كما لا تنتقل إلى الأخت وكونهن فروعا لها لا يوجب سقوط حقوقهن بسقوط حقها كما لو سقط حقها لكونها من غير أهل الحضانة أو لتزوجها وهكذا الحكم في الأب إذا أسقط حقه هل يسقط حق أمهاته ؟ على وجهين وإن كانت من أبوين وأخت من أب فأسقطت الأخت من الأبوين حقها لم يسقط حق الأخت من الأب لأن استحقاقها من غير جهتها وليست فرعا عليها

مسألة رجوع حق الأم المتزوجة في الحضانة إذا طلقت
مسألة : قال : وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت رجعت على حقها من كفالته
وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة و المزني قالا : إن كان الطلاق رجعيا لم يعد حقها لأن الزوجية قائمة فأشبه ما لو كانت في صلب النكاح
ولنا أنها مطلقة فعاد حقها من الحضانة كالبائن وقولهم إنها زوجة قلنا إلا أنه قد عزلها عن فراشه ولم يبق لها عليه قسم ولا لها به شغل وعقد سبب زوال نكاحها فأشبهت البائن في عدتها ويخرج عندنا مثل قولهما لكون النكاح قبل الدخول مزيلا لحق الحضانة مع عدم القسم والشغل بالزوج

فصل وكل قرابة تستحق بها الحضانة منع منها مانع
فصل : وكل قرابة تستحق بها الحضانة منع منها مانع كرق أو كفر أو فسوق أو جنون أو صغر إذا زال المانع مثل أن عتق الرقيق وأسلم الكافر وعدل الفاسق وعقل المجنون وبلغ الصغير عاد حقهم من الحضانة لأن سببها قائم وإنما امتنعت لمانع فإذا زال المانع عاد الحق بالسبب السابق الملازم كالزوجة إذا طلقت

مسألة وفصل حق الزوج في منع امرأته من ارضاع ولدها
مسألة : قال : وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه التلف
وجملة ذلك أن للزوج منع امرأته من رضاع ولدها من غيره ومن رضاع ولد غيرها إلا أن يضطر إليها لأن عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان من كل الجهات سوى أوقات الصلوات والرضاع يفوت عليه الاستمتاع في بعض الأوقات فكان له المنع كالخروج من منزله فإن اضطر الولد بأن لا توجد مرضعة سواها أو لا يقبل الولد الارتضاع من غيرها وجب التمكين من إرضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها فقدم على حق الزوج كتقديم المضطر المالك إذا لم يكن بالمالك مثل ضرورته
فصل : فإن أرادت إرضاع ولدها منه فكلام الخرقي يحتمل وجهين : أحدهما : أن له منعها من رضاعة لعموم لفظه وهو قول الشافعي لأنه يخل باستمتاعه منها فأشبه ما لو كان الولد من غيره والثاني : ليس له منعها فلإنه قال : وإن أرادت رضاع ولدها بأجرة مثلها فهي أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة وذلك لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وهذا خبر يراد به أمر وهو عام في كل والدة ولا يصح من أصحاب الشافعي حمله على المطلقات لأنه جعل لهن رزقهن وكسوتهن وهم لا يجيزون جعل ذلك أجر الرضاع ولا غيره وقولنا في الوجه الأول إنه يخل باستمتاعه قلنا : ولكن لإيفاء حق عليه وليس ذلك ممتنعا كما أن قضاء دينه بدفع ماله فيه واجب سيما إذا تعلق به حق الولد في كونه مع أمه وحق الأم في الجمع بينها وبين ولدها وهذا الوجه ظاهر كلام ابن أبي موسى وهو ظاهر كلام القاضي أبي يعلى

فصلان وإن أجرت المرأة نفسها للرضاع
فصل : وإن أجرت المرأة نفسها للرضاع ثم تزوجت صح النكاح ولم يملك الزوج فسخ الإجارة وله منعها من الرضاع حتى تنقضي المدة لأن منافعه ملكت بعقد سابق على نكاحه فأشبه ما لو اشترى أمة مستأجرة أو دارا مشغولة فإن نام الصبي أو اشتغل بغيرها فللزوج الاستمتاع وليس لولي الصبي منعه وبهذا قال الشافعي وقال مالك : ليس له وطؤها إلا برضاء الولي لأن ذلك ينقص اللبن
ولنا أن وطء الزوج مستحق بالعقد فلا يسقط بأمر مشكوك فيه كما لو أذن الولي فيه ولأنه يجوز له الوطء مع إذن الولي فجاز مع عدمه لأنه ليس للولي الإذن فيما يضر الصبي ويسقط حقوقه
فصل : وإن أجرت المرأة المزوجة نفسها للرضاع بإذن زوجها جاز ولزم العقد لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وإن أجرتها بغير إذن الزوج لم يصح لما يتضمن من تفويت حق زوجها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر يصح لأنه تناول محلا غير محل النكاح لكن للزوج فسخه لأنه يفوت به الاستمتاع ويختل
ولنا أنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق فلم يصح كإجارة المستأجر

مسألة وفصول كون رضاع الولد انما يجب على الأب وحده وفروع في الرضاع
مسألة : قال : وعلى الأب أن يسترضع لولده إن أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أن رضاع الولد على الأب وحده وليس له إجبار أمه على رضاعه دنيئة كانت أم شريفة سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة ولا نعلم في عدم إجبارها على ذلك إذا كانت مفارقة خلافا فأما إن كانت مع الزوج فكذلك عندنا وبه يقول الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح : له إجبارها على رضاعها وهو قول أبي ثور ورواية عن مالك لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } والمشهور عن مالك أنها إن كانت شريفة لم تجر عادة مثلها بالرضاع لولدها لم تجبر عليه وإن كانت ممن ترضع في العادة أجبرت عليه
ولنا قوله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } وإذا اختلفا فقد تعاسرا ولأن الإجبار على الرضاع لا يخلو إما أن يكون لحق الولد أو لحق الزوج أو لهما : لا يجوز أن يكون لحق الزوج فإنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما يختص به ولا يجوز أن يكون لحق الولد فإن ذلك لو كان له للزمها بعد الفرقة ولأنه مما يلزم الوالد لولده فلزم الأب على الخصوص كالنفقة أو كما بعد الفرقة ولا يجوز أن يكون لهما لأن ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض ولأنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة والآية محمولة على حال الاتفاق وعدم التعاسر
الفصل الثاني : إن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجر مثلها فهي أحق به سواء كانت في حال الزوجية أو بعدها وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد وقال أصحاب الشافعي : إن كانت في حبال الزوج فلزوجها منعها من إرضاعه لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان وإن استأجرها على رضاعة لم يجز لأن المنافع حق له فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له وإن أرضعت الولد فهل لها أجر المثل ؟ على وجهين وإن كانت مطلقة وطلبت أجر المثل فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من ترضعه بأجر المثل أو أكثر لم يكن له ذلك وإن وجد متبرعة أو من ترضعه بدون أجر المثل فله انتزاعه منها في ظاهر المذهب لأنه لا يلزمه المؤنة مع دفع حاجة الولد بدونها وقال أبو حنيفة : إن طالبت الأجر لم يلزم الأب بذلها لها ولا يسقط حقها من الحضانة وتأتي المرضعة عندها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز الإخلال بأحدهما
ولنا على الأول ما تقدم وعلى جواز الاستئجار أنه عقد إجارة يجوز من غير الزوج إذا أذن فيه فجاز مع الزوج كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة وقولهم إن المنافع مملوكة له غير صحيح فإنه لو ملك منفعة الحضانة لملك إجبارها عليها ولم تجز إجارة نفسها لغيره بإذنه ولكانت الأجرة له وإنما امتنعت إجارة نفسها لأجنبي بغير إذنه لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الأوقات ولهذا جازت بإذنه وإذا أستأجرها فقد أذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجر مثلها على المتبرعة فقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقوله سبحانه : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولأن الأم أحنى وأشفق ولبنها أمرأ من لبن غيرها فكانت أحق به من غيرها كما لو طلبت الأجنبية رضاعه بأجر مثلها ولأن في رضاع غيرها تفويتا لحق الأم من الحضانة وإضرارا بالولد لا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب وقول أبي حنيفة يفضي إلى تفويت حق الولد من لبن أمه وتفويت الأم في إرضاعه لبنها فلم يجز ذلك كما لو تبرعت برضاعه فأما إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها ووجد الأب من ترضعه بأجر مثلها أو متبرعة جاز انتزاعه منها لأنها أسقطت حقها باشتطاطها وطلبها ما ليس لها فدخلت في عموم قوله : { فسترضع له أخرى } وإن لم يجد مرضعة إلا بمثل تلك الأجرة فالأم أحق لأنهما تساوتا في الأجر فكانت الأم أحق كما لو طلبت كل واحدة منهما أجر مثلها
فصل : وإن طلبت ذات الزوج الأجنبي إرضاع ولدها بأجرة مثلها بإذن زوجها ثبت حقها وكانت أحق به من غيرها لأن الأم إنما منعت من الإرضاع لحق الزوج فإذا أذن فيه زال المانع فصارت كغير ذات الزوج وإن منعها الزوج سقط حقها لتعذر وصولها إلى ذلك
فصل : وإن أرضعت المرأة ولدها وهي في حبال والده فاحتاجت إلى زيادة نفقة لزمه لقول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولأنها تستحق عليه قدر كفايتها فإذا زادت حاجتها زادت كفايتها والله أعلم

باب نفقة المماليك مسألة وفصل تقدير نفقة الرقيق وكيفية صرفها إليه
مسألة : قال رحمه الله : وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسرهم بالمعروف
وجملة ذلك أن نفقة المملوكين ثابتة بالسنة والإجماع : أما السنة فما [ روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إخوانكم خولكم جعلهم الله تحب أيديكم فمن كان أخوة تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم ] متفق عليه
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ] رواه الشافعي في مسنده وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده ولأنه لا بد له من نفقة ومنافعه لسيده وهو أخص الناس به فوجبت نفقته عليه كبهيمته والواجب من ذلك قدر كفايته من غالب قوت البلد سواء كان قوت سيده أو دونه أو فوقه وأدم مثله بالمعروف ل [ قوله عليه السلام : للملوك طعامه وكسوته بالمعروف والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه لقوله : فليطعمه مما يأكل ] فجمعنا بين الخبرين وحملنا خبر أبي هريرة على الإجزاء وحديث خبر أبي ذر على الاستحباب والسيد مخير بين أن يجعل نفقته من كسبه إن كان له كسب وبين أن ينفق عليه من ماله ويأخذ كسبه أو يجعله برسم خدمته لأن الكل ماله فإن جعل نفقته في كسبه فكانت وفق الكسب صرفه إليها وإن فضل من الكسب شيء فهو لسيده وإن كان فيه عوز فعلى سيده تمامها وأما الكسوة فبالمعروف من غالب الكسوة لأمثال العبد في ذلك البلد الذي هو به والأولى أن يلبسه من لباسه ل [ قوله عليه السلام : وليلبسه مما يلبس ] ويستحب أن يساوي بين عبيده الذكور في الكسوة والإطعام وبين إمائه إن كن للخدمة أو الاستمتاع وإن كان فيهن من هو للخدمة وفيهن من هو للاستمتاع فلا بأس بزيادة من يزيدها للاستمتاع في الكسوة لأن ذلك حكم العرف ولأن غرضه تجميل من يزيدها للاستمتاع بخلاف الخادمة
فصل : إذا تولى أحدهم طعامه استحب له أن يجلسه معه فيأكل فإن لم يفعل استحب أن يطعمه منه ولا لقمة أو لقمتين لما [ روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كفى أحدكم خادمة طعامه حره ودخانه فليدعه وليجلسه فإن أبى فليروغ له اللقمة واللقمتين ] رواه البخاري ومعنى ترويغ اللقمة غمسها في المرق والدسم وترويتها بذلك ويدفعها إليه ولأنه يشتهيه لحضوره فيه وتوليه إياه وقد قال الله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } الآية ولأن نفس الحاضرة تتوق ما لا تتوق نفس الغائب

مسائل وفصول معاملة المماليك
فصل : ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق وهو ما يشق عليه ويقرب من العجز عنه لحديث أبي ذر ولأن ذلك يضر به ويؤذيه وهو ممنوع من الإضرار به
فصل : ولا يجبر المملوك على المخارجة ومعناه أن يضرب عليه خراجا معلوما يؤديه وما فضل للعبد لأن ذلك عقد بينهما فلا يجبر عليه كالكتابة وإن طلب العبد ذلك وأباه لم يجبر عليه أيضا فإن اتفقا على ذلك جاز [ لما روي أن أبا ظبية حجم النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاه أجره وأمر مواليه أن يخففوا عنه من خراجه ] وكان كثير من الصحابة يضربون على رقيقهم خراجا فروي أن الزبير كان له ألف مملوك على كل واحد منهم كل يوم درهم وجاء أبو لؤلؤة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فسأله أن يسأل المغيرة بن شعبة يخفف عنه من خراجه ثم ينتظر فإن كان ذا كسب يجعل عليه بقدر ما يفضل من كسبه عن نفقته وخراجه شيء جاز فإن لهما به نفعا فإن العبد يحرص على الكسب وربما فضل معه شيء يزيده في نفقته ويتسع به وإن وضع عليه أكثر من كسبه بعد نفقته لم يجز وكذلك إن كلف من لا كسب له المخارجة لم يجز لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : [ لا تكلفوا الصغير الكسب فإنكم متى تكلفوه الكسب سرق ولا تكلفوا المرأة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها ولأنه متى كلف غير ذي الكسب خراجا كلفه ما يغلبه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تكلفوهم ما يغلبهم ] وربما حمله ذلك عل أن يأتي به من غير وجهه فلم يكن للسيد أخذه
فصل : وإذا مرض المملوك أو زمن أو عمي أن انقطع كسبه فعلى سيده القيام به والإنفاق عليه لأن نفقة تجب بالملك ولهذا تجب مع الصغير والملك باق مع العمى والزمانة فتجب نفقته مع عموم النصوص المذكورة في أول الباب
مسألة : قال : وإن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك
وجملة ذلك أنه يجب على السيد إعفاف مملوكه إذا طلب ذلك وهو أحد قولي الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : لا يجبر عليه لأن فيه ضررا عليه وليس مما تقوم به البنية فلم يجبر علهي كإطعام الحلواء
ولنا قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } والأمر يقتضي الوجوب ولا يجب إلا عند الطلب وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال : من كانت له جارية فلم يزوجها ولم يصبها أو عبد فلم يزوجه فما صنعا من شيء كان على السيد ولولا وجوب إعفافهما لما لحق السيد الإثم بفعلهما ولأنه مكلف محجور عليه دعي إلى تزويجه فلزمته إجابته كالمحجور عليه للسفه ولأن النكاح مما تدعو إليه الحاجة غالبا ويتضرر بفواته فأجبر عليه كالنفقة بخلاف الحلواء إذا ثبت هذا فالسيد مخير بين تزويجه أو تمليكه أمة يتسراها وله أن يزوجه عند طلبه لأن هذا مما يختلف الناس فيه وفي الحاجة إليه ولا تعلم حاجته إلا بطلبه ولا يجوز تزويجه إلا باختياره فإن اجبار العبد الكبير على النكاح غير جائز فأما الأمة فالسيد مخير بين تزويجها إذا طلبت ذلك وبين أن يستمتع بها فيغنيها باستمتاعه عن غيره لأن المقصود قضاء الحاجة وإزالة ضرر الشهوة وذلك يحصل بأحدهما فلم يتعين أحدهما
فصل : وإذا كان للعبد زوجة فعلى سيده تمكينه من الاستمتاع بها ليلا لأن إذنه في النكاح إذن في الاستمتاع المعتاد والعادة جارية بذلك ليلا وعليه نفقة زوجته على ما قدمنا
مسألة : قال : فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك
وجملته أن السيد إذا امتنع مما يجب للعبد عليه من نفقة أو كسوة أو تزويج فطلب العبد البيع أجبر سيده عليه سواء كان امتناع السيد من ذلك لعجزه عنه أو مع قدرته عليه لأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بسد خلاته إضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجبت إزالته ولذلك أبحنا للمرأة فسخ النكاح عند عجز زوجها عن الإنفاق عليها
وقد روي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ عبدك يقول أطعمني وإلا فبعني وامرأتك تقول أطعمني أو طلقني ] وهذا يدل بمفهومه على أن السيد متى وفى بحقوق عبده فطلب العبد بيعه لم يجبر السيد عليه وقد نص عله أحمد قال أبو داود : قيل لأبي عبد الله رحمه الله : استباعت المملوكة وهو يكسوها مما يلبس ويطعمها مما يأكل ؟ قال : لا تباع وإن أكثرت من ذلك إلا أن تحتاج إلى زوج فتقول زوجني وقال عطاء و إسحاق في العبد يحسن إليه سيده وهو يستبيع : لا يبعه لأن الملك للسيد والحق له فلا يجبر على إزالته من غير ضرر بالعبد كما لا يجبر على طلاق زوجته مع القيام بما يجب لها ولا على بيع بهيمته مع الإنفاق عليها
مسألة : قال : وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز
لا خلاف في أن المكاتب لا تلزم سيده نفقته لأن المكاتبة عقد أوجب ملك المكاتب إكساب نفسه ومنافعه ومنع السيد من التصرف فيهما فلا يملك استخدامه ولا إجارته ولا إعارته ولا أخذ كسبه ولا أرش الجناية عليه ولا يلزمه أداء أرش جنايته فسقطت نفقته عنه كما لو باعه أو أعتقه فإذا عجز عاد رقيقا قنا وعاد إليه ملك نفعه وإكسابه فعادت عليه نفقته كما لو اشتراه بعد بيعه

مسائل وفصول حكم رهن المملوك وتأديبه
مسألة : قال : وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه
أما إذا أراد استرضاع أمته لغير ولدها مع كونه لا يفضل عنه فليس له ذلك لأن فيه إضرارا بولدها لنقصه من كفايته وصرف اللبن المخلوق لولدها إلى غيره مع حاجته إليه فلم يجز كما لو أراد أن ينقص الكبير من كفايته ومؤنته فإن كان فيها فضل عن ري ولدها جاز لأنه ملكه وقد استغنى عنه الولد فكان له استيفاؤه كالفاضل من كسبها عن مؤنتها وكما لو مات ولدها وبقي لبنها
مسألة : قال : وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده
وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ونفقته من غرمه ] ولأنه ملك الراهن ونماؤه له فكانت عليه نفقته كغير الرهن وقد ذكرت هذه المسألة في باب الرهن
مسألة : قال : وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه
إنما كان كذلك لأن نفقة العبد على سيده وقد قام الذي جاء مقام سيده في الواجب عليه فرجع به عليه كما لو أذن له وقال الشافعي : لا يرجع بشيء لأنه متبرع بإنفاق لم يجب عليه
ولنا أنه أدى عنه ما وجب عليه تعذر أدائه منه فرجع به عليه كما لو أدى الحاكم عن الممتنع من الإنفاق على امرأته ما يجب عليه من النفقة ويتخرج أن لا يرجع بشيء بناء على الرواية الأخرى فيمن أنفق على الرهن الذي عنده أو الوديعة أو الجمال إذا هرب الجمال فتركها مع المستأجر
فصل : وله تأديب عبده وأمته إذا أذنبا بالتوبيخ والضرب الخفيف كما يؤدب ولده وامرأته في النشوز وليس له ضربه على غير ذنب ولا ضربه ضربا مبرحا وإن أذنب ولا لطمه في وجهه [ وقد روي عن ابن مقرن المزني قال : لقد رأيتني سابع سبعة ليس لنا إلا خادم واحد فلطمها أحدنا فأمرنا النبي صلى الله عليه و سلم بإعتاقها فأعتقناها ] [ وروي عن أبي مسعود قال : كنت أضرب غلاما لي فإذا رجل من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود فالتقت فإذا النبي صلى الله عليه و سلم يقول : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ]

فصل في النفقة على البهيمة
فصل : ومن ملك بهيمة لزمه القيام بها والإنفاق عليها ما تحتاج إليه من علفها أو إقامة من يرعاها لما روى ابن عمر أن النب صلى الله عليه و سلم قال : [ عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فلا هي أطعمتها ولا ارسلتها تأكل من خشاش الأرض ] متفق عليه فإن امتنع من الإنفاق عليها أجبر على ذلك فإن أبى أو عجز أجبر على بيعها أو ذبحها إن كانت مما يذبح وقال أبو حنيفة : لا يجبره السلطان بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأن البهيمة لا يثبت لها حق من جهة الحكم ألا ترى أنه لا تصح منها الخصومة ولا ينصب عليها خصم فصارت كالزرع والشجر
ولنا أنها نفقة حيوان واجبة عليه فكان للسلطان إجباره عليها كنفقة العبيد ويفارق الشجر والزرع فإنها لا تجب فإن عجز عن الإنفاق وامتنع عن البيع يبعث عليه كما يباع العبد إذا طلب البيع عند إعسار سيده بنفقته وكما يفسخ نكاحه إذا أعسر بنفقة امرأته وإن عطبت البهيمة فلم ينتفع بها فإن كانت مما يؤكل خير بين ذبحها والإنفاق عليها وإن كانت مما لا يؤكل أجبر على الإنفاق عليها كالعبد الزمن على ما ذكرناه فيما مضى [ ولا يجوز أن يحمل البهيمة ما لا تطيق لأنها في معنى العبد وقد منع النبي صلى الله عليه و سلم تكليف العبد ما لا يطيق ] لأن فيه تعذيبا للحيوان الذي له حرمة في نفسه وإضرار به وذلك غير جائز ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن كفاية ولدها لأن كفايته واجبة على مالكه ولبن أمه مخلوق له فأشبه ولد الأمة

كتاب الجراح
يعني كتاب الجنايات وإنما عبر عنها بالجراح لغلبة وقوعها به والجناية كل فعل عدوان على نفس أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان وسموا الجنايات على الأموال غصبا ونهبا وسرقة وخيانة وإتلافا

فصل تحريم القتل بغير حق ثابت بالكتاب والسنة والإجماع
فصل : وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع ؟ أما الكتاب فقول الله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقالت تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } وقال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } الآية
وأما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه وروى عثمان وعائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله في آي وأخبار سوى هذه كثيرة ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمدا فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس : أن توبته لا تقبل للآية التي ذكرناها وهي من آخر ما نزل قال ابن عباس : ولم ينسخها شيء ولأن لفظ الآية لفظ الخبر والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقا
ولنا قول الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فجعله داخلا في المشيئة وقال تعالى : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن رجلا قتل مائة رجل ظلما ثم سأل هل له من توبة ؟ فدل على عالم فسأله فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ولكن اخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله إليهم ملكا فقال : قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها ] ولأن التوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى والآية محمولة على من لم يتب أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه وله العفو إذا شاء وقوله : لا يدخلها النسخ قلنا لكن يدخلها التخصيص والتأويل

مسألة والقتل على ثلاثة أوجه
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : والقتل على ثلاثة أوجه عمد وشبه العمد وخطأ
أكثر أهل العلم يرون القتل منقسما إلى هذه الأقسام الثلاثة روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال الشعبي و النخعي و قتادة و حماد وأهل العراق و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه العمد وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما [ روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ] رواه أبو داود وفي لفظ : [ قتيل خطأ العمد ] وهذا نص يقدم على ما ذكروه وقسمة أبو الخطاب أربعة أقسام فزاد قسما رابعا وهو ما أجري مجرى الخطأ نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله أو يقع عليه من علو والقتل بالسبب كحفر البئر ونصل السكين وقتل غير المكلف أجري مجرى الخطأ وإن كان عمدا وهذه الصورة التي ذكرها عند الأكثرين من قسم الخطأ فإن صاحبها لم يعمد الفعل أو عمده وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ فأعطوه حكمه وقد صرح الخرقي بذلك فقال في الصبي والمجنون : عمدهما خطأ

مسألة القتل العمد أنواعه وأحكامه
مسألة : قال : فالعمد ما ضربه بحديدة أو خشبه كبيرة فوق عمود الفسطاط أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة أو فعل به فعلا الغالب من ذلك الفعل أنه يتلف
وجملة ذلك أن العمد نوعان :
أحدهما : أن يضربه بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين والسنان وما في معناه مما يحد فيخرج من الحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والزجاج والحجر والقصب والخشب فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين العلماء فيما علمناه فأما إن جرحه جرحا صغيرا كشرطة الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة نظرت فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ وأصل الأذن فمات فهو عمد أيضا لأن الإصابة بذلك في المقتل كالجرح بالسكين في غير المقتل وإن كان في مقتل نظرت فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير لأن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل كالكبير وإن كان الغور يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا بالكبير جرحا لطيفا كشرطة الحجام فما دونها فقال أصحابنا : إن بقي من ذلك ضمنا حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات وإن مات في الحال ففيه وجهان : أحدهما : لا قصاص فيه قاله ابن حامد لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غالبا فأشبه العصا والسوط والتعليل الأول أجود لأنه لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهرا كان ذلك شبهة في درء القصاص ولو كانت العلة كونه لا يحصل به القتل غالبا لم يفترق الحال بين موته في الحال وموته متراخيا عنه كسائر ما لا يجب به القصاص والثاني : فيه القصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو قطع أنملته ولأنه لما لم يمكن إدارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونهمحددا ولا يعتبر ظهور الحكم في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما إذا بقي ضمنا مع أن العمد لا يختلف مع اتحاد الآلة والفعل بسرعة الإفضاء وإبطائه ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية ومور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يفرق بين الصغير والكبير وهو مذهب أبي حنيفة ولـ لشافعي من التفصيل نحو ما ذكرنا
النوع الثاني : القتل بغير المحدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهذا عمد موجب للقصاص أيضا وبه قال النخعي و الزهري و ابن سيرين و حماد وعمروبن دينار و ابن أبي ليلى و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف ومحمد وقال الحسن : لا قود في ذلك وروي ذلك عن الشعبي وقال ابن المسيب و عطاء و طاوس : العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة : لا قود في ذلك إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد روايتان واحتج بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل ] فسماه عمد الخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح
ولنا قول الله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وهذا مقتول ظلما وقال الله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى }
[ وروى أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين ] متفق عليه [ وروى أبو هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما يودي وإما أن يقاد ] متفق عليه ولأنه يقتل غالبا فأشبه المحدد وأما الحديث فمحمول على المثقل الصغير لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحج فدل على أنه أراد ما يشبههما وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع فإننا نوجب القصاص بما نتيقن حصول الغلبة به فإذا شككنا لم نوجبه مع الشك وصغير الجرح قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل ما لو قتله بالنار أو بمثقل الحديد إذا ثبت هذا فإن هذا النوع يتنوع أنواعا
أحدها : أن يضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالبا سواء كان من حديد كاللت والسندان والمطرقة أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة وحد الخرقي الخشبة الكبيرة بما فوق عمود الفسطاط يعني العمد التي يتخذها الأعراب لبيوتها وفيها دقة فأما عمد الخيام فكبيرة تقتل غالبا فلم يردها الخرقي وإنما حد الموجب للقصاص بما فوق عمود الفسطاط ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جاريتها بعمود فسطاط فقتلتها وجنينها قضى النبي صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة وقضى بالدية على عاقلتها ] والعاقلة لا تحمل العمد فدل على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد وإن كان أعظم منه فهو عمد لأنه يقتل غالبا ومن هذا النوع أن يلقي عليه حائطا أو صخرة أو خشبة عظيمة أو ما أشبه مما يهلكه غالبا فيهلكه ففيه القود لأنه يقتل غالبا
النوع الثاني : أن يضربه بمثقل صغير كالعصا والسوط والحجر الصغير أو يلكزه بيده في مقتل أو في حال ضعف من المضروب لمرض أو صغر أو في زمن مفرط الحر أو البرد بحيث تقتله تلك الضربة أو كرر الضرب حتى قتله بما يقتل غالبا ففيه القود لأنه قتله بما يقتل مثله غالبا فأشبه الضرب بمثقل كبير ومن هذا النوع لو عصر خصيته عصرا شديدا فقتله بعصر يقتل مثله غالبا فعليه القود وإن لم يكن كذلك في جميع ما ذكرناه فهو عمد الخطأ وفيه الدية إلا أن يصغر جدا كالضربة بالقلم والأصبع في غير مقتل ونحو هذا مما لا يتوهم القتل به فلا قود فيه ولا دية لأنه لم يمت به وكذلك إن مسه بالكبير ولم يضربه به لأن الدية إنما تجب بالقتل وليس هذا بقتل
النوع الثالث : أن يمنع خروج نفسه وهو ضربان : أحدهما : أن يجعل في عنقه خراطة ثم يعلقه في خشبة أو شيء بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت فهذا عمد سواء مات في الحال أو بقي زمنا لأن هذا أوحى أنواع الخنق وهو الذي جرت العادة بفعله من الولادة في اللصوص وأشباههم من المفسدين والضرب الثاني : أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو منديل أو حبل أو يغمه بوسادة أو شيء يضعه على فيه وأنفه أو يضع يديه عليهما فيموت فهذا إن فعل به ذلك مدة يموت في مثلها غالبا فمات فهو عمد فيه القصاص وبه قال عمر بن عبد العزيز و النخعي و الشافعي وإن فعله في مدة لا يموت في مثلها غالبا فمات فهو عمد الخطأ إلا أن يكون ذلك يسيرا في العادة بحيث لا يتوهم الموت منه فلا يوجب ضمانا لأنه بمنزلة لمسه وإن خنقه وتركه مثلا حتى مات ففيه القود لأنه مات من سراية جنايته فهو كالميت من سراية الجرح وإن تنفس وصح ثم مات فلا قود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فأشبه مالو اندمل الجرح ثم مات
النوع الرابع : أن يلقيه في مهلكة وذلك على أربعة أضرب أحدها : أن يلقيه من شاهق كرأس جبل أو حائط عال يهلك به غالبا فيموت فهو عمد الثاني : أن يلقيه في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منه إما لكثرة الماء أو النار وإما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر أو كونه مربوطا أو منعه الخروج أو كونه في حفيرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا أو القاه في بئر ذات نفس فمات به عالما بذلك فهذا كله عمد لأنه يقتل غالبا وإن ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه اختيارا حتى مات فلا قود ولا دية لأن هذا الفعل لم يقتله وإنما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره وإن تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبا وهل يضمنه ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يضمنه لأنه ملك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه والثاني : يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضي إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان كما لو فصده فترك شد فصاده مع إمكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه وفارق الماء لأنه لا يهلك بنفسه ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة والصيد وأما النار فيسيرها يهلك وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله : أنا قادر على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حررة شديدة فربما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلص به أو أذهبت عقله بألمهاوروعتها وإن القاه في لجة لا يمكنه التخلص منها فالتقمه حوت ففيه وجهان : أحدهما : عليه القود لأنه القاه في مهلكة فهلك فأشبه ما لو غرق فيها والثاني : لا قود عليه لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمي آخر وإن ألقاه في ماء يسير فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالبا وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله
الضرب الثالث : أن يجمع بينه وبين أسد أو نمر في مكان ضيق كزينة ونحوها فيقتله فهذا عمد فيه القصاص إذا فعل السبع به فعلا يقتل مثله وإن فعل به فعلا لو فعله الآدمي لم يكن عمدا لم يجب القصاص به لأن السبع صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله وإن ألقاه مكتوفا بين يدي الأسد أو النمر في فضاء فأكله فعليه القود وكذلك إن جمع بينه وبين حية في مكان ضيق فنهشته فقتلته فعليه القود وقال القاضي : لا ضمان عليه في الصورتين وهو قول أصحاب الشافعي لأن الأسد والحية يهربان من الآدمي ولأن هذا سبب غير ملجىء
ولنا أن هذا يقتل غالبا فكان عمدا محضا كسائر الصور وقولهم : إنهما يهربان غير صحيح فإن الأسد يأخذ الآدمي المطلق فكيف يهرب من مكتوف ألقي إليه ليأكله ؟ والحية إنما تهرب في مكان واسع أما إذا ضاق المكان فالغالب أنها تدقع عن نفسها بالنهش على ما هو العادة
وقد ذكر القاضي فيمن ألقي مكتوفا في ارض مسبعة أو ذات حيات فقتلته أن في وجوب القصاص روايتين وهذا تناقض شديد فإنه نفي الضمان بالكلية في صورة كان القتل فيها أغلب وأوجب القصاص في صورة كان فيها أندر والصحيح أنه لا قصاص ههنا ويجب الضمان لأنه فعل به فعلا متعمدا تلف به لا يقتل مثله غالبا وإن أنهشه حية أو سبا فقتله فعليه القود إذا كان ذلك ممايقتل غالبا فإن كان مما لا يقتل غالبا كثعبان الحجاز أو سبع صغير ففيه وجهان : أحدهما : فيه القود لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل به وهذا جرح ولأن الحية من جنس ما يقتل غالبا والثاني : هو شبيه العمد لأنه لا يقتل غالبا أشبه الضرب بالعصا والحجر وإن كتفه وألقاه في أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه العمد وقال أصحاب الشافعي : هو خطأ محض
ولنا أنه فعل به فعلا لا يقتل مثله غالبا فأفضى إلى هلاكه أشبه ما لو ضربه بعصا فمات وكذلك إن ألقاه مشدودا في موضع لم يعهد وصول زيادة الماء إليه فأما إن كان في موضع يعلم وصول زيادة الماء إليه في ذلك الوقت فمات بها فهو عمد محض وإن كانت غير معلومة إما لكونه تحتمل الوجود وعدمه أو لا تعهد أصلا فهو شبه عمد
الضرب الرابع : أن يحبسه في مكان ويمنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت فعليه القود لأن هذا يقتل غالبا وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال فإذا كان عطشان في شدة الحر مات في الزمن القليل وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا في زمن طويل فيعتبر هذا فيه وإن كان في مدة يموت في مثلها غالبا ففيه القود وإن كان لا يموت في مثلها غالبا فهو عمد الخطأ وإن شككنا فيها لم يجب القود لأننا شككنا في السبب ولا يثبت الحكم مع الشك في سببه سيما القصاص الذي يسقط بالشبهات
النوع الخامس : أن يسقيه سما أو يطعمه شيئا قاتلا فيموت به فهو عمد موجب للقود إذا كان مثله يقتل غالبا وإن خلطه بطعام وقدمه إليه فأكله أو أهداه إليه أو خلطه بطعام رجل ولم يعلم ذلك فأكله فعليه القود لأنه يقتل غالبا وقال الشافعي في أحد قوليه : لا قود عليه لأنه أكله مختارا فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فطعن بها نفسه ول [ أن أنس بن مالك روى أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه و سلم ولم يقتلها النبي صلى الله عليه و سلم ] قال : وهل يجب القود ؟ فيه قولان
[ ولنا خبر اليهودية فإن أبا سلمة قال فيه : فمات بشر بن البراء فأمر بها النبي صلى الله عليه و سلم فقتلت ] أخرجه أبو داود ولأن هذا يقتل غالبا ويتخذ طريقا إلى القتل كثيرا فأوجب القصاص كما لو أكرهه على شربه فأما حديث أنس فلم يذكر فيه أن أحدا مات منه ولا يجب القصاص إلا أن يقتل به ويجوز أن يكون النب صلى الله عليه و سلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر ابن البراء فلما مات أرسل إليها النبي صلى الله عليه و سلم فسألها فاعترفت فقتلها فنقل أنس صدر القصة دون آخرها ويتعين حمله عليه جمعا بين الخبرين ويجوز أن يترك قتلها لكونها ما قصدت بشر بن البراء إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه و سلم فاختل العمد بالنسبة إلى بشر وفارق تقديم السكين لأنها لا تقدم إلى إنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليها لينتفع بها وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به فأما إن خلط السم بطعام نفسه وتركه في منزله فدخل إنسان فأكله فليس عليه ضمان بقصاص ولا دية لأنه لم يقتله وإنما الداخل قتل نفسه فأشبه ما لو حفر في داره بئرا فدخل رجل فوقع فيها وسواء قصد بذلك قتل الآكل مثل أن يعلم ظالما يريد هجوم داره فترك السم فأكل الطعام ليقتله فه كما لو حفر بئرا في داره ليقع فيها اللص إذا دخل ليسرق منها ولو دخل رجل بإذنه فأكل الطعام المسموم بغير إذنه لم يضمنه لذلك وإن خلطه بطعام رجل أو قدم طعاما مسموما وأخبره بسمه فأكله لم يضمنه لأنه أكله عالما بحاله فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فوجأ بها نفسه وإن سقى إنسانا سما أو خلطه بطعامه فأكله ولم يعلم به وكان مما لا يقتل مثله غالبا فهو شبه عمد فإن اختلف فيه هل يقتل مثله غالبا أو لا ؟ وثم بينة تشهد عمل بها وإن قالت البينة : هو يقتل النضو الضعيف دون القوي أو غير هذا عمل على حسب ذلك وإن لم يكن مع أحدهما بينة فالقول قول الساقي لأن الأصل عدم وجوب القصاص فلا يثبت بالشك ولأنه أعلم بصفة ما سقى وإن ثبت أنه قاتل فقال لم أعلم أنه قاتل ففيه وجهان : أحدهما : عليه القود لأن السم من جنس ما يقتل به غالبا فأشبه ما لو جرحه وقال لم أعلم أنه يموت منه والثاني : لا قود عليه لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وهذه شبهة يسقط بها القود
النوع السادس : أن يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود لأنه قتله غالبا فأشبه ما لو قتله بسكين وإن كان مما لا يقتل غالبا أو كان مما يقتل ولا يقتل ففيه الدية دون القصاص لأنه عمد الخطأ فأسبه ضرب العصا
النوع السابع : أن يتسبب إلى قتله بما يقتل غالبا وذلك اربعة أضرب أحدها : أن يكره رجلا على قتل آخر فيقتله فيجب القصاص على المكره والمكره جميعا وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة ومحمد : يجب القصاص على المكره دون المباشر ل [ قوله عليه الصلاة السلام : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأن المكره آلة للمكره بدليل وجوب القصاص على المكره ونقل فعله إليه فلم يجب على المكره كما لو رمى به عليه فقتله وقال زفر : يجب على المباشر دون المكره لأن المباشرة تقطع حكم السبب كالحافر مع الدافع والآمر مع القاتل وقال الشافعي : يجب على المكره وفي المكره قولان وقال أبو يوسف : لا يجب على واحد منهما لأن المكره لم يباشر القتل فهو كحافر البئر والمكره ملجأ فأشبه المرمي به على إنسان
ولنا على وجوبه على المكره أنه تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا فأشبه ما لو ألسعه حية أو ألقاه على أسد في زبية
ولنا على وجوبه على المكره أنه قتله عمدا ظلما لاستبقاء نفسه فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله وقولهم إن المكره ملجأ غير صحيح فإنه متمكن من الامتناع ولذلك أثم بقتله وحرم عليه وإنما قتله عند الإكراه ظنا منه أن في قتله نجاة نفسه وخلاصه من شر المكره فأشبه القاتل في المخمصة ليأكله وإن صار الأمر إلى الدية وجبت عليهما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومحمد : لا دية على المكره بناء منهما على أنه آلة وقد بينا فساده وإنما هما شريكان يجب القصاص عليهما جميعا فوجبت الدية عليهما كالشريكين بالفعل وكما يجب الجزاء على الدال على الصيد في الإحرام والمباشر والردء كالمباشر في المحاربة فعلى هذا إن أحب الولي قتل أحدهما وأخذ نصف الدية من الآخر أو العفو عنه فله ذلك
الضرب الثاني : إذا شهد رجلان على رجل بما يوجب قتله فقتل بشهادتهما ثم رجعا واعترفا بتعمد القتل ظلما وكذبهما في شهادتهما فليهما القصاص وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : لا قصاص عليهما لأنه تسبب غير ملجىء فلا يوجب القصاص كحفر البئر
ولنا ما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القصاص كالمكره
الضرب الثالث : الحاكم إذا حكم على رجل بالقتل عالما بذلك متعمدا فقتله واعترف بذلك وجب القصاص والكلام فيه كالكلام في الشاهدين ولو أن الولي الذي باشر قتله أقر بعلمه بكذب الشهود وتعمد قتله فعليه القصاص لا أعلم فيه خلافا فإن أمر الشاهدان والحاكم والوالي جميعا بذلك فعلى الولي القصاص لأنه باشر القتل عمدا وعدوانا وينبغي أن لا يجب على غيره شيء لأنهم متسببون والمباشرة تبطل حكم السبب كالدافع مع الحافر ويفارق هذا ما إذا لم يقر لأنه لم يثبت حكم مباشرة القتل في حقه ظلما فكان وجوده كعدمه ويكون القصاص على الشاهدين والحاكم لأن الجميع متسببون وإن صار الأمر إلى الدية فهي عليهم أثلاثا ويحتمل أن يتعلق الحكم بالحاكم وحده لأن تسببه أخص من تسببهم فإن حكمه واسطة بين شهادتهم وقتله فأشبه المباشر مع المتسبب ولو كان الولي المقر بالتعمد لم يباشر القتل وإنما وكل فيه نظرت في الوكيل فإن أقر بالعلم وتعمد القتل ظلما فهو القاتل وحده لأنه مباشر للقتل عمدا وظلما من غير إكراه فتعلق الحكم به كما لو أمر بالقتل في غير هذه الصورة وإن لم يعترف بذلك فالحكم متعلق بالولي كما لو باشره والله أعلم

مسألة وفصلان إذا كان المقتول ظلما حرا مسلما ففيه القود
مسألة : قال : ففيه القود إذا اجتمع عليه الأولياء وكان المقتول حرا مسلما
أجمع العلماء على أن القود لا يجب إلا بالعمد ولا نعلم بينهم في وجوبه بالقتل العمد إذا اجتمعت شروطه خلافا وقد دلت عليه الآيات والأخبار بعمومها فقال الله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } وقال تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } وقال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } يريد والله أعلم أن وجوب القصاص يمنع من يريد القتل منه شفقة على نفسه من القتل فتبقى الحياة فيمن أريد قتله وقيل إن القاتل تنعقد العداوة بينه وبين قبيلة المقتول فيريد قتلهم خوفا منهم ويريدون قتله وقتل قبيلته استيفاء ففي الاقتصاص منه بحكم الشرع قطع لسبب الهلاك بين القبيلتين وقال الله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدى ] متفق عليه
وروى أبو شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أصيب بدم أو خبل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ] رواه أبو داود وفي لفظ : [ فمن قتل له بعد مقالتي قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا الدية أو يقتلوا ] وقال عليه السلام : [ العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول ] وفي لفظ : [ من قتل عامدا فهو قود ] رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجة : [ من قتل عامدا فهو قود ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ] وقول الخرقي : إذا اجتمع عليه الأولياء يعني إذا كان للمقتول أولياء يستحقون القصاص فمن شرط وجوبه اجتماعهم على طلبه ولو عفا واحد منهم سقط كله وإن كان بعضهم غائبا أو غير مكلف لم يكن لشركائه القصاص حتى يقدم الغائب ويختار القصاص أو يوكل ويبلغ الصبي ويفيق المجنون ويختاراه وقولهم : إذا كان المقتول حرا مسلمأ يعني مكافئا للقاتل فإذا كان القاتل حرا مسلما اشترط كون المقتول حرا مسلما لتحقق الكافأة بينهما فإن الكافر لا يكافىء المسلم والعبد لا يكافىء الحر
فصل : وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله وإن كان مجدع الأطراف معدوم الحواس والقاتل صحيح سوي الخلق أو كان بالعكس وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر والسلطان والسوقة ونحو هذا من الصفات لم يمنع القصاص بالاتفاق وقد دلت عليه العمومات التي تلوناها و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : المؤمنون تكافأ دماؤهم ] ولأن اعتبار التساوي في الصفات والفضائل يفضي إلى إسقاط القصاص بالكلية وفوات حكمة الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره كالطول والقصر والسواد والبياض
فصل : ولا يشترط في وجوب القصاص كون القتل في دار الإسلام بل متى قتل في دار الحرب مسلما عامدا عالما بإسلامه فعليه القود سواء كان قد هاجر أو لم يهاجر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب القصاص بالقتل في غير دار الإسلام فإن لم يكن المقتول هاجر لم يضمنه بقصاص ولا دية عمدا قتله أو خطأ وإن كان قد هاجر ثم عاد إلى دار الحرب كرجلين مسلمين دخلا دار الحرب بأمان فقتل احدهما صاحبه فضمنه بالدية ولم يجب القود وحكي عن أحمد رواية كقوله ولو قتل رجلا أسيرا مسلما في دار الحرب لم يضمنه إلا بالدية عمدا قتله أو خطأ
ولنا ما ذكرنا من الآيات والأخبار ولأنه قتل من يكافئه عمدا ظلما فوجب عليه القود كما لو قتله في دار الإسلام ولأن كل دار يجب فيها القصاص إذا كان فيها إمام يجب وإن لم يكن فيها إمام كدار الإسلام

فصل قتل الغيلة وغيره سواء في القصاص
فصل : وقتل الغيلة وغيره سواء في القصاص والعفو وذلك للولي دون السلطان وبه قال أبو حنيفة و الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : الأمر عندنا أن يقتل به وليس لولي الدم أن يعفو عنه وذلك إلى السلطان والغيلة عنده أن يخدع الإنسان فيدخل بيتا أو نحوه فيقتل أو يؤخذ ماله ولعله يحتج بقول عمر في الذي قتل غيلة : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وبقياسه على المحارب
ولنا عموم قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأهله بين خيرتين ] ولأنه قتيل في غير المحاربة فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى وقول عمر : لأقدتهم به أي أمكنت الولي من استيفاء القود منه

فصل حكم ما لو قتل رجلا وادعى أنه وجد مع زوجته
فصل : وإذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته أو أنه قتله دفعا عن نفسه أو أنه دخل منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه إلا بقتله لم يقبل قوله إلا ببينة ولزمه القصاص روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفا وسواء وجد في دار القاتل أو في غيرها أو وجد معه سلاح أو لم يوجد لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال : إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى وإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما يتغذى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا فقال له عمر : ما يقولون ؟ فقال يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر : ما يقول ؟ قالوا يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال : إن عادوا فعد رواه سعيد في سننه وروى عن الزبير أنه كان يوما قد تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلان فقالا : أعطنا شيئا فألقى إليهما طعاما كان معه فقالا : خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة ولأن الخصم اعترف بما يبيح قتله فسقط حقه كما لو أقر بقتله قصاصا أو في حد يوجب قتله وإن ثبت ذلك ببينة فكذلك

مسألة القتل الشبيه بالعمد وأقسامه وأحكامه
مسألة : قال : وشبه العمد ما ضربه بخشبة صغيرة أو حجر صغير أو لكزه أو فعل به فعلا الأغلب من ذلك الفعل أنه لا يقتل مثله فلا قود في هذا والدية على العاقلة
شبه العمد أحد أقسام القتل وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز وسائر ما لا يقتل غالبا إذا قتل فهو شبه عمد لأنه قصد الضرب دون القتل ويسمى عمد الخطأ وخطأ العمد لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأحطأ في القتل فهذا لا قود فيه والدية على العاقلة في قول أكثر اهل العلم وجعله مالك عمدا موجبا للقصاص ولأنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسما ثالثا زاد على النص ولأنه قتله بفعل عمده فكان عمدا كما لو غرزه بإبراة فقتله وقال أبو بكر من أصحابنا : تجب الدية في مال القاتل وهو قول ابن شبرمة لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر الجنايات
ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه و سلم أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ] متفق عليه فأوجب ديتها على العاقلة والعاقلة لا تحمل عمدا وأيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن في قتيل خطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل ] وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه ] رواه أبو داود وهذا نص وقوله هذ قسم ثالث قلنا نعم هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبت بالكتاب ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ

مسألتا وفصل القتل الخطأ معناه وحكمه
مسألة : قال : والخطأ على ضربين أحدهما أن يرمي الصيد أو يفعل ما يجوز له فعله فيؤول إلى إتلاف حر مسلما كان أو كافرا فتكون الدية على عاقلته وعليه عتق رقبة مؤمنة
وجملته أن الخطأ أن يفعل فعلا لا يريد به إصابة المقتول فيصيبه ويقتله مثل أن يرمي صيدا أو هدفا فيصيب إنسانا فيقتله قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره لا اعلمهم يختلفون فيه هذا قول عمر بن عبد العزيز و قتادةو و النخعي و الزهري و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي فهذا الضرب من الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة في مال القاتل بغير خلاف نعلمه والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا له عهد لقول الله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } ولا قصاص في شيء من هذا لأن الله تعالى أوجب به الدية ولم يذكر قصاصا وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه لم يوجب القاص في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى
فصل : وإن قصد فعلا محرما فقتل آدميا مثل أن يقصد بهيمة أو آدميا معصوما فيصيب غيره فيقتله فهو خطأ أيضا لأنه لم يقصد قتله وهذا مذهب الشافعي وكذلك قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره ويتخرج على قول أبي بكر أن هذا عمد لقوله فيمن رمى نصرانيا فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد يجب به القصاص لكونه قصد فعلا محرما قتل به إنسانا
مسألة : قال : والضرب الثاني أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر ويكون قد أسلم وكتم إسلامه إلى أن يقدر على التخلص إلى أرض الإسلام فيكون عليه في ماله عتق رقبة مؤمنة بلا دية لقول الله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة }
هذا الضرب الثاني من الخطأ وهو أن يقتل في أرض الحرب من يظنه كافرا ويكون مسلما ولا خلاف في أن هذا خطأ لا يوجب قصاصا لأنه لم يقصد قتل مسلم فأشبه ما لو ظنه صيدا فبان آدميا إلا أن هذا لا تجب به دية أيضا ولا يجب إلا الكفارة وروي هذا عن ابن عباس وبه قال عطاء و مجاهد و عكرمة و قتادة و الأوزاعي و الثوري و أبو ثور و ابو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى تجب به الدية والكفارة وهو قول مالك و الشافعي لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقال عليه السلام : [ ألا أن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ] ولأنه قتل مسلما خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام
ولنا قول الله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ولم يذكر دية وتركه ذكرها في القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعده ظاهر في أنها غير واجبة وذكره لهذا قسما مفردا يدل على انه لم يدخل في عموم الآية التي احتجوا بها ويخص بها عموم الخبر الذي رووه

مسألة وفصلان أحكام قتل المسلم الكافر أو جرحه
مسألة : قال : ولا يقتل مسلم بكافر
أكثر أهل العلم لا يوجبون على مسلم قصاصا بقتل كافر أي كافر كان روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز و عطاء و الحسن و عكرمة و الزهري و ابن شبرمة و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابو عبيد و ابن المنذر وقال النخعي و الشعبي وأصحاب الراي : يقتل المسلم بالذمي خاصة قال أحمد : الشعبي و النخعي قالا : دية المجوسي واليهودي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به هذا عجب يصير المجوسي مثل المسلم سبحان الله ما هذا القول ؟ واستبشعه وقال : [ النبي صلى الله عليه و سلم يقول : لا يقتل مسلم بكافر وهو يقول : يقتل بكافر فأي شيء أشد من هذا ؟ واحتجوا بالعمومات التي ذكرناها في أول الباب وبما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه و سلم أقاد مسلما بذمي وقال : أنا أحق من وفى بذمته ] ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر ] رواه الإمام أحمد و ابو داود وفي لفظ : [ لا يقتل مسلم بكافر ] رواه البخاري و أبو داود و [ عن علي رضي الله عنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ] رواه الإمام أحمد ولأنه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصات بحديثنا وحديثهم ليس له إسناد قال أحمد وقال الدار قطني : يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل ؟ والمعنى في المسلم أنه مكافىء للمسلم بخلاف الذمي فأما المستأمن فوافق أبو حنيفة الجماعة في أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف وعنه يقتل به لما سبق في الذمي ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي مع ما ذكرنا من الدليل في التي قبلها
فصل : فإن قتل كافر كافرا ثم أسلم القاتل او جرحه ثم اسلم الجارح ومات المجروح فقال أصحابنا : يقتص منه وهو قول الشافعي لأن القصاص عقوبة فكان الاعتبار فيها بحال وجوبها دون حال استيفائها كالحدود ولأنه حق وجب عليه قبل إسلامه فلم يسقط بإسلامه كالدين ويحتمل أن لا يقتل به وهو قول الأوزاعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقتل مسلم بكافر ] ولأنه مؤمن فلا يقتل بكافر كما لو كان مؤمنا حال قتله ولأن إسلامه لو قارن السبب منع عمله فإذا طرأ سقط حكمه
فصل : وإن جرح مسلم كافرا فاسلم المجروح ثم مات مسلما بسراية الجرح لم يقتل به قاتله لأن التكافؤ معدوم حال الجناية وعليه دية مسلم لأن اعتبار الأرش بحالة استقرار الجناية بدليل ما لو قطع يدي رجل ورجليه فسري إلى نفسه دية واحدة ولو اعتبر حال الجرح وجب ديتان ولو قطع حر يد عبد ثم عتق ومات لم يجب قصاص لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الجاني دية حر اعتبارا بحال الاستقرار وهذا قول ابن حامد وهو مذهب الشافعي وللسيد أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف دية حر والباقي لورثته لأن نصف قيمته إن كانت أقل فهي التي وجدت في ملكه فلا يكون له أكثر منها لأن الزائد حصل بحريته ولا حق له فيما حصل بها وإن كان الأقل الدية لم يستحق أكثر منها لأن نقص القمية حصل بسبب من جهة السيد وإعتاقه وذكر القاضي أن أحمد نص في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات أن على الجاني قيمته للسيد وهذا يدل على أن الاعتبار بحال الجناية وهذا اختيار أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب
وقال أبو الخطاب : من قطع يد ذمي ثم أسلم ومات ضمنه بدية ذمي ولو قطع يد عبد فأعتقه سيده ومات فعلى الحاني قيمته للسيد لأن حكم القصاص معتبر بحال الجناية دون حال السراية فكذلك الدية والأول أصح إن شاء الله لأن سراية الجرح مضمونة فإذا أتلفت حرا مسلما وجب ضمانه بدية كاملة كما لو قتله بجرح ثان وقول أحمد فيمن فقأ عيني عبد عليه قيمته للسيد لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وجوب الزائد على القيمة من دية الحر للورثة ولم يذكره أحمد ولأن الواجب مقدر بما تفضي إليه السراية دون ما تتلفه الجناية بدليل أن من قطعت يداره ورجلاه فسرى القطع إلى نفسه لم يلزم الجاني أكثر من دية ولو قطع أصبعا فسرى إلى نفسه لوجبت الدية كاملة فكذلك إذا سرت إلى نفس حر مسلم تجب ديته كاملة فأما إن جرح مرتدا أو حربيا فسرى الجرح إلى نفسه فلا قصاص فيه ولا دية سواء أسلم قبل السراية أو لم يسلم لأن الجرح غير مضمون فلم يضمن سرايته بخلاف التي قبلها

فصل ارتداد المسلم بعد الجناية عليه بقطع يده
فصل : ولو قطع يد مسلم فارتد ثم مات بسراية الجرح لم يجب في النفس قصاص ولا دية ولا كفارة لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون وكذلك لو قطع يد ذمي فصار حربيا ثم مات من جراحه وأما اليد فالصحيح أنه لا قصاص فيها وذكر القاضي وجها في وجوب القصاص فيها لأن القطع استقر حكمه بانقطاع حكم سرايته فأشبه ما لو قطع طرفه ثم قتله أو جاء آخر فقتله ولـ لشافعي في وجوب القصاص قولان
ولنا أنه قطع هو قتل لم يجب به القتل فلم يجب القطع كما لو قطع من غير مفصل وفارق ما قاسوا عليه فإن القطع لم يصر قتلا وهل تجب دية الطرف ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا ضمان فيه لأنه تبين أنه قتل لغير معصوم والثاني : تجب لأن سقوط حكم سراية الجرح لا يسقط ضمانه كما لو قطع طرف رجل ثم قتله آخر فعلى هذا هل يجب ضمانه بدية المقطوع أو بأقل الأمرين من ديته أو دية النفس ؟ فيه وجهان : أحدهما : تجب دية المقطوع فلو قطع يديه ورجليه ثم ارتد ومات ففيه ديتان لأن الردة قطعت حكم السراية فأشبه انقطاع حكمها باندمالها أو بقتل آخر له والثاني : يجب أقل الأمرين لأنه لو لم يرتد لم يجب أكثر من دية النفس فمع الردة أولى ولأنه قطع صار قتلا فلم يجب أكثر من دية كما لو لم يرتد وفارق أصل الوجه الأول فإنه يصر قتلا ولأن الاندمال والقتل منع وجود السراية والردة منعت ضمانها ولم تمنع جعلها قتلا ول لشافعي من التفصيل نحو مما قلنا

فصلان حكم من قطع يد مسلم ثم ارتد
فصل : وإن قطع مسلم يد نصراني فتمجس وقلنا لا يقر فهو كما لو جنى على مسلم فارتد وإن قلنا يقر عليه وجبت دية مجوسي وإن قطع يد مجوسي فتنصر ثم مات وقلنا يقر وجبت دية نصراني ويجيء على قول أبي بكر والقاضي أن تجب دية نصراني في الأولى ودية مجوسي في الثانية كقولهم فيمن جنى على عبد ذمي فأسلم وعتق ثم مات من الجناية ضمنه بقيمة عبد ذمي اعتبارا بحال الجناية
فصل : وإن قطع يد مسلم فارتد ثم أسلم ومات وجب القصاص على قاتله نص عليه أحمد رحمه الله في رواية محمد بن الحكم وقال القاضي : يتوجه عندي أنه إن كان زمن الردة تسري في مثله الجناية لم يجب القصاص في النفس وهل يجب في الطرف الذي قطع في إسلامه ؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي لأن القصاص يجب بالجناية والسراية كلها فإذا لم يوجد جميعها في الإسلام لم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين أحدهما في الإسلام والآخر في الردة فمات منهما
زلنا أنه مسلم حال الجناية والموت فوجب القصاص بقتله كما لو لم يرتد واحتمال السراية حال الردة لا يمنع لأنها غير معلومة فلا يجوز ترك السبب المعلوم باحتمال المانع كما لو لم يرتد فإنه يحتمل أن يموت بمرض أو بسبب آخر أو بالجرح مع شيء آخر يؤثر في الموت فأما الدية فتجب كاملة ويحتمل وجوب نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة فوجب نصف الدية كما لو جرحه إنسان وجرح نفسه فمات منهما فأما إن كان زمن الردة لا تسري في مثله الجناية ففيه الدية أو القصاص وقال الشافعي في احد قوليه : لا قصاص فيه لأنه انتهى إلى حال لو مات لم يجب القصاص
ولنا أنهما متكافئان حال الجناية والسراية والموت فأشبه ما لو لم يرتد وإن كان الجرح خطأ وجبت الكفارة بكل حال لأنه فوت نفسا معصومة

فصل حكم ما لو جرحه وهو مسلم مرتد
فصل : وإن جرحه وهو مسلم فارتد ثم جرحه جرحا آخر ثم أسلم ومات منهما فلا قصاص فيه لأنه مات من جرحين : مضمون وغير مضمون ويجب فيه نصف الدية لذلك وسواء تساوى الجرحان أو زاد أحدهما مثل أن قطع يديه وهو مسلم فارتد فقطع رجله أو كان بالعكس لأن الجرح في الحالين كجرح رجلين وهل يجب القصاص في الطرف الذي قطعه في حال إسلامه ؟ يحتمل وجهين بناء على من قطع طرفه وهو مسلم فارتد ومات في ردته ولو قطع طرفه في ردته أولا فأسلم ثم قطع طرفه الآخر ومات منهما فالحكم فيه كالتي قبلها

فصلان قتل الذمي بالمسلم أو بحربي
فصل : ويقتل الذمي بالمسلم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على أوضاح لها ولأنه إذا قتل بمثله فبمن فوقه أولى ] ويقتل الذمي بالذمي سواء اتفقت أديانهم أو اختلفت فو قتل النصراني مجوسيا أو يهوديا قتل به نص عليه أحمد في النصراني يقتل بالمجوسي إذا قتله فكيف يقتل به وديتهما مختلفة ؟ فقال : أذهب إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل رجلا بامرأة يعني أنه قتله بها مع اختلاف ديتهما ولأنهما تكافآ في العصمة بالذمة ونقيصة الكفر فجرى القصاص بينهما كما لو تساوى ديتهما وهذا مذهب الشافعي
فصل : ولا يقتل ذمي بحربي لا نعلم فيه خلافا لأنه مباح الدم على الإطلاق أشبه الخنزير ولا دية فيه لذلك ولا كفارة ولا يجب بقتل المرتد قصاص ولا دية ولا كفارة لذلك سواء قتله مسلم أو ذمي وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعض أصحاب الشافعي : يجب القصاص على الذمي بقتله والدية إذا عفا عنه لأنه لا ولاية له في قتله وقال بعضهم : يجب القصاص دون الدية لأنه لا قيمة له ولنا أنه مباح الدم أشبه الحربي ولأن من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي كالحربي

فصل ليس على قاتل الزاني المحصن قصاص
وليس على قاتل الزاني المحصن قصاص ولا دية ولا كفارة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وحكي بعضهم وجها أن على قاتله القود لأنه قتله إلى الإمام فيجب القود على من قتله سواه كمن عليه القصاص إذا قتله غير مستحقه
ولنا أنه مباح الدم وقتله متحتم فلم يضمن كالحربي ويبطل ما قاله بالمرتد وفارق القاتل فإن قتله غير متحتم وهو مستحق على طريق المعاوضة فاختص بمستحقه وههنا يجب قتله لله تعالى فأشبه المرتد وكذلك الحكم في المحارب الذي تحتم قتله

مسألةو فصول لا يقتل السيد بعبده ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد وفصول في القصاص
فصل : ويقتل المرتد بالمسلم والذمي ويقدم القصاص على القتل بالردة لأنه حق آدمي وإن عفا عنه ولي القصاص فله دية المقتول فإن أسلم المرتد فهي في ذمته وإن قتل بالردة أو مات تعلقت بماله وإن قطع طرفا من أحدهما فعليه القصاص فيه أيضا وقال بعض أصحاب الشافعي : لايقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه لأن أحكام الإسلام في حقه باقية بدليل العبادات عليه ومطالبته بالإسلام
ولنا أنه كافر فيقتل بالذمي كالأصلي وقولهم إن أحكام الإسلام باقية غير صحيح فإنه قد زالت عصمته وحرمته وحل نكاح المسلمات وشراء العبيد المسلمين وصحة العبادات وغيرها وأما مطالبته بالإسلام فهو حجة عليهم فإنه يدل على تغليظ كفره وأنه لا يقر لى ردته لسوء حاله فإذا قتل بالذمي مثله فمن هو دونه أولى
فصل : وإن جرح مسلم ذميا ثم ارتد ومات المجروح لم يقتل به لأن التكافؤ مشترط حال وجود الجناية ولم يوجد وإن قتل من يعرفه ذميا أو عبدا وكان قد أسلم وعتق وجب القصاص لأنه قتل من يكافئه عمدا عدوانا فلزمه القصاص كما لو علم حاله وفارق من علمه حربيا لأنه لم يعمد إلى قتل معصوم
مسألة : قال : ولا حر بعبد
روي هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن و عطاء وعمر بن بد العزيز و عكرمة و عمرو بن دينار و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ويروى عن سعيد بن المسيب و النخعي و قتادة و الثوري وأصحاب الرأي أنه يقتل به لعموم الآيات والأخبار لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمنون تتكافأ دماؤهم ] ولأنه آدمي معصوم فأشبه الحر
ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل حر بعبد وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يقتل حر بعبد ] رواه الدار قطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولأن العبد منقوص بالرق فلم يقتل به الحر كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصات بهذا فنقيس عليه
فصل : ولا يقتل السيد بعبده في قول أكثر أهل العلم وحكي عن النخعي و داود أنه يقتل به لما روى قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ومن قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه ] رواه سعيد والإمام أحمد و الترمذي وقال : حديث صحيح حسن غريب مع العمومات والمعنى في التي قبلها
ولنا ما ذكرناه في التي قبلها [ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يقاد المملوك من مولاه والولد من والده لأقدته منك ] رواه النسائي [ وعن علي رضي الله عنه رجلا قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه و سلم مائة جلده ونفاه عاما ومحا اسمه من المسلمين ] رواه سعيد والخلال وقال أحمد : ليس بشيء من قبل إسحاق بن ابي فروة ورواه عمر بن شعيب عن ابيه عن جده عن أبي بكر وعمر أنهما قالا : من قتل عبده جلد مائة وحرم سهمه مع المسلمين فأما حديث سمرة فلم يثبت قال أحمد : الحسن لم يسمع من سمرة إنما وهي صحيفة وقال عنه أحمد : إنما سمع الحسن من سمرة ثلاثة أحاديث ليس هذا منها ولأن الحسن افتى بخلافه فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد وقال إذا قتل السيد عبده يضرب ومخالفته لم تدل على ضعفه
فصل : ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه بينهم ويقتل العبد بالحر ويقتل بسيده لأنه إذا قتل بمثله فبمن هو اكمل منه أولى مع عموم النصوص الواردة في ذلك ومتى وجب القصاص على العبد فعفا ول يالجناية إلى المال فله ذلك ويتعلق أرشها برقبته لأنه موجب جنايته فتعلق برقبته كالقصاص ثم أن شاء سيده أن يسلمه إلى ولي الجناية لم يلزمه أكثر من ذلك لأنه سلم إليه ما تعلق حقه به وإن قال ولي الجناية بعه وادفع إلي ثمنه لم يلزمه ذلك لأنه لم يتعلق بذمته شيء وإنما تعلق بالرقبة التي سلمها فبرىء منها وفيه وجه آخر أنه يلزمه ذلك كما يلزمه بيع الرهن وإن امتنع من تسليمه واختار فداءه فهل تلزمه قيمته أو أرش الجناية جميعا ؟ على روايتين ذكرناهما في غير هذا الموضع وإن عفا عن القصاص ليملك رقبة العبد ففيه روايتان إحداهما يملكه بذلك لأنه يملك إتلافه فكان ملكا له كسائر أمواله والثانية : لا يملكه لأنه محل تعلق به القصاص فلا يملكه بالعفو كالحر فعلى هذه الرواية يتعلق أرش الجناية برقبته كما لو عفا على مال لأن العوض الذي عفا لأجله لم يصح له فكان له عوضه كالعقود الفاسدة

فصول قصاص العبيد
فصل : ويجري القصاص بين العبيد في النفس في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر ابن عبد العزيز وسالم و النخعي و الشعبي و الزهري و قتادة و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وروي عن أحمد رواية أخرى أن من شرط القصاص تساوي قيمتهم وإن اختلفت قيمتهم لم يجر بينهم قصاص وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فإن كانت أقل فلا وهذا قول عطاء وقال ابن عباس : ليس بين العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال
ولنا أن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } وهذا نص من الكتاب فلا يجوز خلافه لأن تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص كالعلم والشرف والذكورية والأنوثية
فصل : ويجري القصاص بينهم فيما دون النفس وبه قال عمر بن عبد العزيز وسالم و الزهري و قتادة و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يجري القصاص بينهم فيما دون النفس وهو قول الشعبي و النخعي و الثوري و أبي حنيفة لأن الأطراف مال فلا يجري القصاص فيها كالبهائم ولأن التساوي في الأطراف معتبر في جريان القصاص بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بالناقصة وأطراف العبيد لا تتساوى ولنا قول الله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } الآية ولأنه أحد نوعي القصاص فجري بين العبيد كالقصاص في النفس
فصل : وإذا وجب القصاص في طرف العبد وجب للعبد وله استيفاؤه والعفو عنه
فصل : ولو قتل عبد عبدا ثم عتق القاتل قتل به وكذلك لو جرح عبد عبدا ثم عتق الجارح ومات المجروح قتل به لأن القصاص وجب فلم يسقط بالعتق بعده ولأن التكافؤ موجود حال وجود الجناية وهي السبب فاكتفي به ولو جرح ذمي عبدا ثم لحق بدار الحرب فأسر واسترق لم يقتل بالعبد لأنه حين وجوب القصاص حر
فصل : وإذا قتل عبد عبدا عمدا فسيد المقتول مخير بين القصاص والعفو فإن عفا إلى مال تعلق المال برقبة القاتل لأنه وجب بجنايته وسيده مخير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداءه فداه بأقل الأمرين من قيمته أو قيمة المقتول لأنه إن كان الأقل قيمته لم يلزمه أكثر منها لأنها بدل عنه وإن كان الأقل قيمة المقتول فليس لسيده أكثر منها لأنها بدل عنه وعنه رواية أخرى أن سيده إن اختار فداءه لزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ لأنه إذا سلمه للبيع ربما زاد فيها مزايد أكثر من قيمته فإن قتل عشرة أعبد عبدا لرجل عمدا فعليهم القصاص فإن اختار السيد قتلهم فله قتلهم وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة عبده برقابهم على كل واحد منهم عشر يباع منه بقدرها ويفديه سيده فإن اختار قتل بعضهم والعفو عن البعض كان ذلك له لأن له قتل جميعهم والعفو عن جميعهم وإن قتل عبد عبدين لرجل واحد فله قتله والعفو عنه فإن قتله سقط حقه وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة العبدين برقبته فإن كانا لرجلين فكذلك إلا أن القاتل يقتل بالأول منهما لأن حقه أسبق فإن عفا عنه الأول قتل بالثاني وإن قتلهما دفعه واحدة أقرع بين السيدين فأيهما خرجت له القرعة اتقص وسقط حق الآخر وإن عفا عن القصاص أو عفا سيد القتيل الأول عن القصاص إلى مال تعلق برقبة العبد وللثاني أن يقتص لأن تعلق المال بالرقبة لا يسقط حق القصاص كما لو جنى العبد المرهون وإن قتله الآخر سقط حق الأول من القيمة لأنه لم يبق محل يتعلق به وإن عفا الثاني تعلقت قيمة القتيل الثاني برقبته أيضا ويباع فيهما ويقسم ثمنه على قدر القيمتين ولم نقدم الأول بالقيمة كما قدمناه بالقصاص لأن القصاص لا يتبعض بينهما والقيمة يمكن تبعيضها فإن قيل فحق الأول أسبق قلنا لا يراعى السبق كما لو أتلف أموالا لجماعة واحدا بعد واحد فأما إن قتل العبد عبدا بين شريكين كان لهما القصاص والعفو فإن عفا أحدهما سقط القصاص وينتقل حقهما إلى القيمة لأن القصاص لا يتبعض وإن قتل عبدين لرجل واحد فله أن يقتص منه لأحدهما ايهما كان ويسقط حقه من الآخر وله أن يعفو عنه إلى مال وتتعلق قيمتهما جميعا برقبته
فصل : ويقتل العبد القن بالمكاتب والمكاتب به ويقتل كل واحد منهما بالمدبر وأم الولد ويقتل المدبر وأم الولد بكل واحد منهما لأن الكل عبيد فيدخلون في عموم قوله تعالى : { والعبد بالعبد } فقد دل على كون المكاتب عبدا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] وسواء كان المكاتب قد أدى من كتابته شيئا أو لم يؤد وسواء ملك ما يؤدي أو لم يملك إلا إذا قلنا إنه إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا فإنه لا يقتل بالعبد لأنه حر فلا يقتل بالعبد وإن أدى ثلاثة أرباع مال الكتابة لم يقتل به أيضا لأنه يصير حرا ومن لم يحكم بحريته إلا بأداء جميع الكتابة جاز قتله به وقال أبو حنيفة إذا قتل العبد مكاتبا له وفاء ووارث سوى مولاه لم يقتل به لأنه حين الجرح كان المستحق المولى وحين الموت الوارث ولا يجب القصاص إلا لمن يثبت حقه في الطرفين
ولنا قوله تعالى : { النفس بالنفس } وقوله تعالى : { العبد بالعبد } ولأنه لو كان قنا لوجب بقتله القصاص فإذا كان مكاتبا كان أولى كما لو لم يخلف وارثا وما ذكروه شيء بنوه على أصولهم ولا نسلمه

مسألة وفصل كون الكافر الحر لا يقتل بالعبد المسلم ولكن لنقضه العهد
مسألة : قال : وإذا قتل الكافر العبد عمدا فعليه قيمته ويقتل لنقضه للعهد
يعني الكافر الحر لا يقتل بالعبد المسلم لأن الحر لا يقتل بالعبد لفقدان التكافؤ بينهما ولأنه لا يحد بقذفه فلا يقتل بقتله كالأب مع ابنه وعليه قيمته ويقتل لنقضه العهد فإن قتل المسلم ينتقض به العهد بدليل ما روي أن ذميا كان يسوق حمارا بامرأة مسلمة فنخسه بها فرماها ثم اراد إكراهها على الزنا فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال : ما على هذا صالحناهم فقتله وصلبه وروي في شروط عمر أنه كتب إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده ولأنه فعل ينافي الأمان وفيه ضرر على المسلمين فكان نقضا للعهد كالاجتماع على قتال المسلمين والامتناع من أداء الجزية وفيه رواية أخرى أنه لا ينتقض عهده بذلك فعلى هذا عليه قيمته ويؤدب بما يراه ولي الأمر
فصل : وإن قتل عبد مسلم حرا كافرا لم يقتل به لأنا لا نقتل المسلم بالكافر وإن قتل من نصفه حر عبدا لم يقتل به لأنا لا نقتل نصف الحر بعبد وإن قتله حر لم يقتل به لأن النصف الرقيق لا يقتل به الحر وإن قتل من نصفه حر من نصفه حر قتل به لأن القصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل وهما مستويان

فصل جريان القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم
فصل : ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والأخبار ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ولا نعلم في هذا خلافا وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملا أنه قطع يده ظلما : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه وثبت أن عمر رضي الله عنه كان يقيد من نفسه وروى أبو داود قال : خطب عمر فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به ذلك فيلرفعه إلي اقصة منه فقال عمرو بن العاص : لو أن رجلا أدب بعض رعيته تقصه منه ؟ قال : إي والذي نفسي بيده اقصه وقد رايت رسول الله صلى الله عليه و سلم أقص من نفسه ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم هذان حران مسلمان ليس بينهما إيلاد فيجري القصاص بينهما كسائر الرعية

فصل حكم ما إذا قتل القاتل غيرغير أولياء الدم
فصل : وإذا قتل القاتل غير ولي الدم فعلى قاتله القصاص ولورثة الأول الدية في تركة الجاني الأول وبهذا قال الشافعي وقال الحسن و مالك : يقتل قاتله ويبطل دم الأول لأنه فات محله فأشبه ما لو قتل العبد الجاني وروي عن قتادة و أبي هاشم : لا قود على الثاني لأنه قتل مباح الدم فلم يجب بقتله قصاص كالزاني المحصن
ولنا على وجوب القصاص على قاتله أنه محل لم يتحتم قتله ولم يبح لغير ولي الدم قتله فوجب القصاص بقتله كما لو كان عليه دين
ولنا على وجوب الدية في تركة الجاني الأول أن القصاص إذا تعذر وجبت الدية كما لو مات أو عفا بعض الشركاء أو حدث مانع وفارق العبد الجاني فإنه ليس له مال ينتقل إليه فإن عفا أولياء الثاني على الدية أخذوها ودفعوها إلى ورثة الأول فإن كانت عليه ديون ضم ما قبضوا من الدية إلى سائر تركته ثم ضرب أولياء المقتول الأول مع سائر أهل الديون في تركته وديته وإن أحال ورثة المقتول الثاني ورثة المقتول الأول بالدية على القاتل الثاني صحت الحوالة ويتخرج أن تجب دية القتيل الأول على قاتله ابتداء لأنه أتلف محل حق ورثته فكان غرامته عليه كما لو قتل العبد الجاني وإن مات القاتل عمدا وجبت الدية في تركته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : يسقط حق ولي الجناية وتوجيه المذهبين على ما تقدم

مسألة وفصول سقوط القصاص عن الصبي والمجنون وقصاص السكرن
مسألة : قال : والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد
لا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه مثل النائم والمغمى عليه ونحوهما والأصل في هذا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ] ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم صحيح فهم كالقاتل خطأ
فصل : فإن اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني : كنت صبيا حال الجناية وقال ولي الجناية : كنت بالغا فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق لأن الأصل الصغر وبراءة ذمته من القصاص وإن قال : قتلته وأنا مجنون وأنكر الولي جنونه فإن عرف له حال جنون فالقول قوله أيضا لذلك فإن لم يعرف حال جنون فالقول قول الولي لأن الأصل السلامة وكذلك إن عرف له جنون ثم علم زواله قبل القتل وإن ثبتت لأحدهما بينة بما ادعاه حكم له وإن أقاما بينتين تعارضتا فإن شهدت البينة أنه كان زائل العقل فقال الولي : كنت سكران وقال القاتل : كنت مجنونا فالقول قول القاتل مع يمينه لأنه أعرف بتفسه ولأن الأصل براءة ذمته واجتناب المسلم فعل ما يحرم عليه
فصل : فإن قتله وهو عاقل ثم جن لم يسقط عنه القصاص سواء ثبت ذلك عليه ببينة أو إقرار لأن رجوعه غير مقبول ويقتص منه في حال جنونه ولو ثبت عليه الحد بإقراره ثم جن لم يقم عليه حال جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان صحيحا رجع
فصل : ويجب القصاص على السكران إذا قتل حال سكره ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أن وجوب القصاص عليه مبني على وقوع طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان : أحدهما : لا يجب عليه لأنه زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف اشبه الصبي والمجنون
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه لما وجب بمظنته وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي وأولى ولأنه حكم لو لم يجب القصاص والحد لأفضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصبر عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه ولا وجه لهذا وفارق هذا الطلاق ولأنه قول يمكن إلغاؤه بخلاف القتل فأما إن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنونا فلا قصاص عليه وإن كان يزول قريبا ويعود من غير تداو فهو كالسكر على ما فصل فيه

مسائل وفصول القصاص للفروع من الأصول وحكم قتل أحد الزوجين الآخر وفروع
مسألة : قال : ولا يقتل والد بولده وإن سفل
وجملته أن الأب لا يقتل بولده والجد لا يقتل بولد ولده وإن نزلت درجته وسواء في ذلك ولد البنين أو ولد البنات وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال ربيعة و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و اصحاب الرأي وقال ابن نافع وابن عبد الحكم و ابن المنذر : يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموحبة للقصاص ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه كالأجنبيين وقال ابن المنذر : قد رووا في هذا أخبارا وقال مالك : إن قتله حذفا بالسيف ونحوه لم يقتل به وإن ذبحه أو قتله قتلا لا يشك في أنه عمد إلى قتله دون تأديبه أقيد به
ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يقتل والد بولده ] أخرج النسائي حديث عمر ورواهما ابن ماجة وذكرهما ابن عبد البر وقال : هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد قس مثله مع شهوته تكلفا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنت ومالك لأبيك ] وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات ولأنه سبب إيجاده فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه وماذكرناه يخص العمومات ويفارق الأب وسائر الناس فإنهم لو قتلوا بالحذف بالسيف وجب عليهم القصاص والأب بخلافه
فصل : والجد وإن علا كالأب في هذا وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب وقال الحسن بن حي : يقتل به
ولنا أنه والد فيدخل في عموم النص ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق إذا ملكه والجد من قبل الأب كالجد من قبل الأم لأن ابن البنت يسمى ابنا [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحسن : إن ابني هذا سيد ]
مسألة : قال : والأم في ذلك كالأب
هذا الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص عن الأب وروي عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يسقط عن الأم فإن مهنا نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها عمدا تقتل وقال من يقتلها ؟ قال ولدها وهذا يدل على إيجاب القصاص على الأم بقتل ولدها وخرجها أبو بكر على روايتين إحداهما : أن الأم تقتل بولدها لأنه لا ولاية لها عليه فيقتل به كالأخ والصحيح الأول ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا يقتل والد بولده ] ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر فكانت أولى بنفي القصاص عنها والولاية غير معتبرة بدليل انتفاء القصاص عن الأب بقتل الكبير الذي لا ولاية عليه وعن الجد ولا ولاية له وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق والجدة وإن علت في ذلك كالأم وسواء في ذلك من قبل الأب أو من قبل الأم لما ذكرنا في الجد
فصل : وسواء كان الوالد مساويا للولد في الدين والحرية أو مخالفا له في ذلك لأن انتفاء القصاص لشرف الأبوة وهو موجود في كل حال فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل المسلم أباه الكافر أو قتل العبد ولده الحر أو قتل الحر ولده العبد لم يجب القصاص لشرف الأبوة فيما إذا قتل ولده وانتفاء المكافأة فيما إذا قتل والده
فصل : وإذا ادعى نفران نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل إلحاقه بواحد منهما فلا قصاص عليهما لأنه يجوز أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وان ألحقته القافة بأحدهما ثم قتلاه لم يقتل أبوه وقتل الآخر لأنه شريك الأب في قتل ابنه وإن رجعا جميعا عن الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق للولد فلم يقبل رجوعهما عن إقرارهما به كما لو أقر له بحق سواع أو كما لو ادعاه واحد فألحق به ثم جحده وإن رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر لأن رجوعه لم يبطل نسبه ويسقط القصاص عن الذي لم يرجع ويجب على الراجع لأنه شارك الأب وإن عفا عنه فعليه نصف الدية ولو اشترك رجلان في وطء امرأة في طهر واحد وأتت بولد يمكن أن يكون منهما فقتلاه قبل إلحاقه بأحدهما لم يجب القصاص وإن نفيا نسبه لم ينتف بقولهما وإن نفاه أحدهما لم ينتف بقوله لأنه لحقه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وفارق التي قبلها من وجهين : أحدهما : إذا رجع عن دعواه لحق الآخر وههنا لا يلحق ذلك والثاني : أن ثبوت نسبه تم بالاعتراف فيسقط بالجحد وههنا يثبت بالاشتراك في الوطء فلا ينتفي بالجحد ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا سواء
فصل : ولو قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أو لم يكن لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه فإن لم يكن للمقتول ولد منهما وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز و النخعي و الثوري و الشافعي واصحاب الرأي وقال الزهري : لا يقتل الزوج بامرأته لأنه ملكها بعقد النكاح فأشبه الأمة
ولنا عمومات النص ولأنهما شخصان متكافئان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فيقتل به كالأجنبيين وقوله : إنه ملكها غير صحيح فإنها حرة وإنما ملك منفعة الاستمتاع فأشبه المستأجرة ولهذا تجب ديتها عليه ويرثها ورثتها ولا يرث منها إلا قدر ميراثه ولو قتلها غيره كانت ديتها أو القصاص لورثتها بخلاف الأمة
فصل : ولو قتل رجل أخاه فورثه ابنه أو أحد يرث ابنه منه شيئا من ميراثه لم يجب القصاص لما ذكرنا ولو قتل خال ابنه فورثت أم ابنه القصاص أو جزءا منه ثم ماتت بقتل الزوج أو غيره فورثها ابنه سقط القصاص لأن ما منع مقارنا أسقط طارئا وتجب الدية ولو قتلت المرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص سواء صار إليها ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره لما ذكرنا
فصل : وإذا قتل أحد أبوي المكاتب المكاتب أو عبدا له لم يجب القصاص لأن الوالد لا يقتل بولده ولا يثبت للولد على والده قصاص وإن اشترى المكاتب أحد أبويه ثم قتله لم يجب عليه قصاص لأن السيد لا يقتل بعبده
فصل : ابنان قتل أحدهما أباه والآخر أمه فإن كانت الزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول فالقصاص على قاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزءا من دم الأول فلما قتل ورثه قاتل الأول فصار له جزء من دم نفسه فسقط القصاص عنه ووجب له القصاص على أخيه فإن قتله ورثه إن لم يكن له وارث سواه لأنه قتله بحق وإن عفا عنه إلى الدية وجبت وتقاصا بما بينهما وما فضل لأحدهما فهو له على أخيه وإن لم تكن الزوجية بين الأبوين قائمة فعلى كل واحد منهما القصاص لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه وحده دون قاتله فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى صاحبه حقه وسقط القصاص عنه لأنه يرث أخاه لكونه قتلا بحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه ويرثه إن لم يكن له وارث سواه وإن تشاحا في المبتدىء منهما بالقتل احتمل أن يبدأ بقتل القاتل الأول لأنه اسبق واحتمل أن يقرع بينهما وهذا قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحاق فيصيرا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولا إما بمبادرة أو قرعة ورثه في قياس المذهب إن لم يكن له وارث سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوبا عن ميراثه كله فلوارث القتيل قتل الآخر وإن عفا أحدهما عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضا وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وإن تعافيا جميعا على الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الأم الفضل على قاتل الأب لأن عقل الأم نصف عقل الأب ويتخرج أن يسقط القصاص عنهما لتساويهما في استحقاقه لسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما واستيفاء أحدهما دون الآخر حيف فلا يجوز فتعين السقوط وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عمه عن ميراث أبيه فإذا قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه ثم لابنه أن يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد من الابنين مال أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه وإن كان لكل واحد منهما ابنة فقتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال أخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه القصاص وورث مال أبيه الذي قتله أبوه ونصف مال أخيه ونصف مال أبيه الذي هو قتله وورثت البنت التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتله
فصل : أربعة إخوة قتل الأول الثاني والثالث الرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع لم يرثه وورثه الأول وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط ووجب للثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئا فإن قتله ورثه في ظاهر المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني وإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها وإن كان لهما ورثه كان فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها

مسألة ويقتل الولد بكل واحد من أبويه
مسألة : قال : ويقتل الولد بكل واحد منهما
هذا قول عامة أهل العلم منهم مالك و الشافعي و إسحاق واصحاب الرأي وحكى أصحابنا عن أحمد رواية ثانية أن الابن لا يقتل بأبيه لأنه ممن لا تقبل شهادته به بحق النسب فلا يقتل به كالأب مع ابنه والمذهب أنه يقتل به للآيات والأخبار وموافقة القياس ولأن الأب أعظم رحمة وحقا من الأجنبي فإذا قتل بالأجنبي فبالأب أولى ولأنه يجد بقذفه فيقتل به كالأجنبي ولا يصح قياس الابن على الأب لأن حرمة الوالد على الولد آكد والابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك بخلاف الوالد مع الولد وقد ذكر أصحابنا حديثين متعارضين عن سراقة النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما : أنه قال : [ لا يقاد الأب من ابنه ولا الابن من أبيه ] والثاني : [ أنه كان يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه ] رواه الترمذي وهذان الحديثان أما الحديث الأول لا نعرفه ولم نجده في كتب السنن المشهورة ولا أظن له أصلا وإن كان له أصل فهما متعارضان متدافعان يجب اطراحهما والعمل بالنصوص الواضحة الثابتة والإجماع الذي لا يجوز مخالفته

مسألة وفصول قتل الجماعة بالواحد ولا عبرة للتساوي بينهم في سبب القتل
مسألة : قال : ويقتل الجماعة بالواحد
وجملته أن الجماعة إذا قتلوا واحدا فعلى كل واحد منهم القصاص إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القصاص روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن وأبو سلمة و عطاء و قتادة وهو مذهب مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبي ثور أصحاب الرأي وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب علهيم الدية وهذا قول ابن الزبير و الزهري و ابن سيرين و حبيب بن أبي ثابت وعبد الملك و ربيعة و داود و ابن المنذر و حكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير و ابن سيرين و الزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافىء له فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد ولأن الله تعالى قال : { الحر بالحر } وقال : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد والتفاوت في العدد أولى قال ابن المنذر : لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا وعن علي رضي الله عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعا ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر
فصل : ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه فلو جرحه رجل جرحا والآخر مائة أو جرحه أحدهما موضحة والآخر آمه أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا سواء في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفي باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة ومن غير الجائفة دون الجائفة ولأن الجراح إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد الا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات
فصل : إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه الثالث فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث فإن برئت جراحه أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فله أن يقتص من الذي برىء جرحه بمثل جرحه ويقتل الآخرين أو يأخذ منهما دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وله أن يعفو عن الذي برىء جرحه ويأخذ منه دية جرحه فإن ادعى الموضح أن جرحه برىء قبل موته وكذبه شريكاه نظرت في الولي فإن صدقه ثبت حكم البرء بالنسبة إليه فلا يملك قتله ولا مطالبته بثلث الدية وله أن يقتص منه موضحة أو يأخذ منه أرشها ولم يقبل قوله في حق شريكه لأن الأصل عدم البرء فيها لكن ان اختار الولي القصاص فلا فائدة لهما في إنكار ذلك لأن له أن يقتلهما سواء برئت أو لم تبرأ وإن اختار الدية لم يلزمهما أكثر من ثلثيها وإن كذبه الولي حلف وله الاقتصاص منه أو مطالبته بثلث الدية ولم يكن له مطالبة شريكه بأكثر من ثلثها فإن شهد له شريكاه ببرئها لزمهما الدية كاملة لإقرارهما بوجوبها وللولي أخذها منهما أن صدقهما وإن لم يصدقهما وعفا إلى الدية لم يكن له أكثر من ثلثيها لأنه لا يدعي أكثر من ذلك وتقبل شهادتهما له أن كانا قد تابا وعدلا لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك نفعا فيسقط القصاص عنه ولا يلزمه أكثر من أرش موضحة
فصل : إذا قطع رجل يده من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق ثم مات نظرت فإن كانت جراحة الأول برئت قبل قطع الثاني فالثاني هو القاتل وحده وعليه القود أو الدية كاملة إن عفا عن قتله وله قطع يد الأول أو نصف الدية وإن لم تبرأ فهما قاتلان وعليهما القصاص في النفس وإن عفا إلى الدية وجبت عليهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة القاتل هو الثاني وحده ولا قصاص على الأول في النفس لأن قطع الثاني قطع سراية قطعه ومات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه وقال مالك أن قطعه الثاني عقيب قطع الأول قتلا جيمعا وإن عاش بعد قطع الأول حتى أكل وشرب ومات عقيب الثاني فالثاني هو القاتل وحده وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما شاؤوا ويقتلوه
ولنا أنهما قطعان لو مات بعد كل واحد منهما وحده لوجب عليه القصاص فإذا مات بعدهما وجب عليهما القصاص كما لو كان في يدين ولأن القطع الثاني لا يمنع جنايته بعده فلا يسقط حكم ما قبله كما لو في يدين ولا نسلم زوال جنايته ولا قطع سرايته فإن الألم الحاصل بالقطع الأول لم يزل وإنما انضم إليه الألم الثاني فضعفت النفس عن احتمالهما فزهقت بهما فكان القتل بهما ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا فإن ادعى الأول أن جرحه اندمل فصدقه الولي سقط عنه القتل ولزمه القصاص في اليد أو نصف الدية وإن كذبه شريكه واختار الولي القصاص فلا فائدة له في تكذيبه لأن قتله واجب وإن عفا عنه إلى الدية فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه أكثر من نصف الدية وإن كذب الولي الأول حلف وكان له قتله لأن الأصل عدم ما ادعاه ولو ادعى الثاني اندمال جرحه فالحكم فيه كالحكم في الأول إذا ادعى ذلك

مسألة اشتراك الجماعة في جرح موجب القصاص
مسألة : قال : وإذا قطعوا يدا قطعت نظيرتها من كل واحد منهم
وجملته أن الجماعة إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص وجب القصاص على جميهم وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وقال الحسن و الزهري و الثوري واصحاب الرأي و ابن المنذر : لا تقطع يدان بيد واحدة ويتعين ذلك وجها في مذهب أحمد لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ووهذا تنبيه على أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها ولا أصلية بزائدة بأصلية ولا يمينا بيسار ولا يسارا بيمين ولا نساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما ولا يعتبر التساوي في النفس فإننا نأخذ الصحيح بالمريض وصحيح الأطراف يمقطوعها وأشلها ولأنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع بحيث لو قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص بخلاف النفس ولأن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب القصاص زجرا عنه كيلا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل والاشتراك المختلف فيه لا يقع إلا في غاية الندرة فلا حاجة إلى الزجر عنه ولأن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد وإيجابه عن المشتركين في الطرف لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ولا عن شيء من الاشتراك إلا على صورة نادرة الوقوع بعيدة الوجود يحتاج في وجودها إلى تكلف فإيجاب القصاص للزجر عنها يكون منعا لشيء ممتنع بنفسه لصعوبته وإطلاقا في القطع السهل المعتاد بنفي القصاص عن فاعله وهذا لا فائدة فيه بخلاف الاشتراك في النفس يحققه أن وجوب القصاص على الجماعة بواحد في النفس والطرف على خلاف الأصل لكونه يأخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت عليه ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه وإنما خولف هذا الأصل في الأنفس زجرا عن الاشتراك الذي يقع القتل به غالبا ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم ولأن النفس أشرف من الطرف ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها بذلك
ولنا ما روي أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جاءا بالآخر فقالا : هذا هو السارق وأخطأنا في الأول فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية الأول وقال : لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة ولأنه أحد نوعي القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأتفس وأما اعتبار التساوي فمثله في الأنفس فإننا نعتبر التسوي فيها فلا نأخذ مسلما بكافر ولا حرا بعبد وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها فلأن الطرف ليس هو من النفس المقتص منها وإنما يفوت تبعا ولذلك كانت ديتهما واحدة بخلاف اليد الناقصة والشلاء مع الصحيحة فإن ديتهما مختلفة وأما اعتبار التساوي في الفعل فإنما اعتبر في اليد لأنه يمكن مباشرتها بالقطع فإذا قطع كل واحد منهما من جانب كان فعل كل واحد منهما متميزا عن فعل صاحبه فلا يجب على إنسان قطع محل لم يقطع مثله وأما النفس فلا يمكن مباشرتها بالفعل وإنما أفعالهم في البدن فيفضي ألمه إليها فتزهق ولا يتميز ألم فعل أحدهما من ألم فعل الآخر فكان كالقاطعين في محل واحد ولذلك لا يستوفى من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه ولا يجوز تجاوزه وفي النفس لو قتله بجرح في بطنه أو جنبه أو غير ذلك كان الاستيفاء من العنق دون المحل الذي وقعت الجناية فيه إذا ثبت هذا فإنما يجب القصاص على المشتركين في الطرف إذا اشتركوا فيه على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل الآخر إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه فيقطع ثم يرجعون عن الشهادة أو يكرهوا إنسانا أو يكرهوا على قطع طرف فيجب قطع المكرهين كلهم والمكره أو يلقوا ضخرة على طرف إنسان فيقطعه أو يقطعوا يدا أو يقلعوا عينا بضربة واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعا أو يمدوها فتبين فإن قطع كل واحد منهم من جانب أو قطع أحدهم بعض المفصل وأتمه غيره أو ضرب كل واحد ضربة أو وضوا منشارا على مفصله ثم مده كل واحد إليه مرة مرة حتى بانت اليد فلا قصاص فيه لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها وإن كان فعل واحد منهم يمكن الاقتصاص بمفرده اقتص منه وهذا مذهب الشافعي

مسألتان وفصل اشتراك من لا قصاص عليه مع من عليه القصاص في الجناية
مسألة : قال : وإذا قتل الأب وغيره عمدا قتل من سوى الأب
وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا قصاص على واحد منهما وهو قول أصحاب الرأي لأنه قتل تركب من موجب فلم يوجب كقتل العامد والخاطىء والصبي والبالغ والمجنون والعاقل
ولنا أنه شارك في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي ولا نسلم أن فعل الأب غير موجب فإنه يقتضي الإيجاب لكونه تمحض عمدا عدوانا والجناية به أعظم إثما وأكثر جرما ولذلك خصه الله تعالى بالنهي عنه فقال : { ولا تقتلوا أولادكم } ثم قال : { إن قتلهم كان خطأ كبيرا } [ ولما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن أعظم الذنب قال : أن تجعل لله ندا وهو خلفك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك ولأنه قطع الرحم التي أمر الله تعالى بصلتها ووضع الإساءة موضع الإحسان فهو أولى بإيجاب العقوبة ولازجر عنه وإنما امتنع الوجوب في حق الأب لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب فلا يمتنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه وأما شريك الخاطىء فلنا فيه منع ومع التسليم فامتناع الوجوب فيه لقصور السبب عن الإيجاب فإن فعل الخاطىء غير موجب للقصاص ولا صالح له والقتل منه ومن شريكه غير متمحض عمدا لوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهوق النفس بخلاف مسألتنا
فصل : وكل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب القصاص على شريكه كالأب وشريكه مثل أن يشترك مسلم وذمي في قتل عبد عمدا عدوانا فإن القصاص لا يجب على المسلم والحر ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك الأب لأن امتناع القصاص عن المسلم لإسلامه وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول له وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعله ولا إلى شريكه فلم يسقط القصاص عنه
وقد نقل عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي رحمه الله عن حر وعبد قتلا عبدا عمدا قال : أما الحر فلا يقتل بالعبد وعلى الحر نصف قيمة العبد في ماله والعبد إن شاء سيده أسلمه وإلا فداه بنصف قيمة العبد وظاهر هذا أنه لا قصاص على العبد فيخرج مثل ذلك في كل قتل شارك فيه من لا يجب عليه القصاص
مسألة : قال : وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ لم يقتل واحد منهم وعلى العاقل ثلث الدية في ماله وعلى عاقلة كل واحد من الصبي والمجنون ثلث الدية وعتق رقبتين في أموالهما لأن عمدهما خطأ
أما إذا شاركوا في القتل من لا قصاص عليه لمعنى في فعله كالصبي والمجنون فالصحيح في المذهب أنه لا قصاص عليه وبهذا قال الحسن و الأوزاعي و إسحاق و أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أن القود يجب على البالغ العاقل حكاها ابن المنذر عن أحمد وحكي ذلك عن مالك وهو القول الثاني لـ لشافعي وروي ذلك عن قتادة و الزهري و حماد لأن القصاص عقوبة تجب عليه جزاء لفعله فمتى كان فعله عمدا وعدوانا وجب القصاص عليه ولا ننظر إلى فعل شريكه بحال ولأنه شارك بحال ولأنه شارك في القتل عمدا وعدوانا فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وذلك لأن الإنسان إنما يؤخذ بفعله لا بفعل غيره فعلى هذا يعتبر فعل الشريك منفردا فمتى تمحض عمدا عدوانا وكان المقتول مكافئا له وجب عليه القصاص وبنى الشافعي قوله على أن فعل الصبي والمجنون إذا تعمداه عمد لأنهما يقصدان القتل وإنما سقوط القصاص عنهما لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شركيهما كالأبوة
ولنا أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطىء ولأن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ وهذا معنى قول الخرقي : عمدها خطأ أي في حكم الخطأ في انتفاء القصاص عنه ومدار ديته وحمل عاقلتهما إياها ووجوب الكفارة إذا ثبت هذا فإن الدية تجب عليهم اثلاثا على كل واحد منهم ثلها لأن الدية بدل المحل ولذلك اختلفت باختلافه والمحل المتلف واحد فكانت ديته واحدة ولأنها تتقدر بقدره أما القصاص فإنما كمل في كل واحد لأنه جزاء الفعل وأفعالهم متعددة فتعدد في حقهم وكمل في حق كل واحد كما لو قذف جماعة واحدا إلا أن الثلث الواجب على المكلف يلزم في ماله حالا لأن فعله عمد والعاقلة لا تحمل العمد وما يلزم الصبي والمجنون فعلى عاقلتهما لأن عمدهما خطأ والعاقلة تحمل جناية الخطأ إذا بلغت ثلث الدية وتكون مؤجلة عاما فإن الواجب متى كان ثلث الدية كان أجله عاما ويلزم كل واحد منهما الكفارة من ماله لأن فعلهما خطأ والقاتل الخاطىء والمشارك في القتل خطأ يلزمه كفارة لأنها لا تجب بدلا عن المحل ولهذا لم تختلف وإنما وجبت تكفيرا للفعل ومحوا فوجب تكميلها كالقصاص

مسألة وفصل يقتل الذكر بالأنثى وبالعكس
مسألة : قال : ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر
هذا قول عامة أهل العلم منهم : النخعي و الشعبي و الزهري وعمر بن عبد العزيز و مالك وأهل المدينة و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي وغيرهم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية أخرجه سعيد وروي مثل هذا عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن و عطاء و حكي عنهما مثل قول الجماعة ولعل من ذهب إلى القول الثاني يحتج بقول علي رضي الله عنه ولأن عقلها نصف عقله فإذا قتل بها بقي له بقية فاستوفيت ممن قتله
ولنا قوله تعالى : { النفس بالنفس } وقوله : { الحر بالحر } مع عموم سائر النصوص [ وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يهوديا رض رأس جارية من الأنصار ] وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان وأن الرجل يقتل بالمرأة وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شيء لأنه قصاص واجب فلم يجب معه شيء على المقتص كسائر القصاص واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني يؤخذ بالمجوسي مع اختلاف دينيهما ويؤخذ العبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما ]
فصل : ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ويقتل بهما لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى

مسألة ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح
مسألة : قال : ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح
وجملته أن كل شخصين جرى بينهما القصاص في النفس جرى القصاص بينهما في الأطراف فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم ومن لا يقتل بقتله لا يقطع طرفه بطرفه فلا يقطع مسلم بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد وبهذا قال مالك و الثوري و الشافعي و بو ثور و إسحاق و ابن المنذر وقال ابو حنيفة : لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص ولا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فكذا لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا يؤخذ طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى
ولنا أن من جرى بينهما القصاص في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل بالقصاص في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لأن المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع وأما اليسار واليمين فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما ولهذا استوى بدلهما فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعا ولا العلة فيهما ذلك

مسألة اشتراك المخطىء والعامد في القتل
مسألة : قال : وإذا قتلاه وأحدهما مخطىء والآخر متعمد فلا قود على واحد منهما وعلى العامد نصف الدية في ماله وعلى عاقلة المخطىء نصفها وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة
أما المخطىء فلا قصاص عليه للكتاب والسنة والإجماع : أما الكتاب فقول الله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] وأجمع أهل العلم على أنه لا قصاص عليه وأما شريكه فأكثر أهل العلم لا يرون عليه قصاصا وبه قال النخعي و الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أن عليه القصاص وحكي ذلك عن مالك لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فوجب عليه القصاص كشريك العامد ولأن مؤاخذته بفعله وفعله عمد وعدوان لا عذر له فيه
ولنا أنه قتل لم يتمحض عمدا فلم يوجب القصاص كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ ولأن كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب فإذا كانا عامدين فكل واحد متسبب إلى فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه وههنا إذا أقمنا المخطىء مقام العامد صار كأنه قتله بعمد وخطأ وهذا غير موجب

فصل مشركة الرجل غيره في قتل نفسه
فصل : وهل يجب القصاص على شريك نفسه وشريك السبع ؟ فيه وجهان ذكرهما أبو عبد الله ابن حامد وصورة ذلك أن يجرحه سبع ويجرحه إنسان عمدا إما قبل ذلك أو بعده فيموت منهما أو يجرح نفسه عمدا ثم يجرحه غيره عمدا فيموت منهما فهل يجب على المشارك له قصاص ؟ فيه وجهان واختلف عن الشافعي فيه وقال أصحاب الرأي : لا قصاص عليه لأنه شارك من لا يجب القصاص عليه فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطىء ولأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كالقتل الحاصل من عمد وخطأ إذا لم يجب على شريك الخاطىء وفعله مضمون فلأن لا يجب على شريك من لا يضمن فعله أولى
والوجه الثاني : عليه القصاص وهو قول أبي بكر وروي عن أحمد أنه قال : إذا جرحه رجل ثم جرح الرجل نفسه فمات فعل شريكه القصاص لأنه قتل عمد متمحض فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب فأما إن جرح الرجل نفسه خطأ كأن أراد ضرب جارحه فأصاب نفسه أو خاط جرحه فصادف اللحم الحي فلا قصاص على شريكه في أصح الوجهين وفيه وجه آخر أن عليه القصاص بناء على الروايتين في شريك الخاطىء

فصل القصاص من الخارج إذا مات المجروح تحت العلاج
فصل : فإن جرحه إنسان فتداوى بسم فمات نظرت فإن كان سم ساعة يقتل في الحال فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح وتنظر في الجرح فإن كان موجبا للقصاص فلوليه استيفاؤه وإن لم يكن موجبا له فلوليه الأرش وإن كان السم لا يقتل في الغالب وقد يقتل بفعل الرجل في نفسه عمد خطأ والحكم في شريكه كالحكم في شريك الخاطىء وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية وإن كان السم يقتل غالبا بعد مدة احتمل أن يكون عمد الخطأ أيضا لأنه لم يقصد القتل إنما قصد التداوي فيكون كالذي قتله واحتمل أن يكون في حكم العمد فيكون في شريكه الوجهان المذكوران في الفصل الذي قبله وإن جرح رجل فخاط جرحه أو أمر غيره فخاطه له وكان ذلك مما يجوز أن يقتل فحكمه حكم ما لو شرب سما يجوز أن يقتل على ما يقتل على ما مضى فيه وإن خاطه غيره بغير إذنه كرها فهما قاتلان عليهما القود وإن خاطه وليه أو الإمام وهو ممن لا ولاية عليه فهما كالأجنبي وإن كان لهما عليه ولاية فلا قود عليهما لأن فعلهما جائز لهما إذ لهما مداوته فيكون ذلك خطأ وهل على الجارح القود ؟ فيه وجهان بناء على شريك الخاطىء

مسألة دية العبد
مسألة : قال : ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات
أجمع أهل العلم أن في العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قيمته وإن بلغت قيمته دية الحر أو زادت عليها فذهب أحمد رحمه الله إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت وإن بلغت ديات عمدا كان القتل أو خطأ سواء ضمن باليد أو بالجناية وهذا قول سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز و إياس بن معاوية و الزهري و مكحول و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابي يوسف وقال النخعي و الشعبي و الثوري و أبو حنيفة ومحمد : لا تبلغ به دية الحر وقال أبو حنيفة : ينتقص عن دية الحر دينارا أو عشرة دراهم القدر الذي يقطع به السارق وهذا إذا ضمن بالجناية وإن ضمن باليد بأن يغصب عبدا فيموت في يده فإن قيمته تجب وإن زادت على دية الحر واحتجوا بأنه ضمان آدمي فلم يزد على دية الحر كضمان الحر وذلك لأن الله تعالى لما أوجب في الحر دية لا تزيد وهو أشرف لخلوصه من نقيصة الرق كان تنبيها على أن دية العبد المنقوص لا يزاد عليها فنجعل مالية العبد معيارا للقدر الواجب فيه ما لم يزد على الدية فإذا زاد علمنا خطأ ذلك فنرده إلى دية الحر كأرش ما دون الموضحة يجب فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش الموضحة فنرده إليها
ولنا أنه مال متقوم فيضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت كالفرس أو مضمون بقيمته فكانت جميع القيمة كما لو ضمنه باليد ويخالف الحر فإنه ليس بمضمون بالقيمة وإنما ضمن بما قدره الشرع فلم يتجاوزه ولأن ضمان الحر ليس بضمان مال ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته وهذا ضمان مال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها فاختلفتا وقد حكى أبو الخطاب عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه لا يبلغ بالعبد دية الحر والمذهب الأول

باب القود
القود القصاص ولعله إنما سمي بذلك لأن المقتص منه في الغالب يقاد بشيء يربط فيه أو بيده إلى القتل فسمي القتل قودا لذلك

مسألة وفصل تحديد القاتل عند تعدد الجناة
مسألة : قال : ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها فأبانها منه ثم ضرب عنقه آحر فالقاتل هو الأول ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأن الأول لا يعيش مثله والثاني قد يعيش مثله
وجملته أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل قطع حشوته أي ما في بطنه وإبانتها منه أو ذبحه ثم ضرب عنقه الثاني فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته حياة فالقود عليه خاصة وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت وإن عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة الحشوة أو قطع طرف ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج الأول من حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس والدية كاملة وإن عفا عنه ثم ننظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه والعفو عن ديته مطلقا وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة ونحوها فعليه الأرش وإنما جعلنا عليه القصاص لأن فعل الثاني قطع سراية جراحة فصار كالمندمل الذي لا يسري وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل خرق المعى أو أم الدماغ فضرب الثاني عنقه فالقاتل هو الثاني لأنه فوت حياة مستقرة وقيل : هو في حكم بدليل أن عمر رضي الله عنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال : أعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى فقبل الصحابة هده وأجمعوا على قبول وصاياه وعهده فما كان خكم الحياة باقيا كان الثاني مفوتا لها فكان هو القاتل كما لو قتل عليلا لا يرجى برء علته
فصل : إذا ألقى رجلا من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقتله فالقصاص على من قتله لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حال يئسوا فيها من حياته فأشبه ما لو رماه إنسان بسهم قاتل فقطع آخر عنقه قبل وقوع السهم به أو ألقى عليه صخرة فأطار آخر راسه بالسيف قبل وقوعها عليه وبهذا قال الشافعي : إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان : أحدهما : كقولنا والثاني : الضمان عليهما بالقصاص والدية عند سقوطه لأن كل واحد منهما سبب للإتلاف
ولنا أن الرمي سبب والقتل مباشرة فانقطع حكم السبب كالدافع مع الحافر والجارح مع الذابح وكالصور التي ذكرنا وما ذكروه باطل بهذه الأصول المذكورة

مسألة وفصل كيفية استيفاء القصاص ممن قطع الأطراف أو جرح قبل أن يقتل
مسألة : قال : وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه قتل ولم تقطع يده ولا رجلاه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى قال إنه لأهل أن يفعل به كما فعل فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة
وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلا ثم ضرب عنقه قبل اندمال الجرح فالكلام في المسألة حالين : أحدهما : أن يختار الولي القصاص فاختلفت الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي عنه : لا يستوفي إلا بالسيف في العنق وبه قال عطاء و الثوري و أبو يوسف و محمد لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قود إلا بالسيف ] رواه ابن ماجة ولأن القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية لم تجب إلا دية النفس ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته بإتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فإنه لا يقتل بمثله والرواية الثانية عن أحمد قال : إنه لأهل أن يفعل به كما فعل يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و أبي حنيفة و أبي ثور لقول الله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله سبحانه : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من الأنصار بين حجرين ] ولأن الله تعالى قال : { والعين بالعين } وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه للآية وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ومن حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ] ولأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه به فوجب أن يستوفي منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فأما حديث : [ لا قود إلا بالسيف ] فقال أحمد : ليس إسناده بجيد
الحال الثاني : أن يصير الأمر إلى الدية إما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير ذلك فالواجب دية واحدة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النفس لأنه لما قطع بسراية الجرح بقتله صار كالمستقر فأشبه ما لو قتله غيره ولهذا لم يسقط القصاص فيه
ولنا أنه قاتل قبل استقرار الجرح فدخل أرش الجراحة في أرش النفس كما لو سرت إلى نفسه والقصاص في الأطراف على إحدى الروايتين لا يجب وإن وجب فإن القصاص لا يشبه الدية لأن سراية الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته
فصل : ومتى قلنا له أن يستوفي بمثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك وهو أفضل وإن قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضها ثم عفا عن قتله فكذلك لأنه تارك بعض حقه وإن قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لأن جميع ما فعل بوليه لا يجب به إلا دية واحدة فلا يجوز أن يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية فإن فعل فله ما بقي من الدية فإن لم يبق منها شيء فلا شيء له وإن قلنا : ليس له أن يستوفي إلا بضرب العنق فاستوفى منه بمثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه سوى المأثم لأن فعل الجاني في الأطراف لم يوجب عليه شيئا يختص بها فكذلك فعل المستوفي إن قطع الجاني طرفا واحدا ثم عفا إلى الدية لم يكن له إلا تمامها وإن قطع ما تجب به الدية ثم عفا لم يكن له شيء وإن قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أن يلزمه ما زاد على الدية لأنه لا يستحق أكثر من دية وقد فعل ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه واحتمل أن لا يلزمه شيء لأنه لو قتله لم يلزمه شيء فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شيء ولأنه فعل بعض ما فعل بوليه فلم يلزمه شيء كما لو قلنا إن له أن يستوفي مثل ما فعل به

فصول القصاص حين يسري الجرح إلى النفس
فصل : فإن قطع يديه ورجليه أو جرحه جرحا يوجب القصاص إذا انفرد فسرى إلى النفس فله القصاص في النفس وهل له أن يستوفي القطع قبل القتل ؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما على الروايتين المذكورتين في المسألة وإحداهما : ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة لأن ذلك يفضي إلى الزيادة على ما جناه الأول والقصاص يعتمد المماثلة فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو قطع يده من نصف الذراع والثانية : يجب القصاص في الطرف فإن مات به وإلا ضربت عنقه وهذا مذهب الشافعي لما ذكرناه في أول المسألة وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية واحدة وأنه لا يصح تخريجه على الروايتين في المسألة لإفضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة والصحيح تخريجه على الروايتين وليس هذا بزيادة لأن فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله فأشبه ما لو قطعه ثم قتله ولأن زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين
فصل : وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به مثل أن أجافه أو أمه أو قطع يده من نصف ذراعه أو رجله من نصف ساقه فمات منه أو قطع يدا ناقصة الأصابع أو شلاء أو زائدة ويد القاطع أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل مثل ما فعل وليس له أن يقتص إلا في العنق بالسيف ذكره أبو بكر والقاضي وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل ما فعله لأنه صار قتلا فكان له القصاص بمثل فعله كما لو رض رأشه بحجر فقتله به والصحيح الأول لأن هذا لو انفرد لم يكن فيه قصاص فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن له أن يستوفي من يساره وفارق ما إذا رض رأسه فمات لأن ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قتل وقطع والقطع لا يوجب قصاصا فبقي مجرد القتل فإذا جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعا لم يرد الشرع باستيفائه فيكون حراما وسواء في هذا ما إذا قطع ثم قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى إلى النفس
فصل : فأما قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قلع العين ولا عين له فمات المجني عليه فإنه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه ولا أعلم فيه خلافا لأن القصاص إنما يكون من مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولأن القصاص فعل مثل فعل الجاني ولا سبيل إليه ولأنه لو قطع ثم عفا عن القتل لصار مستوفيا رجلا ممن لم يقطع له مثلها أو أذنا بدلا عن عين وهذا غير جائز وهذا يدل على فساد الوجه الثاني في الفصل الذي قبله

فصلان حكم القتل بغير السيف وبما لا يحل لعينه
فصل : وإن قتله بغير السيف مثل أن قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفي القصاص بمثل فعله ؟ فيه روايتان : إحداهما : له ذلك وهو قول مالك و الشافعي والثانية : لا يستوفي إلا بالسيف في العنق وبه قال أبو حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات ووجه الروايتين ما تقدم في أول المسألة ولأن هذا لا تؤمن معه الزيادة على ما فعله الجاني فلا يجب القصاص بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كالة أو مسمومة أو بالسيف فإنه لا يستوفى بمثله ولأن هذا لا يقتل به المرتد فلا يستوفى به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو بالسحر ولا تفريع على هذه الرواية فأما على الرواية الأخرى فإنه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف وهذا أحد قولي الشافعي والقول الثاني أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لأنه قتله بذلك فله قتله بمثله
ولنأ انه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحا أو قطع منه طرفا فاستوفى منه الولي مثله فلم يمت به فإنه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه فكذا ههنا
فصل : وإن قتله بما لا يحل لعينه مثل أن لاط به فقتله أو جرعه خمرا أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقا ويعدل إلى القتل بالسيف وحكى أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجه آخر أنه يدخل في دبره خشبة يقتله بها ويجرعه الماء حتى يموت
ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن حرقه فقال بعض أصحابنا لا يحرق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا يعذب بالنار إلا رب النار ] ولأنه داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة وقال القاضي : الصحيح أن فيه روايتين كالتغريق :
إحداهما : يحرق وهو مذهب الشافعي لما [ روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ] وحملوا الحديث الأول على غير القصاص في المحرق

فصلان زيادة مستوفي القصاص في النفس على حقه
فصل : إذا زاد مستوفي القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه أو بعضها نظرنا فإن عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر و أبو يوسف و محمد : لا ضمان عليه ولكن قد اساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل أو قتله لأنه قطع طرفا من جملة استحق إتلافها فلم يضمنه كما لو قطع أصبعا من يد يستحق قطعها
ولنا أنه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانه كما لو عفا ثم قطعه أو كما لو قطعه أجنبي فأما إن قطعه ثم قتله احتمل أن يضمنه أيضا لأنه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا لم يعف عنه لأن العفو إحسان فلا يكون موجبا للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لو قطع متعديا ثم قتل لم يضمن الطرف فلأن يضمنه إذا كان القتل مستحقا أولى
فأما القصاص فلا يجب في العرف بحال ولا نعلم في هذا خلافا لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة ههنا متحققة لأنه متحقق لإتلاف هذا الطرف ضمنا لاستحقاقه إتلاف الجملة ولا يلزم من سقوط القصاص أن لا تجب الدية بدليل امتناعه لعدم المكافآت فأما إن كان الجاني قطع طرفه ثم قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه فيما مضى وإن قطع طرفا غير الذي قطعه الجاني كأن قطع الجاني يده فقطع المستوفى رجله احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لأن ديتهما واحدة واحتمل أن تلزمه دية الرجل لأن الجاني لم يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده
فصل : فأما إن كانت الزيادة في الاستيفاء لأنه الطرف مثل أن استحق قطع أصبع فقطع اثنتين فحكمه حكم القاطع ابتداء إن كان عقدا من مفصل أو شجة يجب في مثلها القصاص فعليه القصاص في الزيادة وإن كان خطأ أو جرحا لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفاها هاشمة فعليه أرش الزيادة إلا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شيء على المقتص لأنه حصل بفعل الجاني فإن اختلفا هل فعله خطأ أو عمدا ؟ فالقول قول المقتص مع يمينه لأن هذا مما يمكن الخطأ فيه وهو أعلم بقصده وإن قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من جهتك فالقول قول المقتص منه لأنه منكر فإن سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس المقتص منه فمات أو إلى بعض أعضائه مثل أن قطع أصبعه فسرى إلى جميع يده أو اقتص منه بآلة كالة أو مسمومة أو في حال حر مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي : على المقتص نصف الدية لأنه تلف بفعلين جائز ومحرم ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليهما نصفين كما لو جرحه جرحا في حال ردته وجرحا بعد إسلامه فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية كلها فيما إذا اقتص بآلة مسمومة أو كالة لأن الفعل كله محرم بخلاف قطع الأصبعين فإن أحدهما مباح

فصل استيفاء القصاص بحضرة السلطان
قال القاضي ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان وحكاه عن أبي بكر وهو مذهب الشافعي لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس ل [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم برجل يقوده بنسعة فقال إن هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه و سلم اذهب فاقتله ] رواه مسلم بمعناه ولأن اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب أن يحضر شاهدين لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء وإذا أراد الولي الاستيفاء فعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفي بها فإن كانت كالة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول
وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] وإن كانت مسمومة منعه الاستيفاء بها لأنها تفسد البدن وربما منعت غسله وإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عزر وإن كان السيف صارما غير مسموم نظر في الولي فإن كان يحسن الاستيفاء ويكمله بالقوة والمعرفة مكنه منه لقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقال عليه السلام : [ من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ] ولأنه حق له متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق وإن لم يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل لأنه عاجز عن استيفاء حقه فإن ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء فأمكنه السلطان من ضرب عنقه فضرب عنقه فأبانه فقد استوفى حقه وإن أصاب غيره وأقر بتعمد ذلك عزر وإن قال : أخطأت وكانت الضربة في موضع قريب من العتق كالرأس والمنكب قبل قوله مع يمنيه لأن هذا مما يجوز الخطأ في مثله وإن كان بعيدا كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لأن مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم إن أراد العود ففيه وجهان : أحدهما : لا يمكن منه لأنه تبين منه أنه لا يحسن الاستيفاء ويحتمل العود إلى مثل فعله والثاني : يمكن منه قاله القاضي لأن الظاهر تحرزه عن مثل ذلك ثانيا وإن كان الولي لا يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل فيه لأنه حقه فكان له التوكيل في استيفائه كسائر حقوقه فإن لم يجد من يوكله إلا بعوض أخذ العوض من بيت المال
قال بعض أصحابنا : يرزق من بيت المال رجل يستوفي الحدود والقصاص لأن هذا من المصالح العامة فإن لم يحصل ذلك فالأجرة على الجاني لأنها أجرة لإيفاء الحق الذي عليه فكانت عليه كأجرة الكيال في بيع المكيل ويحتمل أن تكون على المقتص لأنه وكيله فكانت الأجرة على موكله كسائر المواضع والذي على الجاني التمكين دون الفعل ولهذا لو أراد أن يقتص من نفسه لم يمكن منه ولأنه لو كانت عليه أجرة التوكيل للزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه وإن قال الجاني أنا أقتص لك من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز ذلك له لأن الله تعالى قال : { ولا تقتلوا أنفسكم } ولأن معنى القصاص أن يفعل به كما فعل ولأن القصاص حق عليه لغيره فلم يجز أن يكون هو المستوفي له كالبائع لا يستوفي من نفسه

فصل حكم ما لو كان القصاص لجماعة من الأولياء
فصل : وإن كان القصاص لجماعة من الأولياء وتشاحوا في المتولي منهم للاستيفاء أمروا بتوكيل أحدهم أو واحد من غيرهم ولم يجز أن يتولاه جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فإن لم يتفقوا على واحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم يحسن الاستيفاء أقرع بينهم لأن الحقوق إذا تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة أمر الباقون بتوكليه ولا يجوز له الاستيفاء بغير إذنهم لأن الحق لهم فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم وإن لم يتفقوا على توكيل واحد منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا

مسألة وفصل حكم ما برئت الجراح قبل القتل
مسألة : قال : وإن كانت الجراح برئت قبل قتله فعلى المعفو عنه ثلاث ديات إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين
أما إذا قطع يديه ورجليه فبرئت جراحه ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار إن شاء عفا وأخذ ثلاث ديات دية لنفسه ودية ليديه ودية لرجليه وإن شاء قتله قصاصا بالقتل وأخذ ديتين لأطرافه وإن أحب قطع أطرافه الأربعة وأخذ دية لنفسه وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه وإن أحب قطع رجليه وأخذ ديتين لنفسه ويديه وإن أحب قطع طرفا واحدا وأخذ دية الباقي وإن أحب قطع ثلاثة أطراف وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم في هذا مخالفا
فصل : فإن اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين وإن اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل عدم مضيها وإن كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لأنه قد وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والأصل عدم ذلك فإن كانت للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمنا حتى قتله حكم له ببينته وإن كان للولي بينة ببرئه حكم له أيضا وإن تعارضتا قدمت بينة الولي لأنها مثبتة للبرء
ويحتمل أن يكون القول قول الجاني إذا لم يكن لهما بينة لأن الأصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها وإن قطع أطرافه فمات واختلفا هل برأ قبل الموت أو مات بسراية الجرح أو قال الولي إنه مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو ذبحه غيره فالحكم فيما إذا مات بغير سبب آخر كالحكم فيما إذا قتله سواء وأما إذا مات بقتل أو سبب آخر ففيه وجهان : أحدهما : تقديم قول الجاني لأن الظاهر بقاء الجناية والأصل عدم سبب آخر فيكون الظاهر معه والثاني : القول قول ولي الجناية لأن الأصل بقاء الديتين اللتين وجد سببهما حتى يوجد ما يزيلهما فإن كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس فقال الجاني بل اندملت جراحه قبل موته ادعى موته بسبب آخر فالقول قول الولي مع يمينه لأن الجرح سبب للموت فقد تحقق والأصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به وسواء كان الجرح فيما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل ولا يوجبه كالجائفة والقطع من غير مفصل وهذا كله مذهب الشافعي

مسألة وفصل إن رمى المسلم ذميا أو عبدا
مسألة : قال : ولو رمى وهو مسلم كافرا عبدا فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من سهمه
هذا قول ابن حامد مذهب الشافعي وقال ابو بكر : يجب القود لأنه قتل مكافئا له ظلما فوجب القصص كما لو كان حرا مسلما حال الرمي يحققه ان الاعتبار بحال الجناية بدليل ما رمى مسلما حيا فلم يقع به السهم حتى ارتد أو مات لم يلزمه شيء ولو رمى عبدا كافرا فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم فعليه درة حر مسلم وقال أبو حنيفة : يلزمه في العبد دية عبد لمولاه لأن الإصابة ناشئة عن إرسال السهم فكان الاعتبار بها كحالة الجرح فأما الكافر فمذهبه أن ديته دية المسلم وأنه يقتل به المسلم وكذلك يقتل الحر بالعبد
ولنا على درء القصاص أنه لم يتعد إلى نفس مكافئته له حال الرمي فلم يجب عليه قصاص كما لو رمى حربيا أو مرتدا فاسلم وعلى أبي حنيفة أنه أتلف حرا فضمنه ضمان الأحرار كما لو قصد صيدا وما قاله يبطل بما إذا رمى حيا فأصابه ميتا أو صحيحا فأصابه معيبا
ولناعلى أن ديته تجب لورثته دون سيده وأنه إذا أسلم تجب ديته لورثته المسلمين دون الكفار إن مات مسلما حرا فكانت ديته لورثته المسلمين كما لو كان كذلك حال رميه ولأن الميراث إنما يستحق بالموت فتعتبر حاله حينئذ لا حين سبب الموت بدليل ما لو مرض وهو عبد كافر ثم اسلم بتلك العلة والواجب بدل المحل فيعتبر بالمحل الذي فات بها فيجب بقدره وقد فات بها نفس حر مسلم والقصاص جزاء الفعل فيعتبر الفعل فيه والإصابة معا لأنهما طرفاه فلذلك لم يجب القصاص بقتله
فصل : ولم يفرق الخرقي بين كون الكافر ذميا أو غيره إلا أنه يتعين التفريق فيه فمتى رمى إلى حربي في دار الحرب فأسلم قبل وقوع الرمية به فلا دية له وفيه الكفارة لأنه رمي مندوب إليه مأمور به فأشبه ما لو قتله في دار الحرب يظنه حربيا وكان قد أسلم وكتم إسلامه وفيه رواية أخرى أن فيه الدية على عاقلة القاتل لأنه نوع خطأ فكذلك ههنا ولو رمى مرتدا في دار الإسلام فأسلم ثم وقع السهم به ضمنه لأنه مفرط بإرسال سهمه عليه لأن قتل المرتد إلى الإمام لا إلى آحاد الناس وقتله بالسيف لا بالسهم

فصل حكم ما لو رمى حربيا فتترس بمسلم فأصابه
فصل : ولو رمى حربيا فتترس بمسلم فأصابه فقتله نظرنا فإن كان تترس به بعد الرمي ففيه الكفارة وفي الدية على عاقلة الرامي روايتان كالتي قبلها وإن تترس به قبل الرمي لم يجز رميه إلا أن يخاف على المسلمين فيرمي الكافر ولا يقصد الكافر ولا يقصد المسلم فإذا قتله ففي ديته أيضا روايتان وإن رماه من غير خوف على المسلم فقتله فعليه ديته لأنه لم يجز له رميه

فصول حكم ما لو قطع أنف عبد والجناية على العبد قبل عتقه وبعده
فصل : ولو قطع يد عبد ثم أعتق ومات أو يد ذمي ثم أسلم ومات ففيه وجهان : أحدهما : الواجب دية حر مسلم لورثته ولسيده منها أقل الأمرين من ديته أو أرش جناية اعتبارا بحال استقرار الجناية وقال القاضي وأبو بكر : تجب قيمة العبد بالغة ما بلغت مصروفة إلى السيد اعتبارا بحال الجناية لأنها الموجبة للضمان فاعتبرت حال وجودها ومقتضى قولهما ضمان الذمي الذي أسلم بدية ذمي ويلزمهما على هذا أن يصرفاها إلى ورثتة من أهل الذمة وهو غير صحيح لأن الدية لا تخلو من أن تكون مستحقة للمجني عليه أو لورثته فإن كانت له وجب أن تكون لورثته المسلمين كسائر أمواله وأملاكه كالذي كسبه بعد جرحه وإن كانت تحدث على مالك ورثته فورثته هم المسلمون دون الكفار
فصل : وإذا قطع أنف عبد قيمته ألف دينار فاندمل ثم أعتقه السيد وجبت قيمته بكمالها للسيد وإن أعتقه ثم اندمل فكذلك لأنه إنما استقر بالاندمال ما وجب بالجناية والجناية كانت في ملك سيده وإن مات من سراية الجرح فكذلك في قول ابي بكر والقاضي وهو قول المزني لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها
وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات ففيه قيمته لا الدية ومقتضى قول الخرقي أن الواجب فيه دية حر وهو مذهب الشافعي لأن اعتبار الجناية بحالة الاستقرار وقد ذكرناه وتصرف الى السيد لأن استحق أقل الأمرين من ديته أو أرش الجرح والدية ههنا أقل الأمرين وما ذكروه ينتقض بما إذا قطع يديه ورجليه فمات بسراية الجرح فإن الواجب دية النفس لا دية الجرح
فصل : وإن قطع يد عبد فأعتق ثم عاد فقطع رجله واندمل القطعان فلا قصاص في اليد لأنها قطعت في حال رقه ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه القطع لسيده ويجب القصاص في الرجل التي قطعها حال حريته أو نصف الدية إن عفا عن القصاص لورثته وإن اندمل قطع اليد وسرى قطع الرجل الى نفسه ففي اليد نصف القيمة لسيده وعلى القاطع القصاص في النفس أو الدية كاملة لورثته وإن اندمل قطع الرجل وسرى قطع اليد ففي الرجل القصاص بقطعها أو نصف الدية لورثته ولا قصاص في اليد ولا في سرايتها وعلى الجاني دية حر لسيده منها أقل الأمرين من أرش القطع أو دية الحر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر والقاضي تجب قيمة العبد لسيده اعتبارا بحال جنايته وإن سرى الجرحان لم يجب القصاص في النفس ولا اليد لأنه مات من جرحين موجب وغير موجب فلم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين عمدا وخطأ ولكن يجب القصاص في الرجل لأنه قطعها من حر فإن اقتص منه وجب نصف الدية لأنه مات من جنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية فإن زاد نصف الدية على نصف القيمة كان الزائد للورثة وإن عفا ورثته عن القصاص فلهم أيضا نصف الدية وإن كان قاطع الرجل غير قاطع اليد واندمل الجرحان فعلى قاطع اليد نصف القيمة لسيده وعلى قاطع الرجل القصاص فيها أو نصف الدية وإن سرى الجرحان إلى نفسه فلا قصاص على ألأول لأنه قطع يد عبد وعليه نصف دية حر لأن المجني عليه حر في حال قرر الجناية وعلى الثاني القصاص في النفس إذا كان عمد القطع لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فهو كشريك الأب ويتخرج أن لا قصاص عليه في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين موجب وغير موجب بناء على شريك الأب وإن عفا عنه إلى الدية فعليه نصف دية حر وإن قلنا بوجوب القصاص في النفس خرج في وجوبه في الطرف روايتان وإن قلنا لا تجب في النفس وجب في الرجل
فصل : وإن قلع عين عبد ثم أعتق ثم قطع آخر يده ثم قطع آخر رجله فلا قود على الأول سواء اندمل جرحه أو سرى وأما الآخران فعليهما القود في الطرفين إن وقف قطعهما أو ديتهما إن عفا عنهما وإن سرت الجراحات كلها فعليهما القصاص في النفس لأن جنايتهما صارت نفسا وفي ذلك وفي القصاص في الطرف اختلاف وقد ذكرناه وأن عفا عنهما فعليهم الدية أثلاثا وفيما يستحقه السيد وجهان :
أحدهما : أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية هذا قياس قول ابي بكر لأنه بالقطع استحق نصف القيمة فإذا صارت نفسا وجب فيها ثلث الدية فكان له اقل الأمرين
والثاني : له اقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية لأن الجناية إذا صارت نفسا كان الاعتبار بما آلت إليه ألا ترى أنه لو جنى الجانيان الآخران قبل العتق أيضا لم يكن على الأول إلا ثلث القيمة فلا يزيد حقه بالعتق كما لو قطع رجل عينه ثم باعه سيده ثم قطع آخر يده وآخر رجله ثم مات فإنه يكون للأول ثلث القيمة وإن كان أرش الجناية نصف القيمة فإذا قلنا بالوجه الأول فلو كان قطع أصبعيه أو هشمه والجانيان في الحرية قطعا يده فالدية عليهم أثلاثا للسيد منها أقل الأمرين من أرش الأصبع وهو عشر القيمةأو ثلث الدية ولو كان الجاني في حال الرق قطع يديه والجانيان في الحرية قطعا رجليه وجبت الدية أثلاثا وكان للسيد منها أقل الأمرين من جميع قيمته أو ثلث الدية وعلى الوجه الآخر يكون له في الفرعين اقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية
فصل : فإن كان الجانيان في حال الرق والواحد في حال الحرية فمات فعليهم الدية وللسيد من ذلك في أحد الوجهين أقل الأمرين من أرش الجنايتين أو ثلثي الدية وعلى الآخر أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية
فصل : وإن كان الجناة أربعة واحد في الرق وثلاثة في الحرية ومات كان للسيد في أحد الوجهين الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية وعلى الآخر الأقل من ربع القيمة أو ربع الدية وإن كان الثلاث في الرق والواحد كان للسيد أقل الأمرين من أرش الجنايات وثلاثة أرباع الدية في أحد الوجهين وفي ألاخر الأقل من ثلاث أرباع القيمة أو ثلاثة أرباع الدية ولو كانوا عشرة واحد في الرق وتسعة في الحرية فالدية عليهم وللسيد فيها بحساب ما ذكرنا على اختلاف الوجهين
فصل : فإن قطع يده ثم أعتق فقطع آخر رجله ثم عاد الأول فقتله بعد الاندمال فعليه القصاص للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الآخر القصاص للورثة في الرجل أو نصف الدية فإن كان قبل الاندمال فعلى الجاني الأول الأول القصاص في النفس دون اليد لأنه قطعها في رقه فإن اختار الورثة القصاص في النفس سقط حق السيد لأنه لا يجوز أن يستحق عليه النفس وأرش الطرف قبل الاندمال فإن الطرف داخل في النفس في الأرش وإن اختاروا العفو فعليه الدية دون أرش الطرف لأن أرش الطرف يدخل في النفس وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش الطرف والباقي للورثة وأما الثاني فعليه نصف القصاص في الرجل لأن القتل قطع سرايتها فصار كما لو اندملت فإن عفا فعليه القصاص في النفس وهل يقطع طرفه ؟ على روايتين فإن عفا الورثة فعليه دية واحدة وأما الأول فعليه نصف القيمة للسيد ولا قصاص عليه وإن كان القاتل ثالثا فقد استقر القطعان ويكون على الأول نصف القيمة لسيده وعلى الثاني القصاص في الرجل أو نصف الدية لورثته وعلى الثالث القصاص في النفس أو الدية
فصل : وإذا قطع رجل يد عبده ثم أعتقه ثم اندمل جرحه فلا قصاص عليه ولا ضمان لأنه إنما قطع يد عبده وإنما استقر بالاندمال ما وجب بالجراح وإن مات بعد العتق بسراية الجرح فلا قصاص فيه لأن الجناية كانت على مملوكه وفي وجوب الضمان وجهان : أحدهما : لا يجب شيء لأنه مات بسراية جرح غير مضمون أشبه مالو مات بسراية القطع في الحد وسراية القود ولأنا تبينا أن القطع كان قتلا فيكون قاتلا لعبده فلا يلزمه ضمانه كما لو لم يعتقه والثاني : يضمنه بما زاد على أرش القطع من الدية لأنه مات وهو حر بسراية قطع عدوان فيضمن كما لو كان القاطع أجنبيا لكن يسقط القطع لأنه في ملكه ويجب الزائد لورثته فإن لم يكن له وارث سواه وجب لبيت المال ولا يرث السيد شيئا لأن القاتل لا يرث

مسألة وفصول استيفاء القصاص من قاتل جماعة واستحقاق القصاص لجماعة في عضو
مسألة : قال : وإذا قتل رجل اثنين واحدا بعد واحد فاتفق أولياء الجميع على القود أقيد لهما وإن اراد ولي الأول القود والثاني الدية أقيد الأول وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية والثاني القود
وجملة ذلك أنه إذا قتل اثنين فاتفق أولياؤهما على قتله بهما وإن أراد أحدهما القود والآخر الدية قتل لمن أراد القود وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله سواء كان المختار للقود الثاني أو الأول وسواء قتلهما دفعة واحدة أو دفعتين فإن بادر أحدهما فقتله وجب للآخر الدية في ماله أيهما كان وقال أبو حنيفة و مالك : يقتل بالجماعة ليس لهم إلا ذلك فإن طلب بعضهم الدية فليس له وإن بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد
وقال الشافعي : لا يقتل إلا بواحد سواء اتفقوا على طلب القصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتركهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق
ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين : إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل ] فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر ولأنهما جنايتان لا يتداخلان إذا كانتا خطأ أو أحدهما فلم يتداخلا في العمد كالجنايات على الأطراف وقد سلموها
ولنا على الشافعي أنه محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معا رضي المستحقان به عنهما فيكتفي به كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء أو ولي الحر بالعبد وولي المسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن الجناية تجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره مالك و أبو حنيفة فليس بصحيح فإن الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظا للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسألتنا ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد وإن قتل الثاني والثالث لا يزداد به عليه حق بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله فيصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية
فصل : وإن طلب كل ولي قتله بوليه مستقلا من غير مشاركة قدم الأول لأن حقه أسبق ولأن المحل صار مستحقا له بالقتل الأول فإن عفا ولي الأول فلولي الثاني قتله وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه وإن بادر الثاني فقتله أساء وسقط حق الأول إلى الدية وإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك وإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم فقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم وإن بادر غيره فقتله استوفى حقه ويسقط حق الباقين إلى الدية وإن قتلهم متفرقا وأشكل الأول أو ادعى كل ولي أنه الأول ولا بينة لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم بإقراره وإن لم يقر أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم
فصل : وإن قطع يمينى رجلين فالحكم فيه كالحكم في الأنفس على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف إلا أن أصحاب الرأي قالوا : يقاد لهما جميعا ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لأنه يفضي إلى إيجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد ولم يرد الشرع به ولا له نظير يقاس عليه
فصل : وإن قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما فإذا تشاحا في المستوفى للقتل قتل بالذي قتله لأن وجوب القتل عليه أسبق فإن القتل بالذي قطعه إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فإن قلنا إنه يستوفى منه مثل ما فعل فإنه يقطع له أولاد ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية وإن قلنا لا يستوفى القطع وجبت له الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في القتل عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجوب مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسر ولو كان قطع اليد لم يسر إلى النفس فإنه تقطع يده أولا ثم يقتل وسواء تقدم القطع أو تأخر وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كانا لواحد
ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم يتداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس غير صحيح لأنه قد قال : لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع وقتل ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد حصل الإجماع منا ومنهم على انتفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه ؟ ولكنه ينقلب دليلا عليه فنقول قطع وقتل فيستوفى منه مثل مافعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة به ويثبت الحكم في محل النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الاثنين أولى ويبطل بهذا ما قاله من المعنى
فصل : وإن قطع أصبعا من يمين رجل ويمينا لآخر وكان قطع الأصبع أسبق قطعت أصبعه قصاصا وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الأصبع ذكره القاضي وهو اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود كمن أتلف مثليا لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر : يخير بين القصاص ولا شيء له معه وبين الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس وإن كان قطع اليد سابقا على قطع الصبع قطعت يمينه قصاصا ولصاحب الأصبع أرشها ويفارق هذا ما إذا قتل رجلا ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس بدليل أنا نأخذ كامل أنا نأخذ كامل الأطراف بناقصها وأن ديتهما واحدة ونقص الأصبع يمنع التكافؤ في اليد بدلي أنا لا نأخذه الكاملة بالنقاصة واختلاف ديتهما وإن عفا صاحب اليد قطعت الأصبع لصاحبها إن اختار قطعها

مسألة حكم ما لو جرحه يمكن الاقتصاص منه
مسألة : قال : وإذا جرحه جرحا يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه
وجملة ذلك أن القصاص يجري فيما دون النفس من الجروح إذا امكن للنص والإجماع أما النص فقول الله تعال : { والجروح قصاص } [ وروي أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبو إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله تكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها قال النبي صلى الله عليه و سلم : يا أنس كتاب الله القصاص قال : فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ] متفق عليه وأجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولأن مادون النفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوبه

فصل شروط وجوب القصاص في الجروح
فصل : ويشترط لوجوب القصاص في الجروح ثلاثة أشياء :
أحدها : ان يكون عمدا محضا فأما الخطأ فلا قصاص فيه إجماعا لأن الخطأ لا يوجب القصاص في النفس وهي الأصل ففيما دونها أولى ولا يجب بعمد الخطأ وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالبا مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه العمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض وقال أبو بكر : يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية
الثاني : التكافؤ بين الجارح والمجروح وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله كالحر المسلم مع الحر المسلم فأما من لا يقتل بقتله فلا يقتص منه فيما دون النفس له كالمسلم مع الكافر والحر مع العبد والأب مع ابنه لأنه لا تأخذ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن
الثالث : إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة لأن الله تعالى قال : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ولأن دم الجاني معصوم إلا في قدر جنايته فما زاد عليها يبقى على العصمة فيحرم استيفاؤه بعد الجناية كتحريمه قبلها ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع من القصاص لأنها من لوازمه فلا يمكن المنع منها إلا بالمنع منه وهذا لا خلاف فيه نعلمه
وممن منع القصاص فيما دون الموضحة الحسن و الشافعي أبو عبيد وأصحاب الرأي ومنعه في العظام عمر ابن عبد العزيز و عطاء و النخعي و الزهري و الحكم و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي إذا ثبت هذا فإن الجرح الذي يمكن استيفاؤه من غير زيادة هو كل جرح ينتهي إلا عظم كالموضحة في الراس والوجه ولا نعلم في جواز القصاص في الموضحة خلافا وهي كل جرح ينتهي إلى العظم في الرأس والوجه وذلك لأن الله تعالى نهى عن القصاص في الجروح فلو لم يجب ههنا لسقط حكم الآية وفي معنى الموضحة كل جرح ينتهي إلى عظم فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ في قول أكثر اهل العلم وهو منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه : لا قصاص فيها لأنه لا يقدر فيها وليس بصحيح لقول الله تعالى : { والجروح قصاص } ولأنه أمكن استيفاؤها بغير حيف ولا زيادة لانتهائها إلى عظم فهي كالموضحة والتقدير في الموضحة ليس هو المقتضي للقصاص ولا عدمه مانعا وإنما كان التقدير في الموضحة لكثرة شينها وشرف محلها ولهذا قدر ما فوقها من شجاج الرأس والوجه ولا قصاص فيه وكذلك الجائفة أرشها مقدر لا قصاص فيه

فصلان لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف
فصل : ولا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء كان الجرح بها أو بغيرها لأن القتل إنما استوفى بالسيف لأنه آلته وليس ثمة شيء يخشى التعدي إليه فيجب أن يستوفى ما دون النفس بآلته ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه ولأننا منعنا القصاص بالكلية فيما تخشى الزيادة في استيفائه فلأن نمنع الآلة التي يخشى منها ذلك أولى فإن كان الجرح موضحة أو ما اشبهها فبالموسى أو حديدو ماضية معدة لذلك ولا يستوفي في ذلك إلا من له علم بذلك كالجرائحي ومن أشبهه فإن لم يكن للولي علم بذلك أمر بالاستبانة وإن كان له علم فقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن من استيفائه إذا كان يحسن القتل ويحتمل أن لا يمكن من استيفائه بنفسه ولا يليه إلا نائب الإمام أو من يستنيبه ولي الجناية وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يؤمن مع العداوة وقصد التشفي الحيف في الاستيفاء بما لا يمكن تلافيه وربما افضى إلى النزاع والاختلاف بأن يدعي الجاني الزيادة وينكرها المستوفي
فصل : وإذا أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر حلقه ويعمد إلى موضع الشجة من رأس المشجوج فيعلم منه طولها بخشبة أو خيط ويضعها على رأس الشاج ويعلم طرفيه بخط بسواد أو غيره ويأخذ حديدة عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشامة ويجرها إلى آخرها ويأخذ مثل الشجة طولا وعرضا ولا يراعى العمق لأن حده العظم ولو روعي العمق لتعذر الاستيفاء لأن الناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته وهذا كما يستوفى في الطرف مثله وإن اختلفا في الصغر والكبر والدقة والغلظ ويراعى الطول والعرض لأنه ممكن فإن كان راس الشاج والمشجوج سواء استوفى في قدر الشجة وإن كان رأس الشاج أصغر لكنه يتسع للشجة استوفيت إن استوعب رأس الشاج كله وهي بعض راس المسجوج لأنه استوفاها بالمساحة ولا يمنع الاستيفاء زيادتها على مثل موضعها من رأس الجاني لأن الجميع راسه وإن كان قدر الشجة يزيد على رأس الجاني فإنه يستوفي الشجة من جميع رأس الشاج ولا يجوز أن ينزل إلى جبهته لأنه يقتص في عضو آخر غير العضو الذي جنى عليه وكذلك لا ينزل إلى قفاه لما ذكرناه ولا يستوفي بقية الشجة في موضع آخر من رأسه لأنه يكون مستوفيا لموضحتين وواضعا للحديدة في غير الموضع الذي وضعها فيه الجاني واختلف أصحابنا فيماذا يصنع فذكر القاضي أن ظاهر كلام أبي بكر أنه لا أرش له فيما بقي كيلا يجتمع قصاص ودية في جرح واحد وهذا مذهب أبي حنيفة فعلى هذا يتخير بين الاستيفاء في جميع رأس الشاج ولا ارش له وبين العفو إلى دية موضحة وقال أبو عبد الله بن حامد وبعض أصحابنا : له أرش ما بقي وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيما جنى عليه فكان له أرشه كما لو تعذر في الجميع فعلى هذا تقدر شجة الجاني من الشجة في رأس المجني عليه ويستوفي أرش الباقي فإن كانت بقدر ثلثها فله ثلث أرش موضحة وإن زادت أو نقصت عن هذا فبالحساب من أرش الموضحة ولا يجب له أرش موضحة كاملة لئلا يفضي إلى إيجاب القصاص ودية موضحة في موضحة واحدة فإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يوضح منه بقدر مساحة موضحته من أي الطرفين شاء لأنه جنى عليه في ذلك الموضع كله وإذا استوفى قدر موضحته ثم تجاوزها واعترف أنه عمد ذلك فعليه القصاص في ذلك القدر فإذا اندملت موضحته استوفي منه القصاص في موضع الاندمال لأنه موضع الجناية وإن ادعى الخطأ فالقول قوله لأنه محتمل وهو أعلم بقصده وعليه أرش موضحة فإن قيل فهذه الموضحة كلها لو كانت عدوانا لم يجب فيها إلا دية موضحة فكيف يجب في بعضها دية موضحة ؟ قلنا : لأن المستوفى لم يكن جناية إنما الجناية الزائد والزائد لو انفرد لكان موضحة فكذلك إذا كان معه ما ليس بجناية بخلاف ما إذا كانت كلها عدوانا فإن الجميع جناية واحدة

فصول القصاص في جروح الرأس
فصل : وإذا أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فأحب أن يستوفي القصاص بعضه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره احتمل أن يمنع منه لأنه يلأخذ موضحتين بواحدة وديتهما مختلفة واحتمل الجواز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبر : إن في ذلك زيادة ضرر أو شين فلا يفعل ولأصحاب الشافعي كهذين فإن كان رأس المجني عليه أكبر فأوضحه الجاني في مقدمه ومؤخره موضحتين قدرهما جميغ رأس الجاني فله الخيار بين أن يوضحه موضحة واحدة في جميع رأسه أو يوضحه موضحتين يقتصر في كل واحدة منهما على قدر موضحته ولا أرش لذلك وجها واحدا لأنه ترك الاستيفاء مع إمكانه وإن عفا إلى الأرش فله أرش موضحتين وإن شاء اقتص من أحدهما وأخذ دية الأخرى
فصل : وإذا كانت الجناية في غير الرأس والوجه فكانت في ساعد فزادت على ساعد الجاني لم ينزل إل الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كانت في الساق لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ لأنه عضو آخر فلا يقتص منه كمالو لم ينزل من الرأس إلى الوجه ولم يصعد من الوجه إلى الرأس
فصل : وإذا شج في مقدم رأسه أو مؤخره عرضا شجه لا يتسع لها مثل ذلك الموضع من رأس الشاج فأراد أن يستوفي من وسط الرأس فيما بين الأذنين لكونه يتسع لمثل تلك الموضحة ففيه وجهان : أحدهما : لا يجوز لأنه غير الموضع الذي شجه فيه فلم يجز له الإستيفاء منه كما لو أمكنه استيفاء حقه من محل شجته واحتمل أن يجوز لأن الرأس عضو واحد فإذا لم يمكنه استيفاء حقه من محل شجته جاز من غيره كما لو شجه في مقدم رأسه شجة قدرها جميه رأس الشاج جاز إتمام استيفائها في مؤخر رأس الجاني وهذا منصوص الشافعي وهكذا يخرج فيما إذا كان الجرح في موضع من الساق والقدم والذارع والعضد وإن أمكن الاستيفاء من محل الجناية لم يجر العدول عنه وجها واحدا

فصلان شروط القصاص في الأطراف
مسألة : قال : وكذلك إذا قطع منه طرفا من مفصل قطع منه مثل ذلك المفصل إذا كان الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله
أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف وقد ثبت ذلك بقوله تعالى : { العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } وبخبر الربيع بنت النضر بن أنس ويشترط الجريان القصاص فيها شروط خمسة :
أحدها : أن يكون عمدا على ما أسلفناه والثاني : أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني بحيث يقاد به لو قتله والثالث : أن يكون الطرف مساويا للطرف ولا يؤخذ صحيح بأشل ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا أصلية بزائدة ولا يشترط التساوي في الدقة والغلظ والصغر والكبر والصحة والمرض لأن اعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية والرابع : الاشتراك في الإسم الخاص فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين ولا إصبع بمخالفة لها ولا جفن أو شفة إلا بمثلها الخامس : إمكان الاستيفاء من غير حيف وهو أن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف عليه [ وقد روى نمر بن جابر عن أبيه أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه و سلم فأمر له بالدية فقال : إني أريد القصاص ؟ قال : خذ الدية بارك الله لك فيها ] ولم يقض له القصاص رواه ابن ماجة
فصل : وفي قطع اليد ثمان مسائل أحدها : قطع الأصابع من مفاصلها فالقصاص واجب لأن لها مفاصل ويمكن القصاص من غير حيف وإن اختار الدية فله نصفها لأن في كل أصبع عشر الدية والثانية : قطعها من نصف الكف فليس له القصاص من موضع القطع لأنه ليس بمفصل فلا يؤمن الحيف فيه وإن أراد قطع الأصابع ففيه وجهان : أحدهما : ليس له ذلك وهذا اختيار أبي بكر لأنه يقتص من غير موضع الجناية فلم يجز كما لو كان القطع من الكوع يحققه أن امتناع قطع الأصابع إذا قطع من الكوع إنما كان لعدم المقتضى أو وجود مانع وأيهما كان فهو متحقق إذا كان القطع من نصف الكف والثاني : له قطع الأصابع ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يأخذ دون حقه لعجزه عن استيفاء حقه فأشبه ما لو شجه هاشمة فاستوفى موضحة ويفارق ما إذا قطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه فلم يجز له العدول إلى غيره وهل له حكومة في نصف الكف ؟ فيه وجهان : أحدهما : ليس له ذلك لأنه يجمع بين القصاص والأرش في عضو واحد فلم يجز كما لو قطع من الكوع والثاني : له أرش نصف الكف لأنه حق له تعذر استيفاؤه فوجب أرشه كسائر ما هذا حاله وإن اختار الدية فله نصفها لأن قطع اليد من الكوع لا يوجب أكثر من نصف الدية فما دونه أولى
الثالثة : قطع من الكوع فله قطع يده من الكوع لأنه مفصل وليس له قطع الأصابع لأنه غير محل الجناية فلا يستوفى منه مع إمكان الاستيفاء من محلها الرابعة : قطع من نصف الذراع فليس له أن يقطع من ذلك الموضع لأنه ليس بمفصل وقد ذكرنا الخبر الوارد فيه فله نصف الدية وحكومة في المقطوع من الذراع وهل له أن يقطع من الكوع ؟ فيه وجهان كما ذكرنا فيمن قطع من نصف الكف ومن جوز له القطع من الكوع فعنده في وجوب الحكومة لما قطع من الذراع وجهان ويخرج أيضا في جواز قطع الأصابع وجهان فإن قطع منها لم يكن له حكومة في الكف لأنه أمكنه أخذه قصاصا فلم يكن له طلب أرشه كما لو كانت الجناية من الكوع
الخامسة : قطع من المرفق فله القصاص منه لأنه مفصل وليس له القطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه بكماله والاقتصاص من محل الجناية عليه فلم يجز له العدول إلى غيره وإن عفا إلى الدية فله دية اليد وحكومة للساعد
السادسة : قطعها من العضد فلا قصاص فيها في أحد الوجهين وله دية اليد وحكومة للساعد وبعض العضد والثاني له القصاص من المرفق وهل له حكومة في الزائد ؟ على وجهين وهل له القطع من الكوع ؟ يحتمل وجهين والسابعة : قطع من المنكب فالواجب القصاص لأنه مفصل وإن اختار الدية فله دية اليد وحكومة لما زاد
الثامنة : خلع عظم المنكب ويقال له مشط الكتف فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة فإن قالوا يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة استوفي وإلا صار الأمر إلى الدية وفي حواز الاستيفاء من المرفق أو ما دونه مثل ما ذكرنا في نظائره ومثل هذه المسائل في الرجل والساق كالذراع والفخذ كالعضد والورك كعظم الكتف والقدم كالكف

مسألة وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص
مسألة : قال : وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص
المأمومة شجاج الرأس وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ لأنها تجمعه فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة وآمة لوصولها إلى أم الدماغ والجائفة في البدن وهي التي تصل إلى الجوف وليس فيهما قصاص عند أحد من أهل العلم ونعلمه إلا ما روي عن ابن الزبير أنه قص من المأمومة فأنكر الناس عليه وقالوا : ما سمعنا أحدا قص منها قبل ابن الزبير وممن لم ير في ذلك قصاصا مالك و الشافعي واصحاب الرأي وروي عن علي رضي الله عنه : لا قصاص في المأمومة وقاله مكحول و الزهري و الشعبي وقال عطاء و النخعي : لا قصاص في الجائفة
وروى ابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة ] ولأنهما جرحان لا تؤمن الزيادة فيهما فلم يجب فيهما قصاص ككسر العظام

فصلان جواز اقتصاص موضحة لمن شجته موضحة
فصل : وليس في شيء من شجاج الرأس قصاص سوى الموضحة وسواء في ذلك ما دون الموضحة كالحارصة والبازلة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق وما فوقها وهي الهاشمة والمنقلة والآمة وبهذا قال الشافعي فأما ما فوق الموضحة فلا نعلم أحدا أوجب فيها القصاص إلا ما روي عن ابن الزبير أنه أقاد من المنقلة وليس بثابت عنه وممن قال به عطاء و قتادة و ابن شبرمة و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا خالف ذلك ولأنهما جراحتان لا تؤمن الزيادة فيهما أشبها المأمومة والجائفة وأما ما ون الموضحة فقد روي عن مالك واصحاب الرأي أن القصاص يجب في الدامية والباضعة والسمحاق ولنا أنها جراحة لا تنتهي إلى عظم فلم يجب فيها قصاص كالمأمومة ولأنه لا يؤمن فيها الزيادة فأشبه كسر العظام وبيان ذلك أنه إن اقتص من غير تقدير أفضى إلى أن يأخذ أكثر من حقه وإن اعتبر مقدار العمق أفضى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقا لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيرا بحيث يكون عمق باضعته كموضحة الشاج أو سمحاقة ولأننا لم نعتبر في الموضحة قدر عمقها فكذلك في غيرها وبهذا قال الحسن و أبو عبيد
فصل : وإن كانت الشجة فوق الموضحة فأحب أن يقتص موضحة جاز ذلك بغير خلاف بين أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يقتص على بعض حقه ويقتص من محل جنايته فإنه إنما يضع السكين في موضع وضعها الجاني لأن سكين الجاني وصلت إلى العظم ثم تجاوزته بخلاف قاطع الساعد فإنه لم يضع سكينه في الكوع وهل له أرش ما زاد على الموضحة ؟ فيه وجهان : أحدهما : ليس له ذلك وهو اختيار أبي بكر لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص ودية كما لو قطع الشلاء بالصحيحة وكما في الأنفس إذا قتل المسلم بالكافر والعبد بالحر والثاني : له أرش ما زاد على الموضحة اختاره ابن حامد وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيه فانتقل إلى البدل كما لو قطع أصبعيه ولم يمكن الاستيفاء إلا من واحدة وفارق الشلاء بالصحيحة لأن الزيادة ثم من حيث المعنى وليست متميزة بخلاف مسألتنا

مسألة وفصول حكم قطع الأذن بالأذن
مسألة : قال : وتقطع الأذن بالأذن
أجمع اهل العلم على أن الأذن تؤخذ بالأذن وذلك لقول الله تعالى : { والأذن بالأذن } ولأنها تنتهي إلى حد فاصل فأشبهت اليد وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بأذن السميع وتؤخذ أذن الأصم بكل واحدة منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه محله وليس بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لأن الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط والتزين به فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخرومة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لأن الثقب إذا انخرم صار نقصا فيها والثقب في غير محله عيب ويخير المجني عليه بين أخذ الدية إلا قدر النقص وبين أن يقتص فيما سوى العيب ويتركه من أذن الجاني وفي وجوب الحكومة له في قدر الثقب وجهان وإن قطعت بعض أذنه فله أن يقتص من أذن الجاني وتقدير ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف والثلث بالثلث وعلى حساب ذلك وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يجري القصاص في البعض لأنه لا ينتهي إلى حد
ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر وبهذا ينتقص ما ذكره
فصل : وتؤخذ الأذن المستحشفة بالصحيحة وهل تؤخذ الصحيحة بها ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا تؤخذ بها لأنها ناقصة معيبة فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الأعضاء والثاني : تؤخذ بها لأن المقصود منها جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء
فصل : وإن قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي : يجب القصاص وهو قول الثوري و الشافعي و إسحاق لأنه وجب بالإبانة وقد وجدت الإبانة وقال أبو بكر : لا قصاص فيها وهو قول مالك لأنها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة أذن الجاني دواما وإن سقطت بعد ذلك قريبا أو بعيدا فله القصاص ويرد ما أخذه وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الأذن وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قول الأولين إذا اختار الدية وقال مالك : لا عقل لها إذا عادت مكانها فأما إن قطع بعض أذنه فالتصق فله أرش الجرح ولا قصاص فيه وإن قطع أذن إنسان فاستوفى منه فألصق الجاني أذنه فالتصقت وطلب المجني عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأن الإبانة قد حصلت والقصاص قد استوفى فلم يبق له قبله حق فأما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الأذن إنما قطع بعضها فألتصق كان للمجني عليه قطع جميعها لأنه استحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه والحكم في السن كالحكم في الأذن
فصل : ومن ألصق أذنه بعد إبانتها أو سنه فهل تلزمه إبانتها ؟ فيه وجهان مبنيان على الروايتين فيما بان من الآدمي هل هو نجس أو طاهر ؟ إن قلنا هو نجس لزمته إزالتها ما لم يخف الضرر بإزالتها كما لو جبر عظمه بعظم نجس وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها وهذا اختيار أبي بكر وقول عطاء بن أبي رباح و عطاء الخراساني وهو الصحيح لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته فكان طاهرا كحالة اتصاله فأما إن قطع بعض أذنه فألتصق لم تلزمه إبانتها لأنها ظاهرة على الروايتين جميعا لأنها لم تصر ميتة لعدم إبانتها ولا قصاص فيها قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه لا يمكن المماثلة في المقطوع منها

مسألة حكم قطع الأنف بالأنف
مسألة : قال : والأنف بالأنف
وأجمعوا على جريان القصاص في الأنف أيضا للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والأقنى بالأفطس وأنف الأشم بأنف الأخشم الذي لا يشم لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم وإن كان بأنفه جذام به الأنف الصحيح ما لم يسقط منه شيء لأن ذلك مرض فإن سقط منه شيء لم يقطع به الصحيح إلا أن يكون من أحد جانبيه فيأخذ من الصحيح مثل ما بقي منه أو يأخذ أرش ذلك والذي يجب فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لان منه دون قصبة الأنف لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيماانتهى إلى الكوع وإن قطع الأنف كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة اللقصبة هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وفيه وجه آخر أنه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا يجتمع في عضو واحد قصاص ودية وقياس قول أبي بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لأنه يضع الحديدة في غير الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك كقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف
وذكر القاضي ههنا كقول أبي بكر وفي نظائره مثل قول ابن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي وإن قطع بعض الأنف قدر بالأجزاء وأخذ منه بقدر ذلك وكقولنا في الأذن ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى قطع جميع أنف الجاني لصغره ببعض أنف المجني عليه لكبره ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن والأيسر بالأيسر ولا يؤخذ أيمن بأيسر ولا أيسر بأيمن ويؤخذ الحاجز بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حد

مسألة وفصل والذكر بالذكر
مسألة : قال : والذكر بالذكر
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن القصاص يجري في الذكر لقوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص كالأنف ويستوي في ذلك ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكر الكبير والصغير والصحيح والمريض لأن ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني كذلك الذكر ويؤخذ كل واحد من المختون والأغلف بصاحبه لأن الغلظة زيادة تستحق إزالتها فهي كالمعدومة
وأما ذكر الخصي والعنين فذكر الشريف أن غيرهما لا يؤخذ بهما وهو قول مالك لأنه لامنفعة فيهما لأن العنين لا يطأ ولا ينزل والخصي لا يولد ولا ينزل ولا يكاد يقدر على الوطء فهما كالأشل ولأن كل واحد منهما ناقص فلا يؤخذ به الكامل كاليد الناقصة بالكاملة وقال أبو الخطاب : يؤخذ بهما غيرهما في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنهما عضوان صحيحان ينقبضان وينبسطان ويؤخذ بهما غيرهما كذكر الفحل غير العنين وإنما عدم الإنزال لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر فلم يمنع ذلك من القصاص بهما كأذن الأصم وأنف الأخشم وقال القاضي : لا يؤخذ ذكر الفحل بالخصي لتحقق نقصه وإلا يئس من برئه وفي أخذه بذكر العنين وجهان :
أحدهما : يؤخذ به غيره لأنه غير مأيوس من زوال عنته ولذلك يؤجل سنة بخلاف الخصي والصحيح الأول فإنه إذا ترددت الحال بين كونه مساويا للآخر وعدمه لم يجب القصاص لأن الأصل عدمه فلا يجب بالشك سيما وقد حكمنا بانتفاء التساوي لقيام الدليل على عنته وثبوت عيبه فيؤخذ كل واحد من الخصي والعنين بمثله لتساويهما كما ؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي
فصل : ويؤخذ بعضه ببعضه ويعتبر ذلك بالأجزاء دون المساحة فيؤخذ النصف بالنصف والربع بالربع وما زاد أو نقص فبحسب ذلك على ما ذكرناه في الأنف والأذن

مسألة وفصول والأنثيان بالأنثيين وفروع
مسألة : قال : والأنثيان بالأنثيين
ويجري القصاص في الأنثيين لما ذكرنا من النص والمعنى لا نعلم فيه خلافا فإن قطع إحداهما وقال أهل الخبرة : إنه ممكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز فإن قالوا : لا يؤمن تلف الأخرى لم تؤخذ خشية الحيف ويكون فيها نصف الدية وإن أمن تلف الأخرى أخذت اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى لما ذكرناه في غيرهما
فصل : وفي القصاص في شفري المرأة وجهان : أحدهما : لا قصاص فيهما لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه فلم يجب فيه قصاص كلحم الفخذين هذا قول القاضي
والثاني : فيهما القصاص لأن انتهاءهما معروف فأشبها الشفتين وجفني العين وهذا قول أبي الخطاب ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : وإن قطع ذكر خنثى مشكل أو أنثييه أو شفريه فاختار القصاص لم يكن له قصاص في الحال ويقف الأمر حتى يتبين حاله لأننا لا نعلم أن المقطوع عضو أصلي وإن اختار الدية وكان يرجى انكشاف حاله أعطيناه اليقين فيكون له حكومة في المقطوع وإن كان قد قطع جيمعها فله دية امرأة في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين وإن يئس من انكشاف حاله أعطي نصف دية الذكر والأنثيين ونصف دية الشفرين وحكومة في نصف ذلك كله
فصل : يجب القصاص في الأليتين الناتئتين بين الفخذين والظهر بجانبي الدبر هذا ظاهر مذهب الشافعي وقال المزني : لاقصاص فيهما لأنهما لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ
ولنا قوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن لهما حدا ينتهيان إليه فجرى القصاص فيهما كالذكر والأنثيين

مسألة وفصول قصاص العين وفروع
مسألة : قال : وتقلع العين بالعين
أجمع أهل العلم على قصاص في العين وممن بلغنا في ذلك مسروق و الحسن و ابن سيرين و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وروي عن علي رضي الله عنه والأصل فيه قول الله تعالى : { والعين بالعين } ولأنها تنتهي إلى مفصل فجرى القصاص فيها كاليد وتؤخذ عين الشاب بعين الكبير المريضة وعين الصغير بعين الكبير والأعمش ولا تؤخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه
فصل : فإن قلع عينه بأصبعه لم يجز أن يقتص بأصبعه لأنه لا يمكن المماثلة فيه وإن لطمه فذهب ضوء عينه لم يجز أن يقتص منه باللطمة لأن المماثلة فيها غير ممكنة ولهذا لو انفردت من إذهاب الضوء لم يحب فيها قصاص ويجب القصاص في البصر فيعالج بما يذهب ببصره من غير أن يقلع عينه كما روى يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بحلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان : هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه ؟ فأبى فرفعهما إلى علي رضي الله عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه وإن وضع فيها كافورا يذهب بضوئها من غير أن يجني على الحدقة جاز وإن لم يمكن إلا بالجناية على العضو سقط القصاص لتعذرالمماثلة
وذكر القاضي أنه يقتص منه باللطمة فيلطمه المجني عليه مثل لطمته فإن ذهب ضوء عينه وإلا كان له أن يذهبه ما ذكرنا وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يصح فإن اللطمة لا يقتص منها منفردة فلا يقتص منها إذا سرت إلى العين كالشجة إن كانت دون الموضحة ولأن اللطمة إذا لم تكن في العين لايقتص منها بمثلها مع الأمن من إفساد العضو في العين فمع خوف ذلك أولى ولأنه قصاص فيما دون النفس فلم يجز لغير الآلة المعدة كالموضحة وقال القاضي : لايجب القصاص إلا أن تكون اللطمة تذهب بذلك غالبا فإن كانت لا تذهب به غالبا فذهب فهو شبه عمد لا قصاص فيه وهو قول الشافعي لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات غالبا فلم يجب به القصاص كشبه العمد في النفس وقال أبو بكر : يجب القصاص بكل حال لعموم قوله : { والعين بالعين } ولأن اللطمة إذا أسالت إنسان العين كانت بمنزلة الجرح ولا يعتبر في الجرح الإفضاء إلى التلف غالبا
فصل : فلو لطم عينه فذهب بصرها وأبيضت وشخصت فإن أمكن معالجة عين الجاني حتى يذهب بصرها وتبيض وتشخص من غير جناية على الحدقة فعل ذلك وإن لم يمكن إلا ذهاب بعض ذلم مثل أن يذهب البصر دون أن تبيض وتشخص فعليه حكومة للذي لم يمكن القصاص فيه كما لو جرح هاشمة فإنه يقتص موضحة ويأخذ أرش باقي جرحه وعلى قول أبي بكر : لا يستحق مع القصاص أرش
وقال القاضي : إذا اقتص منه يعني لطمه مثل لطمته فذهب ضوء عينه ولم تبيض ولم تشخص فإن أمكن معالجتها حتى تبيض وتشخص من غير ذهاب الحدقة فعله وإن تعذر ذلك فلا شيء عليه كما لو اندملت موضحة المجني عليه وحشة قبيحة وموضحة الجاني حسنة جميلة لم يجب شيء كذلك ههنا وهذا بناء على أن اللطمة حصل بها القصاص كما حصل بجرح الموضحة وقد بينا فساد هذا
فصل : وإن شجه شجة دون الموضحة فأذهب ضوء عينه لم يقتص منه مثل شجته بغير خلاف نعلمه لأنها لا قصاص فيها إذا لم يذهب ضوء العين فكذلك إذا ذهب ويعالج ضوء العين بمثل ما ذكرنا في اللطمة وإن كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة وهل له أرش الزيادة عليها ؟ فيه وجهان وإن ذهب ضوء العين وإلا استعمل فيه ما يزيله من غير أن يجني على الحدقة وإن شجه موضحة فله أن يقتص منها وحكم القصاص في البصر على ما ذكرنا من قبل واختلف أصحاب الشافعي في القصاص في البصر إلى التي في هذه المواضع كلها فقال بعضهم : لا قصاص فيه لأنه لا يجب بالسراية كما لو قطع أصبعه فسرى القطع إلى التي تليها فأذهبها عندهم وقال بعضهم : يجب القصاص ههنا قولا واحدا لأن ضوء العين لا تمكن مباشرته بالجناية فيقتص منه بالسراية كالنفس فيقتص من البصر كما ذكرنا فيما قبل هذا
فصل : إذا قلع الأعور عين صحيح فلا قود وعليه دية كاملة روي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء وقال الحسن و النخعي : إن شاء اقتص وأعطاه نصف دية وقال مالك : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ دية كاملة
وقال مسروق و الشعبي و ابن سيرين و ابن مغفل و الثوري و الشافعي واصحاب الرأي و ابن المنذر : له القصاص ولا شيء عليه وإن عفا فله نصف الدية لقول الله تعالى : { والعين بالعين } [ وجعل النبي صلى الله عليه و سلم في العينين الدية لأنها إحدى شيئين فيهما الدية فوجب القصاص ممن له واحدة أو نصف الدية كما لو قطع الأقطع يد من له يدان ]
ولنا قول عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم نعرف لهما مخالفا في عصرهما ولأنه لم يذهب بجميع بصره فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره كما لو كان ذا عينين وأما إذا قطع يد الأقطع فلنا فيه منع ومع التسليم فالفرق بينهما أن يد الأقطع لا تقوم مقام اليدين في النفع الحاصل بهما بخلاف عين الأعور فإن النفع الحاصل بالعينين حاصل بها وكل حكم يتعلق بصحيح العينين ويثبت في الأعور مثله ولهذا صح عتقه في الكفارة دون الأقطع فأما وجوب الدية كاملة عليه وهو قول مالك فلأنه لما دفع القصاص مع إمكانه لفضيلته ضوعفت الدية عليه كالمسلم إذا قتل ذميا عمدا ولو قلع الأعور إحدى عيني الصحيح خطأ لم يلزمه إلا نصف الدية بغير اختلاف لعدم المعنى المقتضي لتضعيف الدية

فصول حكم قلع الأعور عين مثله وبالعكس
فصل : ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص بغير خلاف لتساويهما من كل وجه إذا كانت العين مثل العين في كونها يمينا أو يسارا وإن عفا إلى الدية فله جميعها وكذلك إن قعلها خطأ أو عفا بعض مستحقي القصاص لأنه ذهب بجميع بصره فأشبه ما لو قلع عيني صحيح
فصل : وإن قلع الأعور عيني صحيح فقال القاضي : هو مخير إن شاء اقتص ولا شيء له سوى ذلك لأنه قد أخذ جميع بصره فإن اختار الدية فله دية واحدة ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : وفي العينين الدية ] لأنه لم يتعذر القصاص فلم تتضاعف الديةكما لو قطع الأشل يد صحيح أو كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص وقال القاضي : يقتضي الفقه أن يلزمه ديتان إحداهما للعين التي تقابل عينه والدية الثانية لأجل العين الناتئة لأنها عين أعور والصحيح ما قلنا وهو قول أكثر أهل العلم وأشد موافقة للنصوص وأصح في المعنى
فصل : وإن قلع صحيح العينين عين أعور فله القصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية نص عليه أحمد لأنه ذهب بجميع بصره وأذهب الضوء الذي بدله دية كاملة وقد تعذر استيفاء جميع الضوء إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة ولا أخذ يمين بيسرى فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء ويحتمل أنه ليس له إلا القصاص من غير زيادة أو العفو على الدية كما لو قطع الشل يدا صحيحة ولأن الزيادة ههنا غير متميزة فلم يكن لها بدل كزيادة الصحيحة على الشلاء هذا مع عموم قوله تعالى : { والعين بالعين }

فصلان قصاص الجفن ولو قطع أقطع يد من له يدان
فصل : وإن قطع الأقطع يد من له يدان فعليه القصاص وإن قطعت رجل الأقطع أو يده فله القصاص أو نصف الدية لأن يد الأقطع لا تقوم مقام يديه في الانتفاع والبطش ولا يجزىء في العتق عن الكفارة بخلاف عين الأعور فإنها تقوم مقام عينيه جميعا وقال القاضي : إن كانت المقطوعة أو لا قطعت ظلما أو قصاصا ففي الباقية نصف الدية رواية واحدة وإن كانت الأولى قطعت في سبيل الله ففي الثاني روايتان : إحداهما : نصف الدية والثانية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة وأما إن قطع الأقطع يد من ليس بأقطع فإن قلنا إن في يد الأقطع دية كاملة فلا قصاص وإن قلنا لا تكمل فيها الدية فالقصاص واجب فيها واللائق بالفقه ما ذكرناه أولا والتعليل بتفويت منفعة العضوين ينتقض بما إذا قطعت الأولى قصاصا والقياس على عين الأعور غير صحيح لما بينهما من الفرق فأما إن قطعت أذن من قطعت إحدى أذنيه فليس له إلا نصف الدية رواية واحدة وإن قطع هو أذن ذي أذنين وجب عليه القصاص بغير خلاف علمناه لا في المذهب ولا في غيره لأن نفع كل إذن لا يتعلق بالأخرى
فصل : ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل وهذا مذهب الشافعي ويؤخذ جفن البصيربجفن البصير والضرير وجفن الضرير بكل واحد منهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره لأنه يمنع أخذ أحدهما بالآخر كالأذن إذا عدم السمع منها

مسألة وفصول أحكام القصاص في السن
مسألة : قال : والسن بالسن
أجمع أهل العلم على القصاص في السن للآية وحديث الربيع ولأن القصاص فيها ممكن لأنها محدودة في نفسها فوجب فيها القصاص كالعين وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة وتؤخذ المكسورة بالصحيحة لأنه يأخذ بعض حقه وهل يأخذ مع القصاص أرش الباقي ؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما مضى
فصل : ولا يقتص إلا من سن من اتغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت يقال لمن سقطت رواضعه ثغر فهو مثغور فإذا نبت قيل أثغر وأتغر لغتان وإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي لأنها تعود بحكم العادة فلا يقتص منها كالشعر ثم إن عاد بدل السن في محلها مثلها على صفتها فلا شيء على الجاني كما لو قلع شعرة نبتت وإن عادت مائلة عن محلها أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ما نقص منها بالحساب ففي ثلثها ثلث ديتها وفي ربعها ربعها وعلى هذا وإن عادت والدم يسيل ففيها حكومة لأنه نقص حصل بفعله وإن مضى زمن عودها ولن تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص لأن الاستحقاق له غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درئه وتجب الدية لأن القلع موجود والعود مشكوك فيه ويحتمل أنه إذا مات قبل مجيء وقت عودها أن لا يجب شيء لأن العادة عودها فأشبه ما لو حلق شعره فمات قبل نباته فأما إن قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال لأن الظاهر عدم عودها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال القاضي : يسأل أهل الخبرة فإن قالوا : لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا : يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها تحتمل العود فأشبهت سن من لم يثغر وإذا ثبت هذا فإنها إن لم تعد بعد فلا كلام وإن عادت لم يجب قصاص ولا يدة وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يسقط الأرش لأن هذه السن لا تستخلف عادة فإذا عادت كانت هبة مجددة ولذلك لا ينتظر عودها في الضمان
ولنا أنها سن عادت فسقط الأرش كسن من لم يثغر وندرة وجودها لا يمنع ثبوت حكمها إذا وجدت فعلى هذا إن كان أخذ الأرش رده وإن كان استوفى القصاص لم يجز قلع هذه قصاصا لأنه لم يقصد العدوان وإن عادت سن الجاني دون سن المجني عليه ففيه وجهان : أحدهما : لا تقلع لئلا يأخذ سنين بسن واحدة وإنما قال الله تعالى : { السن بالسن } والثاني تقلع وإن عادت مرات لأنه قلع سنة وأعدمها فكان له إعدام سنه ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : وإن قلع سنا فاقتص منه ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانية فلا شيء عليه لأن سن المجني عليه لما عادت وجب للجاني عليه دية سنة فلما قلعها وجب على الجاني ديتها للمجني عليه فقد وجب لكل واحد منهما دية سن فيتقاصان
مسألة : قال : وإن كسر بعضها برد من سن الجاني مثله
وجملته أن القصاص جار في بعض السن ل [ أن الربيع كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقصاص ] ولأن ما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن كالأذن فيقدر ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف والثلث بالثلث وكل جزء بمثله ولا يؤخذ ذلك بالمساحة كيلا يفضي إلى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالمبرد ليؤمن أخذ الزيادة فإنا لو أخذناها بالكسر لم نأمن أن تنصدع أو تنقلع أو تنكسر من غير موضع القصاص ولا يقتص حى يقول أهل الخبرة إنه يؤمن انقلاعها أو السواد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل فإن قيل : فقد أجزتم القصاص في الأطراف مع توهم سرايتها إلى النفس فلم منعتم منه لتوهم السراية إلى بعض العضو ؟ قلنا : وهم السراية إلى النفس لا سبيل إلى التحرز منه فلو اعتبرناه في المنع لسقط القصاص في الأطراف بالكلية فسقط اعتباره أما السراية إلى بعض العضو فتارة نقول إنما منع القصاص فيها احتمال الزيادة في الفعل لا في السراية مثل من يستوفي بعض الذراع فإنه يحتمل أن يفعل أكثر مما فعل به وكذلك من كسر سنا ولم يصدعها فكسر المستوفي سنة وصدعها أو قلعها أو كسر أكثر مما كسر فقد زاد على المثل والقصاص يعتمد المماثلة وتارة نقول : إن السراية في بعض العضو إنما منع إذا كانت ظاهرة ومثل هذا يمنع في النفس ولهذا منعناه من الإستيفاء بآلة كالة أو مسمومة وفي وقت افراط الحرارة أو البرودة تحرزا من السراية
فصل : ومن قلع سنا زائدة وهي التي تنبت فضلة في سمت الأسنان خارجة عنها إما إلى داخل الفم وإما إلى الشفة وكانت للجاني مثلها في موضعها فللمجني عليه القصاص أو أخذ حكومة في سنة وإن لم يكن له مثلها في محلها فليس للمجني عليه إلا الحكومة وإن كانت إحدى الزائدتين أكبر من الأخرى ففيه وجهان : أحدهما : لا تؤخذ الكبرى بالصغرى لأن الحكومة فيها أكبر فلا يقلع بها ما هو أقل قيمة منها
والثاني : تؤخذ لأنهما سنان متساويان في الموضع قتؤخذ كل واحدة منهما بالأخرى كالأصليتين ولأن قول الله تعالى : { والسن بالسن } عام فيدخل فيه محل النزاع وإن قلنا يثبت القياس في الزائدتين بالاجتهاد فالثابت بالاجتهاد معتبر بما ثبت بالنص واختلاف القيمة لا يمنع القصاص بدليل جريانه بين العبيد وبين الذكر والأنثى في النفس والأطراف على أن كبر لا يوجب كثرة قيمتها فإن السن الزائدة نقص وعيب وكثرة العيب زيادة في النقص لا في القيمة ولأن كبر السن الأصلية لا يزيد قيمتها فالزائدة كذلك

فصل ويؤخذ اللسان باللسان
فصل : ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي إليه فاقتص منه كالعين ولا نعلم في هذا خلافا ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أفضل منه ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه بعض حقه ويؤخذ بعض اللسان ببعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالأجزاء ويؤخذ منه بالحساب

فصل وتؤخذ الشفة بالشفة
فصل : وتؤخذ الشفة بالشفة وهي ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا لقول الله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي إليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين

مسألة وفصل امناع أخذ اليمين باليسارواليسار باليمين
مسألة : قال : ولا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين
هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي واصحاب الرأي وحكي عن أبن سيرين و شريك أن إحداهما تؤخذ بالأخرى لأنهما يستويان في الخلقة والمنفعة
ولنا أن كل واحدة منهما تخص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى كاليد مع الرجل فعلى هذا كل ما انقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين والثدين والأليتين والأنثيين لا تؤخذ إحداهما بالأخرى
فصل : وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لما ذكرنا ولا تؤخذ أصبع بأصبع إلا أن يتفقا في الإسم والموضع ولا تؤخذ أنملة بأنملة إلا أن يتفقا في ذلك ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى والوسطى والسفلى لا تؤاخذان بغيرهما ولا تؤخذ السن بالسن إلا أن يتفق موضعهما واسمهما ولا تؤخذ أصبع ولا سن أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة في غير محلها لما ذكرناه
فصل : وما لا يجوز أخذه قصاصا لا يجوز بتراضيهما واتفاقهما عليه لأن الدماء لا تستباح بالاستباحة والبذل ولذلك لو بذلها له ابتداء لا يحل أخذها ولا يحل لأحد قتل نفسه ولا قطع طرفه فلا يحل لغيره ببذله فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلا عن الأخرى فقطعها المقتص سقط القود لأن القود سقط في الأولى بإسقاط صاحبها وفي الثانية بإذن صاحبها في قطعها ودياتهما متساوية وهذا قول أبي بكر ولذلك قال : لو قطع المقتص اليد بالأخرى عدوانا لسقط القصاص لأنهما تساويا في الألم والدية والاسم فتقاصا وتساقطا ولأن إيجاب القصاص يفضي إلى قطع يدي كل واحد منهما وإذهاب منفعة الجنس وإلحاق الضرر العظيم بهما جميعا ولا تفريع على هذا القول لوضوحه وكل واحد من القطعين مضمون بسرايته لأنه عدوان وقال ابن حامد : إن كان أخذها عدوانا فلكل واحد منهما القصاص على صاحبه وإن أخذها بتراضيهما فلا قصاص في الثانية لرضا صاحبها ببذلها وإذنه في قطعها وفي وجوبه في الأولى وجهان : أحدهما : يسقط لما ذكرنا والثاني : لا يسقط لأنه رضي بتركه بعوض لم يثبت فكان له الرجوع إلى حقه كما لو باعه سلعة بخمر وقبضه إياه فعلى هذا له القصاص إلا أنه لا يقتص إلا بعد اندمال الأخرى وللجاني دية يده فإذا وجب للمجني عليه دية يده وكانت الديتان واحدة تقاصا وإن كانت إحداهما أكبر من الأخرى كالرجل مع المرأة وجب القصاص لصاحبه

فصل قطع اليسار بدل اليمين خطأ
وإذا قال المقتص للجاني : أخرج يمينك لأقطعها فأخرج يساره فقطعها فعلى قول أبي بكر يجزىء ذلك سواء قطعها عالما بها أو غير عالم وعلى قول ابن حامد : إن أخرجها عمدا عالما بأنها يساره وأنها لا تجزىء فلا ضمان على قاطعها ولا قود لأنه بذلها بإخراجه لها لا على سبيل العوض وقد يقوم الفعل في ذلك مقام النطق بدليل أنه لا فرق بين قوله : خذ هذا فكله وبين استدعاء ذلك منه فيعطيه إياه ويفارق هذا ما لو قطع يد إنسان وهو ساكت لأنه لم يوجد منه البذل وينظر في المقتص فإن فعل ذلك عالما بالحال عذر لأنه ممنوع منه لحق الله تعالى وهل يسقط القصاص في اليمن على وجهين : أحدهما : يسقط لأن قاطع اليسار تعدى بقطعها ولأنه قطع إحدى يديه فلم يملك قطع اليد الأخرى كما لو قطع يد السارق اليسرى مكان يمينه فإنه لا يملك قطع يمينه
والوجه الثاني : أنه لا يسقط وهو مذهب الشافعي وفرقوا بين القصاص وقطع السارق من ثلاثة أوجه أحدها : أن الحد مبني على الإسقاط بخلاف القصاص والثاني : أن اليسار لا تقطع في السرقة وإن عدمت يمينه لأنه يفوت منفعة الجنس في الحد بخلاف القصاص والثالث : أن اليد لو سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع في السرقة فجاز أن يسقط بقطع اليسار بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل إلى البدل لكن لا تقطع يمينه حتى تندمل يساره لئلا يؤدي إلى ذهاب نفسه فإن قيل : أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لم يؤخر أحدهما إلى اندمال الآخر ؟ قلنا : الفرق بينهما أن القطعين قصاصا فلهذا جمعنا بينهما وفي مسألتنا أحدهما غير مستحق فلم نجمع بينهما فإذا اندملت اليسار قطعنا اليمين فإن سرى قطع اليسار إلى نفسه كانت هدرا ويجب في تركته دية اليمين لتعذر الاستيفاء فيها بموته وإن قال المقتص منه : لم أعلم أنها اليسار أو ظننت أنها تجزىء عن اليمين نظر في المستوفي إن علم أنها يساره وأنها لا تكون قصاصا ضمنها بديتها ويعزر وقال بعض الشافعية : عليه القصاص لأنه قطعها مع العلم بأنه ليس له قطعها
ولنا أنه قطعها ببذل صاحبها فلم يجب عليه القصاص كما لو علم باذلها وإن كان جاهلا فلا تعزير عليه وعليه الضمان بالدية لأنه بذلها على وجه البدل فكانت مضمونة عليه ولأنها مضمونة لو كان القاطع عالما بها وما وجب ضمانه في العمد وجب في الخطأ كإتلاف المال والقصاص باق له في اليمين ولا تقطع حتى تندمل اليسار فإذا اندملت فله قطع اليمين فإن عفا وجب بذلها ويتقاصان وإن سرت اليسار إلى نفسه كانت مضمونة بالدية الكاملة وقد تعذر قطع اليمين ووجب له نصف الدية فيتقاصان به ويبقى نصف الدية لورثة الجاني وإن اختلفا في بذلها فقال الجاني : إنما بذلتها بدلا عن اليمين وقال المجني عليه : بذلتها في غير عوض أو قال أخرجتها دهشة فقال : بل عالما فالقول قول الجاني لأنه أعلم بنيته ولأن الظاهر أن الإنسان لا يبذل طرفه للقطع تبرعا مع أن عليه قطعا مستحقا وهذا مذهب الشافعي وإن كان باذل اليسار مجنونا مثل أن يجن بعد وجوب القصاص عليه فعلى قاطعها ضمانها بالقصاص إن كان عالما وبالدية إن كان مخطئا لأن بذل المجنون ليس بشبهة وإن كان من له القصاص مجنونا ومن عليه القصاص عاقلا فأخرج إليه يساره أو يمينه فقطعها ذهبت هدرا لأنه لا يصح منه الاستيفاء ولا يجوز البدل له ولاضمان عليه لأنه أتلفها ببذل صاحبها لكن إن كان المقطوع اليمنى فقد تعذر استيفاء القصاص فيها لتلفها فيكون للمجنون ديتها وإن وثب المجنون عليه فقطع يده التي لا قصاص فيها فعلى عاقلته ديتها وله القصاص في الأخرى وإن قطع الأخرى فهو مستوف حقه في أحد الوجهين لأن حقه متعين فيها فإذا أخذها قهرا سقط حقه كما لو أتلف وديعته والثاني : لا يسقط حقه وله عقل يده وعقل يد الجاني على عاقلته لأن المجنون لا يصح منه الاستيفاء ويفارق الوديعة إذا أتلفها بغير تفريط وليس لها بذل إذا تلفت بذلك واليد بخلافه فإنها لو تلفت بغير تفريط كانت عليه ديتها وكذلك الصغير وكذلك الحكم فيهما إذا قتلا قاتل أبيهما عمدا وإن اقتصا من الجاني ما لا تحمله عاقلته كما دون الثلث كقطع أصبع ونحوها سقط حقهما لأن ذلك يقتضي الدية في ذمتهما ولهما في ذمة الجاني مثل ذلك فيتقاصان وإن كانت ديتهما مختلفة كالمسلم والذمي والرجل والمرأة فإن قلنا : يكونان مستوفيين لحقهما بالقطع لم يبق لهما حق كما لو أتلفا وديعتهما وإن قلنا : لا يكونان مستوفيين يقاص من الديتين بقدر الأدني منهما ووجب الفضل للصبي والمجنون وإن كانت الجناية عليهما أو على وليهما خطأ تحمله العاقلة فاستوفيا القصاص لم يسقط حقهما حقا وجها واحدا وكانت دية من استوفيا منه على عاقلتهما مؤجلة ودية الجناية عليهما أو على وليهما على عاقلة الجاني مؤجلة

فصل سراية القود غير مضمونة
فصل : وسراية القود غير مضمونة ومعناه أنه إذا قطع طرفا يجب القود فيه فاستوفى منه المجني عليه ثم مات الجاني بسراية الاستيفاء لم يلزم المستوفي شيء وبهذا قال الحسن و ابن سيرين و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف و محمد و ابن المنذر وروي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهم وقال عطاء و طاوس و عمرو بن دينار و الحارث العكلي و الشعبي و النخعي و الزهري و ابو حنيفة : عليه الضمان قال ابو حنيفة : عليه كمال الدية في ماله وقال غيره : هي على عاقلته لأنه فوت نفسه ولا يستحق إلا طرفه فلزمته ديته كما لو ضرب عنقه ولأنها سراية قطع مضمونة فكانت مضمونة كسراية الجناية والدليل على أنه مضمون بالقطع الأول لأنه في مقابلته
ولنا أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا : من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد بمعناه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا تضمن سرايته كقطع السارق وفارق ما قاسوا عليه فإنه ليس ما فعله مستحقا إذا ثبت هذا فلا فرق بين سرايته إلى النفس بأن يموت منها أو إلى ما دونها مثل أن يقطع أصبعا فتسري إلى كفه

فصل سراية الجناية مضمونة
فصل : وسراية الجناية مضمونة بلا خلاف لأنها أثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم إن سرت إلى النفس وما لا يمكن مباشرته بالإتلاف مثل أن يهشمه في رأسه فيذهب ضوء عينيه وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك في النفس وفي ضوء العين خلاف قد ذكرناه فيما تقدم وإن سرت إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف مثل أن قطع أصبعا فتآكلت أخرى وسقطت من مفصل ففيه القصاص أيضا في قول إمامنا و أبي حنيفة و محمد بن الحسن وقال أكثر الفقهاء : لا قصاص في الثانية وتجب ديتها لأن ما أمكن مباشرته بالجناية لا يجب القود فيه بالسراية كما لو رمى سهما فمرق منه إلى آخر
ولنا أن ما وجب فيه القود بالجناية وجب بالسراية كالنفس وضوء العين ولأنه أحد نوعي القصاص فأشبه ما ذكرنا وفارق ما ذكروه فإن ذلك فعل وليس بسراية ولأنه لو قصد ضرب رجل فأصاب آخر لم يجب القصاص ولو قصد قطع إبهامه فقطع سبابته وجب القصاص ولو ضرب إبهامه فمرق إل سبابته وجب القصاص فيهما فافترقا ولأن الثانية تلفت بفعل أوجب القصاص فوجب القصاص فيها كما لو رمى إحداهما فمرق إلى الأخرى فأما إن قطع أصبعا فسلت إلى جانبها أخرى وجب القصاص في المقطوعة حسب والأرش في الشلاء وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لاقصاص فيهما ويجب أرشهما جيمعا لأن حكم السراية لا ينفرد عن الجناية بدليل ما لو سرت إلى النفس فإذا لم يجب القصاص في إحداهما لم يجب في الأخرى
ولنا أنها جناية موجبة للقصاص لو لم تسر فأوجبته إذا سرت كالتي تسري إلى سقوط أخرى وكما لو قطع يد حبلى فسرى إلى جنينها وبهذا يبطل ما ذكره وفارق الأصل لأن السراية مقتضية للقصاص كاقتضاء الفعل له فاستوفى حكمهما وههنا بخلافه ولأن ما ذكره غير صحيح فإن القطع إذا سرى إلى النفس سقط القصاص في القطع ووجب في النفس فخالف حكم الجناية حكم السراية فسقط ما قاله إذا ثبت هذا فإن الأرش يجب في ماله ولا تحمله العاقلة لأنه جناية عمد وإنما لم يجب القصاص فيه لعدم المماثلة في القطع والشلل فإذا قطع أصبعه فشلت أصابعه الباقية وكفه فعفا عن القصاص وجب له نصف الدية وإن اقتص من الأصبع فله في الأصابع الباقية أربعون من الإبل ويتبعها ما حاذاها من الكف وهو أربعة أخماسه فيدخل أرشه فيها ويبقى خمس الكف فيه وجهان : أحدهما : يتبعها في الأرش ولا شيء فيه والثاني : فيه الحكومة لأن ما يقابل الأربع تبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم وحكم التي اقتص منها مخالف لحكم فلم يتبعها

فصل لا يجوز القصاص الا بعد اندمال الجرح
فصل : ولا يجوز القصاص في الطرف إلا بعد اندمال الجرح في قول اكثر أهل العلم منهم النخعي و الثوري و ابو حنيفة و مالك و إسحاق و أبو ثور وروي ذلك عن عطاء و الحسن قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ ويتخرج لنا أنه يجوز الاقتصاص قبل البرء بناء على قولنا إنه إذا سرى إلى النفس يفعل كما فعل وهذا قول الشافعي قال : ولو سأل القود ساعة قطعت أصبعه أقدته لما [ روى جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فقال يا رسول الله أقدني قال : حتى تبرأ فأبى وعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه و سلم فعييت رجل المستقيد وبرأت رجل المستفاد منه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس لك شيء عجلت ] رواه سعيد مرسلا ولأن القصاص من الطرف لا يسقط بالسراية فوجب أن يملكه في الحال كما لو برأ
ولنا ما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يستفاد من الجروح حتى يبرأ المجروح ] [ ورواه الدار قطني عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأن الجرح لا يدري أقتل هو أم ليس بقتل ؟ فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه ؟ فأما حديثهم فقد رواه الدار قطني وفي سياقه : فقال يا رسول الله عرجت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه وهذه زيادة يجب قبولها وهي متأخرة عن الاقتصاص فتكون ناسخة له وفي نفس الحديث ما يدل على أن استقادته قبل البرء معصية لقوله : قد نهيتك فعصيتني ] وما ذكروه ممنوع وهو مبني على الخلاف

فصول سراية الجرح بعد القصاص
فصل : فإن اقتص قبل الاندمال هدرت سراية الجناية وقال ابو حنيفة و الشافعي : بل هي مضمونة لأنها سراية جناية فكانت مضمونة كما لو لم يقتص
ولنا الخبر المذكورة ولأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله فبطل حقه كقاتل موروثه وبهذا فارق من لم يقتص فعلى هذا لو سرى القطعان جميعا فمات الجاني والمستوفي فهما هدر وقال أبو حنيفة : يجب ضمان كل واحد منهما لأن سراية كل واحد منهما مضمونة ثم يتقاصان فيسقطان وقال الشافعي : إن مات المجني عليه أولا ثم مات الجاني كان قصاصا لأنه مات من سراية القطع فقد مات بفعل المجني عليه وإن مات الجاني فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يكون موت الجاني هدرا ولولي المجني عليه نصف الدية فأما إن سرى أحد القطعين دون صاحبه فعندنا هو هدر لا ضمان فيه وعند أبي حنيفة يجب ضمان سرايته وعند الشافعي إن سرت الجناية فهي مضمونة وإن سرى الاستيفاء لم يجب ضمانه ومبنى ذلك على ما تقدم من الخلاف
فصل : وإن اندمل جرح الجناية فاقتص منه ثم انتقص فسرى فسرايته مضمونة وسراية الاستيفاء غير مضمونة لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص فعلى هذا لو قطع يد رجل فبرأ فاقتص ثم انتقض جرح المجني عليه فمات فلوليه قتل الجاني لأنه مات من جنايته وإن عفا إلى الدية فلا شيء له لأنه استوفى بالقطع ما قيمته دية وهو يداه وإن سرى الاستيفاء لم يجب أيضا شيء لأن القصاص قد سقط بموته والدية لا يمكن إيجابها لما ذكرنا وإن كان المقطوع بالجناية يدا فوليه بالخيار بين القصاص في النفس وبين العفو إلى نصف الدية ومتى سقط القصاص بموت الجاني أو غيره وجب نصف الدية في تركه الجاني أو ماله إن كان حيا
فصل : ولو قطع كتابي يد مسلم فبرأ أو اقتص ثم اقتص جرح المسلم فمات فلوليه قتل الكتابي والعفو إلى أرش الجرح وفي قدره وجهان :
أحدهما : نصف الدية لأنه قد استوفى بدل يده بالقصاص وبدلها نصف ديته فبقي له نصفها كما لو كان القاطع مسلما
والثاني : له ثلاثة أرباعها لأن يد اليهودي تعدل نصف ديته وذلك ربع دية المسلم فقد استوفى ربع ديته وبقي له ثلاثة أرباعها وإن كان قطع يدي المسلم فاقتص منه ثم مات المسلم فعفا وليه إلى مال انبنى على الوجهين إن قلنا تعتبر قيمة اليهودي فله ههنا نصف الدية وإن قلنا الاعتبار بقيمة يد المسلم فلا شيء له ههنا لأنه قد استوفى بدل يديه وهما جميع ديته ولو كان القطع في يديه ورجليه فعفا إلى الدية لم يكن له شيء وجها واحدا لأن دية ذلك دية مسلم ولو كان الجاني امرأة على رجل فالحكم على ما ذكرنا سواء لأن ديتها نصف دية الرجل
فصل : إذا قطع يد رجل من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق فمات بسرايتهما فلوليه قتل القاطعين وليس له أن يقطع طرفيهما في أحد الوجهين وفي الاخر له قطع يد القاطع من الكوع فإن قطعها ثم عفا عنه فله نصف الدية وأما الآخر فإن كانت يده مقطوعة من الكوع فقطعها من المرفق ثم عفا فله دية الا قدر الحكومة في الذارع ولو كانت يد القاطع من المرفق صحيحة لم يجز قطعها رواية واحدة لأنه ياخذ صحيحة بمقطوعة وإن قطع أيديهما وهما صحيحتان أو قطع رجلان يديه فقطع يديهما ثم سرت الجناية فمات من قطعهما فليس لوليه العفو على الدية لأنه قد استوفى ما قيمته دية وإن اختار قتلهما فله ذلك

فصول أحكام الاقتصاص من الحامل
فصل : ولا يجوز أن يقتص من حامل قبل وضعها سواء كانت حاملا وقت الجناية أو حملت بعدها قبل الاستيفاء وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف : أما في النفس فلقول الله تعالى : { فلا يسرف في القتل } وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافا
وروى ابن ماجة بإسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال : [ حدثنا معاذ بن جبل و أبو عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حالا وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها ] وهذا نص [ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للغامدية المقرة بالزنا : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك ـ ثم قال لها ـ ارجعي حتى ترضعيه ] ولأن هذا إجماع من أهل العلم لا نعلم بينهم فيه اختلافا
وأما القصاص في الطرف فلأننا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني أو إلى زيادة في حقه فلأن نمنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولأن في القصاص منها قتلا لغير الجاني وهو حرام وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأن الولد لا يعيش إلا به في الغالب ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجيء أوان فطامه لما ذكرنا من الخبرين ولأنه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه بعد وضعه أولى إلا أن يكون القصاص فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرره بالاستيفاء منها فيستوفى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز قتلها لأنه يستغني بلبنها وإن كانت مترددة أو جماعة يتناوبنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها جاز قتلها ويستحب للولي تأخيرها لما على الولد من الضرر لاختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة
فصل : وإذا ادعت الحمل ففيه وجهان : أحدهما : تحبس حتى يتبين حملها لأن للحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب أن يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته ولأنه أمر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض والثاني : ذكره القاضي أنها ترى أهل الخبرة فإن شهدن بحملهن أخرت وإن شهدن ببراءتها لن تؤخر لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بمجرد دعواها
فصل : وإن اقتص من حامل فقد أخطأ وأخطأ السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما الإثم إن كانا عالمين أو كان منهما تفريط وإن علم أحدهما أو فرط فالإثم عليه ثم ننظر فإن لم تلق الولد فلا ضمان فيه لأنا لم نتحقق وجوده وحياته وإن انفصل ميتا أو حيا لوقت لا يعيش في مثله ففيه غرة وإن انفصل حيا لوقت يعيش مثله ثم مات من الجناية وجبت فيه دية وعلى من يجب ضمانه ؟ ننظر فإن كان الإمام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين بالأمرين أو بأحدهما أو كان الولي عالما بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لأنه مباشر والحاكم الممكن له صاحب سبب ومتى اجتمع المباشر مع المتسبب كان الضمان على المباشر دون المتسبب كالحافز مع الدافع وإن علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لأن المباشر معذور فكان الضمان على المتسبب كالسيد إذا أمر عبده بالقتل والعبد أعجمي لا يعرف تحريم القتل وكشهود القصاص إذا رجعوا عن الشهادة بعد الاستيفاء وقال القاضي : إن كان أحدهما عالما وحده فالضمان عليه وحده وإن كانا عالمين فالضمان على الحاكم لأنه الذي يعرف الأحكام والولي إنما يرجع إلى حكمه واجتهاده وإن كانا جاهلين ففيه وجهان : أحدهما : الضمان على الإمام كما لو كانا عالمين والثاني : على الولي وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو الخطاب : الضمان على الحاكم ولم يفرق وقال المزني : الضمان على الولي في كل حال لأنه المباشر والسبب غير ملجىء فكان الضمان عليه كالحافر مع الدافع وكا لو أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق والله أعلم

مسألة وفصول أخذ العضو الصحيح بالأشل والشلاء بالشلاء والناقصة بالناقصة وذات الأصبع الزائد
مسألة : قال : وإذا كان القاطع سالم الطرف والمقطوعة شلاء فلا قود
لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب ثطع يد أو رجل أو لسان صحيح بأشل إلا ما حكي عن داود أنه أوجب ذلك لأن كل واحد منهما مسمى باسم صاحبه فيؤخذ به كالأذنين
ولنا أن الشلاء لا نفع فيها سوى الجمال فلا يؤخذ بها فيه نفع كالصحيحة لا تؤخذ بالقائمة وما ذكر له قياس وهو لا يقول بالقياس وإذا لم نوجب القصاص في العينين مع قول الله تعالى : { العين بالعين } لأجل تفاوتهما في الصحة والعمى فلأن لا يجب ذلك فيما لا نص فيه أولى
فصل : وإن قطع أذنا شلاء أو أنفا أشل فهل يؤخذ به الصحيح ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يؤخذ به كسائر الأعضاء والثاني : يؤخذ به لأن نفعه لا يذبه بشلله فإن نفع الأذن جمع الصوت ورد الهوام وستر موضع السمع ونفع الأنف جمع الريح ورد الهواء أو الهوام فقد ساوى الصحيح في الجمال والنفع فوجب أخذ كل واحد منهما بالآخر كالصحيح بالصحيح بخلاف اليد والرجل ولـ لشافعي قولان كالوجهين
فصل : ولا تؤخذ يد كامل الأصابع بناقصة الأصابع فلو قطع من له خمس أصابع يد وله أربع أو ثلاث أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث لم يجب القصاص لأنها فوق حقه وهل له أن يقطع من أصابع الجاني بعدد أصابعه ؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما إذا قطع من نصف الكف وإن قطع ذو اليد الكاملة يدا فيها أصبع شلاء وباقيها صحاح لم يجز أخذ الصحيحة بها لأنه أخذ كامل بناقص وفي الاقتصاص من الأصابع الصحاح وجهان فإن قلنا له أن يقتص فله الحكومة في الشلاء وأرش ما تحتها من الكف وهل يدخل ما تحت الأصابع الصحاح في قصاصها أو تجب فيه حكومة ؟ على وجهين
فصل : وإن قطع اليد الكاملة ذو يد فيها أصبع زائدة وجب القصاص فيها ذكره أبو عبد الله بن حامد لأن الزائدة عيب ونقص في المعنى يرد بها المبيع فلم يمنع وجودها القصاص منها كالسلعة فيها والخراج واختار القاضي أنها لا تقطع بها وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة فعلى هذا إن كان للمجني عليه أيضا أصبع زائدة في محل الزائدة من الجاني وجب القصاص لاستوائهما وإن كانت في غير محلها أو لم يكن للمجني عليه أصبع زائدة لم تؤخذ يد الجاني وهل يملك قطع الأصابع ؟ ننظر فإن كانت الزائدة ملصقة بأحد الأصابع فليس له قطع تلك الأصبع لأن في قطعها إضرارا بالزائدة وهل له قطع الأصابع الأربع على وجهين وإن لم تكن ملصقة بواحدة منهن فعل له قطع الخمس ؟ على وجهين وإن كانت الزائدة نابته في أصبع في أنملتها العليا لم يجز قطعها وإن كانت نابته في السفلى أو الوسطى فله قطع ما فوقها من الأنامل في أحد الوجهين ويأخذ أرش الأنملة التي تعذر قطعها في أحد الوجهين ويتبع ذلك خمس الكف
فصل : وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة وإن كانت المقطوعة ذات أظفار إلا أنها خضراء أو مستحشفة أخذنا بها السليمة لأن ذلك علة ومرص والمرض لا يمنع القصاص بدليل أنا نأخذ الصحيح بالسقيم
مسألة : قال : وإن كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فشاء المظلوم أخذها فذلك له ولا شيء له غيرها وإن شاء عفا وأخذ دية يده
أما إذا اختار الدية فله دية يده لا نعلم فيه خلافا لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وهذا قول ابي حنيفة و مالك و الشافعي وإن اختار القصاص سئل أهل الخبرة فإن قالوا إنه إذا قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده سقط القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف وإن أمن هذا فله القصاص لأنه رضي بدون حقه فكان له ذلك كما لو رضي المسلم بالقصاص من الذمي والرجل من المرأة والحر من العبد وليس له مع القصاص أرش لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت في الصفة فلم يكن له أرش كالصورة التي ذكرناها وقال أبو الخطاب : عندي له أرش مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور والأول أصح فإن إلحاق هذا الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من إلحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول مخالف للقياس
فصل : وتؤخذ الشلاء بالشلاء إذا أمن في الاستيفاء الزيادة وقال أصحاب الشافعي : لا تؤخذ بها في أحد الوجهين لأن الشلاء عليلة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما
ولنا أنهما متماثلان في ذات العضو وصفته فجاز أخذ إحداهما بالأخرى كالصحيحة بالصحيحة
فصل : وتؤخذ الناقصة بالناقصة إذا تساوتا فيه بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع من يد المجني عليه لأنهما تساوتا في الذات والصفة فأما إن اختلفا فكان المقطوع من يد أحدهما الإبهام ومن الأخرى أصبع غيرها لم يجز القصاص لأن فيه أخذ أصبع بغيرها وإن كانت يد أحدهما ناقصة أصبعا والأخرى ناقصة تلك الأصبع وأخرى جاز أخذ الناقصة أصبعين بالناقصة أصبعا وهل له أرش أصبعه الزائدة ؟ فيه وجهان ولا يجوز أخذ الأخرى بها لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة
فصل : ويجوز أخذ الناقصة بالكاملة لأنها دون حقه وهل له أخذ دية الأصابع الناقصة ؟ على وجهين : أحدهما : له ذلك وهو قول الشافعي واختيار ابن حامد
والثاني : ليس له مع القصاص أرش وهو مذهب أبي حنيفة وقياس قول أبي بكر لئلا يفضي إلى الجمع بين قصاص ودية في عضو واحد وقال القاضي : قياس قوله سقوط القصاص كقوله فيمن قطعت يده من نصف الذراع وليس كذلك لأنه يقتص من موضع الجناية ويضع الحديدة في موضع وضعها الجاني فملك ذلك كما لو جنى عليه فوق الموضحة أو كان رأس الشاج أصغر أو أخذ الشلاء بالصحيحة ويفارق القاطع من نصف الذارع لأنه لا يمكنه القصاص من موضع الجناية هكذا حكاه الشريف عن أبي بكر
فصل : وإن كانت يد القاطع والمجني عليه كاملتين وفي يد المجني عليه أصبع زائدة فعلى قول ابن حامد : لا عبرة بالزائدة لأنها بمنزلة الخراج والسلعة وعلى قول غيره : له قطع يد الجاني وهل له حكومة في الزائدة ؟ على وجهين وإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة أو قطع من له أربع أصابع وأصبع زائدة وكف من له خمس أصابع أصلية فلا قصاص في الصورة الأولى لأن الأصلية لا تؤخذ بالزائدة وله القصاص في الصورة الثانية في قول ابن حامد لأن الزائدة لا عبرة بها وقال غيره : إن لم تكن الزائدة في محل الأصلية فلا قصاص أيضا لأن الأصبعين مختلفتان وإن كانت في محل الأصلية فقال القاضي يجري القصاص وهو مذهب الشافعي ولا شيء له لنقص الزائدة وهذا فيه نظر فإنها متى كانت في محل الأصلية كانت أصلية لأن الزائدة هي التي زادت عن عدد الأصابع أو كانت في غير محل الأصابع وهذا له خمس أصابع في محلها فكانت كلها أصلية فإن قالوا معنى كونها زائدة أنها ضعيفة مائلة عن سمت الأصابع قلنا : ضعفها لا يوجب كونها زائدة كذكر العنين وأما ميلها عن الأصابع فإنها إن لم تكن نابته في محل الأصبع المعدومة فسد قولهم إنها في محلها وإن كانت نابته في موضعها وإنما مال رأسها واعوجت فهذا مرض لا يخرجها عن كونها أصلية

فصلان حصول الأكلة في اليد بسبب قطع الأصبع
فصل : وإذا قطع أصبعه فأصابه من جرحها أكلة في يده وسقطت من مفصل ففيها القصاص وإن بادرها صاحبها فقطعها من الكوع لئلا تسري إلى سائر جسده ثم اندمل جرحه فعلى الجاني القصاص في الأصبع والحكومة فيما تأكل من الكف ولا شيء عليه فيما قطعه المجني عليه لأنه تلف بفعله وإن لم يندمل قصد به ومات من ذلك فالجاني شريك نفسه فيحتمل وجوب القصاص عليه ويحتمل أن لا يجب بحال لأن فعل المجني إنما قصد به المصلحة فهو عمد الخطأ وشريك الخاطىء لا قصاص عليه ويكون عليه نصف الدية وإن قطع المجني عليه موضع الأكلة نظرت فإن قطع لحما ميتا ثم سرت الجناية فالقصاص على الجاني لأنه سراية جرحه خاصة وإن كان في لحم حي فمات فالحكم فيه كما لو قطعها خوفا من سرايتها
فصل : وإذا قطع أنملة لعا طرفان إحداهما زائدة والأخرى أصلية فإن كانت أنملة القاطع ذات طرفين أيضا أخذت بها وإن لم تكن ذات طرفين قطعت وعليه حكومة في الزائدة وإن كانت المقطوعة ذات طرف واحد وأنملة القاطع ذات طرفين أخذت بها في قول ابن حامد وعلى قول غيره : لا قصاص فيها وله دية أنملته وإن ذهب الطرف الزائد فله الاستيفاء وإن قال أنا أصبر حق يذهب الزائد ثم أقتص فله ذلك لأن القصاص حقه فلا يجبر على تعجيل استيفائه

فصلان قصاص قطع الأنامل
فصل : ولو قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملة آخر الوسطى ثم قطع السفلى من ثالث فللأول القصاص من العليا ثم للثاني أن يقتص من الوسطى ثم للثالث أن يقتص من السفلى سواء جاؤوا دفعة واحدة أو واحدا بعد واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قصاص إلا في العليا لأنه لم يجب في غيرها حال الجناية لتعذر استيفائه فلم يجب بعد ذلك كما لو كان غير مكافىء حال الجناية ثم صار مكافئا بعده
ولنا أن تعذر القصاص لإيصال محله بغيره لا يمنعه إذا زال الاتصال كما لو جنت الحامل ويفارق عدم التكافؤ لأنه تعذر لمعنى فيه وههنا تعذر لاتصال غيره به فأما إن جاء صاحب الوسطى أو السفلى يطلب القصاص قبل صاحب العليا لم يعطه لأن في استيفائه إتلاف أنملة لا يستحقها وقيل لهما إما أن تصبرا حتى تعلما ما يكون من الأول فإن اقتص فلكما القصاص وإن عفا فلا قصاص لكما وإما أن ترضيا بالعقل فإذا جاء صاحب العليا فاقتص فللثاني الاقتصاص وحكم الثالث مع الثاني كحكم الثاني مع الأول وإن عفا فلهما العقل فإن قالا : نحن نصبر وننظر بالقصاص أن تسقط العليا بمرض أو نحوه ثم نقتص لم يمنعا من ذلك وإن قطع صاحب الوسطى الوسطى والعليا فعليه دية العليا تدفع إلى صاحب العليا وإن قطع الأصبع كلها فعليه قصاصها في الأنملة الثالثة وعليه أرش العليا للأول وأرش السفلى على الجاني لصاحبها وإن عفا الجاني عن قصاصها وجب أرشها يدفعه إليه ليدفعه إلى المجني عليه
فصل : وإن قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملتي آخر العليا والوسطى من تلك الأصبع فللأول قطع العليا لأن حقه أسبق ثم يقطع الثاني الوسطى ويأخذ أرش العليا منه فإن بادر الثاني فقطع الأنملتين فقد استوفى حقه وتعذر استيفاء القصاص للأول وله الأرش على الجاني وإن كان قطع الأنملتين أولا قدمنا صاحبهما في القصاص للأول وله الأرش على الجاني وإن بادر صاحبها فقطعها فقد استوفى حقه وتقطع الوسطى للأول ويأخذ الأرش للعليا ولو قطع أنملة رجل العليا ولم يكن للقاطع عليا فاستوفى الجاني من الوسطى فإن عفا إلى الدية تقاصا وتساقطا لأن ديتهما واحدة وإن اختار الجاني القصاص فله ذلك ويدفع أرش العليا ويجيء على قول أبي بكر أن لا يجب القصاص لأن ديتهما واحدة واسم الأنملة يشملها فتساقطا كقوله في إحدى اليدين بدلا عن الأخرى

مسألة وفصول حكم ما لو قتل وله وليان بالغ وطفل وحكم الوارث الصغير
مسألة : قال : وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب ويبلغ الطفل
وجملته أن ورثة القتيل إذا كان أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين فإن كان بعضهم غائبا انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه وإن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا فظاهر مذهب أحمد رحمه الله أنه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الشافعي و أبو يوسف و إسحاق ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعن أحمد رواية أخرى : للكبار العقلاء استيفاؤه وبه قال حماد و مالك و الأوزاعي و الليث و أبو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصا وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولأن ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية
ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان بين حاضر وغائب أو أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور أحدها : أنه لو كان منفردا لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردا كولاية النكاح والثاني : أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن مستحقا بعده كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه والثالث : أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق ورثته ولو لم يكن حقا لم يرثه كسائر ما لم يستحقه فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره لأنه قتل عليا مستحلا لدمه معتقدا كفره متقربا بذلك إلى الله تعالى وقيل : قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا تقل وقتله متحتم وهو إلى الإمام و الحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وإن قدر أنه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض
فصل : وإن كان الوارث واحدا صغيرا كصبي قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس لأبيه ولا غيره استيفاؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبوحنيفة و مالك : له استيفاؤه وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف دون النفس وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين أحدهما : كقولنا لأن القصاص أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية
ولنا أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب له فافترقا ولأن الدية إنما يملك استيفاءها إذا تعينت والقصاص لا يتعين فإنه يجوز العفو إلى الدية والصلح على مال أكثر منها وأقل والدية بخلاف ذلك
فصل : وكل موضع وجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم الغائب وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة فلم ينكر ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل : فلم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين ؟ قلنا :
لأن في تخليته تضييعا للحق فإنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من وجوه أحدها أن قضاء الدين لا يجب مع الإعسار فلا يحبس بما لا يجب والقصاص ههنا واجب وإنما تعذر المستوفى الثاني : أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من الجانبين وههنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس الثالث : أنه قد استحق قتله وفيه تفويت نفسه ونفعه فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لإمكانه فإن قيل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفا رشيدا ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك انتزاعه ؟ قلنا لأن في القصاص حقا للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا ينفذ وصاياه من الدية ويقضي ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة الميت في يد إنسان شيئا غصبا والوارث غائب فإنه يأخذه ولو كان القصاص لحي في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلي سبيله له لم يجز لأن الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم تصح الكفالة به كالحد ولأن فيه تغريرا بحق المولى عليه فإنه ربما خلي سبيله فهرب فضاع الحق

فصل حكم ما لو قتل الجاني بعض الأولياء بغير إذن الباقين
فصل : فإن قتله بعض الأولياء بغير إذن الباقين لم يجب عليه قصاص وبهذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر : عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص بإتلاف بعض النفس بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد
ولنا أنه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة بإستيفائه كالأصل ويفارق إذا قتل الجماعة واحدا فإنا لا نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما نجعل كل واحد منهم قاتلا لجميعها وإن سلمنا وجوبه عليه لقتله بعض النفس فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ههنا
إذا ثبت هذا فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني ؟ فيه وجهان ولـ لشافعي قولان : أحدهما : يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه كما لو كانت له وديعة فأتلفها والثاني : يرجع في تركة الجاني كما لو أتلفه أجنبي أو عفا شريكه عن القصاص وقولنا أتلف محل حقه يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو كان المتلف أجنبيا ويفارق الوديعة فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك للمجني عليه وإنما له عليه حق فأشبه ما لو قتل غريمه فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم إلا قدر حقه منها فعلى هذا لو كان الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلا له ابنان فقتلها أحدهما بغير إذن الآخر فللآخر نصف دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها على قاتلها وهو ربع دية الرجل
وعلى الوجه الأول يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لأنه لم يفوت على أخيه إلا نصف المرأة ولا يمكن أن يرجع على ورثة المرأة بشيء لأن أخاه الذي قتلها أتلف جيمع الحق وهذا يدل على ضعف هذا الوجه ومن فوائده أيضا صحة إبراء من حكمنا بالرجوع عليه وملك مطالبته فإن قلنا يرجع على ورثة الجاني صح إبراؤهم وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي وإن قلنا يرجع على تركة الجاني وله تركة فله الأخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك أو لم يمكنهم وإن قلنا يرجع على شريكه لم يكن له مطالبة ورثة الجاني سواء كان شريكه موسرا أو معسرا

مسألة وفصل ومن عفا من ورثة المقتول
مسألة : قال : ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص لم يكن إلى القصاص سبيل وإن كان الباقي زوجا أو زوجة
أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل والأصل فيه الكتاب والسنة : أما الكتاب فقول الله تعالى في سياق قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وقال تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ـ إلى قوله { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } قيل في تفسيره : فهو كفارة للجاني يعفو صاحب الحق عنه وقيل : فهو كفارة للعافي بصدقته وأما السنة ف [ إن أنس بن مالك قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو ] رواه أبو داود [ وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقصاص فعفا القوم ]
إذا ثبت هذا فالقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب والرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يبق لأحد إليه سبيل هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و النخعي و الحكم و حماد و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وروي معنى ذلك عن عمر و طاوس و الشعبي وقال الحسن و قتادة و الزهري و ابن شبرمة و الليث و الأوزاعي : ليس للنساء عفو والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل ] وأهله ذوو رحمة
وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص بعفو بعض الشركاء وقيل هو رواية عن مالك لأن حق غير العافي لا يرضى بإسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد
[ ولنا عموم قوله عليه السلام : فأهله بين خيرتين وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : من يعذرني من رجل يبلغني أذاه في أهلي وما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ] يريد عائشة [ وقال له أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا ] وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر الله أكبر عتق القتيل رواه أبو داود وفي رواية عن زيد قال : دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها : قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية
وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رحلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود : ما تقول ؟ قال : إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملىء علما والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة فإذا عفا بعضهم صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتاق ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه على الدرء والإسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق والمرأة أحد المستحقين فسقط بإسقاطها كالرجل ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم لهما مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا من خير عمر رضي الله عنه
فصل : فإن قتله الشريك الذي لم يعف عالما بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة و أبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل له قول آخر لا يجب القصاص لأن له فيه شبهة لوقوع الخلاف
ولنا أنه قتل معصوما مكافئا له عمدا يعلم أنه لا يحق له فيه فوجب القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله وأما إن قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه : عليه القصاص لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله
ولنا أنه قتله معتقدا ثبوت حقه فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو الموكل قبل علمه بعفوه ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده وقال الشافعي : متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذورا وإما للعفو عن القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصا ويجب عليه الباقي فإن كان الولي عفا إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شيء عليهم وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية وقيل فيه : إن حق العافي من الدية على القاتل لا يصح لأن الحق لم يبق متعلقا بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنتقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه
فصل : فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقا أو إلى مال وبهذا قال عكرمة و الثوري و مالك و الشافعي و ابن المنذر وروي عن الحسن : تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن عبد العزيز : الحكم فيه إلى السلطان
ولنا قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قال ابن عباس و عطاء و الحسن و قتادة في تفسيرها أي بعد أخذه الدية وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية ] ولأنه قتل معصوما مكافئا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل
فصل : وإذا عفا عن القاتل مطلقا صح ولم تلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر و أبو ثور وقال مالك و الليث و الأوزاعي : يضرب ويحبس سنة
ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شيء آخر كما لو اسقط الدية عن القاتل خطأ

فصول التوكيل في استيفاء القصاص والعفو وفروع فيه
فصل : وإذا وكل من يستوفي القصاص صح توكيله نص عليه أحمد رحمه الله فإن وكله ثم غاب وعفا عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأن حقه قد استوفي وإن كان قتله وقد علم الوكيل به قد قتله ظلما فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر : لا ضمان على الوكيل لأنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه فلم يلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان ؟ فيه قولان : أحدهما : لا ضمان عليه لأن عفوه غير صحيح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل فوقع القتل مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولأن العفو إحسان فلا يقتضي وجوب الضمان والثاني : عليه الضمان لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمر عبده الأعجمي بقتل معصوم
وقال غير ابي بكر في صحة العفو وجهان بناء على الراويتين في الوكيل هل ينعزل بعزل الموكل أو لا ؟ ولـ لشافعي قولان كالوجهين فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر يستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا قد أسلم قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل بتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمة أو تزوج معيبة ويحتمل أن لا يرجع عليه لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه فعلى هذا تكون الدية على عاقلة الوكيل وهذا اختيار أبي الخطاب لأن هذا جرى مجرى الخطأ فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا
وقال القاضي : هو في مال الوكيل لأنه عن عمد محض وهذا لا يصح لأنه لو كان عمدا محضا لأوجب القصاص ولأنه يشترط في العمد المحض أن يكون عالما بحال المحل وكونه معصوما ولم يوجد هذا وإن قال هو عمد الخطأ فعمد تحمله العاقلة ذكره الخرقي ودل عليه [ خبر المرأة التي قتلت جاريتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بالدية على عاقلتها ] واختلف أصحاب الشافعي على هذين الوجهين فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشيء فإن قيل فقد قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه وههنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه فافترقا وإن قلنا إن الوكيل يرجع الموكل احتمل أن تسقط الديتان لأنه لا فائدة في ان يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل فيكون تكليفا لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما تتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولأنه قد تكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما غرمه وإن أحال ورثة الجاني الموكل على الوكيل بدية وليهم صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن تكون امرأة قتلت رجلا فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعا ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلا قتل امرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل
فصل : وإذا جني على الإنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أن القصاص واجب لأن الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها
ولنا أنه يتعذر اسيتفاء القصاص في النفس دون ماعفا فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم اسلم ثم مات منها نظرنا فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفسا وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة وإن قال عفوت عن الجناية لم يجب شيء لأن الجناية لا تختص بالقطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع : ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء وبه قال أبو يوسف و محمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته
ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت ديتها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والمعفو عنه نصف الدية لأن الجناية أوجبت نصف الدية فإذا عفا سقط وأوجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية نصف الدية ولم يسقط أرش الجرح فيما إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية
فصل : فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية وإن عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس إلا أرش الجرح ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يدا فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت إلى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية وإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر : لا يسقط القصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جوز له القصاص من الكوع أسقط القصاص في النفس كما لوكان القطع من الكوع وقال المزني : لا يصح العفو عن يدة الجرح قبل اندماله فلو قطع يدا فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو عنه بخلاف الدية وليس بصحيح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل موته كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا تملك المطالبة به ويصح العفو عنه كذا ههنا
فصل : وإن قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتله فلوليه القصاص وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : لا قصاص لأن العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه
ولنا أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما يلزم بالقتل كما لو كان القاطع غيره وإن اختار الدية فقال القاضي : إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من ية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل ولو صار الأمر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب : له العفو إلى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر كما لو اندمل ولأن القتل موجب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو وفارق السراية فإنها لم توجب قتلا ولأن السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شيء منه ولا عن سببه سواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها
فصل : وإن قطع أصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت الجناية إلى الكف ثم اندمل الجرح لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس ولأن القصاص سقط في الأصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت الدية كلها وإن كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا قطع يدا فعفا المجني عليه ثم سرى إلى نفسه فعلى هذا تجب ههنا دية الكف لا دية الأصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أن لا يجب شيء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي : إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية فيلزمه أن يقول مثل ذلك ههنا
فصل : فإن قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في ظاهر كلام أحمد وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك و طاوس و الحسن و قتادة و الأوزاعي وقال أصحاب الشافعي : إذا قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان : أحدهما : أنه وصية فيبنى على الوصية للقاتل وفيها قولان : أحدهما : لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح والثاني : يصح فإن خرجت من الثلث سقط وإلا سقط منها ما خرج من الثلث ووجب الباقي والقول الثاني : ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة فلا يصح وتلزمه دية النفس إلا دية الجرح
ولنا أنه اسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لم يخرج لأن ما وجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها وعما يحدث منها اعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غيرها فإن خرجت من الثلث صح عفوه في الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك و الثوري و أصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و إسحاق لأن الوصية ههنا بمال
فصل : فإن اختلف الجاني والولي أو المجني عليه فقال الجاني : عفوت مطلقا وقال المجني عليه : بل عفوت إلى مال أو قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها قال : بل عفوت عنها دون ما يحدث منها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض بإقراره فيكون القول في عدم سقوطه قوله

مسألة وفصلان إذا اشترك جماعة في القتل
مسألة : قال : وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك وإن أحبوا أن يقتلوا البعض ويعفوا عن البعض ويأخذون الدية من الباقين فلهم ذلك
أما قتلهم للجميع فقد ذكرناه فيما مضى وأما إن أحبوا قتل البعض فلهم ذلك لأن كل من لهم قتله فلهم العفو عنه كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر كما لو قتل كل واحد رجلا وأما إذا اختاروا أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فإن لهم هذا من غير رضا الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب و ابن سيرين و الشافعي و عطاء و مجاهد و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال النخعي و مالك و ابو حنيفة : ليس للأولياء إلا القتل إلا أن يصطلحا على الدية برضا الجاني وعن مالك رواية أخرى كقولنا واحتجوا بقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } والمكتوب لا يتخير فيه ولأنه متلف يجب به البدل فكان بدله معينا كسائر أبدال المتلفات
ولنا قول الله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال ابن عباس : كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فأنزل الله تعالى هذه الآية : { كتب عليكم القصاص في القتلى } الآية : { فمن عفي له من أخيه شيء } فالعفو أن تقبل في العمد الدية : { فاتباع بالمعروف } يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المغلوب : { بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } مما كتب على من قبلكم رواه البخاري
وروى أبو هريرة قال : [ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما يقاد ] متفق عليه
وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثم أنتم يا خزاعة قد قلتم هذا القتيل وأنا والله عاقلة فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ] رواه أبو داود وغيره ولأن القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير إبراء ثبت المال كما لو عفا بعض الورثة ويخالف سائر المتلفات لأن بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من غير الجنس فإذا رضي في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لأنه أسقط بعض حقه ولأن القاتل أمكنه إحياء نفسه ببذل الدية فلزمه وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص فإنهم سلموا فيهما
فصل : واختلفت الرواية في موجب العمد فروي عن أحمد رحمه الله أن موجبه القصاص عينا لقوله عليه السلام : [ من قتل عمدا فهو قود ] ولما ذكروه في دليلهم وروي أن موجبه أحد شيئين القصاص أو الدية لما ذكرناه قبل هذا ولأن الدية أحد بدلي النفس فكانت بدلا عنها لا عن بدلها كالقصاص وأما الخبر فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به ويحالف القتل سائر المتلفات لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه والقتل بخلافه ولـ لشافعي قولان كالراويتين فإذا قلنا موجبه القصاص عينا فله العفو إلى الدية والعفو مطلقا فإذا عفا مطلقا لم يجب شيء وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشيء لأنه لو عفا عن يجب شيء وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشيء لأنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه وإن عفا عن القصاص بغير مال لم يجب شيء فأما إن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير معين فإذا ترك أحدهما وجب الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وإن اختار القصاص تعين وهل له بعد ذلك العفو على الدية ؟ قال القاضي : له ذلك لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرواية الأولى أن الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها
فصل : وإذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما إن لم يعرفا قدر الأرش فالثمن مجهول وإن عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع ولذلك لو باعه شيئا بجمل جذع غير معروف الصفة لم يصح وإن قدر الأرش بذهب أو فضة وباعه به صح

فصلان عفو ولي الصغير الذي وجب له القصاص وعفو المفلس والمحجور
فصل : إذا وجب القصاص لصغير لم يجز لوليه العفو إلى غير مال لأنه لا يملك إسقاط حقه وإن أحب العفو إلى مال وللصبي كفاية من غيره لم يجز لأن فيه تفويت حقه من غير حاجة فإن كان فقيرا محتاجا ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لحاجته إلى المال لحفظه قال القاضي : هذا أصح والثاني : لا يجوز لأنه لا يملك إسقاط قصاصه وأما حاجته فإن نفقته في بيت المال والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل فأما إن كان مستحق القصاص مجنونا فقيرا فلوليه العفو على المال لأنه ليست حالة معتادة ينتظر فيها رجوع عاقله
فصل : ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال وإن أراد المفلس القصاص لم يكن لغرمائه أجباره على تركه وإن أحب العفو عنه إلى مال فله ذلك لأن فيه حظا للغرماء وإن اراد العفو على مال انبنى على الروايتين إن قلنا الواجب القصاص فله ذلك لأنه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملك لأن المال يجب بقوله : عفوت عن القصاص فقوله على غير مال إسقاط له بعد وجوبه وتعيينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووراث المفلس وإن عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع أنه يصح سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر أن أحمد نص على هذا وقال في موضع : يعتبر خروجه من ثلثه ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى

فصلان إذا قتل من لا وارث له فالأمر للسلطان
فصل : وإذا قتل من لا وارث له فالأمر إلى السلطان فإن أحب القصاص فله ذلك وإن أحب العفو على مال فله ذلك وإن أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا وهذا قول أصحاب الرأي إلا أنهم لا يرون العفو على مال إلا برضا الجاني
فصل : وإذا اشترك الجماعة في القتل فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وإن عفا عن بعضهم فعلى المعفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء أتلفه واحد أو جماعة وقال ابن ابي موسى فيه رواية أخرى أن على كل واحد دية كاملة لأن له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح فإنه تجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف فلا يختلف المتلف ولذلك لو قتل عبد قيمته ألفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية وأما القصاص فإنه عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدده

مسألة وإن قتل من للأولياء أن يقيدوا به
مسألة : قال : وإن قتل من للأولياء أن يقيدوا به فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد فللأولياء قبول ذلك
وجملته أن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها لا أعلم فيه خلافا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل عمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل ] وراه الترمذي وقال حديث حسن غريب وروينا أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله ولأنه عوض عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع ولأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فاشبه الصلح عن العروض

سألة وإذا أمسك رجل وقتله آخر
مسألة : قال : وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت
يقال أمسك ومسك ومسك وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال : إذا أمسك وحبس الماسك وهو اسم الفاعل من مسك مخففا ولا خلاف في أن القاتل يقتل لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق وأما المسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه لأنه متسبب والقاتل مباشر فيسقط حكم المتسبب به وإن أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ذبحه له فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء و ربيعة وروي ذلك عن علي وروي عن أحمد أنه يقتل أيضا وهو قول مالك قال سليمان بن أبي موسى : الإجماع فينا أن يقتل لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه وقال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أعتى الناس على الله من قتل غير قالته والممسك غير قاتل ] ولأن الإمساك سبب غير ملجىء فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله
ولنا ما روى الدار قطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك ] ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت

فصل ولو تبع رجل رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر
وإن اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك لأنه حبسه على القتل وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم وفيه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه فإن قيل لمن اعتبرتم قصد الإمساك ههنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الخارج ؟ قلنا : إذا مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر وفي مسألتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه

مسألة وفصل ومن أمر عبده أن يقتل رجلا أو صبيا أو مجنونا ليقتل
مسألة : قال : ومن أمر عبده أن يقتل رجلا وكان العبد أعجميا لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد وإن كان يعلم خطر القتل قتل العبد وأدب السيد
إنما ذكر الخرقي كونه أعجميا وهو الذي لا يفصح ليتحقق منه الجهل وإنما يكون الجهل في حق من نشأ في غير بلاد الإسلام فأما من أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا يعذر في فعله ومتى كان العبد تحريم القتل فالقصاص عليه ويؤدب سيده لأمره بما أفضى الى القتل بما يراه الإمام من الحبس والتعزير وإن كان غير عامل بخطره فالقصاص على سيده ويؤدب العبد قال أحمد : يضرب ويؤدب ونقل عنه أبو طالب قال : يقتل الولي ويحبس العبد حتى يموت لأن العبد سوط المولى وسيفه كذا قال علي وابو هريرة وقال علي رضي الله عنه : يستودع السجن وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال : إن السيد يقتل علي وأبو هريرة وقال قتادة : يقتلان جميعا وقال سليمان بن موسى : لا يقتل الآمر ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه لم يباشر القتل ولا ألجأ إليه فلم يجب عليه قصاص كما لو علم العبد خطر القتل
ولنا أن العبد إذا كان غير عالم بخطر القتل فهو معتقد إباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا ولأن حكمة القصاص الردع والزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على السيد لأنه آلة له لا يمكن إيجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه حية أو كلبا أو ألقاه في زبية أسد فأكله ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فإن القصاص على العبد لإمكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر ويكون على السيد الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل
فصل : ولو أمر صبيا لا يميز أو مجنونا أو أعجميا لا يعلم خطر القتل فقتل فالحكم فيه كالحكم في العبد يقتل الآمر دون المباشر ولو أمره بزنا أو سرقة لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا على المباشر والقصاص يجب بالتسبب ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص

فصل ولو أمر السلطان رجلا فقتل آخر
فصل : ولو أمر السلطان رجلا فقتل آخر فإن كان القاتل يعلم أنه لا يستحق قتله فالقصاص عليه دون الآمر لأنه غير معذور في فعله ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ] وعنه عليه السلام أنه قال : [ من أمركم من الولاة بغير طاعة الله تعالى فلا تطيعوه ] فلزمه القصاص كمالو أمره غير السلطان فإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام فيما ليس بمعصية والظاهر أنه لا يأمر إلا بالحق وإن أمره غير السلطان من الرعية بالقتل فقتل فالقود على المأمور بكل حال علم أو لم يعلم لأنه لم لا يلزمه طاعته وليس له القتل بحال بخلاف السلطان فإن إليه القتل للردة والزنا وقطع الطريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للناس وهذا ليس إليه شيء من ذلك وإن أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فالقصاص عليهما وإن وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذميا أو حر قتل عبدا فقتله فقال القاضي الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما أدى اجتهاده إليه والمأمور لا يعتقد جوازه فلم يكن له أن يقبل أمره فإذا قتله لزمه الضمان لأنه قتل من لا يحل له قتله وينبغي أن يفرق بين العامي والمجتهد فإن كان مجتهدا فالحكم فيه على ما ذكر القاضي وإن كان مقلدا فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد حله فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد الذي لا يعتقد تحريم القتل به والله أعلم

مسألة وفصل مقدار دية الحر المسلم والأصل فيها الإبل
كتاب الديات : الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب فقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } الآية
وأما السنة ف [ روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه : وإن في النفس مائة من الإبل ] رواه النسائي في سننه و مالك في موطئه قال ابن عبد البر : وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه في أحاديث كثيرة تأتي في مواضعها من الباب إن شاء الله وأجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : ودية الحر المسلم مائة من الإبل
أجمع أهل العلم على أن الإبل اصل في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم وحديث عبد الله بن عمر في دية خطأ العمد وحديث ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله وظاهر كلام الخرقي أن الأصل في الدية الإبل لا غير وهذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ذكر ذلك أبو الخطاب وهو قول طاوس و الشافعي و ابن المنذر وقال القاضي : لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها وهذا قول عمر و عطاء و طاوس وفقهاء المدينة السبعة وبه قال الثوري و ابن أبي ليلى و أبو يوسف و محمد [ لأن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن : وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الورق ألف دينار ] رواه النسائي
[ وروى ابن عباس أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ديته اثني عشر ألفا ] رواه أبو داود و ابن ماجة وروى الشعبي أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال : ألا أن الإبل قد غلت فقوم على أهل المذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها ولا يتحقق هذا في غير الإبل ولأنه بدل متلف حقا لآدمي فكان متعينا كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل ان النبي صلى الله عليه و سلم أوجب الورق بدلا عن الإبل والخلاف في كونها أصلا وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل ولو كانت أصولا بنفسها لم يكن إيجابها تقويما للإبل ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى
وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم ولذلك قيل إن دية الذمي أربعة آلاف درهم ويدته نصف الدية فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية ثمانية آلاف درهم
فصل : فإذا قلنا هي خمسة أصول فإن قدرها من الذهب ألف مثقال ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ومن البقر والحلل مائتان ومن الشاة ألفان ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ولا من سائرها إلا الورق فإن الثوري و أبا حنيفة و صاحبيه قالوا : قدرها عشرة آلاف من الورق وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي أن عمر جعل على أهل الورق عشرة آلاف ولأن الدينار معدول في الشرع بعشرة دارهم بدليل أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ونصاب الفضة مائتان وبما ذكرناه قال الحسن و عروة و مالك و الشافعي في قول وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر ولأن الدينار معدول باثني عشر درهما بدليل أن عمر فرص الجزية على الغني أربعة دنانير أو ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط دينارين أو أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير دينارا أو اثني عشر درهما وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة ولأنه لا يلزم أن يكون نصاب أحدهما معدولا بنصاب الآخر كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب شيء منها معدولا بنصاب غيره قال ابن عبد البر : ليس مع من جعل الدية عشرة آلاف عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث مسند ولا مرسل وحديث الشعبي عن عمر يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه
فصل : وعلى هذا أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول لزم الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره سواء كان من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنها أصول في قضاء الواجب يجزىء واحد منها فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة وكشاتي الجبران في الزكاة مع الددارهم وإن قلنا الأصل الإبل خاصة فعليه تسليمها إليه سليمة من العيوب وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها فاستحقت كالمثل في المثليات المتلفة وأن أعوزت الإبل ولم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل فله العدول إلى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم وهذا قول الشافعي القديم وقال في الجديد : تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل ولأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته كذوات الأمثال ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت قيمتها ينبغي أن تجزىء وإن كثرت قيمتها كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا ينبغي أن نقول إذا غلت الإبل كلها فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لم يجدها لكونها في غير بلده ونحو ذلك فإن عمر قوم الدية من الدارهم اثني عشر ألفا وألف دينار
فصل : وظاهركلام الخرقي أنه لا تعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطة وجب أخذها قلت قيمتها أو كثرت وهذا ظاهر مذهب الشافعي وذكر اصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد أن تؤخذ مائة قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهما فإن لم يقدر على ذلك أدى اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثني عشر الفا فدل على أن ذلك قيمتها ولأن هذه أبدال محل واحد فيجب أن تتساوى في القيمة كالمثل والقيمة في بدل القرض والمتلف في المثليات
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل ] وهذا مطلق فتقييده يخالف إطلاقه فلم يجز إلا بدليل ولأنها تؤخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيمتها ثمانية آلاف وقول عمر في حديثه إن الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفا دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من ذلك وقد كانت تؤخذ في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم وابي بكر وصدر من ولاية عمر مع رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين فإيجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد وخفف دية الخطأ وأجمع عليه أهل العلم واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما وجمع بين ما فرقه الشارع وإزالة للتخفيف والتغليظ جميعأ بل هو تغليظ لدية الخطأ لأن اعتبار ابن مخاض بقيمة ثنية أو جذعة يشق جدا فيكون تغليظا للدية في الخطأ وتخفيفا لدية العمد وهذا خلاف ما قصده الشارع ورود به ولأن العادة نقص قيمة بنات المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات فلو كانت تؤدى على عهد النبي صلى الله عليه و سلم بقيمة واحدة ويعتبر ذلك فيها لنقل ولم يجز الإخلال به لأن ما ورد به الشرع مطلقا إنما يحمل على العرف والعادة فإذا أريد به ما يخالف العادة وجب بيانه وإيضاحه لئلا يكون تلبيسا في الشريعة وإيهامهم أن حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة والنبي صلى الله عليه و سلم بعص للبيان قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فكيف يحمل قوله على الإلباس والإلغاز ؟ هذا مما لا يحل ثم لو حمل الأمر على ذلك لكان الأسنان عبثا غير مفيد فإن فائدة ذلك إنما هو كون اختلاف أسنانها مظنة اختلاف القيم فأقيم مقامه ولأن الإبل أصل في الدية فلا تعتبر قيمتها بغيرها كالذهب والورق ولأنها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها كالإبل في السلم وشاة الجبران وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن تغلو ويقومها عمر وقيمتها أقل من اثني عشر ألفا وقد قيل إن قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك قال عمر دية الكتابي أربعة آلاف وقولهم إنها إبدال محل واحد فلنا أن نمنع ونقول البدل إنما هو الإبل وغيرها معتبر بها وإن سلمنا فهو منتقض بالذهب والورق فإنه لا يعتبر تساويهما وينتقض أيضا بشاة الجبران مع الدراهم وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة والقيمة بدل عنه ولذلك لا تجب إلا عند العجز عنه بخلاف مسألتنا
فإن قيل هذا حجة عليكم لقولكم إن الإبل هي الأصل وغيرها بدل عنها فيجب أن يساويها كالمثل والقيمة قلنا إذا ثبت لنا هذا ينبغي أن يقوم غيرها بها ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع الأصل ولا يتبع الأصل البدل على أنا نقول : إنما صير إلى التقدير بهذا لأن عمر رضي الله عنه قومها في وقته بذلك فوجب المصير إليه كيلا يؤدي التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة كما قدر لبن المصراة بصاع من التمر نفيا للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا أن يرد الأصل إلى التقويم فيفضي إلى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجوبها بعينها على أن المعتبر في بدلي القرض مساواة المحل المقرض فاعتبر مساواة كل واحد من بدليه له والدية غير معتبرة بقيمة المتلف ولهذا لا تعتبر صفاته وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاء والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفا فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما وقيمة كل شاة ستة دراهم لتساوي الأبدال كلها وكل حلة بردتان فيكون أربعمائة بردة

مسائل وفصول صفة الإبل للدية والحلول والتآجيل والتقسيط في ادائها
فصل : ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله ولا إبل بلده وقال القاضي وأصحاب الشافعي : الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو العاقلة لأن وجوبها على سبيل المواساة فيجب كونها من جنس ما لهم كالزكاة فإذا كان عند بعض العاقلة عراب وعند بعضهم بخاتي أخذ من كل واحد من جنس ما عنده وإن كان عند واحد صنفان ففيه وجهان : أحدهما : يؤخذ من كل صنف بقسطه والثاني : يؤخذ من الأكثر فإن استويا دفع من أيهما شاء فإن دفع من غير إبله خيرا من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيرا من الواجب وإن كان أدون لم يقبل إلا أن يرضى المستحق وإن ل ميكن له إبل فمن غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب إبل أقرب البلاد إليه فإن كانت إبله عجافا أو مراضا كلف تحصيل صحاح من جنس ما عنده لأنه بدل متلف فلا تؤخذ فيه معيبة كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في النفس المؤمنة مائة من الإبل ] أطلق الإبل فيمن قيدها احتاج إلى دليل ولأنها بدل المتلف فلم يختص بجنس ماله كبدل سائر المتلفات ولأنها حق ليس سببه المال فلم يعتبر كونه من جنس ماله كالمسلم فيه والقرض ولأن المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا يختص بجنس مال من وجب عليه وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة ليشارك الفقراء الأغنياء فيما أنعم الله تعالى به عليهم فاقتضى كونه من جنس أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله وقولهم إنها مواساة غير صحيح وإنما وجبت جبرا للفائت كبدل المال المتلف وإنما العاقلة تواسي القاتل فيما وجب بجنايته ولهذا لا يجب من جنس أموالهم إذا لم يكونوا ذوي إبل والواجب بجنايته إبل مطلقة فتواسيه في تحملها ولأنها لو وجبت من جنس ما لهم لوجبت المريضة من المراض والصغيرة من الصغار كالزكاة
مسألة : قال : وإن كان القتل عمدا فهي في مال القاتل حالة أرباعا : خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة
أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة وهذا قضية الأصل وهو أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على الجاني قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يجني جان إلا على نفسه ] [ وقال بعض أصحابه حبن رأى معه ولده : ابنك هذا ؟ قال نعم قال : أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ] ولأن موجب الجناية جائز أثر فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب وإنما خولف هذا الأصل في قتل المعذور فيه لكثرة الواجب وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع وجوب الكفارة عليه وقيام عذره تخفيفا عنه ورفقا به والعامد لا عذر له فلا يستحق التخفيف ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب في ثلاث سنين لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العمد
ولنا أنه ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش أطراف العبد ولا يشبه شبه العمد لأن القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ ولهذا تحمله العاقلة ولأن القصد التخفيف على العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية وحملوا أداء مال مواساة فالأرفق بحالهم التخفيف عنهم وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء وأماالعمد فإنما يحمله الجاني في غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا قتل ابنه أو قتل أجنبيا وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم أو غير ذلك واختلفت الرواية في مقدارها فروى جماعة عن أحمد أنهاأرباع كما ذكر الخرقي وهو قول الزهري و ربيعة و مالك و سليمان بن يسار و أبي حنيفة وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى جماعه عن أحمد أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها وبهذا قال عطاء ومحمد بن الحسن و الشافعي وروي ذلك عن عمر وزيد وابي موسى والمغيرة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم ] وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي وقال هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أن قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ] رواه الإمام أحمد و أبو داود وغيرهم وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في موطئه ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال : كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض ولأنه قول ابن مسعود ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية
فصل : والخلفة الحامل و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : في بطونها أولادها ] تأكيد وقلما تحمل إلا ثنية وهي التي لها خمس سنين ودخلت في السادسة وأي ناقة حملت فهي خلفة تجزىء في الدية وقد قيل لا تجزىء الاثنية لأن في بعض ألفاظ الحديث أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلى بازل ولأن سائر أنواع الإبل مقدرة السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأول لأن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق الخلفة والخلف هي الحامل فيقتضي تجزىء كل حامل ولو أحضرها فأسقطت قبل قبضها فعليه بدلها فإن أسقطت بعد قبضها أجزأت لأنه برىء منها بدفعها
فصل : فإن اختلفا في حملها رجع أهل الخبرة كما يرجع في حمل المرأة إلى القوابل وإن تسلمها الولي ثم قال : لم تكن حوامل وقد ضمرت أجوافها وقال الجاني : بل قد ولدت عندك نظرت فإن قبضها بقول أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الظاهر إصابتهم وإن قبضها بغير قولهم فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل
مسألة : قال : وإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في أسنانها إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها
وجملته أن القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء في اختلاف الروايتين فيها واختلاف العلماء فيها وقد سبق الكلام في ذلك إلا أنها تخالف العمد في أمرين
أحدهما : أنها على العاقلة في ظاهر المذهب وبه قال الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي و الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال ابن سيرين و الزهري و الحارث العكلي و ابن شبرمة و قتادة و أبو ثور : هي على القاتل في ماله واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد
[ ولنا ما روى أبو هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بدية المرأة على عاقلتها ] متفق عليه ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا ديته على العاقلة كالخطأ ويخالف العمد المحض لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وإرادته القتل وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى تغليظها من وجه الأسنان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال الشعبي و النخعي و قتادة و أبو هاشم وعبد الله بن عمر و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقد حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا : الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل إلينا ذلك عمن يعد خلافه فيه خلافا وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم وقد روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا
فصل : ويجب في آخر كل حول ثلثها ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ابتداؤها من حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة
ولنا أنه مال مؤجل فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم ولا نسلم الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم إذا ثبت هذا فإن كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين الموت سواء كان قتلا موجبا أو عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت فإن كان عن جرح اندمل من غير سراية مثل أن قطع يه فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك حالة الوجوب ولهذا لو قطع يده وهي ذمي فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي وأما إن كان الجرح ساريا مثل أن قطع أصبعه فسرى ذلك إلى كفه ثم اندمل فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا سرت فما استقر الأرش إلا عند الاندمال هكذا ذكر القاضي وأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب : تعتبر المدة من حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال فيهما
فصل : وإذا كان الواجب دية فإنها تقسم في ثلاث سنين كل سنة ثلثها سواء كانت دية النفس أو دية الطرف كدية جدع الأنف أو الأذنين أو قطع الذكر أو الاثنيين وإن كان دون الدية نظرنا فإن كان ثلث الدية كدية المأموة أو الجائفة وجب في آخر السنة الأولى ولم يجب منه شيء حالا وإن كان نصف الدية أو ثلثها كدية اليد أو دية المنخرين وجب الثلث في آخر السنة الأولى والباقي في آخر السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين كدية ثمان أصابع وجب الثلثان في السنتين والباقي في آخر الثالثة وإن كان أكثر من دية مثل أن ذهب سمع إنسان ففي كل سنة ثلث لأن الواجب لو كان دون الدية لم ينقص في السنة عن الثلث فكذلك لا يزيد عليه إذا زاد على الثلث وإن كان الواجب الجناية على اثنين وجب لكل واحد ثلث في كل سنة لأن كل واحد له دية فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه وإن كان الواجب دون ثلث الدية كدية الأصبع لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالا لأنه بدل متلق لا تحمله فكان حالا كالجناية على المال
فصل : وفي الدية الناقصة كدية المرأة والكتابي وجهان : أحدهما : تقسم في ثلاث سنين لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة والثاني : يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تقسم في ثلاث سنين كأرش الطرف وهذا مذهب أبي حنيفة و لـ لشافعي كالوجهين وإن كانت الدية لا تبلغ ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي وهو ثمان مائة درهم ودية الجنين وهي خمس من الإبل لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث فأشبه دية السن والموضحة إلا أن يقتل الجنين مع أمه فتحمله العاقلة لأنها جناية واحدة وتكون دية الأم على الوجهين فإن قلنا هي في عامين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث دية الأم في العام الأول لأنها دية أخرى ويحتمل أن تجب مع باقي دية الأم في العام الثاني وإن قلنا دية الأم في ثلاث سنين فهل تجب دية الجنين في ثلاثة أعوام أم لا ؟ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في ثلاث سنين وجبت في السنين التي وجبت فيها دية الأم لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة ثلث ديتها وثلث ديته ويحتمل أن تجب في ثلاث سنين أخرى لأن تلفها موجب جناية واحدة
مسألة : قال : وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل تؤخذ في ثلاث سنين أخماسا : عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة
لا يختلف المذهب في أن دية الخطأ أخماسا كما ذكر الخرقي وهذا قول ابن مسعود و النخعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال عمر بن عبد العزيز و سليمان بن يسار و الزهري و الليث و ربيعة و مالك و الشافعي : هي أخماس إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون وهكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي عن ابن مسعود وقال الخطابي : [ روي النبي صلى الله عليه و سلم ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض ] وروي عن علي و الحسن و الشعبي و الحارث العكلي و إسحاق أنها أرباع كدية العمد سواء وعن زيد أنها ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض وقال طاوس : ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وثلاثون بنت مخاض وعشرون بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن من قتل خطأ فديته من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرون وعشر بني لبون ذكور ] رواه أو داود و ابن ماجة وقال أبو ثور : الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها بدل متلف فلا تختلف بالعمد والخطأ كسائر المتلفات وحكي عنه أن دية العمد مغلظة ودية شبه العمد والخطأ أخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة فكان أخماسا كدية الخطأ
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض ] رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة ولأن ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب ولأن موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض ولأن ما قلناه الأقل فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب على من ادعاه الدليل فأما دية قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا على أهل خيبر قتله إلا عمدا فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة والخلاف في دية الخطأ وقول أبي ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها فلا يعول عليه
فصل : ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم [ وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به وقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد رويناه من الأحاديث ] وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا عنه إذا كان معذور في فعله وينفرد بالكفارة
فصل : ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا فاتبعهم على ذلك أهل العلم ولأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالا كثيرة كالزكاة وكل دية تحملها العاقلة تجب مؤجلة لما ذكرنا وما لا تحمله العاقلة يجب حالا لأنه بدل متلف فلزم المتلف حالا كقيم المتلفات وفارق الذي تحمله العاقلة فإنه يجب مواساة فألزم التأجيل تخفيفا على متحمله وعدل به الأصل في التأجيل كما عدل به عن الأصل في إلزامه غير الجاني

فصلان القاتل وحده يتحمل كفارة القتل ولا يلزمه شيء من الدية
فصل : ولا يلزم القاتل شيء من الدية وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : هو كواحد من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها
[ ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بدية المرأة على عاقلتها ] متفق عليه وهذا يقتضي أنه قضى بجميعها عليهم ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره الإمام بقتل رجل فقتله يعتقد أنه بحق فبان مظلوما ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه فلا حاجة إلى إيجاب شيء من الدية عليه
فصل : والكفارة في مال القاتل لا يدخلها تحمل وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين تكون في بيت المال لأنها تكثر فإيجابها في ماله يجحف به
ولنا أنها كفارة فلا تجب على غير من وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما لو كانت صوما ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني ولا يكفر عنه بفعل غيره ويفارق الدية فإنها إنما شرعت الجبر لمحل وذلك يحصل بها كيفما كان ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن القاتل وما ذكروه لاأصل له ولا يصح قياسه على الدية لوجوه :
أحدها : أن الدية لم تجب في بيت المال لأنها إنما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم الفرع مخالفالحكم الأصل
الثاني : أن الدية كثيرة فإيجابها على القاتل يجحف به والكفارة بخلافها
الثالث : أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من الواجب الكفارة فإيجابها على غيره يقطع المواساة ويوجب على غير الجاني أكثر مما وجب عليه وهذا لا يجوز

فصلان الأشياء التي تغلظ بها الدية
فصل : وذكر أصحابنا أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء : إذا قيل في الحرم والشهور الحرم وإذا قتل محرما وقد نص أحمد رحمه الله على التغليظ على من قتل محرا في الحرم وفي الشهر الحرام فأما إن قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر : تلغظ ديته وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ وقال أصحاب الشافعي : تغلظ بالحرم والأشهر الحرم ذوي الرحم المحرم وفي التغليظ بالإحرام وجهان وممن روي عنه التغليظ عثمان وابن عباس والسعيدان و عطاء و طاوس و الشعبي و مجاهد و سليمان بن يسار و جابر بن زيد و قتادة و الأوزاعي و مالك و الشافعي و إسحاق واختلفت القائلون في صفته فقال أصحابنا : تغلظ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الثلاث وجبت ديتان قال أحمد في رواية ابن منصور فيمن قتل محرما في الحرم وفي الشهر الحران : فعليه أربعة وعشرون ألفا وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ
وقال أصحاب الشافعي : صفة التغليظ إيجاب دية العمد في الخطأ لا غير ولا يتصور التغليظ في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك إلا أنه يغلظ في العمد فإذا قتل ذا رحم محرم عمدا فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وتغليظها في الذهب والورق أن ينظر قيمة أسنان الإبل غير مغلظة وقيمتها مغلظة ثم يحكم بزيادة ما بينهما كان قيمتها مخففة ستمائة وفي العمد ثمانمائة وذلك ثلث الدية المخففة وعند مالك تغلظ على الأب والأم والجد دون غيرهم واحتجا على صفة التغليظ بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئا وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا ولأن ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا يجمع بين تغليظين لأن ما أوجبت التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا كالحرم والإحرام في قتل الصيد وعلى أنه لا يغلظ بالإحرام أن الشرع لم يرد بتغليظه واحتج أصحابنا بما روى ابن أبي نجيح أن امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف وألفين تغليظا للحرم وعن ابن عمر أنه قال من قتل في الحرم أو ذا رحم أو في الشهر الحرام فعليه دية ثلث وعن ابن عباس أن رجلا قتل رجلا في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال : ديته اثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر فيثبت إجماعا وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين القائلين بالتغليظ واحتجوا على التغليظ في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد أولى وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ في بدل الطرف بهذه الأسباب لأن ما أوجب تغليظ دية النفس أوجب تغليظ دية الطرف كالعمد وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ بشيء من ذلك وهو قول الحسن و الشعبي و النخعي و أبي حنيفة و الجوزجاني و ابن المنذر وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل لم يزد على ذلك وعلى أهل الذهب ألف مثقال وفي [ حديث أبي شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلة من قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبواأخذوا الدية ] وهذا قتل كان بمكة في حرم الله تعالى فلم يزد النبي صلى الله عليه و سلم على الدية ولم يفرق بين الحر وغيره وقول الله عز و جل : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } يقتضي أن الدية واحدة في كل مكان وفي كل حال ولأن عمر رضي الله عنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه ولم يزد على مائة وروى الجوزجاني بإسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء فكان مما أحيى من تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم أن ناسا كانوا يقولون : إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف فتكون ستة عشر ألف درهم فألغى عمر رحمه الله ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثني عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهما قال ابن المنذر : وليس بثابت ما روي عن الصحابة في هذا ولو صح فقول عمر يخالفه وقوله أولى من قول من خالفه وهو أصح في الرواية مع موافقته الكتاب والسنة والقياس
فصل : ولا تغلظ الدية بموضع غير الحرم وقال أصحاب الشافعي : تغلظ الدية بالقتل في المدينة على قوله القديم لأنها مكان يحرم صيده فأشبهت الحرم وليس بصحيح لأنها ليست محلا للمناسك فأشبهت سائر البلدان ولا يصح قياسها على الحرم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أي بلد هذا ؟ أليست البلدة الحرام ؟ ـ قال ـ فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ] وهذا يدل على أعظم البلاد حرمة و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخل الجاهلية ] وتحريم الصيد ليس هو العلة في التغليظ وإن كان من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا يجب الجزاء على من قتل فيه صيدا ولا يحرم الرعي فيه ولا الاحتشاش منه ولا ما يحتاج إليه من الرحل والعارض والقائمة وشبهه

مسائل وفصول ما تحمله العاقلة من الديات وما لا تحمله
مسألة : قال : والعاقلة لا تحمل العبد ولا العمد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث
في هذه المسألة خمس مسائل :
المسألة الأولى : أن العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبد قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمدا وهذا قول ابن عباس و الشعبي و الثوري و مكحول و النخعي و البتي و مالك و الليث و ابن أبي ليلى و إسحاق و أبي ثور وقال عطاء و الزهري و الحكم و حماد و أبو حنيفة : تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبوحنيفة في دية أطرافه
ولنا ما [ روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ] وروي عن ابن عباس موقوفا عليه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس وبهذا فارق الحر
المسألة الثانية : أنها لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بكل حال وحكي عن مالك أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها جناية لا قصاص فيها اشبهت جناية الخطأ
ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كالموجب للقصاص وجناية الأب على ابنه ولأن حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذورا تخفيفا عنه ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق التخفيف ولا المعاونة فلم يوجد فيه المقتضي وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة
فصل : وإن اقتص بحديدة مسمومة فسرى إلى النفس ففيه وجهان : أحدهما : تحمله العاقلة لأنه ليس بعمد محض أشبه عمد الخطأ والثاني : لا تحمله لأنه قتله بآلة يقتل مثلها غالبا فأشبه من لا قصاص له ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفا فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي لا تحمله العاقلة لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب : تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في دار الحرب مسلما يظنه حربيا فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة وقال الشافعي في أحد قوليه : لا تحمله لأنه عمد يجوز تأديبهما عليه فأشبه القتل من البالغ
ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد فتحمله العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد
المسألة الثالثة : أنها لا تحمل الصلح ومعناه أن يدعي عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي : معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية والتفيسر الأول لأن هذا عمد فيستغنى عنه بذكر العمد وممن قال لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس و الزهري و الشعبي و الثوري و الليث و الشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقا بقوله
المسألة الرابعة : أنها لا تحمل الاعتراف وهو أن يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه ولا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه خلافا وبه قال ابن عباس و الشعبي و الحسن و عمر بن عبد العزيز و الزهري و سليمان بن موسى و الثوري و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره ولأنه يتهم في أن يواطىء من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمه إياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في ماله في قول أكثرهم
وقال أبو ثور وابن عبد الحكم : لا يلزمه شيء ولا يصح إقراره لأنه مقر على غيره لا على نفسه ولأنه لم يثبت موجب إقراره فكان باطلا كما لو أقر على غيره بالقتل
ولنا قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ولأنه مقر على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح إقراره كما لو أقر بإتلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل مضمون فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة لها فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد
المسألة الخامسة : أنها لا تحمل ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك و إسحاق و عبد العزيز وعمر بن أبي سلمة وبه قال الزهري وقال : لا تحمل الثلث أيضا وقال الثور و أبو حنيفة : تحمل السن والموضحة وما فوقها لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الغرة التي في الجبين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل ما دون ذلك لأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي أنها تحمل الكثير والقليل لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد
ولنا ما [ روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا تحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة ] ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جنايته وبدل متلفه فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني لكونه كثيرا به [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : الثلث كثير ] ففيما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الثلث كثيرا فأما دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وأن سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية آدمي كاملة
فصل : وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في المسألة التي قبل هذا وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم : لا تحمل مادون الدية لأن ذلك يجزي محرى ضمان الأموال بدليل أنه لا تجب فيه كفارة
ولنا قول عمر رضي الله عنه ولأن الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة كدية النفس لأنه كثير يجب ضمانا الحر أشبه ما ذكرنا وما ذكره يبطل بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب الدية أو زيادة عليها
فصل : وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما بلغ أرشه ثلث دية الرجل كدية أنفها وما دون ذلك كدية يدها لا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث ولا دية الجنين إن مات منفردا أو مات قبل موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث وإن مات مع أمه حملتها العاقلة نص عليه لأن وجوب ديتهما حصل في حال واحدة بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتها العاقلة كالدية الواحدة
فصل : وإن كان الجاني ذميا فعقله على عصبته من أهل دينه المعاهدين في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وفي الأخرى لا يتعاقلون لأن المعاقلة في حق المسلم عللا خلاف الأصل تخفيفا عنه ومعونة له فلا يلحق به الكافر لأن المسلم أعظم حرمة وأحق بالمواساة والمعونة من الذمي ولهذا وجبت الزكاة على المسلمين مواساة لفرائهم ولم تجب على أهل الذمة لفقرائهم فتبقى في حق الذمي على الأصل ووجه الرواية الأولى أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه كعصبة المسلم من المسلمين ولا يعقل عنه عصبته المسلمون لأنهم لا يرثونه ولا الحربيون لأن المولاة والنصر منقطعة بينهم ويحتمل أن يعقلوا عنه إذا قلنا إنهم يرثونه لأنهم أهل دين واحد يرث بعضهم بعضا ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنهم لا موالاة بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن يتعاقلا بناء على الروايتين في توارثهما
فصل : وإن تنصر يهودي أو تهود نصراني وقلنا أنه يقر عليه عقل عنه عصبته من أهل الدين الذي انتقل إليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم على وجهين وإن قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة وتكون جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته جنايته يكون موجبها في ماله كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة
فصل : ولو رمى ذمي صيدا ثم أسلم ثم أصاب السهم آدميا فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلما حال رميه ولا المعاهدون لأنه قتله وهو مسلم فيكون في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو مسلم ثم ارتد ثم قتل السهم إنسانا لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان أرش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل الذمة وما زاد على أرش الجرح لا يحمله أحد ويكون في مال الجاني كما ذكرنا وإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجميع الدية على الجاني وكذلك الحكم إذا جرح مسلما ثم ارتد ويحتمل أن تحمل الدية كلها العاقلة في المسألتين لأن الجناية وجدت وهو ممن تحل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص في المسألة الأولى إذا كان عمدا ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئا لأن الأرش إنما يستقر باندمال الجرح أو سرايته

فصل حكم جناية أحد أولاد المعتقة
فصل : إذا تزوج عبد معتقه فأولدها أولادا فولاؤهم لمولى أمهم وإن جنى أحدهم فالعقل على مولى أمه لأنه عصبته ووراثه فإن أعتق أبوه ثم سيرت الجناية أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى اعتق أبوه لم يحمل عقله أحد لأن موالي الأم قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه ولاء حال جنايته فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح ما تحمله العاقلة منفردا فيخرج فيه مثل ما قلنا في المسألة التي قبلها

فصلجناية الرجل على نفسه خطأ
فصل : وإن جنى الرجل على نفسه خطأ أو على أطرافه ففيه روايتان قال القاضي : أظهرها أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه أو أرش جرحه لنفسه إذا كان أكثر من الثلث وهذا قول الأوزاعي و إسحاق لما روي أن رجلا ساق حمارا فضربته بعصا كانت معه فطارت منها شظية ففقأت عينه فجعل عمر ديته على عاقلته وقال : هي يد ن أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد ولم نعرف له مخالفا في عصره ولأنها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره فعلى هذه الرواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء لأنه لا يجب للإنسان شيء على نفسه وإن كان بعضهم وارثا سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد على نصيبه وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه
والرواية الثانية : جناية هدر وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وهي أصح لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفا عنه وليس على الجاني ههنا على شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه فلا وجه لإيجابه ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره فإنه لو لم تحمله العاقلة لأجحف به وجوب الدية لكثرتها
فأما إن كانت الحناية على نفسه شبه عمد فهل تجري مجرى الخطأ ؟ على وجهين : أحدهما : هي كالخطأ لأنها تساويه فيما إذا كانت على غيره والثاني : لا تحمله العاقلة لأنه رلا عذر له فأشبه العمد المحض

فصل الدية في خطأ الامام والحاكم
فصل : وأما خطأ الإمام والحاكم في غير الحكم والاجتهاد فهو على عاقلته بغير خلاف إذا كان مما تحمله العاقلة وما حصل باجتهاده ففيه روايتان : إحداها : على عاقلته أيضا لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها فقال عمر لعلي : عزمت عليكم لا تبرح حتى تقسمها على قومك ولأنه جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره والثانية : هو في بيت المال وهو مذهب الأوزاعي و الثوري و أبي حنيفة و إسحاق لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده فإيجاب عقله على عاقلته يجحف بهم ولأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه ولـ لشافعي قولان كالروايتين

مسألة وفصول تعلق أرش جناية العبد برقبته وأخذ الجاني بجنايات بعضها بعد بعض
مسألة : قال : وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته
هذا في الجناية التي تودى بالمال إما لكونها لا توجب إلا المال وإما لكونها موجبة للقصاص فعفا عنها إلى المال فإن جناية العبد تتعلق برقبته إذ لا يخلو من أن تتعلق برقبته أو ذمته سيده أو لا يجب شيء ولا يمكن إلغاؤها لأنها جناية آدمي فيجب اعتبارها كجناية الحر ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره وعدم تكليفه فجناية العبد أولى ولا يمكن تعلقها بذمته لأنه يفضي إلى إلغائها أو تأخير حق المجني عليه إلى غير غاية ولا بذمة السيد لأنه لم يجن فتعين تعلقها برقبة العبد ولأن الضمان موجب جنايته فتتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته فما دون أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن و إسحاق وروي ذلك عن الشعبي و عطاء و عروة و الحسن و الزهري و حماد لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها وإن طالب المجني عليه بتسليمه إليه وأبى ذلك سيده لم يجبر عليه لما ذكرنا وإن دفع السيد عبده فأبى الجاني قبوله وقال بعه وادفع إلي ثمنه فهل يلزم السيد ذلك ؟ على روايتين وأما إن كانت الجناية أكثرمن قيمته ففيه روايتان : إحداهما : أن سيده يخير بين أن يفديه أو أرش جنايته وبين أن يسلمه لأنه إذا أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه فإن حق المجني عليه لا يزيد على العبد فلم يلزمه أكثر من ذلك كما لو كانت الجناية بقدر قيمته
والرواية الثانية : يلزمه تسليمه إلا أن يفديه بأرش جنايته بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه ربما إذا عرض للبيع رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه ولـ لشافعي قولان كالروايتين ووجه الرواية الأولى أن الشرع قد جعل له فداءه فكان له فداؤه وكان الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات
فصل : فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا ولي الجناية على أن يملك العبد لم يملكه بذلك لأنه إذا لم يملكه بالجناية فلأن لا يملكه بالعفو أولى ولأنه أحد من عليه القصاص فلا يملكه بالعفو كالحر ولأنه إذا عفا عن القصاص انتقل حقه إلى المال فصار كالجاني جناية موجبة للمال وفيه رواية أخرى أنه يملكه لأنه مملوك استحق إتلافه فاستحق إبقاءه على ملكه كعبده الجاني عليه
فصل : قال أبو طالب : سمعت أبا عبد الله يقول : إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى وإن كان أكثر من ثمنه إن قطع يد حر فعليه دية يد الحر وإن كان ثمنه أقل وإن أمره سيده أن يخرج رجلا فما جنى فعليه قيمة جنايته وإن كانت أكثر من ثمنه لأنه بأمره وكان علي وأبو هريرة يقولان : إذا أمر عبده أن يقتل فإنما هو سوطه ويقتل المولى ويحبس العبد وقال أحمد : حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا قتادة عن خلاس أن عليا قال : إذا أمر الرجل عبده فقتل إنما هو كسوطه أو كسيفه يقتل المولى والعبد يستودع السجن ولأنه فوت شيئا بأمره فكان على السيد ضمانه كما لو استدان بأمره
فصل : فإن جنى جنايات بعضها بعد بعض فالجاني بين أولياء الجنايات بالحصص وبهذا قال الحسن و حماد و ربيعة وأصحاب الرأي و الشافعي وروي عن شريح أنه قال : يقضى به لآخرهم وبه قال الشعبي و قتادة لأنها جناية وردت على محل مستحق فقدم صاحبها على المستحق قبله كالجناية على المملوك الذي لم يجن وقال شريح في عبد شج رجلا ثم آخر فقال شريح : يدفع إلى الأول إلا أن يفديه مولاه ثم يدفع إلى الثاني ثم يدفع إلى الثالث إلا أن يفديه الأوسط
ولنا أنهم تساووا في سبب تعلق الحق به فتساووا في الأستحقاق كما لو جنى عليهم دفعة واحدة بل لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن حقه أسبق ولا يصح القياس على الملك فإن حق المجني عليه أقوى بدليل أنهما لو وجدا دفعة قدم حق المجني عليه ولأن حق المجني عليه ثبت بغير رضا صاحبه عوضا وحق المالك ثبت برضاه أو بغير عوض فافترقا
فصل : إن أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من الأرش لأنه أتلف محل الجناية على من تعلق حقه به فلزمه غرامته كما لو قتله وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار إمساكه بعد الجناية لأنه امتنع من تسليمه بإعتاقه فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه ونقل ابن منصور عن أحمد أنه إن أعتقه عالما بجنايته فعليه الدية يعني دية المقتول وإن لم يكن عالما بجنايته فعليه قيمة العبد وذلك لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختارا لفدائه بخلاف ما إذا لم تعلم فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به فلم يلزمه أكثر من قيمة ما فوته
فصل : فإن باعه ووهبه صح بيعه لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق الجناية عن رقبته فإن كان المشتري عالما بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه إليه كالسيد الأول وإن لم يعلم فله الخيار بين إمساكه ورده كسائر المعيبات

مسائل وفصول من هم العاقلة كيفية تحمل الدية للعاقلة وتحمل بيت المال لمن ليس له عاقلة
مسألة : قال : والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة وكل العصبة من العاقلة
العاقلة من يحمل العقل والعقل الدية تسمى عقلا لأنها تعقل لسان ولي المقتول وقيل إنما سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل والعقل المنع ولهذا سمي بعض العلوم عقلا لأنه يمنع من الإقدام على المضار ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات وأن غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج وكل من عدا العصبات ليسوا هم من العاقلة واختلف في الآباء والبنين هل هم من العاقلة أو لا وعن أحمد في ذلك روايتان : إحداهما : كل العصبة من العاقلة يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه وإخوته وعمومته وأبناؤهم وهذا اختيار أبي بكر والشريف أبي جعفر وهو مذهب مالك و أبي حنيفة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها ] رواه أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا الإخوة يحققه أن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا بتحمل عقله
والرواية الثانية : ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة قال : [ اقتتلت امرأتان هذيل فرمت إحدهما الأخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم ] متفق عليه [ وفي رواية ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ميراثها لبنيها والعقل على العصبة ] رواه أبو داود و النسائي وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال : [ فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها قال : فقالت عاقلة المقتولة : ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ميراثها لزوجها وولدها ] رواه أبو داود
إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه في معناه ولأن مال ولده ووالده كماله ولهذا لم تقبل شهادتهما له ولا شهادته لهما ووجب على كل واحد منهما الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر موسرا وعتق عليه إذا ملكه فلا تجب في ماله دية كما لم يجب في مال القاتل وظاهر كلام الخرقي أن في الإخوة روايتين كالولد والوالد وغيره من أصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل حال ولا أعلم فيه عن غيرهم خلافا
فصل : فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان الوالد والد مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل في ظاهر كلام أحمد قاله القاضي وقال أصحاب الشافعي : لا يعقل لأنه والد أو ولد فلم يعقل كما لو لم يكن كذلك
ولنا أنه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو يكن ولدا وذلك لأنه هذه القرابة أو الولاء سبب يستقل بالحكم منفردا فإذا وجد مع ما لا يثبت به الحكم أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه مع القرابة الأخرى بدليل أنه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم
فصل : وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى عصبته ومولى المولى وعصبته وغيرهم وبهذا قال عمر بن عبد العزيز و النخعي و حماد و مالك و الشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب ولا يعتبر أن يكونون وارثين في الحال بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها ولأن الموالي من العصبات فأشبهوا المناسبين
فصل : ولا يدخل في العقل من ليس بعصبة ولا يعقل المولى من أسفل وبه قال أبو حنيفة وأصحاب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه : يعقل لأنهما شخصان يعقل أحدهما صاحبه فيعقل الآخر عنه كالأخوين ولنا أنه ليس بعصبة له ولا وارث فلم يعقل عنه كالأجنبي وما ذكروه يبطل بالذكر مع الأنثى والكبير مع الصغير والعاقل مع المجنون
فصل : ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي رجلا يجعل له ولاءه ونصرته ولا الحليف وهو الرجل يحالف الآخر على أن يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما أو قصد أحدهما ولا العديد وهو الذي لا عشيرة له ينضم إلى عشيرة فيعد نفسه معهم وبهذا قال الشافعي وقال أبوحنيفة : يعقل مولى الموالاة ويرث وقال مالك : إذا كان الرجل في غير عشيرته فعقله على القوم الذي هو معهم ولنا أنه معنى يتعلق بالعصبة فلا يستحق بذلك كولاية النكاح
فصل : ولا مدخل لأهل الديوان في المعاقلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يتحملون جميع الدية فإن عدموا فالأقارب حينئذ يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على أهل الديوان في الأعطية في ثلاث سنين [ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالدية على العاقلة ولأنه معنى لا يستحق به الميراث فلم يحمل العقل كالجوار ] واتفاق المذاهب وقضاء النبي صلى الله عليه و سلم أولى من قضاء عمر على أنه صح ما ذكر عنه فيحتمل أنهم كانوا عشيرة القاتل
فصل : ويشترك في العقل الحاضر والغائب وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك : يختص به الحاضر لأن التحمل بالنصرة وإنما هي بين الحاضرين ولأن في قيمته على الجميع مشقة وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا الخبر وأنهم استووا في التعصيب والإرث فاستووا في تحمل العقل كالحاضرين ولأنه معنى يتعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب كالميراث والولاية
فصل : ويبدأ في قسمته بين العاقلة بالأقرب فالأقرب يقسم على الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم ثم أعمام الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم كذلك أبدا حتى إذا انقرض المناسبون فعلى المولى المعتق ثم على عصابته ثم على مولى المولى ثم على عصباته الأقرب فالأقرب كالميراث سواء وإن قلنا للآباء والأبناء من العاقلة بدىء بهم لأنهم أقرب ومتى اتسعت أموال قوم للعقل لم يعدهم إلى من بعدهم لأنه حق يستحق بالتعصيب فيقدم الأقرب فالأقرب كالميراث وولاية النكاح وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب ؟ على وجهين :
أحدهما : يقدم لأنه يقدم في الميراث فقدم في العقل كتقديم الأخ على ابنه والثاني : يستويان لأن ذلك يستفاد بالتعصيب ولا أثر للأم في التعصيب والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن قرابة الأم تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب لاجتماع القرابتين على وجه لاتنفرد كل واحدة بحكم وذلك لأن القرابتين تنقسم إلى ما تنفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم إن كان أخا من أم فإنه يرث بكل واحدة من القرابتين ميراثا مفردا يرث السدس بالأخوة ويرث بالتعصيب ببنوة العم وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى فهذا لا يؤثر في قوة ولا ترجيح ولذلك لا يقدم ابن العم الذي هوأخ من أم على غيره وما لا ينفرد كل واحد منهما بحكم كابن العم من أبوين مع ابن عم من أب لا تنفرد إحدى القرابتين بميراث عن الأخرى فتؤثر في الترجيح وقوة التعصيب ولذلك أثرت في التقديم في الميراث فكذلك في غيره وبما ذكروه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يسوى بين القريب والبعيد ويقسم على جميعهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة
ولنا أنه حكم تعلق بالتعصيب فوجب أن يقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة فيه لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب فنحمله على ذلك
فصل : ولا يحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم في العقل ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيا لم يلزم قريشا كلهم التحمل فإن قريشا وإن كانوا كلهم يرجعون إلى أب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون إلى أب يتميزون به فيعقل عنهم من يشاركهم في نسبهم إلى الأب الأدنى ألا ترى أن الناس كلهم بنو آدم فهم أجمعون إلى أب واحد ؟ لكن إن كان من فخذ واحد يعلم أن جميعهم يتحملون وجب أن يحمل جميعهم سواء عرف أحدهم نسبه أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل على أي وجه كان وإن لم يثبت نسب القاتل من أحد فالدية في بيت المال لأن المسلمين يرثونه إذا لم يكن له وارث بمعنى أنه يؤخذ ميراثه لبيت المال فكذلك يعقلونه على هذا الوجه وإن وجد له من يحمل بعض العقل فالباقي في بيت المال كذلك
فصل : ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها ويشق عليها لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويجحف به كالزكاة ولأنه لو كان الإجحاف مشروعا كان الجاني أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم فقال أحمد : يحملون على قدر ما يطيقون فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي وهذا مذهب مالك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكم ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات وعن أحمد رواية أخرى أنه يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معتبرا بها ويجب على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لا تقطع اليد في الشيء التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم وليس لأقله حد لأن ذلك مال يجب على سبيل المواساة للقرابة فلم يتقدر أقله كالنفقة قال : ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير إنما يصار إليه بتوقيف ولا توقيف فيه إنه يختلف بالغنى والتوسط كالزكاة والنفقة ولا يختلف بالقرب والبعد كذلك واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه قال بعضهم : يتكرر الواجب في الأعوام الثلاثة فيكون الواجب فيها على الغني دينارا ونصفا وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم : لا يتكرر لأن في إيجاب زيادة على النصف إيجابا لزيادة على أقل الزكاة فيكون مضرا ويعتبر الغنى والتوسط عند رأس الحول لأنه حال الوجوب فاعتبر الحال عنده كالزكاة وإن اجتمع من عدد العاقلة في درجة واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم الحاكم كل إنسان على حسب ما يراه وإن قل وعلى الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما على الغني ويعم بذلك جميعهم وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : يخص الحاكم من شاء منهم فيفرض عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر الواجب ويصير إلى الشيء التافه ولأنه يشق فربما أصاب كل واحد قيراط فيشق جمعه
ولنا أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا وكالميراث وأما التعليق بمشقة الجمع فغير صحيح لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من مشقة الجمع ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها فلا يترك لها الدليل ثم هي معارضة بخفة الواجب على كل واحد وسهولة الواجب عليهم ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد فمن خصه بالاجتهاد فعليه فيه مشقة وربما لم يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك فيتعذر الإيجاب وإن خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يخير بين أن يوجب على إنسان شيئا بشهوته من غير دليل وبين أن لا يوجب عليه ولا نظير له وربما ارتشى من بعضهم وربما امتنع من فرض عليه شيء من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه
فصل : ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جن قبل الحلول لم يلزمه شيء ولا نعلم في هذا خلافا لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة وإن وجد ذلك بعد الحول لم يسقط الواجب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول
ولنا أنه حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته فأشبه الديون وفارق ما قبل الحول لأنه لم يجب ولم يستمر الشرط إلى حين الوجوب فأما إن كان فقيرا حال القتل فاستغنى عند الحول فقال القاضي : يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله ويخرج على هذا من كان صبيا فبلغ أو مجنونا فأفاق عند الحول وجب عليه كذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب حالة السبب فلم يثبت الحكم فيه حالة الشرط كالكافر إذا ملك مالا ثم اسلم عند الحول لم تلزمه الزكاة فيه
مسألة : قال : وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية
أكثر أهل العلم على أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء وهذا قول مالك و الشافعي واصحاب الرأي وحكى بعض أصجابنا عن مالك و أبي حنيفة أن للفقير مدخلا في التحمل وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه من أهل النصرة فكان من العاقلة كالغني والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا يلزم الفقير كالزكاة ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا عن القاتل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه وتكليف له مالا يقدر عليه ولأننا أجمعنا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به وتحميل الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع ماله أو أكثر منه أو لا يكون له شيء أصلا وأما الصبي والمجنون والمرأة فلا يحملون منها لأن فيها معنى التناصر وليس هم من أهل النصرة
فصل : ويعقل المريض إذا لم يبلغ حد الزمانة والشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة والمواساة وفي الزمن والشيخ الفاني وجهان :
أحدهما : لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة ولهذا لا يجب عليهما الجهاد ولا يقتلان إذا كانا من أهل الحرب وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى
والثاني : يعقلون لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا ينتقض بالصبي والمجنون ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
مسألة : قال : ومن لم يكن له عاقلة أخذ من بيت المال فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء والكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أن من لا عاقلة له هل يؤدي من بيت المال أو لا ؟ فيه روايتان : إحداهما : يؤدى عنه وهو مذهب الزهري و الشافعي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال ] وروي أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله فقال علي لعمر : يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرىء مسلم فأدى ديته من بيت المال ولأن المسلمين يرثون من لا وارث له فيعقلون عنه عند عدم عالقته كعصباته ومواليه
والثانية : لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ولا عقل عليهم فلا يجوز صرفه فيما لا يجب عليهم ولأن العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو كعصبة هذا فأما قتيل الأنصار فغير لازم لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال لا يعقل عن الكفار بحال وإنما النبي صلى الله عليه و سلم تفضل عليهم وقولهم إنهم يرثونه قلنا ليس صرفه إلى بيت المال ميراثا بل هو فيء ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة إلى بيت المال ولا يرثه المسلمون ثم لا يجب العقل على الوارث إذا لم يكن عصبة ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثا فعلى الرواية الأولى إذا لم يكن له عاقلة أديت الدية عنه كلها من بيت المال وإن كان عاقلة لا تجعل الجميع أخذ الباقي من بيت المال وهل تؤدى من بيت المال في دفعة واحدة أو في ثلاث سنين ؟ على وجهين : أحدهما : في ثلاث سنين على حسب ما يؤخذ من العاقلة والثاني : يؤدي دفعة واحدة وهذا أصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم أدى دية الأنصاري دفعة واحدة وكذلك عمر ولأن الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة فيجب كله في الحال كسائر بدل المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم ولا حاجة إلى ذلك في بيت المال ولهذا يؤدى الجميع

مسألة حكم الدية إن لم تحملها العاقلة ولم تؤد من بيت المال
الفصل الثاني : إذا لم يمكن الأخذ من بيت المال فليس على القاتل شيء وهذا أحدقولي الشافعي لأن الدية لزمت العاقلة ابتداء بدليل أنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم بها ولا تجب على غير من وجبت عليه كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد كذا ههنا فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحد ويتخرج أن تجب الدية على القاتل إذا تعذر حملها عنه وهذا القول الثاني لـ لشافعي لعموم قوله : { ودية مسلمة إلى أهله } ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبرا للمحل الذي فوته وإنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل فإذا لم يؤخذ ذلك بقي واجبا عليه بمقتضى الدليل ولأن الأمر دائر بين أن يطل دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف لا يجوز الأول لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له وإيجاب الدية على قتل الخطأ له نظائر فإن المرتد لما لم يكن له عاقلة تجب الدية في ماله والذمي الذي لا عاقلة له تلزمه الدية ومن رمى سهما ثم أسلم أو كان مسلما فارتد أو كان عليه الولاء لموالي أمه فانجر إلى موالي أبيه ثم أصاب بسهم إنسانا فقتله كانت الدية في ماله لتعذر حمل عاقلته عقله كذلك ههنا فنحرر منه قيسا فنقول : قتيل معصوم في دار الإسلام تعذر حمل عاقلته عقله فوجب على قالته كهذه الصورة وهذا أولى من إهدار دماء الأحرار في أغلب الأحوال فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدماء ويفوت حكم إيجاب الدية وقولهم إن الدية تجب على العاقلة ابتداء ممنوع وإنما تجب على القاتل ثم تحملها العاقلة عنه وإن سلمنا وجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم أما مع عدمهم فلا يمكن القول بوجوبها عليهم ثم ما ذكروه منقوص بما أبديناه من الصور فعلى هذا تجب الدية على القاتل إن تعذر حمل جميعها أو باقيها إن حملت العاقلة بعضها والله أعلم

مسألتان وفصل دية الكتابي
مسألة : قال : ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم ونساؤهم على النصف من دياتهم
هذا ظاهر المذهب وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وعروة و مالك و عمرو بن شعيب وعن أحمد أنها ثلث دية المسلم إلا أنه رجع عنها فإن صالحا روى عنه أنه قال : كنت أقول : دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا صريح في الرجوع عنه وروي عن عمر وعثمان أن ديته أربعة آلاف درهم وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و عكرمة و عمرو بن دينار و الشافعي و إسحاق و أبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف ] وروي عن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة درهم وقال علقمة و مجاهد و الشعبي و النخعي و الثوري و أبو حنيفة : ديته كدية المسلم وروى ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم وقال ابن عبد البر وهو قول سعيد بن المسيب و الزهري لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم ] ولأن الله تعالى ذكر في كتابه دية المسلم فقال : { ودية مسلمة إلى أهله } وقال في الذمي مثل ذلك ولم يفرق فدل على أن ديتهما واحدة ولأنه ذكر حر معصوم فتكمل ديته كالمسلم
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ دية المعاهد نصف دية المسلم ] وفي لفظ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن عقل الكتابي عقل المسلم ] رواه الإمام أحمد وفي لفظ [ دية المعاهد نصف دية الحر ] قال الخطابي : ليس في دية أهل الكتاب شيء أثبت من هذا ولا بأس بإسناده وقد قال به أحمد وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى ولأنه نقص مؤثر في الدية فأثر في تنصيفها كالأنوثة وأما حديث عبادة فلم يذكره أهل السنن والظاهر أنه ليس بصحيح وأما حديث عمر فإنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف فأوجب فيها نصفها أربعة آلاف ودليل ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف فهذا بيان وشرح مزيل للإشكال ففيه جمع للأحاديث فيكون دليلا لنا ولو لم يكن كذلك لكان قول النبي صلى الله عليه و سلم مقدما على قول عمر و غيره بغير إشكال فقد كان عمر إذا بلغه عن النبي صلى الله عليه و سلم سنة ترك قوله وعمل بها فكيف يسوغ لأحد أن يحتج بقوله في ترك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فأما ما احتج به الآخرون فإن الصحيح من حديث عمرو بن شعيب ما رويناه أخرجه الأئمة في كتبهم دون ما رووه وأما ما رووه من أقوال الصحابة فقد روي عنهم خلافه فنحمل قولهم في إيجاب الدية كاملة على سبيل التغليظ قال أحمد : إنما غلظ عثمان الدية عليه لأنه كان عمدا فلما ترك القود غلظ عليه وكذلك حديث معاوية ومثل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه حين انتحر رقيق حاطب ناقة لرجل مزني فقال لحاطب إني أراك تجيعهم لأغرمنك غرما يشق عليك فأغرمه مثلي قيمتها فأما ديات نسائهم فعلى النصف من دياتهم لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ولأنه لما كان دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم كذلك نساء أهل الكتاب على النصف من دياتهم
فصل : وجراحاتهم من دياتهم كجراح المسلمين من دياتهم وتغلظ دياتهم باجتماع الحرمات عند من يرى تغليظ ديات المسلمين بها كتغليظ ديات المسلمين قال حرب : قلت لأبي عبد الله : فإن قتل ذميا في الحرم ؟ قال : يزاد أيضا على قدره كما يزاد على المسلم وقال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : جنى على مجوسي في عينه وفي يده ؟ قال : يكون بحساب ديته كما أن المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل : قطع يده قال بالنصف من ديته
مسألة : قال : فإن قتلوه عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم لإزالة القود
هكذا حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا يروى عن عثمان رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار فصار إليه أحمد اتباعا وله نظائر في مذهبه فإنه أوجب على الأعور لما قلع عين الصحيح دية كاملة حين درأ القصاص عنه وأوجب على سارق التمر مثلي قيمته حين درأ عنه القطع وهذا حكم النبي صلى الله عليه و سلم في سارق التمر فيثبت مثله ههنا ولو كان القاتل ذميا أو قتل ذمي مسلما لم تضعف الدية عليه لأن القصاص عليه أوجب في الموضعين وجمهور أهل العلم على أن دية الذمي لا تضاعف بالعمد لعموم الأثر فيها ولأنها دية واجبة فلم تضاعف كدية المسلم أو كما لو كان القاتل ذميا ولا فرق في الدية بين الذمي وبين المستأمن لأن كل واحد منهما كتابي معصوم الدم وأما المرتد والحربي فلا دية لهما لعدم العصمة فيهما

مسألة وفصلان مقدار دية المجوسي وعبدة الأوثان ومن لم تبلغهم الدعوة
مسألة : قال : ودية المجوسي ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف
وهذا قول أكثر أهل العلم قال أحمد : ما أقل ما اختلف في دية المجوسي وممن قال ذلك عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم و سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و عكرمة و الحسن و مالك و الشافعي و إسحاق وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] وقال النخعي و الشعبي وأصحاب الرأي : ديته كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم
ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا وقوله : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] يعني في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة عن دية الرجل وسواء كان المجوسي ذميا أو مستأمنا لأنه محقون الدم ونساؤهم على النصف من دياتهم بإجماع وجراح كل واحد معتبرة من ديته وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على القاتل المسلم لإزالة القود نص عليه أحمد قياسا على الكتابي
فصل : فأما عبدة الأوثان وسائر ممن لا كتاب له كالترك ومن عبد ما ما استحسن فلا دية لهم وإنما تحقن دماؤهم بالأمان فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا تنقص عنها ولأنه كافر ذو عهد لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي
فصل : ومن لم تبلغه الدعوة من الكفار إن وجد لم يجز قتله جتى يدعى فإن قتل قبل الدعوة من غير أن يعطى أمانا فلا ضمان فيه لأنه لا عهد له ولاأمان فأشبه امرأة الحربي وابنه الصغير وإنما حرم قتله ليبلغه الدعوة وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب يضمن بما لا يضمن به أهل دينه وهو مذهب الشافعي لأنه محقون بالدم أشبه من له أمان والأول أولى فإن هذا ينتقض بصبيان أهل الحرب ومجانينهم ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان والمجانين فأما إذا كان له عهد فله دية أهل دينه فإن لم يعرف دينه ففيه دية المجوسي لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه

مسألتان دية وجراح الحرة المسلمة
مسألة : قال : ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم
قال ابن المنذر وابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا : ديتها كدية الرجل [ لقوله عليه السلام : في النفس مائة من الإبل ] وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه و سلم فإن في كتاب عمرو بن حزم دية المرأة على النصف من دية الرجل وهي أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه مخصصا له ودية نساء كل أهل دين على النصف من دية رجالهم على ما قدمنا في موضعه
مسألة : قال : وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية فإن جاوز الثلث فعلى النصف
روي هذا عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب و عمرو بن دينار و عروة بن الزبير و الزهري و قتادة و الأعرج و ربيعة و مالك وقال ابن عبد البر : وهو قول فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم وقال الحسن : يستويان إلى النصف وروي عن علي رضي الله عنه أنها على النصف فيما قل وكثر وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري و الليث و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و أبو حنيفة وأصحابه و أبو ثور و الشافعي في ظاهر مذهبه واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ولأنها جناية لها أرش مقدر فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد وروي عن ابن مسعود أنه قال : تعاقل المرأة الرجل إلى نصف عشر الدية فإذا زاد على ذلك فهي على النصف لأنها تساويه في الموضحة
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ] أخرجه النسائي وهو نص يقدم على ما سواه وقال ربيعة : قلت لـ سعيد بن المسيب : كم في اصبع المرأة ؟ قال عشر قلت ففي أصبعين ؟ قال عشرون قلت ففي ثلاث أصابع ؟ قال ثلاثون قلت ففي اربع ؟ قال عشرون قال : قلت لما عظمت مصيبتها قل عقلها ؟ قال : هكذا السنة يا ابن أخي وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه سعيد بن منصور ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك إلا عن علي ولا نعلم ثبوت ذلك عنه ولأن مادون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى فأما الثلث نفسه فهل يستويان فيه ؟ على روايتين
إحداهما : يستويان فيه لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به وروي أنهما يختلفان فيه وه والصحيح ل [ قوله عليه السلام : حتى يبلغ الثلث ] وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } ولأن الثلث في حد الكثرة ل [ قوله عليه السلام : الثلث والثلث كثير ]

فصل دية نساء بقية الأديان
فصل : فأما دية نساء سائر أهل الأديان فقال أصحابنا تساوي دياتهن ديات رجالهم إلى الثلث لعموم قوله عليه السلام : [ عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ] ولأن الواجب دية امرأة فساوت دية الرجل من أهل دينها كالمسلمين ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى قدر ثلث دية الرجل المسلم لأنه القدر الكثير الذي يثبت فيه التنصيف في الأصل وهو دية المسلم

فصل دية العبد والأمة وكونها قيمتها
مسألة : قال : ودية العبد والأمة قيمتها بالغة ما بلغ ذلك
قد تقدم شرح هذه المسألة فيما مضى ولا فرق في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر والمكاتب وأم الولد قال الخطابي : أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جناية والجناية عليه إلا إبراهيم النخعي فإنه قال : في المكاتب يؤدي بقدر ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد وروي في ذلك شيء عن علي رضي الله عنه وقد روى أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا هشام بن أبي عبد الله قال : حدثني يحيى بن ابي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المكاتب يقتل أنه يودي ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد ] قال الخطابي : وإذا صح الحديث وجب لقول به إذا لم يكن منسوخا أو عارضا بما هو أولى منه

مسألة وفصول دية الجنين
مسألة : قال : ودية الحنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه سقط حيا
يقال غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه قال مهلهل :
( كل قتيل في كليب غره ... حتى ينال القتل إلى مره )
في هذه المسألة فصول خمسة :
الفصل الأول : أن في جنين الحرة المسلمة غرة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب و عطاء و الشعبي و النخعي و الزهري و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي [ وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في املاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي صلى الله عليه و سلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة قال لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم ] متفق عليه والغرة عبد أو أمة سميا بذلك لأنهما من أنفس الأموال والأصل في الغرة الخيار
فإن قيل فقد روي في هذا الخبر : [ أو فرس أو بغل ] قلنا : هذا لا يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه ؟ قاله أهل النقل والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه عبد أو أمة
فأما قول الخرقي : من حرة مسلمة فإنما أراد أن جنين الحرة المسلمة لا يكون إلا حرا مسلما فمتى كان الجنين حرا مسلما ففيه الغرة وإن كان أمة كافرة أو أمة مثل أن يتزوج المسلم كتابية فإن جنينها منه محكوم بإسلامه وفيه الغرة ولا يرث منها شيئا لأنه مسلم وولد السيد من أمته وولد المغرور من أمة حر وكذلك لو وطئت الأمة بشبهة فولدها حر وفيه الغرة فأما إن كان الجنين محكوما برقه لم تجب فيه الغرة وسيأتي بيان حكمه وأما جنين الكتابية والمجوسية إذا كان محكوما بكفره ففيه عشر دية أمه وبهذا قال الشافعي و ابو ثور وأصحاب الرأي
قال ابن المنذر ولم أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعشر دية أمه فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون أن دية الكافرة كدية المسلم فلا يتحقق عندهم بينهما خلاف فإن كان أبوا الجنين كافرين مختلفا دينهما كولد الكتابي من المجوسية والمجوسي من الكتابية اعتبرناه بأكثرهما دية فوجب فيه عشر دية كتابية على كل حال لأن ولد المسلمة من الكافرة معتبر بأكثرهما دية كذا ههنا ولا فرق فيما ذكرناه بين كون الجنين ذكرا أو أنثى لأن السنة لم تفرق بينهما وبه يقول الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وعامة أهل العلم ولو ضرب بطن كتابية حاملا من كتابي فأسلم أحد أبويه ثم أسقطته ففيه الغرة في قول ابن حامد والقاضي وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لأن الضمان معتبر بحال استقرار الجناية والجنين محكوم بإسلامه عند استقرارها وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب : فيه عشر دية كتابية لأن الجناية عليه في حال الغرة وإن ضرب بطن أمة فأعتقت ثم ألقت الجنين فعلى قول ابن حامد والقاضي : فيه غرة وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب : فيه عشر قيمة أمه لأن الحناية عليه في حال كونه عبدا ويمكن منع كونه عبدا ويمكن منع كونه صار حرا لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن تحريره وعلى قول هذين يكون الواجب فيه لسيده وعلى قول ابن حامد : للسيد أقل الأمرين من الغرة أو عشر قيمة أمه لأن الغرة إن كانت أكثر لم يستحق الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة بزوال ملكه وإن كانت أقل لم يكن له أكثر منهما لأن النقص حصل بإعتاقه فلا يضمن له كما لو قطع يد عبد فأعتقه سيده ثم مات بسراية الجناية له أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما فضل عن حق السيد لورثة الجنين فأما إن ضرب بطن الأمة فأعتق السيد جنينها وحده نظرت فإن أسقطته حيا لوقت يعيش مثله ففيه دية حر نص عليه أحمد وإن كان لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر عليه عشر قيمة أمه وإن أسقطته ميتا ففيه عشر قيمة أمة لأننا لا نعلم كونه حيا حال اعتاقه ويحتمل أن تجب عليه الغرة لأن الأصل بقاء حياته فأشبه ما لو أعتق أمه
الفصل الثاني : إن الغرة إنما تجب إذا سقط من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين وبهذا قال مالك و قتادة و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وحكي عن الزهري أن عليه الغرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فلزمته الغرة كما لو أسقطت
ولنا أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك فأما إذا ألقته ميتا فقد تحقق والظاهر تلفه من الضربة فيجب ضمانه سواء ألقته في حياتها أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : إن ألقته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى أعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها
ولنا أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها ولأنه لو سقط حيا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتا كما لو أسقطته في حياتها وما ذكروه ليس بصحيح لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمخ كما لو خرج حيا فأما إن ظهر بعضه من بطن أمه ولم يخرج باقيه ففيه الغرة وبه قال الشافعي وقال مالك و ابن المنذر : لا تجب الغرة حتى تلقيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة وهذه لم تلق شيئا أشبه ما لو لم يظهر منه شيء
ولنا أنه قاتل لجنينها فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه ويفارق ما لو لم يظهر منه شيء لأنه لم يتقين قتله ولا وجوده وكذلك إن ألقت يدا أو رجلا أو رأسا أو جزءا من أجزاء الآدمي وجبت الغرة لأنا تيقنا أنه من جنين وإن ألقت رأسين أو اربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون من جنين واحد ويجوز أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة الذمة وكذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه لأنا لا نعلم أنه جنين وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان : أصحهما : لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك والثاني : فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالنطفة والعلقة
الفصل الثالث : إن الغرة عبد أو أمة وهذا قول أكثر أهل العلم وقال عروة و طاوس و مجاهد : عبد أو أمة أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد جاء في حديث أبي هريرة قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل ] وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه قال الشعبي [ لأنه روي في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه جعل في ولدها مائة شاة ] رواه أبو داود وروي عن عبد الملك بن مروان أنه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارا فإذا كان مضغة فأربعين فإذا كان عظما فستين فإذا كان العظم قد كسي لحما فثمانين فإن تم خلقه وكسي شعره فمائة دينار قال قتادة : إذا كان علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثا غرة
ولنا قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في إملاص المرأة بعبد أو أمة وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قاضية على ما خالفها وذكر الفرس والبغل في الحديث وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة فالظاهر أنه وهم فيه وهو متروك في البغل بغير خلاف وكذلك في الفرس وهذا الحديث الذي ذكرناه أصح ما روي فيه وهو متفق عليه وقد قال به أكثر أهل العلم فلا يلتفت إلى ما خالفه وقول عبد الملك بن مروان تحكم بتقدير لم يرد به الشرع وكذلك قتادة وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق بالاتباع من قولهما إذا ثبت هذا فإنه تلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع إليه جاز لأنه حق آدمي فجاز ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل فله ذلك لأن الحق فيها فلا يقبل بدلها إلا برضاهما وتجب الغرة سالمة من العيوب وإن قل العيب لأنه حيوان وجب بالشرع فلم يقبل فيه المعيب كالشاة في الزكاة لأن الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار ولا يقبل فيها هرمة ولا ضعيفة ولا خنثى ولا خصي وإن كثرت قيمته لأن ذلك عيب ولا يتقدر سنها في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي وأبو الخطاب وأصحاب الشافعي : لا يقبل فيها من له دون سبع سنين لأنه يحتاج إلى من يكلفه له ويحضنه وليس من الخيار وذكر بعض أصحاب الشافعي لأنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم يرد الشرع به فيجب أن لا يقبل وما ذكروه من الحاجة إلى الكفالة باطل بمن له فوق السبع ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل على أنه خيار ولم يشهد لما ذكروه نص ولا له نظير يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلا وبنية وأقدر على التصرف وأنفع في الخدمة وقضاء الحاجة وكونه لا يدخل على النساء أن أريد به النساء الأجنبيات بلا حاجة إلى دخوله عليهن وإن أريد به سيدته فليس بصحيح فإن الله تعالى قال : { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } ـ إلى قوله { ليس عليكم ولا عليهم جناح } { طوافون عليكم بعضكم على بعض } ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من نفعه أضعاف ما يحصل من دخوله وفوات شيء إلى ما هو أنفع منه لا يعد فواتا كمن اشترى بدرهم ما يساوي عشرة لا يعد فواتا ولا خسرانا ولا يعتبر لون الغرة وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أن الغرة لا تكون إلا بيضاء ولا يقبل عبد أسود ولا جارية سوادء
[ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بعبد أو أمة وأطلق مع غلبة السواد على عبيدهم وإمائهم ولأنه حيوان يجب دية فلم يعتبر لونه كالإبل في الدية ]
الفصل الرابع : أن الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل روي ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما وبه قال النخعي و الشعبي و ربيعة و قتادة و مالك و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش الموضحة ودية السن فرددناه إليه فإن قيل فقد وجب في الأنملة أبعرة وثلث وذلك دون ما ذكرتموه قلنا : الذي نص عليه صاحب الشريعة غرة قيمتها أرش الموضحة وهو خمس من الإبل وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف قيمة الغرة الواجبة في المسلم وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهما وإذا تعذر وجود غرة بهذه الدراهم وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر الدية من الأصول كلها بأن تكون قيمتها خمسا من الإبل وخمسين دينارا أو ستمائة درهم فلا كلام وإن اختلفت قيمة الإبل فنصف عشر الدية من غيرها مثل أن كانت قمية الإبل أربعين دينارا أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي أنها تقوم بالإبل لأنها الأصل وعلى قول غيره من أصحابنا تقوم بالذهب أو الورق فجعل قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم فإن اختلفا قومت على أهل الذهب به وعلى أهل الورق به فإن كان من أهل الذهب والورق جميعا قومها من هي عليه بما شاء منهما لأن الخيرة إلى الجاني في دفع ما شاء من الأصول ويحتمل أن تقوم بأدناهما على كل حال لذلك وإذا لم يجد الغرة انتقل إلى خمس من الإبل على قول الخرقي وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم
الفصل الخامس : أن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدل عنه فيرثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة وبهذا قال مالك و الشافعي واصحاب الرأي وقال الليث : لا تورث بل تكون بدله لأنه لأمه كعضو من أعضائها فأشبه يدها
ولنا أنها دية آدمي حر فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حيا ثم مات وقوله : إنه عضو من أعضائها لا يصح لأنه لو كان عضوا لدخل بدله في دية أمه كيدها ولما منع من القصاص من أمه وإقامة الحد عليها من أجله ولما وجبت الكفارة بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها دونه ولا تصور حياته بعد موتها ولأن كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي فعلى هذا إذا أسقطت جنينا ميتا ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثته وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه وإن خرج حيا ثم مات قبلها ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثتها وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه وإن خرج حيا ثم ماتت قبله ثم مات أو ماتت ثم خرج حيا ثم مات ورثها ثم يرثه ورثته وإن اختلف وراثهما في أولهما موتا فحكمهما حكم الغرقى على ما ذكر في موضعه ويجيء على قول الخرقي في المسألة التي ذكرها إذا ماتت امرأة وابنها أن يحلف ورثة كل واحد منهما ويختصوا بميراثه وإن ألقت جنينا ميتا أو حيا ثم مات ثم ألقت آخر حيا ففي الميت غرة وفي الحي الأول دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله ويرثهما الآخر ثم يرثه ورثته إن مات وإن كانت الأم قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني فإن دية الأول ترث منها الأم والجنين الثاني ثم إذا ماتت الأم ورثها الثاني ثم يصير ميراثه لورثته وإن ماتت الأم بعدهما ورثتهما جميعا
فصل : وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر قال : ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد بتعدده كالديات وإن ألقتهم أحياء في وقت يعيشون في مثله ثم ماتوا ففي كل واحدة دية كاملة وإن كان بعضهم حيا فمات وبعضهم ميتا ففي الحي وفي الميت غرة
فصل : وتحمل العاقلة دية الحنين إذا مات مع أمه نص عليه أحمد إذا كانت الجناية عليها خطأ أو شبه عمد لما روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة على عصبة القاتلة وإن كان قتل الأم عمدا أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة وقال الشافعي : تحمله العاقلة على كل حال بناء على قوله إن العاقلة تحمل القليل والكثير والجناية على الجنين ليست بعمد لأنه لا يتحقق وجوده ليكون مقصودا بالضرب
ولنا أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث على ما ذكرناه وهذا دون الثلث وإذا مات وحده أو من جناية عمد فدية أمه على قاتلها فكذلك ديته لأن الجناية لا يحمل بعض ديتها الجاني وبعضها غيره فيكون الجميع على القاتل كما لو قطع عمدا فسرت الجناية إلى النفس

مسألة وفصول دية الجنين إذا كان مملوكا ودية جنين المدبرة ومن وطئها بشبيهة
مسألة : قال : وإن كان الجنين مملوكا ففيه عشر قيمة أمه سواء كان الجنين ذكرا أو أنثى
وجملة ذلك أنه إذا كان جنين الأمة مملوكا فسقط من الضربة ميتا ففيه عشر قيمة أمه هذا قول الحسن و قتادة و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وبنحوه قال النخعي و الزهري وقال زيد بن أسلم : يجب فيه نصف عشر غرة وهو خمسة دنانير وقال الثوري و أبو حنيفة واصحابه : يجب فيه نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى لأن الغرة واجبة في جنين الحرة نصف عشر دية الجرل وعشر دية الأنثى وهذا متلف فاعتباره بنفسه أولى من اعتبار بأمه ولأنه جنين مضمون تلف بالضربة فكان فيه نصف عشر الواجب فيه إذا كان ذكرا كبيرا وعشر الواجب إذا كان أنثى كجنين الحرة وقال محمد بن الحسن : مذهب أهل المدينة يفضي إلى أن يجب في الجنين الميت أكثر من قيمته إذا كان حيا
ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف ضمانه بالذكورية والأنوثة كجنين الحرة ودليلهم نقلبه عليهم فنقول جنين مضمون تلف بالجناية فكان الواجب فيه عشر ما يجب في أمه كجنين الحرة وما ذكروه من مخالفة الأصل معارض بأن مذهبهم يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر وهو خلاف الأصول ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة ولأن مخالفتهم أشد من مخالفتنا لأننا اعتبرناه إذا كان ميتا بأمه وإذا كان حيا بنفسه فجاز أن تزيد قيمة الميت على الحي مع اختلاف الجهتين كما جاز أن يزيد البعض على الكل في أن من قطع أطراف إنسان الأربعة كان الواجب عليه أكثر من دية النفس كلها وهم فضلوا الأنثى على الذكر مع اتحاد الجهة وأوجبوا فيما يضمن بالقيمة عشر قيمته تارة ونصف عشرها أخرى وهذا لا نظير له إذا ثبت هذا فإن قيمة أمه معتبرة يوم الجناية عليها وهذا منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه : تقوم حين أسقطت لأن الاعتبار في ضمان الجناية بالاستقرار ويتخرج لنا وجه كذلك
ولنا أنه لم يتخلل بين الجناية وحال الاستقرار ما يوجب تغيير بدل النفس فكان الاعتبار بحال الجناية كما لو جرح عبدا ثم نقصت السوق لكثرة الجلب ثم مات فإن الاعتبار بقيمته يوم الجناية ولأن قيمتها تتغير بالجناية وتنقص فلم تقوم في حال نقصها الحاصل بالجناية كما لو قطع يدها فماتت من سرايتها أو قطع يدها فمرضت بذلك ثم اندملت جراحتها
فصل : وولد المدبرة والمكاتبة والمعتقة بصفة وأم الولد إذا حملت من غير مولاها حكمه حكم ولد الأمة لأنه مملوك ولا تحمل العاقلة شيئا من ذلك لأن العاقلة لا تحمل عبدا بحال فأما جنين المعتق بعضها فهو كهي فيه من الحرية مثل ما فيها فإذا كان نصفها حرا فنصفه حر فيه نصف غرة لورثته وفي النصف الباقي نصف عشر قيمة أمه لسيده
فصل : وإن وطىء أمة بشبهة أو غير بأمه فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنينا فهو حر وفيه غرة موروثة عنه لورثته وعلى الواطىء عشر قيمتها لسيدها لأنه لولا اعتقاد الحرية لكان هذا الجنين مملوكا لسيده على ضاربه عشر قيمة أمه فلما انعتق بسبب الوطء فقد حال بين سيدها وبين هذا القدر فألزمناه ذلك للسيد سواء كان بقدر الغرة أو أكثر منها أو أقل
فصل : إذا سقط جنين ذمية قد وطئها مسلم وذمي في طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما في جنين الذمي فإن ألحق بعد ذلك بالذمي فقد وفى ما عليه وإن ألحق بمسلم فعليه تمام الغرة وإن ضرب نصرانية فأسقطت وادعت أو ادعى ورثته أنه من مسلم حملت به من وطء شبهة أو زنا فاعترف الجاني فعليه غرة كاملة وإن كان مما تحمله العاقلة فاعترف أيضا فالغرة عليها وإن أنكرت حلفت وعليها ما في جنين الذميين والباقي على الجاني لأنه ثبت باعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافا وإن اعترفت العاقلة دون الجاني فالغرة عليها مع دية أمه وإن أنكر الجاني والعاقلة فالقول قولهم مع إيمانهم أننا لا نعلم أن هذا الجنين من مسلم ولا تلزمهم اليمين على البت لأنها يمين على النفي في فعل الغير فإذا حلفوا وجبت دية ذمي لأن الأصل أن ولدها تابع لها ولأن الأصل براءة الذمة وإن كان مما لا تحمله العاقلة فالقول قول الجاني وحده مع يمينه ولو كانت النصرانية امرأة مسلم فادعى الجاني أن الجنين من ذمي بوطء شبهة أو زنا فالقول قول ورثة الجنين لأن الجنين محكوم بإسلامه فإن الولد للفراش
فصل : وإذا كانت الأمة بين شريكين فحملت بمملوك فضربها أحدهما فاسقطت فعليه كفارة لأنه أتلف آدميا ويضمن لشريكه نصف عشر قيمة أمه ويسقط ضمان نصيبه لأنه ملكه وإن أعتقها الضارب بعد ضربها وكان معسرا ثم اسقطت عتق نصيبه منها ومن ولدها وعليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم وعليه نصف غرة من أجل النصف الذي صار حرا يورث عنه بمنزلة مال الجنين ترث أمه منه بقدر ما فيها من الحرية
والباقي لباقي ورثته هذا قول القاضي : وقياس قول أبي بكر وأبي الخطاب : لا يجب على الضارب ضمان ما أعتقه لأنه حين الجناية لم يكن مضمونا عليه والاعتبار في الضمان بحال الجناية وهي الضرب ولهذا اعتبرنا قيمة الام حال الضرب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وهذا أصح إن شاء الله لأن إتلاف حصل بفعل غير مضمون فأشبه ما لو جرح حربيا فأسلم ثم مات بالسراية ولأن موته يحتمل أن يكون قد حصل بالضرب فلا يتجدد ضمانه بعد موته والأصل براءة ذمته وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليها وإلى جنينها وفي الضمان الوجهان فعلى قول القاضي في الجنين غرة موروثة عنه وعلى قياس قول أبي بكر عليه ضمان نصيب شريكه من الجنين بنصف عشر قيمة أمه ولا يضمن أمه لأنه قد ضمنها بإعتاقها فلا يضمنها بتلفها وإن كان المعتق الشريك الذي لم يضرب وكان معسرا فلا ضمان على الشريك في نصيبه لأن العتق لم يسر إليه وعليه في نصيب شريكه بنصف عشر قيمة أمه يكون لسيده إعتبارا بحال الجناية وكذلك الحكم في ضمان الأم إذا ماتت من الضربة وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليهما وصارا حرين وعلى المعتق ضمان نصف الأم ولا يضمن نصف الجنين لأنه يدخل في ضمان الأم كما يدخل في بيعها وعلى الضارب ضمان الجنين بغرة موروثة عنه على قول القاضي وعلى قياس قول أبي بكر يضمن نصيب الشريك بنصف عشر قيمة أمه وليس عليه نصيبه لأنه ملكه حال الجناية عليه وأما ضمان الأم ففي أحد الوجهين فيها دية حرة لسيدها منها أقل الأمرين من ديتها أو قيمتها وعلى الآخر يضمنها بقيمتها لسيدها كما تقدم من قطع يد عبد ثم أعتق ومات
فصل : ولو ضرب بطن أمته ثم أعتقها ثم أعتقها ثم أسقطت جنينا ميتا لم يضمنه في قياس قول أبي بكر لأن جنايته لم تكن مضمونة في ابتدائها فلم يضمن سرايتها كما لو جرح مرتدا فأسلم ثم مات ولأن موت الجنين يحتمل أنه حصل بالضربة في مملوكة ولم يتجدد بعد العتق ما يوجب الضمان وعلى قول ابن حامد : عليه غرة لا يرث منها شيئا لأن اعتبار الجناية بحال استقرارها ولو كانت الأمة لشريكين فضربانها ثم أعتقاها معا فوضعت جنينا ميتا فعلى قول أبي بكر على كل واحد منهما نصف عشر قيمة أمه لشريكه لأن كل واحد منهما جنى على الجنين ونصفه له فسقط عنه ضمانه ولزم ضمان نصفه الذي لشريكه بنصف عشر قيمة أمه اعتبارا بحال الجناية وعلى قول ابن حامد على كل واحد منهما نصف الغرة منها الثلث وباقيها للورثة ولا يرث القاتل منها شيئا
فصل : إذا ضرب ابن المعتقة الذي أبوه عبد بطن امرأة ثم أعتق أبوه ثم أسقطت جنينا ومات احتمل أن تكون ديتهما في مال الجاني على ما تقدم ذكره واحتل أن تكون الدية على مولى الأم وعصباته في قياس قول أبي بكر اعتبارا بحال الجناية وعلى قياس قول ابن حامد : على مولى الأب وأقاربه اعتبارا بحال الإسقاط وإن ضرب ذمي بطن امرأته الذمية ثم اسلم ثم أسقطت لم تحمله عاقلته وإن ماتت معه فكذلك لأن عاقلته المسلمين لا يعقلون عنه لأنه كان حين الجناية ذميا وأهل الذمة لا يعقلون عنه لأنه حين الإسقاط مسلم ويحتمل أن يكون عقله في قياس قول أبي بكر على عاقلته من أهل الذمة اعتبارا بحال الجناية ويكون في الجنين ما يجب في الجنين الكافر لأنه حين الجناية محكوم بكفره وعلى قياس قول ابن حامد تجب غرة كاملة ويكون عقله وعقل أمه على عاقلته المسلمين اعتبارا بحال الاستقرار

مسألة وفصول دية الجنين إذا سقط حيا ثم مات بسبب ضرب الحامل
مسألة : قال : وإن ضرب بطنها فألقت جنينا حيا ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان حرا أوقيمته إن كان مملوكا إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله وهو أن يكون لستة أشهر فصاعدا
هذا قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حيا من الضرب دية كاملة منهم زيد بن ثابت و عروة و الزهري و الشعبي و قتادة و ابن شبرمة و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته في وقت يعيش لمثله فأشبه قتله بعد وضعه وفي هذه المسألة ثلاثة فصول :
الفصل الأول : أنه أنما يضمن بالدية إذا وضعته حيا ومتى علمت حياته وثبت له هذا الحكم سواء ثبتت باستهلاله أو ارتضاعه أو بنفسه أو عطاسه أو غيره من الأمارات التي تعلم بها حياته هذا ظاهر قول الخرقي وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد أنه لا يثبت له حكم الحياة إلا بالاستهلال وهذا قول الزهري و قتادة و مالك و إسحاق وروي معنى ذلك عن عمر رضي الله عنه وابن عباس و الحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا استهل المولود ورث وورث ] مفهومه أنه لا يرث إذا لم يستهل والاستهلال الصياح قاله ابن عباس والقاسم و النخعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان فيستهل صارخا إلا مريم وابنها ] فلا يجوز غير ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم والأصل في تسمية الصياح استهلالا أن من عادة الناس أنهم إذا رأوا الهلال صاحوا وأراه بعضهم بعضا فسمي صياح المولود اسهلالا لأنه في ظهوره بعد خفائه كالهلال وصياحه كصياح من يتراءاه
ولنا أنه علمت حياته فأشبه المستهل والخبر يدل بمعناه وتنبيهه على ثبوت الحكم في سار الصور لأن شربه اللبن أدل على حياته من صياحه وعطاسه صوت منه كصياحه وأما الحركة والاختلاج المنفر فلا يثبت به حكم الحياة لأنه قد يتحرك الاختلاج وسبب آخر وهو خروجه من مضيق فإن اللحم يختلج سيما إذا عصر ثم ترك فلم تثبت بذلك حياته
الفصل الثاني : إنه أنما يجب ضمانه إذا علم موته بسبب الضربة ويحصل ذلك بسقوطه في الحال وموته متألما إلى أن يموت أو بقاء أمه متألمة إلى أن تسقطه فيعلم بذلك موته بالجناية كما لو ضرب رجلا فمات عقيب ضربه أو بقي ضمنا حتى مات وإن ألقته حيا فجاء آخر فقتله وكانت فيه حياة مستقرة فعلى الثاني القصاص إذا كان عمدا أو الدية كاملة وإن لم يكن فيه حياة مستقرة بل كانت حركته كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول وعليه الدية كاملة وعلى الثاني الأدب وإن وقع الجنين حيا ثم بقي زمنا سالما لا ألم به لم يضمنه الضارب لأن الظاهر أنه لم يمت من جنايته
الفصل الثالث : أن الدية الكاملة إنما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعدا فإن كان لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط متألما وبهذا قال المزني وقال الشافعي : فيه دية كالة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته
ولنا أنه لم تعلم فيه حياة يتصور بقاؤه لها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتا وكالمذبوح وقولهم إننا علمنا حياته قلنا : وإذا سقط ميتا وله ستة أشهر فقد علمنا حياته أيضا
فصل : وإذا ادعت امرأة على إنسان أنه ضربها فأسقطت جنينها فأنكر الضرب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الضرب وإن أقر بالضرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون أسقطت فالقول قوله أيضا مع يمينه لأنه لا يعلم أنها أسقطت ولا تلزمه اليمين على البت لأنها يمين على فعل الغير والأصل عدمه وإن ثبت الإسقاط والضرب ببينة أو إقرار فادعى أنها أسقطته من غير ضربه نظرنا فإن كانت أسقطت عقيب ضربه فالقول قولها لأن الظاهر منه لوجوده عقيب شيء يصلح أن يكون سببا له وإن ادعى أنها ضربت نفسها أو شربت دواء أو فعل ذلك غيرها فحصل الإسقاط به فأنكرته فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل عدم ذلك وإن أسقطت بعد الضرب بأيام نظرنا فإن كانت متألمة إلى حين الإسقاط فالقول قولها وإن لم تكن متألمة فالقول قوله مع يمينه كما لو ضرب إنسانا فلم يبق متألما ولا ضمنا ومات بعد أيام وإن اختلفا في وجود التألم فالقول قوله لأن الأصل عدمه وإن كانت متألمة في بعض المدة فادعى أنها برئت وزال ألمها وأنكرت ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه وإن ثبت إسقاطها من الضربة فادعت سقوطه حيا وانكرها فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم لها بينة باستهلاله لأن الأصل عدم ذلك وإن ثبتت حياته فادعت أنه لوقت يعيش مثله وأنكرها فالقول قولها مع يمينها لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتها ولا يمكن إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه كانقضاء عدتها ووجود حيضها وطهرها وإن أقامت بينة باستهلاله وأقام الجاني بينة بعدم استهلاله قدمت بينتها لأنها مثبتة فتقدم على النافية لأن المثبتة معها زيادة علم وإن ادعت أنه مات عقيب إسقاطه وادعى أنه عاش مدة فالقول قولها لأن الأصل عدم حياته وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الجاني لأن معها زيادة علم وإن ثبت أنه عاش مدة فادعت أنه بقي متألما حتى مات وأنكر ذلك فالقول قوله لأن الأصل عدم التألم وإن أقاما بينتين قدمت بينتها لأن معها زيادة علم ويقبل في استهلال الجنين وسقوطه وبقائه متألما وبقاء أمه متألمة قول امرأة واحدة لأنه مما لا يطلع عليه الرجال فإن الغالب أنه لا يشهد الولادة إلا النساء والاستهلال يتصل بها وهن يشهدن حال المرأة وولادتها وحال الطفل ويعرفن عالمه وأمراضه وقوته وضعفه دون الرجال وإن اعترف الجاني باستهلاله أو ما يوجب فيه دية كاملة لم تحمله العاقلة وكانت الدية في مال الجاني لأن العاقلة لا تحمل اعترافا وإن كان مما تحمل العاقلة فيه الغرة فعلى العاقلة غرة وباقي الدية في مال القاتل
فصل : وإن انفصل منها جنينان ذكر أو أنثى فاستهل أحدهما واتفقوا على ذلك واختلفوا في المستهل فقال الجاني هو الأنثى وقال وارث الجنين هو الذكر فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل عدم الاستهلال من الذكر وبراءة ذمته من الزائد على دية الأنثى فإن كان لأحدهما بينة قدم بها وإن كان لكل واحد منهما بينة وجبت دية الذكر لأن البينة قد قدمت باستهلاله والبينة المعارضة لها نافية له والإثبات مقدم على النفي فإن قيل فينبغي أن تجب دية الذكر والأنثى قلنا : لا تجب دية الأنثى لأن المستحق لها لم يدعها وهو مكذب للبينة الشاهدة بها وإن ادعى الاستهلال منهما ثبت ذلك بالبينتين وإن لم تكن بينة فاعترف الجاني باستهلال الذكر فأنكرت العاقلة فالقول قولهم مع أيمانه فإذا حلفوا كانت عليهم دية الأنثى وغرة إن كانت تحمل الغرة وعلى الضارب تمام دية الذكر وهو نصف الدية لا تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافه وإن اتفقوا على أن أحدهما استهل ولم يعرف بعينه لزم العاقلة دية الأنثى لأنها متيقنة وتمام دية الذكر مشكوك فيه والأصل براءة الذمة منه فلم يجب بالشك ويجب الغرة في الذي لم يستهل
فصل : إذا ضربها فألقت يدا ثم ألقت يدا ثم جنينا فإن كان إلقاؤهما متقاربا أو بقيت المرأة متألمة إلى أن ألقته دخلت اليد في ضمان الجنين لأن الظاهر أن الضرب قطع يده وسرى إلى نفسه فأشبه ما لو قطع يد رجل وسرى القطع إلى نفسه ثم إن كان الجنين سقط ميتا أو حيا لا يعيش لمثله ففيه غرة وإن ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ففيه دية كاملة وإن بقي حيا فلم يمت فعلى الضارب ضمان اليد بديتها بمنزلة من قطع يد رجل فاندملت وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي : يسأل القوابل فإن قلنا إنها يد من لم تخلق فيه الحياة ففيها نصف الغرة وإن قلن يد من خلقت فيه الحياة ففيها نصف الدية
ولنا أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه إذا كان حيا قبل ولادته بمدة طويلة أقلها شهران على ما دل عليه حديث الصادق المصدوق في أنه تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأقل ما يبقى بعد ذلك شهران لأنه لا يحيى إذا وضعته لأقل من ستة أشهر والكلام مفروض فيما إذا لم يتخلل بين الضربة والإسقاط مدة تزيل ظن سقوطه بها فيعلم حينئذ أنها كانت بعد وجود الحياة فيه وأما أن ألقت اليد وزال الألم ثم ألقت الجنين ضمن اليد وحدها بمنزلة من قطع يدا فاندملت ثم مات صاحبها ثم ننظر فإن القته ميتا أو لوقت لا يعيش مثله في اليد نصف غرة لأن في جميعه غرة ففي يده نصف ديته وإن ألقته لوقت يعيش لمثله ثم مات أو عاش وكان بين إلقاء اليد وبين إلقائه مدة يحتمل أن تكون الحياة لم تخلق فيها أري القوابل ههنا فإن قلن أنها يد من لم تخلق فيها الحياة وجب نصف غرة وإن قلنا إنها يد من خلقت فيه الحياة ومضى له ستة أشهر ففيه نصف الدية وإن قيل إنها يد من خلقت فيه الحياة ولم تمض له ستة أشهر وجب فيه نصف غرة لأنها يد من لا يجب فيه أكثر من غرة فأشبهت يد من لم ينفخ فيه روح وإن أشكل الأمر عليهن وجب نصف الغرة لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك

مسألة وعلى كل من ضرب ممن ذكر عتق رقبة
مسألة : قال : وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة سواء كان الجنين حيا أو ميتا
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن و عطاء و الزهري و الحكم و مالك و الشافعي و إسحاق قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنينا الرقبة مع الغرة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو حنيفة : لا تجب الكفارة ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة ]
ولنا قول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ـ وقال ـ { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو أحدأبويه فهو محكوم بإيمانه تبعايرثه وثرته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئا وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ولأنه نفس مضمون بالدية فوجبت فيه الرقبة كالكبير وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها ك [ قوله عليه السلام : في النفس المؤمنة مائة من الإبل ] وذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة [ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يذكر كفارة ] وهي واجبة كذا ههنا وإنما كان كذلك لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر فاكتفي بها وإن ألقت المضروبة أجنية ففي كل جنين كفارة كما أن في كل جنين غرة أو دية وإن اشترك جماعة في ضرب امرأة فألقت أجنة فديته أو الغرة عليهم بالحصص وعلى كل واحد منهم كفارة كما إذا قتل جماعة رجلا واحدا وإن ألقت أجنة فدياتهم عليهم بالحصص وعلى كل واحد في كل جنين كفارة فلو ضرب ثلاثة بطن امرأة فألقت ثلاثة أجنة فعليهم تسع كفارات وعلى كل واحد ثلاثة

مسألة وإذا شربت الحامل دواء فألقت
مسألة : قال : وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينا فعليها غرة لا ترث منها شيئا وتعتق رقبة
ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة على ما قدمنا وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جنى عليه غيرها ولا ترث من الغرة شيئا لأن القاتل لا يرث المقتول وتكون الغرة لسائر ورثته وعليها عتق رقبة كما قدمنا ولو كان الجاني المسقط للجنين أباه أو غيره من ورثته فعليه غرة لا يرث منها شيئا ويعتق رقبة وهذا قول الزهري و الشافعي وغيرهما

فصل حكم الجناية على البهيمة فألقت جنينها
فصل : وإن جنى على بهيمة فألقت جنينها ففيه ما نقصها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي بكر أن فيه عشر قيمة أمه لأنه جناية على حيوان يملك بيعه أسقطت جنينه أشبه جنين الأمة وهذا لا يصح لأن قيمتها كبعض أعضائها والبهيمة إنما يجب في الجناية عليها قدر نقصها فكذلك في جنينها ولأن الأمة آدمية ألحقت بالأحرار في تقدير أعضائها من ديتها والبهيمة بخلاف ذلك

مسألتان الاشتراك في القتل بالمنجنيق ونحوه
مسألة : قال : وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فرمى الحجر فقتل رجلا فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله
أما عتق رقبة على كل واحد منهم فلا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم لأن كل واحد منهم مشارك في إتلاف آدمي معصوم والكفارة لا تتبعض فكملت في حق كل واحد منهم ثم لا يخلو من حالين : أحدهما : أن يقتل واحدا منهم والثاني : أن يقتل واحدا من غيرهم فعلى كل واحد عتق رقبة كما ذكرنا والدية على عواقلهم أثلاثا لأن العاقلة تحمل الثلث فما زاد سواء قصدوا رمي واحد بعينه أو رمي جماعة أو لم يقصدوا ذلك إلا أنهم إن لم يقصدوا قتل آدمي معصوم فهو خطأ ديته دية الخطأ وإن قصدوا رمي جماعة أو واحد بعينه فهو شبه عمد لأن قصد الواحد بعينه بالمنجنيق لا يكاد يفضي إلى إتلافه فتكون دية مغلظة على العاقلة إلا أنها في ثلاث سنين وعلى قول أبي بكر لا تحمل العاقلة دية شبه العمد فلا تحمله ههنا والثاني : أن يصيب رجلا منهم فعلى كل واحد كفارة أيضا ولا تسقط عمن أصابه الحجر لأنه شارك في قتل نفس مؤمنة والكفارة إنما تجب لحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في نفسه كوجوبها بالمشاركة في قتل غيره وأما الدية ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أن على عاقلة كل واحدمنهم ثلث ديته لورثة المقتول لأن كل واحدمنهم مشارك في قتل نفس مؤمنة خطأ فلزمته ديتها كالأجانب وهذا ينبني على إحدى الروايتين في أن جناية المرء على نفسه أو أهله خطأ يحمل عقلها عاقلته
الوجه الثاني : ما قابل فعل المقتول ساقط لا يضمنه أحد لأنه شارك في إتلاف حقه فلم يضمن ما قابل فعله كما لو شارك في قتل بهيمتة أو عبده وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد ولم يذكر غيره وهو مذهب الشافعي
الثالث : أن يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين قال أبو الخطاب : هذا قياس المذهب بناء على مسألة المتصادمين والذي ذكره القاضي أحسن وأصح في النظر وقد روي نحوه عن علي رضي الله عنه في مسألة القارضة والقابضة والواقصة قال الشعبي : وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارن فركبت إحداهن على عتق أخرى وقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثا على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها وهذه شبيهة بمسألتنا ولأن المقتول مشارك في القتل فلم تكمل الدية على شريكيه كما لو قتلوا واحدا من غيرهم وإن رجع الحجر فقتل اثنين من الرماة فعلى الوجه الأول تجب ديتهما على عواقلهما أثلاثا وعلى كل واحد كفارتان وعلى الوجه الثاني تجب على عاقلة الحي منهم لكل ميت ثلث ديته وعلى عاقلة كل واحد من الميتين ثلث دية صاحبه ويلغى فعله في نفسه وعلى الوجه الثالث على عاقلة الحي لكل واحد من الميتين نصف الدية ويجب على عاقلة كل واحد من الميتين نصف الدية لصاحبه
مسألة : قال : وإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم
هذا هو الصحيح في المذهب سواء كان المقتول منهم أو من غيرهم إلا أنه إذا كان منهم يكون فعل المقتول في نفسه هدرا لأنه لا يجب عليه لنفسه شيء ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالا لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما تحمله العاقلة وهذا لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث والقدر اللازم لكل واحد دون الثلث وذكر أبو بكر فيها رواية أخرى أن العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد أوجب دية تزيد على الثلث والصحيح هو الأول لأن كل واحد منهم يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وحمل العاقلة إنما شرع للتخفيف عن الجاني فيما يشق ويثقل وما دون الثلث يسير على ما أسلفناه والذي يلزم كل واحد أقل من الثلث وأماقوله إنه فعل واحد قلنا با أفعال لأن فعل كل واحد غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو جرحه كل واحد جرحا فأتت النفس بجميعها إذا ثبت هذا فالضمان يتعلق بمن مد الحبال ورمى الحجر دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشبة اعتبارا بالمباشر كمن وضع سهما في قوس رجل ورماه صاحب القوس فالضمان على الرامي دون الواضع

فصول من سقط على غيره أو أسقطه فمات بذلك
فصل : إذا سقط رجل في بئر فسقط عليه آخر فقتله فعليه ضمانه لأنه قتله فضمنه كما لو رمى عليه حجرا ثم ينظر فإن كان عمد رمي نفسه عليه وهو مما يقتل غالبا فعليه القصاص وإن كان مما لا يقتل غالبا فهو شبه عمد وإن وقع خطأ فالدية على عاقلته مخففة وإن مات الثاني بوقوعه على الأول فدمه هدر لأنه مات بفعله وقد روى علي بن رباح اللخمي أن رجلا كان يقود أعمى فوقع في بئر فخر البصير ووقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم :
( يا أيها الناس لقيت منكرا ) ( هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا ؟ ) ( خرا معا كلاهما تكسرا )
وهذا قول ابن الزبير و شريح و النخعي و الشافعي و إسحاق ولو قال قائل : ليس على الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه ولذلك لو فعله قصدا لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى ولو لم يكن سببا لم يلزمه ضمان بقصده لكان له وجه إلا أن يكون مجمعا عليه فلا تجوز مخالفة الإجماع ويحتمل أنه إنما لم يجب الضمان على القائد لوجهين : أحدهما : أنه مأذون فيه من جهة الأعمى فلم يضمن ما تلف به كما لو حفر له بئرا في داره بإذنه فتلف بها والثاني : أنه فعل مندوب إليه مأمور به فأشبه ما لو حفر بئرا في سابلة ينتفع بها المسلمون فإنه لا يضمن ما تلف بها
فصل : فإن سقط رجل في بئر فتعلق بآخر فوقعا معا فدم الأول هدر لأنه مات من فعله وعلى عاقلته دية الثاني إن مات لأنه قتله بجذبته فإن تعلق الثاني بثالث فماتوا جميعا فلا شيء على الثالث وعلى عاقلة الثاني ديته في أحد الوجهين لأنه جذبه وباشره بالجذب والمباشرة تقطع حكم السبب كالحافر مع الدافع والثاني : ديته على عاقلة الأول والثاني نصفين لأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث فصار مشاركا للثاني في إتلافه
ودية الثاني على عاقلة الأول في أحد الوجهين لأنه هلك بجذبته وإن هلك بسقوط الثالث عليه فقد هلك بجذبة الأول وجذبة نفسه للثالث فسقط فعل نفسه كالمصطدمين وتجب ديته بكمالها على الأول ذكره القاضي : والوجه الثاني : يجب على الأول نصف ديته ويهدر نصفها في مقابلة فعل نفسه وهذا مذهب الشافعي ويتخرج وجه ثالث وهو وجوب نصف ديته على عاقلته لورثته كما قلنا فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم وأما الأول إذا مات بوقوعهما عليه ففيه الأوجه الثلاثة لأنه مات من جذبته وجذبة الثاني للثالث فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني ويلغى فعل نفسه على الوجه الأول وعلى الثاني يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه ويجب نصفها على الثاني وعلى الثالث يجب نصفها على عاقلته لورثته وإن جذب الثالث رابعا فمات جميعهم بوقوع بعضهم على بعض فلا شيء على الرابع لأنه لم يفعل شيئا في نفسه ولا غيره وفي ديته وجهان : أحدهما : أنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه والثاني : على عاقلة الأول والثاني والثالث لأنه مات من جذب الثلاثة فكانت ديته على عواقلهم وأما الأول فقد مات بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على عاقلة الثاني والثالث نصفين الثاني : يجب على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه والثالث : يجب ثلثها على عاقلة لورثته وأما الجاذب الثاني فقد مات بالأفعال الثلاثة وفيه هذه الأوجه المذكورة في الأول سواء وأما الثالث ففيه مثل هذه الأوجه الثلاثة ووجهان آخران : أحدهما : أن ديته بكمالها على الثاني لأنه المباشر فسقط فعل غيره بفعله والثاني : أن على عاقلته نصفها ويسقط النصف الثاني في مقابلة فعله في نفسه
فصل : وإن وقع بعضهم على بعض فماتوا نظرت فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض مثل أن يكون البئر عميقا يموت الواقع فيه نفس الوقوع أو كان فيه ماء يغرق الواقع فيقتله أو أسد يأكلهم فليس على بعضهم ضمان بعض لعدم تأثير فعل بعضهم في هلاك بعض وإن شككنا في ذلك لم يضمن بعضهم بعضا لأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك وإن كان موتهم بوقوع بعضهم على بعض فدم الرابع هدر لأن غيره لم يفعل فيه شيئا وإنما هلك بفعله وعليه دية الثالث لأنه قتله بوقوعه عليه ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين ودية الأول على الثلاثة أثلاثا
فصل : وإن هلكوا بأمر في البئر مثل أسد كان فيه وكان الأول جذب الثاني والثاني جذب الثلث والثالث جذب الرابع فقتلهم الأسد فلا شيء على الرابع وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين وفي الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثا ودم الأول هدر على عاقلته دية الثاني وأما دية الثالث فعلى الثاني في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول والثاني نصفين وهذه المسألة تسمى مسألة الزبية [ وقد روى حنش الصنعاني أن قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالثا ثم جذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال : للأول ربع الدية لأنه هلك فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع كمال الدية وقال : فإني أجعل الدية على من حضر رأس البئر فوفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : هو كما قال ] رواه سعيد بن منصور قال : حدثنا أو عوانة وأبو الأحوص عن سماك بن حرب عن حنش بنحو هذا المعنى قال أبو الخطاب : فذهب أحمد إلى ذلك توقيفا على خلاف القياس والقياس ما ذكرناه

فصول ضمان القتل بالسبب كما بالمباشرة بسبب غير مشروع حفر بئر اقامة جدار مائل وصور تفريعية
فصل : ويجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة فإذا حفر بئرا في طريق لغير مصلحة المسلمين أو في ملك غيره بغيره إذنه أو وضع في ذلك حجرا أو حديدة أو صب فيه ماء أو وضع فيه قشر بطيخ أو نحوه وهلك فيه إنسان أو دابة ضمه لأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو جنى عليه روي عن شريح أنه ضمن رجلا حفر بئرا فوقع فيها رجل فمات وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال النخعي و الشعبي و حماد و الثوري و الشافعي و إسحاق وإن وضع رجل حجرا وحفر آخر بئرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فوقع في البئر أو على السكين فهلك فالضمان على واضع الحجر دون الحافر وناصب السكين لأن واضع الحجر كالدافع له وإذا اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده وبهذا قال الشافعي ولو وضع رجل حجرا ثم حفر عنده آخر بئرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فسقط عليهما فهلك احتمل أن يكون الحكم كذلك لما ذكرنا واحتمل أن يضمن الحافر وناصب السكين لأن فعلهما متأخر عن فعله فأشبه ما لو كان زق فيه مائع وهو واقف فحل وكاءة إنسان وأماله آخر فسال ما فيه كان الضمان على الآخر منهما وإن وضع إنسان حجرا أو حديدة في ملكه أو حفر فيه بئرا فدخل إنسان بغير إذنه فهلك به فلا ضمان على المالك لأنه لم يتعد وإنما الداخل هلك بعدوان نفسه وإن وضع حجرا في ملكه ونصب أجنبي فيه سكينا أو حفر بئرا بغير إذنه فعثر رجل بالحجر فوقع على السكين أو في البئر فالضمان على الحافر وناصب السكين لتعديهما إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر لانتفاء عدوانه وإن اشترك جماعة في عدوان تلف به شيء فالضمان عليهم وإن وضع اثنان حجرا وواحد حجرا فعثر بهما إنسان فهلك فالدية على عواقلهم أثلاثا في قياس المذهب وهو قول أبي يوسف لأن السبب حصل من الثلاثة أثلاثا فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم كمال لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان جرحين فمات بهما وقال زفر : على الاثنين النصف وعلى واضع الحجر وحده النصف لأن فعله مساو لفعلهما وإن حفر إنسان بئرا ونصب آخر سكينا فوقع إنسان في البئر على المسكين فمات فقال ابن حامد : الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع وهذا قياس المسائل التي قبلها ونص أحمد رحمه الله على أن الضمان عليهما قال أبو بكر : لأنهما في معنى الممسك والقاتل الحافر كالممسك وناصب السكين كالقاتل فيخرج من هذا أن يجب الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة
فصل : وإن حفر بئرا في ملك نفسه أو في ملك غيره بإذنه فلا ضمان عليه لأنه متعد بحفرها وإن حفرها في موات لم يضمن لأنه غير متعد بحفرها وكذلك إن وضع حجرا أو نصب شركا أو شكبة أو منجلا ليصيد بها وإن فعل شيئا من ذلك في طريق ضيق فعليه ضمان من هلك به لأنه متعد وسواء أذن له الإمام فيه أو لم يأذن فإنه ليس للإمام الإذن فيما يضر بالمسلمين ولو فعل ذلك الإمام لضمن ما تلف به لتعديه وإن كان الطريق واسعا فحفر في مكان منها ما يضر بالمسلمين فعليه الضمان كذلك وإن حفر في موضع لا ضرر فيه نظرنا فإن حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو غير إذنه وقال أصحاب الشافعي : إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في القعود فيه ويقطعه لمن يبيع فيه
ولنا أنه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن له الإمام ولا نسلم أن للإمام أن يأذن في هذا وإنما يأذن في القعود لأن ذلك لا يدوم وتمكن إزالته في الحال فأشبه القعود في المسجد ولأن القعود جائز من غير إذن الإمام بخلاف الحفر وإن حفر البئر لنفع المسلمين مثل أن يحفره لينزل فيه ماء المطر من الطريق أو لتشرب منه المارة ونحوها فلا ضمان عليه لأنه محسن بفعله غير متعد بحفره فأشبه باسط الحصير في المسجد وذكر بعض أصحابنا أنه لا يضمن إذا كان بإذن الإمام وإن كان بغير إذنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يضمن فإن أحمد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم : إذا أحدث بئرا لماء المطر ففيه نفع للمسلمين أرجو أن لا يضمن
والثانية : يضمن أومأ إليه أحمد لأنه افتأت على الإمام ولم يذكر القاضي سوى هذه الرواية والصحيح هو الأول لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق استذان الإمام فيه وتعم البلوى به ففي وجوب استئذان الإمام فيه تفويت لهذه المصلحة العامة لأنه لا يكاد يوجد من يتحمل كلفة استئذانه وكلفة الحفر معا فتضيع هذه المصلحة فوجب إسقاط استئذانه كما في سائر المصالح العامة من بسط حصير في مسجد أو تعليق قنديل فيه أو وضع سراج أو رم شعث فيه وأشباه ذلك وحكم البناء في الطريق حكم الحفر فيها على ما ذكرنا من التفصيل والخلاف وهو أنه متى بناء يضر إما لكونه في طريق ضيق أو في واسع يضر المارة أو بنى لنفسه فقد تعدى ويضمن ما تلف به وإن بنى في طريق واسع في موضع لا يضر البناء فيه لنفع المسلمين كبناء مسجد يحتاج إليه للصلاة فيه في زاوية ونحوها فلا ضمان عليه وسواء في ذلك كله إذن فيه الإمام أو لم يأذن ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام في البناء لنفع المسلمين دون الحفر لأن الحفر تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها وإزالة الطين والماء منها بخلاف البناء فجرى حفرها مجرى تنقيتها وحفر هدفة منها وقلع حجر يضر بالمارة ووضع الحصا في حفرة منها ليملأها ويسهلها بإزالة الطين ونحوه منها وتسقيف ساقيه فيها ووضع حجر في طيه فيها ليطأ الناس عليه أو يعبروا عليه فهذا كله مباح لا يضمن ما تلف به لا أعلم فيه خلافا وكذلك ينبغي أن يكون في بناء القناطر ويحتمل أن يعتبر استئذان الإمام لأن مصلحته لا يعم وجودها بخلاف غيره وإن سقف مسجدا أو فرض بارية فيه أو نصب عليه بابا أو جعل فيه رفا لينفع أهله أو علق فيه قنديلا أو بنى فيه حائطا فتلف به شيء فلا ضمان عليه وقال اصحاب الشافعي : إن فعل شيئا من ذلك بغير إذن الإمام ضمن في أحد الوجهين : وقال أبو حنيفة : يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران
ولنا أنه فعل أحسن به ولم يتعد فيه فلم يضمن ما تلف به كمالو أذن فيه الإمام والجيران ولأن هذا مأذون فيه من جهة العرف لأن العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يجب ضمان كالمأذون فيه نطقا
فصل : وإن حفر العبد بئرا في ملك إنسان بعير إذنه أو في طريق يضرر به ثم أعتقه سيده ثم تلف بها شيء ضمنه العبد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : الضمان على سيده لأن الجناية هي الحفر في حالة رقه وكان ضمان جنايته حينئذ على سيده فلا يزول ذلك بعتقه كما لو جرح في حال رقه ثم سرى جرحه بعد عتقه
ولنا أن التلف الموجب للضمان وجد بعد إعتاقه فكان الضمان عليه كما لو اشترى سيفا في حال رقه ثم قتل به بعد عتقه وفارق ما قاسوا عليه لأن الإتلاف الموجب للضمان وجد حال رقه وههنا حصل بعد عتقه وكذلك القول في نصب حجر أو غيره من الأسباب التي يجب بها الضمان
فصل : وإذا حفر إنسان بئرا في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه ضمن ما تلف به جميعه وهذا قياس مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه فلو كان له شريكان لضمن ثلثي التالف لأنه تعدى في نصيب شريكيه وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان لأنه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين كما لو جرحه واحد جرحا وجرحه آخر جرحين
ولنا أنه متعد بالحفر فضمن الواقع فيما كما لو كان في ملك غيره والشركة أوجبت تعديه بجميع الحفر فكان موجبا لجميع الضمان ويبطل ما ذكره أبو يوسف بما لو حفره في طريق مشترك فإن له فيها حقا ومع ذلك يضمن الجميع والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع
فصل : وإذا حفر بئرا في ملك إنسان أو وضع فيه ما يتعلق به الضمان فأبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ففيه وجهان : أحدهما : يبرأ لأن المالك لو أذن فيه ابتداء لم يضمن ما تلف به فإذا أبرأه من الضمان وأذن فيه زال عنه الضمان كما لو اقترن الإذن بالحفر والآخر : لا ينتفي عنه الضمان لأنه سبب موجب للضمان فلا يزول حكمه بالإبراء كسائر الأسباب ولأن حصول الضمان به لكونه تعدى بحفره والإبراء لا يزيل ذلك لأن ما مضى لا يمكن تغييره عن الصفة التي وقع عليها ولأن وجوب الضمان ليس بحق للمالك الإبراء منه كما لو أبرأه غير المالك ولأنه إبراء مما لم يجب فلم يصح كالإبراء من الشفعة قبل البيع
فصل : وإن استأجره أجيرا فحفر في ملك غيره بغير إذنه وعلم الأجير ذلك فالضمان عيه وحده لأنه متعد بالحفر وليس له فعل ذلك بأجرة ولا غيرها فتعلق الضمان به كما لو أمره غيره بالقتل فقتل وإن لم يعلم فالضمان على المستأجر لأنه غره فتعلق الضمان به كالإثم وكذلك الحكم في البناء ونحوه ولو استأجر أجيرا ليحفر له في ملكه بئرا أو ليبني له فيها بناء فتلف الأجير بذلك لم يضمنه المستأجر وبهذا قال عطاء و الزهري و قتادة و أصحاب الرأي ويشبه مذهب الشافعي ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : البئر جبار ] ولأنه لم يتلفه وإنما فعل الأجير باختيار نفسه فعلا أفضى إلى تلفه فأشبه ما لو فعله تبرعا من عبد نفسه إلا أن يكون الأجير عبدا استأجره بغير إذن سيده أو صبيا بغير إذن وليه فيضمنه لأنه متعد باستعماله متسبب إلى إتلاف حق غيره
فصل : فإن حفر إنسان بئرا في ملكه فوقع فيها إنسان أو دابة فهلك به وكان الداخل دخل بغير إذنه فلا ضمان على الحافر لأنه لا عدوان منه وإن دخل بإذنه والبئر بينة مكشوفة والداخل بصير يبصرها فلا ضمان أيضا لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سيف فقتل به نفسه وإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها فلم يعلم الداخل بها حتى وقع فيها فعليه ضمانه وبهذا قال شريح و الشعبي و النخعي و حماد و مالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال في الآخر : لا يضمنه لأنه هلك نفسه
ولنا أنه تلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاما مسموما فأكله وبهذا ينتقض ما ذكروه وإن اختلفا فقال صاحب الدار : ما أذنت لك في الدخول وادعى ولي الهالك أنه أذن له فالقول قول المالك لأنه منكر وإن قال : كانت مكشوفة وقال الآخر كانت مغطاة فالقول قول ولي الواقع لأن الظاهر معه فإن الظاهر أنها لو كانت مكشوفة لم يسقط فيها ويحتمل أن القول قول المالك لأن الأصل براءة ذمته فلا تشتغل بالشك ولأن الأصل عدم تغطيتها
فصل : وإذا بنى في ملكه حائطا مائلا إلى الطريق أو إلى ملك غيره فتلف به شيء وسقط على شيء فأتلفه ضمنه لأنه متعد بذلك فإنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره أو هواء مشترك ولأنه يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه فأشبه ما لو نصب فيه منجلا يصيد به وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وإن بناه في ملكه مستويا أو مائلا إلى ملكه فسقط من غير استهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بابقائه وإن مال قبل وقوعه إلى ملكه ولم يتجاوزه فلا ضمان عليه لأنه بمنزلة بنائه مائلا في ملكه وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطريق أو إلى ملك إنسان أو ملك مشترك بينه وبين غيره نظرنا فإن لم يمكنه نقضه فلا ضمان عليه لأنه لم يتعد ببنائه ولا فرط في ترط نقضه لعجزه عنه فأشبه ما لو سقط من غير ميل فإن أمكنه نقضه فلم ينقضه لم يخل من حالين : أحدهما : أن يطالب بنقضه والثاني : أن لايطالب به فإن لم يطالب به لم يضمن في المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الشافعي ونحوه قال الحسن و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي لأنه بناه في ملكه والميل حادث بغير فعله فأشبه ما لو وقع قبل ميله وذكر بعض أصحابنا فيه وجها آخر أن عليه الضمان وهو قول ابن أبي ليلى و أبي ثور و إسحاق لأنه متعد بتركه مائلا فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلا إلى ذلك ابتداء ولأنه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف ولو لم يكن ذلك موجبا للضمان لم يضمن بالمطالبة كما لو لم يكن مائلا أو كان مائلا إلى ملكه وأما إن طولب بنقضه فلم يفعل فقد توقف أحمد عن الجواب فيها وقال أصحابنا : يضمن وقد أومأ إليه أحمد وهو مذهب مالك ونحوه قال الحسن و النخعي و الثوري وقال أبو حنيفة : الاستحسان أن يضمن لأن حق الجواز للمسلمين وميل الحائط يمنعهم ذلك فلهم المطالبة بإزالته فإذا لم يزله ضمن كما لو وضع عدلا على حائط نفسه فوقع في ملك غيره فطولب برفعه فلم يفعل حتى عثر به إنسان وفيه وجه آخر : لا ضمان عليه قال أبو حنيفة : وهو القياس لأنه بناه في ملكه ولم يسقط بفعله فأشبه ما لو لم يطالبه بنقضه أو سقط قبل ميله أو لم يمكنه نقضه ولأنه لو وجب الضمان لم تشترط المطالبة كما لو بناه مائلا إلى غير ملكه فإن قلنا عليه الضمان إذا طولب فإن المطالبة من كل مسلم أو ذمي توجب الضمان إذا كان ميله إلى الطريق لأن لكل واحد منهم حق المرور فكانت له المطالبة كمالو مال الحائط إلى ملك جماعة كان لكل واحد منهم المطالبة وإذا طالب واحد فاستأجله صاحب الحائط أو أجله له الإمام لم يسقط عنه الضمان لأن الحق لجميع المسلمين فلا يملك واحد منهم إسقاطه وإن كانت المطالبة لمتسأجر الدار أو مرتهنها أو مستعيرها ومستودعها فلا ضمان عليهم لأنهم لا يملكون النقض وليس الحائط ملكا لهم وإن طولب المالك في هذه الحال فلم يمكنه استرجاع الدار ونقض الحائط فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وإن أمكنه استرجاعها كالمعسر والمودع والراهن إذا امكنه فكاك الرهن فلم يفعل ضمن لأنه أمكنه النقض وإن كان المالك محجورا عليه لسفه أو صغر أو جنون فطولب هو لم يلزمه الضمان لأنه ليس أهلا للمطالبة وإن طولب وليه أو وصيه فلم ينقضه فالضمان على المالك لأن سبب الضمان ماله فكان الضمان عليه دون المتصرف كالوكيل مع الموكل وإن كان الملك مشتركا بين جماعة فطولب أحدهم بنقضه احتمل وجهين : أحدهما : لا يلزمه شيء لأنه لا يمكنه نقضه بدون إذنهم فهو كالعاجز عن نقضه
والثاني : يلزمه بحصته لأنه يتمكن من النقض بمطالبة شركائه وإلزامهم النقض فصار بذلك مفرطا وأما إن كان ميل الحائط إلى ملك آدمي معين إما واحد وإما جماعة فالحكم على ما ذكرنا إلا أن المطالبة للمالك أو ساكن الملك الذي مال إليه دون غيره وإن كان لجماعة فأيهم طالب وجب النقض بمطالبته كما لو طالب واحد بنقض المائل إل الطريق إلا أنه متى طالب ثم أجله صاحب الملك أو ابرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار التي مال إليها جاز لأن الحق له وهو يملك إسقاطه وإن مال إلى درب غير نافذ فالحق لأهل الدرب والمطالبة لهم لأن الملك لهم ويلزم النقض بمطالبة أحدهم ولا يبرأ بإبرائه وتأجيله إلا أن يرضى بذلك جميعهم لأن الحق لجيمعهم
فصل : وإذا تقدم إلى صاحب الحائط بنقضه فباعه مائلا فلا ضمان على بائعه لأنه ليس بملك له ولا على المشتري لأنه لم يطالب بنقضه وكذلك إن وهبه وأقبضه وإن قلنا بلزوم الهبة زال الضمان عنه بمجرد العقد وإذا وجب الضمان وكان التالف به آدميا فالدية على عاقلته فإن أنكرت عاقلته كون الحائط لصاحبهم لم يلزمهم العقل إلا أن يثبت ذلك ببينة لأن الأصل عدم الوجوب عليهم فلا يجب بالشك وإن اعترف صاحب الحائط لزمه الضمان دونهم لأن العاقلة لا تحمل اعترافا وكذلك إن أنكروا مطالبته بنقضه فالحكم على ما ذكرنا وإن كان الحائط في يد صاحبهم وهو ساكن في الدار لم يثبت بذلك الوجوب عليه لأن دلالة ذلك على الملك من جهة الظاهر لا تثبت به الحقوق وإنما ترجح به الدعوى
فصل : وإن لم يمل الحائط لكن تشقق فإن لم يخش سقوطه لكون شقوقه بالطول لم يجب نقضه وكان حكمه في هذا حكم الصحيح لأنه لم يخف سقوطه فأشبه الصحيح وإن خيف وقوعه مثل ان تكون شقوقه بالعرض فحكمه حكم المائل لأنه يخاف منه التلف فأشبه المائل

فصل حكم ما لو أخرج إلى الطرق النافذ جناحا فسقط على شيء
فصل : وإذا أخرج إلى الطريق النافذ جناحا أو ساباطا فسقط أو شيء منه على شيء فأتلفه فعلى المخرج ضمانه وقال أصحاب الشافعي : إن وقعت خشبة ليست مركبة على حائطه وجب ضمان ما أتلفت وإن كانت مركبة على حائطه وجب نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره فانقسم الضمان عليهما
ولنا أنه تلف بما أخرجه إلى حق الطريق فضمنه كما لو بنى حائطه مائلا إلى الطريق فأتلف أو أقام خشبة في ملكه مائلة إلى الطريق أو كما لو سقطت الخشبة التي ليست موضوعة على الحائط ولأنه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل كالذي ذكرنا ولنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع البناء على أرض الطريق والدليل على عدوانه وجوب ضمان البعض ولو كان مباحا لم يضمن به كسائر المواضع التي يجب الضمان فيها ولأننا لم نعلم موضعا يجب الضمان كله ببعض الخشبة ويجب نصف بجميعها وإن كان إخراج الجناح إلى درب غير نافذ بغير إذن أهله ضمن ما أتلفه وإن فعل ذلك بإذنهم فلا ضمان عليه لأنه مباح له غير متعد فيه

فصل حكم ما لو أخرج ميزابا إلى الطريق فسقط على إنسان
فصل : وإن أخرج ميزابا إلى الطريق فسقط على إنسان أو شيء فأتلفه ضمنه وبهذا قال أبو حنيفة وحكي عن مالك أنه لا يضمن مما أتلفه لأنه غير متعد بإخراجه فلم يضمن ما تلف به كما لو أخرجه إلى ملكه وقال الشافعي : إن سقط كله فعليه نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره وإن انقصف الميزاب فسقط منه ما خرج عن الحائط ضن جميع ما تلف به لأنه كله في غير ملكه
ولنا ما سبق في الجناح ولا نسلم أن إخراجه مباح فإنه أخرج إلى هواء ملك غيره شيئا يضر به فأشبه ما لو أخرجه إلى ملكه آدمي معين بغير إذنه فأما إن أخرج إلى ملك آدمي معين شيئا من جناح أو ساباط أو ميزاب أو غيره فهو متعد ويضمن ما تلف به لا أعلم فيه خلافا

فصل ضمان ما تتلفه دواب الركوب
فصل : وإذا بالت دابته في طريق فزلق به حيوان فمات فقال أصحابنا : على صاحب الدابة الضمان إذا كان راكبا لها أو قائدا أو سائقا لها لأنه تلف حصل من جهة دابته التي يده عليها فأشبه ما لو جنت بيدها أو فمها وقياس المذهب أنه لا يضمن ما تلف بذلك لأنه لا بد له على ذلك ولا يمكن التحرز منه فلم يضمن ما تلف به كما لو أتلفت برجلها وكما لو لم يكن له يد عليها ويفارق هذا ما أتلفت بيدها وفمها لأنه يمكنه حفظهما

فصلان القتل بالتسبب المشروع
فصل : وإذا وضع جرة على سطحه أو حائطه أو حجرا فرمته الريح على إنسان فقتله أو شيء أتلفه لم يضمن لأن ذلك من غير فعله ووضعه له كان في ملكه ويحتمل أن يضمن إذا وضعها متطرفة لأنه نسب إلى إلقائها وتعدى بوضعها فأشبه من بنى حائطه مائلا
فصل : وإن سلم ولده الصغير إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق فالضمان على عاقلة السابح لأنه سلمة إليه ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب إلى التفريط في حفظه وقال القاضي : قياس المذهب أن لا يضمنه لأنه فعل ماجرت العادة به لمصلحته فلم يضمن ما تلف به كما إذا ضرب المعلم الصبي ضربا معتادا فتلف به فأما الكبير إذا غرق فليس على السابح شيء إذا لم يفرط لأن الكبير في يد نفسه لا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره

فصول ضمان ما ينشأ عن الترويع
فصل : وإذا طلب إنسانا بسيف مشهور فهرب منه فتلف في هربه ضمنه سواء وقع من شاهق أو انخسف به سقف أو خر في بئر أو لقيه سبع فافترسه أو غرق في ماء أو احترق بالنار وسواء كان المطلوب صبيا أو كبيرا أعمى أو بصيرا عاقلا أ ومجنونا وقال الشافعي : لا يضمن البالغ العاقل البصير إلا أن يخسف به سقف فإن فيه وفي الصغير والمجنون والأعمى قولين لأنه هلك بفعل نفسه فل يضمنه الطالب كما لو لم يطلبه
ولنا أنه هلك بسبب عدوانه فضمنه كما لو حفر له بئرا أو نصب سكينا أو سم طعامه ووضعه في منزله وما ذكره يبطل بهذه الأصول ولأنه تسبب إلى إهلاكه فأشبه كا لو انخفست من تحته سقف أو كان صغيرا أو مجنونا وإن طلبه بشيء يخفيه به كالليث ونحوه فحكمه حكم ما لو طلبه بسيف مشهور لأنه في معناه
فصل : ولو شهر سيفا في وجه إنسان أو دلاه من شاهق فمات من روعته أو ذهب عقله فعليه ديته وإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله أو تغفل عاقلا فصاح به فأصابه ذلك فعليه ديته تحملها العاقلة فإن فعل ذلك عمدا فهو شبه عمد وإلا فهو خطأ ووافق الشافعي في الصبي وله في البالغ قولان ولنا أنه سبب إتلافه فضمنه كالصبي
فصل : وإن قدم إنسانا إلى هدف يرميه الناس فأصابه سهم من غير تعمد فضمانه على عاقلة الذي قدمه لأن الرامي كالحافر والذي قدمه كالدافع فكان الضمان على عاقلته وإن عمد الرامي رميه فالضمان عليه لأنه مباشر وذاك متسبب فأشبه الممسك والقاتل وإن لم يقدمه أحد فالضمان على الرامي وتحمله عاقلته إن كان خطأ لأنه قتله

فصل ضمان الجناية بشهادة الزور
فصل : وإن شهد رجلان على رجل بجرح أو قتل أو سرقة قد توجب القطع أو زنا يوجب الرجم أو الجلد ونحو ذلك فاقتص منه أو قطع بالسرقة أو حد فأفضى إلى تلفه ثم رجعا عن لاشهادة لزمهما ضمان ماتلف بشهادتهما كالشريكين في الفعل ويكون الضمان في مالهما لا تحمله عاقلتهما لأنها لا تحمل اعترفا وهذا يثبت باعترافهما
وقد روي عن علي رضي الله عنه أن شاهدين شهدا عنده على رجل بالسرقة فقطعه ثم أتيا بآخر فقالا : يا أمير المؤمنين ليس ذاك السارق إنما هذا هو السارق فأغرمهما دية الأول وقال : لو علت أنكما تعمدتما لقطعتكما ولم يقبل قولهما في الثاني وإن أكره رجل رجلا على قتل إنسان فقتله فصار الأمر إلى الدية فهي عليهما لأنهما كالشريكين ولهذا وجب القصاص عليهما ولو أكره رجل امرأة فزنى بها فحملت فماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب فعله وتحملها العاقلة إلا أن لا يثبت ذلك إلا باعترافه فتكون الدية عليه لأن العاقلة لا تحمل اعترافا

فصل حكم إسقاط الجنين بالفزع
فصل : إذا بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها فاسقطت جنينا ميتا ضمنه لما روي أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك افزعتها فألقته فقال عمر : أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك ولو فزعت المرأة فماتت لوجبت ديتها أيضا ووافق الشافعي في ضمان الجنين وقال : لا تضمن المرأة لأن ذلك ليس بسبب إلى هلاكها في العادة
ولنا أنها نفس هلكت بإرساله إليها فضمنها كجنينها أو نفس بسببه فغرمها كما لو ضربها فماتت وقوله : إنه ليس بسبب عادة قلنا : ليس كذلك فإنه سبب للإسقاط والإسقاط سبب الهلاك عادة ثم لا يتعين في الضمان كونه سببا معتادا فإن الضربة والضربتين بالسوط ليست سببا للهلاك في العادة ومتى أفضت إليه وجب الضمان وإن استعدى إنسان على امرأة فألقت جنينها أو ماتت فزعا فعلى عاقلة المستعدي الضمان إن كان ظالما لها وإن كانت هي الظالمة فأحضرها عند الحاكم فينبغي أن لا يضمنها لأنها سبب إحضارها بظلمها فلا يضمنها غيرها ولأنه استوفى حقه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ويضمن جنينها لأنه تلف بفعله فأشبه ما لو اقتص منها

فصل ضمان هلاك الرجل بأخذ آخر طعامه أو شرابه
فصل : ومن أخذ طعام إنسان أو شرابه في برية أو مكان لا يقدر فيه على طعام وشراب فهلك بذلك أو هلكت بهيمته فعليه ضمان ما تلف به لأنه سبب هلاكه وإن اضطر إلى طعام وشراب لغيره فطلبه منه فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحال فمات بذلك ضمنه المطلوب منه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بذلك ولأنه إذا اضطر إليه صار أحق به من هو في يده وله أخذه قهرا فإذا منعه إياه تسبب إلى هلاكه بمنعه ما يستحقه فلزمه ضمانه كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك وظاهر كلام أحمد أن الدية في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالبا وقال القاضي : تكون على عاقلته لأن هذا لا يوجب القصاص فيكون شبه العمد وإن لم يطلبه منه لم يضمنه لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل تسبب به إلى هلاكه وكذلك كل من رأى إنسانا في مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه وقد أساء وقال أبو الخطاب : قياس المسألة الأولى وجوب ضمانه لأنه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه فيضمنه كما لو منعه الطعام والشراب
ولنا أنه لم يهلكه ولم يكن سببا في هلاكه فلم يضمنه كما لو لم يعلم بحاله وقياس هذا على هذه المسألة غير صحيح لأنه في المسألة منعه منعا كان سببا في هلاكه فضمنه بفعله الذي تعدى به وههنا لم يفعل شيئا يكون سببا

فصل تعويض من ضرب أو أفزع
فصل : ومن ضرب إنسانا حتى أحدث فإن عثمان رضي الله عنه قضى فيه بثلث الدية وقال أحمد : لا أعرف شيئا يدفعه وبه قال إسحاق وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا شيء فيه لأن الدية إنما تجب لإتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جمال وليس ههنا شيء من ذلك وهذا هو القياس وإنما ذهب من ذهب إلى إيجاب الثلث لقضية عثمان لأنها في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافها فيكون إجماعا ولأن قضاء الصحابي بما يخالف القياس يدل على أنه توقيف وسواء كان الحدث ريحا أو غائطا أو بولا وكذلك الحكم فيما إذا أفزعه حتى أحدث

فصل الاختلاف في صفة القتيل
فصل : إذا ادعى القاتل أن المقتول كان عبدا أو ضرب ملفوفا فقده أو ألقى عليه حائطا أو ادعى أنه كان ميتا وأنكر وليه ذلك فالقول قول الولي مع يمينه وهذا احد قولي الشافعي وقال في الآخر : القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته وما ادعاه محتمل فلا يزول عن اليقين بالشك
ولنا أن الأصل حياة المجني عليه وحريته فيجب الحكم ببقائه كا لو قتل من كان مسلما وادعى أنه ارتد قبل قتله وبهذا يبطل ما ذكره وهكذا لو قتل في دار الإسلام إنسانا وادعى أنه كافرا وأنكر وليه فالقول قول الولي لأن الدار دار الإسلام ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها وإن قطع عضوا وادعى شلله أو قلع عينا وادعى عماها وأنكر الولي فالقول قول المجني عليه لأن الأصل السلامة وكذلك لو قطع ساعدا وادعى أنه لم يكن عليه كف أو قطع ساقا وادعى أنه لم يكن لها قدم وقال القاضي : إن اتفقا على أنه كان بصيرا فالقول قول المجني عليه وإلا فالقول قول الجاني وهذا مذهب الشافعي وكذلك على قياسه إذا اختلفا في شلل العضو لأن هذا مما لا يتعذر إقامة البينة عليه فإنه لا يخفى على أهله وجيرانه ومعاملته وصفة تحمل الشهادة عليه أنه كان يتبع الشخص بصرة ويتوقى ما يتوفاه البصير ويتجنب البئر وأشباهه في طريقه ويعدل في العطفات خلف من يطلبه
ولنا أن الأصل السلامة فكان القول قول من يدعيه كما لو اختلفا في إسلام المقتول وحياته وقولهم لا تتعذر إقامة البينة عليه قلنا : كذلك لا تتعذر إقامة البينة على ما يدعيه الجاني فإيجابها عليه أولى من إيجابها على من يشهد له الأصل ثم يبطل بسائر المواضع التي سلموها فإن قالوا ههنا ما ثبت أن الأصل وجود البصر قلنا : الظاهر يقوم مقام الأصل ولهذا رجحنا قول من يدعي حريته وإسلامه

فصل الزيادة في القصص
فصل : وإن زاد في القصاص من الجراح وقال : إنما حصلت الزيادة باضطرابه وأنكر المجني عليه ففيه وجهان : أحدهما : القول قول المقتص منه لأن الأصل عدم الاضطراب ووجوب الضمان والثاني : القول قول المتقص لأن الأصل براءة ذمته وما يدعيه محتمل والأول أصح فإن الجرح سبب وجوب الضمان وما يدعيه من الاضطراب المانع من ثبوت حكمه الأصل عدمه فالقول قول من ينفيه كما لو جرح رجلا وادعى أنه جرحه دفعا عن نفسه أو قتله وادعى أنه وجده مع أهله أو قتل بهيمة وادعى أنها صالت عليه

باب ديات الجراح
الجراح تتنوع نوعين : أحدهما : الشجاج وهي ما كان في راس أو وجه النوع الثاني : ما كان في سائر البدن وينقسم قسمين : أحدهما : قطع عضو والثاني : قطع لحم والمضمون في الآدمي ضربان : أحدهما : ما ذكرنا والثاني : تفويت منفعة كتفويت السمع والبصر والعقل

مسألة وفصل دية العضو الفريد والمتعدد في الجسم
مسألة : قال رحمه الله : ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية وما فيه شيئان ففي كل واحد منهما نصف الدية
وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في الإنسان منه إلا واحدا كاللسان والأنف والذكر والصلب ففيه دية كاملة لأن إتلافه إذهاب منفعة الجنس وإذهابها كإتلاف النفس وما فيه شيئان كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والمنخرين والشفتين والخصيتين والثديين والأليتين ففيهما الدية كاملة لأن في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس وفي إحداها نصف لأن في إتلافه إذهاب نصف منفعة الجنس وهذه الجملة مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وقد روي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب له في كتابه : وفي الأنف إذا أوعب جدعة الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية ] رواه النسائي وغيره ورواه ابن عبد البر وقال : كتاب عمرو بن حزم معروف عند الفقهاء وما فيه متفق عليه عند العلماء إلا قليلا
فصل : وما في الإنسان منه أربعة أشياء ففيها الدية وفي كل واحد منها ربع الدية وهو أجفان العينين وأهدابها وما فيه منه عشرة ففيها الدية وفي كل واحد منها عشرها وهي أصابع اليدين وأصابع الرجلين وما فيه منه ثلاثة أشياء ففيها الدية وفي الواحد ثلثها وهو المنخران والحاجز بينهما وعنه في المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة لأن المنخرين شيئان من جنس فكان فيهما الدية كالشفتين وليس في البدن شيء من جنس يزيد على الدية إلا الأسنان فإن في كل سن خمسا من الإبل فتزيد على الدية وقد روي أنه ليس فيها إلا الدية قياسا على سائر ما في البدن والصحيح الأول لأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسل ورد بإيجاب خس في كل سن فيجب العمل به وإن خالف القياس

مسألة وفصول دية العينين
مسألة : قال : وفي العينين الدية
أجمع أهل العلم على أن في العينين إذا أصيبتا خطأ الدية وفي العين الواحدة نصفها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : وفي العينين الدية ] ولأنه ليس في الجسد منهما إلا شيئان ففيهما الدية وفي إحداهما نصفها كسائر الأعضاء التي كذلك وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وفي العين الواحدة خمسون من الإبل ] رواه مالك في موطئه ولأن العينين من أعظم الجوارح نفعا وجمالا فكانت فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكونا صغيرتين أو كبيرتين أو مليحتين أو قبيحتين أو صحيحتين أو مريضتين أو حولاوين أو رمصتين فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم ينقص الدية وإن نقص البصر نقص من الدية بقدره وفي ذهاب البصر الدية لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر إحداهما نصف الدية كما لو أشل يدا واحدة وليس في إذهابهما بنفعها أكثر من دية اليدين
فصل : وإن جنى على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته وإن لم يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة فعليه ديته لأنه ذهب بسبب فعله وإن اختلفوا في ذهاب البصر رجع إلى اثنين عدلين مسلمين من أهل الخبرة لأن لهما طريقا إلى معرفة ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر ومعرفة بحالها بخلاف السمع وإن لم يوجد أهل الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بأن يوقف في عين الشمس ويقرب الشيء من عينه في أوقات غفلته فإن طرف عينه وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب وإلا حكم له وإذا علم ذهاب بصره وقال أهل الخبرة لا يرجى عوده وجبت الدية وإن قالوا يرجى عوده إلى مدة عينوها انتظر إليها ولم يعط الدية حتى تنقضي المدة فإن عاد البصر سقطت عن الجاني وإن لم يعد استقرت الدية وإن مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية سواء مات في المدة أو بعدها فإن ادعى الجاني عود بصره قبل موته وأنكر وارثه فالقول قول الوارث لأن الأصل معه وإن جاء أجنبي فقلع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص لأنه أذهب البصر فلم يعد وعلى الثاني حكومة لأنه أذهب عينا لا ضوء لها يرجى عودها وإن قال الأول عاد ضوؤها وأنكر الثاني فالقول قول المنكر لأن الأصل معه فإن صدق المجني عليه الأول سقط حقه عنه ولم يقبل قوله على الثاني وإن قال أهل الخبرة : يرجى عوده لكن لا نعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك إلى غير غاية يفضي إلى إسقاط موجب الجناية والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط وإن عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ نه لأنا تبينا أنه لم يكن واجبا
فصل : وإن جنى عليه فنقص ضوء عينيه ففي ذلك حكومة وإن ادعى نقص ضوئهما فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يعرف ذلك إلا من جهته وإن ذكر أن إحداهما نقصت عصبت المريضة وأطلقت الصحيحة ونصب له شخص فيباعد عنه فكلما قال رأيته فوصف لونه علم صدقه حتى تنتهي فإذا انتهت علم موضعها ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته ثم يدار الشخص إلى جانب آخر فيصنع به مثل ذلك ثم يعلمه عند المسافتين ويذرعان ويقابل بينهما فإن كانتا سواء فقد صدق وينظر كم بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما وإن اختلفت المسافتان فقد كذب وعلم أنه قصر مسافة رؤية المريضة ليكثر الواجب له فيردد حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال ابن المنذر : أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي رضي الله عنه أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه فعصبت الأخرى وفتحت الصحيحة وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو يبصر حتى انتهى بصره ثم خط عند ذلك ثم حول إلى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر
قال القاضي : وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة ويكثر إذا قربت وأمكن هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه أنهم إذا قالوا إن الرجل إذا كان يبصر إلى مائة ذراع ثم أراد أن يبصر إلى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا أبصر بالصحيحة إلى مائتين وأبصر بالعليلة إلى مائة علمنا أنه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلث ديتها وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل ما لا ينضبط فيه حكومة وإن جنى على عينيه فندرتا أو إذا حولتا أو أعمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فاعوجت والجناية على الصبي والمعتوه كالجناية على البالغ والعاقل وإنما يفترقان في أن البالغ خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما فإذا توجهت اليمين عليهما لم يحلفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
فصل : وفي عين الأعور دية كالة وبذلك قال الزهري و مالك و الليث و قتادة و إسحاق : وقال مسروق وعبد الله بن مغفل و النخعي و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي : فيها نصف الدية ل [ قوله عليه السلام : وفي العين خسون من الإبل ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وفي العينين الدية ] يقتضي أن لا يجب فيهما أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد أو اثنان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع عين أعور فو وجبت عليه دية لوجب فيهما دية ونصف ولأن ما ضمن نصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع ذهابه كالأذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله : وفي العين الواحدة نصف الدية لم يفرق
ولنا أن عمر وعثمان وعليا وابن عمر قضوا في عين الأعور بالدية ولم نعلم لهم في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن قلع عين الأعور تتضمن إذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطيفة ويعمل أعمال البصراء ويجوز أن يكون قاضيا وشاهدا ويجزىء في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن العوراء مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة كذا في العينين فإن قيل : فلو صح هذا لم يجب في ذهاب بصر إحدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص قلنا : لا يلزم من وجوب شيء من دية العينين نقص دية الثاني بدليل ما لو جنى عليهما فأحولتا أو عمشتا أو نقص ضؤوهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية كالذي ذكرنا
فصل : وإن قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة للصحيحة خطأ فليس عليه نصف الدية لا أعلم فيه مخالفا لأن ذلك هو الأصل وإن قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فلا قصاص عليه وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك في إحدى روايتيه وقال في الأخرى : عليه نصف الدية ولا قصاص وقال المخالفون في المسألة الأولى : له القصاص لقوله تعالى : { والعين بالعين } وإن اختار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره لم يجب فيها إلا نصف الدية فلم يجب عليه إلا نصفها كالعين الأخرى
ولنا أن عمر وعثمان قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان إجماعا
فصل : وإن قلع الأعور عيني صحيح العينين فليس عليه إلا دية عمدا كان أو خطأ وذكر القاضي أن قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما : في العين التي استحق بها قلع عين الأعور والأخرى : في الأخرى لأنها عين أعور
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في العينين الدية ] ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القاطع صحيحا ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنه وما ذكره القاضي لا يصح لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية قطع بقلع إحدى العينين قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لإجماع الصحابة عليها ففيما عدا موضع الإجماع العمل بهما والبقاء عليهما فإن كان قلعهما عمدا فاختار القصاص فليس له إلا قلع عينه لأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من إذهاب بصره وهذا مبني على ما تقدم من قضاء الصحابة ولأن عين الأعور تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص من العين ونصف الدية للعين الأخرى وهو قتضى الدليل والله أعلم

فصل دية العضو الذي ذهب مثيله
فصل : وإن قطع يد أقطع أو رجل الرجل فله نصف الدية أو القصاص من مثلها لأنه عضو أمكن القصاص من مثله فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع أذن من له أذن واحدة وعن أحمد رواية أخرى أن الأولى إن كانت قطعت ظلما وأخذ ديتها أو قطعت قصاصا ففيها نصف ديتها وإن قطعت في سبيل الله ففي الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه قلع عين الأعور والصحيح الأول لأن هذا أحد العضوين اللذين تحصل بهما منفعة الجنس لا يقوم مقام العضوين فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء وكما لو كانت الأولى أخذت قصاصا أو في غير سبيل الله ولا يصح القياس على عين الأعور لوجوه ثلاثة :
أحدها : أن عين الأعور حصل بها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا تفاوتا يسيرا بخلاف أقطع اليد والرجل
والثاني : أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة ذهاب الأولى وههنا اختلفا
الثالث : أن هذا التقدير والتعيين على هذا الوجه أمر لا يصار إليه بمجرد الرأي ولا توقيف فيه فصار إليه ولا نظير له فيقاس عليه والمصير إليه تحكيم بغير دليل فيجب اطراحه وإن قطعت أذن من قطعت أذنه أو منخر من قطع منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية رواية واحدة لأن منفعة كل أذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين

مسألة وفصل دية الأجفان
مسألة : قال : وفي الأشفار الأربعة الدية وفي كل واحد منها ربع الدية
يعني أجفان العينين وهي أربعة ففي جميعها الدية لأن فيها منفعة الجنس وفي كل واحد منها ربع الدية لأن كل ذي عدد تجب في جميعه الدية تجب في الواحد منها بحصته من الدية كاليدين والأصابع وبهذا قال الحسن و الشعبي و قتادة و أبو هاشم و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي وعن مالك في جفن العين وحجاجها الاجتهاد لأنه لم يعلم تقديره عن النبي صلى الله عليه و سلم والتقدير لا يثبت قياسا
ولنا أنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتحفظها وتقيها الحر والبرد وتكون كالغلق عليها يطبقه إذا شاء ويفتحه إذا شاء ولولاها لقبح منظره فوجبت فيها الدية كاليدين ولا نسلم أن التقدير لا يثبت قياسا فإذا ثبت هذا فإن في أحدها ربع الدية وحكي عن الشعبي أنه يجب في الأعلى ثلثا دية العين وفي الأسفل ثلثا لأنه أكثر نفعا
ولنا أن كل ذي عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كاليدين والأصابع وما ذكره يبطل باليمين مع اليسرى والأصابع وإن قلع العينين بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان تجب الدية بكل واحد منهما منفردا فوجبت بإتلافهما جملة ديتان كاليدين والرجلين وتجب الدية في اشفار عين الأعمى لأن ذهاب بصره عيب في غير الأجفان فلم يمنع وجوب الدية فيها كذهاب الشم لا يمنع وجوب الدية في الأنف
فصل : وتبي في أهداب العينين بمفردها الدية وهو الشعر الذي على الأجفان وفي كل واحد منها ربعها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : فيه حكومة
ولنا أن فيها جمالا ونفعا فإنها تقي العينين وترد عنهما وتحسن العين وتجملها فوجبت فيها الدية كالأجفان وإن قطع الأجفان بأهدابها لم يجب أكثر من دية لأن الشعر يزول لزوال الأجفان فلم تفرد بضمان كالأصابع إذا قطع اليد وهي عليها

مسألتان وفصول دية الأذنين والسمع
مسألة : قال : وفي الأذنين الدية
روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء و مجاهد و الحسن و قتادة و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي و مالك في إحدى الروايتين عنه وقال في الأخرى : فيهما حكومة لأن الشرع لم يرد بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس
ولنا أن في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي الأذنين الدية ] ولأن عمر وعليا قضيا فيهما بالدية فإن قيل فقد روي عن ابي بكر رضي الله عنه أنه قضى في الأذن بخمسة عشر بعيرا قلنا : لم يثبت ذلك قاله ابن المنذر ولأن ما كان في البدن منه عضوان كان فيهما الدية كاليدين وفي إحداهما نصف الدية بغير خلاف بين القائلين بوجوب الدية فيهما ولأن كل عضوين وجبت الدية فيهما وجب في أحدهما نصفها كاليدين وإن قطع بعض إحداهما وجب بقدر ما قطع من ديتها ففي نصفها نصف ديتها وفي ربعها ربعها وعلى هذا الحساب سواء قطع من أعلى الأذن أو أسفلها أو اختلف في الجمال أو لم يختلف كما أن الأسنان والأصابع تختلف في الجمال والمنفعة ودياتها سواء
وقد روي عن أحمد رحه الله في شحمة الأذن ثلث والمذهب الأول وتجب الدية في أذن الأصم لأن الصمم نقص في غير الأذن فلم يؤثر في ديتها كالعمى لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
فصل : فإن جنى على أذنه فاستحشف واستحشافها كشلل سائر الأعضاء ففيها حكومة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : في ذلك ديتها لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت بشلله كاليد والرجل
ولنا أن نفعها باق وبعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في صماخه وهذا باق بعد شللها فإن قطعها قاطع بعد استحشافها ففيها ديتها لأنه قطعه أذنا فيها جمالها ونفعها فوجبت ديتها كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمشاء أو حولاء
مسألة : قال : وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية
لا خلاف في هذا قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم أن في السمع الدية روي ذلك عن عمر وبه قال مجاهد و قتادة و الثوري و الأوزاعي و أهل الشام وأهل العراق و مالك و الشافعي و ابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافا لهم وقد روي عن معاذ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وفي السمع الدية ] وروى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى عمر بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بنفع فكان فيها الدية كالبصر وإن ذهب السمع من إحدى الأذنين وجب نصف الدية كما لو ذهب البصر من إحدى العينين وإن قطع أذنه فذهب سمعه وجبت ديتان لأن السمع في غيرهما فأشبه ما لو قلع أجفان عينيه فذهب بصره بخلاف العين إذا قلعت فذهب بصره فإن البصر في العين فأشبه البطش الذاهب بقطع اليد
فصل : وإن اختلفا في ذهاب سمعه فإنه يتغفل ويصاح به وينظر اضطرابه ويتأمل عند صوت الرعد والأصوات المزعجة فإن ظهر منه إنزعاج أو التفات أو ما يدل على السمع فالقول قول الجاني مع يمينه لأن ظهور الأمارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة المدعي وحلف لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقا وإن لم يوجد منه شيء من ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر أنه غير سميع وحلف لجواز ان يكون احترز وتصبر وإن ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى وتغفل على ما ذكرنا فإن ادعى نقصان السمع فيهما فلا طريق لنا إلى معرفة ذلك إلا من جهته فيحلفه الحاكم ويوجب حكومة وإن ادعى نقصه في إحداهما سددنا العليلة وأطلقنا الصحيحة واقمنا من يحدثه وهو يتباعد إلى حيث يقول إني لا أسمع فإذا قال إني لا أسمع غير عليه الصوت والكلام فإن بان أنه يسمع وإلا فقد كذب فإن انتهى إلى آخر سماعه قدر المسافة وسد الصحيحة وأطلقت المريضة وحدثه وهويتباعد حتى يقول إني لا أسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وإن لم تتغير صفته حلف وقبل قوله ومسحت المسافتان ونظر ما نقصت العليلة فوجب بقدره فإن قال : إني أسمع العالي ولا أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره فتجب فيه حكومة
فصل : فإن قال أهل الخبرة إنه يرجى عود سمعه إلى مدة انتزر إليها وإن لم يكن لذلك غاية لم ينتظر ومتى عاد السمع فإن كان قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعده ردت على ما قلنا في البصر

مسألة وفصول دية شعر الرأس والحاجبين واللحية
مسألة : قال : وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية وفي شعر اللحية الدية إذا لم ينبت وفي الحاجبين الدية إذا لم تنبت
هذه الشعور في كل واحد منها دية وذكر أصحابنا معها شعرا رابعا وهو أهداب العينين وقد ذكرناه قبل هذا ففي كل واحد منها دية وهذا قول أبي حنيفة و الثوري وممن أوجب في الحاجبين الدية سعيد بن المسيب و شريح و الحسن و قتادة وروي عن علي وزيد بن ثابت أنهما قالا في الشعر : فيه الدية وقال مالك و الشافعي : فيه حكومة واختاره ابن المنذر لإنه إتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب فيه الدية كاليد الشلاء والعين القائمة
ولنا أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصم وأنف الأخشم وما ذكروه ممنوع فإن الحاجب يرد العرق عن العين ويفرقه وهذب العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى أجفانها وينتقض ما ذكروه بالأصل الذي قسنا عليه ويفارق اليد الشلاء فإنه ليس جمالها كاملا
فصل : وفي أحد الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما الدية ففي أحدهما نصفها كاليدين وفي بعض ذلك أو ذهاب شيء من الشعور المذكورة من الدية بقسطه من ديته يقدر بالمساحة كالأذنين ومارن الأنف ولا فرق في هذه الشعور بين كونها كثيفة أو خفيفة أو جميلة أو قبيحة أو كونها من صغير أوكبير لأن سائر ما فيه الدية من الأعضاء لا يفترق الحال فيه بذلك وإن أبقى من لحيته ما لا جمال فيه أو من غيرها من الشعر ففيه وجهان
أحدهما : يؤخذ بالسقط لأنه محل يجب في بعضه بحصته فأشبه الأذن ومارن الأنف
والثاني : تجب الدية كاملة لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين ولأن جنايته ربما أحوجت إلى إذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل فتكون جنايته سببا لذهاب الكل فأوجبت ديته كما لو ذهب بسراية الفعل أو كما لو احتاج في دواء شجة الرأس إلى ما ذهب بضوء عينه
فصل : ولا تجب الدية في شيء من هذه الشعور إلا بذهابه على وجه لا يرجى عوده مثل أن يقلب على رأسه ماء حارا فتلف منبت الشعر فينقلع بالكلية بحيث لا يعود وإن رجب عوده إلى مدة انتظر إليها وإن عاد الشعر قبل أخذ الدية لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في ذهاب السمع والبصر فيما يرجى عوده وفيما لا يرجى
فصل : ولا قصاص في شيء من هذه الشعور لأن إتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو غير معلوم المقدار فلا تمكن المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه

مسألة وفصول دية الأنف وحاسة الشم
مسألة : قال : وفي المشام الدية
يعني الشم في إتلافه الدية لأنه حاسة تختص بمنفعة فكان فيها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في هذا خلافا قال القاضي في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وفي المشام الدية ] فإن ادعى ذهاب شمه اغتفلناه بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب وتنكر للمتن فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يبن منه ذلك فالقول قول المجني عليه كقولهم في اختلافهم في السمع وإن ادعى المجني عليه نقص شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته فقبل قوله فيه كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالأقراء ويجب له من الدية ما تخرجه الحكومة وإن ذهب شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعد أخذها ردها لأنا تبينا أنه لم يكن ذهب وإن رجى عود شمه إلى مدة انتظر إليها وإن ذهب شمه من أحد منخريه ففيه نصف الدية كما لو ذهب بصره من إحدى عينيه
فصل : وفي الأنف الدية إذا كان قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن عبد البر و ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية ] وفي رواية مالك في الموطأ : [ إذا ادعى جدعا ] يعني إذا استوعب واستؤصل ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة ليس في البدن منه إلا شيء واحد فكانت فيه الدية كاللسان وإنما الدية في مارنه وهو ما لان منه هكذا قال الخليل وغيره لأنه يروى عن طاوس أنه قال : كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية ] ولأن الذي يقطع فيه ذلك فانصرف الخبر إليه فإن قطع بعضه ففيه بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك منه كما قلنا في الأذنين وقد روي هذا عن عمر بن عبد العزيز و الشعبي و الشافعي وإن قطع أحد المنخرين ففيه ثلث الدية وفي المنخرين ثلثاها وفي الحاجز الثلث قال أحمد : في الوترة الثلث وفي الحرمة في كل واحد منهما الثلث وبهذا قال إسحاق وهو أحد وجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء من جنس فتوزعت الدية على عددها كسائر ما فيه عدد من جنس من اليدين والأصابع والأجفان الأربعة وحكى أبو الخطاب وجها آخر أن في المنخرين الدية وفي الحاجز بينهمت حكومة لقول أحمد : في كل زوجين من الإنسان الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث فأشبها اليدين ولأنه بقطع المنخرين أذهب الجمال كله ولا منفعة فأشبه قطع اليدين فعلى هذا الوجه في قطع أحد المنخرين نصف الدية وإن قطع معه الحاجز ففيه حكومة وإن قطع نصف الحاجز أو أقل أو أكثر لم يزد على حكومة وعلى الأول في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف الدية وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية وفي قطع جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من ثلث الدية يقدر بالمساحة فإن شق الحاجز بين المنخرين ففيه حكومة فإن بقي منفرجا فالحكومة فيه أكثر
فصل : وإن قطع المارن مع القصبة ففيه الدية في قياس المذهب وهذا مذهب مالك ويحتمل أن تجب الدية في المارن وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن وحده موجب للدية فوجبت الحكومة في الزائد كما لو قطع القصبة وحدها مع قطع لسانه
ولنا قوله عليه السلام : [ في الأنف إذا أوعب جدعا الدية ] ولأنه عصو واحد فلم يجب به أكثر من دية كالذكر إذا قطع من أصله وما ذكروه يبطل بهذا ويفارق إذا قطع لسانه وقصبته لأنهما عضوان فلا تدخل دية أحدهما في الآخر وأما العضو الواحد فلا يبعد أن يجب في جميعه ما يجب في بعضه كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وأصابع اليد يجب فيها ما يجب في اليد من الكوع وكذلك أصابع الرجل وفي الثدي كله ما في حلمته فأا إن قطع الأنف وما تحته من اللحم ففي اللحم حكومة لأنه ليس من الأنف فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته
فصل : فإن ضرب أنفه فأشله ففيه حكومة وإن قطعه قاطع بعد ذلك ففيه ديته كما قلنا في الأذن وقول الشافعي ههنا كقوله في الأذن على ما مضى شرحه وتبيانه وإن ضربه فعوجه أو غير لونه ففيه حكومة في قولهم جيمعا وفي قطعه بعد ذلك دية كاملة وإن قطعه إلا جلدة بقي معلقا بها فلم يلتحم واحتيج إلى قطعه ففيه دية لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة وباقيه بالتسبب فأشبه ما لو سرى قطع بعضه إلى قطع جميعه وإن رده فالتحم ففيه حكومة لأنه لم يبن وإن أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر : ليس فيه إلا حكومة كالتي قبلها وقال القاضي : فيه دية وهذا مذهب الشافعي لأنه أبان أنفه فلزمته ديته كما لو لم يلتحم ولأن ما أبين قد نجس فلزمه أن يبينه بعد التحامه ومن قال بقول أبي بكر منع نجاسته ووجوب إبانته لأن أجزاء الآدمي كجملته بدليل سائر الحيوانات وجملته طاهرة وكذلك أجزاؤه
فصل : وإن قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم في غير الأنف فلا تدخل دية أحدهما في الآخر كالسمع مع الأذن والبصر مع أجفان العينين والنطق مع الشفتين وإن قطع أنف الأخشم وجبت ديته لأن ذلك عيب في غير الأنف فأشبه ما ذكرنا

مسألة وفصلان دية الشفتين
مسألة : قال : وفي الشفتين الدية
لا خلاف بين أهل العلم أن في الشفتين الدية وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وفي الشفتين الدية ] ولأنهما عضوان ليس في البدن مثلهما فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنهما طبق على الفم تقيانه ما يؤذيه وتستران الأسنان وتردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام فإن فيهما بعض مخارج الحروف فتجب فيها الدية كاليدين والرجلين وظاهر المذهب أن في كل واحدة منهما نصف الدية وروي هذا عن ابي بكر وعلي رضي الله عنهما وإليه ذهب أكثر الفقهاء وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن في العليا ثلث الدية وفي السفلى الثلثين لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب و الزهري ولأن المنفعة بهما أعظم لأنها التي تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام والعليا ساكنة لا حركة فيها
ولنا قول ابي بكر وعلي رضي الله عنهما ولأن كل شيئين وجبت فيهما الدية وجب في أحدهما نصفها كسائر الأعضاء ولأن كل ذي عدد وجبت فيه الدية سوي بين جميعه فيها كالأصابع والأسنان ولا اعتبار بزيادة النفع بدليل ما ذكرنا من الأصل
فصل : فإن ضربهما فأشلهما وجبت ديتهما لأنه أتلف منفعتهما فوجبت ديتهما كما لو أشل يديه وإن تقلستا فلم تنطبقا على الأسنان أو استرختا فصارتا لا تنفصلان عن الأسنان ففيهما الدية لأنه عطل منفعتهما وجمالها وإن تقلستا بعض التقليص وبجت الحكومة لأن منافعهما لم تبطل بالكلية
فصل : حد الشفة السفلى من أسفل ما تجافى عن الأسنان واللثة مما ارتفع عن جلدة الذقن وحد العليا من فوق ما تجافى عن الأسنان واللثة إلى اتصاله بالمنخرين والحاجز وحدهما طولا طول الفم إلى حاشية الشدقين وليست حاشية الشدقين منهما

مسألة وفصول دية اللسان المتكلم به
مسألة : قال : وفي اللسان المتكلم به الدية
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الرأي وأصحاب الحديث وغيرهم وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي اللسان الدية ] ولأن فيه جمالا ومنفعة فأشبه الأنف [ فأما الجمال فقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الجمال فقال : وفي اللسان ] ويقال : جمال الرجل في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال : ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقضى به الحاجات وتتم العبادات في القراءة والذكر والشكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة على الحق المبين والصراط المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقليبه وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم الأعضاء نفعا وأتمها جمالا فإيجاب الدية في غيره تنبيه على إيجابها فيه وإنما تجب الدية في لسان الناطق فإن كان أخرس لم تجب فيه دية كاملة بغير خلاف لذهاب نفعه المقصود منه كاليد الشلاء والعين القائمة
فصل : وفي الكلام الدية فإذا جنى عليه فخرس وجبت ديته لأن كل ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته كاليد فأما إن جنى عليه فأذهب ذوقه فقال أبو الخطاب : فيه الدية لأن الذوق حاسة فأشبه الشم وقياس المذهب أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في أن لسان الأخرس لا تجب فيه الدية وقد نص أحمد رحمه الله على أن فيه ثلث الدية ولو وجب في الذوق لوجبت في ذهابه مع ذهاب اللسان بطريق الأولى واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال : قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه ومنهم من قال : لا نص له فيه ومنهم من قال : قد نص على أن في لسان الأخرس حكومة وإن ذهب الذوق بذهابه والصحيح إن شاء الله أنه لا دية فيه لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس لا تكمل الدية فيه إجماعا على أنها لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل بمنعته دونه كسائر الأعضاء ولا تفريع على هذا القول فأما على الأول فإذا ذهب ذوقه كله ففيه دية كاملة وإن نقص نقصا غير مقدر بأن يحس المذاق كله إلا أنه لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره نفصا لا يتقدر وإن كان نقصا يتقدر بأن لا يدرك بأحد المذاق الخمس وهي الحلاة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة ويدرك بالباقي ففيه خمس الدية وفي اثنتين خمساها وفي ثلاث ثلاثة أخماسها وإن لم يدرك بواحدة ونقص الباقي فعليه خمس الدية وحكومة لنقص الباقي وإن قطع لسان أخرس فذهب ذوقه ففيه الدية لإتلافه الذوق وإن جنى على لسان ناطق فأذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وإن قطعه فذهبا معا ففيه دية واحدة لأنهما يذهبان تبعا لذهابه فوجبت ديته دون ديتهما كما لو قتل إنسانا لم تجب إلا دية واحدة ولو ذهبت منافعه مع بقائه ففي كل منفعة دية
فصل : وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف العجم وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا فإن مخرجها اللام والألف فهما نقص من الحروف وجب من الدية بقدره لأن الكلام يتم بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها ولا فرق بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ويحتمل أن تقسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو دون حروف الحلق الستة الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا للسان تنقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعص أصحاب الشافعي وإن جنى على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأنه يقول درهم فصار يقول دلهم أو دعهم أو ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا لأنه أصل وإن لم يذهب شيء من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية لأن المنفعة باقية وإن جنى عليه جان آخر فاذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب ببصرها وإن أذهب الأول بعض الحروف وأذهب الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب إنسان بكلامه كله فإن كان مأيوسا من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم
فصل : إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل أن يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها وإن ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء وجب نصف الدية وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه
أحدها : عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام والثاني : عليه نصف الدية وحكومة للربع الأشل لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه جكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا الثالث : عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه
ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان الأول ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية فلأن تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب ثلاثة أرباع كلاه مع بقاء لسانه
فصل : وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه به فذهب من كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه ولا شيء في الزائد لأنه من سراية القود وسراية القود غير مضمونة وإن ذهب أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله
فصل : وإذا قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجب لأنه لسان لا كلام فيه فلم تجب فيه دية كلسان الأخرس
ولنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية كالكبير ويخالف الأخرس فإنه علم أنه أشل ألا ترى أن أعضاءه لا يبطش بها وتجب فيها الدية ؟ وإن بلغ حدا يتكلم مثله فلم يتكلم فقطع لسانه لم تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام ويجب فيه ما يجب في لسان الأخرس وإن كبر فنطق ببعض الحروف وجب فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا أنه كان ناطقا وإن كان قد بلغ إلى حد يتحرك بالبكاء وغيره فلم يتحرك فقطعه قاطع فلا دية فيه لأن الظاهر أنه لو كان صحيحا لتحرك وإن لم يبلغ إلى حد يتحرك ففيه الدية لأن الظاهر سلامته وإن قطع لسان كبير وادعى أنه كان أخرس ففيه مثل ما ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو المقطوع على ما ذكرناه فيما مضى
فصل : وإن جنى عليه فذهب كلامه أو ذوقه ثم عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو ذهب لم يعد وإن كان قد أخذ الدية ردها وإن قطع لسانه فعاد لم تجب الدية أيضا وإن كان قد أخذها ردها قاله أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد الدية لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص هذا بعوده يدل على أنه هبة مجددة
ولنا أنه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد الدية كالأسنان وسائر ما يعود وإن قطع إنسان نصف لسانه فذهب كلامه كله ثم قطع آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان باللسان قد ذهب ولم يعد إلى اللسان وإنما عاد في محل آخر بخلاف التي قبلها وإن قطع لسانه فذهب كلامه ثم عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه بانفراده وإن عاد كلامه دون لسانه لم يردها أيضا لذلك
فصل : وإذا كان للسانه طرفان فقطع أحدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام بمفرده يوجب الدية وإن ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر ما ذهب من الكلام وجب وإن كان أحدهما أكبر وجب الأكثر على ما مضى وإن لم يذهب من الكلام شيء وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان فهو خلقة زائدة وفيه حكومة وإن قطع جميع اللسان وجبت الدية من غير زيادة سواء كان الطرفان متساويين أو مختلفين وقال القاضي : إن كانا متساويين ففيهما الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان وجبت الدية وحكومة في الخلقة الزائدة
ولنا أن هذه الزيادة عيب ونقص يرد بها المبيع وينقص من ثمنه فلم يجب فيها شيء كالسلعة في اليد وربما عاد القولان إلى شيء واحد لأن الحكومة لا يخرج بها شيء إذا كانت الزيادة عيبا

مسألة وفصول جناية الأسنان والأضراس وفروع الدية فيها وفي اللحيين
مسألة : قال : وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد أثغر والأضراس والأنياب كالأسنان
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس ومعاوية و سعيد بن المسيب و عروة و عطاء و طاوس و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي حنيفة و محمد بن الحسن وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ في السن خمس من الإبل ] رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ في الإسنان خمس خمس ] رواه أبو داود فأما الأضراس والأنياب فأكثر أهل العلم على أنها مثل الأسنان ومنهم عروة و طاوس و قتادة و الزهري و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وروي ذلك عن ابن عباس ومعاوية وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الأضراس ببعير بعير وعن سعيد بن المسيب أنه قال : لو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء وروى ذلك مالك في موطئه وعن عطاء نحوه وحكي عن أحمد رواية في جميع الأسنان والأضراس الدية فيتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد للإجماع على أن في كل سن خمسا من الإبل وورد الحديث به فيكون في الأسنان ستون بعيرا لأن فيه اثني عشر سنا أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب فيها خمس خمس وفيه عشرون ضرسا في كل جانب عشرة خمسة من فوق وخمسة من أسفل فيكون فيها أربعون بعيرا في كل ضرس بعيران فتكمل الدية وحجة من قال هذا أنه ذو عدد يجب فيه الدية فلم تزد ديته على دية الإنسان كالأصابع والأجفان وسائر ما في البدن ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على الدية كسائر منافع الجنس ولأن الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال والأسنان فيها منفعة وجمال فاختلفا في الأرش
ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء ] وهذا نص وقوله في الأحاديث المتقدمة : [ في الأسنان خمس خمس ] ولم يفصل يدخل في عمومها الأضراس لأنها أسنان ولأن كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد دون المنافع كالأصابع والأجفان والشفتين وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال : لا اعتبرها بالأصابع فأما ما ذكروه من المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه فمن ذهب إلى قولنا خالف المعنى الذي ذكروه ومن ذهب إلى قولهم خالف التسوية الثابتة بقياس سائر الأعضاء من جنس واحد فكان ما ذكرناه مع موافقة الأخبار وقول أكثر أهل العلم أولى وأما على قول عمر إن في كل ضرس بعيرا فيخالف القياسين جميعا والأخبار فإنه لا يوجب الدية الكاملة وإنما يوجب ثمانين بعيرا ويخالف بين الأعضاء المتجانسة وإنما يجب هذا الضمان في سن من قد ثغر وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حدا إذا قلعت سنة لم يعد بدلها يقال ثغر وأثغر إذا كان كذلك فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها في الحال شيء وهذا قول مالك و الشافعي واصحاب الرأي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن العادة عود سنة فلم يجب فيها في الحال شيء كنتف شعره لكن ينتظر عودها فإن مضت مدة ييأس من عودها وجبت ديتها قال أحمد : يتوقف سنة لأنه الغالب في نباتها
وقال القاضي : إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وإن نبت مكانها أخرى لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله لكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة لأن الظاهر أن ذلك سبب الجناية عليها فإن أمكن تقدير نقصها عن نظيرتها ففيها من ديتها بقدر ما نقص وكذلك إن كانت فيها ثلمة أمكن تقديرها ففيها بقدر ما ذهب منها كما لو كسر من سنه ذلك القدر وإن نبتت أكبر من أخواتها ففيها حكومة لأن ذلك عيب وقيل فيها وجه آخر : لا شيء فيها لأن هذا زيادة والصحيح الأول لأن ذلك شين حصل بسبب الجناية فأشبه نقصها وإن نبتت مائلة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها ديتها لأن ذلك كذهابها وإن كانت ينتفع بها ففيها حكومة للشين الحاصل بها ونقص نفعها وإن نبتت صفراء أو حمراء أو متغيرة ففيها حكومة لنقص جمالها وإن نبتت سوادء أو خضراء ففيها روايتان حكاهما القاضي
إحداهما : فيها ديتها والثانية : فيها حكومة كما لو سودها من غير قلعها وإن مات الصبي قبل اليأس من عود سنة ففيه وجهان
أحدهما : لا شيء له لأن الظاهر أنه لو عاش لعادت فلم يجب فيها شيء كما لو نتف شعره
والثاني : فيها الدية لأنه قلع سنا وأيس من عودها فوجبت ديتها كما لو مضى زمن تعود في مثله فلم تعد وإن قلع سن من قد ثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر أنها لا تعود فإن عادت لم تجب الدية وإن كان قد أخذها ردها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك : لا يرد شيئا لأن العادة أنها لا تعود فمتى عادت كانت هبة من الله تعالى مجددة فلا يسقط بذلك ما وجب له بلقع سنه وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أنه عاد له في مكانها مثل التي قلعت فلم يجب له شيء كالذي لم يثغر وإن عادت ناقصة أو مشبوهة فحكمها حكم سن الصغير إذا عادت على ما ذكرنا ولو قلع سن من لم يثغر فمضت مدة ييأس من عودها وحكم بوجوب الدية فعادت بعد ذلك سقطت الدية وردت إن كانت أخذت كسن الكبير إذا عادت
فصل : وتجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنا وما في اللثة يسمى سنخا فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ حكومة كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه وإن قلعها الآخر بسنخها لم يجب فيها أكثر من ديتها كما لو قطع اليد من كوعها وإن فعل ذلك في مرتين فكسر السن ثم عاد فقطع السنخ فعليه ديتها وحكومة لأن ديتها وجبت بالأول ثم وجبت بالأول ثم وجب عليه بالثاني حكومة كما لو فعله غيره وكذلك لو قطع الأصابع ثم قطع الكف وإن كسر بعض الظاهر ففيه من دية السن بقدره وإن كان ذهب النصف وجب نصف الأرش وإن كان الذاهب الثلث وجب الثلث وإن جاء آخر فكسر بقيتها فعليه بقية الأرش فإن قلع الثاني بقيتها بسنخها نظرنا فإن كان الأول كسرها عرضا فليس على الثاني للسنخ شيء لأنه تابع لما قلعه من ظاهر السن فصار كما لو قطع الأول من كل أصبع من أصابعه أنملة ثم قطع الثاني يده من الكوع وإن كان الأول كسر نصف السن طولا دون سنخه فجاء الثاني فقطع الباقي بالسنخ كله فعليه دية النصف الباقي وحكومة لنصف السنخ الذي بقي لما كسره الأول كما لو قطع الأول أصبعين من يد ثم جاء الثاني فقطع الكف كله فإن اختلف الثاني والمجني عليه فيما قلعه الأول فالقول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة السن وإن انكشفت اللثة عن بعض السن فالدية في قدر الظاهر عادة من دون ما انكشف على خلاف العادة وإن اختلفا في قدر الظاهر اعتبر ذلك بأخواتها فإن لم يكن لها شيء يعتبر به ولم يمكن أن يعرف ذلك أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته
فصل : وإن قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط الطعام والريق وجبت ديتها وكذلك إن ذهب بعض منافعها وبقي بعضها لأن جمالها وبعض منافعها باق فكمل ديتها كاليد المريضة ويد الكبير وإن ذهبت منافعها كلها فهي كاليد الشلاء على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن قلع سنا فيها داء أو آكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها وجب فيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة وإن سقط من أجزائها شيء سقط من ديتها بقدر الذاهب منها ووجب الباقي وإن كان إحدى ثنيتيه قصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها كما لو نقصت بكسرها
فصل : فإن جنى على سنه جان فاضطربت وطالت على الأسنان وقيل إنها تعود إلى مدة ما كانت عليه انتظرت إليها فإن كان فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها وإن عادت كما كانت فلا شيء فيها كما لو جنى على يده فمرضت ثم برأت وإن بقي فيها اضطراب ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كاملة كما ذكرنا في الفصل الذي قبله وعلى الأول حكومة لجنايته وإن مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت عليه ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كما ذكرنا وإن قالوا : يرجى عودها من غير تقدير مدة وجبت الحكومة فيها لئلا يفضي إلى إهدار الجناية فإن عادت سقطت الحكومة لما ذكرنا في غيرها
فصل : فإن قلع قالع سنه فردها صاحبها فنبتت في موضعها لم تجب ديتها نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد وهذا قول أبي بكر وعلى قول القاضي تجب ديتها وهو مذهب الشافعي وقد ذكرنا توجيههما فيما إذا قطع أنفه فرده فالتحم فعلى قول أبي بكر يجب فيها حكومة لنقصها إن نقصت أو ضعفها إن ضعفت وإن قلعها قالع بعد ذلك وجبت ديتها لأنها سن ذات جمال ومنفعة فوجبت ديتها كما لو لم تنقطع وعلى قول القاضي ينبني حكمها على وجوب قلعها فإن قلنا يجب قلعها فلا شيء على قالعها لأنه قد أحسن بقلعه ما يجب قلعه وإن قلنا لا يجب قلعها احتمل أن يؤخذ بديتها لما ذكرنا واحتمل أن لا يؤخذ بديتها لأنه قد وجبت له ديتها مرة فلا تجب ثانية ولكن فيها حكومة فأما إن جعل مكانها سنا أخرى أو سن حيوان أو عظما فنبتت وجب ديتها وجها واحدا لأن سنه ذهبت بالكلية فوجبت ديتها كما لو لم يجعل مكانها شيئا وإن قلعت هذه الثانية لم تجب ديتها لأنها ليست سنا له ولا هي من بدنه ولكن يجب فيها حكومة لأنها جناية أزالت جماله ومنفعته فأشبه ما لو خاط جرحه بخيط فالتحم فقلع أسنان الخيط فانفتح الجرح وزال التحامه ويحتمل أن لا يجب شيء لأنه أزال ما ليس من بدنه أشبه ما لو قلع الأنف الذهب الذي جعله المجدوع مكان أنفه
فصل : وإن جنى على سنه فسودها فحكي عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان : إحداهما : تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي ويروى هذا عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين و شريح و الزهري وعبد الملك بن مروان و النخعي و مالك و الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة و الثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي
والرواية الثانية : عن أحمد أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهذا قول القاضي والقول الثاني لـ لشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرت
ولنا أنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف في الصحابة فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها كما لو قطع أذن الأصم وأنف الأخشم فأما إن اصفرت أو احمرت لم تكمل ديتها لأنه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة وإن اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه يذهب بجمالها واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة وإن اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه يذهب بجمالها واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة لأن ذهاب جمالها بتسويدها أكثر فلم يلحق به غيره كما لو حمرها فعلى قول من أوجب ديتها متى قلعت بعد تسويدها ففيها ثلث ديتها أو حكومة على ما سنذكره فيما بعد وعلى قول من لم يوجب فيها إلا حكومة يجب في قلعها ديتها كما لو صفرها
فصل : وإن جنى على سنه فذهبت حدتها وكلت في ذلك حكومة وعلى قالعها بعد ذلك دية كاملة لأنها سن صحيحة كاملة فكملت ديتها كالمضطربة وإن ذهب منها جزء ففي الذاهب بقدره وإن قلعها قالع نقص من ديتها بقدر ما ذهب كما لو كسر منها جزء
فصل : وفي اللحيين الدية وهما العظمان اللذن فيهما الأسنان السفلى لأن فيها نفعا أو جمالا وليس في البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما منه شيئان وفي أحدهما نصفها كالواحد مما في البدن منه شيئان وإن قلعهما بما عليهما من الأسنان وجبت عليه ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان في ديتهما كما تدخل دية الأصابع في دية الوجه لوجوه ثلاثة :
أحدها : أن الأسنان مغروزة في اللحيين غير متصلة بهما بخلاف الأصابع والثاني : أن كل واحد من اللحيين والأسنان ينفرد باسمه ولا يدخل أحدهما في اسم الآخر بخلاف الأصابع والكف فإن اسم اليد يشملهما والثالث : أن اللحيين توجدان قبل وجود الأسنان في الخلقة وتبقيان بعد ذهابها في حق الكبير ومن تقلعت أسنانه عادة بخلاف الأصابع والكف

مسألة وفصلين اليدان والدية فيهما
مسألة : قال : وفي اليدين الدية
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في اليدين ووجوب نصفها في إحداهما وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وفي اليدين الدية وفي الرجلين الدية ] وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي اليد خمسون من الإبل ] ولأن فيها جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة وليس في البدن من جنسهما غيرهما فكان فيهما الدية كالعينين واليد التي تجب فيها الدية من الكوع لأن اسم اليد عند الإطلاق ينصرف إليها بدليل أن الله تعالى لما قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } كان الواجب قطعهما من الكوع وكذلك التيمم يجب فيه مسح اليدين إلى الكوعين فإن قطع يده من فوق الكوع مثل أن يقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية اليدين إلى الكوعين فإن قطع يده من فوق الكوع مثل أن يقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية اليد نص عليه أحمد في رواية أبي طالب وهذا قول عطاء و قتادة و النخعي و ابن أبي ليلى و مالك وهو قول بعض أصحاب الشافعي وظاهر مذهبه عند أصحابه أنه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد لأن اسم اليد لها إلى الكوع ولأن المنفعة المقصودة في اليد من البطش والأخذ والدفع بالكف وما زاد تابع للكف والدية تجب في قطعها من الكوع بغير خلاف فتجب في الزائد حكومة كمالو قطعه بعد قطع الكف قال أبو الخطاب : وهذا قول القاضي
ولنا أن اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } ولما نزلت آية التيمم مسحت الصحابة إلى المناكب وقال ثعلب : اليد إلى المنكب وفي عرف الناس أن جميع ذلك يسمى يدا فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع إلا يدا فلا يلزمه أكثر من ديتها فأما قطعها في السرقة فلأن المقصود يحصل به قطع بعض الشيء يسمى قطعا له كما يقال قطع ثوبه إذا قطع جانبا منه وقولهم أن الدية تجب في قطعها من الكوع قلنا : وكذلك تجب بقطع الأصابع منفردة ولا يجب بقطعها من الكوع أكثر مما يجب في قطع الأصابع والذكر يجب في قطعه من أصله مثل ما يجب بقطع حشفته فأما إذا قطع اليد من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانيا حكومة لأنه وجبت عليه دية اليد بالقطع الأول فوجبت بالثاني حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو قطع حشفة الذكر ثم قطع بقيته أو كما لو فعل ذلك اثنان
فصل : فإن جنى عليها فأشلها وجبت عليها ديتها لأنه فوت منفعتها ديتها كمالو أعمى عينه مع بقائها أو أخرس لسانه وإن جنى على يده فعوجها أو نقص قوتها أو شانها فعليه حكومة لنقصها وإن كسرها ثم انجبرت مستقيمة وجبت حكومة لشينها إن شانها ذلك وإن عادت معوجة فالحكومة أكثر لأن شينها أكثر وإن قال الجاني : أنا أكسرها ثم أجبرها مستقيمة لم يمكن من ذلك لأنها جناية ثانية فإن كسرها تعديا ثم جبرها فاستقامت لم يسقط ما وجب من الحكومة في اعوجاجها لأن ذلك استقر حين انجبرت عوجاء وهذه جناية ثانية والجبر الثاني لها دون الأولى ولا يشبه هذا ما إذا ذهب ضوء عينه ثم عاد لأننا تبينا أن الضوء لم يذهب وإنما حال دونه حائل وههنا بخلافه وتجب الحكومة في الكسر الثاني لأنها جناية ثانية ويحتمل أن لا تجب لأنه أزال ضرر العوج منها فكان نفعا فأشبه ما لو جنى عيه بقطع سلعة أزالها عنه
فصل : فإن كان له كفان في ذراع أو يدان على عضد وإحداهما باطشة دون الأخرى أو إحداهما أكثر بطشا أو في سمت الذارع والأخرى منحرفة عنه أو إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالأولى هي الأصلية والأخرى زائدة ففي الأصلية ديتها والقصاص بقطعها عمدا والأخرى زائدة فيها حكومة سواء قطعها مفردة أو قطعها مع الأصلية وعلى قول ابن حامد : لا شيء فيها لأنها عيب فهي كالسلعة في اليد وإن استويا فيهما فهما كاليد الشلاء وإن كانتا باطشتين ففيهما جميعا دية اليد وهل تجب حكومة مع ذلك ؟ على وجهين بناء على الزائدة هل فيها حكومة أم لا ؟ وإن قطع إحداهما فلا قود لاحتمال أن تكون هي الزائدة فلا تقطع الأصلية بها وفيها نصف ما فيهما إذا قطعتا لتساويهما وإن قطع أصبعا من إحداهما وجب أرش نصف أصبع وفي الحكومة وجهان وإن قطع ذو اليد التي لها طرفان يدا مفردة وجب القصاص فيهما عى قول ابن حامد لأن هذا نقص لا يمنع القصاص كالسلعة في اليد وعلى قول غيره : لا يجب لئلا يأخذ يدين بيد واحدة ولا تقطع إحداهما لأنا لا نعرف الأصلية فنأخذها ولا نأخذ زائدة باصلية فأما إن كان له قدمان في رجل واحد فالحكم على ما ذكرناه في اليدين فإن كانت إحدى القدمين أطول من الأخرى وكان الطويل مساويا للرجل الأخرى فهو الأصلي وإن كان زائدا عنها والآخر مساو للرجل الأخر فهو الأصلي وإن كان له في كل رجل قدمان يمكنه المشي على الطويلتين مشيا مستقيما فهما الأصليان وإن لم يمكنه فقطعا وأمكنه المشي على القصيرين فهما الأصليان والآخران زائدان وإن أشل الطويلتين ففيهما الدية لأن الظاهر أنهما الأصليان فإن قطعهما قاطع فأمكنه المشي على القصيرين تبين أنهما الأصليان وإن لم يمكنه فالطويلان هما الأصليان

مسألة وفصل الدية في الثديين من رجل كانا أو امرأة
مسألة : قال : وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة
أما ثديا المرأة ففيهما ديتهما لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وفي الواحد منهما نصف الدية قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية وفي الثديين الدية وممن حفظنا ذلك عنه الحسن و الشعبي و الزهري و مكحول و قتادة و الثوري و الشافعي واصحاب الرأي ولأن فيهما جمالا ومنفعة فأشبها اليدين والرجلين وفي أحدهما نصف الدية لأن كل عضوين وجبت الدية فيهما وجب في أحدهما نصفها كاليدين وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما نص عليه أحمد رحمه الله وروى نحو هذا الشعبي و النخعي و الشافعي وقال مالك و الثوري إن ذهب اللبن وجبت ديتهما وإلا وجبت حكومة بقدر شينه ونحوه قال قتادة : إذا ذهب الرضاع بقطعهما ففيهما الدية
ولنا أنه ذهب منهما ما تذهب المنفعة بذهابه فوجبت ديتهما كالأصابع مع الكف وحشفة الذكر وبيان ذهاب المنفعة أن بهما يشرب الصبي ويرتضع فهما كالأصابع في الكف وإن قطع الثديين كليهما فليس فيهما إلا دية كما لو قطع الذكر كله وإن حصل مع قطعهما جائفة وجب فيهما ثلث الدية مع ديتهما وإن حصل جائفتان وجبت دية وثلثان وإن ضربهما فأشلهما ففيهما الدية كما لو أشل يديه وإن جنى عليهما فأذهب لبنهما من غير أن يشلهما فقال أصحابنا : فيهما حكومة وهذا قول أصحاب الشافعي ويحتمل أن تجب ديتهما لأنه ذهب بنفعهما فأشبه ما لو أشلهما وهذا ظاهر قول مالك و الثوري و قتادة وإن جنى عليهما من صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا إن الجناية سبب قطع اللبن فعليه ما على من ذهب باللبن بعد وجوده وإن قالوا ينقطع بغير الجناية لم يجب عليه أرشه لأن الأصل براءة ذمته فلا يجب فيها شيء بالشك وإن جنى عليهما فنقص لبنهما أو جنى على ثديين ناهدين فكسرهما أو صار بهما مرض ففيه حكومة لنقصه الذي نقصهما
فصل : فأما ثديا الرجل وهما التندوتان ففيهما الدية وبهذا قال إسحاق وحكي ذلك قولا لـ لشافعي وقال النخعي و مالك وأصحاب الرأي و ابن المنذر : فيهما حكومة وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه ذهب بالجمال من غير منفعة فلم تجب الدية كما لو أتلف العين القائمة واليد الشلاء وقال الزهري : في حلمة الرجل خمس من الإبل وعن زيد بن ثابت : فيه ثمن الدية
ولنا أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما عضوان في البدن يحصل بهما الجمال ليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كاليدين ولأنه أذهب الجمال فوجبت الدية كالشعور الأربعة عند أبي حنيفة وكأذني الأصم وأنف الأخشم عند الجميع ويفارق العين القائمة لأنه ليس فيها جمال كامل ولأنها عضو قد ذهب منه ما تجب فيه الدية فلم تكمل ديته كاليدين إذا شلتا بخلاف مسألتنا

مسألة وفصل وفي الإليتين الدية وفي الصلب إذا كسر
مسألة : قال : وفي الأليتين الدية
قال ابن المنذر : كل من نحفظ من أهل العل يقولون في الأليتين الدية وفي كل واحدة منهما نصفها منهم عمرو بن شعيب و النخعي و الشافعي واصحاب الرأي ولأنهما عضوان من جنس فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنه يجلس عليهما كالوسادتين فوجب فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين والأليتان هما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذي تحتهما وفي ذهاب بعضهما بقدره لأن ما وجبت الدية فيه وجب في بعضه بقدره فإن جهل المقدار وجبت جكومة لأنه نقص لم يعرف قدره
فصل : وفي الصلب الدية إذا كسر فلم ينجبر لما [ روي في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : وفي الصلب الدية ] وعن سعيد بن المسيب أنه قال : مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه و سلم وممن قال بذلك زيد بن ثابت و عطاء و الحسن و الزهري و مالك وقال القاضي وأصحاب الشافعي : ليس في كسر الصلب دية إلا أن يذهب مشيه أو جماعة فتجب الدية لتلك المنفعة لأنه عضو ولم تذهب منفعته فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء
ولنا الخبر ولأنه عضو ليس في البدن مثله فيه جمال ومنفعة فوجبت الدية فيه بمفرده كالأنف وإن ذهب مشيه بكسر صلبه ففيه الدية في قول الجميع ولا يجب أكثر من دية لأنها منفعة تلزم كسر الصلب غالبا فأشبه ما لو قطع رجليه وإن لم يذهب مشيه لكن ذهب جماعة ففيه الدية أيضا روي ذلك عن علي رضي الله عنه لأنه نفع مقصود فأشبه ذهاب مشيه وإن ذهب جماعة ومشيه وجبت ديتان في ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابنه عبد الله لأنهما منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة منهما منفردة فإذا اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب فيها أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه وإن جبر صلبه فعادت إحدى المنفعتين دون الأخرى لم يجب إلا دية إلا أن تنقص الأخرى فتجب حكومة لنقصها أو تنقص من جهة أخرى فيكون فيه حكومة لذلك وإن ادعى ذهاب جماعه وقال رجلان من أهل الخبرة : إن مثل هذه الجناية يذهب بالجماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته وإن كسر صلبه فشل ذكره اقتضى كلام أحمد وجوب ديتين لكسر الصلب واحدة وللذكر أخرى وفي قول القاضي ومذهب الشافعي يجب في الذكر دية وحكومة لكسر الصلب وإن أشل رجليه ففيهما دية أيضا وإن أذهب ماءه دون جماعة احتمل وجوب الدية وهذا يروى عن مجاهد قال بعض أصحاب الشافعي : هو الذي يقتضيه مذهب الشافعي لأنه ذهب بمنفعة مقصوده فوجبت الدية كما لو ذهب بجماعة أو كما لو قطع أنثييه أو رضهما ويحتمل أن لا تجب الدية كاملة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها

مسألة وفي الذكر الدية
مسألة : قال : وفي الذكر الدية
أجمع أهل العلم على أن في الذكر الدية وفي [ كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : وفي الذكر الدية ] ولأنه عضو واحد فيه الجمال والمنفعة فكملت فيه الدية كالأنف واللسان وفي شلله ديته لأنه ذهب بنفعه أشبه ما لو أشل لسانه وتجب الدية في ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب سواء قدر على الجماع أو لم يقدر فأما ذكر العنين فأكثر أهل العلم على وجوب الدية لعموم الحديث ولأنه غير مأيوس من جماعة وهو عضو سليم في نفسه فكملت ديته كذكر الشيخ وذكر القاضي فيه عن أحمد روايتين :
إحداهما : تجب فيه الدية لذلك والثانية : لا تكمل ديته وهو مذهب قتادة لأن منفعته الإنزال والإحبال والجماع وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل وبهذا فارق ذكر الصبي والشيخ واختلفت الرواية في ذكر الخصي فعنه فيه دية كاملة وهو قول سعيد بن عبد العزيز ة الشافعي و ابن المنذر للخبر ولأن منفعة الذكر الجماع وهو باق فيه والثانية : لا تجب فيه وهو قول مالك و الثوري واصحاب الرأي و قتادة و إسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين ولأن المقصود منه تحصيل النسل ولا يوجد ذلك منه فلم يكمل ديته كالأشل والجماع يذهب في الغالب بدليل أن البهائم يذهب جماعها بخصائها والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصي أن الجماع في ذكر العنين أبعد منه في ذكر الخصي واليأس من الإنزال متحقق في ذكر الخصي دون ذكر العنين فعلى قولنا : لا تكمل الدية في ذكر الخصي إن قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين لزمته ديتان فإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لم يلزمه إلا دية واحدة في الأنثيين وفي الذكر حكومة لأنه ذكر خصي قال القاضي : ونص أحمد على هذا وإن قطع نصف الذكر بالطول ففيه نصف الدية ذكره أصحابنا والأولى أن تجب الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع به فكلمت ديته كما لو أشله أو كسر صلبه فذهب جماعه وإن قطع قطعة منه دون الحشفة وكان البول يخرج على ما كان عليه وجب بقدر القطعة من جميع الذكر من الدية وإن خرج البول من موضع القطع وجب الأكثر من حصة القطعة من الدية أو الحكومة وإن ثقب ذكره فيما دون الحشفة فصار البول يخرج من الثقب ففيه حكومة لذلك

مسألة وفي الأنثيين الدية
مسألة : قال : وفي الأنثيين الدية
لا نعلم في هذا خلافا وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي البيضتين الدية ] ولأن فيهما الجمال والمنفعة فإن النسل يكون بهما فكانت فيهما الدية كاليدين وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال : مضت السنة أن في الصلب الدية وفي الأنثيين الدية وفي إحداهما نصف الدية في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعيد بن المسيب أن في اليسرى ثلثي وفي اليمنى ثلثها لأن نفع اليسرى أكثر لأن النسل يكون بها
ولنا أن ما وجبت الدية في شيئين منه وجب في أحدهما نصفها كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما ذو عدد تجب فيه الدية فاستوت ديتهما كالأصابع وما ذكروه ينتقض بالأصابع والأجفان تستوي دياتها مع اختلاف نفعها ثم يحتاج إلى إثبات ذلك الذي ذكره وإن رض أنثييه أو أشلهما كما ديتهما كما لو أشل يديه أو ذكره فإن قطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من دية لأن ذلك نفعهما فلم تزدد الدية بذهابه معهما كالبصر مع ذهاب العينين والبطش مع ذهاب الرجلين وإن قطع إحداهما فذهب النسل لم يجب أكثر من نصف الدية لأن ذهابه غير متحقق

مسألة وفصل الدية في الرجلين
مسألة : قال : وفي الرجلين الدية
أجمع أهل العلم على أن في الرجلين الدية وفي إحداهما نصفها روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال قتادة و مالك وأهل المدينة و الثوري و أهل العراق و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقد ذكرنا الحديث والمعنى فيما تقدم وفي تفصيلها مثل ما ذكرنا من التفصيل في اليدين سواء ومفصل الكعبين ههنا مثل مفصل الكوعين في اليدين
فصل : وفي قدم الأعرج ويد الأعسم الدية لأن العرج لمعنى في غير القدم والعسم الإعوجاج في الرسغ وليس ذلك عيبا في قدم ولا كف فلم يمنع ذلك كال الدية فيهما وذكر أبو بكر أن في كل واحدة منهما ثلث الدية كاليد الشلاء ولا يصح لأن هذين لم تبطل منفعتهما فلم تنقص ديتهما بخلاف اليد الشلاء

مسألة وفصل اصبع اليدين والرجلين والأصبع الزائدة
مسألة : قال : وفي كل أصبع من اليدين والرجلين عشر من الإبل وفي كل أنملة منها ثلث عقلها إلا الإبهام فإنها مفصلان ففي كل مفصل منها خمس من الإبل
هذا قول عامة أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وبه قال مسروق و عروة و مكحول و الشعبي وعبد الله ابن معقل و الثوري و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبوثور وأصحاب الرأي وأصحاب الحديث ولا نعلم فيه مخالفا إلا رواية عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلث غرة وفي التي تليها باثنتي عشرة وفي الوسطى بعشر وفي التي تليها بتسع وفي الخنصر بست وروي عنه أنه لما أخبر بكتاب كتبه النبي صلى الله عليه و سلم لآل حزم وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل أخذ به وترك قوله الأول وعن مجاهد في الإبهام خمس عشرة وفي التي تليها ثلاث عشرة وفي التي تليها عشر وفي التي تليها ثمان وفي التي تليها سبع
ولنا ما روى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع ] أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح رواه أبو داود عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذه وهذه سواء ] يعني الإبهام والخنصر أخرجه البخاري و أبو داود وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل ] ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فكان سواء في الدية كالأسنان والأجفان وسائر الأعضاء ودية كل أصبع مقسومة على أناملها وفي كل أصبع ثلاث أنامل إلا الإبهام فإنها أنملتان ففي كل أنملة من غير الإبهام ثلث عقل الإبهام ثلاثة أبعرة وثلث وفي كل أنملة من الإبهام خمس من الإبل نصف ديتها وحكي عن مالك أنه قال : الإبهام أيضا ثلاث أنامل إحداها باطنة وليس هذا بصحيح فإن الاعتبار بالظاهر فإن قوله عليه السلام : [ في كل أصبع عشر من الإبل ] يقتضي وجوب العشر في الظاهر لأنها هي الأصبع التي يقع عليها الإسم دون ما بطن منها كما أن السن التي يتعلق بها وجوب ديتها هي الظاهرة من لحم اللثة دون سنخها والحكم في أصابع اليدين والرجلين سواء لعموم الخبر فيهما وحصول الإتفاق عليهما
فصل : وفي الأصبع الزائدة حكومة وبذلك قال الثوري و الشافعي واصحاب الرأي وعن زيد بن ثابت أن فيها ثلث دية الأصبع وذكر القاضي أنه قياس المذهب على رواية إيجاب الثلث في اليد الشلاء والأول أصح لأن التقدير لا يصار إليه إلا بالتوقيف أو بمماثلته لما فيه توقيف وليس ذلك ههنا لأن اليد الشلاء يحصل بها الجمال والأصبع الزائدة لا جمال فيها في الغالب ولأن جمال اليد الشلاء لا يكاد يختلف والأصبع الزائدة تختلف باختلاف محالها وصفتها وحسنها وقبحها فكيف يصح قياسها على اليد ؟

مسألتان وفصلان وفي البطن الدية وفي ذهاب العقل
مسألة : قال : وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية
وبهذا قال ابن جريج و أبو ثور و أبو حنيفة ولم أعلم فيه مخالفا إلا أن ابن أبي موسى ذكر في المثانة رواية أخرى فيها ثلث الدية والصحيح الأول لأن كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة ليس في البدن مثله فوجب في تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء المذكورة فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها والنفع بهما كثير والضرر بفواتهما عظيم فكان في كل واحدة منهما الدية كالسمع والبصر وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجاني ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة
مسألة : قال : وفي ذهاب العقل الدية
لا نعلم في هذا خلافا وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي العقل الدية ] ولأنه أكبر المعاني قدرا وأعظم الحواس نفعا فإن به يتميز من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس فإن نقص عقله نقصا معلوما مثل أن صار يجن يوما ويفيق يوما فعليه من الدية بقدر ذلك لأن ما وجب فيه الدية وجب بعضها في بعضه بقدره كالأصابع وإن لم يعلم مثل أن صار مدهوشا أو يفزع مما لا يفزع منه ويستوحش إذا خلا فهذا لا يمكن تقديره فتجب فيه حكومة
فصل : فإن أذهب عقله بجناية لا توجب أرشا كاللطمة والتخويف ونحو ذلك ففيه الدية لا غير وإن اذهبه بجناية توجب أرشا كالجراح أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح وبهذا قال مالك و الشافعي في الجديد وقال أبو حنيفة و الشافعي في القديم : يدخل الأقل منهما في الأكثر فإن كانت الدية أكثر من أرش الجرح وجبت وحدها وإن كان أرش الجرح أكثر كأن قطع يديه ورجليه فذهب عقله وجبت دية الجرح ودخلت دية العقل فيه لأن ذهاب العقل تختل معه منافع الأعضاء فدخل أرشها فيه كالموت
ولنا أن هذه جناية أذهبت منفعة من غير محلها مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرشان كما لو اوضحه فذهب بصره أو سعه ولأنه لو جنى على أذنه أو أنفه فذهب سمعه أو شمه لم يدخل أرشهما في دية الأنف والأذن مع قربهما منهما فههنا أولى وما ذكروه لا يصح لأنه لو دخل أرش الجرح في دية العقل لم يجب ارشه إذا زاد على دية العقل كما أن دية الأعضاء كلها مع القتل لا يجب بها أكثر من دية النفس ولا يصح قولهم إن منافع الأعضاء تبطل بذهاب العقل فإن المجنون تضمن منافعه وأعضاؤه بعد ذهاب عقله بما تضمن به منافع الصحيح وأعضاؤه ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تضمن كما لا تضمن منافع الميت وأعضاؤه وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه جاز ضمانها مع الجناية عليه كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره بجراحة في غير محلها
فصل : فإن جنى عليه فأذهب عقله وسمعه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح قال أبو قلابة : رمى رجل رجلا بحجر فذهب عقله وبصره وسمعه ولسانه فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو حي ولأنه أذهب منافع في كل واحدة منها دية فوجب عليه دياتها كما لو أذهبها بجنايات فإن مات من الجناية لم يجب إلا دية واحدة لأن ديات المنافع كلها تدخل في دية النفس كديات الأعضاء

مسألة وفصل وفي الصعر الدية
مسألة : قال : وفي الصعر الدية والصعر أن يضربه فيصير وجهه في جانب
أصل الصعر داء يأخذ البعير في عتقه فيلتوي عنقه وقول الله تعالى : { ولا تصعر خدك للناس } أي لا تعرض عنه بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير الذي به الصعر فن جنى على إنسان جناية فعوج عنقه حتى صار وجهه في جانب فعليه دية كاملة روي ذلك عن زيد بن ثابت وقال الشافعي : ليس فيه إلا حكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة
ولنا ما روى مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال : وفي الصعر الدية ولم يعرف له في الصحابة مخالف فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت فيه دية كاملة كسائر المنافع وقولهم : لم يذهب يمنفعته غير صحيح فإنه لا يقدر على النظر أامه واتقاء ما يحذره إذا مشى وإذا نابه أمر أو دهمه عدو لم يمكنه به ولا اتقاؤه ولا يمكنه لي عنقه ليعرف ما يريده نظره ويتعرف ما ينفعه ويضره
فصل : فإن جنى عليه فصار الالتفات عليه شاقا أو ابتلاع الماء أو غيره ففيه حكومة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها ولا يمكن تقديرها وإن صار بحيث لا يمكنه ازدراد ريقه فهذا لا يكاد يبقى فإن بقي مع ذلك ففيه الدية لأنه تفويت منفعة ليس لها مثل في البدن

مسالة وفصلدية اليد الشلاء والعين القائمة والسن السوداء
مسألة : قال : وفي اليد الشلاء ثلث ديتها وكذلك العين القائمة والسن السوداء
اليد الشلاء التي ذهب منها منفعة البطش والعين القائمة التي ذهب بصرها وصورتها باقية كصورة الصحيحة واختلفت الرواية عن أحمد فيهما وفي السن السوداء فعنه : في كل واحدة ثلث ديتها وروي هذا عن أبي الخطاب و مجاهد وبه قال إسحاق وعن زيد بن ثابت : في العين القائمة مائة دينار والرواية الثالثة عن أحمد في كل واحدة حكومة وهذا قول مسروق و الزهري و مالك و الشافعي و أبي ثور و النعمان و ابن المنذر لأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها فتجب الحكومة فيها كاليد الزائدة
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت ثلث ديتها ] رواه النسائي وأخرجه أبو داود في العين وحدها مختصرا وقول عمر رضي الله عنه رواه قتادة عن خلاس عن عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قضي في العين القائمة إذا خسفت واليد الشلاء إذا قطعت والسن السوداء إذا كسرت ثلث دية كل واحدة منهن ولأنها كاملة الصورة فكانت فيها مقدر كالصحيحة وقولهم : لا يمكن إيجاب مقدر ممنوع فإنا قد ذكرنا التقدير وبيناه
فصل : قال القاضي : قول احمد رحمه الله في السن السوداء ثلث ديتها محمول على سن ذهبت منفعتها بحيث لا يمكنه أن يعض بها الأشياء أو كانت تفتت فأما إن كانت منفعتها باقية ولم يذهب منها إلا لونها ففيها كمال ديتها سواء قلت منفعتها بأن عجز عن عض الأشياء الصلبة بها أو لم يعجز لأنها باقية المنفعة فكملت ديتها كسائر الأعضاء وليس على من سوادها إلا حكومة وهذا مذهب الشافعي والصحيح من مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه لظاهر الأخبار وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقول أكثر أهل العلم ولأنه ذهب جمالها بتسويدها فكملت ديتها على من سودها كما لو سود وجهه ولم يجب على متلفها أكثر من ثلث ديتها كاليد الشلاء وكالسن إذا كانا بيضاء فانقلعت ونبت مكانها لمرض فيها فإن القاضي وأصحاب الشافعي سلموا أنها لا تكمل ديتها

مسألة وفصول في الأسنان واللسان والأيدي وذكر واسكتي المرأة وركبها
فصل : فإن نبتت أسنان صبي سوداء ثم ثغر ثم عادت سوداء فديتها تامة لأن هذا جنس خلق على هذه الصورة فأشبه من خلق أسود الجسم والوجه جميعا وإن نبتت أولا بيضاء ثم ثغر عادت سوداء سئل أهل الخبرة فإن قالوا : ليس السوداء لعلة ولا مرض ففيها أيضا كمال ديتها وإن قالوا ذلك لمرض فعلى قالعها ثلث ديتها أو حكومة وقد سلم القاضي وأصحاب الشافعي الحكم في هذه الصورة وهو حجة عليهم فيما خالفوا فيه ويحتمل أن يكون الحكم فيما كانت سوداء من ابتداء الخلقة هكذا لأن المرض قد يكون في فيه من ابتداء خلقته فيثبت حكمه في بعض ديتها كما لو كان طارئا
فصل : وفي لسان الأخرس روايتان أيضا كالروايتين في اليد الشلاء وكذلك كل عضو ذهبت منفعته وبقيت صورته كالرجل الشلاء والأصبع والذكر إذا كان أشل وذكر الخصي والعنين إذا قلنا : لا تكمل ديتهما واشباه هذا فكله يخرج على الروايتين إحداهما : في ثلث ديته والأخرى حكومة
فصل : فأما اليد أو الرجل أو الأصبع أو السن الزوائد ونحو ذلك فليس فيه إلا حكومة وقال القاضي : هذا في معنى اليد الشلاء فتكون على قياسها يخرج على الروايتين والذي ذكرناه أصح لأنه لا تقدير في هذا ولا هو في معنى القدر ولا يصح قياس هذا على ذهبت منفعته وبقي جماله لأن هذه الزوائد لا جمال فيها إنما هي شين في الخلقة وعيب يرد به المبيع وتنقص به القيمة فكف يصح قياسه على ما يحصل به الجمال ؟ ثم لو حصل به جمال ما لكنه يخالف جمال العضو الذي يحصل به تمام الخلقة ويختلف في نفسه اختلافا كثيرا فوجبت فيه الحكومة ويحتمل أن لا يجب فيه شيء لما ذكرنا
فصل : واختلفت الرواية في قطع الذكر بعد حشفته وقطع الكف بعد أصابعه فروى أبو طالب عن أحمد : فيه ثلث ديته وكذلك شحمة الأذن وعن أحمد في ذلك كله حكومة والصحيح في هذا أن فيه حكومة لعدم التقدير فيه وامتناع قياسه على ما فيه تقدير لأن الأشل بقيت صورته وهذا لم تبق صورته إنما بقي بعض ما فيه الدية أو أصل ما فيه الدية فأما قطع الذراع بعد قطع الكف والساق بعد قطع القدم فينبغي أن تجب الحكومة فيه وجها واحدا لأن إيجاب ثلث دية اليد فيه يفضي إلى أن يكون الواجب فيه مع بقاء الكف والقدم وذهابهما واحدا مع تفاوتهما وعدم النص فيهما والله أعلم
مسألة : قال : وفي إسكتي المرأة الدية
الإسكتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم وأهل اللغة يقولون : الشفران حاشيتا الإسكتين كما أن أشفار العين أهدابها وفيهما دية المرأة إذا قطعا وبهذا قال الشافعي وقاله الثوري إذا لم يقدر على جماعها وقضى به محمد بن سفيان إذا بلغ العظم لأن فيهما جمالا ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كسائر ما فيه منه شيئان وفي إحداهما نصف الدية كما ذكرنا في غيرهما وإن جنى عليهما فأشلهما وجبت ديتهما كما لو جنى على شفتيه فأشلهما ولا فرق بين كونهما غليظتين أو دقيقتين قصيرتين أو طويلتين من بكر أو ثيب أو صغيرة أو كبيرة مخفوضة أو غير مخفوضة لأنهما عضوان فيهما الدية فاستوى فيهما جميع ما ذكرنا كسائر أعضائها ولا فرق بين الرتقاء وغيرها لأن الرتق عيب في غيرهما فلم ينقص ديتهما كما أن الصمم لم ينقص دية الأذنين والخفض هو الختان في حق المرأة
فصل : وفي ركب المرأة حكومة وهو عانة المرأة وكذلك في عانة الرجل لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لما قدر فيه فإن أخذ منه شيء مع فرج المرأة أو ذكر الرجل ففيه الحكومة مع الدية كما لو أخذ مع الأنف والشفتين شيء من اللحم الذي حولهما

مسائل وفصول أحكام الموضحة وما يجب في الهاشمة وفي المنقلة
مسألة : قال وفي موضحة الحر خمس من الإبل سواء كان من رجل أو امرأة والموضحة في الرأس والوجه سواء وهي التي تبرز العظم
هذه من شجاج الرأس أو الوجه وليس في الشجاج ما فيه قصاص سواها ولا يجب المقدر في أقل منها وهي التي تصل إلى العظم سميت موضحة لأنها أبدت وضح العظم وهو بياضه وأجمع أهل العلم أن أرشها مقدر قال ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي الموضحة خمس من الإبل ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال حديث حسن وقول الخرقي في موضحة الحر يحترز به من موضحة العبد وقوله : سواء كان من رجل أو امرأة يعني أنهما لا يختلفان في أرش الموضحة لأنها دون ثلث الدية وهما يستويان فيما دون الثلث ويختلفان فيما زاد وعند الشافعي أن موضحة المرأة على النصف من موضحة الرجل بناء على أن جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في الكثير والقليل وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وعموم الحديث الذي رويناه ههنا حجة عليه وفيه كفاية وأكثر أهل العلم على أن الموضحة في الرأس والوجه سواء روي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبه قال شريح و مكحول و الشعبي و النخعي و الزهري و ربيعة و عبيد الله بن الحسن و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : تضعف الوجه على موضحة الرأس فيجب في موضحة الوجه عشر من الإبل لأن شينها أكثر وذكره القاضي رواية عن أحمد ووضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة وقال مالك : إذا كانت في الأنف أو في اللحي الأسفل ففيها حكومة لأنها تبعد عن الدماغ فأشبهت موضحة سائر البدن
ولنا عموم الأحاديث وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الموضحة في الرأس والوجه سواء ولأنها موضحة فكان أرشها خمسا من الإبل كغيرها ما سلموه ولا عبرة بكثرة الشين بدليل التسوية بين الصغيرة والكبيرة وما ذكروه لـ مالك لا يصح فإن الموضحة في الصدر أكثر ضررا وأقرب إلى القلب ولا مقدر فيها وقد روي عن أحمد رحمه الله أنه قال : موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها وليس معنى هذا أنه يجب فيها أكثر والله أعلم إنما معناه أنها أولى بإيجاب الدية فإنه إذا وجب في موضحة الرأس مع قلة شينها واستتارها بالشعر وغطاء الرأس خمس من الإبل فلأن يجب ذلك في الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن وعنوان الجمال أولى وحمل كلام أحمد على هذا أولى من حمله على ما يخالف الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم ومصيره إلى التقدير بغير توقيف ولا قياس صحيح
فصل : ويجب أرش الموضحة في الصغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يشمل الجميع وحد الموضحة ما أفضى إلى العظم ولو بقدر إبرة ذكره ابن القاسم والقاضي فإن شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحه قلأن لا يلزمه في الإيضاح في البعض أكثر من ذلك أولى وهكذا لو شجه شجة بعضها هاشمة وباقيها دونها لم يلزمه أكثر من أرش هاشمة وإن كانت منقلة وما دونها أو مأمومة وما دونها فعليه أرش منقلة أو مأمومة لما ذكرنا
فصل : وليس في موضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول اكثر أهل العلم منهم إمامنا و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال ابن عبد البر : ولا يكون في البدن موضحة يعني ليس فيها مقدر قال على ذلك جماعة العلماء إلا الليث بن سعد قال : الموضحة تكون في الجسد أيضا وقال الأوزاعي : في جراحة الجسد على النصف من جراحة الرأس وحكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني قال : في الموضحة في سائر الجسد خمسة وعشرون دينارا
ولنا أن اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس وقول الخليفتين الراشدين : الموضحة في الوجه والرأس سواء يدل على أن باقي الجسد بخلافه ولأن الشين فيما في الرأس والوجه أكثر وأخطر مما في سائر البدن فلا يلحق به ثم إيجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة ودية الموضحة خمس وأما قول الأوزاعي و عطاء الخراساني فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه اطراحه
فصل : وإن أوضحه في رأسه وجر السكين إلى قفاه فعليه أرش موضحة وحكومة لجرح القفا لأن القفا ليس بموقع للموضحة وإن أوضحه في رأسه ومدها إلى وجهه فعلى وجهين :
أحدهما : أنها موضحة واحدة لأن الوجه والرأس سواء في الموضحة فصار كالعضو الواحد
والثاني : هما موضحتان لأنه أوضحه في عضوين فكان لكل واحد منهما حكم نفسه كما لو أوضحه في رأسه ونزل إلى القفا
فصل : وإن أوضحه في رأسه موضحتين بينهما حاجز فعليه أرش موضحتين لأنهما موضحتان فإن أزال الحاجز الذي بينهما وجب أرش موضحة واحدة لأنه صار الجميع بفعله موضحة فصار كما لو أوضح الكل من غير حاجز يبقى بينهما وإن اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح لأنه استقر عليه أرش الأوليين بالاندمال ثم لزمته دية الثالثة وإن تأكل ما بينهما قبل اندمالها فزال لم يلزمه أكثر من أرش واحدة لأن سراية فعله كفعله وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين وإن أزال الجاز أجنبي فعلى الأول أرش موضحتين وعلى الثاني أرش موضحة لأن فعل أحدهما لا ينبني على فعل الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أزاله المجني عليه وجب على الأول أرش موضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره فإن اختلفا فقال الجاني : أنا شققت ما بينهما وقال المجني عليه : بل أنا أو أزالها آخر سواك فالقول قول المجني عليه لأن سبب أرش موضحتين قد وجد والجاني يدعي زواله والمجني عليه ينكره والقول قول المنكر والأصل معه وإن أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن وترك الجلد الذي فوقهما ففيها وجهان :
أحدهما : يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر والثاني : أرش موضحة لاتصالهما في الباطن وإن جرحه جراحا واحدة وأوضحه في طرفيها وباقيها دون الموضحة ففيه أرش موضحتين لأن ما بينهما ليس بموضحة
مسألة : قال : وفي الهاشمة عشر من الإبل وهي التي توضح العظم وتهشمه
الهاشمة هي التي تتجاوز الموضحة فتهشم العظمم سميت هاشمة لهشمها العظم ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه و سلم فيها تقدير وأكثر من بلغنا من أهل العلم على أن أرشها مقدر بعشر من الإبل روى ذلك قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت وبه قال قتادة و الشافعي و العنبري ونحوه قال الثوري وأصحاب الرأي إلا أنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم وذلك على قولهم ألف درهم وكان الحسن لا يوقت فيها شيئا وحكي عن مالك أنه قال : لا أعرف الهاشمة لكن في الإيضاح خمس وفي الهشم حكومة قال ابن المنذر : النظر يدل على قول الحسن إذ لا سنة فيها ولا إجماع ولأنه لم ينقل فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة
ولنا قول زيد ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لم نعرف له مخالفا في عصره فكان إجماعا ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة
فصل : والهاشمة في الرأس والوجه خاصة على ما ذكرنا في الموضحة وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما عشرون من الإبل على ما ذكرنا في الموضحة من التفصيل وتستوي الهاشمة الصغيرة والكبيرة وإن شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها سمحاق وبعضها متلاحمة وجب أرش الهاشمة لأنه لو كان جميعها هاشمة أجزأ أرشها ولو انفرد القدر المهشوم وجب أرشها فلا ينقص ذلك بما إذا زاد من الأرش في غيرها وإن ضرب رأسه فهشم العظم ولم يوضحه لم تجب دية الهاشمة بغير خلاف لأن الأرش المقدر وجب في هاشمة يكون معها موضحة وفي الواجب فيها وجهان :
أحدهما : فيها خمس من الإبل لأنه لو أوضح وكسر لوجبت عشر : خمس في الإيضاح وخمس في الكسر فإذا وجد الكسر دون الإيضاح وجب خمس والثاني : تجب حكومة لأنه كسر عظم لا جرح معه فأشبه كسر قصبة الأنف
فصل : فإن أوضحه موضحتين هشم العظم في كل واحدة منهما واتصل الهشم في الباطن فهما هاشمتان لأن الهشم إنما يكون تبعا للإيضاح فإذا كانتا موضحتين كان الهشم هاشمتين بخلاف الموضحة فإنها ليست تبعا لغيرها فافترقا
مسألة : قال : وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها
المنقلة زائدة على الهاشمة وهي التي تكسر العظام وتزيلها عن واضعها فيحتاج إلى نقل العظ ليلتئم وفيها خمس عشرة من الإبل بإجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل ] وفي تفصيلها ما في تفصيل الموضحة الهاشمة على ما مضى

سائل وفصول دية المأمومة والجائفة وفرج البكر والزوجة الصغيرة
مسألة : قال : وفي المأمومة ثلث الدية وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وفي الآمة مثل ما في المأمومة
المأمومة والآمة شيء واحد قال ابن عبد البر : أهل العراق يقولون لها الآمة وأهل الحجاز المأمومة وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ سميت لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة إليها سميت آمة ومأمومة يقال أم الرجل آمة ومأمومة وأرشها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم إلا مكحولا فإنه قال : إن كانت عمدا ففيها ثلثا الدية وإن كانت خطأ ففيها ثلثها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب عمرو بن حزم : [ وفي المأمومة ثلث الدية ] وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك وروي نحوه عن علي ولأنها شجة فلم يختلف أرشها بالعمد والخطأ في المقدار كسائر الشجاج
فصل : وإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة وفيها ما في المأمومة قال القاضي : لم يذكر أصحابنا الدامغة لمساواتها المأمومة في أرشها وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق جلدة الدماغ ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب
فصل : فإن أوضحه رجل ثم هشه الثاني ثم جعلها الثالث منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى الأول أرش موضحته وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة وعلى الرابع ثمانية عشر وثلث تمام أرش المأمومة
مسألة : قال : وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف
وفي قول عامة أهل العلم منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الراي إلا مكحولا قال فيها : في العمد ثلثا الدية
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب عمرو بن حزم : [ وفي الجائفة ثلث الدية ] وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك ولأنها جراحة فيها مقدر يختلف قدر أرشها بالعمد والخطأ كالموضحة ولا نعلم في جراح البدن الخالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام مقدرا غير الجائفة والجائفة ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو ثغرة نحر أو ورك أو غيره
وذكر ابن عبد البر أن مالكا و أبا حنيفة و الشافعي و البتي وأصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف قال ابن القاسم : الجائفة ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة فأما إن خرف شدقه فوصل إلى باطن الفم فليس بجائفة لأن داخل الفم حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن وإن طعنه في وجنته فكسر العظم ووصل إلى فيه فليس بجائفة لما ذكرنا
وقال الشافعي في أحد قوليه : هو جائفة لأنه قد وصل إلى جوف وهذا ينتقض بما إذا خرق شدقه فعلى هذا يكون عليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة وإن جرحه في أنفه فأنفذه فهو كما لو جرحه في وجنته فأنفذه إلى فيه في الحكم والخلاف وإن جرحه في ذكره فوصل إلى مجرى البول من الذكر فليس بجائفة لأنه ليس بجوف يخاف التلف من الوصول إليه بخلاف غيره
فصل : وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز فعليه ثلثا الدية وإن خرق الجاني ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا جائفة واحدة فيها ثلث الدية لا غير وإن خرق ما بينهما أجنبي أو المجني عليه فعلى الأول ثلثا الدية وعلى الأجنبي الثاني ثلثها ويسقط ما قابل فعلى المجني عليه وإن احتاج إلى خرق ما بينهما للمداواة فخرقها المجني عليه أو غيره بأمره أو خرقها ولي الجني عليه لذلك أو الطبيب بأمره فلا شيء في خرق الحاجز وعلى الأول ثلثا الدية وإن أجافه رجل فوسعها آخر فعلى كل واحد منهما أرش جائفة لأن فعل كل واحد منهما لو انفرد كان جائفة فلا يسقط حكمه بانضمامه إلى فعل غيره لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره وإن وسعها الطبيب بإذنه أو إذن وليه لمصلحته فلا شيء عليه وإن وسعها جان آخر في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر فعليه حكومة لأن جنايته لم تبلغ الجائفة وإن أدخل السكين في الجائفة ثم أخرجها عزر ولا أرش عليه وإن كان قد خاطها فجاء آخر فقطع الخيوط وأدخل السكين فيها قبل أن تلتحم عزر أشد من التعزير الأول الذي قبله وغرمه ثمن الخيوط وأجرة الخيوط ولم يلزمه أرش جائفة لأنه لم يجفه وإن فعل ذلك بعد التحامها فعليه أرش الجائفة وثمن الخيوط لأنه بالالتحام عاد إلى الصحة فصار كالذي لم يجرح وإن التحم بعضها دون بعض ففتق ما التحم فعليه أرش جائفة لما ذكرنا وإن فتق غير ما التحم عليه فليس عليه أرش الجائفة وحكمه حكم من فعل مثل فعله قبل أن يلتحم منها شيء وإن فتق بعض ما التحم في الظاهر دون الباطن أو الباطن دون الظاهر فعليه حكومة كما لو وسع جرحه كذلك
فصل : وإن جرح فخذه ود السكين حتى بلغ الورك فأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر فأجافه فيه فعليه أرش الجائفة وحكومة في الجراح لأن الجراح في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما لو أوضحه في رأسه وجر السكين حتى بلغ القفا فإنه يلزمه أرش موضحة وحكومة لجرح القفا
فصل : فإن أدخل حديدة أو خشبة أو يده في دبر إنسان فخرق حاجزا في الباطن فعليه حكومة ولا يلزمه أرش جائفة لأن الجائفة ما خرقت من الظاهر إلى الجوف وهذه بخلافه وكذلك لو أدخل السكين في جائفة إنسان فخرق شيئا في الباطن فليس ذلك بجائفة لما ذكرنا
مسألة : قال : فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر فهما جائفتان
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و مجاهد و قتادة و مالك و الشافعي واصحاب الرأي قال ابن عبد البر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه قال هي جائفة واحدة وحكي أيضا عن أبي حنيفة لأن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر البدن إلى الجوف وهذه الثانية إنما نفذت من الباطن إلى الظاهر
ولنا ما روى سعيد بن المسيب أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون إجماعا أخرجه سعيد بن منصور في سننه وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت الجوف بارش جائفتين لأنه أنفذه من موضعين فكان جائفتين كما لو أنفذه بضربتين وما ذكروه غير صحيح فإن الاعتبار موصول الجرح إلى الجوف لا بكيفية إيصاله إذ لا أثر لصورة الفعل مع التساوي في المعنى ولأن ما ذكروه من الكيفية ليس بمذكور في خبر وإنما العادة والغالب وقوع الجائفة هكذا فلا يعتبر كما أن العادة والغالب حصولها بالحديد ولو حصلت بغيره لكانت جائفة ثم ينتقض ما ذكروه بما لو أدخل يده في جائفة إنسان فخرق بطنه في موضع آخر فإنه يلزمه أرش جائفة بغير خلاف نعلمه وكذلك يخرج فيمن اوضح إنسانا في رأسه ثم أخرج رأس السكين في موضع آخر فهي موضحتان فإن هشمه هاشمة لها مخرجان فهي هشمتان وكذلك ما أشبهه
فصل : فإن أدخل أصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها فليس بجائفة لأن ذلك ليس بجوف
مسألة : قال : ومن وطىء زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية
معنى الفتق خرق ما بين مسلك البول والمني وقيل : بل معناه خرق ما بين القبل والدبر إلا أن هذا بعيد لأنه يبعد أن يذهب بالوطء ما بينهما من الحاجز فإنه حاجز غليظ قوي والكلام في هذه المسألة في فصلين
الفصل الأول : في أصل وجوب الضمان والثاني : في قدره أما الأول فإن الضمان إنما يجب بوطء الصغيرة أو النحيفة التي لا تحمل الوطء دون الكبيرة المحتملة له وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يجب الضمان في الجميع لأنه جناية فيجب الضمان به كما لو كان في أجنبية
ولنا أنه وطء مستحق فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ولأنه فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك وكقطع السارق أو استيفاء القصاص وعكسه الصغيرة والمكرهة على الزنا إذا ثبت هذا فإنه يلزمه المهر المسمى في النكاح مع أرش الجناية ويكون أرش الجناية في ماله إن كان عمدا محضا وهو أن يعل مأنها لا تطيقه وأن وطأه يفضيها فأما إن لم يعلم ذلك وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو عمد الخطأ فيكون على عاقلته إلا على قول من قال : إن العاقلة لا تحمل عمد الخطأ فإنه يكون في ماله
الفصل الثاني : في قدر الواجب وهو ثلث الدية وبهذا قال قتادة و ابو حنيفة وقال الشافعي : تجب الدية كاملة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز لأنه أتلف منفعة الوطء فلزمته الدية كما لو قطع اسكتيها
ولنا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية ولم نعرف له في الصحابة مخالفا ولأن هذه جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة ولا نسلم أنها تمنع الوطء وأما قطع الإسكتين فإنما أوجب الدية لأنه قطع عضوين فيهما نفع وجمال فأشبه قطع الشفتين
فصل : وإن استطلق بولها مع ذلك لزمته دية من غير زيادة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : تجب دية وحكومة لأنه فوت منفعتين فلزمه أرشهما كما لو فوت كلامه وذوقه
ولنا أنه أتلف عضوا واحدا لم يفت غير منافعه فلم يضمنه بأكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب ذوقه وكلامه وما قاله لا يصح لأنه لو أوجب دية المنفعتين لأوجب ديتين لأن استطلاق البول موجب الدية والإفضاء عنده وجب الدية منفردا ولم يقل به وإنما أوجب الحكومة ولم يوجد مقتضيها فإننا لا نعلم أحدا أوجب في الإفضاء حكومة
فصل : وإن اندمل الحاجز وانسد وزال الإفضاء لم يجب ثلث الدية ووجبت حكومة لجبر ما حصل من النقص

فصول دية افضاء المكرهة والموطءة بشبهة واستطلاق بول المكرهة
فصل : وإن أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمع ثلث ديتها ومهر مثلها لأنه حصل بوطء غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما أتلف به كسائر الجنايات وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك ؟ فيه روايتان : إحداهما : لا يلزمه لأن ارش البكارة داخل في مهر المثل فإن مهر البكر أكثر من مهر الثيب فالتفاوت بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين كما في حق الزوجية والثاني : يضمنه لأنه محل أتلفه بعدوانه فلزمه ارشه كما لو أتلفه بأصبعه فأما المطاوعة على الزنا إذا كانت كبيرة ففتقها فلا ضمان عليه في فتقها وقال الشافعي : يضمن لأن المأذون فيه الوطء دون الفتق فأشبه لو قطع يدها
ولنا أنه ضرر حصل من فعل ماذون فيه فلم يضمنه كأرش بكارتها ومهر مثلها وكما لو أذنت في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها وفارق ما إذا أذنت في وطئها فقطع يدها لأن ذلك ليس من المأذون فيه ولا من ضرورته
فصل : وإن وطىء امرأة بشبهة فأفضاها فعليه أرش إفضائها مع مهر مثلها لأن الفعل إنما أذن فيه اعتقادا أن المستوفي له هو المستحق فإاذ كان غيره ثبت في حقه وجوب الضمان لما أتلف كما لو أذن في أخذ الدين لمن يعتقد لأنه مستحقه فبان أنه غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يجب لما أكثر الأمرين من مهر مثلها أو أرش إفضائها لأن الأرش لإتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته كما لو قلع عينا
ولنا أن هذه جناية عن الوطء فلم يدخل بدله فيها كما لو كسر صدرها وما ذكروه غير صحيح فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع والأرش يجب لإتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه
فصل : وإن استطلق بول المكرهة على الزنا والموطوءة بشبهة مع إفضائهما فعليه ديتهما والمهر وقال أبو حنيفة في الموطوءة بشبهة : لا يجمع بينها ويجب أكثرهما وقد سبق الكلام معه في ذلك

مسألتان وفصل دية الضلع والترقوة والعظام الباطنة
مسألة : قال : وفي الضلع بعير وفي الترقوة بعيران
ظاهر هذا أن في كل ترقوة بعيرين فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة وهذا قول زيد بن ثابت والترقوة العظم المستدبر حول العتق من النحر إلى الكتف ولكل واحد ترقوتان ففيهما أربعة أبعرة في ظاهر قول الخرقي وقال القاضي : المراد بقول الخرقي الترقوتان معا وإنما اكتفي بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للإستغراق فيكون في كل ترقوة بعير وهذا قول عمر بن الخطاب وبه قال سعيد بن المسيب و مجاهد و عبد الملك ابن مروان وسعيد بن جبير و قتادة و إسحاق وهو قول لـ لشافعي والمشهور من قوليه عند أصحابه أن في كل واحد مما ذكرنا حكومة وهو قول مسروق و أبي حنيفة و مالك و ابن المنذر لأنه عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر أعضاء اليدن ولأن التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح وليس في هذا توقيف ولا قياس وروي عن الشعبي أن في الترقوة أربعين دينارا وقال عمرو بن شعيب : في الترقوتين الدية وفي إحداهما نصفها لأنهما عضوان فيهما جمال ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملت فيهما الدية كاليدين
ولنا قول عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت وما ذكروه ينتقض بالهاشمية فإنها كسر عظام باطنة وفيها مقدر ولا يصح قولهم إنها لا تختص بجمال ومنفعة فإن جمال هذه العظام ونفعها لا يوجد في غيرها ولا مشارك لها فيه وأما قول عمرو بن شعيب فنخالف للإجماع فإننا لا نعلم أحدا قبله ولا بعده وافقة فيه
مسألة : قال : وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان
قال القاضي : يعني به الزندين فيهما أربعة أبعرة لأن فيهما أربعة عظام ففي كل عظم بعير وهذا يروى عن عمر بن الخطاب وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : فيه حكومة لما تقدم
ولنا ما روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا يحيى بن سعيد بن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب إليه عمر : إن فيه بعيرين وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل ورواه ايضا من طريق آخر مثل ذلك وهذا لم يظهر له مخالف في الصحابة فكان إجماعا
فصل : ولا مقدر في غير هذه العظام في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر أهل العلم وقال القاضي : في عظم الساق بعيران وفي الساقين أربعة وفي عظم الفخذ بعيران وفي الفخذين أربعة فهذه تسعة عظام فيها مقدر الضلع والترقوتان والزنديان والساقان والفخذان وما عداها لا مقدر فيه وقال ابن عقيل وأبو الخطاب وجماعة من اصحاب القاضي : في كل واحد من الذارع والعضد بعيران وزاد أبو الخطاب عظم القدم لما روى سليمان بن يسار أن عمر قضى في الذراع والعضد والفخذ والساق والزند إذا كسر واحد منها فجبر ولم يكن به دحور يعني عوجا بعير وإن كان فيها دحور فبحساب ذلك وهذا الخبر إن صح فهو مخالف لما ذهبوا إليه فلا يصلح دليلا عليه والصحيح إن شاء الله أنه لا تقدير في غير الخمسة الضلع والترقوتين والزندين لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها وإنما خالفناه في هذه العظام لقضاء عمر رضي الله عنه ففيما عداها يبقى على مقتضى الدليل وما عدا هذه العظام كعظم الظهر وغيره ففيه الحكومة ولا نعلم فيه مخالفا وإن خالف فيها مخالف فهو قول شاذ لا يستند إلى دليل يعتمد عليه ولا يصار إليه

مسألة أنواع الشجاج التي لا توقيت فيها ولا تقدير
مسألة : قال : والشجاج التي لا توقيت فيها أولها الحارصة وهي التي تحرص الجلد
يعني تشقه قليلا وقال بعضهم : هي الحارصة ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم البازلة وهي التي يسيل منها الدم ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم ثم السمحاق وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة ثم الموضحة هكذا وقع في النسخ التي وصلت إلينا : الحراصة ثم الباضعة ثم البازلة ولعله من غلط الكاتب والصواب الحارصة ثم البازلة ثم الباضعة هكذا رتبها سائر من علمنا قوله من أهل العلم ولأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد فلا يمكن وجودها قبل البازلة التي يسيل منها الدم وتسمى الدامعة لقلة سيلان دمها تشبيها له بخروج الدع من العين والتي تشق اللحم بعد الجلد يسيل منها دم كثير في الغالب فكيف يصح جعلها سابقة على لا يسيل منها إلا دم يسير كدمع العين ؟ ويدل على صحة ما ذكرناه أن زيد بن ثابت جعل في البازلة بعيرا وفي الباضعة بعيرين وقول الخرقي : والشجاج يعني جراح الرأس والوجه فإنه يسمى شجاجا خاصة دون جراح سائر البدن والشجاج المسماة عشر خمس منها أرشها مقدر وقد ذكرناها وخمس لا توقيت فيها قال الأصمعي أولها الحارصة وهي التي تشق الجلد قليلا يعني تقشر شيئا يسيرا من الجلد لا يظهر منه دم ومنه حرص القصار الثوب إذا شقه قليلا ثم البازلة وهي التي يبزل منها الدم أي يسيل وتسمى الدامية ايضا والدامعة ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم يعني دخلت فيه دخولا كثيرا يزيد على الباضعة ولم تبلغ السمحاق ثم السحاق وهي التي تصل إلى قشرة رقيقة فوق العظم تسمى تلك القشرة سمحاقا وسميت الجراح الواصلة إليها بها ويسميها أهل المدينة الملطا والملطاة وهي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه ثم الموضحة وهي التي تقشر تلك الجلدة وتبدي وضح العظم أي بياضه وهي أول الشجاج الموقتة وما قبلها من الشجاج الخمس فلا توقيت فيها في الصحيح من مذهب أحمد وهو قول أكثر الفقهاء يروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز و مالك و الأوزاعي و الشافعي واصحاب الراي وروي عن أحمد رواية أخرى أن في الدامية بعيرا وفي الباضعة بعيرين وفي المتلاحمة ثلاثة وفي السمحاق أربعة أبعرة لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت وروي عن علي في السمحاق مثل ذلك رواه سعيد عنهما وعن عمر وعثمان فيها نصف أرش الموضحة والصحيح الأول لأنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات البدن وروي عن مكحول قال : [ قضى النبي صلى الله عليه و سلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها ] ولأنه لم يثبت فيها مقدر بتوقيف ولا له قياس يصح فوجب الرجوع إلى الحكومة كالحارصة وذكر القاضي أنه متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحا إلى جانبها قدرت هذه الجراحة منها فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة إن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش وعلى هذا إلا أن تزيد الحكومة على قدر ذلك فتوجب ما تخرجه الحكومة فإذا كانت الجراحة قدر نصف الموضحة وشينها ينقص قدر ثلثيها أوجبنا ثلثي أرش الموضحة وإن نقصت الحكومة أقل من النصف أوجبنا النصف فنوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة لأنه اجتمع سببان موجبان الشين وقدرها من الموضحة فوجب بها أكثرهما لوجود سببه والدليل على إيجاب المقدار أن هذا اللحم فيه مقدر فكان في بعضه بمقدار من ديته كالمارن والحشفة والشفة والجفن وهذا مذهب الشافعي وهذا لا نعلمه مذهبا لـ أحمد ولا يقتضيه مذهبه ولا يصح لأن هذه جراحة تجب فيها الحكومة يجب فيها مقدر كجراحات البدن لا يصح قياس هذا على ما ذكروه فإنه لا تجب فيه الحكومة ولا نعلم لما ذكروه نظيرا

مسألة الشحاج التي تجب فيها الحكومة وضابطها
مسألة : قال : وما لم يكن فيه من الجراح توقيت ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه حكومة
أما الذي فيه توقيت فهو الذي [ نص النبي صلى الله عليه و سلم على أرشه وبين قدر ديته كقوله : في الأنف الدية وفي اللسان الدية ] وقد ذكرناه وأما نظيره فهو ما كان في معناه ومقيسا عليه كالأليتين والثديين والحاجبين وقد ذكرنا ذلك أيضا فما لم يكن من الموقت ولا مما لا يمكن قياسه عليه كالشجاج التي دون الموضحة وجراح البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام المذكورة فليس فيه إلا الحكومة

مسألتان وفصلان كيفية الحكومة في ديات الجراح
مسألة : قال : والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقصته الجناية فله مثله من الدية كأن قيمته وهو عبد صحيح عشرة وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة فيكون فيه عشر ديته
هذا الذي ذكره الخرقي رحمه الله في تفسير الحكومة قول أهل العلم كلهم لا نعلم بينهم فيه خلافا وبه قال الشافعي و العنبري و أصحاب الرأي وغيرهم قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقال : إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا الجروح لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح فإذا قيل مائة دينار قيل : وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه ؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على الجاني نصف عشر الدية وإن قالوا تسعون فعشر الدية وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش عيبه مقدرا من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب فيه فقالوا عشرة فيقال : كم قيمته وفيه العيب فإذا قيل تسعة عل أنه نقص عشر قيمته فيجب أن ترد من الثمن عشرة أي قدر كان ونقدره عبدا ليمكن تقويمه ونجعل العبد أصلا للحر فيما لا موقت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت
مسألة : قال : وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فيكون أسهل مما وقت فيه فلا يجاوز به أرش الموقت
يعني لو نقصته الجناية أكثر من عشر قيمته لوجب أكثر من عشر ديته ولو نقصته أقل من العشر مثل أن نقصته نصف عشر قيمته لوجب نصف عشر ديته إلا إذا شجه دون الموضحة فبلغ أرش الجراح بالحكومة أكثر من أرش الموضحة لم يجب الزائد فلو جرحه في وجهه سمحاقا فنقصته عشر قيمته فمقتضى الحكومة وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس فههنا يعلم غلط المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم تزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها فلأن لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول الشافعي و أصحاب الرأي وحكي عن مالك أنه يجب ما تخرجه الحكومة كائنا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت في سائر البدن
ولنا أنها بعض الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه ولأن الضرر في الموضحة أكثر والشين أعظم والمحل واحد فإذا لم يزد أرش الموضحة على خمس كان ذلك تنبيها على أن لا يزيد ما دونها عليها وأما سائر البدن فما كان فيه موقت كالأعضاء والعظام المعلومة والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة وإن جنى عليه في جوفه دون الجائفة لم يزد على أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف فإن قيل : فقد وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه ووجب في منافع اللسان أكثر من الواجب فيه قلنا : إنا وجبت دية النفس عوضا عن الروح وليست الأطراف بعضها بخلاف مسألتنا هذا ذكره القاضي ويحتمل كلام الخرقي أن يختص امتناع الزيادة بالرأس والوجه لقوله إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فلا يجاوز به أرش الموقت
فصل : وإذا أخرجت الحكومة في شجاج الرأس التي دون الموضحة قدر أرش الموضحة أو زيادة عليه فظاهر كلام الخرقي أنه يجب أرش الموضحة وقال القاضي : يجب أن تنقص عنها شيئا على حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي لئلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها ووجه قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة وإنما سقط الزائد على أرش الموضحة لمخالفته النص أو تنبيه النص ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل ولأن ما ثبت بالتنبيه يجوز أن يساوي المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم أن يزيد عليه كما أنه نص على وجوب فدية الأذى في حق المعذور ولم تلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمتنع أن يجب في البعض ما يجب في الكل بدليل وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي حشفة الذكر مثل ما في جميعه فإن هذا وجب بالتقدير الشرعي لا بالتقويم قلنا : إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد المؤدي إليه وفي الجملة فالحكومة دليل ترك العمل بها في الزائد لمعنى مفقود في المساوي فيجب العمل فيه بها لعدم المعارض ثم وإن صح ما ذكروه فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحذورة ويجب الباقي عملا بالدليل الموجب له والله أعلم
فصل : ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه فإن لم تنقصه الجناية شيئا بعد البرء مثل أن قطع أصبعا أو يدا زائدة أو قلع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك بل زاده حسنا فلا شيء على الجاني لأن الحكومة لأجل جبر النقص ولا نقص ههنا فأشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر وإن زادته الجناية حسنا فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كا لو قطع سلعة أو ثؤلولا وبط خراجا ويحتمل أن يضمن قال القاضي : نص أحمد على هذا لأن هذا جزء مضمون فلم يعر عن ضمان كما لو أتلف قدر الأرش فازداد به جمالا أو لم ينقصه شيئا فعلى هذا يقوم في هذا أقرب الأحوال إلى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد برئه قوم في أقرب الأحوال إليه كولد المغرور لما تعذر تقويمه في البطن قوم عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه إلى كونه في البطن وإن لم ينقص في تلك الحال قوم والدم جار لأنه لا بد من نقص للخوف عليه ذكره القاضي ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا : وتقوم لحية المرأة كأنها الحية رجل في حال ينقصه ذهاب لحيته وإن أتلف سنا زائدة قوم وليس له سن ولا خلفها أصلي ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة فإن كانت المرأة إذا قدرناه ابن عشرين نقصها ذهاب لحيتها يسيرا وإن قدرناها ابن أربعين نقصها كثيرا قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال إلى حال المجني عليه فأشبه تقويم الجرح الذي لا ينقص بعد الاندمال فإنا نقومه في أقرب أحوال النقص إلى حال الاندمال والأول أصح إن شاء الله فإن هذا لا مقدر فيه ولا ينقص شيئا فأشبه الضرب وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما هو تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه فاصفر لونه حال اللطمة أو احمر ثم زال ذلك وتقدير المرأة رجلا لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب فيها وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها بحالة تكره لا يجوز فإن الشيء يقدر بنظيره ويقاس على مثله لا على ضده ومن قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن إيجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره

فصل دية الوجه إذا لطمه فغير لونه
فصل : وإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان عليه لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة ولم يكن له حال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه وإن سود وجهه أو خضره ضمنه بديته لأنه فوت الجمال على الكمال فضمنه بديته كما لو قطع أذني الأصم وأنف الأخشم وقال الشافعي : ليس فيه إلا حكومة لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لمقدر وقد ذكرنا أنه نظير لقطع الأذنين في ذهاب الجمال بل هو أعظم في ذلك فيكون يإيجاب الدية أولى وإن زال السواد يرد ما أخذه لزوال سبب الضمان وإن زال بعضه وجبت فيه حكومة ورد الباقي وإن صفر وجهه أو حمره ففيه حكومة لأن الجمال لم يذهب على الكمال وهذا يشبه ما لو سود سنة أو غير لونها على ما ذكرنا من التفصيل فيها

مسألة وفصل دية جراح الرقيق واطرافه
مسألة : قال : وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه شيء موقت في الحر ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح وإن كان فيما جنى عليه شيء موقت في الحر فهو موقت في العبد ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر وهكذا الأمة
وجملته أن الجناية على العبد يجب ضمانها بما نقص من قيمته لأن الواجب إنا وجب جبرا لما فات بالجناية ولا ينجبر إلا بإيجاب ما نقص من القيمة فيجب ذلك كما لو كانت الجناية على غيره من الحيوانات وسائر المال ولا يجب زيادة على ذلك لأن حق المجني عليه قد انجبر فلا يجب له زيادة على ما فوته الجاني عليه هذا هو الأصل ولا نعلم فيه خلافا فيما ليس فيه مقدر شرعي فإن كان الفائت بالجناية موقتا في الحر كيده وموضحته ففيه عن أحمد روايتان : إحداهما : أن فيه أيضا ما نقصه بالغا ما بلغ وذكر أبو الخطاب أن هذا اختيار الخلال وروى الميموني عن أحمد أنه قال : إنما يأخذ قيمة ما نقص منه على قول ابن عباس وروي هذا عن مالك فيا عدا موضحته ومنقلته وهاشمته وجائفته لأن ضمانه ضمان الأموال فيجب فيه ما نقص كالبهائم ولأن ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن بعضه بما نقص كسائر الأموال ولأن مقتضى الدليل ضمان الفائت بما نقص خالفناه فيما وقت في الحر كما خالفناه في ضمان بقيته بالدية الموقتة ففي العبد يبقى فيهما على مقتضى الدليل وظاهر المذهب أن ما كان موقتا في الحر فهو مقوت في العبد ففي يده أو عينه أو أذنه أو شفته نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية في الحر كالأنف واللسان واليدين والرجلين والعينين والأذنين أوجب قيمة العبد مع بقاء ملك السيد عليه روي هذا عن علي رضي الله عنه وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وبه قال ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز و الشافعي و الثوري وبه قال أبو حنيفة قال أحمد : هذا قول سعيد بن المسيب وقال آخرون : ما أصيب به العبد فهو على ما نقص من قيمته والظاهر أن هذا لو كان قول علي ما احتج أحمد فيه إلا به غيره إلا أن أبا حنيفة و الثوري قالا : ما أوجب الدية من الحر يتخير سيد العبد بين أن يغرمه قيمته ويصير ملكا للجاني وبين أن لا يضمنه شيئا لئلا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل لرجل واحد وروي عن إياس بن معاوية فيمن قطع يد عبد عمدا أو فقأ عينه هو له وعليه ثمنه
ووجه هذه الرواية قول علي رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا ولأنه آدمي يضمن بالقصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدر كالحر ولأن أطرافه فيها مقدر من الحر فكان فيها مقدر من العبد كالشجاج الأربع عند مالك وما يوجب في شجاجه مقدر وجب في أطرافه مقدر كالحر وعلى أبي حنيفة قول علي ولأن هذه الأعضاء فيها مقدر فوجبت ذلك فيها مع بقاء ملك السيد في العبد كاليد الواحدة وسائر الأعضاء ولأن من ضمنت يده بمقدر ضمنت يداه بمثليه من غير أن يملكه كالحر وقولهم أنه اجتمع البدل والمبدل لواحد ليس بصحيح لأن القيمة ههنا بدل العضو وحده ولو كان بدلا عن الجملة لكان بدل اليد الواحدة بدلا عن نصفه وبدل تسع أصابع بدلا عن تسعة أعشاره والأمر بخلافه والأمة مثل العبد في ذلك إلا أنها تشبه بالحرة وإذا بلغت ثلث قيمتها احتمل أن جنايتها ترد إلى النصف فيكون في ثلاث أصابع ثلاثة اعشار قيمتها وفي أربعة أصابع خمسها كما أن المرأة تساوي الرجل في الجراح إلى ثلث ديتها فإذا بلغت الثلث ردت إلى النصف والأمة امرأة فيكون أرشها من قيمتها كأرش الحرة ويحتمل أن لا يرد إلى النصف لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل لكون الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية وإن كلما زاد نقصها وضررها زاد في ضمانها فإذا خولف هذا في الحرة بقينا في الأمة على وفق الأصل
فصل : وإذا جنى على العبد في رأس أو وجه دون الموضحة فنقصته أكثر من أرشها وجب ما نقصته ويحتمل أن يرد إلى نصف عشر قيمته كالحر إذ زاد أرش شجته التي دون الموضحة على نصف عشر ديته والأول أولى لأن هذه جراحة لا موقت فيها فكان الواجب فيها ما نقص كما لو كانت في غير راسه ولأن الأصل وجوب ما نقص خولف في المقدر ففي هذا يبقى على الأصل

مسألة وفصل دية قتل الخنثى المشكل وجراحه
مسألة : قال : وإن كان المقتول خنثى مشكلا فيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى
وهذا قول أصحاب الراي وقال الشافعي : الواجب دية أنثى لأنها اليقين فلا يجب الزائد بالشك ولنا أنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالا واحدا وقد يئسنا من انكشاف حاله فيجب التوسط بينهما والعمل بكلا الاحتمالين
فصل : فأما جراحه فما لم يبلغ ثلث الدية ففيه دية جرح الذكر لاستواء الذكر والأنثى في ذلك وإن زاد على الثلث مثل أن قطع يده ففيه ثلاثة أرباع دية الذكر سبعة وثلاثون بعيرا ونصف ويقاد به الذكر والأنثى لأنهما لا يختلفان في القود ويقاد هو بكل واحد منهما

مسألة دية المبعض
مسألة : قال : وإن كان المجني عليه نصفه حر ونصفه عبد فلا قود وعلى الجاني إن كان عمدا نصف دية حر ونصف قيمته وهكذا في جراحه وإن كان خطأ فعليه نصف قيمته وعلى عاقلته نصف الدية
يعني لا قود على قاتله إذا كان نصفه حرا لأنه ناقص بالرق فلم يقتل به الحر كما لو كان كله رقيقا وإن كان قاتله عبدا قتل به لأنه أكمل من الجاني وإن كان نصف القاتل حرا وجب القود لتساويهما وإن كانت الحرية في القاتل أكثر لم يجب القود لعدم المساواة بينهما وفي ذلك كله إذا لم يكن القاتل عبدا فعليه نصف دية حر ونصف قيمته إذا كان عمدا لأن العاقلة لا تحمل العمد وإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته لأن العاقلة لا تحمل العبد وعلى عاقلته نصف الدية لأنها دية حر في الخطأ والعاقلة تحمل ذلك وهكذا الحكم في جراحه إذا كان قدر الدية من أرشها يبلغ ثلث الدية مثل أن يقطع أنفه أو يديه وإن قطع إحدى يديه فعقل جميعها على الجاني في ماله لأن عليه نصف دية اليد وهو ربع ديته لأجل حرية نصفه وذلك دون ثلث الدية وعليه ربع قيمته

فصل دية الأعضاء كدية النفس
فصل : ودية الأعضاء كدية النفس فإن كان الواجب من الذهب او الورق لم يختلف بعمد ولا خطأ وإن كان من الإبل وجب في العمد أرباعا على إحدى الروايتين وفي الأخرى يجب خمس وعشر منها حقاق وخمس وعشر جذاع وخمساها خلفات وفي الخطأ يجب أخماسا فإن لم يمكن مثل أن يوضحه عمدا فإنه يجب أربعة أرباعا والخامس من أحد الأجناس الأربعة قيمته ربع قيمة الأربع وإن قلنا بالرواية الأخرى وجب خلفتان وحقه وجذعة وبعير قيمته نصف قيمة حقة ونصف جذعة وإن كان خطأ وجب الخمس من الأحناس الخمسة من كل جنس بعير وإن كان الواجب دية أنملة وقلنا يجب من ثلاثة أجناس وجب بعير وثلث من الخلفات وحقة وجذعة وإن قلنا أرباعا وجب ثلاثة وثلث قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها وإن كان خطأ فقيمتها ثلثا قيمة الخمس وعند أصحابنا قيمة كل بعير مائة وعشرون درهما أو عشرة دنانير ولا فائدة في تعيين أسنانها فإن اختلفت قيمة الدنانير والدراهم مثل أن كانت العشرة دنانير تساوي مائة درهم فقياس قولهم أنه إذا جاء بما قيمته عشرة دنانير لزم المجني عليه قبوله لأنه لو جاءه بالدنانير لزمه قبولها فيلزمه قبول ما يساويها والله أعلم

باب القسامة
القسامة مصدر أقسم قسما وقسامة ومعناه حلف حلفا والمراد بالقسامة ههنا الأيمان المكررة في دعوى القتل قال القاضي : هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة قال : وأهل اللغة يذهبون إلى أنها القوم الذين يحلفون سموا باسم المصدر كما يقال رجل زور وعدل ورضا وأي الأمرين كان فهو من القسم الذي هو الحلف والأصل في القسامة ما روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار و سهل بن أبي حثمة و رافع بن خديج [ أن محيصة بن مسعود و عبد الله بن سهل انطلقا الى خيبر فتفرقا في النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة الى النبي صلى الله عليه و سلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صى الله عليه وسلم : كبر كبر - أو قال : ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع اليكم برمته فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا : يا رسول الله قوم كفار ضلال قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبله قال سهل : فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الابل ] متفق عليه

مسألة وفصول : إذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولم يكن لهم بينة
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : اذا وجد فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولم يكن لهم بينة لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : في أنه إذا وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه قتله على رجل أو جماعة ولم تكن بينهم عداوة ولا لوث فهي كسائر الدعاوى إن كانت لهم بينة حكم لهم بها وإلا فالقول قول المنكر وبهذا قال مالك و الشافعي و ابن المنذر وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا ادعى أولياؤه قتله على أهل المحلة أو على معين فللولي أن يختار من الموضع خمسين رجلا يحلفون خمسين يمينا : والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فان نقصوا عن الخمسين كررت الأيمان عليهم حتى تتم فإذا حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع فان لم يحلفوا حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا لما روي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يمينا وقضى بالدية على أقربهما يعني أقرب الحيين فقالوا : والله ما وقت أيماننا أموالنا ولا أموالنا أيماننا فقال عمر : حقنتم بأموالكم دماءكم
ولنا حديث عبد الله بن سهل وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ] ولأن الأصل في المدعى عليه براءة ذمته ولم يظهر كذبه فكان القول قوله كسائر الدعاوى ولأنه مدعى عليه فلم تلزمه اليمين والغرم كسائر الدعاوى وقول النبي صلى الله عليه و سلم اولى من قول عمر وأحق بالاتباع ثم قصة عمر يحتمل أنهم اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد فأحلفوا على العمد ثم أنهم لا يعملون بخبر النبي صلى الله عليه و سلم المخالف للاصول وقد صاروا ههنا الى ظاهر قول عمر المخالف للاصول وهو ايجاب الأيمان على غير المدعى عليه وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم وتغريمهم وحبسهم على الأيمان قال ابن المنذر : [ سن النبي صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] وسن القسامة في القتيل الذي وجد بخيبر وقول أصحاب الرأي خارج عن هذه السنن
فصل : ولا تسمع الدعوى على غير معين فلو كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة أو واحد غير معين أو جماعة منهم بغير أعيانهم لم تسمع الدعوى وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : تسمع ويستحلف خمسون منهم لأن الأنصار ادعوا القتل على يهود خيبر ولم يعينوا القاتل فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم دعواهم
ولنا أنها دعوى في حق فلم تسمع على غير معين كسائر الدعاوى فأما الخبر فإن دعوى الأنصار التي سمعها رسول الله صلى الله عليه و سلم لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها فان تلك من شرطها حضور المدعى عليه عندهم أو تعذر حضوره عندنا وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم أن الدعوى لا تصح على واحد بقوله : [ تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] وفي هذا بيان أن الدعوى لا تصح على غير معين
فصل : فأما إن ادعى القتل من غير وجود قتل ولا عداوة فحكمها حكم سائر الدعاوى في اشتراط تعيين المدعى عليه وان القول قوله لا نعلم فيه خلاف
الفصل الثاني : فأنه اذا ادعى القتل ولم تكن عداوة ولا لوث ففيه عن أحمد روايتان :
إ حداهما : لا يحلف المدعى عليه ولا يحكم عليه بشيء ويخلى سبيله هذا الذي ذكره الخرقي ههنا وسواء كانت الدعوى خطأ أو عمدا لأنها دعوى فيما لا يجوز بذله فلم يستحلف فيها كالحدود ولأنه لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول فلم يستحلف فيها كالحدود
والثانية : يستحلف وهو الصحيح وهو قول الشافعي لعموم قوله عليه السلام : [ اليمين على المدعى عليه ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] ظاهر في ايجاب اليمين ههنا لوجهين أحدهما عموم اللفظ فيه والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره في صدر الخبر بقوله : [ لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ] ثم عقبه بقوله [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] فيعود إلى المدعى عليه المذكور في الحديث ولا يجوز إخراجه منه إلا بدليل أقوى منه ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف فيها كدعوى المال ولأنها دعوى لو أقر بها لم يقبل رجوعه عنها فتجب اليمين فيها كالأصل المذكور إذا ثبت هذا فالمشروع يمين واحدة وعن أحمد أنه يشرع خمسون يمينا لأنها دعوى في القتل فكان المشروع فيها خمسون يمينا كما لو كان بينهم لوث و للشافعي قولان في هذا كالروايتين
ولنا أن قوله عليه السلام : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ظاهر في أنها يمين واحدة من وجهين أحدهما أنه وحد اليمين فينصرف الى واحدة والثاني أنه لم يفرق في اليمين المشروعة فيدل على التسوية بين المشروعة في الدم والمال ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كسائر الايمان ولأنها يمين مشروعة في جنبة المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالتكرير كسائر الايمان وبهذا فارق ما ذكروه فإن نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير خلاف في المذهب وقال أصحاب الشافعي إن نكل المدعى عليه ردت اليمين على المدعي فحلف خمسين يمينا واستحق القصاص ان كانت الدعوى عمدا والدية إن كانت موجبة للقتل لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو الاقرار والقصاص يجب بكل واحد منهما
ولنا أن القتل لم يثبت ببينة ولا إقرار ولم يعضده لوث فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل ولا يصح إلحاق الايمان مع النكول ببينة ولا إقرار لأنها أضعف منها بدليل أنه لا يشرع عند عدمهما فيكون بدلا عنهما والبدل أضعف من المبدل ولا يلزم من ثبوت الحكم بالأقوى ثبوته بالأضعف ولا يلزم من وجوب الدية وجوب القصاص لأنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشاهد واليمين ويحتاط له ويدرأ بالشبهات والدية بخلافه فأما الدية فتثبت بالنكول عند من يثبت المال به أو ترد اليمين على المدعي فيحلف يمينا واحدة ويستحقها كما لو كانت الدعوى في مال والله أعلم

مسألة وفصول : إذا كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد وبيان اللوث المشترط في القسامة وتقسيم الأيمان وحكم الإقرار بالقتل
مسألة : قال : فان كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد حلف الأولياء على قاتله خمسين يمينا واستحقوا دمه إذا كانت الدعوى عمدا
الكلام في هذه المسألة في فصول أربعة :
الفصل الأول : في اللوث المشترط في القسامة واختلفت الرواية عن أحمد فيه فروي عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل والأحياء واهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلا في المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شئ يعني ضغنا يؤحذون به ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة إلا أنه قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة واللوث على طائفة القتيل إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة أن لا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضا واشترط القاضي أن لا يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم وهذا مذهب الشافعي لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن فيها إلا اليهود وجميعهم أعداء ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل ان يكون القاتل ذلك الغير ثم ناقض القاضي قوله فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينه وبينهم عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لا مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها لأنها كانت أملاكا للمسلمين يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها والامتيار منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول الأنصار : ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود يدل على أنه قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلأن يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه ولا ينافيه الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الأيمان ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة لأنه يحتمل أن القاتل غيره ولا على الجماعة كلهم لأنه يحتمل أن لا يشترط الجميع في قتله والرواية الثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي وذلك من وجوه أحدها العداوة المذكورة والثاني أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم فان ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة الثالث أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد فيهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث فانه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة فديته في بيت المال وهذا قول إسحاق وروي ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في سننه عن ابراهيم قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال : بينتكم على من قتله فقال علي : يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال قال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام : ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته يعني عداوة يؤخذون فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث العداوة وقال الحسن و الزهري فيمن مات في الزحام : ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم وقال مالك : دمه هدر لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز انه كتب اليه في رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله فكتب اليهم ان من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها
الرابع : أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل أو سبعا يحتمل ذلك فيه
الخامس : أن يقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى ذكره القاضي فان كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل هذا قول الشافعي
وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما اذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول مالك وقال ابن أبي ليلى على الفريقين جميعا لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شيء ؟ على وجهين ذكرهما ابن حامد
السادس : أن يشهد بالقتل عبيد ونساء فهذا فيه عن أحمد روايتان : احداهما : أنه لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه فأشبه العداوة
والثانية : ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به كفار وإن شهد به فساق أو صبيان فهل يكون لوثا ؟ على وجهين :
احدهما : ليس بلوث لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الاطفال والمجانين والثاني يثبت بها اللوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد وقول الصبيان معتبر في الاذن في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي ويعتبر أن يجيء الصبيان متفرقين لئلا يتطرق اليهم التواطؤ على الكذب فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت العداوة وروي أن هذا ليس بلوث وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل بخيبر ولا يجوز القياس لأن الحكم ثبت بالمظنة ولا يجوز القياس في المظان لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف وتنخبط ولا تنضبط وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضي ولا سبيل الى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها فعلى هذه الرواية حكم هذه الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه
فصل : وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن لوثا عند أحد علمائنا قوله وإن شهدا أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم تثبت الشهادة ولم يكن لوثا هذا قول القاضي واختياره والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالاقرار بقتله أنه يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته وقال الشافعي : هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد ولنا أنها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم يكن لوثا كالصورة الاولى
فصل : وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل أثر وبهذا قال مالك و الشافعي وعن أحمد أنه شرط وهذا قول حماد و أبي حنيفة و الثوري لأنه اذا لم يكن به أثر احتمل أنه مات حتف أنفه
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر أو لا ؟ ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من أذنه فهو لوث لأنه لا يكون الا بالخنق له او أمر أصيب به وان خرح من أنفه فهل يكون لوثا ؟ على وجهين
الفصل الثاني : أن القسامة لاتثبت ما لم يتفق الأولياء على الدعوى فان كذب بعضهم بعضا فقال أحدهم قتله هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص عليه أحمد وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا وذكر عن الشافعي أن القسامة لا تبطل بتكذيب الفاسق لأن قوله غير مقبول
ولنا أنه مقر على نفسه بتبرئة من ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعى دينا لهما وإنما لا يقبل قوله على غيره فأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها فأما إن لم يكذبه ولم يوافقه في الدعوى مثل أن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله فظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تثبت لاشتراطه ادعاء الأولياء على واحد وهذا قول مالك وكذلك إن كان أحد الوليين غائبا فادعى الحاضر دون الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الايمان لم يثبت القتل في قياس قول الخرقي ومقتضى قول أبي بكر و القاضي ثبوت القسامة وكذلك مذهب الشافعي لأن أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما لو كان أحد الوارثين امرأة أو صغيرا فعلى قولهم يحلف المدعي خمسين يمينا ويستحق نصف الدية لأن الأيمان ههنا بمنزلة البينة ولا يثبت شيء من الحق الا بعد كمال البينة فأشبه ما لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما فانه لا يستحق نصيبه من الدين إلا أن يقيم بينة كاملة وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان أحدهما غائبا أن الاول فيه وجهان :
أحدهما : أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا وهذا قول ابن حامد لأن الايمان مقسومة عليه وعلى أخيه بدليل ما لو كانا حاضرين متفقين في الدعوى ولا يحلف الانسان عن غيره فلا يلزمه أكثر من حصته فاذا حضر الغائب أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا لأنه يبني على أيمان أخيه وذكر أبو بكر و القاضي في نظير هذه المسألة أن الأول يحلف خمسين يمينا وهل يحلف الثاني خمسين أو خمسا وعشرين ؟ على وجهين :
أحدهما : يقول : يحلف خمسين لأن أخاه لم يستحق إلا بخمسين فكذلك هو
ولنا أنهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه ولأن الحق في محل الوفاق إنما يثبت بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الآخر في الأيمان كما في سائر الدعاوى فعلى هذا إن قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال : قد عرفته هو الذي عينه أخي أقسما حينئذ وإن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى قول الخرقي لا تثبت القسامة لأنها لا تكون إلا على واحد وعلى قول غيره يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية ولا يجب القود لأنه انما يجب في الدعوى على واحد ويحلفان جميعا على هذا الذي اتفقا عليه على حسب دعواهما ويستحقان نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث في حقه في نصف الدم الذي اتفقا عليه ولم يثبت في النصف الذي كذبه أخوه فيه ولا يحلف الآخر على الآخر لأن أخاه كذبه في دعواه عليه وان قال أحدهما قتل أبي زيد وآخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي لأنها لا تكون إلا على واحد ولأنهما ما اتفقا في الدعوى على واحد ولا يمكن أن يحلفا على من لم يتفقا في الدعوى عليه والحق إنما ثبت في محل الوفاق بأيمان الجميع فكيف يثبت في الفرع بأيمان البعض ؟ وقال أبو بكر و القاضي : تثبت القسامة وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فانه يجوز أن يكون الذي جهله كل واحد منهما هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق ربع الدية فان عاد كل واحد منهما فقال : قد عرفت الذي جهله وهو الذي عينه أخي حلف أيضا على الذي حلف عليه أخوه وأخذ منه ربع الدية ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني على أيمان أخيه فلم يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما لو عرفه ابتداء وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يمينا لأن أخاه حلف خمسين يمينا و للشافعي في هذا قولان كالوجهين ويجيء في المسألة وجه آخر وهو أن الاول لا يحلف أكثر من خمسة وعشرين يمينا لأنه إنما يحلف على ما يستحقه والذي يستحقه النصف فيكون عليه نصف الأيمان كما لو حلف أخوه معه وإن قال كل واحد منهما الذي كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي أقسماها لأن التكذيب يقدح في اللوث فيرد كل واحد منهما ما أخذ من الدية وإن كذب أحدهما اخاه ولم يكذبه الآخر بطلت قسامة المكذب دون الذي لم يكذب
فصل : وإن قال الولي بعد القسامة : غلطت ما هذا الذي قتله أو ظلمته بدعواي القتل عليه أو قال : كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان بينهما بعد لا يمكن أن يقتله إذا كان فيه بطلت القسامة ولزمه رد ما أخذه لأنه مقر على نفسه فقبل إقراره وإن قال ما أخذته حرام سئل عن ذلك فإن قال أردت أنني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضا وإن قال أردت أن الأيمان تكون في جنبة المدعى عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها ثبتت باجتهاد الحاكم فيقدم على اعتقاده وان قال هذا مغصوب وأقر بمن غصب منه لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من أخذه منه لأن الانسان لا يقبل اقراره على غيره وإن لم يقر به لأحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه وإن اختلفا في مراده بقوله فالقول قوله لأنه أعرف بقصده
فصل : وإن أقام المدعي عليه بينة أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه منه اليه في يوم واحد بطلت الدعوى وان قالت البينة نشهد أن فلانا لم يقتله لم تسمع هذه الشهادة لأنه نفي مجرد فان قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت لأنها شهدت باثبات تضمن النفي فسمعت كما لو قالت ما قتله فلان لأنه كان يوم القتل في بلد بعيد
فصل : فان جاء رجل فقال ما قتله هذا المدعى عليه بل أنا قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه وله القسامة ولا يلزمه رد الدية إن كان أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شيء لأنه أقر لمن يكذبه وإن صدقه الولي أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذه وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر ؟ فيه وجهان :
أحدهما : له مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر الحقوق والثاني ليس له مطالبته لأن دعواه على الأول انفراده بالقتل إبراء لغيره فلا يملك مطالبة من أبرأه والمنصوص عن أحمد رحمه الله أنه يسقط القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية فانه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ ليقتاد منه فجاء رجل فقال ما قتله هذا أنا قتلته : فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني ووجه ذلك ما روي أن رجلا ذبح رجلا في خربة وتركه وهرب وكان قصاب قد ذبح شاة وأراد ذبح أخرى فهربت منه الى الخربة فتبعها حتى وقف على القتيل والسكين بيده ملطخة بالدم فأخذ على تلك الحال وجيء به إلى عمر رضي الله عنه فأمر بقتله فقال القاتل في نفسه : يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسببي آخر فقام فقال : أنا قتلته ولم يقتله هذا فقال عمر : إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا ودرأ عنه القصاص ولأن الدعوى على الأول شبهة في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية عليه لإقراره بالقتل الموجب لها وهذا القول أصح وأعدل مع شهادة الأثر بصحته
الفصل الثالث : أن الأولياء اذا ادعوا القتل على من بينه وبين القتيل لوث شرعت اليمين في حق المدعين أولا فيحلفون خمسين يمينا على المدعى عليه ان قتله وثبت حقهم قبله فان لم يحلفوا استحلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء وبهذا قال يحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد و مالك و الشافعي وقال الحسن : يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ويبرؤون وإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وفي لفظ [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] رواه الشافعي في مسنده وروى أبو داود باسناده [ عن سليمان بن يسار عن رجال من الانصار أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لليهود وبدأ بهم : يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار : استحقوا قالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم ] ولأنها يمين في دعوى فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى
وقال الشعبي و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي : يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلا ويغرمون الدية لقضاء عمر بذلك ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وتكلموا في حديث سهل بما روى أبو داود عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن ونجيد ابن قبطي أحد بني حارثة [ قال محمد بن ابراهيم : وايم الله ما كان سهل بأعلم منه ولكنه كان أسن منه قال : والله ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار : إنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من عنده ]
ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه من الحديث لا يصح لوجوه أحدها : أنه نفي فلا يرد به قول المثبت والثاني : أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال : ركضتني ناقة من تلك الإبل والآخر يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة والثالث : أن حديثنا مخرج في الصحيحين متفق عليه وحديثهم بخلافه
والرابع : أنهم لا يعملون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه ؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار ولم يذكر لهم صحبة فهو أدنى لهم من حديث محمد بن ابراهيم وقد خالف الحديثين جميعا فكيف يجوز أن يعتمد عليه ؟ وحديث [ اليمين على المدعى عليه ] لم ترد به هذه القصة لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وهنا قد أعطوا بدعواهم على أن حديثنا أخص منه فيجب تقديمه ثم هو حجة عليهم لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم وقد رواه ابن عبد البر باسناده عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة ] وهذه الزيادة يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان إذا ثبت هذا فإن أيمان القسامة خمسون مرددة على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه
الفصل الرابع : أن الأولياء اذا حلفوا استحقوا القود اذا كانت الدعوى عمدا إلا أن يمنع منه مانع روي ذلك عن ابن الزبير وعن عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و أبو ثور و ابن المنذر وعن معاوية و ابن عباس و الحسن و اسحاق لا تجب بها الدية لقول النبي صلى الله عليه و سلم لليهود : [ إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب من الله ] ولأن أيمان المدعين إنما هي بغلبة الظن وحكم الظاهر فلا يجوز إشاطة الدم بها لقيام الشبهة المتمكنة منها ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح ولا يجب بها
القصاص كالشاهد واليمين و للشافعي قولان كالمذهبين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] وفي رواية مسلم [ فيسلم اليكم ] وفي لفظ [ وتستحقون دم صاحبكم ] فأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود ولأنها حجة يثبت بها العمد فيجب بها القود كالبينة وقد روى الأثرم باسناده عن عامر الاحول أن النبي صلى الله عليه و سلم أقاد بالقسامة الطائفة وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعي مع يمينه احتياطا للدم فان لم يجب القود سقط هذا المعنى

مسألة : ان لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء
مسألة : قال : فان لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء
هذا ظاهر المذهب وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري و ربيعة و أبو الزناد و مالك و الليث و الشافعي و أبو الثور وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنهم يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار وهو قول أصحاب الرأي
ولنا قول النبي صلى اله عليه وسلم : [ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ] أي يتبرؤون منكم وفي لفظ قال : [ فيحلفون خمسين يمينا ويبرؤون من دمه ] وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يغرم اليهود وانه أداها من عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الأيمان ولأن ذلك اعطاء بمجرد الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل فإن قول الانسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر الحقوق ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق

مسألة : إن لم يحلف المدعون لم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال
مسألة : قال : فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الامام من بيت المال
يعني أدى ديته لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا وقالوا كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فوداه النبي صلى الله عليه و سلم من عنده كراهية أن يطل دمه فإن تعذر فداؤه من بيت المال لم يجب على المدعى عليهم شيء لأن الذي يوجبه عليهم اليمين وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم غيرها كدعوى المال

فصل : إذا امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا
فصل : وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة
ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان إذا ثبت هذا فإنه لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم كالشاهد واليمين قال القاضي : ويديه الامام من بيت المال نص عليه أحمد وروى عنه حرب بن اسماعيل ان الدية تجب عليهم وهذا هو الصحيح وهو اختيار أبي بكر لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ههنا كسائر الدعاوى ولأن وجوبها في بيت المال يفضي الى اهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره فلم يجز كسائر الدعاوى ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن ايجاب المال بها فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه كما في سائر الدعاوى وههنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله ولم يجبر على اليمين لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية وقال أصحاب الشافعي : إذا نكل المدعى عليهم ردت الايمان على المدعين إن قلنا موجبها المال فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا فلا شيء لهم وإن قلنا موجبها القصاص فهل ترد على المدعين ؟ فيه قولان وهذا القول لا يصلح لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي فلا ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعاوى ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين فلا ترد على من ردها كدعوى المال

مسألة : حكم ما لو شهدت البينة أن المجروح قال : دمي عند فلان
مسألة : قال : وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال : دمي عند فلان فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي وقال مالك و الليث : هو لوث لأن قتيل بني اسرائيل قال قتلني فلان فكان حجة وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ] ولأنه يدعي حقا لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي فأما قتيل بني إسرائيل فلا حجة فيه فإنه لا قسامة فيه ولأن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام حيث أحياه الله تعالى بعد موته وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ولم يكن الله لينطقه بالكذب بخلاف الحي ولا سبيل الى مثل هذا اليوم ثم ذاك في تنزيه المتهمين فلا يجوز تعديتها الى تهمة البريئين

مسألة : النساء والصبيان لا يقسمون في القسامة
مسألة : قال : والنساء والصبيان لا يقسمون
يعني إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا : أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون سواء كانوا من الأولياء أو مدعى عليهم لأن الايمان حجة للحالف والصبي لا يثبت بقوله حجة ولو أقر على نفسه لم يقبل فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن وبهذا قال ربيعة و الثوري والليث والأوزاعي وقال مالك : لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد قال ابن القاسم : ولا يقسم في العمد الا اثنان فصاعدا كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين وقال الشافعي : يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم ] ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء كالشهادة ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته وإنما يثبت المال ضمنا فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين ولا بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها المال فأما ان كانت المرأة مدعى عليها القتل فان قلنا إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا لأن ذلك مختص بالرجال وإن قلنا يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا وإنما هي لتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم النساء وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون أو كان فيهم حاضرون وغائبون فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب فهكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة والبينة أيمان الأولياء كلهم والأيمان لا تدخلها النيابة ولأن الحق إن كان قصاصا فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ وإن كان غيره فلا تثبت إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا وقال القاضي : إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير ولا الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال وإن كان موجبا للمال كالخطأ وعمد الخطأ فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية وهذا قول أبي بكر و ابن حامد ومذهب الشافعي واختلفوا في كم يقسم الحاضر ؟ فقال ابن حامد : يقسم يقسطه من الأيمان فان كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يمينا وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه وكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان وقال أبو بكر : يحلف الأول خمسين يمينا وهذا قول الشافعي ولأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان كلها ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما لم يستحق نضيبه منه الا بالبينة المثبتة لجميعه ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد لحلف يمينا كاملة كذلك هذا فإذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا عند أبي بكر لأنه يبني على أيمان اخيه المتقدمة وقال الشافعي فيه قول آخر : إنه يقسم خمسين يمينا أيضا لأن أخاه إنما استحق بخمسين فكذلك هو فإذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول أبي بكر يقسم سبع عشرة يمينا لأنه يبني على أيمان أخويه وعلى قول الشافعي فيه قولان : أحدهما أنه يقسم سبع عشرة يمينا والثاني خمسين يمينا وان قدم رابع كان على هذا المثال والله أعلم

فصل : حكم الخنثى المشكل في القسامة
فصل والخنثى المشكل يحتمل أن يقسم لأن سبب القسامة وجد في حقه وهو كونه مستحقا للدم ولم يتحقق المانع من يمينه ويحتمل أن لا قسامة عليه لأنه لا يعقل من العقل ولا يثبت القتل بشهادته أشبه المرأة

مسألة : إذا خلف المقتول ثلاثة بنين حلف كل واحد سبع عشرة يمينا
مسألة : قال : وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا
اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه أيمان القسامة فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا كل واحد منهم يمينا واحدة وهذا قول لمالك فعلى هذا يحلف الوراث منهم الذين يستحقون دمه فان لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة يؤخذ الاقرب منهم فالاقرب من قبيلته التي ينتسب اليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول فاما من عرف أنه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي ولا يعرف كيفية نسبه منه فلا يقسم لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح وكلهم يرجعون الى أب واحد ولو قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس فان لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم وقسمت بينهم فان انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين لقول النبي صلى الله عليه و سلم للأنصار : [ يحلف خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم ] وقد علم النبي صلى الله عليه و سلم انه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلا وارثا فإنه لا يرثه إلا أخوه أو من هو في درجته أو أقرب منه نسبا ولأنه خاطب بهذا بني عمه وهم غير وارثين والرواية الثانية : لا يقسم إلا الوارث وتعرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم هذا ظاهر قول الخرقي واختيار ابن حامد وقول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق فلا تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم فان انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول اثنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمسا وعشرين يمينا وإن كانوا ثلاثة بنين وجدا أو أخوين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع ايمان وعلى الأخ من الأب اثنتان وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا سواء تساووا في الميراث واختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى وعن مالك أنه قال : ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه و سلم للأنصار : [ تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ] وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق اليمين على المدعى عليه فانها ليست حجة للمدعي ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق واحد كاليمين المنكسرة في القسامة فانها تجبر وتكمل في حق كل واحد لكونها لا تتبعض وما لا يتبعض يكمل كالطلاق والعتاق وما ذكره مالك لا يصح لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها فلم يجز كما لو تساوى الكسران بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها وبالقياس على من عليه أكثرها ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في المدعى كثير وقليل كذا ههنا ولأنه يفضي الى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه عمن وجبت عليه فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكبر

فصل : حكم ما لوكان فيهم من لا قسامة عليه
فصل : فان كان فيهم من لا قسامة عليه بحال وهو النساء سقط حكمه فاذا كان ابن وبنت حلف الابن الخمسين كلها وان كان أخ وأخت لأم وأخ وأخت لأب قسمت الايمان بين الخوين على أحد عشر على الأخ من الأم ثلاثة وعلى الآخر ثمانية ثم يجبر الكسر عليهما فيحلف الأخ من الأب سبعا وثلاثين يمينا والأخ من الأم أربع عشرة يمينا

فصل : إن مات المستحق انتقل إلى وارثه ما عليه من الأيمان
فصل : فان مات المستحق انتقل الى وارثه ما عليه من الأيمان وكانت الأيمان بينهم على حسب مواريثهم ويجبر الكسر فيها عليهم كما ينجبر في حق ورثة القتيل وإن مات بعضهم قسم نصيبه من الأيمان بين ورثته فلو كان للقتيل ثلاثة بنين كان على كل واحد سبع عشرة يمينا فان مات بعضهم قبل أن يقسم وخلف ثلاثة بنين قسمت أيمانه بينهم فكان على كل واحد منهم ستة ايمان وان خلف ابنين حلف كل واحد تسعة أيمان وانما قلنا هذا لأن الوارث يقوم مقام الموروث في إثبات حججه كما يقوم مقامه في استحقاق ماله وهذا من حججه ولذلك يملك إقامة البينة والحلف في الإنكار ومع الشاهد الواحد في دعوى المال وان كان موته بعد شروعه في الأيمان فحلف بعضها فان ورثته يستأنفون الأيمان ولا يبنون على أيمانه لأن الخمسين جرت مجرى اليمين الواحدة ولأنه لا يجوز أن يستحق أحد بيمين غيره ولا يبطل هذا بما إذا حلف جميع الأيمان ثم مات لأنه يستحق المال إرثا عنه لا بيمينه ولأنه إذا حلف الوارثان كل واحد خمسا وعشرين يمينا فان الدية تستحق بيمينهما لأنهما يشتركان في الأيمان ويستحق كل واحد بقدر إيمانه ولا يستحق بيمين غيره وإن كان اجتماع العدد شرطا في استحقاقها

فصل : حكم ما لو حلف بعض الأيمان ثم جن ثم أفاق
فصل : ولو حلف بعض الأيمان ثم جن ثم أفاق فانه يتمم ولا يلزمه الاستئناف لأن أيمانه وقعت موقعها ويفارق الموت لأن الموت يتعذر معه اتمام الأيمان منه وغيره لا يبني على يمينه وههنا يمكنه أن بتمها اذا أفاق ولا تبطل بالتفريق بدليل أن الحاكم إذا حلفه بعض الأيمان ثم تشاغل عنه لم تبطل ويتمها وما لا يبطله التفريق لا يبطله تخلل الجنون له كالسعي بين الصفا والمروة وإن حلف بعض الأيمان ثم عزل الحاكم وولي غيره أتمها عند الثاني ولم يلزمه استئنافها لأن الأيمان وقعت موقعها وكذلك لو حلف بعضها ثم سأل الحاكم إنظاره فأنظره بنى على ما مضى ولم يلزمه
الاستئناف لما ذكرنا

فصل : حكم ما لو ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا
فصل : إذا ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا لم تجز على أكثر من واحد فيحلف خمسين يمينا وإن كانت عن غير عمد كالخطأ وشبه العمد فظاهر كلام الخرقي أنه لا قسامة في هذا لأن القسامة من شرطها اللوث والعداوة إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه فان احتمال الخطأ في العمد وغيره سواء وقال غيره من أصحابنا : فيه قسامة وهو قول الشافعي لأن اللوث لا يختص العداوة عندهم فعلى هذا تجوز الدعوى على جماعة فاذا ادعى على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا
وقال بعض أصحابنا : تقسم الأيمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين إلا أنها ههنا تقسم بالسوية لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت و للشافعي قولان كالوجهين والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تبرئكم يهود بخمسين يمينا ] وفي لفظ قال : [ فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرأون من دمه ] ولأنهم أحد المتداعيين في القسامة فتقسط الأيمان على عددهم كالمدعين وقال مالك : يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا فان لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل خمسين يمينا فان لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف وحده خمسين يمينا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ] ولنا ان هذه ايمان يبرأ بها كل واحد نفسه من القتل فكان على كل واحد خمسون كما لو أدعي على كل واحد وحده قتيل ولأنه لا يبرأ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد ولأن كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين فان أيمانهم على شيء واحد فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله أو مقصوده

مسألة : وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا حرا أو عبدا إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل لأن القسامة توجب القود
مسألة : قال : وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا حرا أو عبدا اذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه اذا ثبت عليه القتل لأن القسامة توجب القود إلا ان يحب الأولياء أخذ الدية
أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا فان الأصل في القسامة قصة عبدالله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقسامة وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله ففيه القسامة وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري و الثوري و مالك و الأوزاعي : لا قسامة في العبد فانه مال فلم تجب القسامة فيه كقتل البهيمة
ولنا انه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة كقتل الحر وفارق البهيمة فانها لا قصاص فيها ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة كالقن لأن الرق ثابت فيهم وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا والحر يقتل عبدا فلا قسامة فيه في ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود وقال القاضي فيهما القسامة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة
ولنا أنه قتل لا - يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة

فصل : إذا قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني
فصل : وإن قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه مالك للعبد يملك التصرف فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه وله شراؤه منه ولو اشترى المأذون له في التجارة عبدا فقتل فالقسامة لسيده دونه لأن ما يبتاعه المأذون يملكه سيده دونه ولهذا يملك انتزاعه منه وإن عجز المكاتب قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صار المستحق لبدل المقتول بمنزلة ورثة الحر إذا مات قبل أن يقسم ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبدا فقتل فالقسامة للسيد سواء قلنا يملك العبد بالتمليك أو لا يملك لأنه إن لم يملك فالملك لسيده وإن ملك فهو ملك غير ثابت ولهذا يملك سيده انتزاعه منه ولا يجوز له التصرف بغير إذن سيده بخلاف المكاتب وإن أوصى لأم ولده ببدل العبد صحت الوصية وإن كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة لأنهم القائمون مقام الموصي في إثبات حقوقه فاذا حلفوا ثبت لها البدل بالوصية وإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف كما اذا امتنع الورثة من اليمين مع الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه

فصل : حكم المحجور عليه لسفه أو فلس في القسامة
فصل : والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير المحجور عليه في دعوى القتل والدعوى عليه إلا أنه اذا أقر بمال أو لزمته الدية بالنكول عن اليمين لم يلزمه في حال حجره لأن اقراره بالمال في الحال غير مقبول بالنسبة الى أخذ شيء من ماله في الحال على ما عرف في موضعه

فصل : لو جرح مسلم فارتد ومات على الردة فلا قسامة فيه
فصل : ولو جرح مسلم فارتد ومات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير مضمونة وإنما يضمن الجرح ولا قسامة فيما دون النفس ولأن ماله يصير فيئا والفيء ليس له مستحق معين فثبت القسامة له وإن مات مسلما فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو بكر : ليس له أن يقسم وإن أقسم لم يصح لأن ملكه يزول عن ماله وحقوقه فلا يبقى مستحقا للقسامة وهذا قول المزني ولأن المرتد قد أقدم على الشرك الذي لا ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل وقال القاضي : الاولى أن تعرض عليه القسامة فان أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن استحقاق المال بالقسامة حق عليه فلا يقتل بردته كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره لا يمنع يمينه فان الكافر تصح يمينه وتعرض عليه في الدعاوى فان حلف ثبت القصاص أو الدية فإن عاد الى الإسلام كان له وإن مات كان فيئا والصحيح إن شاء الله ماقال أبو بكر لأن مال المرتد اما أن يكون ملكه قد زال عنه وإما موقوف وحقوق المال حكمها حكمه فإن قلنا بزوال ملكه فلا حق له وإن قلنا هو موقوف فهو قبل انكشاف حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشيء مشكوك فيه فكيف وقتل المسلم أمر كبير لا يثبت مع الشبهات ولا يستوفى مع الشك ؟ وأما إن ارتد قبل موت موروثه لم يكن وارثا ولا حق له وتكون القسامة لغيره من الوراث وإن لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما ذكرنا وإن عاد إلى الإسلام قبل قسامة غيره فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع قبل قسم الميراث قسم له وقال القاضي : لا تعود القسامة اليه لأنها استحقت على غيره وإن ارتد رجل فقتل عبده او قتل ثم ارتد فهل له أن يقسم ؟ على وجهين بناء على الاختلاف المتقدم فان عاد الى الاسلام عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد

فصل : لا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجوارح
فصل : ولا قسامة فيما دون النفس من الاطراف والجوارح ولا أعلم بين أهل العلم في هذا خلافا وممن قال لا قسامة في ذلك مالك و أبو حنيفة و الشافعي وذلك لأن القسامة تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف كالكفارة ولأنها تثبت حيث المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه يمكنه ذلك وحكم الدعوى فيه حكم الدعوى في سائر الحقوق والبينة على المدعي واليمين على من أنكر يمينا واحدة ولأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد كالدعوى في المال

مسألة : ليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد
مسألة : قال : وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد
لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري و مالك وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة وهذا نحو قول أبي ثور
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع اليكم برمته ] فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه وبيان مخالفة الأصل بها أنها تثبت باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها ؟ ولأن الأيمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه وهذا بخلافه وبيان ضعفها أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في اثبات حق لغيره فلأن يمنع من قبول قوله وحده في إثبا ت حقه لنفسه أولى وأحرى وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعون عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي بالشبهات
اذا ثبت هذا فلا قسامة فيما لا قود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن القسامة لا تشرع إلا في حق واحد وعند غيره ان القسامة تجري فيما لا قود فيه فيجوز ان يقسموا في هذا على جماعة وهذا قول مالك و الشافعي فعلى هذا إن ادعى على اثنين على أحدهما لوث حلف على من عليه اللوث خمسين يمينا واستحق نصف الدية عليه وحلف وحلف الآخر يمينا واحدة وبرىء وإن نكل عن اليمين فعليه نصف الدية وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا واحد منهم حلف على الحاضر منهم خمسين يمينا واستحق ثلث الدية فاذا حضر الثاني ففيه وجهان :
أحدهما : يحلف عليه خمسين يمينا أيضا ويستحق ثلث الدية لان الحق لا يثبت على أحد الرجلين إلا بما يثبت على الآخر كالبينة فانه يحتاج إلى إقامة البينة الكاملة على الثاني كاقامتها على الأول
والثاني : يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا لأنهما لو حضرا معا لحلفا عليه خمسين يمينا حصة هذا منها خمس وعشرون وهذا الوجه ضعيف فان اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا ولو حلف كل واحد منفردا حصته من الأيمان لم يصح ولم يثبت له حق وإنما الأيمان عليهم جميعا وتتناولهم تناولا واحدا ولأنها لو قسمت عليهم بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة يمينا وكذلك على الثاني لان هذا القدر هو حصة من الأيمان فعلى كلا التقديرين لا وجه لحلفه خمسا وعشرين يمينا وإن قيل إنما حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعا وثلاثين وإذا قدم الثالث ففيه الوجهان :
أصحهما : يحلف عليه خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية والآخر يحلف سبع عشرة يمينا وإن حضروا جميعا حلف عليهم خمسين يمينا واستحق الدية عليهم أثلاثا وهذا التفريع يدل على اشتراط حضور المدعى عليه وقت الأيمان وذلك لأنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت عليه كالبينة وكذلك إن ردت الأيمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف المدعى عليهم لأن الأيمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره إلا أن يوكل وكيلا فيقوم مقام موكله

فصل : حكم ما لو قال المدعي : قتله هذا ورجل آخر
فصل : وإن قال المدعي قتله هذا ورجل آخر لا أعرفه وكان على المعين لوث أقسم عليه خمسين يمينا واستحق نصف الدية فان تعين له الآخر حلف عليه واستحق نصف الدية وإن قال قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم لم تجب القسامة لأنه لا يعلم كم حصته من الدية

فصل : لا تسمع دعوى القسامة إلا محررة
فصل : ولا تسمع الدعوى إلا محررة بأن يقول : أدعي أن هذا قتل وليي فلان بن فلان عمدا أو خطأ أو شبه العمد ويصف القتل فان كان عمدا قال قصد اليه بسيف أو بما يقتل مثله غالبا فان كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل وإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا صار الأمر الى الأيمان وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد لم يخل من أربعة احوال : أحدها أن يقول قتله هذا وهذا تعمد قتله ويصف العمد بصفته فيقال له : عين واحدا فان القسامة الموجبة للقود لا تكون على أكثر من واحد الحال الثاني أن يقول تعمد هذا وهذا كان خاطئا فهو يدعي قتلا غير موجب للقود فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من عاقلة المخطىء الحال الثالث : أن يقول عمد هذا ولا أدري أكان قتل الثاني عمدا أو خطأ ؟ فقيل : لا تسوغ القسامة ههنا لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئا فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامدا فلا تسوغ القسامة عليهما ويجب تعيين واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود فلم تجز القسامة مع هذا فان عاد فقال علمت ان الآخر كان عامدا فله ان يعين واحدا ويقسم عليه وإن قال كان مخطئا ثبتت القسامة حينئذ ويسأل فان أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في ماله لأنه ثبت باقراره لا بالقسامة وقال القاضي : يكون على عاقلته والأول أصج لأن العاقلة لا تحمل اعترافا الحال الرابع أن يقول : قتلاه خطأ أو شبه عمد أو أحدهما خاطىء والآخر شبه العمد فله أن يقسم عليهما فان ادعى أنه قتل وليه عمدا فسئل عن تفسير العمد ففسره بعمد الخطأ قبل تفسيره وأقسم على ما فسره به لأنه اخطأ في وصف القتل بالعمدية ونقل المزني عن الشافعي لا يحلف عليه لأنه بدعوى العمد برأ العاقلة فلا تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال
ولنا دعواه قد تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمدا وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن الدعوى لا تسمع غير محررة فكأنه حلفه قبل الدعوى ولأنه إنما يحلفه ليوجب له ما يستحقه فإذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه لم يحصل المقصود باليمين فلم يصح

فصل : قال القاضي : يجوز للاولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله
فصل : قال القاضي يجوز للاولياء أن يقسموا على القاتل اذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للانصار : [ تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ] وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر ولأن الانسان يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر انه ملك الذي باعه وكذلك اذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له ان يحلف انه باعه بريئا من العيب ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة ظن يقارب اليقين وينبغي للحاكم ان يقول لهم : اتقوا الله واستثبتوا ويعظهم ويحذرهم ويقرأ عليهم { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة وظلم البريء وقتل النفس بغير الحق ويعرفهم أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا كله مذهب الشافعي

فصل : يستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا
فصل : ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا فيقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فان اقتصر على لفظه والله كفى ويقول والله أوبالله أو تالله بالجر كما تقتضيه العربية فان قاله مضموما أو منصوبا فقد لحن قال القاضي : ويجزئه تعمده أو لم يتعمده لانه لحن لا يحيل المعنى وهو قول الشافعي وما زاد على هذا تأكيد ويقول لقد قتل فلان بن فلان الفلاني - ويشير اليه - فلانا ابني او اخي منفردا بقتله ما شركه غيره وان كانا اثنين قال منفردين ما شركهما غيرهما ثم يقول عمدا أو خطأ وبأي اسم من أسماء الله أو صفة من صفات ذاته حلف أجزأ إذا كان إطلاقه ينصرف الى الله تعالى ويقل المدعى عليه في اليمين : والله ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا أحدثت شيئا مات منه ولا كان سببا في موته ولا معينا على موته

مسألة وفصول : الكفارة الواجبة في القتل وأحكامها
مسألة : قال : ومن قتل نفسا محرمة أو شارك فيها أو ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وكان الفعل خطأ فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن على قاتل العمد تحرير رقبة مؤمنة
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } الآية وأجمع أهل العلم على أن القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكرا أو انثى وتجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل أو تسبب إلى قتله بسبب يضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة الزور وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لانه ليس بقتل ولانه ضمن بدله بغير مباشرة للقتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة
ولنا انه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لاتلاف الآدمي يتعلق به ضمانه فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكبا فأوطأ دابته انسانا وقياسهم ينتقض بالاب إذا أكره انسانا على قتل ابنه فان الكفارة تجب غير مباشرة وفارق العاقلة فإنها تتحمل عن غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب اليه وقولهم ليس بقتل ممنوع قال القاضي : ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لانه إن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص
فصل : وتجب الكفارة بقتل العبد وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا تجب به لانه مضمون بالقيمة أشبه البهيمة ولنا عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } لأنه يجب القصاص بقتله فتجب الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فاشبه الحر ويفارق البهلئم بذلك
فصل : وتجب بقتل الكافر المضمون سواء كان ذميا أو مستأمنا وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال الحسن و مالك : لا كفارة فيه لقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } فمفهومه ان لا كفارة في غير المؤمن ولنا قوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب ولانه آدمي مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم
فصل : وإذا قتل الصبي والمجنون ووجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا كفارة على واحد منهم لانها عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على الصبي والمجنون الكافر كالصلاة والصيام
ولنا حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية وتفارق الصوم والصلاة لانهما عبادتان بدنيتان وهذه مالية أشبهت نفقات الاقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لانها تتعلق بالقول ولا قول لهما وهذه تتعلق بالقعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالقعل ما لا يتعلق بالقول بدليل أن العتق يتعلق بإحبالهما دون اعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه وتكون عقوبة عليه كالحدود
فصل : ومن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا أو رمى الى صف الكفار فأصاب فيهم مسلما فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة }
فصل : ومفهوم كلام الخرقي ان كل قتل مباح لا كفارة فيه كقتل الحربي والباغي والزاني المحصن والقتل قصاصا أو حدا لانه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به وأما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا إباحة لانه كفعل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة محترمة فلذلك وجبت الكفارة فيها وقال قوم : الخطأ محرم ولا إثم فيه وقيل : ليس بمحرم لان المحرم ما اثم فاعله وهذا لا إثم فيه وقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } هذا استثناء منقطع وإلا في موضع لكن : التقدير لكن قد يقتله خطأ وقيل إلا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه اليه النهي لعدم إمكان التحريم منه وكونه لا يدخل تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ولا كانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله ما يصلح عطفه عليه
وأما قتل نساء اهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه لأنه ليس لهم ايمان ولا أمان وانما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصيرون بالسبي رقيقا ينتفع بهم وكذلك قتل من لم تبلغه الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشيء فاشبهوا من قتله مباح
فصل : ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجب لان ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة كقتل نساء اهل الحرب وصبيانهم
ولنا عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ولانه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله كما لو قتله غيره والأول أقرب الى الصواب ان شاء الله فان عامر بن الاكوع قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم فيه بكفارة وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ } انما اريد بها اذا قتل غيره بدليل قوله : { ودية مسلمة إلى أهله } وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع
فصل : ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة وهذا قول اكثر أهل العلم منهم الحسن و عكرمة و النخعي و الحارث العكلي و الثوري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية اخرى ان على الجميع كفارة واحدة وهو قول أبي ثور وحكي عن الاوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وانكره سائر اصحابه واحتج لمن اوجب كفارة واحدة بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ومن يتناول الواحد والجماعة ولم يوجب الا كفارة واحدة ودية والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة ولانها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول ككفارة الصيد الحرمي
ولنا انها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فانها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية
فصل : اذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا فعليه الكفارة وبه قال الحسن و عطاء و الزهري و النخعي و الحكم و حماد و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة : لا تجب وقد مضت هذه المسألة في دية الجنين
فصل : والمشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال الثوري و مالك و أبو الثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفارة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الاسقع قال : [ أتينا النبي صلى الله عليه و سلم بصاحب لنا قد اوجب بالقتل فقال : اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار ] ولانها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي العمد أولى لانه أعظم إثما وأكبر جرما وحاجته الى تكفير ذنبه أعظم
ولنا مفهوم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ثم ذكر قتل العمد ولم يوجب فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه و [ روي أن سويد بن الصامت قتل رجلا فأوجب النبي صلى الله عليه و سلم عليه القود ولم يوجب كفارة ] و [ عمرو بن امية الضمري قتل رجلين في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فوداهما النبي صلى الله عليه و سلم ولم يوجب كفارة ] ولانه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجبا أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالعتاق تبرعا ولذلك أمر غير القاتل بالاعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ فتمحو إثمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك إيجابها في موضع عظم الاثم فيه بحيث لا يرتفع بها إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لان هذا من أنواع العمد
فصل : وتجب الكفارة في شبه العمد ولم أعلم لاصحابنا فيه قولا لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه ولأنه أجرى مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل انما لم يحمل شيئا من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة تحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شيء أصلا ولم يرد الشرع بهذا
فصل : وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص الكتاب سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو كافرا فان لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلا عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضا فان لم يستطع ففيه روايتان :
إحداهما : يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شيء آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره والثاني يجب اطعام ستين مسكينا لانها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين فكان فيها إطعام ستين مسكينا عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان وان لم يكن مذكورا في نص القرآن فقد ذكر ذلك في نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية إن عجز عن الاطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه و للشافعي قولان في هذا كالروايتين والله أعلم

مسألة : ما أوجب القصاص لا يقبل فيه إلا عدلان
مسألة : قال : وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان
وجملته أن ما أوجب القصاص في نفس كالقتل العمد العدوان من المكافىء او في طرف كقطعه من مفصل عمدا ممن يكافئه فلا يقبل فيه الا شهادة رجلين عدلين ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شاهد ويمين الطالب لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا وذلك لان القصاص إراقة دم عقوبة على جناية فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود وسواء كان القصاص يجب على مسلم أو كافر أو حر أو عبد لأن العقوبة يحتاط لدرئها وقد روي عن ابي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه لا يقبل في الشهادة على القتل الا شهادة أربعة وهذا مذهب الحسن لانها شهادة يثبت بها القتل فلم يقبل أقل من أربعة كالشهادة على الزنا من المحصن
ولنا انه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنا فانه مختص بهذا وليست العلة كونه قتلا بدليل وجوب الاربعة في زنا البكر ولا قتل فيه ولانه انفرد بوجوب الحد على الرامي به والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز أن يلحق به ما ليس مثله

مسألة : ما أوجب المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان أو رجل عدل مع يمين الطالب
مسألة : قال : وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان او رجل عدل مع يمين الطالب
وجملته أن ما كان موجبه المال كقتل الخطأ وشبه العمد والعمد في حق من لا يكافئه والجائفة والمأمومة وما دون الموضحة وشريك الخاطىء وأشباه هذا فانه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وشهادة عدل ويمين الطالب وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : لا يثبت أيضا الا بشهادة عدلين ولا تسمع فيه شهادة النساء ولا شاهد ويمين لانها شهادة على قتل او جناية على آدمي فلم تسمع من النساء كالقسم الأول يبين صحة هذا أنه لما لم يكن للنساء مدخل في القسامة في العمد ولم يكن لهن مدخل في القسامة على الخطأ وشبه العمد الموجب للمال فيدل هذا على أنهن لا مدخل لهن في الشهادة على دم بحال
ولنا انها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص فوجب أن تقبل كالشهادة على البيع والاجارة وفارق قتل العمد فانه موجب للعقوبة التي يحتاط باسقاطها فاحتيط في الشهادة على أسبابها وفي مسألتنا المقصود تقبل شهادتهن فيه فقبلت شهادتهن على سببه

فصل : لو ادعى جناية عمد وقال عفوت عن القصاص لم يقبل فيه شاهد وامرأتان
فصل : ولو ادعى جناية عمد وقال عفوت عن القصاص فيها لم يقبل فيه شاهد وامرأتان لانه انما يعفو عن شيء ثبت له ولا يثبت ذلك القتل بتلك الشهادة وإن ثبت القتل إما بشاهدين او باقرار المدعى عليه صح العفو لان الحق ثبت له بوجود القتل وانما خفي ثبوته عمن لم يعلم ذلك فاذا علم ذلك علم أنه كان ثابتا من حين وجد القتل فيكون العفو مصادفا لحقه الثابت فينفذ كما لو أعتق عبدا ينازعه فيه منازع ثم ثبت انه كان ملكه حين العتق

فصل : لا يثبت القتل بالشهادة إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهدين
فصل : ولا يثبت القتل بالشهادة إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهدين نحو ان يقولا نشهد أنه ضربه فقتله او فمات منه فان قالا ضربه بالسيف فمات او فوجدناه ميتا او فمات عقيبه او قالا ضربه بالسيف فأسال دمه او فأنهمر دمه فمات مكانه لم يثبت القتل لجواز أن يكون مات عقيب الضرب بسبب آخر وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل بالقتل فقال : اشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال له شريح : فمات منه ؟ فأعاد الرجل قوله الاول فقال له شريح : قم فلا شهادة لك وإن كانت الشهادة بالجرح فقالا ضربه فأوضحه او فاتضح منه او فوجدناه موضحا من الضربة قبلت شهادتهما وإن قالا ضربه فاتضح رأسه أو وجدناه موضحا او فأسال دمه ووجدنا في رأسه موضحة لمن يثبت الايضاح لجواز أن يتضح عقيب ضربه بسبب آخر ولا بد من تعيين الموضحة في إيجاب القصاص لأنه ان كان في رأسه موضحتان فيحتاجان الى بيان ما شهدا به منهما وإن كانت واحدة فيحتمل أن يكون قد أوسعها غير المشهود عليه فيجب أن يعينها الشاهدان فيقولان هذه وان قالا اوضحه في موضع كذا من رأسه موضحة قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما وإن قالا لا نعلم قدرها او موضعها لم يحكم بالقصاص لانه يتعذر مع الجهالة وتجب الدية لأنها لا تختلف باختلافها وإن قالا ضرب رأسه فأسال دمه كانت بازلة وان قالا فسال دمه لم يثبت شيء لجواز ان يسيل دمه بسبب آخر وإن قالا نشهد أنه ضربه فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما وثبت القصاص لعدم الاشتباه وإن كان أقطع اليدين ولم يعينا المقطوعة لم يثبت القصاص لأنهما لم يعينا اليد التي يجب القصاص منها وتجب دية اليدين لانها لا تختلف باختلاف اليدين

فصول : فروع في الشهادة على القتل
فصل : إذا شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا وشهد الآخر أنه أقر بقتله ولم يقل عمدا ولا خطأ ثبت القتل لان البينة قد تمت عليه ولم تثبت صفته لعدم تمامها عليه ويسأل المشهود عليه عن صفته فان أنكر أصل القتل لم يقبل إنكاره لقيام البينة به وإن أقر بقتل العمد ثبت باقراره وإن اقر بقتل الخطأ وأنكر الولي فالقول قول القاتل وهل يستحلف على ذلك ؟ يخرج فيه وجهان وان صدقه الولي على الخطأ ثبت عليه وإن أقر بقتل العمد وكذبه الولي وقال بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تحمل العاقلة شيئا من ديته في هذه المواضع كلها وتكون في ماله لأنها لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر بأنها في ماله دون مال عاقلته وإن قال أحد الشاهدين أشهد أنه اقر بقتله عمدا وقال الآخر أشهد أنه أقر بقتله خطأ ثبت القتل أيضا لانه لا تنافي بين شهادتيهما لانه يجوز أن يقر عند أحدهما بقتل العمد ويقر عند الآخر بقتل الخطأ فثبت إقراره بالقتل دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا في التي قبلها وإن شهد احدهما انه قتله عمدا وشهد الآخر انه قتله خطأ ثبت القتل أيضا دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا لان الفعل قد يعتقده أحدهما خطأ والآخر عمدا ويكون الحكم كما لو شهد على إقراره بذلك وإن شهد أحدهما انه قتله غدوة وقال الآخر عشية وقال أحدهما قتله بسيف وقال الآخر بعصا لم تتم الشهادة ذكره القاضي لان كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : يثبت القتل بذلك لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته فاشبه التي قبلها والأول أصح لأن كل واحد من الشاهدين يكذب صاحبه فان القتل غدوة غير القتل عشية ولا يتصور أن يقتل غدوة ثم يقتل عشية ولا أن يقتل بسيف ثم يقتل بعصا بخلاف العمد والخطأ لان الفعل واحد والخلاف في نيته وقصده وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر وإن شهد أحدهما أنه قتله وشهد الآخر انه اقر بقتله ثبت القتل نص عليه أحمد واختاره ابو بكر واختار القاضي انه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لان احدهما شهد بغير ما شهد به الآخر فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد
ولنا ان الذي أقر به هو القتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما فيثبت بشهادتهما كما لو شهد احدهما بالقتل عمدا والآخر بالقتل خطأ أو كما لو شهد احدهما ان له عليه الفا وشهد الآخر انه اقر بالف له
فصل : إذا قتل رجل عمدا قتلا يوجب القصاص سواء كان الشاهد عدلا او فاسقا لان شهادته تضمنت سقوط حقه من القصاص وقوله مقبول في ذلك فان احد الوليين إذا عفا عن حقه سقط القصاص كله ويشبه هذا ما لو كان عبد بين شريكين فشهد أحدهما ان شريكه اعتق نصيبه وهو موسر عتق نصيبه وان انكره الآخر فان كان الشاهد بالعفو شهد بالعفو عن القصاص والمال لم يسقط المال لأن الشاهد اعترف ان نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فان كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته فالقول قول المشهود عليه مع يمينه فاذا حلف ثبتت حصته من الدية وان كان الشاهد مقبول القول حلف الجاني معه وسقط عنه الحق المشهود عليه ويحلف الجاني انه عفا عن الدية ولا يحتاج الى ذكر العفو عن القصاص لأنه قد اسقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج الى ذكره في اليمين ولأنه إنما يحلف على ما يدعى عليه ولا يدعى عليه غير الدية
فصل : واذا جرح رجل فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين نظرت فان كانت لجراح مندملة فشهادتهما مقبولة لأنهما لا يجران إلى انفسهما نفعا وإن كانت غير مندملة لم يحكم بشهادتهما لجواز ان تصير نفسا فتجب الدية لهما بشهادتهما فان شهدا في تلك الحال وردت شهادتهما ثم اندملت فأعادا شهادتهما فهل تقبل ؟ على وجهين : أحدهما : لا تقبل لأن الشهادة ردت للتهمة فلا تقبل وان زالت التهمة كالفاسق إذا أعاد شهادته المردودة بعد عدالته والثاني تقبل لان سبب التهمة قد تحقق زواله و للشافعي وجهان كهذين وان شهد وارثا المريض بمال ففي قبول شهادتهما له وجهان :
أحدهما : تقبل لانهما يثبتان المال للمريض وان مات انتقل اليهما عنه فاشبهت الشهادة للصحيح بخلاف الجناية فانها اذا صارت نفسا وجبت الدية لهما بها والوجه الثاني لا تقبل لانه متى ثبت المال للمريض تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما زاد على الثلث وان شهد للمجروح بالجرح من لا يرثه لكونه محجوبا كالأخوين يشهدان لأخيهما وله ابن سمعت شهادتهما فان مات ابنه نظرت فان كان الحاكم حكم بشهادتهما لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق وان كان ذلك قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما وان شهد على رجل بالجراح الموجبة للدية على العاقلة فشهد بعض عاقلة فشهد بعض عاقلة المشهود عليه بجرح المشهود لم تقبل شهادته وان كان فقيرا لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل فيكون دافعا عن نفسه وان كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد أو العبد سمعت شهادة العاقلة بجرح الشهود لأنهما لا يدفعان عن انفسهما ضررا فان موجب هذه الجراحة القصاص او المال في ذمة الجاني وكذلك ان كان الشاهدان يشهدان على إقراره بالجرح لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وان كانت شهادتهما بجراح عقله دون ثلث الدية خطأ نظرنا فان كانت شهادة العاقلة بجرح الشهود قبل الاندمال لم تقبل لأنها ربما صارت نفسا فتحملها العاقلة وان كانت بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون الثلث وان كان الشاهدان بالجرح ليسا من العاقلة في الحال وإنما يصيران من العاقلة التي تتحمل ان لو مات من هو أقرب منهما قبلت شهادتهما ذكره القاضي لانهما ليسا من العاقلة وإنما يصيران منها بموت القريب والظاهر حياته وفارق الفقير اذا شهد لأن الغني ليست عليه أمارة فان المال غاد ورائح ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا ويحتمل أن يسوى بين المسلمين لأن كل واحد منهما ليسا من العاقلة في الحال وانما يصير منها بحدوث امر لم يتفق الآن سببه فهما سواء واحتمال غنى الفقير كاحتمال موت الحي بل الموت أقرب فانه لا بد منه وكل حي ميت وكل نفس ذائقة الموت وليس كل فقير يستغني فما ثبت في إحدى الصورتين يثبت في الاخرى فيثبت فيهما جميعا وجهان بأن ينقل حكم كل واحدة من الصوربين إلى الاخرى
فصل : اذا شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلا ثم شهد المشهود عليهما على الأولين أنهما اللذان قتلاه فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما وهما يدفعان بشهادتهما عن انفسهما ضررا وإن صدق الاخرين وحدهما بطلت شهادة الجميع لأن الأولين بطلت شهادنهما لتكذيبه لهما ورجوعه عما شهدا له به والآخران لا تقبل شهادتهما لأنهما عدوان للأولين ولأنهما يدفعان عن أنفسهما ضررا وإن صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضا لأنه بتصديق الاولين مكذب للآخرين وتصديقه للآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه فان قيل كيف تتصور هذه المسألة والشهادة انما تكون بعد الدعوى ؟ فكيف يتصور فرض تصديقهم وتكذيبهم ؟ قلنا قد يتصور أن يشهدوا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولي عن قتله ؟ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ] وهذا معنى ذلك

كتاب قتال أهل البغي : وفيه خمس فوائد
والأصل في هذا الباب قول الله سبحانه : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } إلى قوله { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ففيها خمس فوائد :
أحدها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان فانه سماهم مؤمنين الثانية أنه أوجب قتالهم الثالثة أنه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله الرابعة أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم الخامسة أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه وروى عبد الله بن عمرو وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ] رواه مسلم وروى عرفجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ستكون هنات وهنات - ورفع صوته ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ] فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وروى عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية ] رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة فان أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وعلي رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان
والخارجون عن قبضة الامام أصناف أربعة : احدها قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الارض بالفساد ياتي حكمهم في باب مفرد
الثاني : قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعي لان ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن ان برئت رأيت رأيي وان مت فلا تمثلوا به فلم يثبت بفعله حكم البغاة ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى إتلاف أموال الناس وقال أبو بكر : لا فرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن حكم الامام
الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحا والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث و مالك يرى استتابتهم فان تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم فان تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار وان كانوا في قبضة الامام استتابهم كاستتابة المرتدين فان تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما روى أبو سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يرى شيئا وينظر في القدح فلا يرى شيئا وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق ] رواه مالك في موطئه و البخاري في صحيحه وهو حديث صحيح ثابت الإسناد وفي لفظ قال : [ يخرج في قوم آخر الزمان أحداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ] رواه البخاري وروى معناه من وجوه يقول فكما خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشيء كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج وعن أبي أمامة أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الى آخر الآية فقيل له انت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه قال الترمذي : هذا حديث حسن ورواه ابن ماجة عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب انه سمع أبا امامة يقول : شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوا كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا قلت : يا أبا أمامة هذا شيء تقوله ؟ قال : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
وعن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } قال : هم أهل النهروان وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ هم شر الخلق والخليقة لإن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] وقال : [ لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ] وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين وقال ابن عبد البر في الحديث الذي رويناه قوله : [ يتمارى في الفوق ] يدل على انه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الاسلام بشيء بحيث يشك في خروجهم منه وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لاصحابه : لا تبدأوهم في القتال وبعث اليهم أقيدونا بعبد الله بن خباب قالوا : كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لاقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر : أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا قيل : فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكون الله إلا قليلا قيل : فما هم ؟ قال : هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن : أحسنوا إساره فان عشت فأنا ولي دمي وإن مت فضربة كضربتي وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء والصحيح إن شاء الله ان الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والاجهاز على جريحهم لأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتلهم ووعده بالثواب من قتله فان عليا رضي الله عنه قال : لولا أن ينظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه و سلم ولان بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من عظم ذنبهم وأنهم شر الخلق والخليقة وأنهم يمرقون من الدين وأنهم كلاب النار وحثه على قتلهم واخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز الحاقهم بمن أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالكف عنهم وتورع كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن قتالهم ولا بدعة فيهم
الصنف الرابع : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الامام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة لما ذكرنا في أول الباب ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل البغي وظهر الفساد في الأرض

مسألة : إذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا ودفعوا بأسهل
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : واذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا ودفعوا بأسهل ما يندفعون به
وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته لما ذكرنا من الحديث والاجماع وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي صلى الله عليه و سلم او بعهد إمام قبله اليه فان أبا بكر ثبتت امامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت امامته بعهد ابي بكر اليه وأجمع الصحابة على قبوله ولو خرج رجل على الامام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له واذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه فان عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها فصار إماما يحرم الخروج عليه وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين واراقة دمائهم وذهاب اموالهم ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه السلام : [ من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ] فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيا وجب قتاله ولا يجوز قتالهم حتى يبعث اليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب إلا أن يخاف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم فاما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم فان لجوا قاتلهم حينئذ لان الله تعالى بدأ بالامر بالاصلاح قبل القتال فقال سبحانه : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وروي أن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل ثم أمر أصحابه أن لا يبدأوهم بالقتال ثم قال : إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم يقولون الله اكبر يا ثارات عثمان فقال : اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم وروى عبد الله بن شداد بن الهادي ان عليا لما اعتزلته الحرورية بعث اليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف فان أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال وإنما كان كذلك لان المقصود كفهم ودفع شرهم لا قتلهم فاذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين فان سألوا الانظار نظر في حالهم وبحث عن أمرهم فان بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة الحق أمهلهم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم فان كان قصدهم الاجتماع على قتاله وانتظار مدد يقوون به او خديعة الامام او ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره لم ينظرهم وعاجلهم لانه لا يأمن من أن يصير هذا طريقا إلى قهر أهل العدل ولا يجوز هذا وان اعطوه عليه مالا لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على إقرارهم على ما لا يجوز اقرارهم عليه وان بذل له رهائن على انظارهم لم يجز أخذها لذلك ولأن الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم فلا يفيد شيئا وان كان في ايديهم أسرى من أهل العدل واعطوا بدلك رهائن منهم قبلهم الامام واستظهر للمسلمين فان أطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وإن قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم لانهم لا يقتلون بقتل غيرهم فاذا انقضت الحرب خلي الرهائن كما تخلى الأسارى منهم وان خاف الامام على الفئة العادلة الضعف عنهم أخر قتالهم الى أن تمكنه القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم حتى تقوى شوكة أهل العدل ثم يقاتلهم وان سألوه أن ينظرهم أبدا ويدعهم وما هم عليه ويكفوا عن المسلمين نظرت فان لم يعلم قوته عليهم وخاف قهرهم له إن قاتلهم تركهم وان قوي عليهم لم يجز إقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز ان يترك بعض المسلمين طاعة الامام ولا تؤمن قوة شوكتهم بحيث يفضي إلى قهر الامام العادل ومن معه ثم ان امكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم لأهلهم ولأن المقصود إذا حصل بدون القتل لم يجز القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز لان عليا رضي الله عنه نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال : إياكم وصاحب البرنس فقتله رجل وانشأ يقول :
( وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم )
( هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم )
( على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا ومن لم يتبع الحق يظلم )
( يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلا حم قبل التقدم )
وكان السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه صار ردءا لهم
ولنا قول الله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } و الأخبار الواردة في قتل المسلم والاجماع على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على العموم والاجماع فيه ولهذا حرم قتل مدبرهم وأسيرهم والاجهاز على جريحهم مع أنهم إنما تركوا القتال عجزا عنه ومتى ما قدروا عليه عادوا اليه فمن لا يقاتل تورعا عنه مع قدرته عليه ولا يخاف منه القتال بعد ذلك أولى ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله عليه السلام : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث ] فأما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو حجة عليه فان نهي علي أولى من فعل من خالفه ولا يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله ولا قول إمامة وقولهم لم ينكر قتله قلنا : لم ينقل الينا أن عليا علم حقيقة الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره وقد جاء أن عليا رضي الله عنه حين طاف في القتلى رآه فقال : السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه وهذا يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأى كعب بن سور فقال : يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع وهذا الحبر بين أظهرهم ويجوز أن يكون تركه الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولأن القصد من قتالهم كفهم وهذا كاف لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم=

=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي

  : أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي أدوات الأعراب تأليف ظاهر شوكت البياتي  الإهداء إلى صديقي الصدوق: طه هاشم الدليمي الذ...