4. مصاحف

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 3. و4 .المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 مجلد 3.  و4 .المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

3.

مجلد 3. المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 
 فصول : القراءة في صلاة الليل
فصل : ويستحب أن يقرأ المتهجد جزءا من القرآن في تهجده فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله وهو مخير بين الجهر بالقراءة والإسرار بها إلا أنه إن كان الجهر أنشط له في القراءة أو كان بحضرته من يستمع قراءته أو ينتفع بها فالجهر أفضل وإن كان قريبا منه من يتهجد أو من يستضر برفع صوته فالإسرار أولى وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء قال عبد الله بن قيس : سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالت كل ذلك كان يفعل ربما أسر وربما جهر قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال أبو هريرة كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع طورا ويخفض طورا وقال ابن عباس : كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت رواهما أبو داود و [ عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته ومر بعمر وهو يصلي رافعا صوته قال فلما اجتمعنا عند النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك قال إني أسمعت من ناجيت يا رسول الله قال : فارفع قليلا ] و [ قال لعمر : مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك قال : فقال يا رسول الله أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان قال : اخفض من صوتك شيئا ] رواه أبو داود و [ قال أبو سعيد اعتكف رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة - أو قال - في الصلاة ] أخرجه أبو داود
فصل : ومن كان له تهجد ففاته استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من نام عن حربه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ] و [ عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا عمل عملا أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة قالت وما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قام ليلة حتى الصباح وما صام شهرا متتابعا إلا رمضان ]

فصل : التنفل بين المغرب والعشاء
فصل : ويستحب التنفل بين المغرب والعشاء لما روي عن أنس بن مالك في هذه الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } الآية قال كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء يصلون رواه أبو داود وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنة ] قال أبو عيسى هذا حديث غريب

فصل : هل الأفضل كثرة الركعات أو تطويل الأركان ؟
فصل : وما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم تخفيفه أو تطويله فالأفضل اتباعه فيه فإنه عليه السلام لا يفعل إلا الأفضل وقد ذكرنا بعض ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يخففه ويطوله وما عدا ذلك فاختلفت الرواية فيه فروي أن الأفضل كثرة الركوع والسجود لقول ابن مسعود : إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة عشرون سورة من المفصل رواه مسلم وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما من عبد سجد سجدة إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة ورفع له بها درجة ] والثانية التطويل أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الصلاة طول القنوت ] رواه مسلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كان أكثر صلاته التهجد وكان يطيله على ما قد مر ذكره ولا يداوم إلا على الأفضل والثالثة هما سواء لتعارض الأخبار في ذلك والله أعلم

فصل : التطوع في البيت أفضل
فصل : والتطوع في البيت أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عليكم في بيتوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ] رواه مسلم وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة ] رواه أبو داود وقال : [ إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ] رواه مسلم ولأن الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السر وفعله في المسجد علانية والسر أفضل

فصل : استحباب المداومة على التطوع المطلق
فصل : ويستحب أن يكون للإنسان تطوعات يداوم عليها فإذا فاتت يقضيها قال أبو داود سمعت أحمد رحمه الله يقول : يعجبني أن يكون للرجل ركعات من الليل والنهار معلومة فإذا نشط طولها وإذا لم ينشط خففها و [ قالت عائشة سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : أدومه وإن قل ] وفي لفظ قال : [ أحب الأعمال إلى الله الذي يداوم عليه صاحبه وإن قل ] متفق عليه وقالت [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وقالت كان عمله ديمة وكان إذا عمل عملا أثبته ] رواه مسلم و [ قال عبد الله بن عمرو : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ] متفق عليه

فصل : يجوز التطوع جماعة وفرادى
فصل : يجوز التطوع جماعة وفرادى لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين كليهما وكان أكثر تطوعه منفردا وصلى بحذيفة مرة وبابن عباس مرة وبأنس وأمه واليتيم مرة وأم أصحابه في بيت عتبان مرة وأمهم في ليالي رمضان ثلاثا وسنذكر أكثر هذه الأخبار في مواضعها إن شاء الله تعالى وهي كلها صحاح جياد

مسألة وفصول : جواز التطوع جلوسا وصفته
مسألة : قال : ويباح أن يتطوع جالسا
لا نعلم خلافا في إباحة التطوع جالسا وأنه في القيام أفضل وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ] متفق عليه وفي لفظ مسلم [ صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة ] وقالت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى كان كثير من صلاته وهو جالس وروي نحو ذلك عن حفصة وعبد الله بن عمرو وجابر بن سمرة أخرجهن مسلم ولأن كثيرا من الناس يشق عليه طول القيام فلو وجب في التطوع لترك أكثره فسامح الشارع في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره كما سامح في فعله على الراحلة في السفر وسامح في نية صوم التطوع من النهار
مسألة : قال : ويكون في حال القيام متربعا ويثني رجليه في الركوع والسجود
وجملته أن يستحب للمتطوع جالسا أن يكون في حال القيام متربعا روي عن ابن عمر وأنس و ابن سيرين و مجاهد و سعيد بن جبير و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق وعن أبي حنيفة وعنه يجلس كيف شاء وروي عن ابن المسيب وعروة وابن عمر يجلس كيف شاء لأن القيام سقط فسقطت هيئته وروي عن ابن المسيب وعروة و ابن سيرين و عمر بن عبد العزيز و عطاء الخراساني أنهم كانوا يحتبون في التطوع واختلفت فيه عن عطاء و النخعي
ولنا : أن القيام يخالف القعود فينبغي هيئته في بدله هيئة غير كمخالفة القيام غيره وهو مع هذا أبعد من السهو والاشتباه وليس إذا سقط القيام لمشقة يلزم سقوط ما لا مشقة فيه كمن سقط عنه الركوع والسجود لا يلزم سقوط الإيماء بهما وهذا الذي ذكرنا من صفة الجلوس مستحب غير واجب إذ لم يرد بإيجابه دليل فأما قوله ويثني رجليه في الركوع والسجود - فقد روي عن أنس قال أحمد يروى عن أنس أنه صلى متربعا فلما ركع ثنى رجله وهذا قول الثوري وحكى ابن المنذر عن أحمد و إسحاق أنه لا يثني رجليه إلا في السجود خاصة ويكون في الركوع على هيئة القيام وذكره أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف و محمد وهو أقيس لأن هيئة الراكع في رجليه هيئة القائم فينبغي أن يكون على هيئته وهذا أصح في النظر إلا أن أحمد ذهب إلى فعل أنس وأخذ به
فصل : وهو مخير في الركوع والسجود إن شاء من قيام وإن شاء من قعود لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين [ قالت عائشة لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط حتى أسن فكان يقرأ قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع ] متفق عليه وعنها [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد ] رواه مسلم قال الترمذي كلا الحديثين صحيح قال : وقال أحمد و إسحاق والعمل على كلا الحديثين

مسألة وفصول : صفة المرض المبيح لترك القيام وكيفية الجلوس
مسألة : قال : والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى قاعدا
أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام له أن يصلي جالسا وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لعمران بن حصين : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] رواه البخاري و أبو داود و النسائي و زاد [ فإن لم تستطع فمستلقيا ] { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } و [ روىأنس قال سقط رسول الله صلى الله عليه و سلم عن فرس فخدش أو جحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعدا وصلينا خلفه قعودا ] متفق عليه وإن إمكنه القيام إلا أنه يخشى زيادة مرضه به أو تباطؤ برئه أو يشق عليه مشقة شديدة فله أن يصلي قاعدا ونحو هذا قال مالك و إسحاق وقال ميمون بن مهران : إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه فليصل جالسا وحكي عن أحمد نحو ذلك
ولنا : قول الله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } وتكليف القيام في هذه الحال حرج ولأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى جالسا لما جحش شقه الأيمن والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام بالكلية لكن لما شق عليه القيام سقط عنه فكذلك تسقط عن غيره وإذا صلى قاعدا فإنه يكون جلوسه على صفة جلوس المتطوع جالسا على ما ذكرنا
فصل : وإن قدر على القيام بأن يتكئ على عصا أو يستند إلى حائط أو يعتمد على أحد جانبيه لزمه لأنه قادر على القيام من غير ضرر فلزمه كما لو قدر بغير هذه الأشياء
فصل : وإن قدر على القيام إلا أنه يكون على هيئة الراكع كالأحدب أو من هو في بيت قصير السقف لا يمكنه الخروج منه أو في سفينة أو خائف لا يأمن أن يعلم به إذا رفع رأسه فإنه إن كان لحدب أو كبر لزمه قيام مثله وإن كان لغير ذلك احتمل أن يلزمه القيام قياسا على الأحدب واحتمل أن لا يلزمه فإن أحمد رحمه الله قال في الذي في السفينة لا يقدر على أن يستتم قائما لقصر سماء السفينة يصلي قاعدا إلا أن يكون شيئا يسيرا فيقاس عليه سائر ما في معناه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ] وهذا لم يستطع القيام
فصل : ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام ويصلي قائما فيومئ بالركوع ثم يجلس فيومئ بالسجود وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يسقط القيام لأنها صلاة لا ركوع فيها ولا سجود فسقط فيها القيام كصلاة النافلة على الراحلة
ولنا : قول الله تعالى : { وقوموا لله قانتين } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صل قائما ] ولأن القيام ركن قدر عليه فلزمه الإتيان به كالقراءة والعجز عن غيره لا يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة وقياسهم فاسد لوجوه أحدها أن الصلاة على الراحلة لا يسقط فيها الركوع والثاني إن النافلة لا يجب فيها القيام فما سقط على الراحلة لسقوط الركوع والسجود والثالث أنه منقوض بصلاة الجنازة
فصل : وإن قدر المريض على الصلاة وحده قائما ولا يقدر على ذلك مع الإمام لتطويله يحتمل أن يلزمه القيام ويصلي وحده لأن القيام آكد لكونه ركنا في الصلاة لا تتم إلا به والجماعة تصح الصلاة بدونها واحتمل أنه مخير بين الأمرين لأننا أبحنا له ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي العاجز عن القيام مراعاة للجماعة فههنا أولى ولأن العجز يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام بدليل : [ عن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ] و [ صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده سبعا وعشرين درجة ] وهذا أحسن وهو مذهب الشافعي

مسألة وفصول : صلاة العاجز عن القيام - حكم من أومأ بالسجود وهو قادر عليه - حكم من عجز عن الركوع والسجود
مسألة : قال : فإن لم يطق جالسا فنائما
يعني مضطجعا سماه نائما لأنه في هيئة النائم وقد جاء مثل هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد ] رواه البخاري هكذا فمن عجز عن الصلاة قاعدا فإنه يصلي عن جنبه مستقبل القبلة بوجهه وهذا قول مالك و الشافعي و ابن المنذر وقال سعيد بن المسيب و الحارث العكلي و أبو ثور وأصحاب الرأي يصلي مستلقيا ووجهه إلى القبلة ليكون إيماؤه إليها فإنه إذا صلى على جنبه كان وجهه في الإيماء إلى غير القبلة
ولنا : قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن لم يستطع فعلى جنب ] ولم يقل فإن لم يستطع فمستلقيا ولأنه يستقبل القبلة إذا كان على جنبه ولا يستقبلها إذا كان على ظهره وإنما يستقبل السماء ولذلك يوضع الميت في قبره على جنبه قصد التوجه إلى القبلة وقولهم أن وجهه في الإيماء يكون إلى غير القبلة قلنا استقبال القبلة من الصحيح لا يكون في حال الركوع بوجهه ولا في حال السجود إنما يكون إلى الأرض فلا يعتبر في المريض أن يستقبل القبلة فيهما أيضا إذا ثبت هذا فالمستحب أن يصلي على جنبه الأيمن فإن صلى على الأيسر جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين جنبا بعينه ولأنه يستقبل القبلة على أي الجنبين كان فإن صلى على ظهره مع إمكان الصلاة على جنبه فظاهر كلام أحمد أنه يصح لأنه نوع استقبال ولهذا يوجه الميت عند الموت كذلك والدليل يقتضي أن لا يصح لأنه خالف أمر النبي صلى الله عليه و سلم في قوله فعلى جنب ولأنه نقله إلى الاستلقاء عند عجزه عن الصلاة على جنبه فيدل على أنه لا يجوز ذلك مع إمكان الصلاة على جنبه ولأنه ترك الاستقبال مع إمكانه وإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى مستلقيا للخبر ولأنه عجز عن الصلاة على جنبه فسقط كالقيام والقعود
فصل : إذا كان بعينه مرض فقال ثقات من العلماء بالطب : إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك فقال القاضي : قياس المذهب جواز ذلك وهو قول جابر بن زيد و الثوري و أبو حنيفة وكرهه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة و أبو وائل وقال مالك و الأوزاعي : لا يجوز لما روي عن ابن عباس أنه لما كف بصره أتاه رجل فقال : لو صبرت على سبعة أيام لم تصل إلا مستلقيا داويت عينك ورجوت أن تبرأ فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبو هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكل قال له : إن مت في هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة ؟ فترك معالجة عينه
ولنا : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى جالسا لما جحش شقه والظاهر أنه لم يكن يعجز عن القيام لكن كانت عليه مشقة فيه أو خوف ضرر وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ههنا ولأنا أبحنا له ترك الوضوء إذا لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن المثل حفظا لجزء من ماله وترك الصوم لأجل المرض والرمد ودلت الأخبار على جواز ترك القيام لأجل الصلاة على الراحلة خوفا من ضرر الطين في ثيابه وبدنه وجاز ترك الجمعة والجماعة صيانة لنفسه وثيابه من البلل والتلوث بالطين وجاز ترك القيام إتباعا لإمام الحي إذا صلى جالسا والصلاة على جنبه ومستلقيا في حال الخوف من العدو ولا ينقص الضرر بفوات البصر عن الضرر في هذه الأحوال فأما خبر ابن عباس إن صح فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين وإنما قال أرجو أو أنه لم يقبل خبره لكونه واحدا أو مجهول الحال بخلاف مسألتنا
فصل : وإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما كما يومئ بهما في حالة الخوف ويجعل السجود أخفض من الركوع وإن عجز عن السجود وحده ركع وأومأ بالسجود وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته وإن تقوس ظهره فصار كأنه واقع فمتى أراد الركوع زاد في إنحنائه قليلا ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه وإن قدر على السجود على صدغه لم يفعل لأنه ليس من أعضاء السجود وإن وضع بين يديه وسادة أو شيئا عاليا أو سجد على ربوة أو حجر جاز إذا لم يمكنه تنكيس وجهه أكثر من ذلك وحكى ابن المنذر عن أحمد أنه قال : اختار السجود على المرفقة وقال هو أحب إلي من الإيماء وكذلك قال إسحاق و جوزه الشافعي وأصحاب الرأي ورخض فيه ابن عباس وسجدت أم سلمة على المرفقة وكره ابن مسعود السجود على عود وقال يومئ إيماء
ووجه الجواز أنه أتى بما يمكنه من الإنحطاط فأجزأه كما لو أومأ فأما إن رفع إلى وجهه شيئا فسجد عليه فقال بعض أصحابنا لا يجزئه وروي عن ابن مسعود وابن عمر وجابر وأنس أنهم قالوا يومئ ولا يرفع إلى وجهه شيئا وهو قول عطاء و مالك و الثوري وروى الأثرم عن أحمد أنه قال أي ذلك فعل فلا بأس يومئ أو يرفع المرفقة فيسجد عليها قيل له المروحة ؟ قال لا أما المروحة فلا وعن أحمد أ ه قال : الإيماء أحب إلي وإن رفع إلى جهه شيئا فسجد عليه أجزأه وهو قول أبو ثور ولا بد من أن يكون بحيث لا يمكنه الإنحطاط أكثر منه ووجه ذلك أنه أتى بما أمكنه من وضع رأسه فأجزأه كما لو أومأ ووجه الأول أنه سيجد على ما هو حامل له فلم يجزه كما لو سجد على يديه
فصل : وإن لم يقدر على الإيماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتا وحكي عن أبي حنيفة أن الصلاة تسقط عنه وذكر القاضي أن هذا ظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن يزيد لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل له في مرضه الصلاة قال قد كفاني إنما العمل في الصحة ولأن الصلاة أفعال عجز عنها بالكلية فسقطت عنه لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
ولنا : ما ذكرناه من حديث عمران وأنه مسلم بالغ عاقل فلزمته الصلاة كالقادر على الإيماء برأسه ولأنه قادر على الإيماء أشبه الأصل
فصل : إذا صلى جالسا فسجد سجدة وأومأ بالثانية مع إمكان السجود جاهلا بتحريم ذلك وفعل مثل ذلك في الثانية ثم علم قبل سلامه سجد سجدة تتم له الركعة الثانية وأتى بركعة كما لو ترك السجود نسيانا وذكر القاضي أنه تتم له الركعة الأولى بسجدة الثانية وهذا مذهب الشافعي وليس هذا مقتضى مذهبنا فإنه متى شرع في قراءة الثانية قبل إتمام الأولى بطلت الأولى وصارت الثانية أولاه وقد مضى هذا في سجود السهو
فصل : ومتى قدر المريض في أثناء الصلاة على ما كان عاجزا عنه من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود أو إيماء انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته وهكذا لو كان قادرا فعجز في أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحا فيبنى عليه كما لو لم يتغير حاله

مسألة وفصل : الوتر ركعة عدد ركعات الوتر والفصل بينها بسلام
مسألة : قال : والوتر ركعة
نص على هذا أحمد رحمه الله وقال إنا نذهب في الوتر إلى ركعة وممن روي عنه ذلك عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وابن الزبير و أبو موسى ومعاوية وعائشة رضي الله عنهم وفعل ذلك معاذ القارئ ومعه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينكر ذلك منهم أحد وقال ابن عمر : الوتر ركعة كان ذلك وتر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وقال هؤلاء يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بركعة وقد روي عن ابن عرم وابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الوتر ركعة من آخر الليل ] و [ قالت عائشة : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ] وفي لفظ [ كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيب الصبح فأوتر بواحدة ] أخرجهن مسلم
فصل : قوله الوتر ركعة يحتمل أنه أراد جميع الوتر ركعة وما يصلى قبله ليس من الوتر كما قال الإمام أحمد : إنا نذهب في الوتر إلى ركعة ولكن يكون قبلها صلاة عشرة ركعات ثم يوتر ويسلم ويحتمل أنه أراد أقل الوتر ركعة فإن أحمد قال : إنا نذهب في الوتر إلى ركعة وإن أوتر بثلاث أو أكثر فلا بأس وممن روي عنه أنه وتر بثلاث عمر وعلي وأبي وأنس وابن مسعود وابن عباس وأبو أمامة وعمر بن عبد العزيز وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو الخطاب : أقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة وأدنى الكمال ثلاث ركعات وقال الثوري و إسحاق : الوتر ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وقال أبو موسى ثلاث أحب إلي من واحدة وخمس أحب إلي من ثلاث وسبع أحب إلي من خمس وتسع أحب إلي من سبع وقال ابن عباس : إنما هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر من ذلك يوتر بما شاء وقد روي أبو أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل ] أخرجه أبو داود وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوتر بتسع وروت أنه كان يوتر بسبع وروت أنه كان يوتر بخمس رواهن مسلم و [ عن عبد الله بن قيس قال : قلت لعائشة بكم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوتر ؟ قالت : كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث وعشر وثلاث ولم يكن يوتر بأقل من سبع ولا بأكثر من ثلاثة عشرة ] رواه أبو داود

مسألة وفصل : موضع قنوت الوتر
مسألة : قال : يقنت فيها
يعني أن القنوت مسنون في الوتر في الركعة الواحدة في جميع السنة هذا المنصوص عند أصحابنا وهذا قول ابن مسعود و إبراهيم و إسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك عن الحسن وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان وروي ذلك عن علي وأبي وبه قال ابن سيرين و سعيد ين أبي الحسن و الزهري و يحيى بن ثابت و مالك و الشافعي واختاره أبو بكر الأثرم لما روي عن الحسن أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت إلا في النصف الثاني رواه أبو داود وهذا كالإجماع وقال قتادة : يقنت في السنة كلها إلا في النصف الأول من رمضان لهذا الخبر وعن ابن عمر أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان وعنه لا يقنت في صلاة بحال والرواية الأولى هي المختارة عند أكثر الأصحاب وقد قال أحمد في رواية المروذي : كنت أذهب إلى أنه في النصف من شهر رمضان ثم أني قنت هو عاء وخير ووجهه ما روي عن أبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع و [ عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوقل في آخر وتره : اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] وكان للدوام وفعل أبي يدل على أنه رآه ولا ينكر اختلاف الصحابة في هذا ولأنه وتر فيشرع فيه القنوت كالنصف الآخر ولأنه ذكر يشرع في الوتر فيشرع في جميع السنة كسائر الأذكار
فصل : ويقنت بعد الركوع نص عليه أحمد وروي نحو ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي قلابة وأبي المتوكل وأيوب السختياني وبه قال الشافعي وروي عن أحمد أنه قال : أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع فإن قنت قبله فلا بأس ونحو هذا قال أيوب السختياني لما روى حميد قال سئل أنس عن القنوت في صلاة الصبح فقال : كنا نقنت قبل الركوع وبعده رواه ابن ماجة وقال مالك و أبو حنيفة يقنت قبل الركوع وروي ذلك عن أبي وابن مسعود وأبي موسى والبراء وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة وعبد الرحمن بي أبي ليلى وحميد الطويل لأن في حديث أبي ويقنت قبل الركوع وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت بعد الركوع رواه مسلم قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن هذه المسألة فقال : أقنت بعد الركوع وذكر حديث الزهري عن سعيد بن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأنس عن النبي صلى الله عليه و سلم وغير واحد قنت بعد الركوع وحديث ابن مسعود يرويه أبان بن أبي عياش وهو متروك الحديث وحديث أبي قد تكلم فيه أيضا وقيل ذكر القنوت فيه غير صحيح والله أعلم

فصول : ما يقول في قنوت الوتر ورفع اليدين والتأمين
فصل : ويستحب أن يقول في قنوت الوتر ما [ روى الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه و سلم كلمات أقولهن في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك وأنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ] اخرجه أبو داود و الترمذي وقال هذا حديث حسن ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه و سلم في القنوت شيئا أحسن من هذا ويقول ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في وتره وقد ذكرناه وعن عمر رضي الله عنه أنه قنت في صلاة الفجر فقال : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم أنا نستعينك ونستهديك ونستغرفك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك وهاتان سورتان في مصحف أبي بن كعب وروى أبو عبيد بإسناده عن عروة أنه قال قرأت في مصحف أبي بن كعب هاتين السورتين ( اللهم أنا نستعينك - اللهم إياك نعبد ) وقال ابن سيرين كتبهما أبي في مصحفه يعني إلى قوله بالكفار ملحق قال ابن قتيبة : نحفد نبادر وأصل الحفد مداركة الخطر والإسراع والجد بكسر الجيم أي الحق لا اللعب ملحق بكسر الحاء لاحق هكذا يروي هذا الحرف يقال لحقت القوم وألحقتهم بمعنى واحد ومن فتح الحاء أراد أن الله يلحقه إياه وهو معنى صحيح غير أن الرواية هي الأولى وقال الخلال سألت ثعلبا عن ملحق وملحق فقال العرب تقولهما معا
فصل : إذا أخذ الإمام في القنوت أمن من خلفه لا نعلم فيه خلافا وقاله إسحاق وقال القاضي وإن دعوا معه فلا بأس وقبل ل أحمد إذا لم أسمع قنوت الإمام أدعو ؟ قال نعلم فيرفع يديه في حال القنوت قال الأثرم كان أبو عبد الله يرفع يديه في القنوت إلى صدره واحتج بأن ابن مسعود رفع يديه في القنوت إلى صدره وروي ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال إسحاق وأصحاب الرأي وأنكره مالك و الأوزاعي و يزيد بن أبي مريم
ولنا : قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا دعوت الله فادع ببطون كفيك ولا تدع بظهورهما فإذا فرغت فامسح بهما وجهك ] رواه أبو داود و ابن ماجة ولأنه فعل من سمينا من الصحابة وإذا فرغ من القنوت فهل يمسح وجهه بيده ؟ فيه روايتان إحداهما لا يفعل لأنه روي عن أحمد أنه قال لم أسمع فيه بشيء ولأنه دعاء في الصلاة فلم يستحب مسح وجهه فيه كسائر دعائها الثانية يستحب للخبر الذي رويناه وروى السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا دعا رفع يديه ومسح وجهه بيديه ولأنه دعاء يرفع يديه فيه فيمسح بهما وجهه كما لو كان خارجا عن الصلاة وفارق سائر الدعاء فإنه لا يرفع يديه فيه
فصل : ولا يسن القنوت في الصبح ولا غيرها من الصلوات سوى الوتر وبهذا قال الثوري و أبو حنيفة وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبي الدرداء وقال مالك و ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و الشافعي : يسن القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان لأن أنسا قال : ما زال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا رواه الإمام أحمد في المسند وكان عمر يقنت في الصبح بمحضر من الصحابة وغيرهم
ولنا : ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه رواه مسلم وروى أبو هريرة وأبو مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك وعن أبي مالك قال قلت لأبي إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة نحوا من خمس سنين أكانوا يقنتون ؟ قال أي بني محدث قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم وقال إبراهيم النخعي : أول من قنت في صلاة الغداة علي وذلك أنه كان رجلا محاربا يدعو على أعدائه وروى سعيد في سننه عن هشيم عن عروة الهمذاني عن الشعبي قال : لما قنت علي في صلاة الصبح أنكر ذلك الناس فقال علي إنما استنصرنا على عدونا وهذا وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم رواه سعيد وحديث أنس يحتمل أنه أزاد طول القيام فإنه يسمى قنوتا وقنوت عمر يحتمل أنه كان في أوقات النوازل فإن أكثر الروايات عنه أنه لم يكن يقنت روى ذلك عنه جماعة فدل على أن قنوته كان في وقت نازلة

فصلان : القنوت في الصلوات الخمس
فصل : فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح نص عليه أحمد قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل عن القنوت في الفجر فقال : إذا نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام وأمن من خلفه ثم قال مثل ما نزل بالمسلمين من هذا الكافر - يعني بابك - قال أبو داود سمعت أحمد يسأل عن القنوت في الفجر فقال : لو قنت أياما معلومة ثم يترك كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم أو قنت على الجرمية أو قنت على الدوام والجرمية هم أصحاب بابك وبهذا قال أبو حنيفة و الثوري وذلك لما ذكرنا من أن النبي صلى الله عليه و سلم قنت شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه وإن عليا قنت وقال : إنما استنصرنا على عدونا هذا ولا يقنت آحاد الناس
ويقول في قنوته نحوا مما قال النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في القنوت : اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وأنصرهم على عدوك وعدوهم اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ولا يقنت في غير الصبح من الفرائض قال عبد الله عن أبيه كل شيء يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في القنوت إنما هو في الفجر ولا يقنت في الصلاة إلا في الوتر والغداة إذا كان مستنصرا يدعو للمسلمين وقال أبو الخطاب يقنت في الفجر والمغرب لأنهما صلاتا جهر في طرفي النهار وقيل يقنت في صلاة الجهر كلها قياسا على الفجر ولا يصح هذا لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من أصحابه القنوت في غير الفجر والوتر

مسألة وفصل : الفصل بين ركعات الوتر وإن أوتر بخمس أو بسبع
مسألة : قال : مفصولة مما قبلها
الذي يختاره أبو عبد الله أن يفصل ركعة الوتر بما قبلها وقال أن أوتر بثلاث لم يسلم فيهن لم يضيق عليه عندي وقال يعجبني أن يسلم في الركعتين وممن كان يسلم بين الركعتين والركعة ابن عمر حتى يأمر ببعض حاجته وهو مذهب معاذ القارئ و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة لا يفصل بسلام وقال الأوزاعي إن فصل فحسن وإن لم يفصل فحسن وحجة من لم يفصل قول عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث وقولها كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنن وطولهن ثم يصلي ثلاثا فظاهر هذا أنه كان يصلي الثلاث بتسليم واحد وروت أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن رواه مسلم
ولنا : ما روت عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة رواه مسلم وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ] متفق عليه وقيل لابن عمر ما مثنى مثنى ؟ قال يسلم في كل ركعتين وقال عليه السلام : [ الوتر ركعة من آخر الليل ] رواه مسلم و عن ابن أبي ذئب عن نافع [ عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوتر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم ] رواه الأثرم بإسناده وهذا نص فأما حديث عائشة الذي احتجوا به فليس فيه تصريح بأنها بتسليم واحد وقد قالت في الحديث الآخر يسلم بين كل ركعتين فأما إذا أوتر بخمس فيأتي الكلام فيه إذا ثبت هذا فإنه إذا صلى خلف إمام يصلي الثلاث بتسليم واحد تابعه لئلا يخالف إمامه وبه قال مالك وقد قال أحمد في رواية أبي داود فيمن يوتر فيسلم من الثنتين فيكرهونه يعني أهل المسجد قال : فلو صار إلى ما يريدون - يعني أن ذلك سهل لا تضر موافقته إياهم فيه
فصل : يجوز أن يوتر بإحدى عشرة ركعة وبتسع وبخمس وبثلاث وبواحدة لما ذكرنا من الأخبار فإن أوتر بأحدى عشرة سلم من كل ركعتين وأن أوتر بثلاث سلم من الثنتين وأتر بواحدة وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن وإن أوتر بسبع جلس عقيب السادسة فتشهد ولم يسلم ثم يجلس بعد السابعة فيتشهد ويسلم وأن أوتر بتسع لم يجلس إلى عقيب الثامنة فيتشهد ثم يقوم فيأتي بالتاسعة ويسلم ونحو هذا قال إسحاق وقال القاضي في السبع لا يجلس إلا في آخرهن أيضا كالخمس فأما الإحدى عشرة والثلاث فقد ذكرناهما وأما الخمس فقد روي عن زيد بن ثابت أنه كان يوتر بخمس لا ينصرف إلا في آخرها وروى عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها متفق عليه و [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن ] وفي لفظ [ فتوضأ ثم صلي سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن ] رواه أبو داود وقال صالح مولى التوأمة : أدركت الناس قبل الحرة يقومون بإحدى وأربعين ركعة ويوترون بخمس يسلمون بين كل إثنتين ويوترون بواحدة ويصلون الخمس جميعا رواه الأثرم وأما التسع والسبع فروى زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال : قلت لعائشة يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ويصلي سبع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما أسن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعه في الأول قال فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال صدقت رواه مسلم و أبو داود وفي حديث أبي داود فقال ابن عباس هذا هو الحديث وفيه أوتر بسبع لم يجلس إلى في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة وفيه من طريق أخرى ويسلم بتسليمة شديدة يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه وهذا صريح في أن السبع يجلس فيها عقيب السادسة ولعل القاضي يحتج بحديث ابن عباس صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن وعن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوتر بسبع أو خمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام رواه ابن ماجة وكلا الحديثين فيه شك في السبع وليس في واحد منهما أنه لا يجلس عقيب السادسة وحديث عائشة فيه تصريح بذلك وهو ثابت فيتعين تقديمه

فصول : حكم صلاة الوتر ووقتها
فصل : الوتر غير واجب وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو بكر هو واجب وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا خفت الصبح فأوتر بواحد ] وأمر به في أحاديث كثيرة والأمر يقتضي الوجوب وروى أبو أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الوتر حق فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل ] رواه أبو داود و ابن ماجة وعن بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الوتر حف من لم يوتر فليس منا الوتر حق فمن لو يوتر فليس منا الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ] رواه أحمد في المسند من غير تكرار وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله من المسند أيضا و [ عن خارجة بن حذافة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات غداة فقال : إن الله قد أمركم بصلاة فهي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر ] رواه أحمد و أبو داود و [ عن أبي بصرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح الوتر الوتر ] رواه الأثرم واحتج به أحمد
ولنا : ما روى عبد الله بن محيريز أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يدعى أبا محمد يقول أن الوتر واجب قال فرحت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته فقال عبادة كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله النار ] رواه أبو داود و أحمد و [ عن علي رضي الله عنه : إن الوتر ليس بحتم ولا كصلواتكم الكتوبة ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أوتر ثم قال : يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر ] رواه أحمد في المسند وقد ثبت [ أن الأعرابي لما سأل النبي صلى الله عليه و سلم ما فرض الله علي في اليوم والليلة ؟ قال : خمس صلوت قال : هل علي غيرهن ؟ قال لا إلا أن تتطوع فقال الأعرابي والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال : أفلح الرجل إن صدق ] ولأنه يجوز فعله على الراحلةمن غير ضرورة فلم يكن واجبا كالسنن وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوتر على بعيره متفق عليه وقال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة رواه مسلم وغيره وأحاديثهم قد تكلم فيها ثم أن المراد بها تأكيده وفضيلته وأن سنة مؤكدة وذلك حق وزيادة الصلاة يجوز أن تكون سنة والتوعد على تركه للمبالغة في تأكيده كقوله : [ من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مسجدنا ]
فصل : وهو سنة مؤكدة قال أحمد : من ترك الوتر عمدا فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل له شهادة وأراد المبالغة في تأكيده لما قد ورد فيه من الأحاديث في الأمر به والحث عليه فخرج كلامه مخرج كلام النبي صلى الله عليه و سلم وإلا فقد صرح في رواية حنبل فقال الوتر ليس بمنزلة الفرض فلو أن رجلا صلى الفريضة وحدها جاز له وهما سنة مؤكدة الركعتان قبل الفجر والوتر فإن شاء قضى الوتر وإن شاء لم يقضه وليس هما بمنزلة المكتوبة واختلف أصحابنا في الوتر وركعتي الفجر فقال القاضي : ركعتا الفجر آكد من الوتر لاختصاصهما بعدد لا يزيد ولا ينقص فأشبها المكتوبة وقال غيره الوتر آكد وهو أصح لأنه مختلف في وجوبه وفيه من الأخبار ما لم يأت مثله في ركعتي الفجر لكن ركعتا الفجر تليه في التأكيد والله أعلم
فصل : ووقته ما بين العشاء وطلوع الفجر الثاني فلو أوتر قبل العشاء لم يصح وتره وقال الثوري و أبو حنيفة إن صلاة قبل العشاء ناسيا لم يعده وخالفه صاحباه فقالا يعيد وكذلك قال مالك و الشافعي فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الوتر جعله الله لكم ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ] وفيه حديث أبي بصرة : [ إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح ] وفي المسند [ عن معاذ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : زادني ربي صلاة وهي الوتر ووقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر ] ولأنه صلاة قبل وقته فأشبه ما لو صلى نهارا وإن أخر الوتر حتى يطلع الصبح فات وقته وصلاة قضاء وروي عن ابن مسعود أنه قال : الوتر ما بين الصلاتين وعن علي رضي الله عنه نحوه لحديث أبي بصرة والصحيح أن وقته إلى طلوع الفجر لحديث معاذ والحديث الآخر وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة فأوترت له ما قد صلى ] وقال : [ أجعلوا أخر صلاتكم بالليل وترا ] متفق عليه وقال : [ أوتروا قبل أن تصبحوا ] وقال : [ الوتر ركعة من آخر الليل ] وقال : [ من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله ] اخرجهن مسلم
فصل : والأفضل فعله في آخر الليل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة الليل مشهودة ] وذلك أفضل وهذا صريح وقال عليه السلام : [ الوتر ركعة من آخر الليل ] وكان النبي صلى الله عليه و سلم يوتر آخر الليل وقالت عائشة من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه و سلم فانتهى وتره إلى السحر ومن كان له تهجد جعل الوتر بعد تهجده لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك وقال : [ أجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ] مع ما ذكرنا من الأخبار فإن خاف أن لا يقوم من آخر الليل استحب أن يوتر أوله لأن النبي صلى الله عليه و سلم أوصى أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء بالوتر قبل النوم وقال : [ من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر من أوله ] وهذه الأحاديث كلها صحاح رواها مسلم وغيره و [ روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر : أخذ هذا بالحزم وأخذ هذا بالقوة ] وأي وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأه ولا نعلم فيه خلافا وقد دلت الأخبار عليه

فصلان : نقض الوتر لأجل التهجد
فصل : ومن أوتر من الليل ثم قام للتهجد فالمستحب أن يصلي مثنى مثنى ولا ينقض وتره روى ذلك عن أبي بكر الصديق وعمار وسعد بن أبي وقاص وعائذ بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وكان علقمة لا يرى نقض الوتر وبه قال طاوس و أبو مجلز وبه قال النخعي و مالك و الأوزاعي وقيل ل أحمد ولا ترى نقض الوتر ؟ فقال لا ثم قال وإن ذهب إليه رجل فأرجو لأنه قد فعله جماعة ومروي عن علي وأسامة وأبي هريرة وعمر وعثمان وسعد وابن عمر وابن عباس وابن مسعود وهو قول إسحاق ومعناه أنه إذا قام للتهجد يصلي ركعة تشفع الوتر الأول ثم يصلي مثنى مثنى ثم يوتر في آخر التهجد ولعلهم ذهبوا إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ]
ولنا : ما روى قيس بن طلق قال زارنا طلق بن علي في يوم رمضان فأمسى عندنا وأفطر ثم قام بنا تلك الليلة ثم انحدر إلى المسجد فصلى بأصحابه حتى إذا بقي الوتر قدم رجلا فقال : أوتر بأصحابك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ولا وتران في ليلة ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال أما أنا فإني أنام على فراشي فإن استيقظت صليت شفعا حتى الصباح رواه الأثرم وكان سعيد بن المسيب يفعله
فصل : فإن صلى مع الإمام وأحب متابعته في الوتر وأحب أن يوتر آخر الليل فإنه إذا سلم الإمام لم يسلم معه وقام فصلى ركعة أخرى يشفع بها صلاته مع الإمام نص عليه وقال إن شاء أقام على وتر وشفع إذا قام وإن شاء صلى مثنى قال ويشفع مع الإمام بركعة أحب إلي وسئل أحمد عمن أوتر يصلي بعدها مثنى مثنى قال : نعم ولكن الوتر بعد ضجعة

فصل : ما يقرأ في صلاة الوتر
فصل : ويستحب أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث في الأولى بسبح وفي الثانية { قل يا أيها الكافرون } وفي الثانية { قل هو الله أحد } وبه قال الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي وقال الشافعي يقرأ في الثالثة { قل هو الله أحد } والمعوذتين وهو قول مالك في الوتر وقال في الشفع لم يبلغني فيه شيء معلوم وقد روي عن أحمد أنه سئل يقرأ بالمعوذتين في الوتر ؟ قال ولم لا يقرأ ؟ وذلك لما [ روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الركعة الأولى ب { سبح اسم ربك الأعلى } وفي الثانية { قل يا أيها الكافرون } وفي الثالثة { قل هو الله أحد } والمعوذتين ] رواه ابن ماجة
ولنا : ما ورى أبي بن كعب قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوتر ب { سبح اسم ربك الأعلى } و { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ] رواه أبو داود و ابن ماجة وعن ابن عباس مثله رواه ابن ماجة وحديث عائشة في هذا لا يثبت فإنه يرويه يحيى بن أيوب وهو ضعيف وقد أنكر أحمد و يحيى بن معين المعوذتين

جواز صلاة الوتر على الراحلة
فصل : قال أحمد رحمه الله : الأحاديث التي جاءت أن النبي صلى الله عليه و سلم أوتر بركعة كان قبلها صلاة متقدمة قيل له أوتر في السفر بواحدة قال يصلي قبلها ركعتين قبل له أن يكون بين الركعة وبين المثنى ساعة قال يعجبني أن يكون بعده ومعه ثم احتج فقال : [ صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بركعة ] فقل ليه : رجل تنفل بعد العشاء الآخرة ثم تعشى ثم أراد أن يوتر قال : نعم وسئل عمن صلى من الليل ثم نام ولم يوتر قال : يعجبني أن يركع ركعتين ثم يسلم ثم يوتر بواحدة وسئل عن رجل أصبح ولم يوتر قال : لا يوتر بركعة إلا أن يخاف طلوع الشمس قيل يوتر بثلاث ؟ قال نعم يصلي الركعتين إلا أن يخاف طلوع الشمس قيل له فإذا لحق مع الإمام ركعة الوتر قال : إن كان الإمام يفصل بينهن بسلام أجزأته الركعة وإن كان الإمام لا يسلم في الثنتين تبعه ويقضي مثل ما صلى فإذا فرغ قام يقضي ولا يقنت وقيل ل أبي عبد الله رجل ابتدأ يصلي تطوعا ثم بدا له فجعل تلك الركعة وترا ؟ فقال لا كيف يكون هذا ؟ قد قلب نيته قيل له أيبتدئ الوتر ؟ قال نعم وقال أبو عبد الله إذا قنت قبل الركوع كبر ثم أخذ في القنوت وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم كبر حين يركع وروي ذلك عن علي وابن مسعود والبراء وهو قول الثوري ولا نعلم فيه خلافا

فصل : الذكر المشروع بعد صلاة الوتر
فصل : يستحب أن يقول بعد وتره سبحان الملك القدوس ثلاثا ويمد صوته بها في الثالثة لما روى أبي بن كعب قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سلم من الوتر قال : سبحان الملك القدوس ] وهكذا رواه أبو داود وروي عبد الرحمن بن أبزى قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يوتر ب { سبح اسم ربك الأعلى } و { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ثم يرفع صوته بها في الثالثة ] أخرجه الإمام أحمد في المسند

مسألة وفصول : حكم صلاة التراويح
مسألة : قال : وقيام شهر رمضان عشرون ركعة يعني صلاة التراويح
وهي سنة مؤكدة وأول من سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو هريرة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول : [ من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له من تقدم من ذنبه ] و [ قالت عائشة : صلى النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة وكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ] قال وذلك في رمضان رواهما مسلم و [ عن أبي ذر قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت في الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة قال : فلما كان الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال : قلت وما الفلاح ؟ قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر ] رواه أبو داود و الأثرم و ابن ماجة وعن أبي هريرة قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال : ما هؤلاء ؟ قيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي بهم وهو يصلون بصلاته فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أصابوا ونعم ما صنعوا ] رواه أبو داود وقال رواه مسلم بن خالد وهو ضعيف ونسبت التراويح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصليها بهم فروى عبد الرحمن بن عبد القاري قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر : أني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب قال ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال : نعمت البدعة هذه والتي بنامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله أخرجه البخاري
فصل : والمختار عند أبي عبد الله رحمه الله فيها عشرون ركعة وبهذا قال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : ستة وثلاثون وزعن أنه الأمر القديم وتعلق بفعل أهل المدينة فإن صالحا مولى التوأمة قال : أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس ولنا أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب كان يصلي لهم عشرين ركعة وقد روى الحسن أن عرم جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي لهم عشرين ليلة ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني فإذا كانت العشر الأواخر تخلف أبي فصلى في بيته فكانوا يقولون : أبق أبي رواه أبو داود ورواه السائب بن يزيد وروي عنه من طرق وروى مالك عن يزيد بن رومان قال : كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة وعن علي أنه أمر رجلا يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة وهذا كالإجماع فأما ما رواه صالح فإن صالحا ضعيف ثم لا ندري من الناس الذي أخبر عنهم فلعله قد أدرك جماعة من الناس يفعلون ذلك وليس ذلك بحجة ثم لو ثبت أن أهل المدينة كلهم فعلوه لكان ما فعله عمر وأجمع عليه الصحابة في عصره أولى بالإتباع قال بعض أهل العلم : إنما فعل هذا أهل المدينة لأنهم أرادوا مساواة أهل مكة فإن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى وأحق ان يتبع
فصل : والمختار عند أبي عبد الله فعلها في الجماعة قال في رواية يوسف بن موسى : الجماعة في التراويح أفضل وإن كان رجل يقتدى به فصلاها في بيته خفت أن يقتدي الناس به وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ اقتدوا بالخلفاء ] وقد جاء عن عمر أنه كان يصلي في الجماعة وبهذا قال المزني و ابن عبد الحكم وجماعة من أصحاب أبي حنيفة قال أحمد : كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في جماعة قال الطحاوي : كل من اختار التفرد ينبغي أن يكون ذلك على أن لا يقطع معه القيام في المساجد فأما التفرد الذي يقطع معه القيام في المساجد فلا ويروى نحو هذا عن الليث بن سعد وقال مالك و الشافعي : قيام رمضان لمن قوي في البيت أحب إلينا لما [ روى زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله صلى الله عليه و سلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فتتبع إليه رجال وجاؤوا يصلون بصلاته قال : ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم مغضبا فقال : ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ] رواه مسلم
ولنا إجماع الصحابة على ذلك وجمع النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه وأهله في حديث أبي ذر وقوله [ إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة ] وهذا خاص في قيام رمضان فيقدم على عموم ما احتجوا به وقول النبي صلى الله عليه و سلم ذلك لهم معلل بخشية فرضه عليهم ولهذا ترك النبي صلى الله عليه و سلم القيام بهم معللا بذلك أيضا أو خشية أن يتخذه الناس فرضا وقد أمن هذا أن يفعل بعده فإن قيل : فعلي لم يقم مع الصحابة قلنا قد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا رضي الله عنه قام بهم في رمضان وعن إسماعيل بن زياد قال : مر على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان فقال : نور الله على عمر قبره كما نور علينا في مساجدنا رواهما الأثرم
فصل : قال أحمد رحمه الله يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس ولا يشق عليهم ولا سيما في الليالي والأمر على ما يحتمله الناس وقال القاضي : لا يستحب النقصان عن ختمة في الشهر ليسمع الناس جميع القرآن ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة على من خلفه والتقدير بحال الناس أولى فإنه لو اتفق جماعة يرضون بالتطويل ويختارونه كان أفضل كما روى أبو ذر قال : قمنا مع النبي صلى الله عليه و سلم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح يعني السحور وقد كان السلف يطيلون الصلاة حتى قال بعضهم كانوا إذا انصرفوا يستعجلون خدمهم بالطعام مخافة طلوع الفجر وكان القارئ يقرأ بالمائتين
فصل : قال أبو داود سمعت أحمد يقول : يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته ] قال وكان أحمد يقوم مع الناس ويوتر معهم قال الأثرم وأخبرني الذي كان يؤمه في شهر رمضان أنه كان يصلي معهم التراويح كلها والوتر قال وينتظرني بعد ذلك حتى أقوم ثم يقوم كأنه يذهب إلى حديث أبي ذر : [ إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته ] قال أبو داود وسئل أحمد عن قوم صلوا في رمضان خمس تراويح لم يتروحوا بينها قال لا بأس قال وسئل عمن أدرك من ترويحه ركعتين يصلي إليهما ركعتين ؟ فلم ير ذلك وقال هي تطوع وقيل ل أحمد نؤخر القيام ؟ يعني في التراويح إلى آخر الليل قال : لا سنة المسلمين أحب إلي

فصلان : التطوع بعد التراويح
فصل : وكره أبو عبد الله التطوع بين التراويح وقال : فيه عن ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عبادة وأبو الدرداء وعقبة بن عامر ذكر ل أبي عبد الله فيه رخصة عن بعض الصحابة فقال : هذا باطل إنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير وقال أحمد يتطوع بعد المكتوبة ولا يتطوع بين التراويح وروى الأثرم عن أبي الدرداء أنه أبصر قوما يصلون بين التراويح فقال : ما هذه الصلاة أتصلي وأمامك بين يديك ؟ ليس منا من رغب عنا وقال من قلة فقه الرجل أن يرى في المسجد وليس في صلاة
فصل : فأما التعقيب وهو أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة أو يصلي التراويح في جماعة أخرى فعن أحمد أنه لا بأس به لأن أنس بن مالك قال ما يرجعون إلا لخير يرجونه أو لشر يحذرونه وكان لا يرى به بأسا ونقل محمد بن الحكم عنه الكراهة إلا أنه قول قديم والعمل على ما رواه الجماعة وقال أبو بكر الصلاة إلى نصف الليل أو إلى آخره لم تكره رواية واحدة وإنما الخلاف فيما إذا رجعوا قبل النوم والصحيح أنه لا يكره لأنه خير وطاعة فلم يكره كما لو أخره إلى آخر الليل

فصول : الدعاء لختم القرآن في التراويح وقيام ليلة الشك
فصل : في ختم القرآن قال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله فقلت أختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح ؟ قال اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنتين قلت كيف أصنع ؟ قال إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وأدع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام قلت بم أدعو ؟ قال بما شئت قال : ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه قال حنبل سمعت أحمد يقول : في ختم القرآن إذا فرغت من قراءة { قل أعوذ برب الناس } فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع إلى أي شيء تذهب في هذا ؟ قال رأيت أهل مكة يفعلونه وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة قال العباس بن عبد العظيم وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة ويروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان
فصل : واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك فحكي عن القاضي أنه قال : جرت هذه المسألة في وقت شيخنا أبي عبد الله فصلى وصلاها القاضي أبو يعلى أيضا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله فرض عليكم صيامه وسننت لكم قيامه ] فجعل القيام مع الصيام وذهب أبو حفص العكبري إلى ترك القيام وقال : المعول في الصيام على حديث ابن عمر وفعل الصحابة والتابعين ولم ينقل عنهم قيام تلك الليلة واختاره التميميون لأن الأصل بقاء شعبان وإنما صرنا إلى الصوم إحتياطا للواجب والصلاة غير واجبة فتبقى على الأصل
فصل : قال أبو طالب سألت أحمد إذا قرأ { قل أعوذ برب الناس } يقرأ من البقرة شيئا ؟ قال : لا فلم يستحب أن يصل ختمته بقراءة شيء لعله لم يثبت فيه عنده أثر صحيح يصير إليه قال أبو داود وذكرت ل أحمد قول ابن المبارك إذا كان الشتاء فاختم القرآن في أول الليل وإذا كان الصيف فاختمه في أول النهار فكأنه أعجبه ذلك لما روي عن طلحة بن مصرف قال : أدركت أهل الخير من صدر هذه الأمة يستحبون الختم في أول الليل وفي أول النهار يقولون إذا ختم الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وإذا ختم في أول ركعتي الفجر أو بعدهما وختمة الليل في ركعتي المغرب أو بعدهما يستقبل بختمة أول الليل وأول النهار

فصول : ختم القرآن واستحبابه كل سبعة أيام وفي ثلاث أحسن إعادة ما أسقطه الإمام من الآيات ليلة الختم وقراءة القرآن في الطريق وفي حال الاضطجاع
فصل : ويستحب أن يجمع أهله عند ختم القرآن وغيرهم لحضور الدعاء قال أحمد : كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره ورواه ابن شاهين مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم واستحسن أبو بكر التكبير عند آخر كل سورة من الضحى إلى آخر القرآن لأنه روي عن أبي بن كعب أنه قرأ على النبي صلى الله عليه و سلم فأمره بذلك رواه القاضي في الجامع بإسناده
فصل : وسئل أبو عبد الله عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة ترى لمن خلفه أن يقرأها ؟ قال : نعم ينبغي أن يفعل قد كان بمكة يوكلون رجلا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها فإذا كان ليلة الختمة إعادة وإنما إستحب ذلك لتتم الختمة ويكمل الثواب
فصل : ولا بأس بقراءة القرآن في الطريق والإنسان مضطجع قال إسحاق بن إبراهيم خرجت مع أبي عبد الله إلى الجامع فسمعته يقرأ سورة الكهف وعن إبراهيم التميمي قال : كنت أقرأ على أبي موسى وهو يمشي في الطريق فإذا قرأت السجدة قلت له أتسجد في الطريق ؟ قال : نعم وعن عائشة أنها قالت أني لاقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري رواه الفريابي في فضائل القرآن عن عائشة
فصل : يستحب أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام ليكون له ختمة في كل أسبوع قال عبد الله بن أحمد كان أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة يقرأ في كل يوم سبعا لا يتركه نظرا وقال حنبل : كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة وذلك لما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعبد الله بن عمرو : اقرأ القرآن في سبع ولا تزيدن على ذلك ] رواه أبو داود و [ عن أوس بن حذيفة قال : قلنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم لقد أبطأت عنا الليلة قال : إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أخرج حتى أتمه ] قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف تخربون القرآن قالوا : ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده رواه أبو داود ويكره أن يؤخر القرآن أكثر من أربعين يوما لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سأله عبد الله بن عمرو في كم تختم القرآن ؟ قال : في أربعين يوما ثم قال في شهر ثم قال في عشرين ثم قال في خمس عشرة ثم قال في عشر ثم قال في سبع لو ينزل من سبع ] أخرجه أبو داود وقال أحمد : أكثر ما سمعت أن يختم القرآن في أربعين ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضي إلى نسيان القرآن والتهاون به فكان ما ذكرنا أولى وهذا إذا لم يكن له عذر فأما مع العذر فواسع له
فصل : وإذا قرأه في ثلاث فحسن لما [ روي عن عبد الله بن عمرو قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم إن بي قوة : اقرأه في ثلاث ] رواه أبو داود فإن قرأه في أقل من ثلاث فقد روي عن أبي عبد الله أنه قال : أكره أن يقرأه في أقل من ثلاث وذلك لما روى عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث ] رواه أبو داود وروي عن أحمد أن ذلك غير مقدر وهو على حسب ما يجد من النشاط والقوة لأن عثمان كان يختمه في ليلة وروي ذلك عن جماعة من السلف والترتيل أفضل من قراءة الكثير مع العجلة لأن الله تعالى قال : { ورتل القرآن ترتيلا } وعن عائشة أنها قالت : ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة رواه مسلم وعنها قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يختم القرآن في أقل من ثلاث ] رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وقال ابن مسعود من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهذه كهذا الشعر ونثر كنثر الدقل

فصل : قراءة القرآن بالإيماء
فصل : كره أبو عبد الله القراءة بالألحان وقال : هي بدعة وذلك لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه ذكر في أشراط الساعة أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرائهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم غناء ] ولأن القرآن معجز في لفظه ونظمه والألحان تغيره وكلام أحمد في هذا محمول على الأفراط في ذلك بحيث يجعل الحركات حروفا ويمد في غير موضعه فأما تحسين القراءة والترجيع فغير مكروه فإن [ عبد الله بن المغفل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة يقرأ سورة الفتح قال فقرأ ابن المغفل ورجع في قراءته ] وفي لفظ قال : [ قرأ النبي صلى الله عليه و سلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجع في قراءته ] قال معاوية بن قرة لولا أني أخاف أن تجتمع علي الناس لحكيت لكم قراءته رواهما مسلم وفي بعض الألفاظ فقال : أأأ وروي أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ] يعني استمع وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ زينوا القرآن بأصواتكم ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] وقد اختلف السلف في معنى قوله يتغنى بالقرآن فقال ابن عيينة و أبو عبيد وجماعة غيرهما معناه يستغني بالقرآن قال أبو عبيد وكيف يجوز أن يحمل على أن من لم يغن بالقرآن ليس من النبي صلى الله عليه و سلم ؟ وقالت طائفة منهم معناه يحسن قراءته ويترنم به ويرفع صوته به كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه و سلم لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا وقال الشافعي يرفع صوته به وقال أبو عبد الله حزنه فيقرؤه بحزن مثل صوت أبي موسى
وعلى كل حال فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه مستحب غير مكروه ما لم يخرج ذلك إلى تغيير لفظه وزيادة حروفه فقد [ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم أستمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع قراءة أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه و سلم فاستمع ثم قال : هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا ] و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي موسى : أنني مررت بك البارحة وأنت تقرأ فقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ]
فقال أبو موسى : لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا مع ما ذكرنا من الأخبار والله أعلم

باب الإمامة
الجماعة واجبة للصلوات الخمس روي نحو ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى وبه قال عطاء و الأوزاعي و أبو ثور لم يوجبها مالك و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ] متفق عليه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينكر على اللذين قالا صلينا في رحالنا ولو كانت واجبة لأنكر عليهما ولأنها لو كانت واجبة في الصلاة لكانت شرطا لها كالجمعة
ولنا قول الله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية ولو لم تكن واجبة لرخص فيها حالة الخوف ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ] متفق عليه
وفيه ما يدل على أنه أراد الجماعة لأنه لو أراد الجمعة لما هم بالتخلف عنها وعن أبي هريرة قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل أعمى فقال : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولي دعاه فقال : تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم قال : فأجب ] رواه مسلم وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائدا فغيره أولى وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر قالوا وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى ] أخرجه أبو داود
وروى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من ثلاثة في قرية أو بلد لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية ] أخرجه أبو داود وحديثهم يدل على أن الجماعة غير مشترطة ولا نزاع بيننا فيه ولا يلزم من الوجوب الاشتراط كواجبات الحج والاحداد في العدة

فصلان : ليست الجماعة شرطا لصحة الصلاة وتنعقد باثنين فصاعدا
فصل : وليست الجماعة شرطا لصحة الصلاة نص عليه أحمد وخرج ابن عقيل وجها في اشتراطها قياسا على سائر واجبات الصلاة وهذا ليس بصحيح بدليل الحديثين اللذين احتجوا بهما والإجماع فإننا لا نعلم قائلا بوجوب الإعادة على من صلى وحده إلا أنه روي عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو موسى أنهم قالوا : من سمع النداء من غير عذر فلا صلاة له
فصل : وتنعقد الجماعة باثنين فصاعدا لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الاثنان فما فوقهما جماعة ] رواه ابن ماجة و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لمالك بن الحويرث وصاحبه : إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما ] وأم النبي صلى الله عليه و سلم حذيفة مرة وابن مسعود مرة وابن عباس مرة ولو أم الرجل عبده أو زوجته أدرك فضيلة الجماعة وإن أم صبيا جاز في التطوع لأن النبي صلى الله عليه و سلم أم فيه ابن عباس وهو صبي وإن أمه في الفرض فقال أحمد : لا تنعقد به الجماعة لأنه لا يصلح أن يكون إماما لنقص حاله فأشبه من لا تصح صلاته وقال أبو الحسن الآمدي : فيه رواية أخرى أنه يصح أن يكون إماما لأنه متنفل فجاز أ يكون مأموما بالمفترض كالبالغ ولذلك [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في الرجل الذي فاتته الجماعة : من يتصدق على هذا فيصلي معه ]

فصلان : مكان أداء صلاة الجماعة وأي المساجد فيها أفضل ؟
فصل : ويجوز فعلها في البيت والصحراء وقيل فيه رواية أخرى أن حضور المسجد واجب إذا كان قريبا منه أنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ]
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : [ جعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ] متفق عليه وقالت عائشة [ صلى النبي صلى الله عليه و سلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ] رواه البخاري [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لرجلين إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم تكن لكما نافلة ] وقوله [ لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ] لا نعرفه إلا من قول علي نفسه كذلك رواه سعيد في سننه والظاهر أ ه إنما أراد الجماعة وعبر بالمسجد عن الجماعة لأنه محلها ومعناه لا صلاة لجار المسجد إلا مع الجماعة وقيل أراد به الكمال والفضيلة فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة في غير المسجد صحيحة جائزة
فصل : وفعل الصلاة فيما كثر فيه الجمع من المساجد أفضل لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى ] رواه أحمد في المسند فإن تساويا في الجماعة ففعلها في المسجد العتيق أفضل لأن العبادة فيه أكثر وإن كان في جواره أو غير جواره مسجد لا تنعقد الجماعة فيه إلا بحضوره ففعلها فيه أولى لأنه يعمره بإقامة الجماعة فيه ويحصلها لمن يصلي فيه وإن كانت تقام فيه وكان في قصيدة غيره كسر قلب إمامه أو جماعته فجبر قلوبهم أولى وإن لم يكن كذلك فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب ؟ فيه روايتان أحدهما قصد الأبعد لتكثر خطاه في طلب الثواب فتكثر حسناته والثانية الأقرب لأنه له جوارا فكان أحق بصلاته كما أن الجار أحق بهدية جاره ومعروفه من البعيد وإن كان البلد ثغرا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد ليكون أعلى للكلمة واقع للهيبة وإذا جاءهم خبر عن عدوهم سمعه جميعهم وإن أرادوا التشاور في أمر حضر جميعهم وإن جاء عين الكفار رآهم فأخبر بكثرتهم قال الأوزاعي : لو كان الأمر إلي لسمرت أبواب المساجد التي في الثغر أو نحو هذا ليجتمع الناس في مسجد
واحد

فصلان : تعدد صلوات الجماعة في مسجد واحد
فصل : ولا يكره إعادة الجماعة في المسجد ومعناه أنه إذا صلى إمام الحي وحضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلوا جماعة وهو قول ابن مسعود و عطاء و النخعي و وقتادة و اسحق وقال سالم و أبو قلابة و أيوب و ابن عون و الليث و البتي و الثوري و مالك و أبو حنيفة و الأوزاعي و الشافعي : لا تعاد الجماعة في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس
فمن فاتته الجماعة صلى فردا لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والعداوة والتهاون في الصلاة مع الإمام ولأنه مسجد له إمام راتب فكره فيه إعادة الجماعة كمسجد النبي صلى الله عليه و سلم ولنا عموم قوله عليه السلام : [ صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة ] - وفي رواية - [ بسبع وعشرين درجة ] وروى أبو سعيد قال : [ جاء رجل وقد صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أيكم يتجر على هذا ؟ فقام رجل فصلى معه ] قال الترمذي : هذا حديث حسن ورواه الاثرم و أبو داود فقال : [ ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ] وروى الاثرم بإسناده عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله وزاد قال : [ فلما صليا قال : وهذان جماعة ] ولأنه قادر على الجماعة فاستحب له فعلها كما لو كان المسجد في ممر الناس
فصل : فأما إعادة الجماعة في المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم والمسجد الأقصى فقد روي عن أحمد كراهة إعادة الجماعة فيها وذكره أصحابنا لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الراتب فيما إذا أمكنهم الصلاة في الجماعة مع غيره وظاهر خبر أبي سعيد و أبي أمامة أن ذلك لا يكره لأن الظاهر أن هذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم والمعنى يقتضيه أيضا فإن فضيلة الجماعة تحصل فيها كحصولها في غيرها

مسألة وفصل : الأحق بالإمامة : أقرأ القوم لكتاب الله وأجودهم قراءة
مسألة : قال : ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى
لا خلاف في التقديم بالقراءة والفقه على غيرهما واختلف في أيهما يقدم على صاحبه فمذهب أحمد رحمه الله تقديم القارئ وبهذا قال ابن سيرين و الثوري وأصحاب الرأي : وقال عطاء و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور : يؤمهم إذا كان يقرأ ما يكفي في الصلاة لأنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يدري ما يفعل فيه إلا بالفقه فيكون أولى كالإمامة الكبرى والحكم
ولنا ما روى أوس بن ضمعج عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ] أو قال سلما وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اجتمع ثلاثة فيؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ] رواهما مسلم [ وعن ابن عمر قال : لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا ] رواه البخاري و أبو داود وكان فيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد وفي حديث عمر بن سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليؤمكم أكثركم قرآنا ] ولأن القراءة ركن في الصلاة فكان القادر عليها أولى كالقادر على القيام مع العاجز عنه فإن قيل إنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بتقديم القارئ لأن أصحابه كان أقرؤهم فأفقههم فإنهم كانوا إذا تعلموا القرآن تعلموا معه أحكامه قال ابن مسعود : كنا لا نجاوز عشر آيات حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها قلنا اللفظ عام فيجب الأخذ بعمومه دون خصوص السبب ولا يخص ما لم يقم دليل على تخصيصه على أن في الحديث ما يبطل
هذا التأويل فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فإن استووا فأعلمهم بالسنة ] ففاضل بينهم في العلم بالسنة مع تساويهم في القراءة ولو قدم القارئ لزيادة علم لما نقلهم عند التساوي فيه إلا الأعلم بالسنة ولو كان العلم بالفقه على قدر القراءة للزم من التساوي في القراءة التساوي فيه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقرؤكم أبي وأقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضكم زيد بن ثابت ] فقد فضل بالفقه من هو مفضول بالقراءة وفضل بالقراءة من هو مفضول بالقضاء والفرائض وعلم الحلال والحرام
قيل لـ أبي عبد الله حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ مروا أبا بكر يصلي بالناس ] أهو خلاف حديث أبي مسعود ؟ قال : لا إنما قوله لأبي بكر عند يصلي بالناس للخلافة يعني أن الخليفة أحق بالإمامة وإن كان غيره أقرأ منه فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أبا بكر بالصلاة يدل على أنه أراد استخلافه
فصل : ويرجح أحد القارئين على الآخر بكثرة القرآن لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليؤمكم أكثركم قرآنا ] وإن تساويا في قدر ما يحفظ كل واحد منهما وكان أحدهما أجود قراءة وإعرابا فهو أولى لأنه أقرأ فيدخل في عموم قوله : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ] وإن كان أحدهما أكثر حفظا والآخر أقل لحنا وأجود قراءة فهو أولى لأنه أعظم أجرا في قراءته لقوله عليه السلام [ من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح

مسألتان وفصل : فإذا استووا فأفقههم وأسنهم وأورعهم
مسألة : قال : فإن استووا فأفقههم
وذلك [ لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ] ولأن الفقه يحتاج إليه في الصلاة للإتيان بواجباتها وسننها وجبرها أن عرض ما يحوج إليه فيها فإن اجتمع فقيهان قارئان وأحدهما أقرأ والآخر أفقه قدم الأقرأ نص عليه للخبر وقال ابن عقيل الأفقه : أولى لتميزه بما لا يستغنى عنه في الصلاة وهذا يخالف عموم الخبر فلا يعول عليه وإن اجتمع فقيهان أحدهما أعلم بأحكام الصلاة والآخر أعرف بما سواها فالأعلم بأحكام الصلاة أولى لأنه علمه يؤثر في تكميل الصلاة بخلاف الآخر
مسألة : قال : فإن استووا فأسنهم
يعني أكبرهم سنا يقدم عند استوائهم في القراءة والفقه وظاهر قول أحمد أنه يقدم أقدمهما هجرة ثم أسنهما لأنه ذهب إلى حديث أبي مسعود وهو مرتب هكذا قال الخطابي : وعلى هذا الترتيب توجد أكثر أقاويل العلماء ومعنى تقدم الهجرة أن يكون أحدهما أسبق هجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام لأن الهجرة قربة وطاعة فيقدم السابق إليها لسبقه إلى الطاعة فإذا استويا فيها إما لهجرتهما معا أو عدمها منهما فأسنهم [ لقول النبي صلى الله عليه و سلم لمالك بن الحويرث وصاحبه : ليؤمكما أكبركما ] متفق عليه ولأن الأسن أحق بالتوقير والتقديم [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن سهل لما تكلم في أخيه : كبر كبر ] أي دع الأكبر يتكلم وقال أبو عبد الله بن حامد : أحقهم بعد القراءة والفقه أشرفهم ثم أقدمهم هجرة ثم أسنهم والصحيح الأخذ بما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه و سلم في تقديم السابق بالهجرة ثم الأسن لتصريحه بالدلالة ولا دلالة في حديث مالك بن حويرث على تقديم الأسن لأنه لم يثبت في حقهما هجرة ولا تفاضلهما في شرف ويرجع بتقديم الإسلام كالترجيح بتقديم الهجرة فإن [ في بعض ألفاظ حديث أبي مسعود : فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ] ولأن الإسلام أشرف من الهجرة فإذا قدم بتقدمها فتقدمه أولى فإذا استووا في هذا كله قدم أشرفهم أي أعلاهم نسبا وأفضلهم في نفسه وأعلاهم قدرا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قدموا قريشا ولا تقدموها ]
فصل : فإن استووا في هذه الخصال قدم أتقاهم وأورعهم لأنه أشرف في الدين وأفضل وأقرب إلى الإجابة وقد جاء : [ إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال ] ذكره الإمام أحمد في رسالته ويحمل تقديم هذا على الأشرف لأن شرف الدين خير من شرف الدنيا وقد قال الله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فإذا استووا في هذا كله أقرع بينهم نص عليه أحمد رحمه الله وذلك لأنه سعد بن أبي وقاص أقرع بينهم في الآذان فالإمامة أولى ولأنهم تساووا في الاستحقاق وتعذر الجمع فأقرع بينهم كسائر الحقوق وإن كان أحدهما يقوم بعمارة المسجد وتعاهده فوه أحق به وكذلك إن رضي الجيران أحدهما دون الآخر قدم بذلك ولا يقدم بحسن الوجه لأنه لا مدخل له في الإمامة ولا أثر له فيها وهذا كله تقديم استحباب لا تقديم اشتراط ولا إيجاب لا نعلم فيه خلافا فلوا قدم المفضول كان ذلك جائزا لأن الأمر بعد هذا أمر أدب واستحباب

مسألة : حكم الصلاة خلف المبتدع
مسألة : قال : ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر أعاد
الإعلان الإظهار وهو ضد الإسرار وظاهر هذا أن من ائتم بمن يظهر بدعته ويتكلم بها ويدعوا إليها أو يناظر عليها فعليه الإعادة ومن لم يظهر بدعته فلا إعادة على المؤتم به وإن كان معتقدا لها قال الأثرم قلت لـ أبي عبد الله : الرافضة الذين يتكلمون بما تعرف ؟ فقال : نعم آمره أن يعيد قيل لـ أبي عبد الله وهكذا أهل البدع كلهم قال لا إن منهم من يسكت ومنهم من يقف ولا يتكلم وقال لا تصل خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه وقال : لا تصل خلف المرجئ إذا كان داعية وتخصيصه الداعية ومن يتكلم بالإعادة دون من يقف ولا يتكلم يدل على ما قلناه وقال القاضي : المعلن بالبدعة من يعتقدها بدليل وغير المعلن من يعتقدها تقليدا
ولنا أن حقيقة الإعلان هو الإظهار وهو ضد الإخفاء والإسرار قال الله تعالى : { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } وقال تعالى مخبرا عن إبراهيم : { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } ولأن المظهر لبدعته لا عذر للمصلي خلفه لظهور حاله والمخفي لها من يصلي خلفه معذور وهذا له أثر في صحة الصلاة ولهذا لم تجب الإعادة خلف المحدث والنجس إذا لم يعلم حالهما لخفاء ذلك منهما ووجبت على المصلي خلف الكافر والأمي لظهور حالهما غالبا وقد روي عن أحمد أنه لا يصلى خلف مبتدع بحال قال في رواية أبي الحارث لا يصلي خلف مرجئ ولا رافضي ولا فاسق إلا أن يخافهم فيصلي ثم يعيد وقال أبو داود قال أحمد : متى ما صليت خلف من يقول القرآن مخلوق فأعد قلت وتعرفه قال : نعم وعن مالك أنه لا يصلى خلف أهل البدع فحصل من هذا أن من صلى خلف مبتدع معلن ببدعته فعليه الإعادة ومن لم يعلنها ففي الإعادة خلفه روايتان وأباح الحسن و أبو جعفر و الشافعي الصلاة خلف أهل البدع لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صلوا خلف من قال لا إله إلا الله ] رواه الدرقطني ولأنه رجل صلاته صحيحة فصح الائتمام به كغيره وقال نافع كان ابن عمر يصلي مع الخشبية والخوارج زمن ابن الزبير وهم يقتتلون فقيل له أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا ؟ فقال : من قال حي على الصلاة أجبته ومن قال حي على الفلاح أجبته ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا رواه سعيد وقال ابن المنذر وبعض الشافعية من نكفره ببدعته كالذي يكذب الله أو رسوله ببدعته لا يصلى خلفه ومن لا نكفره تصح الصلاة خلفه
ولنا ما روى جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم على منبره يقول : [ لا تؤمن امرأة رجلا ولا فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو سيفه ] رواه ابن ماجة وهذا أخص من حديثهم فتعين تقديمه وحديثهم نقول به في الجمع والأعياد وتعاد وهو مطلق فالعمل به في موضع يحصل الوفاء بدلالتهم وقياسهم منقوض بالخنثى والأمي ويروى عن حبيب الأنصاري عن أبيه قال : سألت واثلة بن الاسقع قلت أصلي خلف القدري ؟ قال : لا تصل خلفه ثم قال : أما أنا لو صليت خلفه لأعدت صلاتي رواه الأثرم وأما قول الخرقي أو يسكر فإنه يعني من يشرب ما يسكره من أي شراب كان فإنه لا يصلى خلفه لفسقه وإنما خصه بالذكر في ما يرى من سائر الفساق لنص أحمد عليه قال أبو داود سألت أحمد وقيل له : إذا كان الإمام يسكر قال : لا تصل خلفه البتة وسأله رجل قال : صليت خلف رجل ثم علمت أنه يسكر أعيد ؟ قال نعم أعد قال أيتهما صلاتي ؟ قال : التي صليت وحدك ؟ وسأله رجل قال : رأيت رجلا سكران أصلي خلفه ؟ قال : لا قال : فأصلي وحدي ؟ قال أين أنت ؟ في البادية ؟ المساجد كثيرة قال : أنا في حانوتي قال : تخطاه قال : تخطاه إلى غيره من المساجد فأما من يشرب من النبيذ المختلف فيه ما لا يسكره معتقدا حله فلا بأس بالصلاة خلفه نص عليه أحمد فقال : يصلى خلف من يشرب المسكر على التأويل نحن نروي عنهم الحديث ولا نصلي خلف من يسكر وكلام الخرقي بمفهومه يدل على ذلك لتخصيصه من سكر بالإعادة خلفه وفي معنى شارب ما يسكر كل فاسق فلا يصلى خلفه نص عليه أحمد فقال : لا تصل خلف فاجر ولا فاسق وقال أبو داود : سمعت أحمد رحمه الله سئل عن إمام قال : أصلي بكم رمضان بكذا وكذا درهما قال : أسأل الله العافية من يصلي خلف هذا ؟ وروي عنه أنه قال : لا تصلوا خلف من لا يؤدي الزكاة وقال : لا تصل خلف من يشارط ولا بأس أن يدفعوا إليه من غير شرط وهذه النصوص تدل على أنه لا يصلى خلف فاسق وعنه رواية أخرى أن الصلاة جائزة ذكرها أصحابنا وهذا مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا خلف من قال لا إله إلا الله ] وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج والحسين والحسن وغيرهما من الصحابة كانوا يصلون مع مروان والذين كانوا في ولاية زياد وابنه كانوا يصلون معهما وراء الوليد بن عقبة وقد شرب الخمر وصلى الصبح أربعا وقال أزيدكم فصار هذا إجماعا [ وروي عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها قال : قلت فما تأمرني قال : صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها نافلة ] رواه مسلم وفي لفظ [ فإن صليت لوقتها كانت نافلة وإلا كانت قد أحرزت صلاتك ] وفي لفظ [ فإن أدركت الصلاة معهم فصل ولا تقل إني قد صليت فلا أصلي ] وفي لفظ [ فإنها زيادة خير ] وهذا فعل يقتضي فسقهم وقد أمره بالصلاة معهم وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ] عام فيتناول محل النزاع ولأنه رجل تصح صلاتهن لنفسه فسح الائتمام به كالعدل ووجه الأولى : قوله عليه السلام [ لا يؤمن فاجر إلا أن يقهره بسلطانه أو سيفه ] ولأن الإمامة تتضمن حمل القراءة ويؤمن تركه لها ولا يؤمن ترك بعض شرائطها كالطهارة وليس ثم أمارة ولا غلبة ظن يؤمنان ذلك والحديث أجبنا عنه وفعل الصحابة محمول على أنهم خافوا الضرر بترك الصلاة معهم فقد روينا عن عطاء و سعيد بن جبير أنهما كانا في المسجد والحجاج يخطب فصليا بالإيماء وإنما فعلا ذلك لخوفهما على أنفسهما إن صليا على وجه يعلم بهما وروينا عن قسامة بن زهير قال : لما كان من شأن فلان ما كان قال له أبو بكر تنح عن مصلانا فإنا لا نصلي خلفك وحديث أبي ذر يدل على صحتها نافلة والنزاع في الفرض

فصول : أداء صلاة الجمعة والعيدين خلف البر والفاجر والعبرة بعدالة الإمام لا بعدالة من ولاه
فصل : فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل بر و فاجر وقد كان أحمد يشهدها مع المعتزلة وكذلك العلماء الذين في عصره وقد روينا أن رجلا جاء محمد بن النضر فقال له : إن لي جيرانا من أهل الأهواء لا يشهدون الجمعة قال حسبك ما تقول في من رد على أبي بكر وعمر ؟ قال رجل سوء قال فإن رد على النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال يكفر قال : فإن رد على العلي الأعلى ؟ ثم غشي عليه ثم أفاق فقال : ردوا عليه والذي لا إليه إلا هو فإنه قال : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } وهو يعلم أن بني العباس سيلونها ولأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهرة وتليها الأئمة دون غيرهم فتكرها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية إذا ثبت هذا فإنها تعاد خلف من يعاد خلفه غيرها قال أحمد : أما الجمعة فينبغي شهودها فإن كان الذي يصلي منهم أعاد وروي عنه أنه قال : من أعادها فهو مبتدع وهذا يدل بعمومه على أنها لا تعاد خلف فاسق ولا مبتدع لأنها صلاة أمر بها فلم تجب إعادتها كسائر الصلوات
فصل : فإن كان المباشر لها عدلا والمولي له غير مرضي الحال لبدعته أو فسقه لم يعدها نص عليه وقيل له إنهم يقولون إذا كان الذي وضعه يقول بقولهم فسدت الصلاة قال : لست أقول بهذا ولأن صلاته إنما ترتبط بصلاة إمامه فلا يضر وجود معنى في غيره كالحدث أو كونه أميا وعنه تعاد والصحيح الأول
فصل : وإن لم يعلم فسق إمامه ولا بدعته حتى صلى معه فإنه يعيد نص عليه وقال ابن عقيل لا إعادة عليه لأن ذلك مما يخفى فأشبه المحدث والنجس والصحيح أن هذا ينظر فيه فإن كان ممن يخفي بدعته وفسوقه صحت الصلاة خلفه لما ذكرنا في أول المسألة وإن كان ممن يظهر ذلك وجبت الإعادة خلفه على الرواية التي تقول بوجوب إعادتها خلف المبتدع لأنه معنى يمنع الائتمام فاستوى فيه العلم وعدمه كما لو كان أميا والحدث والنجاسة يشترط خفاؤهما على الإمام والمأموم معا ولا يخفى على الفاسق فسق نفسه ولأن الإعادة إنما تجب خلف من يعلن ببدعته وليس ذلك في مظنة الخفاء بخلاف الحدث والنجاسة
فصل : وإن لم يعلم حاله ولم يظهر منه ما يمنع الائتمام به فصلاة المأموم صحيحة نص عليه أحمد لأن الأصل في المسلمين السلامة ولو صلى خلف من يشك في إسلامه فصلاته صحيحة لأن الظاهر أنه لا يتقدم للإمامة إلا مسلم

فصل : حكم صلاة من يأتم بمن يخالفه في الفروع
فصل : فأما المخالفون في الفروع كأصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي فالصلاة خلفهم صحيحة غير مكروهة نص عليه أحمد لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم لم يزل بعضهم يأتم ببعض مع اختلافهم في الفروع فكان ذلك إجماعا ولأن المخالف إما أن يكون مصيبا في اجتهاده فله أجران أجر لاجتهاده وأجر لإصابته أو مخطئا فله أجر على اجتهاده ولا إثم عليه في خطأه لأنه محطوط عنه فإن علم أنه يترك ركنا أو شرطا يعتقده المأموم دون الإمام فظاهر كلام أحمد صحة الائتمام به قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل صلى بقوم وعليه جلود الثعالب فقال : إن كان يلبسه وهو يتأول : ( أيما أهاب دبغ فقد طهر ) فيصلي خلفه قيل له أفتراه أنت جائزا ؟ قال : لا نحن لا نراه جائزا ولكن إذا كان هو يتأول فلا بأس أن يصلي خلفه ثم قال أبو عبد الله لو أن رجلا لم ير الوضوء من الدم لم يصل خلفه ؟ ثم قال : نحن نرى الوضوء من الدم فلا نصلي خلف سعيد بن المسيب و مالك ومن سهل في الدم ؟ أي بلى ورأيت لبعض أصحاب الشافعي مسألة مفردة في الرد على من أنكر هذا واستدل بأن الصحابة كان يصلي بعضهم خلف بعض مع الاختلاف ولأن لكل مجتهد مصيب أو كالمصيب في حط المأثم عنه وحصول الثواب وصحة الصلاة لنفسه فجائز الائتمام به كما لو لم يترك شيئا وذكر القاضي فيه رواية أخرى أنه لا يصح ائتمامه به لأنه يرتكب ما يعتقده المأموم مفسدا للصلاة فلم يصح ائتمامه به كما لو خالفه في القبلة حال الاجتهاد فيها

فصل : الصلاة خلف من ترك الواجبات
فصل : وإن فعل شيئا من المختلف فيه يعتقد تحريمه فإن كان يترك ما يعتقده شرطا للصلاة أو واجبا فيها فصلاته فاسدة وصلاة من يأتم به وإن كان المأموم يخالفه في اعتقاد ذلك لأنه ترك واجبا في الصلاة ففسدت صلاته وصلاة من ائتم به كالجمع عليه وإن كان يفعل ما يعتقد تحريمه في غير الصلاة كالمتزوج بغير ولي ممن يرى فساده وشارب يسير النبيذ ممن يعتقد تحريمه فهذا إن دام على ذلك فهو فاسق حكمه حكم سائر الفساق فإن لم يدم عليه فلا بأس بالصلاة خلفه لأنه من الصغائر ومتى كان الفاعل كذلك عاميا قلد من يعتقد جوازه فلا شيء عليه لأن فرض العامي سؤال العلماء وتقليدهم لقول الله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }

فصل : إمامة المجنون
فصل : ولا تصح الصلاة خلف مجنون لأن صلاته لنفسه باطلة وإن كان يجن تارة ويفيق أخرى فصلى وراءه حال إفاقته صحت صلاته ويكره الائتمام به لئلا يكون قد احتلم حال جنونه ولم يعلم ولئلا يعرض الصلاة للإبطال في أثنائها لوجود الجنون فيها والصلاة صحيحة لأن الأصل السلامة فلا تفسد بالاحتمال

فصل : الصلاة خلف الإمام بنية الانفراد
فصل : وإذا أقيمت الصلاة والإنسان في المسجد والإمام ممن لا يصلح للإمامة فإن شاء صلى خلفه وأعاد وإن نوى الصلاة وحده ووافق الإمام في الركوع والسجود والقيام والقعود فصلاته صحيحة لأنه أتى بأفعال الصلاة وشروطها على الكمال فلا تفسد بموافقته غيره في الأفعال كما لو لم يقصد الموافقة وروي عن أحمد أنه يعيد قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يكون في المسجد فتقام الصلاة ويكون الرجل الذي يصلي بهم لا يرى الصلاة خلفه ويكره الخروج من المسجد بعد النداء لقول النبي عليه السلام كيف يصنع ؟ قال إن خرج كان في ذلك شنعة ولكن يصلي معه ويعيد وإن شاء أي يصلي بصلاته ويكون يصلي لنفسه ثم يكبر لنفسه ويركع لنفسه ويسجد لنفسه ولا يبالي أن يكون سجوده مع سجوده وتكبيره مع تكبيره قلت فإن فعل هذا لنفسه أيعيد قال : نعم قلت فكيف يعيد وقد جاء أن الصلاة هي الأولى وحديث النبي صلى الله عليه و سلم : [ اجعلوا صلاتكم معهم سبحة ] قال : إنما ذاك إذا صلى وحده فنوى الفرض أما إذا صلى معه وهو ينوي أن لا يعتد بها فليس هذا مثل هذا فقد نص على الإعادة ولكن تعليله إفسادها بكونه نوى أن لا يعتد بها يدل على صحتها وأجزائها إذا نوى الاعتداد بها وهو الصحيح لما ذكرنا أولا وكذلك لو كان الذين لا يرضون الصلاة خلفه جماعة فأمهم أحدهم ووافقوا الإمام في الركوع والسجود كان جائزا والله أعلم

مسألة وفصول : إمامة العبد والأعمى والأخرس والأصم وأقطع اليدين
مسألة : قال : وإمامة العبد والأعمى جائزة
هذا قول أكثر أهل العلم وروي عن عائشة رضي الله عنها أن غلاما لها كان يؤمها وصلى ابن مسعود وحذيفة وأبو ذر وراء سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد وممن أجاز ذلك الحسن و الشعبي و النخعي و الحكم و الثوري و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وكره أبو مجلز إمامة العبد وقال مالك : لا يؤمهم إلا أن يكون قارئا وهم أميون
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى ] و [ قال أبو ذر : إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف وأن أصلي الصلاة لوقتها أدركت القوم وقد صلوا كنت أحرزت صلاتك وإلا كانت لك نافلة ] رواه مسلم ولأنه إجماع الصحابة فعلت عائشة ذلك وروي أن أبا سعيد مولى أبي أسيد قال تزوجت وأنا عبد فدعوت نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجابوني فكان فيهم أبو ذر وابن مسعود وحذيفة فحضرت الصلاة وهم في بيتي فتقدم أبو ذر ليصلي بهم فقالوا له وراءك ؟ فالتفت إلى ابن مسعود فقال : أكذلك يا أبا عبد الرحمن قال : نعم فقدموني وأنا عبد فصليت بهم رواه صالح في مسائله بإسناده وهذه قصة مثلها ينتشر ولم ينكر ولا عرف مخالف لها فكان ذلك إجماعا ولأن الرق حق ثبت عليه فلم يمنع صحة إمامته كالدين ولأنه من أهل الأذان للرجال يأتي بالصلاة على الكمال فكان له أن يؤمهم كالحر وأما الأعمى فلا نعلم في صحة إمامته خلافا إلا ما حكي عن أنس أنه قال : ما حاجتهم إليه وعن ابن عباس أنه قال : كيف أؤمهم وهم يعدلونني إلى القبلة ؟ والصحيح عن ابن عباس أنه كان يؤم وهو أعمى وعتبان بن مالك وقتادة وجابر و [ قال أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى ] رواه أبو داود و [ عن الشعبي أنه قال : غزا النبي صلى الله عليه و سلم ثلاث عشرة غزوة كل ذلك يقدم ابن أم مكتوم يصلي بالناس ] رواه أبو بكر ولأن العمى فقد حاسة لا يخل بشيء من أفعال الصلاة ولا بشروطها فأشبه فقد الشم إذا ثبت هذا فالحر أولى من العبد لأنه أكمل منه وأشرف ويصلي الجمعة والعيد إماما بخلاف العبد وقال أبو الخطاب : والبصير أولى من الأعمى لأنه يستقبل القبلة بعلمه ويتوقى النجاسات ببصره وقال القاضي : هما سواء لأن الأعمى أخشع لأنه لا يشتغل في الصلاة بالنظر إلا ما يلهيه فيكون ذلك في مقابلة فضله البصير عليه فيتساويان والأول أصح لأن البصير لو أغمض عينه كان مكروها ولو كان ذلك فضيلة لكان مستحبا لأنه يحصل بتغميضه ما يحصله الأعمى ولأن البصير إذا غض بصره مع إمكان النظر كان له الأجر فيه لأنه يترك المكروه مع إمكانه اختيارا والأعمى يتركه اضطرارا فكان أدنى حالا وأقل فضلة
فصل : ولا تصح إمامة الأخرس بمثله ولا غيره لأنه يترك ركنا وهو القراءة تركا مأيوسا من زواله فلم تصح إمامته كالعاجز عن الركوع والسجود
فصل : وتصح إمامة الأصم لأنه لا يخل بشيء من أفعال الصلاة ولا شروطها فأشبه الأعمى فإن كان أصم أعمى صحت إمامته لذلك وقال بعض أصحابنا : لا تصح إمامته لأنه إذا سها لا يمكن تنبيهه بتسبيح ولا إشارة والأولى صحتها فإنه لا يمنع من صحة الصلاة احتمال عارض لا يتيقن وجوده كالمجنون حال إفاقته
فصل : فأما أقطع اليدين فقال أحمد رحمه الله : لم أسمع فيه شيئا وذكر الآمدي فيه روايتين أحدهما تصح إمامته اختارها القاضي لأنه عجز لا يخل بركن في الصلاة فلم يمنع صحة إمامته كأقطع أحد الرجلين والأنف والثانية لا تصح اختارها أبو بكر لأنه يخل بالسجود على بعض أعضاء السجود أشبه العاجز عن السجود على جبهته وحكم أقطع اليد الواحدة كالحكم في قطعهما جميعا وأما أقطع الرجلين فلا يصح الائتمام به لأنه مأيوس من قيامه فلم تصح إمامته كالزمن وإن كان مقطوع إحدى الرجلين ويمكنه القيام صحت إمامته ويتخرج على قول أبي بكر أن لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضو والأول أصح لأنه يسجد على الباقي من رجله أو حائلها

مسألة وفصول : إمامة الأمي ومن يحل بالقراءة وإمامة اللحان والتمتام ومن لا يفصح بنطق الحروف
مسألة : قال : وإن أم أمي أميا وقارئا أعاد القارئ وحده
الأمي من لا يحسن الفاتحة أو بعضها أو يخل بحرف منها وإن كان يحسن غيرها فلا يجوز لمن يحسنها أن يأتم به ويصح لمثله أن يأتم به ولذلك خص الخرقي القارئ بالإعادة فيما إذا أم أميا وقارئا وقال القاضي هذه المسألة محمولة على أن القارئ مع جماعة أميين حتى إذا فسدت صلاة القارئ بقي خلف الإمام اثنان فصاعدا فإن كان معه أمي واحد وكانا خلف الإمام أعادا جميعا لأن الأمي صار فذا والظاهر أن الخرقي إنما قصد بيان من تفسد صلاته بالائتمام بالأمي وهذا يخص القارئ دون الأمي ويجوز أن تصح صلاة الأمي لكونه عن يمين الإمام أو كونهما جميعا عن يميمنه أو معهم أمي آخر وإن فسدت صلاته لكونه فذا فما فسدت لائتمامه بمثله إنما فسدت لمعنى آخر وبهذا قال مالك و الشافعي في الجديد وقيل عنه يصح أن يأتم القارئ بالأمي في صلاة الإسرار دون صلاة الجهر وقيل عنه يجوز أن يأتم به في الحالين لأنه عجز عن ركن فجاز للقادر عليه الائتمام به كالقاعد بالقائم وقال أبو حنيفة : تفسد صلاة الإمام أيضا لأنه لما أحرم معه القارئ لزمته القراءة عنه لكون الإمام يحتمل القراءة عن المأموم فعجز عنها ففسدت صلاته
ولنا على الأول أنه ائتم بعاجز عن ركن سوى القيام يقدر عليه المأموم فلم تصح كالمؤتم بالعاجز عن الركوع والسجود ولأن الإمام يتحمل القراءة عن المأموم وهذا عاجز عن التحمل للقراءة الواجبة على المأموم فلم يصح له الائتمام به لئلا يفضي إلى أن يصلي بغير قراءة وقياسهم يبطل بالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود والقيام ولا مدخل للتحمل فيه بخلاف القراءة
ولنا على صحة صلاة الإمام أنه أم من لا يصح له الائتمام به فلم تبطل صلاته كما لو أمت امرأة رجلا ونساء وقولهم أنه يلزم القراءة عن القارئ لا يصح لأن الله تعالى قال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ومن لا تجب عليه القراءة عن نفسه فعن غيره أولى وإن أم الأمي قارئا واحدا لم تصح صلاة واحد منهما لأن الأمي نوى الإمامة وقد صار فذا
فصل : وإن صلى القارئ خلف من لا يعلم حاله في صلاة الإسرار صحت صلاته لأن الظاهر أنه لا يتقدم إلا من يحسن القراءة ولم يتخرم الظاهر فإنه أسر في موضع الإسرار وإن كان يسر في صلاة الجهر ففيه وجهان : أحدهما لا تصح صلاة القارئ ذكره القاضي لأن الظاهر أنه لو أحسن القراءة لجهر والثاني تصح لأن الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن القراءة وإسراره يحتمل أن يكون نسيانا أو لجهله أو لأنه لا يحسن أكثر من الفاتحة فلا تبطل الصلاة بالاحتمال فإن قال قد قرأت في الإسرار صحت الصلاة على الوجهين لأن الظاهر صدقه
ويستحب الإعادة احترازا من أن يكون كاذبا ولو أسر في صلاة الإسرار ثم قال : ما كنت قرأت الفاتحة لزمه ومن وراءه الإعادة وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بهم المغرب فلما سلم قال : أما سمعتموني قرأت قالوا : لا قال : فما قرأت في نفسي فأعاد بهم الصلاة
فصل : ومن ترك حرفا من حروف الفاتحة لعجزه عنه أو أبدله بغيره كالالثغ الذي يجعل الراء غينا والأرت الذي يدغم حرفا في حرف أو يلحن لحنا يحيل المعنى كالذي يكسر الكاف في إياك أو يضم التاء من أنعمت ولا يقدر على إصلاحه فهو كالأمي لا يصح أن يأتم به قارئ ويجوز لكل واحد منهم أن يؤم مثله لأنهما أميان فجاز لأحدهما الائتمام بالآخر كاللذين لا يحسنان شيئا وإن كان يقدر على إصلاح شيء من ذلك فلم يفعل لم تصح صلاته ولا صلاة من يأتم به
فصل : إذا كان رجلان لا يحسن واحد منهما الفاتحة وأحدهما يحسن سبع آيات من غيرها والآخر لا يحسن شيئا من ذلك فهما أميان لكل واحد منهما الائتمام بالآخر والمستحب أن لا يؤم الذي يحسن الآيات لأنه أقرأ وعلى هذا كل من لا يحسن الفاتحة يجز أن يؤم من لا يحسنها سواء استويا في الجهل أو كانا متفاوتين فيه
فصل : تكره إمامة اللحان الذي لا يحيل المعنى نص عليه أحمد وتصح صلاته بمن لا يلحن لأنه أتى بفرض القراءة فإن أحال المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الائتمام به إلا أن يتعمده فتبطل صلاتهما
فصل : ومن لا يفصح ببعض الحروف كالضاد والقاف فقال القاضي : تكره إمامته وتصح أعجميا كان أو عربيا وقيل فيمن قرأ ولا الضالين بالظاء لا تصح صلاته لأنه يحيل المعنى يقال ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا فحكمه حكم الالثغ وتكره إمامة التمتام وهو من يكرر التاء والفأفاء وهو من يكرر الفاء وتصح الصلاة خلفهما لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال ويزيدان زيادة هما مغلوبان عليها فعفي عنها ويكره تقديمهما لهذه الزيادة

مسألة : إمامة الخنثى
مسألة : قال : وإن صلى خلف مشرك أو امرأة أو خنثى مشكل أعاد الصلاة
وجملته أن الكافر لا تصح الصلاة خلفه بحال سواء علم بكفره بعد فراغه من الصلاة أو قبل ذلك وعلى من صلى وراءه الإعادة وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور و المزني لا إعادة على من صلى خلفه وهو لا يعلم لأنه ائتم بمن لا يعلم حاله فأشبه ما لو ائتم بمحدث
ولنا أنه ائتم بمن ليس من أهل الصلاة فلم تصح صلاته كما لو ائتم بمجنون وأما المحدث فيشترط أن لا يعلم حدث نفسه والكافر يعلم حال نفسه وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجل بحال في فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء وقال أبو ثور : لا إعادة على من صلى خلفها وهو قياس قول المزني وقال بعض أصحابنا : يجوز أن تؤم الرجال في التراويح وتكون وراءهم لما [ روي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها ] رواه أبو داود وهذا عام في الرجال والنساء
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تؤمن امرأة رجلا ] ولأنها لا تؤذن للرجال فلم يجز أن تؤمهم كالمجنون وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها كذلك رواه الدارقنطي وهذه زيادة يجب قبولها ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض بدليل أ ه جعل لها مؤذنا والأذان إنما يشرع في الفرائض ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض ولأن تخصيص ذلك بالتروايح واشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل فلا يجوز المصير إليه ولو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة لكان خاصا بها بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة
وأما الخنثى فلا يجوز أن يؤم رجلا لأنه يحتمل أن يكون امرأة ولا يؤم خنثى مثله لأنه يجوز أن يكون الإمام امرأة والمأموم رجلا ولا يجوز أن تؤمه امرأة لاحتمال أن يكون رجلا قال القاضي : رأيت لـ أبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته في جماعة لأنه إن قام مع الرجال احتمل أن يكون امرأة وإن قام مع النساء أو وحده أو ائتم بامرأة احتمل أن يكون رجلا وإن أم الرجال احتمل أن يكون امرأة وإن أم النساء فقام وسطهن احتمل أنه رجل وإن قام بين أيديهن احتمل أنه امرأة ويحتمل أن تصح صلاته في هذه الصورة وفي صورة أخرى وهو أن يقوم في صف الرجال مأموما فإن المرأة إذا قامت في صف الرجال لم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها

فصل : إمامة الرجل لنساء أجانب
فصل : يكره أن يؤم الرجل نساء أجانب لا رجل معهن لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية ولا بأس أن يؤم ذوات محارمه وأن يؤم النساء مع الرجال [ فإن النساء كن يصلين مع النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد ] و [ قد أم النبي صلى الله عليه و سلم نساء ] و [ قد أم النبي صلى الله عليه و سلم أنسا وأمه في بيتهم ]

فصول : إمامة المشكوك في كونه خنثى أو كافر
فصل : إذا صلى خلف من شك في إسلامه أو كونه خنثى فصلاته صحيحة ما لم يبن كفره وكونه خنثى مشكلا لأن الظاهر من المصلين الإسلام سيما إذا كان إماما والظاهر السلامة من كونه خنثى سيما من يؤم الرجال فإن تبين بعد الصلاة أنه كان كافرا أو خنثى مشكلا فعليه الإعادة على ما بينا وإن كان الإمام ممن يسلم تارة ويرتد أخرى لم يصل خلفه حتى يعلم على أي دين هو فإن صلى خلفه وهو لم يعلم ما هو عليه نظرنا فإن كان قد علم قبل الصلاة إسلامه وشك في ردته فهو مسلم وإن علم ردته وشك في إسلامه لم تصح صلاته فإن كان علم إسلامه فصلى خلفه فقال بعد الصلاة ما كنت أسلمت أو ارتددت لم تبطل الصلاة لأن صلاته كانت صحيحة حكما فلا يقبل قول هذا في إبطالها لأنه ممن لا يقبل قوله وإن صلى خلف من علم ردته فقال بعد الصلاة قد كنت أسلمت قبل وقوله لأنه ممن يقبل قوله
فصل : قال أصحابنا : يحكم بإسلامه بالصلاة سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام وسواء صلى جماعة أو فرادي فإن أقام بعد ذلك على الإسلام فلا كلام وإن لم يقم عليه فهو مرتد يجري عليه أحكام المرتدين وإن مات قبل ظهور ما ينافي الإسلام فهو مسلم يرثه ورثته المسلمون دون الكافرين وقال أبو حنيفة : إن صلى جماعة أو منفردا في المسجد كقولنا وإن صلى فرادى في غير المسجد لم يحكم بإسلامه وقال بعض الشافعية : لا يحكم بإسلامه بحال لأن الصلاة من فروع الإسلام فلم يصر مسلما بفعلها كالحج والصيام ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم بحقها ] وقال بعضهم إن صلى في دار الإسلام فليس بمسلم لأنه قد يقصد الاستتار بالصلاة وإخفاء دينه وإن صلى في دار الحرب فهو مسلم لأنه لا تهمة في حقه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ نهيت عن قتل المصلين ] وقال : [ بيننا وبينهم الصلاة ] فجعل الصلاة حدا بين الإسلام والكفر فمن صلى فقد دخل في حد الإسلام و [ قال في المملوك : فإذا صلى فهو أخوك ] ولأنها عبادة تختص بالمسلمين فالإتيان بها إسلام كالشهادتين وأما الحج فإن الكفار كانوا يفعلونه والصيام إمساك عن المفطرات وقد يفعله من ليس بصائم
فصل : فأما صلاته في نفسه فأمر بينه وبين الله تعالى فإن علم أنه كان قد أسلم ثم توضأ وصلى بنية صحيحة فصلاته صحيحة وإن لم يكن كذلك فعليه الإعادة لأن والوضوء لا يحص من كافر وإذا لم يسلم قبل الصلاة كان حال شروعه فيها غير مسلم ولا متطهر فلم يصح منه

مسألة وفصل : إمامة المرأة للنساء
مسألة : قال : وإن صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطا
اختلفت الرواية هل يستحب أن تصلي المرأة بالنساء جماعة فروي أنم ذلك مستحب وممن روي عنه أن المرأة تؤم النساء عائشة وأم سلمة و عطاء و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحق و أبو ثور وروي عن أحمد رحمه الله أن ذلك غير مستحب وكرهه أصحاب الرأي وإن فعلت أجزاهن وقال الشعبي و النخعي و قتادة لهن ذلك في التطوع دون المكتوبة وقال الحسن و وسليمان بن يسار : لا تؤم في فريضة ولا نافلة وقال مالك : لا ينبغي للمرأة أن تؤم أحدا لأنه يكره لها الأذان وهو دعاء إلى الجماعة فكره لهاما يراد الأذان له
ولنا حديث أم ورقة ولأنهن من أهل الفرض فأشبهن الرجال وإنما كره لهن الأذان لما فيه من رفع الصوت ولسن من أهله إذا ثبت هذا فإنها إذا صلت بهن قامت في وسطهن لا نعلم فيه خلافا بين من رأى لها أن تؤمهن ولأن المرأة يستحب لها التستر ولذلك لا يستحب لها التجافي وكونها في وسط الصف أستر لها لأنها تستتر بهن من جانبيها فاستحب لها ذلك كالعريان فإن صلت بين أيديهن احتمل أن يصح لأنه موقف في الجملة ولهذا كان موقفا للرجل واحتمل أن لا يصح لأنها خالفت موقفها أشبه ما لو خالف الرجل موقفه
فصل : وتجهر في صلاة الجهر وإن كان ثم رجال ألا تجهر إلا أن يكونوا من محارمها فلا بأس

فصل : ويباح للنساء حضور الجماعة مع الرجال
فصل : ويباح لهن حضور الجماعة مع الرجال لأن النساء كن يصلين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قالت عائشة : كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ] متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات ] يعني غير متطيبات رواه أبو داود وصلاتها في بيتها خير لها وأفضل لما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن ] رواه أبو داود وقال عليه الصلاة و السلام : [ صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ] رواه أبو داود

فصلان : موقف المرأة في صلاة الجماعة
فصل : إذا أمت المرأة امرأة واحدة قامت المرأة عن يمينها كالمأموم مع الرجال وإن صلت خلف رجل قامت خلفه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أخروهن من حيث أخرهن الله ] وإن كان معهما رجل قام عن يمين الإمام والمرأة خلفهما كما [ روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى له وبأمه وخالته فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا ] رواه مسلم وإن كان الإمام رجل وصبي وامرأة وكانوا في تطوع قاما خلف الإمام والمرأة خلفهما كما [ روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى بهم قال : فصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا وراءه والمرأة خلفنا فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين ثم انصرف ] متفق عليه وإن كانت فرضا جعل الرجل عن يمينه والغلام عن يساره كما فعل عبد الله بن مسعود بعلقمة والأسود ورواه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه فعل ذلك رواه أبو داود وإن وقفا جميعا عن يمينه فلا بأس وإن وقفا وراءه فروى الأثرم أن أحمد توقف في هذه المسألة وقال : ما أدري فذكر له حديث أنس فقال ذاك في التطوع واختلف أصحابنا فيه فقال بعضهم لا يصح لأن الصبي لا يصلح إماما للرجال في الفرض فلم يصافهم كالمرأة وقال ابن عقيل : يصح لأنه يصح أن يصاف الرجل في النفل فصح في الفرض كالمتنفل يقف مع المفترض ولا يشترط في صحة مصافته صحة إمامته بدليل الفاسق والعبد والمسافر في الجمعة والمفترض مع المتنفل ويفارق المرأة لأنه يصح أن يصاف الرجال في التطوع ويؤمهم فيه في رواية بخلاف المرأة وقال الحسن : في ثلاثة أحدهم امرأة يقومون متواترين بعضهم خلف بعض
ولنا حديث أنس وهو قول أكثر أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه إلا الحسن وأتباع السنة أولى وقول الحسن يفضي إلى وقوف الرجل وحده فذا ويرده [ حديث وابصة وعلي بن شيبان وإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى فصف الرجال ثم صف خلفهم الغلمان ] رواه أبو داود
فصل : وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : تبطل صلاة من يليها ومن خلفها دونها وهذا قول أبي حنيفة لأنه منهي عن الوقوف إلى جانبها أشبه ما لو وقف بين يدي الإمام
ولنا أنها لو وقفت في غير صلاة لم تبطل صلاته فكذلك في الصلاة وقد ثبت [ أن عائشة كانت تعترض بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم نائمة وهو يصلي ] وقولهم إنه منهي قلنا هي المنهية عن الوقوف مع الرجال ولم تفسد صلاتها فصلاة من يليها أولى

مسألة وفصول : من أحق بالإمامة ؟
مسألة : قال : وصاحب البيت أحق بالإمامة إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان
وجملته أن الجماعة إذا أقيمت في بيت فصاحبه أولى بالإمامة من غيره وإن كان فيهم من هو أقرأ منه وافقه إذا كان ممن يمكنه إمامتهم وتصح صلاتهم وراءه فعل ذلك ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة وقد ذكرنا حديثهم وبه قال عطاء و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولا يؤمن الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] رواه مسلم وغيره وروى مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم ] رواه أبو داود وإن كان في البيت ذو سلطان فهو أحق من صاحب البيت لأن ولايته على البيت وعلى صاحبه وغيره وقد أم النبي صلى الله عليه و سلم عتبان بن مالك وأنسا في بيوتهما
فصل : وإمام المسجد الراتب أولى من غيره لأنه في معنى صاحب البيت والسلطان وقد روي عن ابن عمر أنه أتى أرضا له وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم فسألوه أن يصلي بهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق ولأنه داخل في قوله : [ من زار قوما فلا يؤمهم ]
فصل : وإذا أذن المستحق من هؤلاء لرجل في الإمامة جاز وصار بمنزلة من أذن في استحقاق التقدم لقول النبي صلى الله عليه و سلم إلا بإذنه ولأن الإمامة حق له فله نقلها إلى من شاء قال أحمد : قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلى بإذنه ] أرجو أن يكون الإذن في الكل ولم ير بأسا إذا أذن له أن يصلي
فصل : وإن دخل السلطان بلدا له فيه خليفة فهو أحق من خليفته لأن ولايته على خليفته وغيره ولو اجتمع العبد في بيت العبد فالسيد أولى لأنه المالك على الحقيقة وولايته على العبد وإن لم يكن سيده معهم فالعبد أولى لأنه صاحب البيت ولذلك لما اجتمع ابن مسعود وحذيفة وأبو ذر في بيت أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد تقدم أبو ذر ليصلي بهم فقالوا له وراءك فالتفت إلى أصحابه فقال أكذلك ؟ قالوا : نعم فتأخر وقدموا أبا سعيد فصلى بهم وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الجدار المؤجرة فالمستأجر أولى لأنه أحق بالسكنى والمنفعة
فصل : والمقيم أولى من المسافر لأنه إذا كان إماما حصلت له الصلاة كلها في جماعة وإن أمه المسافر احتاج إلى إتمام الصلاة منفردا وإن ائتم بالمسافر جاز ويتم الصلاة بعد سلام إمامه فإن أتم المسافر الصلاة جازت صلاتهم وحكي عن أحمد في صلاة المقيمين رواية أخرى أنها لا تجوز لأن الزيادة نفل أم بها مفترضين والصحيح الأول لأن المسافر إذا نوى إتمام الصلاة أو لم ينو القصر لزمه الإتمام فيصير الجميع فرضا

مسألة وفصول : اتصال الصفوف وانفصالها وموقع المأموم من الإمام
مسألة : قال : ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف
وجملته أنه يجوز أن يكون المأموم مساويا للإمام وأعلى منه كالذي على سطح المسجد أو على دكة عالية أو رف فيه روي عن أبي هريرة أنه صلى بصلاة الإمام على سطح المسجد وفعله سالم وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك : يعيد الجمعة إذا صلى فوق سطح المسجد بصلاة الإمام
ولنا أنهما في المسجد ولم يعل الإمام فصح أن يأتم به كالمتساويين ولا يعتبر اتصال الصفوف إذا كانا جميعا في المسجد قال الآمدي : لا خلاف في المذهب أنه إذا كان في أقصى المسجد وليس بينه وبين الإمام ما يمنع الاستطراق والمشاهدة أنه يصح اقتداؤه به وإن لم تتصل الصفوف وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن المسجد بني للجماعة فكل من حصل فيه فقد حصل في محل الجماعة وإن كان المأموم في غير المسجد أو كانا جميعا في غير مسجد صح أن يأتم به ساء كان مساويا للإمام أو أعلى منه كثيرا كان العلو أو قليلا بشرط كون الصفوف متصلة ويشاهد من وراء الإمام وسواء كان المأموم في رحبة الجامع أو دار أو على سطح والإمام على سطح آخر أو كانا في صحراء أو في سفينتين وهذا مذهب الشافعي إلا أنه يشترط أن لا يكون بينهما ما يمنع الاستطراق في أحد القولين
ولنا أن هذا لا تأثير له في المنع من الاقتداء بالإمام ولم يرد فيه نهي ولا هو في معنى ذلك فلم يمنع صحة الائتمام به كالفصل اليسير إذا ثبت هذا فإن معنى اتصال الصفوف أن لا يكون بينهما بعد لم تجر العادة به ولا يمنع إمكان الاقتداء وحكي عن الشافعي أنه حد الاتصال بما دون ثلاث مائة ذراع والتحديدات بابها التوقيف والمرجع فيها إلى النصوص والإجماع ولا نعلم في هذا نصا نرجع إليه ولا إجماعا نعتمد عليه فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالتفرق والإحراز والله أعلم
فصل : فإن كان بين الإمام والمأموم حائل يمنع رؤية الإمام أو من وراءه فقال ابن حامد فيه روايتان إحداهما لا يصح الائتمام به اختاره القاضي لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها : لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب ولأنه لا يمكنه الاقتداء به في الغالب والثانية يصح قال أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس وسئل عن رجل يصلي يوم الجمعة وبينه وبين الإمام سترة قال : إذا لم يقدر على غير ذلك وقال : في المنبر إذا قطع الصف لا يضر ولأنه أمكنه الاقتداء بالإمام فيصح اقتداؤه به من غير مشاهدة كالأعمى ولأن المشاهدة تراد للعلم بحال الإمام والعلم يحصل بسماع التكبير فجرى مجرى الرؤية ولا فرق بين أن يكون المأموم في المسجد أو في غيره واختار القاضي : أ ه يصح إذا كانا في المسجد ولا يصح في غيره لأن المسجد محل الجماعة وفي مظنة القرب ولا يصح في غيره لعدم هذا المعنى ولخبر عائشة ولنا أن المعنى المجوز أو المانع قد استويا فيه فوجب استواؤهما في الحكم ولا بد لمن لا يشاهد أن يسمع التكبير ليمكنه الاقتداء فإن لم يسمع لم يصح إمامته ائتمامه به بحال لأنه لا يمكنه الاقتداء به
فصل : وكل موضع اعتبرنا المشاهدة فإنه يكفيه مشاهدة من وراء الإمام سواء شاهده من باب أمامه أو عن يمينه أو عن يساره أو شاهده طرف الصف الذي وراءه فإن ذلك يمكنه الاقتداء به وإن كانت المشاهدة تحصل في بعض أحوال الصلاة فالظاهر صحة الصلاة لما [ روي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام أناس يصلون بصلاته وأصبحوا يتحدثون بذلك فقام الليلة الثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته ] رواه البخاري والظاهر أنهم إنما كانوا يرونه في حال قيامه
فصل : وإذا كان بينهما طريق أو نهر تجري فيه السفن أو كانا في سفينتين مفترقتين ففيه وجهان أحدهما لا يصح أن يأتم به وهو اختيار أصحابنا ومذهب أبي حنيفة لأن الطريق ليست محلا للصلاة فأشبه ما يمنع الاتصال والثاني يصح وهو الصحيح عندي ومذهب مالك و الشافعي لأنه لا نص في منع ذلك ولا إجماع ولا هو في معنى ذلك لأنه لا يمنع الاقتداء فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت وليس هذا بواحد منها وقولهم أن بينهما ما ليس بمحل للصلاة فأشبه ما يمنع وإن سلمنا ذلك في الطريق فلا يصح في النهر فإنه تصح الصلاة عليه في السفينة وإذا كان جامدا ثم كونه ليس بمحل للصلاة إنما يمنع الصلاة فيه أما المنع من الاقتداء بالإمام فتحكم محض لا يلزم المصير إليه ولا العمل به ولو كانت صلاة جنازة أو جمعة أو عيد لم يؤثر ذلك فيها لأنها تصح في الطريق وقد صلى أنس في موت حميد بن عبد الرحمن بصلاة الإمام وبينهما طريق

مسألة وفصول : ارتفاع مكان الإمام من المأمومين
مسألة : قال : ولا يكون الإمام أعلى من المأموم
المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم يرد وهو قول مالك و الأوزاعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره فإن علي بن المديني قال : سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد وقال : إنما أردت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث وقال الشافعي : أختار للإمام الذي يعلم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع فيراه من خلفه فيقتدون به لما [ روى سهل بن سعد قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قام عليه - يعني المنبر - فكبر وكبر الناس وراءه ثم ركع وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ] متفق عليه
ولنا ما روي [ أن عمار بن ياسر كان بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ بيده فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم قال عمار : فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي ] وعن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال : بلى فذكرت حين مددتني رواهما أبو داود وعن ابن مسعود أن رجلا تقدم يؤم بقوم على مكان فقام على دكان فنهاه ابن مسعود وقال للإمام : استومع أصحابك ولأنه يحتاج أن يقتدي بإمامه فينظر ركوعه وسجوده فإذا كان أعلى منه احتاج أ يرفع بصره إليه ليشاهده وذلك منهي عنه في الصلاة فأما حديث سهل فالظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على الدرجة السفلى لئلا يحتاج إلى عمل كبير في الصعود والنزول فيكون ارتفاعا يسيرا فلا بأس به جمعا بين الأخبار ويحتمل أن يختص ذلك بالنبي صلى الله عليه و سلم لأنه فعل شيئا ونهى عنه فيكون فعله له ونهيه لغيره ولذلك لا يستحب مثله لغير النبي صلى الله عليه و سلم ولأن النبي لم يتم الصلاة على المنبر فإن سجوده وجلوسه إنما كان على الأرض بخلاف ما اختلفنا فيه
فصل : ولا بأس بالعلو اليسير لحديث سهل ولأن النهي معلل بما يفضي إليه من رفع البصر في الصلاة وهذا يخص الكثير فعلى هذا يكون اليسير مثل درجة المنبر ونحوها لما ذكرنا في حديث سهل والله أعلم
فصل : فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد : لا تصح صلاتهم وهو قول الأوزاعي لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه وقال القاضي : لا تبطل وهو قول أصحاب الرأي لأن عمارا أتم صلاته ولو كانت فاسدة لاستئنافها ولأن النهي معلل بما يفضي إليه من رفع البصر في الصلاة وذلك لا يفسدها فسببه أولى
فصل : وإن كان مع الإمام من هو مساو له أو أعلى منه ومن هو أسفل منه اختصت الكراهة بمن هو أسفل منه لأن المعنى وجد فيهم دون غيرهم ويحتمل أن يتناول النهي الإمام لكونه منهيا عن القيام في مكان أعلى من مقامهم فعلى هذا الاحتمال تبطل صلاة الجميع عند من أبطل الصلاة بارتكاب النهي

مسألة وفصل : صلاة من وقف في صف الإمام عن يساره - بطلان صلاة المنفرد خلف الصف
مسألة : قال : ومن صلى خلف الصف وحده أو قام بجنب الإمام عن يساره أعاد الصلاة
وجملته أن من صلى وحده ركعة كاملة لم تصح صلاته وهذا قول النخعي و الحكم و الحسن بن صالح و إسحق و ابن المنذر وأجازه الحسن و مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي لأن
أبا بكر ركع دون الصف فلم يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالإعادة ولأنه موقف للمرأة فكان موقفا للرجل كما لو كان مع جماعة
ولنا ما روى وابصة بن معبد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد ] رواه أبو داود وغيره وقال أحمد : حديث وابصة حسن وقال ابن المنذر : ثبت الحديث أحمد و إسحق وفي لفظ [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن رجل صلى وراء الصفوف وحده قال : يعيد ] رواه تمام في الفوائد و [ عن علي بن شيبان أنه صلى بهم نبي الله صلى الله عليه و سلم فانصرف ورجل فرد خلف الصف فوقف نبي الله صلى الله عليه و سلم حتى انصرف الرجل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : استقبل صلاتك ولا صلاة لفرد خلف الصف ] رواه الأثرم وقال : قلت لـ أبي عبد الله حديث ملازم بن عمرو يعني هذا الحديث في هذا أيضا حسن قال : نعم ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته كما لو وقف أمام الإمام فأما حديث أبي بكر فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد نهاه فقال : [ لا تعد ] والنهي يقتضي الفساد وعذره فيما فعله لجهله بتحريمه وللجهل تأثير في العفو ولا يلزم من كونه موقفا للمرأة كونه موقفا للرجل بدليل اختلافهما في كراهية الوقوف واستحبابه وأما إذا وقف عن يسار الإمام فإن كان عن يمين الإمام أحد صحت صلاته لأن [ ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود فلما فرغوا قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فعل ] رواه أبو داود ولأن وسط الصف موقف للإمام في حق النساء والعراة وإن لم يكن عن يمينه أحد فصالة من وقف عن يساره فاسدة سواء كان واحدا أو جماعة وأكثر أهل العلم يرون للمأموم الواحد أن يقف عن يمين الإمام أنه إن وقف عن يساره خالف السنة وحكي عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا لم يكن معه إلا مأموم واحد جعله عن يساره وقال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي : إن وقف عن يسار الإمام صحت صلاته لأن ابن عباس لما أحرم عن يسار رسول الله صلى الله عليه و سلم أداره عن يمينه ولم تبطل تحريمته ولو لم يكن موقفا لاستئناف التحريمة كأمام الإمام ولأنه موقف فيما إذا كان عن الجانب الآخر آخر فكان موقفا وإن لم يكن آخر كاليمين ولأنه أحد جانبي الإمام فأشبه اليمين
ولنا أن [ ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل فجئت فقمت فوقفت عن يساره فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه ] متفق عليه وروى [ جابر قال : قام النبي صلى الله عليه و سلم يصلي فجئت فوقفت عن يساره فأدارني عن يمينه ] رواه أبو داود وقولهم أنه لم يأمره بابتداء التحريمة قلنا لأن ما فعله قبل الركوع لا يؤثر فإن الإمام يحرم قبل المأمومين ولا يضر انفراده بما قبل إحرامهم وكذلك المأمومون يحرم أحدق قبل الباقين فلا يضر ولا يلزم من العفو عن ذلك عن ركعة كاملة وقولهم أنه موقف إذا كان عن يمين الإمام آخر قلنا كونه موقفا في صورة لا يلزم منه كونه موقفا في أخرى كما خلف الصف فإنه موقف لاثنين ولا يكون موقفا لواحد فإن منعوا هذا أثبتناه بالنص
فصل : فإن وقف عن يسار إمامه وخلف الإمام صف احتمل أن تصح صلاته لأن النبي صلى الله عليه و سلم جلس عن يسار أبي بكر وقد روي أن أبا بكر كان الإمام ولأن مع الإمام من تنعقد صلاته به فصح الوقوف عن يساره كما لو كان معه عن يمينه آخر واحتمل أن لا تصح لأنه ليس بموقف إذا لم يكن صف فلم يكن موقفا مع الصف كأمام الإمام وفارق ما إذا كان عن يمينه آخر لأنه معه في الصف فكان صفا واحدا كما لو كان وقف معه خلف الصف

فصلان : بطلان صلاة من وقف قدام الإمام وموقف الواحد أو الاثنين من الإمام
فصل : السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام فإن وقفوا قدامه لم تصح وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي : وقال مالك و إسحق : تصح لأن ذلك لا يمنع الاقتداء به فأشبه من خلفه
ولنا قوله عليه السلام : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به ] ولأنه يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات إلى ورائه ولأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا هو في معنى المنقول فلم يصح كما لو صلى في بيته بصلاة الإمام ويفارق من خلف الإمام فإنه لا يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات إلى ورائه
فصل : وإذا كان المأموم واحدا ذكرا فالسنة أن يقف عن يمين الإمام رجلا كان أو غلاما لحديث ابن عباس وأنس وروى [ جابر بن عبد الله قال : سرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة فقام يصلي فتوضأت ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره فأخذنا بيده جميعا حتى أقامنا خلفه ] رواه مسلم و أبو داود فإن كانوا ثلاثة تقدم الإمام ووقف المأمومان خلفه وهذا قول عمر و علي و جابر بن زيد و الحسن و عطاء و الشافعي وأصحاب الرأي وكان ابن مسعود يرى أن يقفوا جميعا صفا
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أخرج جبارا وجابرا فجعلهما خلفه ولما صلى بأنس واليتيم جعلهما خلفه وحديث ابن مسعود يدل على جواز ذلك وحديث جابر وجبار يدل على الفضل لأنه أخرهما إلى خلفه ولا ينقلهما إلا إلى الأكمل فإن كان أحد المأمومين صبيا وكانت الصلاة تطوعا جعلهما خلفه لخبر أنس وإن كانت فرضا جعل الرجل عن يمينه والغلام عن يساره كما جاء في حديث ابن مسعود وإن جعلهما جميعا عن يمينه جاز وإن وقفهما خلفه فقال بعض أصحابنا : لا تصح لأنه لا يؤمه فلم يصافه كالمرأة ويحتمل أن تصح لأنه بمنزلة المتنفل والمتنفل يصح أن يصاف المفترض كذا ها هنا

فصل : موقف المرأة في صلاة الجماعة
فصل : وإن أم امرأة وقفت خلفه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أخروهن من حيث أخرهن الله ] ولأن أم أنس وقفت خلفهما وحدها فإن كان معهما رجل وقف عن يمينه ووقفت المرأة خلفهما وإن كان معهم رجلان وقفا خلفه ووقفت المرأة خلفهما وإن كان أحدهما غلاما في تطوع وقف الرجل والغلام وراءه والمرأة خلفهما لحديث ابن أنس وإن كانت فريضة فقد ذكرنا ذلك وتقف المرأة خلفهما وإن وقفت معهم في الصف في هذه المواضع صح ولم تبطل صلاتها ولا صلاتهم على ما ذكرنا فيما تقدم وإن وقف الرجل الواحد والمرأة خلف الإمام فقال ابن حامد : لا تصح لأنها لا تؤمه فلا تكون معه صفا وقال ابن عقيل : تصح على أصح الوجهين لأنه وقف معه مفترض صلاته صحيحة فأشبه ما لو وقف معه الرجل وليس من الشرط أن يكون ممن تصح إمامته بدليل القارئ مع الأمي والفاسق والمتنفل مع المفترض

فصل : صحة صلاة المنفرد خلف الصف إذا زال انفراده قبل رفع الإمام من الركوع
فصل : إذا كان المأموم واحدا فكبر عن يسار الإمام أداره الإمام عن يمينه ولم تبطل تحريمته كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم بابن عباس وجابر وإن كبر فذا خلف الإمام ثم تقدم عن يمينه أو جاء آخر فوقف معه أو تقدم إلى صف بين يديه أو كانا اثنين فكبر أحدهما وتوسوس الآخر ثم كبر قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو كبر واحد عن يميمنه فأحس بآخر فتأخر معه قبل أن يحرم الثاني ثم أحرم معه أو أحرم عن يساره فجاء آخر فوقف عن يمينه قبل رفع الإمام رأسه من الركوع صحت صلاتهم وقد نص أحمد في رواية الأثرم في الرجلين يقومان خلف الإمام ليس خلفه غيرهما فإن كبر أحدهما قبل صاحبه خاف أن يدخل في الصلاة خلف الصف فقال : ليس هذا من ذاك ذاك في الصلاة بكمالها أو صلى ركعة كاملة وما أشبه هذا فأما هذا فأرجو أن لا يكون به بأس ولو أحرم رجل خلف الصف ثم خرج من الصف رجل فوقف معه صح لما ذكرنا

فصل : ما يصنع من ائتم به واحد فجاء مؤتم آخر !
فصل : وإن كبر المأموم عن يمين الإمام ثم جاء آخر فكبر عن يساره أخرجهما الإمام إلى ورائه كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم بجابر وجبار ولا يتقدم الإمام إلا أن يكون وراءه ضيق وإن تقدم جاز وإن كبر الثاني مع الأول عن اليمين وخرجا جاز وإن دخل الثالث وهما في التشهد كبر وجلس عن يمين صاحبه أ عن يساره ولا يتأخران في التشهد فإن في ذلك مشقة

فصل : ما يصنع المؤتم إذا بقي في الصف وحده ؟ !
فصل : فإن أحرم اثنان وراء الإمام فخرج أحدهما لعذر أو لغير عذر دخل الآخر في الصف أو نبه رجلا فخرج معه أو دخل فوقف عن يمين الإمام فإن لم يمكنه شيء من ذلك نوى الانفراد وأتم منفردا لأنه عذر حدث له فأشبه ما لو سبق إمامه الحدث

فصل : حكم من جاء الصلاة فلم يجد لنفسه في الصفوف مكانا ؟ !
فصل : إذا دخل المأموم فوجد في الصف فرجة دخل فيها فإن لم يجد وقف عن يمين الإمام ولا يستحب أن يجذب رجلا فيقوم معه فإن لم يمكنه ذلك نبه رجلا فخرج فوقف معه وبهذا قال عطاء و النخعي قالا : يجذب رجلا فيقوم معه وكره ذلك مالك و الأوزاعي واستقبحه أحمد و إسحق قال ابن عقيل : جوز أصحابنا جذب رجل يقوم معه صفا واختار هو أن لا يفعل لما فيه من التصرف فيه بغير إذنه والصحيح جواز ذلك لأن الحالة داعية إليه فجاز كالسجود على ظهره أو قدمه حال الزحام وليس هذا تصفا فيه إنما هو تنبيه له ليخرج معه فجرى مجرى مسألته أن يصلي معه وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لينوا في أيدي إخوانكم ] يريد ذلك فإن امتنع من الخروج معه لم يركهه وصلى وحده

فصلان : من يعتد به في المصافة
فصل : قال أحمد : يصلي الإمام برجل قائم وقاعد ويتقدمهما وقال : إذا أم برجلين أحدهما غير طاهر ائتم الطاهر معه وهذا يحتمل أنه أراد إذا علم المحدث بحدثه فخرج ائتم الآخر إن كان عن يمين الإمام وإن لم يكن عن يمينه صار عن يمينه كما ذكرنا فأما إن كانا خلفه وعلم المحدث فإنما الصلاة لم تصح وإن لم يعلم المحدث بحدثه حتى تمت الصلاة صحت لأنه لو كان إماما صح الائتمام به فلأن تصح مصافته أولى
فصل : ومن وقف معه كافر أو من لا تصح صلاته غير من ذكرنا لم تصح مصافته لأن وجوده أو عدمه واحد وإن وقف معه فاسق أو متنفل صارا صفا لأنهما رجلان صلاتهما صحيحة وكذلك لو وقف قارئ مع أمي أو من به سلس البول مع صحيح أو متيمم مع متوضئ كانا صفا لما ذكرنا فإن وقف معه خنثى مشكل لم يكن صفا معه إلا من أجاز وقوف المرأة مع الرجل لأنه يحتمل أن يكون امرأة

فصل : موقف الخنثى من الصفوف
فصل : ولو كان مع الإمام خنثى مشكل وحده فالصحيح أن يقفه عن يمينه لأنه إن كان رجلا فقد وقف في موقفه وإن كان امرأة لم تبلط صلاتها بوقوفها مع الإمام كما لا تبطل بوقوفها مع الرجال ولا يجوز أن يقف وحده لأنه يحتمل أن يكون رجلا فإن كان معهما رجل وقف الرجل عن يمين الإمام والخنثى عن يساره أو عن يمين الرجل ولا يقف خلفه لأنه يحتمل أن يكون امرأة إلا عند من أجاز مصافة المرأة فإن كان معهم رجل آخر وقف الثلاثة خلفه صفا لما ذكرنا فن كان مع الخنثى خنثى آخر فقال أصحابنا : يقف الخنثيان صفا خلف الرجلين لأنه يحتمل أن يكونا امرأتين ويحتمل أن يقفا مع الرجلين لأنه يحتمل أن يكون أحدهما وحده رجلا فلا تصح صلاته وإن كان معهم نساء وقفن خلف الخناثى قال أبو الخطاب : إذا اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء و [ روى أبو مالك الأشعري عن أبيه أنه قال : ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : أقام الصلاة فصف الرجال وصف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم ثم قال هكذا صلاته قال عبد الأعلى : لا أحسبه إلا قال : صلاة أمتي ] رواه أبو داود

فصول : تقدم أهل الفضل وراء الإمام وإتمام الصف والصف بين السواري
فصل : السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن ويلي الإمام أكملهم وأفضلهم قال أحمد : يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن وتؤخر الصبيان والغلمان ولا يلون الإمام لما روى أبو مسعود الأنصاري قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ليليني منك أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] رواه مسلم وعن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه و [ قال أبو سعيد إن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى في أصحابه تأخرا فقال : تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز و جل ] رواه مسلم و أبو داود وروى أحمد في مسنده عن [ قيس بن عباد قال : أتيت المدينة للقاء أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فأقيمت الصلاة وخرج عمر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقمت في الصف الأول فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري فنحاني وقام في مكاني فما عقلت صلاتي فلما صلى قال : أي بني لا يسؤك الله فإني لم آتك الذي أتيت بجهالة ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا : كونوا في الصف الذي يليني وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك وكان الرجل أبي بن كعب ]
فصل : وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ] رواه مسلم و أبو داود وعن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الصف الأول على مثل صف الملائكة ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه ] رواه أحمد في المسند وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أتموا الصف المقدم فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر ] وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ] رواهما أبو داود
فصل : ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وسطوا الإمام وسدوا الخلل ] رواه أبو داود ويكره أن يدخل في طاق القبلة إلا أن يكون المسجد ضيقا وكرهه ابن مسعود وعلقمة و الحسن و إبراهيم وفعله سعيد بن جبير و أبو عبد الرحمن السلمي و قيس بن أبي حازم
ولنا أنه يستتر به عن بعض المأمومين فكره كما لو جعل بينه وبينهم حجابا
فصل : ولا يكره للإمام أن يقف بين السواري ويكره للمأمومين لأنها تقطع صفوفهم وكرهه ابن مسعود و النخعي وروي عن حذيفة وابن عباس ورخص فيه ابن سيرين و مالك وأصحاب الرأي و ابن المنذر لأنه لا دليل على المنع منه
ولنا ما روي عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : كنا ننهي أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ونطرد عنها طردا رواه ابن ماجه ولأنها تقطع الصف فإن كان الصف صغيرا قدر ما بين الساريتين لم يكره لأنه لا ينقطع بها

مسألة وفصول : الخلاف في متابعة الغمام إذا صلى قاعدا وحكم قيام المأمومين خلف الإمام الجالس وإذا ابتدأ بهم الصلاة قائما
مسألة : قال : وإذا صلى إمام الحي جالسا صلى من وراءه جلوسا
المستحب للإمام إذا مرض وعجز عن القيام أن يستخلف لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته فيخرج من الخلاف ولأن صلاة القائم أكمل فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة فإن قيل قد صلى النبي صلى الله عليه و سلم قاعدا بأصحابه ولم يستخلف قلنا صلى قاعدا ليبين الجواز واستخلف مرة أخرى ولأن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم قاعدا أفضل من صلاة غيره قائما فإن صلى بهم قاعدا جاز ويصلون من ورائه جلوسا فعل ذلك أربعة من الصحابة أسيد بن خضر وجابر وقيس بن فهد وأبو هريرة وبه قال الأوزاعي و حمامد بن زيد و إسحق و ابن المنذر وقال مالك في إحدى روايتيه : لا تصح صلاة القادر على القيام خلف القاعد وهو قول محمد بن الحسن لأن الشعبي روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يؤمن أحد بعدي جالسا ] أخرجه الدارقطني ولأن القيام ركن فلا يصح ائتمام القادر عليه بالعاجز عنه كسائر الأركان وقال الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي يصلون خلفه قياما لما روت عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استخلف أبا بكر ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم وجد في نفسه خفة فخرج بين رجلين فأجلساه إلى جنب أبي بكر فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه و سلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه و سلم قاعد ] متفق عليه وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنه ركن قدر عليه فلم يجز له تركه كسائر الأركان
ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ] متفق عليه وعن [ عائشة رضي الله عنها قالت : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم : ( أن اجلسوا ) فلما انصرف قال : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ) ] وروى أنس نحوه أخرجهما البخاري و مسلم وروى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله أخرجه مسلم ورواه أسيد بن حضير وعمل به وقال ابن عبد البر : روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم من طرق متواترة من حديث أنس وجابر وأبي هريرة وابن عمر وعائشة كلها بأسانيد صحاح ولأنها حالة قعود الإمام فكان على المأمومين متابعته كحال التشهد فأما حديث الشعبي فمرسل يرويه جابر الجعفي وهو متروك وقد فعله أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بعده فأما حديث الآخرين فقال أحمد : ليس في هذا حجة لأن أبا بكر كان ابتدأ الصلاة فإذا ابتدأ الصلاة قائما صلوا قياما فأشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ الصلاة جالسا والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتل فجلس ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ ثم يحتمل أن أبا بكر كان الإمام قال ابن المنذر في بعض الأخبار : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بالناس وفي بعضها أن أبا بكر كان الإمام وقالت عائشة : صلى النبي صلى الله عليه و سلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعدا وقال أنس : صلى النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه خلف أبي بكر قاعدا في ثوب متوشحا به قال الترمذي : كلا الحديثين حسن صحيح ولا يعرف للنبي صلى الله عليه و سلم خلف أبي بكر صلاة إلا في هذا الحديث و [ روى مالك عن ربيعة الحديث قال : وكان أبو بكر الإمام وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال : ( ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته ) ] قال مالك : العمل عندنا على حديث ربيعة هذا وهو أحب إلي فإن قيل لو كان أبو بكر الإمام لكان عن يسار رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا يحتمل أنه فعل ذلك لأن وراءه صفا
فصل : فإن صلوا وراءه قياما ففيه وجهان : أحدهما لا تصح صلاتهم أومأ إليه أحمد فإنه قال : إن صلى الإمام جالسا والذين خلفه قياما لم يقتدوا بالإمام إنما أتباعهم له إذا صلى جالسا صلوا جلوسا وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمرهم بالجلوس ونهاهم عن القيام فقال في حديث جابر : [ إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا وإذا صلى قائما فصلوا قياما ولا تقوموا والإمام جالس كما يفعل أهل فارس بعظمائها ] فقعدنا والأمر يقتضي الوجوب والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأنه ترك اتباع إمامه مع قدرته عليه أشبه تارك القيام في حال قيام إمامه والثاني تصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما صلى وراءه قوم قياما لم يأمرهم بالإعادة فعلى هذا يحمل الأمر على الاستحباب ولأنه يتكلف القيام في موضع يجوز له القعود أشبه المريض إذا تكلف القيام ويحتمل أن تصح صلاة الجاهل بوجوب القعود دون العالم بذلك كقولنا في الذي ركع دون الصف فأما من وجب عليه القيام فقعد فإن صلاته لا تصح لأنه ترك ركنا يقدر على الإتيان به
فصل : ولا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين : أحدهما أن يكون إمام الحي نص عليه أحمد فقال : ذلك لإمام الحي لأنه لا حاجة بهم إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة والنبي صلى الله عليه و سلم حيث فعل ذلك كان هو الإمام الراتب والثاني أن يكون مرضه يرجى زواله لأن اتخاذ الزمن ومن لا يرجى قدرته على القيام إماما راتبا يفضي إلى تركهم القيام على الدوام ولا حاجة إليه ولأن الأصل في هذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم والنبي صلى الله عليه و سلم كان يرجى برؤه
مسألة : قال : فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياما
إنما كان كذلك لأن أبا بكر حيث ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم جاء النبي صلى الله عليه و سلم فأتم الصلاة بهم جالسا أتموا قياما ولم يجلسوا ولأن القيام هو الأصل فمن بدأ به في الصلة لزمه في جميعها إذا قدر عليه كالتنازع في صلاة المقيم يلزمه إتمامها وإن حدث مبيح القصر في أثنائها

فصل : استخلاف الإمام غيره بعذر
فصل : فإن استخلف بعض الأئمة في زماننا ثم زال عذره فحضر فهل يجوز أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه و سلم مع أبي بكر ؟ فيه روايتان إحداهما ليس له ذلك قال أحمد في رواية أبي داود : ذلك خاص للنبي صلى الله عليه و سلم دون غيره لأن هذا أمر يخالف القياس فإن انتقال الإمام مأموما وانتقال المأمومين من إمام إلى آخر لا يجوز إلا لعذر يحوج إليه وليس في تقديم الإمام الراتب ما يحوج إلى هذا أما النبي صلى الله عليه و سلم فكانت له من الفضيلة على غيره وعظم التقدم عليه ما ليس لغيره ولهذا قال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم والثانية يجوز ذلك لغيره قال أحمد في رواية أبي الحارث : من فعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر ويقعد إلى جنب الإمام يبتدئ القراءة من حيث بلغ الإمام ويصلي للناس قياما وذلك لأن الأصل أن ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم كان جائزا لأمته ما لم يقم دليل على اختصاصه به وفيه رواية ثالثة أن ذلك لا يجوز إلا للخليفة دون بقية الأئمة قال في رواية المروذي ليس هذا لأحد إلا للخليفة وذلك لأن رتبة الخلافة تفضل رتبة سائر الأئمة فلا يلحق بها غيرها وكان ذلك للخليفة لأن خليفة النبي صلى الله عليه و سلم يقوم مقامه

فصل : ويجوز للعاجز عن القيام أن يؤم مثله
فصل : ويجوز للعاجز عن القيام أن يؤم مثله لأنه إذا أم القادرين على القيام فمثله أولى ولا يشترط في اقتدائهم به أن يكون إماما راتبا ولا مرجوا زوال مرضه لأنه ليس في إمامته لهم ترك ركن مقدور عليه بخلاف إمامته للقادرين على القيام

فصل : ولا يجوز لتارك ركن من الأفعال إمامة أحد
فصل : ولا يجوز لتارك ركن من الأفعال إمامة أحد كالمضطجع والعاجز عن الركوع والسجود وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي : يجوز لأنه فعل أجازه المرض فلم يغير حكم الائتمام كالقاعد بالقيام
ولنا أنه أخل بركن لا يسقط في النافلة فلم يجز للقادر عليه الائتمام به كالقارئ بالأمي وحكم القيام حق بدليل سقوطه في النافلة وعن المقتدين بالعاجز ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر المصلين خلف الجالس بالجلوس ولا خلاف في أن المصلي خلف المضطجع لا يضطجع فأما إن أم مثله فقياس المذهب صحته لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بأصحابه في المطر بالإيماء والعراة يصلون جماعة بالإيماء وكذلك حال المسايفة

فصول : ائتمام المتوضئ بالمتيمم والمفترض بالمتنفل والمتنفل بالمفترض
فصل : ويصح ائتمام المتوضئ بالمتيمم لا أعلم فيه خلافا لأن [ عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيمما وبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينكره ] وأم ابن عباس أصحابه متيمما وفيهم عمار بن ياسر في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينكروه ولأنه متطهر طهارة صحيحة فأشبه المتوضئ ولا يصح ائتمام الصحيح بمن به سلس البول ولا غير المستحاضة بها لأنهما يصليان مع خروج الحدث من غير طهارة له بخلاف المتيمم فأما من كانت عليه نجاسة فإن كانت على بدنه فتيمم لها جاز للطاهر الائتمام به عند القاضي لأنه كالمتيمم للحدث وعلى قياس قول أبي الخطاب لا يجوز الائتمام به لأنه أوجب عليه الإعادة وإن كانت على ثوبه لم يصح الائتمام به لأنه تارك لشرط ولا يجوز ائتمام المتوضئ ولا المتيمم بعادم الماء والتراب ولا اللابس بالعاري ولا القادر على الاستقبال بالعاجز عنه لأنه تارك لشرط يقدر عليه المأموم فأشبه المعافى بمن به سلس البول ويصح ائتمام كل واحد من هؤلاء بمثله لأن العراة يصلون جماعة وقد سبق هذا
فصل : وفي صلاة المفترض خلف المتنفل روايتان إحداهما لا تصح نص عليها أحمد في رواية أبي الحارث و حنبل واختارها أكثر أصحابنا هذا قول الزهري و مالك وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما جع الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ] متفق عليه ولأن صلاة المأموم لا تتأدى بنية الإمام أشبه صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر والثانية يجوز نقلها إسماعيل بن سعد ونقل أبو داود قال : سمعت أحمد سئل عن رجل صلى العصر ثم جاء فنسي فتقدم يصلي بقوم بقوم تلك الصلاة ثم ذكر لما أن صلى ركعة فمضى في صلاته قال : لا بأس وهذا قول عطاء و طاوس و أبي رجاء و الأوزاعي و الشافعي و سليمان بن حرب و أبي ثور و ابن المنذر و أبي اسحق الجوزجاني وهي أصح لما روى جابر بن عبد الله [ أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة ] متفق عليه وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى بطائفة من أصحابه في الخوف ركعتين ثم سلم ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم ] رواه أبو داود و الأثرم والثانية منهما تقع نافلة وقد أم بها مفترضين
وروي عن أبي خلدة قال : أتينا أبا رجاء لنصلي معه الأولى فوجدناه قد صلى فقلنا جئناك لنصلي معك فقال : قد صلينا ولكن لا أخيبكم فقام فصلى وصلينا معه رواه الأثرم ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال فجاز ائتمام المصلي في إحداهما بالمصلي في الأخرى كالمتنفل خلف المفترض فأما حديثهم فالمراد به لا تختلفوا عليه في الأفعال بدليل قوله : [ فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ] ولهذا يصح ائتمام المتنفل بالمفترض مع اختلاف نيتهما وقياسهم ينتقض بالمسبوق في الجمعة يدرك أق من ركعة ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة
فصل : ولا يختلف المذهب في صحة صلاة المتنفل وراء المفترض ولا نعلم بين أهل العلم فيه اختلافا وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ] والأحاديث التي في إعادة الجماعة ولأن صلاة المأموم تتأدى بنية الإمام بدليل ما لو نوى مكتوبة فبان قبل وقتها

فصول : اختلاف نية الإمام عن المأموم
فصل : فإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر ففيه روايتان نقل إسماعيل بن سعد جوازه ونقل غيره المنع منه ونقل إسماعيل بن سعد قال : قلت لـ أحمد فما ترى إن صلى في رمضان خلف إمام يصلي بهم التراويح قال ويجوز ذلك من المكتوبة وقال : في رواية المروذي لا يعجبنا أن يصلى مع قوم التروايح ويأتم بها للعتمة وهذه فرع على ائتمام المفترض بالمتنفل وقد مضى الكلام فيها
فصل : فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى في الأفعال كصلاة الكسوف أو الجمعة خلف من يصلي غيرهما وصلاة غيرهما وراء من يصليهما لم تصح رواية واحدة لأنه يفضي إلى مخالفة إمامه في الأفعال وهو منهي عنه
فصل : ومن صلى الفجر ثم شك هل طلع الفجر أولا أو شك في صلاة صلاها هل فعلها في وقتها أو قبله لزمته إعادتها وله أو يؤم في الإعادة من لم يصل وقال أصحابنا : يخرج على الروايتين في إمامة المتنفل مفترضا
ولنا أن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ووجوب فعلها فيصح أن يؤم فيها مفترضا كما لو شك هل صلى أم لا ولو فاتت المأموم ركعة فصلى الإمام خمسا ساهيا فقال ابن عقيل لا يعتد للمأموم بالخامسة بأنها سهو وغلط وقال القاضي : هذه الركعة نافلة له وفرض للمأموم فيخرج فيها الروايتان وقد سئل أحمد عن هذه المسائل فتوقف فيها والأولى أن يحتسب له بها لأنه ولو لم يحتسب له بها للزمه أن يصلي خمسا مع علمه بذلك ولأن الخامسة واجبة على الإمام عند من يوجب عليه البناء على اليقين وعند استواء الأمرين عنده ثم إن كانت نفلا فالصحيح صحة الائتمام به وقوله : أنه غلط قلنا لا يخرجه الغلط عن أن يكون نفلا مثابا فيه فلذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ كانت الركعة والسجدتان نافلة له ] وإن صلى بقوم الظهر يظنها العصر فقال أحمد : يعيد ويعيدون وهذا على الرواية التي منع فيها ائتمام المفترض بالمتنفل فإن ذكر الإمام وهو في الصلاة فأتمها عصرا كانت له نافلة وإن قلب نيته إلى الظهر بطلت صلاته لما ذكرناه متقدما وقال ابن حامد : يتمها والفرض باق في ذمته

فصلان : إمامة الصبي الفرض النفل
فصل : ولا يصح ائتمام البالغ بالصبي في الفرض نص عليه أحمد وهو قول ابن مسعود وابن عباس وبه قال عطاء و مجاهد و الشعبي و مالك و الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة وأجازه الحسن و الشافعي و إسحق و ابن المنذر ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على إمامة المتنفل للمفترض ووجه ذلك عموم قوله : [ يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله تعالى ] وهذا داخل في عمومه و [ روى عمرو بن سلمة الجرمي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لقومه : ( يؤمكم أقرؤكم ) قال فكنت أؤمهم وأنا بن سبع سنين أو ثماني سنين ] رواه أبو داود وغيره ولأنه يؤذن للرجال فجاز أن يؤمهم كالبالغ
ولنا قول ابن مسعود وابن عباس ولأن الإمامة حال كمال والصبي ليس من أهل الكمال فلا يؤم الرجال كالمرأة ولأنه لا يؤمن من الصبي الإخلال بشرط من شرائط الصلاة أو القراءة حال الإسرار
فأما حديث عمرو بن سلمة الجرمي فقال الخطابي : كان أحمد يضعف أمر عمرو بن سلمة وقال مرة دعه ليس بشيء بين وقال أبو داود قيل لـ أحمد : حديث عمرو بن سلمة قال : لا أدري أي شيء هذا ؟ ولعله إنما توقف عنه لأنه لم يتحقق بلوغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإنه كان بالبادية في حي من العرب بعيد من المدينة وقوى هذا الاحتمال قوله في الحديث وكنت إذا سجدت خرجت أستي وهذا غير سائغ
فصل : فأما إمامته في النفل ففيها روايتان إحداهما لا تصح لما ذكرنا في الفرض والثانية تصح لأنه متنفل يؤم متنفلين ولأن النافلة يدخلها التخفيف ولذلك تنعقد الجماعة به فيها إذا كان مأموما

فصول : من تكره إمامتهم ؟
فصل : يكره أن يؤم قوما أكثرهم له كارهون لما روى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط إمام قوم وهم له كارهون ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة لا تقبل منهم صلاة من تقدم قوما هم له كارهون ورجل يأتي الصلاة دبارا ] والدبار أن يأتي بعد أن يفوته الوقت [ ورجل اعتبد محررا ] رواه أبو داود وقال علي لرجل أم قوما وهم له كارهون إنك لخروط قال أحمد رحمه الله : إذا كرهه واحد أو اثنان أو ثلاثة فلا بأس حتى يكرهه أكثر القوم وإن كان ذا دين وسنة فكرهه القوم لذلك لم تكره إمامتهم قال منصور : أما إنا سألنا أمر الإمامة فقيل لنا إنما عني بهذا الظلمة فأما من أقام السنة فإنما الإثم على من كرهه
فصل : ولا تكره إمامة الأعرابي إذا كان يصلح لها نص عليه وهذا قول عطاء و الثوري و الشافعي و إسحق وأصحاب الرأي وكره أبو ملجز إمامته وقال مالك : لا يؤمهم وإن كان أقرأهم لقول الله تعالى : { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله }
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى ] ولأنه مكلف من أهل الإمامة أشبه المهاجر والمهاجر أولى منه لأنه يقدم على المسبوق بالهجرة فمن لا هجرة له أولى قال أبو الخطاب : والحضري أولى من البدوي لأنه مختلف في إمامته ولأن الغالب جفاؤهم وقلة معرفتهم بحدود الله
فصل : ولا تكره إمامة ولد الزنا إذا سلم دينه قال عطاء : له أن يؤم إذا كان مرضيا وبه قال سليمان بن موسى و الحسن و النخعي و الزهري و عمرو بن دينار و إسحق وقال أصحاب الرأي : لا تجزئ الصلاة خلفه وكره مالك أن يتخذ إماما راتبا وكره الشافعي إمامته لأن الإمامة موضع فضيلة فكره تقديمه فيها كالعبد
ولنا قوله : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ] وقالت عائشة ليس عليه من وزر أبويه شيء وقد قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } والعبد لا تكره إمامته وإنما الحر أولى منه ثم إن العبد ناقص في أحكامه لا يلي النكاح ولا المال ولا تقبل شهادته في بعض الأشياء بخلاف هذا
فصل : ولا تكره إمامة الجندي والخصي إذا سلم دينهما لما ذكرنا في العبد ولأنه عدل من أهل الإمامة أشبه غيره

فصل : من شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام أنه إمام والمأموم أنه مأموم
فصل : من شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما فينوي الإمام أنه إمام والمأموم أنه مأموم فإن صلى رجلان ينوي كل واحد منهما أنه إما صاحبه أو مأموم له فصلاتهما فاسدة نص عليهما لأنه ائتم بمن ليس بإمام في الصورة الأولى وأم من لم يأتم به في الثانية ولو رأى رجلين يصلينا فنوى الائتمام بالمأموم لم يصح لأنه ائتم بمن لن ينو إمامته وإن نوى الائتمام بأحدهما لا يعينه لم يصح حتى يعين الإمام لأن تعيينه شرط وإن نوى الائتمام بهما معالم يصح لأنه نوى الائتمام بمن ليس بإمام ولأنه نوى الائتمام باثنين ولا يجوز الائتمام بأكثر من واحد ولو نوى الائتمام بإمامين لم يجز لأنه لا يمكن اتباعهما معا

فصل : نقل النية من الانفراد إلى الإمامة
فصل : ولو أحرم منفردا ثم جاء آخر فصلى معه فنوى إمامته صح في النفل نص عليه أحمد واحتج بحديث ابن عباس وهو أن [ ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه و سلم متطوعا من الليل فقام إلى القربة فتوضأ فقام فصلى فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن ] متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم فأما في الفريضة فإن كان ينتظر أحدا كإمام المسجد يحرم وحده وينتظر من يأتي فيصلي معه فيجوز ذلك أيضا نص عليه أحمد لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أحرم وحده ثم جاء جابر وجبارة فأحرما معه فصلى بهما ولم ينكر فعلهما ] والظاهر أنها كانت صلاة مفروضة لأنهم كانوا مسافرين وإن لم يكن كذلك فقد روي عن أحمد أنه لا يصح هذا قول الثوري وأصحاب الرأي في الفرض والنفل جميعا لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة فلم يصح كما لو ائتم بمأموم وروي عن أحمد أنه قال : في النفس منها شيء مع أن حديث ابن عباس يقويه وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه قد ثبت في النفل بحديث ابن عباس وحديث عائشة [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام ناس يصلون بصلاته ] وقد ذكرناه والأصل مساواة الفرض للنفل في النية وقوى ذلك حديث جابر وجبار في الفرض ولأن الحاجة تدعو إلى نقل النية إلى الإمامة فصلى كحالة الاستخلاف وبيان الحاجة أن المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا وراءه فإن قطع الصلاة وأخبر بحاله قبح وكان مرتكبا للنهي بقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } وإن أتم الصلاة بهم ثم أخبرهم بفساد صلاتهم كان أقبح وأشق ولأن الانفراد أحد حالتي عدم الإمامة في الصلاة فجاز الانتقال منها إلى الإمامة كما لو كان مأموما وقياسهم ينتقض بحالة الاستخلاف

فصل : نقل النية من الانفراد إلى الائتمام
فصل : وإن أحرم منفردا ثم نوى جعل نفسه مأموما بأن يحضر جماعة فينوي الدخول معهم في صلاتهم ففيه روايتان : إحداهما هو جائز لأنه نقل نفسه إلى جعله مأموما من غير حاجة فلم يجز كالإمام وفارق نقله إلى الإمامة لأن الحاجة داعية إليه فعلى هذا يقطع صلاته ويستأنف الصلاة معهم قال أحمد : في رجل دخل المسجد فصلى ركعتين أو ثلاثا ينوي الظهر ثم جاء المؤذن فأقام الصلاة سلم من هذه وتصير له تطوعا ويدخل معهم قيل له فإن دخل في الصلاة مع القوم واحتسب به قال : لا يجزئه حتى ينوي بها الصلاة مع الإمام في ابتداء الفرض

فصل : نقل النية من الائتمام إلى الانفراد
فصل : وإن أحرم مأموما ثم نوى مفارقة الإمام وإتمامها منفردا لعذر جاز لما روى جابر قال : [ كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم فأخر النبي صلى الله عليه و سلم صلاة العشاء فصلى معه ثم رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلى وحده فقيل له : نافقت يا فلان قال : ما نافقت ولكن لآتين رسول ا لله صلى الله عليه و سلم فأخبره فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر له فقال : ( أفتان أنت يا معاذ ؟ أفتان أنت يا معاذ ؟ مرتين - اقرأ سورة كذا وسورة كذا ) قال : ( وسورة ذات البروج والليل إذا يغشى والسماء والطارق وهل أتاك حديث الغاشية ) ] متفق عليه ولم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم الرجل بالإعادة ولا أنكر عليه فعله والأعذار التي يخرج لأجلها مثل المشقة بتطويل الإمام أو المرض أو خشية غلبة النعاس أو شيء يفسد صلاته أو خوف فوات مال أو تلفه أو فوت رفقته أو من يخرج من الصف لا يجد من يقف معه وأشباه هذا وإن فعل ذلك لغير عذر ففيه روايتان : إحداهما تفسد صلاته لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر أشبه ما لو تركها من غير نية المفارقة والثانية تصح لأنه لو نوى المنفرد كونه مأموما لصح في رواية فنية الانفراد أولى فإن المأموم قد يصير منفردا بغير نية وهو المسبوق إذا سلم إمامه وغيره لا يصير مأموما بغير نية بحال

فصل : نقل النية من الائتمام إلى الإمامة والائتمام بإمام آخر
فصل : وإن أحرم مأموما ثم صار إماما أو نقل نفسه إلى الائتمام بإمام آخر جاز في موضع واحد وهو إذا سبق الإمام الحدث فاستخلف من يتم بهم الصلاة وقد ذكرنا هذا ولا يصح في غيره إلا أن يدرك اثنان بعض الصلاة مع الإمام فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقية الصلاة ففيه وجهان وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه أو مأموم له فسدت صلاتهما لما ذكرناه من قبل وإن نوى الإمام الائتمام بغيره لم يصح إلا في موضع واحد وهو إذا استخلف الإمام من يصلي ثم جاء في أثناء الصلاة فتقدم فصار إماما وثنى على صلاة خليفته ففي ذلك ثلاث روايات قد ذكرناها

مسألة وفصل : حكم المسبوق إذا ركع دون الصف
مسألة : قال : ومن أدرك الإمام راكعا فركع دون الصف ثم مشى حتى دخل في الصف وهو لا يعلم بـ [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكره ( زادك الله حرصا ولا تعد ) ] قيل له لا تعد وقد أجزأته صلاته فإن عاد بعد النهي لم تجزئه صلاته ونص أحمد رحمه الله على هذا في رواية أبي طالب
وجملة ذلك أن من ركع دون الصف ثم دخل فيه لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يصلي ركعة كاملة فلا تصح صلاته لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا صلاة لفرد خلف الصف ] والثاني أن يدب راكعا حتى يدخل في الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو أن يأتي آخر فيقف معه قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع فإن صلاته تصح لأنه أدرك مع الإمام في الصف ما يدرك به الركعة وممن رخص في ركوع الرجل دون الصف زيد بن ثابت وفعله ابن مسعود وزيد بن وهب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعروة وسعيد بن جبير وابن جريج و جوزه الزهري و الأوزاعي و مالك و الشافعي إذا كان قريبا من الصف الحال الثالث إذا رفع رأسه من الركوع ثم دخل في الصف أو جاء آخر فوقف معه قبل إتمام الركعة فهذه الحال التي يحمل عليها قول الخرقي ونص الإمام أحمد فمتى كان جاهلا بتحريم ذلك صحت صلاته وإن علم لم تصح وروى أبو داود عن أحمد أنه يصح ولم يفرق وهذا مذهب مالك و الشافعي وأصحاب الرأي لأن أبا بكرة فعل ذلك وفعله من ذكرنا من الصحابة
ولنا ما روى [ أن أبا بكرة انتهى إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : زادك الله حرصا ولا تعد ) ] رواه البخاري ورواه أبو داود ولفظه [ أن أبا بكرة جاء ورسول الله صلى الله عليه و سلم راكع فركع دون الصف ثم مشى إل الصف فلما قضى النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة قال : ( أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف ) فقال أبو بكرة : أنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم ( زادك الله حرصا ولا تعد ) ] فلم يأمره بإعادة الصلاة ونهاه عن العود والنهي يقتضي الفساد فإن قيل إنما نهاه عن التهاون والتخلف عن الصلاة قلنا إنما يعود النهي إلى المذكور والمذكور الركوع دون الصف ولم ينسبه النبي صلى الله عليه و سلم إلى التهاون وإنما نسبه إلى الحرص ودعا له بالزيادة فيه فكيف ينهاه عن التهاون وهو منسوب إلى ضده ؟ وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنها لا تصح صلاته عالما كان أو جاهلا لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة أشبه ما لو صلى ركعة كاملة وعلى هذا يحمل حديث أبي بكرة على أنه دخل في الصف قبل رفع النبي صلى الله عليه و سلم رأسه وقد قال أبو هريرة : لا يركع أحدكم حتى يأخذ مقامه من الصف ولم يفرق القاضي في هذه المسألة بين من رفع رأسه من الركوع ثم دخل وبين من دخل فيه راكعا وكذلك كلام أحمد و الخرقي ولا تفريق فيه والدليل يقتضي التفريق فيحمل كلامهم عليه وقد ذكره أبو الخطاب نحوا مما ذكرنا
فصل : وإن فعل هذا لغير عذر ولا خشي الفوات ففيه وجهان : أحدهما يجزيه لأنه لو لم يجز مطلقا لم يجز حال العذر كالركعة كلها والثاني لا يجزيه لأن الأصل أن لا يجوز لكونه يفوته في الصف ما تفوته الركعة بفواته وإنما أبيح في المعذور لحديث أبي بكرة ففي غيره يبقى على الأصل

فصل : انتظار الإمام المسبوق ليلحقه في الركوع
فصل : إذا أحس بداخل وهو في الركوع يريد الصلاة معه وكانت الجماعة كثيرة كره انتظاره لأنه يبعد أن يكون فيهم من لا يشق عليه وإن كانت الجماعة يسيرة وكان انتظاره يشق عليه كره أيضا لأن الذين معه أعظم حرمة من الداخل فلا يشق عليهم لنفعه وإن لم يشق لكونه يسيرا فقد قال أحمد : ينتظره ما لم يشق على من خلفه وهذا مذهب أبي ملجز و الشعبي و النخعي و عبد الرحمن بن أبي ليلى و إسحق و أبي ثور وقال الأوزاعي و الشافعي و أبو حنيفة : لا ينتظره لأن انتظاره تشريك في العبادة فلا يشرع كالرياء
ولنا أن انتظاره ينفع ولا يشق فشرع كتطويل الركعة تخفيف الصلاة وقد ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطيل الركعة الأولى حتى لا يسمع وقع قدم ] و [ أطال السجود حين ركب الحسن عل ظهره وقال : إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله ] وقال : [ إني لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأخففها كراهة أن أشق على أمه ] وقال : [ من أم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة ] وشرع الانتظار في صلاة الخوف لتدركه الطائفة الثانية ولأن منتظر الصلاة في صلاة وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم ينتظر الجماعة فقال جابر : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي العشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم قد اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد أبطؤوا أخر ] وبهذا كله يبطل ما ذكروه من التشريك قال القاضي : والانتظار جائز غير مستحب وإنما ينتظر من كان ذا حرمة كأهل العلم ونظرائهم من أهل الفضل

مسألة وفصل : سترة الإمام سترة لمن خلفه وفساد صلاة المأموم بفساد صلاة إمامه
مسألة : قال : وسترة الإمام سترة لمن خلفه
وجملته أنه يستحب للمصلي أن يصلي إلى سترة فإن كان في مسجد أو بيت صلى إلى الحائط أو سارية وإن كان في فضاء صلى إلى شيء شاخص بين يديه أو نصب بين يديه حربة أو عصا أو عرض البعير فصلى إليه أو جعل رحله بين يديه وسئل أحمد يصلي الرجل إلى سترة في الحضر والسفر قال : نعم مثل آخرة الرحل ولا نعلم في استحباب ذلك خلافا والأصل فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان تركز له الحربة فيصلي إليها ويعرض البعير فيصلي إليه وروى أبو جحيفة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ركزت له العنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع ] متفق عليه وعن طلحة بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من مر وراء ذلك ] أخرجه مسلم إذا ثبت هذا فإن سترة الإمام سترة لمن خلفه نص على هذا أحمد وهو قول أكثر أهل العلم كذلك قال ابن المنذر : وقال الترمذي : قال أهل العلم : سترة الإمام سترة لمن خلفه قال أبو الزناد : كل من أدركت من فقهاء المدينة الذين ينتهى إلى قولهم سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و القاسم بن محمد و أبو بكر بن عبد الرحمن و خارجة بن زيد و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة و سليمان بن يسار وغيرهم يقولون سترة الإمام سترة لمن خلفه وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال النخعي و الأوزاعي و مالك و الشافعي وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى إلى سترة ولم يأمر أصحابه بنصب سترة أخرى وفي حديث [ عن ابن عباس قال : أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض أهل الصف فنزلت فأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر علي أحد ] متفق عليه ومعنى قولهم سترة الإمام سترة لمن خلفه أنه متى لم يحل بين الإمام وسترته شيء يقطع الصلاة فصلاة المأمومين صحيحة لا يضرها مرور شيء بين أيديهم في بعض الصف ولا فيما بينهم وبين الإمام وإن مر ما يقطع الصلاة بين الإمام وسترته قطع صلاته وصلاتهم وقد دل على هذا ما [ روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : هبطنا مع النبي صلى الله عليه و سلم من ثنية إذا خر فحضرت الصلاة يعني إلى جدر فاتخذها قبلة ونحن خلفه فجاءت بهمة تمر بين يديه فما زال يدرؤها حتى لصق بطنه بالجدر فمرت من ورائه ] رواه أبو داود فلولا أن سترته سترة لهم لم يكن بين مرورها بين يديه وخلفه فرق
فصل : وقدر السترة في طولها ذراع أو نحوه قال الأثرم : سئل أبو عبد الله عن آخرة الرحل كم مقدارها قال : ذراع كذا قال عطاء : ذراع وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنها قدر عظم الذراع وهذا قول مالك و الشافعي والظاهر أن هذا على سبيل التقريب لا التحديد لأن النبي صلى الله عليه و سلم قدرها بآخرة الرحل وآخرة الرحل مختلف في الطول والقصر فتارة تكون ذراعا وتارة تكون أقل منه فما قارب الذراع أجزأ الاستتار به والله أعلم
فأما قدرها في الغلظ والدقة فلا حد له نعلمه فإنه يجوز أن تكون دقيقة كالسهم والحربة وغليظة كالحائط فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ استتروا في الصلاة ولو بسهم ] رواه الأثرم وقال الأوزاعي : يجزيه السهم والسوط قال أحمد : وما كان أعرض فهو أعجب إلي وذلك لأن قوله ولو بسهم بدل على أن غيره أولى منه

فصل : استحباب الدنو من السترة
فصل : ويستحب للمصلي أن يدنو من سترته لما روى سهل بن أبي خيثمة يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته ] رواه أبو داود وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ] رواه الأثرم وعن سهل بن سعد قال : [ كان بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين القبلة ممر الشاة ] رواه البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ارهقوا القبلة ] رواه الأثرم وذكر الخطابي في معالم السنن أن مالك بن أنس كان يصلي يوما متنائيا عن السترة فمر به رجل لا يعرفه فقال : يا أيها المصلي أدن من سترتك فجعل مالك يتقدم وهو يقرأ { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } ولأن قربه من السترة أصون لصلاته وأبعد من أن يمر بينه وبينها شيء يحول بينه وبينها إذا ثبت هذا فإنه يجعل بينه وبين ثلاثة أذرع فما دون قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي كم ينبغي أن يكون بينه وبين القبلة قال : يدنو من القبلة ما استطاع ثم قال بعد : إن ابن عمر قال : [ صلى النبي صلى الله عليه و سلم في الكعبة فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع ] قال الميموني : فقد رأيتك على نحو من أربعة قال بالسهو وكان عبد الله بن مغفل يجعل بينه وبين سترته ستة أذرع قال عطاء : أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع وبه قال الشافعي لخبر ابن عمر عن بلال [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في مقدم البيت وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع ] وكلما دنا فهو أفضل لما ذكرنا من الأخبار والمعنى

فصول : صفة سترة المصلي
فصل : ولا بأس أن يستتر ببعير أو حيوان وفعله ابن عمر وأنس وحكي عن الشافعي أنه لا يستتر بدابة
ولنا ما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى إلى بعير ] رواه البخاري و مسلم وفي لفظ [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض راحلته ويصلي إليها قال : قلت فإذا ذهب الركاب قال : يعرض الرحل ويصلي إلى آخرته ] فإن استتر بإنسان فلا بأس فإنه يقوم مقام غيره من السترة وقد روي عن حميد بن هلال قال : رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلي والناس يمرون بين يديه فولاه ظهره وقال بثوبه هكذا وبسط يديه هكذا وقال : صل ولا تعجل وعن نافع قال : كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلى سارية من سواري المسجد قال ولني ظهرك رواهما البخاري بإسناده
فصل : فإن لم يجد سترة خط خطا وصلى إليه وقام ذلك مقام السترة نص عليه أحمد وبه قال سعيد بن جبير و الأوزاعي وأنكر مالك الخط و الليث بن سعد و أبو حنيفة وقال الشافعي : بالخط بالعراق وقال : بمصر لا يخط المصلي خطا إلا أن يكون فيه سنة تتبع
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد فلينصب عصا فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ثم لا يضره من مر أمامه ] رواه أبو داود وسنة النبي صلى الله عليه و سلم أولى أن تتبع
فصل : وصفة الخط مثل الهلال قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول غير مرة وسئل عن الخط فقال : هكذا عرضا مثل الهلال قال : وسمعت مسددا قال : قال ابن داود الخط بالطول وقال في رواية الأثرم قالوا طولا وقالوا عرضا وقال أما أنا فأختار هذا ودور بإصبعه مثل القنطرة وكيف ما خطه أجزأه فقد نقل حنبل أنه قال : إن شاء معترضا وإن شاء طولا وذلك لأن الحديث مطلق في الخط فكيف ما أتى به فقد أتى بالخط فيجزيه ذلك والله أعلم
فصل : وإن كان معه عصا فلم يمكنه نصبها فقال الأثرم قلت لـ أحمد : الرجل يكون معه عصا لم يقدر على غرزها فألقاها بين يديه أيلقيها طولا أم عرضا قال : لا بل عرضا وكذلك قال سعيد بن جبير و الأوزاعي وكرهه النخعي
ولنا أن هذا في معنى الخط فيقوم مقامه وقد ثبت استحباب الخط بالحديث الذي روينا
فصل : وإذا صلى إلى عود أو عمود أو شيء في معناهما استحب له أن ينحرف عنه ولا يصمد له صمدا لما روى أبو داود [ عن المقداد بن الأسود قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى إلى عود أو إلى عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا ] أي لا يستقبله فيجعله وسطا ومعنى الصمد القصد

فصول : كراهية استقبال ما يشغل المصلي عن صلاته
فصل : تكره الصلاة إلى المتحدثين لئلا يشتغل بحديثهم واختلف في الصلاة إلى النائم فروي أنه يكره وروي ذلك عن ابن مسعود وسعيد بن جبير وعن أحمد ما يدل على أنه يكره في الفريضة خاصة ولا يكره في التطوع لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي من الليل وعائشة معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة ] متفق عليه قال أحمد : هذا في التطوع والفريضة أشد وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الصلاة إلى النائم والمتحدث رواه أبو داود فخرج التطوع مع عمومه لحديث عائشة بقي الفرض على مقتضى العموم وقيل لا يكره فيهما لأن حديث عائشة صحيح وحديث النهي ضعيف قال الخطابي : وقد قال أحمد : لا فرق بين الفريضة والنافلة إلا في صلاة الراكب وتقديم قياس الخبر الصحيح أولى من الخبر الضعيف
فصل : ويكره أن يصلي مستقبلا وجه إنسان لأن عمر أدب على ذلك و [ في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي حذاء وسط السرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة تكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فاستقبله فأنسل انسلالا ] متفق عليه ولأنه شبه السجود لذلك الشخص ويكره أن يصلي إلى نار قال أحمد : إذا كان التنور في قبلته لا يصلي إليه وكره ابن سيرين ذلك وقال أحمد : في السراج والقنديل يكون في القبلة أكرهه وأكره كل شيء حتى كانوا يكرهون أن يجعلوا شيئا في القبلة حتى المصحف وإنما كره ذلك لأن النار تعبد من دون الله فالصلاة إليها تشبه الصلاة لها قال أحمد : لا تصل إلى صورة منصوبة في وجهك وذلك لأن الصورة تعبد من دون الله وقد روي عن عائشة قالت : كان لنا ثوب فيه تصاوير فجعلته بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي فنهاني أو قالت كره ذلك رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده ولأن التصاوير تشغل المصلي بالنظر إليها وتذهله عن صلاته وقال أحمد : يكره أن يكون في القبلة شيء معلق مصحف أو غيره ولا بأس أن يكون موضوعا بالأرض وقد روى مجاهد قال : لم يكن عبد الله بن عمر يدع شيئا بينه وبين القبلة إلا نزعه لا سيفا ولا مصحفا رواه الخلال بإسناده قال أحمد : ولا يكتب في القبلة شيء وذلك لأنه يشغل قلب المصلي وربما اشتغل بقراءته عن صلاته وكذلك يكره تزويقها وكل ما يشغل المصلي عن صلاته فقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في خميصة لها أعلام فلما قضى صلاته قال : ( اذهبوا بهذه إلى أبي جهم بن حذيفة فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي وائتوني بانبجانيته ) ] متفق عليه وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة : ( أميطي عنا قرامك فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي ) ] رواه البخاري وإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم مع ما أيده الله تعالى به من العصمة والخشوع شغله ذلك فغيره من الناس أولى
فصل : ويكره أن يصلي وأمامه امرأة تصلي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أخروهن من حيث أخرهن الله ] فأما في غير الصلاة فلا يكره لخبر عائشة وروى أبو حفص بإسناده [ عن أم سلمة قالت : كان فراشي حيال مصلى النبي صلى الله عليه و سلم وإن كانت عن يمينه أو يساره لم يكره وإن كانت في صلاة ] وكره أحمد أن يصلي وبين يديه كافر وروي ذلك عن إسحق لأن المشركين نجس

فصول : ترك السترة بمكة وغيرها
فصل : ولا بأس أن يصلي بمكة إلى غير سترة وروي ذلك عن ابن الزبير و عطاء و نجاهد قال الأثرم : قيل لـ أحمد الرجل يصلي بمكة ولا يستتر بشيء فقال : قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى ثم ليس بينه وبين الطواف سترة قال أحمد : لأن مكة ليست كغيرها كأن مكة مخصوصة وذلك بما [ روى كثير بن كثير ابن المطلب عن أبيه عن جده المطلب قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه ] رواه الخلال بإسناده وروى الأثرم بإسناده [ عن المطلب قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي الركن بينه وبين السقيفة فصلى ركعتيه في حاشية المطاف وليس بينه وبين الطواف أحد ] وقال أبي عمار : رأيت ابن الزبير جاء يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينظرها حتى تمر ثم يضع جبهته في موضع قدمها رواه حنبل في كتاب المناسك وقال المعتمر : قلت ل طاوس الرجل يصلي يعني بمكة فيمر بين يديه الرجل والمرأة فقال : أولا يرى الناس بعضهم بعضا وإذا هو يرى أن لهذا البلد حالا ليس لغيره من البلدان وذلك لأن الناس يكثرون بمكة لأجل قضاء نسكهم ويزدحمون فيها ولذلك سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون ويدفع بعضهم بعضا فلو منع المصلي من يجتاز بين يديه لضاق على الناس وحكم الحرم كله حكم مكة في هذا بدليل ما [ روى ابن عباس قال : أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ] متفق عليه ولأن الحرم كله محل المشاعر والمناسك فجرى مجرى مكة في ما ذكرناه
فصل : ولو صلى في غير مكة إلى غير سترة لم يكن به بأس لما [ روى ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم في فضاء ليس بين يديه شيء ] رواه البخاري و [ روي عن الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاهم في باديتهم فصلى إلى غير سترة ] ولأن السترة ليست شرطا في الصلاة وإنما هي مستحبة قال أحمد : في الرجل يصلي في فضاء ليس بين يديه سترة ولا خط صلاته جائزة وقال : أحب أن يفعل فإن لم يفعل يجزيه

مسألة وفصول : المرور بين يدي المصلي
مسألة : قال : ومن مر بين يدي المصلي فليرده
وجملته أنه ليس لأحد أن يمر بين يدي المصلي إذا لم يكن بين يديه سترة فإن كانت بين يديه سترة لم يمر أحد بينه وبينها لما روى أبو جهم الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه ] متفق عليه ولـ مسلم [ لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بيد يدي أخيه وهو يصلي ] وقد سمى النبي صلى الله عليه و سلم الذي يمر بين يدي المصلي شيطانا وأمر برده ومقاتلته و [ روي عن يزيد بن نمر أنه قال : رأيت رجلا بتبوك مقعدا فقال : مررت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا على حمار وهو يصلي فقال : ( اللهم اقطع أثره ) فما مشيت عليها بعد ] رواه أبو داود وفي لفظ قال : [ قطع صلاتنا قطع الله أثره ] وإن أراد أحد المرور بين يدي المصلي فله منعه في قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود وابن عمر و سالم وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه اختلافا والأصل فيه ما [ روى أبو سعيد قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ] متفق عليه ورواه أبو داود ولفظ روايته : [ إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان ] ومعناه أي ليدفعه وهذا في أو الأمر لا يزيد على دفعه فإن أبى ولج فليقاتله أي يعنفه في دفعه من المرور فإنما هو شيطان أي فعله فعل الشيطان أو الشيطان يحمله على ذلك وقيل معناه أن معه شيطانا وأكثر الروايات عن أبي عبد ا لله أن المار بين يدي المصلي إذا لج في المرور وأبى الرجوع أن المصلي يشتد عليه في الدفع ويجتهد في رده ما لم يخرجه ذلك إلى إفساد صلاته بكثرة العمل فيها وروي عنه أنه قال يدرأ ما استطاع وأكره القتال في الصلاة وذلك لما يقتضي إليه من الفتنة وفساد الصلاة والنبي صلى الله عليه و سلم إنما أمر برده ودفعه حفظا للصلاة عما ينقصها فيعلم أنه لم يرد ما يفسدها ويقطعها بالكلية فيحمل لفظ المقاتلة على دفع أبلغ من الدفع الأول والله أعلم
وقد روت أم سلمة قالت : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في حجرة أم سلمة فمر بين يديه عبد الله أو عمر بن أبي سلمة فقال بيده فرجع فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : هن أغلب ] رواه ابن ماجة وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجتهد في الدفع
فصل : ويستحب أن يرد ما مر بين يديه من كبير وصغير وإنسان وبهيمة لما روينا عن رد النبي صلى الله عليه و سلم عمر وزينب وهما صغيران وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى إلى جدر فاتخذه قبلة ونحن خلفه فجاءت بهيمة تمر بين يديه فما زال يدرأ بها حتى لصق بطنه بالجدر فمرت من ورائه ]
فصل : فإن مر بين يديه إنسان فعبر لم يستحب رده من حيث جاء وهذا قول الشعبي و الثوري و إسحق و ابن المنذر وروي عن ابن مسعود أنه يرده من حيث جاء وفعله سالم لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر برده فتناول العابر
ولنا أن هذا مرور ثان فينبغي أن لا ينسب إليه كالأول ولأن المار لو أراد أن يعود من حيث جاء لكان مأمورا بمنعه ولم يحل للعابر العود والحديث لم يتناول العابر إنما في الخبر [ فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه ] وبعد العبور فليس هذا مريدا للاجتياز
فصل : والمرور بين يدي المصلي ينقص الصلاة ولا يقطعها قال أحمد : يضع من صلاته ولكن لا يقطعها وروي عن ابن مسعود أن ممر الرجل يضع نصف الصلاة وكان عبد الله إذا مر بين يديه رجل التزمه حتى يرده رواه البخاري بإسناده قال القاضي : ينبغي أن يحمل نقص الصلاة على من أمكنه الرد فلم يفعله أما إذا رد فلم يمكنه الرد فصلاته تامة لأنه لم يوجد منه ما ينقص الصلاة فلا يؤثر فيها ذنب غيره

فصل : العمل جائز في الصلاة
فصل : ولا بأس بالعمل اليسير في الصلاة للحاجة قال أحمد : لا بأس أن يحمل الرجل ولده في الصلاة الفريضة لحديث أبي قتادة و [ حديث عائشة أنها استفتحت الباب فمشى النبي صلى الله عليه و سلم وهو في الصلاة حتى فتح لها ] و [ أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل الأسودين في الصلاة ] فإذا رأى العقرب خطا إليها وأخذ النعل وقتلها ورد النعم إلى موضعها لأن ابن عمر نظر إلى ريشة فحسبها عقربا فضربها بنعله وحديث [ النبي صلى الله عليه و سلم أنه التحف بإزاره وهو في الصلاة ] فلا بأس إن سقط رداء الرجل أن يرفعه فإن انحل إزاره أن يشده وإذا عتقت الأمة وهي تصلي اختمرت وبنت على صلاتها وقال من فعل كفعل أبي برزة حين مشى إلى الدابة وقد أفلتت منه فصلاته جائزة وهذا لأن النبي صلى الله عليه و سلم هو المشرع فما فعله أو أمر به فلا بأس به ومثل هذا ما [ روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على منبره فإذا أراد أن يسجد نزل عن المنبر فسجد بالأرض ثم رجع إلى المنبر كذلك حتى قضى صلاته ] و [ حديث جابر في صلاة الكسوف قال : ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا إلى النساء ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه ] متفق عليه و [ عن أبي بكرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بنا فكان الحسن بن علي يجيء وهو صغير فكان كلما سجد النبي صلى الله عليه و سلم وثب على ظهره ويرفع النبي صلى الله عليه و سلم رأسه رفعا رفيقا حتى يضعه بالأرض ] رواه الأثرم وحديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يداري البهيمة حتى لصق بالجدر وحديث أبي سعيد بالأمر بدفع المار بي يدي المصلي ومقاتلته إذا أبى الرجوع فكل هذا وأشباهه لا بأس به في الصلاة ولا يبطلها ولو فعل هذا لغير حاجة كره ولا يبطلها أيضا ولا يتقدر الجائز من هذا بثلاث ولا بغيرها من العدد لأن فعل النبي صلى الله عليه و سلم الظاهر منه زيادته على ثلاث كتأخره حتى تأخر الرجال فانتهوا إلى النساء وفي حمله أمامة ووضعها في كل ركعة وهذا في الغالب يزيد على ثلاثة أفعال وكذلك مشي أبي برزة مع دابته ولأن التقدير بابه التوقيف وهذا لا توقيف فيه ولكن يرجع في الكثير واليسير إلى العرف فيما يعد كثيرا أو يسيرا وكل ما شابه فعل النبي صلى الله عليه و سلم فهو معدود يسيرا وإن فعل أفعالا متفرقة لو جمعت كانت كثيرة وكل واحد منها بمفرده يسير فهي في حد اليسير بدليل حمل النبي صلى الله عليه و سلم لأمامة في كل ركعة ووضعها وما كثر وزاد على فعل النبي صلى الله عليه و سلم أبطل الصلاة سواء كان لحاجة أو غيرها إلا أن يكون لضرورة فيكون حكمه حكم الخائف فلا تبطل صلاته به وإن احتاج إلى الفعل الكثير في الصلاة لغير ضرورة قطع الصلاة وفعله قال أحمد : إذا رأى صبيين يقتتلان يتخوف أن يلقي أحدهما صاحبه في البئر فإنه يذهب إليها فيخلصهما ويعود في صلاته وقال : إذا لزم رجل رجلا فدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فلما سجد الإمام خرج الملزوم فإن الذي كان يلزم يخرج في طلبه يعني ويبتدئ الصلاة وهكذا لو رأى حريقا يريد إطفاءه أو غريقا يريد إنقاذه خرج إليه وابتدأ الصلاة ولو انتهى الحريق إليه أو السيل وهو في الصلاة ففر منه بنى على صلاته وأتمها صلاة خائف لما ذكرنا من قبل والله أعلم

مسألة وفصول : ما تقطع الصلاة بمروره أمام المصلي
مسألة : قال : ولا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم
يعني إذا مر بين يديه هذا المشهور عن أحمد رحمه الله نقله الجماعة عنه قال الأثرم : سئل أبو عبد الله ما يقطع الصلاة ؟ قال : لا يقطعها عندي شيء إلا الكلب الأسود البهيم وهذا قول عائشة وحكي عن طاوس وروي عن معاذ و مجاهد أنهما قالا : الكلب الأسود البهيم شيطان وهو يقطع الصلاة ومعنى البهيم الذي ليس في لونه شيء سوى السواد وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطعها الكلب الأسود والمرأة إذا مرت والحمار قال : وحديث عائشة من الناس من قال : ليس بحجة على هذا لأن المار غير اللابث وهو في التطوع وهو أسهل والفرض آكد وحديث ابن عباس مررت بين يدي بعض الصف ليس بحجة لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه وروي هذا القول عن أنس وعكرمة و الحسن و أبي الأحوص ووجه هذا القول ما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب وبقي ذلك مثل مؤخرة الرحل ] وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود ] [ قال عبد الله بن الصامت : يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر قال : يا بن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سألتني فقال : الكلب الأسود شيطان ] رواهما مسلم و أبو داود وغيرهما و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم للذي مر بي يديه على حمار : ( قطع صلاتنا ) ] وقد ذكرنا هذا الحديث وكان ابن عباس و عطاء يقولان [ يقطع الصلاة الكلب والمرأة الحائض ] ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أخرجه أبو داود و ابن ماجة قال أبو داود رفعه شعبة ووقفه سعيد وهشام وعمام على ابن عباس وقال عروة و الشعبي و الثوري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي لا يقطع الصلاة شيء لما روى أبو سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يقطع الصلاة شيء ] رواه أبو داود وعن [ الفضل بن عباس قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة يعبثان بي يديه فما بالى ذلك ] رواه أبو داود وقالت عائشة [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة ] وحديث ابن عباس [ أقبلت راكبا على حمار أتان والنبي صلى الله عليه و سلم يصلي فمررت على بعض الصف ونزلت فأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف فلم ينكر علي أحد ] متفق عليهما
وحديث [ زينب بنت أم سلمة حين مرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يقطع صلاته ] وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب حتى أخذتا بركبتيه فقرع بينهما فما بالى بذلك ]
ولنا حديث أبي هريرة وأبي ذر وحديث أبي سعيد لا يقطع الصلاة شيء يرويه مجالد بن سعيد وهو ضعيف فلا يعارض به الحديث الصحيح ثم حديثنا أخص فيجب تقديمه لصحته وخصوصه وحديث الفضل ابن عباس في إسناده مقاتل ثم يحتمل أن الكلب لم يكن أسود ولا بهيما ويجوز أن يكونا بعيدين ثم هذه الأحاديث كلها في المرأة والحمار ويعارض حديث أبي هريرة وأبي ذر فيهما فيبقى الكلب الأسود خاليا عن معارض فيجب القول به لثبوته وخلوه عن معارض
فصل : ولا يقطع الصلاة شيء سوى ما ذكرنا لا من الكلاب ولا من غيرها لأن النبي صلى الله عليه و سلم خصها بالذكر وقيل له ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر قال : [ الكلب الأسود شيطان ] الكلب الأسود إذا لم يكن بهيما لم يقطع الصلاة لتخصيصه البهيم بالذكر ولقوله عليه السلام : [ لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم فإنه شيطان ] فبين أن الشيطان هو الأسود البهيم قال ثعلب : البهيم كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم فمتى كان فيه لون آخر فليس ببهيم وإن كان بين عينيه نكتتان يخالفان لونه لم يخرج بهذا عن كونه بهيما يتعلق به أحكام الأسود البهيم من قطع الصلاة وتحريم صيده وإباحة قتله فإنه قد روي في حديث : [ عليكم بالأسود البهيم ذي الغرتين فإنه شيطان ]
فصل : ولا فرق في بطلان بين الفرض والتطوع لعموم الحديث في كل صلاة ولأن مبطلات الصلاة يتساوى فيها الفرض والتطوع في غير هذا فكذلك هذه وقد روي عن أحمد كلام يدل على التسهيل في التطوع فالصحيح التسوية وقد قال أحمد : يحتجون في حديث عائشة فإنه في التطوع وما أعلم بين المتطوع والفريضة فرقا إلا أن التطوع يصلى على الدابة
فصل : فإن كان الكلب الأسود البهيم واقفا بين يدي المصلي أو نائما ولم يمر بين يديه فعنه روايتان إحداهما تبطل لأنه بين يديه أشبه المار وقد قالت عائشة : عدلتمونا بالكلاب والحمر وذكرت في معارضة ذلك أنها كانت تكون معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي كاعتراض الجنازة فيدل ذلك على التسوية بينهما ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ] ولم يذكر مرورا والثانية لا تبطل الصلاة به لأن الوقوف والنوم مخالف لحكم المرور بدليل [ أن عائشة كانت تنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يكرهه ولا ينكره ] وقد قال في المار : [ لأن يقف أربعين خير له من أن يمر بي يديه ] وكان يصلي إلى البعير ولو مر بين يديه لم يدعه ولهذا منع البهيمة من المرور وكان ابن عمر يقول لنافع ولني ظهرك ليستتر به ممن يمر بين يديه وقعد عمر بين يدي المصلي يستره من المرور فدل على أن الوقوف ليس في حكم المرور فلا يقاس عليه وقول النبي صلى الله عليه و سلم يقطع الصلاة لا بد فيه من إضمار المرور أو غيره فيتعين حمله عليه
فصل : ومن صلى إلى سترة فمر من ورائها ما يقطع الصلاة لم تنقطع وإن مر من ورائها غير ما يقطعها لم يكره لما مر من الأحاديث وإن مر بينه وبينها قطعها إن كان مما يقطعها وإن لم يكن بين يديه سترة فمر بين يديه قريبا منه ما يقطعها قطعها وإن كانت مما لا يقطعها كره وإن كان بعيدا لم يتعلق به حكم ولا أعلم أحدا من أهل العلم حد البعيد من ذلك ولا القريب إلا أن عكرمة قال إذا كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة بحجر لم يقطع الصلاة
وقد روى عبد بن حميد في مسنده و أبو داود في سننه عن عكرمة عن ابن عباس قال : أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير والمجوسي واليهودي والمرأة ويجزي عنه إذا مروا بين يديه قذفة بحجر ] هذا لفظ رواية أبي داود وفي مسند عبد بن حميد [ والنصراني والمرأة الحائض ] وهذا الحديث لو ثبت لتعين المصير إليه غير أنه لم يجزم برفعه وفيه ما هو متروك بالإجماع وهو ما عدا الثلاثة المذكورة ولا يمكن تقيد ذلك بموضح السجود فإن قوله عليه السلام [ إذا لم تكن بين يديه مثل آخرة الرحل قطع صلاته الكلب الأسود ] يدل على أن ما هو أبعد من السترة تنقطع صلاته بمرور الكلب فيه والسترة تكون أبعد من موضع السجود والصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه ودفع المار بين يديه لا تبطل صلاته لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بدفع المار بين يديه فتقيد لدلالة الإجماع بما يقرب منه بحيث إذا مشى إليه لم تبطل صلاته واللفظ في الحديثين واحد وقد تعذر حملهما على إطلاقهما وقد تقيد أحدهما بدلالة الإجماع بقيد فتقيد الآخر به والله أعلم
فصل : إذا صلى إلى سترة مغصوبة فاجتاز وراءها كلب أسود فهل تنقطع صلاته فيه وجهان ذكرهما ابن حامد إحداهما تبطل صلاته لأنه ممنوع من نصبها والصلاة إليها فوجودها كعدمها والثاني لا تبطل لقول النبي صلى الله عليه و سلم يقي ذلك مثل آخرة الرحل وهذا وقد وجد وأصل الوجهين إذا صلى في ثوب مغصوب هل تصح صلاته ؟ على روايتين

باب صلاة المسافر أحكام قصر الصلاة
الأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } [ قال يعني ابن أمية قلت لعمر بن الخطاب ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس فقال : عجبت مما منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ] أخرجه مسلم
وأما السنة فقد تواترت الأخبار [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقصر في أسفاره حاجا ومعتمرا وغازيا ] و [ قال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قبض يعني في السفر وكان لا يزيد على ركعتين ] وأبا بكر حتى قبض وكان لا يزيد على ركعتين وعمر وعثمان كذلك و [ قال ابن مسعود صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق وودت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين ] وقال أنس [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقمنا بمكة عشرا نقصر الصلاة حتى رجع ] متفق عليهن وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج أو عمرة أو جهاد أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين

مسألة وفصول : مسافة القصر - اشتراط نية السفر البعيد
مسألة : قال : وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي فله أن يقصر
قال الأثرم : قيل لـ أبي عبد الله في كم تقصر الصلاة قال : في أربعة برد قيل له مسيرة يوم تام قال : لا أربعة برد ستة عشر فرسخا ومسيرة يومين فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخا والفرسخ ثلاثة أميال فيكون ثمانية وأربعين ميلا قال القاضي : والميل اثنا عشر ألف قدم وذلك مسيرة يومين قاصدين وقد قدره ابن عباس فقال من عسفان إلى مكة ومن الطائف إلى مكة ومن جدة إلى مكة وذكر صاحب المسالك أن من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلا ومن دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلا ومن الكسوة إلى جاسم أربعة وعشرين ميلا فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين وهذا قول ابن عباس وابن عمر وإليه ذهب مالك و الليث و الشافعي و إسحق
وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر في مسيرة عشر فراسخ قال ابن المنذر ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرض له وهي ثلاثون ميلا
وروي نحو ذلك عن ابن عباس فإنه قال : يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه وإليه ذهب الأوزاعي وقال عامة العلماء يقولون مسيرة يوم تام وبه نأخذ ويروى عن ابن مسعود أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال الثوري و أبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ] وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق
وروي عن جماعة من السلف رحمة الله عليهم ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم فقال الأوزاعي كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ وكان قبيصة ذؤيب وهانئ بن كلثوم وابن محيريز يقصرون فيما بين الرملة وبيت المقدس
وروي عن علي رضي الله عنه : أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ثم رجع من يومه فقال : أردت أن أعلمكم سننكم وعن [ جبير بن نفير قال : خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبة عشر ميلا أو ثمانية عشر ميلا فصلى ركعتين فقلت له فقال : رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال : إنما فعلت كما رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يفعل ] رواه مسلم
وروي عن دحية الكلبي خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذلك للذين صاموا قبل رواه أبو داود وروى سعيد ثنا هاشم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سافر فرسخا قصر الصلاة ] وقال أنس : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين شعبة الشاك ] رواه مسلم و أبو داود واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر قال ابن عباس : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة قال الخطابي : وهو أصح الروايتين عن ابن عمر ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشد فجاز القصر فيها كمسافة الثلاث ولم يجز فيما دونها لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر فيه وقول أنس [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ] يحتمل أنه أراد به إذا سافر سفرا طويلا قصر إذا بلغ ثلاثة أميال كما قال في لفظه الآخر [ إن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين ] قال المصنف : ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة ولا حجة فيها مع الاختلاف
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما احتج به أصحابنا ثم لو لم يوجد ذلك لم يكن في قولهم حجة مع قول النبي صلى الله عليه و سلم وفعله وإذا لم تثبت أقوالهم امتنع المصير إلى التقدير الذي ذكروه لوجهين أحدهما أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه و سلم التي رويناها ولظاهر القرآن لأن ظاهره إباحة القصر لمن ضرب في الأرض لقوله { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وقد سقط شرط الخوف بالخبر المذكور عن يعلى بن أمية فبقي ظاهر الآية متناولا كل ضرب في الأرض وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يمسح المسافر ثلاثة أيام ] جاء لبيان أكثر مدة المسح فلا يصح الاحتجاج به ها هنا وعلى أنه يمكنه قطع المسافة القصيرة في ثلاثة أيام وقد سماه النبي صلى الله عليه و سلم سفرا فقال : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ] والثاني أن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد سيما وليس له أصل يرد إليه ولا نظير يقاس عليه والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه
فصل : وإذا كان في سفينة في البحر فهو كالبر إن كانت مسافة سفره تبلغ مسافة القصر أبيح له وإلا فلا سواء قطعها في زمن طويل أو قصير اعتبارا بالمسافة وإن شك هل السفر مبيح للقصر أو لا لم يبح له لأن الأصل وجوب الإتمام فلا يزول بالشك وإن قصر لم تصح صلاته وإن تبين له بعدها أنه طويل لأنه صلى شاكا في صحة صلاته فأشبه ما لو صلى شاكا في دخول الوقت
فصل : والاعتبار بالنية لا بالفعل فيعتبر أن ينوي مسافة تبيح القصر فلو خرج يقصد سفرا بعيدا فقصر الصلاة ثم بدا له فرجع كان ما صلاه ماضيا صحيحا ولا يقصر في رجوعه إلا أن تكون مسافة الرجوع مبيحة بنفسها نص أحمد على هذا ولو خرج طالبا لعبد آبق لا يعلم أين هو أو منتجعا غيثا أو كلأ متى وجده أقام أو رجع أو سائحا في الأرض لا يقصد مكانا لم يبح له القصر وإن سار أياما وقال ابن عقيل يباح له القصر إذا بلغ مسافة مبيحة له لأنه مسافر سفرا طويلا
ولنا أنه لم يقصد مسافة القصر فلم يبح له كابتداء سفره ولأنه لم يبح القصر في ابتدائه فلم يبحه في أثنائه إذا لم يغير نيته كالسفر القصير وسفر المعصية ومتى رجع هذا يقصد بلده أو نوى مسافة القصر فله القصر لوجود نيته المبيحة ولو قصد بلدا بعيدا أو في عزمه أنه متى وجد طلبته دونه رجع أو أقام لم يبح له القصر لأنه لم يجزم بسفر طويل وإن كان لا يرجع ولا يقيم بوجوده فله القصر
فصل : ومتى كان لمقصده طريقان يباح القصر في أحدهما دون الآخر فسلك البعيد ليقصر الصلاة فيه أبيح له لأنه مسافر سفرا بعيدا مباحا فأبيح له القصر كما لو لم يجد سواه أو كان الآخر مخوفا أو شاقا
فصل : وإن خرج الإنسان إلى السفر مكرها كالأسير فله القصر إذا كان سفره بعيدا نص عليه أحمد وقال الشافعي : لا يقصر لأنه غير ناو للسفر ولا جازم به فإن نيته أنه متى أفلت رجع
ولنا أنه مسافر سفرا بعيدا غير محرم فأبيح له القصر كالمرأة مع زوجها والعبد مع سيده إذا كان عزمهما أنه لو مات أو زال ملكهما رجع وقياسهم منتقض بهذا إذا ثبت هذا فإنه يتم إذا صار في حصونهم نص عليه أيضا لأنه قد انقضى سفره ويحتمل أنه لا يلزمه الإتمام لأن في عزمه أنه متى أفلت رجع فأشبه المحبوس ظلما

مسألة وفصول : متى يبتدئ حكم السفر ومتى ينتهي ؟
مسألة : قال : إذا جاوز بيوت قريته
وجملته أنه ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته ويجعلها وراء ظهره وبهذا قال مالك و الشافعي و الأوزاعي و إسحق و أبو ثور وحكي ذلك عن جماعة من التابعين وحكي عن عطاء و سليمان بن موسى أنهما أباحا القصر في البلد لمن نوى السفر وعن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله وروى عبيد بن جبير قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غذاؤه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال اقترب قلبت ألست ترى البيوت قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكل رواه أبو داود
ولنا قول الله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج وقد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة ] [ قال أنس : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم الظهر بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ] ركعتين متفق عليه فأما أبو بصرة فإنه لم يأكل حتى دفع وقوله لم يجاوز البيوت معناه والله أعلم لم يبعد منها بدليل قول عبيد له : ألست ترى البيوت ؟ إذا ثبت هذا فإنه يجوز له القصر وإن كان قريبا من البيوت قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها وروي عن مجاهد أنه قال : إذا خرجت مسافرا فلا تقصر الصلاة يومك ذلك إلى الليل وإذا رجعت ليلا فلا تقصر ليلتك حتى تصبح
ولنا قول الله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وأن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها وحديث أبي بصرة وقال عبد الرحمن الهمذاني : خرجنا مع علي رضي الله عنه مخرجه إلى صفين فرأيته صلى ركعتين بين الجسر وقنطرة الكوفة وقال البخاري : خرج علي فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال : لا حتى ندخلها ولأنه مسافر فأبيح له القصر كما لو بعد
فصل : وإن خرج من البلد وصار بين حيطان بساتينه فله القصر لأنه قد ترك البيوت وراء ظهره وإن كان حول البلد خراب قد تهدم وصار فضاء أبيح له القصر فيه لذلك وإن كانت حيطانه قائمة فكذلك قاله الآمدي وقال القاضي : لا يباح وهو مذهب الشافعي لأن السكنى فيه ممكنة أشبه العامر
ولنا أنها غير معدة للسكنى أشبهت حيطان البساتين وإن كان في وسط البلد نهر فاجتاز فليس له القصر لأنه لم يخرج من البلد ولم يفارق البنيان فأشبه الرحبة والميدان في وسط البلد وإن كان للبلد محال كل محلة منفردة عن الأخرى كبغداد فمتى خرج من محلته أبيح له القصر إذا فارق محلته وإن كان بعضها متصلا ببعض لم يقصر حتى يفارق جميعها ولو كانت قريتان متدانيتين فاتصل بناء إحداهما بالأخرى فهما كالواحدة وإن لم يتصل فلكل قرية حكم نفسها
فصل : وإذا كان البدوي في حلة لم يقصر حتى يفارق حلته وإن كانت حللا فلكل حلة حكم نفسها كالقرى وإن كان بيته مفردا فحتى يفارق منزله ورحله ويجعله وراء ظهره كالحضري

مسألة وفصول : ما يباح الترخيص فيه من الأسفار - تغيير النية
مسألة : قال : إذا كان سفره واجبا أو مباحا
وجملته أن الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثا والصلاة على الراحلة تطوعا يباح في السفر الواجب والمندوب والمباح كسفر التجارة ونحوه وهذا قول أكثر أهل العلم
وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الأوزاعي و الشافعي و إسحق وأهل المدينة وأصحاب الرأي وعن ابن مسعود لا يقصر إلا في حج أو جهاد لأن الواجب لا يترك إلا لواجب وعن عطاء كقول الجماعة وعنه لا يقصر إلا في سبيل من سبيل الخير لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما قصر في سفر واجب أو مندوب
ولنا قول الله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وقوله تعالى : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } و [ قالت عائشة : إن الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر ] متفق عليه و [ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ] رواه مسلم و [ قال عمر رضي الله عنه : صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه و سلم وقد خاب من افترى ] رواه سعيد و بان ماجة
وروي عن إبراهيم أنه قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال : يا رسول الله إني أريد البحرين في تجارة فكيف تأمرني في الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : صل ركعتين ] رواه سعيد عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم وقال صفوان بن عسال : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كنا مسافرين سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ] وهذه النصوص تدل على إباحة الرخص في كل سفر وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يترخص في عوده من سفره وهو مباح
فصل : ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية كالاباق وقطع الطريق والتجارة في الخمر والمحرمات نص عليه أحمد وهو مفهوم كلام الخرقي لتخصيصه الواجب والمباح وهذا قول الشافعي وقال الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة له ذلك احتجاجا بما ذكرنا من النصوص ولأنه مسافر فأبيح له الترخص كالمطيع
ولنا قول الله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } أباح الأكل لمن لم يكن عاديا ولا باغيا فلا يباح لباغ ولا عاد قال ابن عباس : غير باغ على المسلمين مفارق لجماعتهم يخيف السبيل ولا عاد عليهم ولأن الترخص شرع للإعانة على تحصيل المقصد المباح توصلا إلى المصلحة فلو شرع ها هنا لشرع إعانة على المحرم تحصيلا للمفسدة والشرع منزه عن هذا والنصوص وردت في حق الصحابة وكانت أسفارهم مباحة فلا يثبت الحكم في من سفره مخالف لسفرهم ويتعين حمله على ذلك جمعا بين النصين وقياس المعصية على الطاعة بعيد لتضادهما
فصل : فإن عدم العاصي بسفره الماء فعليه أن يتيمم لأن الصلاة واجبة لا تسقط والطهارة لها واجبة أيضا فيكون ذلك عزيمة وهل تلزمه الإعادة على وجهين أحدهما لا تلزمه لأن التيمم عزيمة بدليل وجوبه والرخص لا تجب والثاني عليه الإعادة لأنه حكم يتعلق بالسفر أشبه بقية الرخص والأول أولى لأنه أتى بما أمره به من التيمم والصلاة فلم يلزمه إعادتها ويفارق بقية الرخص فإنه يمنع منها وهذا يجب فعله ولأن حكم بقية الرخص المنع من فعلها ولا يمكن تعدية هذا الحكم إلى التيمم ولا إلى الصلاة لوجوب فعلهما ووجوب الإعادة ليس بحكم في بقية الرخص فكيف يمكن أخذه منها أو تعديته عنها ويباح له المسح يوما وليلة لأن ذلك لا يختص السفر فأشبه الاستجمار والتيمم وغيرهما من رخص الحضر وقيل لا يجوز لأنه رخصة فلم تبح له كرخص السفر والأول أولى وهذا ينتقض بسائر رخص الحضر
فصل : إذا كان السفر مباحا فغير نيته إلى المعصية انقطع الترخص لزوال سببه ولو سافر لمعصية فغير نيته إلى مباح صار سفرا مباحا وأبيح له ما يباح في السفر المباح وتعتبر مسافة السفر من حين غير النية ولو كان سفره مباحا فنوى المعصية بسفره ثم رجع إلى نية المباح اعتبرت مسافة القصر من حين رجوعه إلى نية المباح لأن حكم سفره انقطع بنية المعصية فأشبه ما لو نوى الإقامة ثم عاد فنوى السفر فأما إن كان السفر مباحا لكنه يعصي فيه لم يمنع ذلك الترخص لأن السبب هو السفر المباح وقد وجد فثبت حكمه ولم يمنعه وجود معصية كما أن معصيته في الحضر لا تمنع الترخص فيه
فصل : وفي سفر التنزه والتفرج روايتان إحداهما تبيح الترخص وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه سفر مباح فدخل في عموم النصوص المذكورة وقياسا على سفر التجارة والثانية لا يترخص فيه قال أحمد : إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة لأنه إنما شرع إعانة على تحصيل المصلحة ولا مصلحة في هذا والأول أولى
فصل : فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل : لا يباح له الترخص لأنه منهي عن السفر إليها قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ] متفق عليه والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا وكان يزور القبور وقال : [ زوروها تذكركم الآخرة ] وأما قوله عليه السلام : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ] فيحمل على نفي التفضيل لا على التحريم وليست الفضيلة شرطا في إباحة القصر فلا يضر انتفاؤها

فصل : الترخص في السفر الدائم
فصل : والملاح الذي يسير في سفينة وليس له بيت سرى سفينته فيها أهله وتنوره وحاجته لا يباح له الترخص قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الملاح أيقصر ويفطر في السفينة قال : أما إذا كانت السفينة بيته فإنه يتم ويصوم قيل له وكيف تكون بيته قال : لا يكون له بيت غيرها معه فيها أهله وهو فيها مقيم وهذا قول عطاء وقال الشافعي : يقصر ويفطر لعموم النصوص وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ] رواه أبو داود ولأن كون أهله معه لا يمنع الترخص كالجمال
ولنا أنه غير ظاعن عن منزله فلم يبح له الترخص كالمقيم في المدن فأما النصوص فإن المراد بها الظاعن عن منزله وليس هذا كذلك وأما الجمال والمكاري فلهم الترخص وإن سافروا بأهلهم قال أبو داود : سمعت أحمد يقول في المكاري الذي هو دهره في السفر لا بد من أن يقدم فيقيم اليوم قيل فيقيم اليوم واليومين والثلاثة في تهيئة للسفر قال : هذا يقصر وذكر القاضي و أبو الخطاب أنه ليس له القصر كالملاح وهذا غير صحيح لأنه مسافر مشقوق عليه فكان له القصر كغيره ولا يصح قياسه على الملاح فإن الملاح في منزله سفرا وحضرا ومعه مصالحه وتنوره وأهله وهذا لا يوجد في غيره وإن سافر هذا بأهله كان أشق عليه وأبلغ في استحقاق الترخص وقد ذكرنا نص أحمد في الفرق بينهما والنصوص متناولة لهذا بعمومها وليس هو في معنى المخصوص فوجب القول بثبوت حكم النص فيه والله أعلم

مسألة وفصول : اشتراط نية القصر عند أول الصلاة ومن نوى القصر ثم عزم على الإقامة
مسألة : قال : ومن لم ينو القصر في وقت دخوله إلى الصلاة لم يقصر
وجملته أن نية القصر شرط في جوازه ويعتبر وجودها عند أول الصلاة كنية الصلاة وهذا قول الخرقي واختاره القاضي وقال أبو بكر : لا تشترط نيته لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصوم ولأن القصر هو الأصل بدليل خبر عائشة وعمر وابن عباس فلا يحتاج إلى نية كالإتمام في الحضر ووجه الأول أن الإتمام هو الأصل على ما سنذكره في مسألة وللمسافر أن يقصر وله أن يتم وإطلاق النية ينصرف إلى الأصل ولا ينصرف عنه إلا بتعيين ما يصرفه إليه كما لو نوى الصلاة مطلقا ولم ينو إماما ولا مأموما فإنه ينصرف إلى الانفراد إذ هو الأصل والتفريع يقع على هذا القول فلو شك في أثناء صلاته هل نوى القصر في ابتدائها أو لا لزمه إتمامها احتياطا لأن الأصل عدمها فإن ذكر بعد ذلك أنه كان قد نوى القصر لم يجز له القصر لأنه قد لزمه الإتمام فلم يزل ولو نوى الإتمام أو ائتم بمقيم ففسدت الصلاة وأراد إعادتها لزمه الإتمام أيضا لأنها وجبت عليه تامة بتلبيسه بها خلف المقيم ونية الإتمام وهذا قول الشافعي وقال الثوري و أبو حنيفة : إذا فسدت صلاة الإمام عاد المسافر إلى حاله
ولنا أنها وجبت بالشروع فيها تامة فلم يجز له قصرها كما لو لم تفسد
فصل : ومن نوى القصر ثم نوى الإتمام أو نوى ما يلزمه به الإتمام من الإقامة أو قلب نيته إلى سفر معصية أو نوى الرجوع عن سفره ومسافة رجوعه لا يباح فيه القصر ونحو هذا لزمه الإتمام ولزم من خلفه متابعته وبهذا قال الشافعي وقال مالك : لا يجوز له الإتمام لأنه نوى عددا فإذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية
ولنا أن نية صلاة الوقت قد وجدت وهي أربع وإنما أبيح ترك ركعتين رخصة فإذا أسقط نية الترخص صحت الصلاة بنيتهما ولزمه الإتمام ولأن الإتمام الأصل وإنما أبيح تركه بشرط فإذا زال الشرط عاد الأصل إلى حاله
فصل : وإذا قصر المسافر معتقدا لتحريم القصر لم تصح صلاته لأنه فعل ما يعتقد تحريمه فلم تقع مجزئا كمن صلى يعتقد أنه محدث ولأن نية التقرب بالصلاة شرط وهذا يعتقد أنه عاص فلم تحصل نية التقرب

مسألة : الصبح والمغرب لا يقصران
مسألة : قال : والصبح والمغرب لا يقصران وهذا لا خلاف فيه
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح وأن القصر إنما هو في الرباعية ولأن الصبح ركعتان فلو قصرت صارت ركعة وليس في الصلاة ركعة إلا الوتر والمغرب وتر النهار فلو قصر منها ركعة لم تبق وترا وإن قصرت اثنتان صارت ركعة فيكون إجحافا بها وإسقاطا لأكثرها وقد روى علي بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عامر عن عائشة أم المؤمنين قالت : افترض الله الصلاة على نبيكم صلى الله عليه و سلم بمكة ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب فلما هاجر إلى المدينة فأقام بها واتخذها دار هجرة زاد إلى كل ركعتين ركعتين إلا صلاة الغداة لطول القراءة فيها وإلا صلاة الجمعة للخطبة وإلا صلاة المغرب فإنا وتر النهار فافترضها الله على عباده إلا هذه الصلاة فإذا سافر صلى الصلاة التي كان افترضها الله عليه

مسألتان : تخيير المسافر بين الإتمام والقصر
مسألة : قال : وللمسافر أن يتم ويقصر كما له أن يصوم ويفطر
المشهور عن أحمد أن المسافر إن شاء صلى ركعتين وإن شاء أتم وروي عنه أنه توقف وقال : أنا أحب العافية من هذه المسألة وممن روي عنه الإتمام في السفر عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الأوزاعي و الشافعي وهو المشهور عن مالك وقال حماد بن أبي سلمان : ليس له الإتمام في السفر وهو قول الثوري و أبو حنيفة وأوجب حماد الإعادة على من أتم وقال أصحاب الرأي : إن كان جلس بعد الركعتين قدر التشهد فصلاته صحيحة وإلا لم تصح وقال عمر بن عبد العزيز الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرهما وروي عن ابن عباس أنه قال : من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين واحتجوا بأن صلاة السفر ركعتان بدليل قول عمر وعائشة وابن عباس على ما ذكرناه وروي عن صفوان بن محرز أنه سأل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتان فمن خالف السنة كفر ولأن الركعتين الأخريين يجوز تركهما إلى غير بدل فلم تجز زيادتهما على الركعتين المفروضتين كما لو زادهما على صلاة الفجر
ولنا قول الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص و [ قال يعلي بن أمية قلت لعمر بن الخطاب : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) ] رواه مسلم وهذا يدل على أنه رخصة وليس بعزيمة وأنها مقصورة وروى الأسود [ عن عائشة أنها قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال : ( أحسنت ) ] رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وهذا صريح في الحكم ولأنه لو ائتم بمقيم صلى أربعا وصحت الصلاة والصلاة لا تزيد بالائتمام قال ابن عبد البر : وفي إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة أن يلزمه أربع دليل واضح على أن القصر رخصة إذ لو كان فرضه ركعتين لم يلزمه أربع بحال وروى بإسناده عن عطاء عن عائشة أن [ رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يتم في السفر ويقصر ] وعن أنس قال : [ كنا - أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم - نسافر فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد ] ولأن ذلك إجماع الصحابة رحمة الله عليهم بدليل أن فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس وكانت عائشة تتم الصلاة رواه مسلم و البخاري وأتمها عثمان وابن مسعود وسعد قال عطاء : كانت عائشة وسعد يوفيان الصلاة في السفر ويصومان وروى الأثرم بإسناده عن سعد أنه أقام بمعان شهرين فكان يصلي ركعتين ويصلي أربعا وعن المسور بن مخرمة قال : أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ويتمها وسأل ابن عباس رجل فقال : كنت أتم الصلاة في السفر فلم يأمره بالإعادة فأما قول عائشة فرضت الصلاة ركعتين فإنما أرادت أن ابتداء فرضها كان ركعتين ثم أتمت يعد الهجرة فصارت أربعا وقد صرحت بذلك حين شرحت ولذلك كانت تتم الصلاة ولو اعتقدت ما أراد هؤلاء لم تتم وقول ابن عباس مثل قولها ولا يبعد أن يكون أخذه منها فإنه لم يكن في زمن فرض الصلاة في سن من يعقل الأحكام ويعرف حقائقها ولعله لم يكن موجودا أو كان فرضها في السنة التي ولد فيها فرضت بمكة ليلة الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين وكان ابن عباس حين مات النبي صلى الله عليه و سلم ابن ثلاث عشرة سنة وفي حديثه ما اتفق على تركه وهو قوله والخوف ركعة والظاهر أنه أراد ما أرادت عائشة من ابتداء الفرض فلذلك لم يأمر من أتم بالإعادة وقو عمر تمام غير قصر أراد بها تمام في فضلها غير ناقصة الفضيلة ولم يرد أنها غير مقصورة الركعات لأنه خلاف ما دلت عليه الآية والإجماع إذ الخلاف إنما هو في القصر والإتمام وقد ثبت بروايته عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث يعلي بن أمية أنها مقصورة ويشبه هذا ما رواه مجاهد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني وصاحب لي كنا في سفر وكان صاحبي يقصر وأنا أتم فقال له ابن عباس : أنت كنت تقصر وصاحبك يتم رواه الأثرم أراد أن فعله أفضل من فعلك ثم لو ثبت أن أصل الفرض ركعتان لم يمتنع جواز الزيادة عليها كما لو ائتم بمقيم ويخالف زيادة ركعتين على صلاة الفجر فإنه لا يجوز زيادتهما بحال
مسألة : قال : والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبيد الله رحمه الله
أما القصر فهو أفضل من الإتمام في قول جمهور العلماء وقد كره جماعة منهم الإتمام قال أحمد : ما يعجبني وقال ابن عباس للذي قال له كنت أتم الصلاة وصاحبي يقصر أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم وشدد ابن عمر على من أتم الصلاة فروي أن رجلا سأله عن صلاة السفر فقال : ركعتان فمن خالف السنة كفر و [ قال بشر بن حرب : سألت ابن عمر كيف صلاة السفر يا أبا عبد الرحمن قال : أما أنتم تتبعون سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم أخبرتكم وأما لا تتبعون سنة نبيكم فلا أخبركم ؟ قلنا فخير ما اتبع سنة نبينا يا أبا عبد الرحمن قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتى يرجع إليها ] رواه سعيد قال ثنا حماد ابن زيد عن بشر ولما [ بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى أربعا استرجع وقال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق ووددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان ] وهذا قول مالك ولا أعلم فيه مخالفا من الأئمة إلا الشافعي في أحد قوليه قال : الإتمام أفضل لأنه أكثر عملا وعددا وهو الأصل فكان أفضل كغسل الرجلين
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يداوم على القصر بدليل ما ذكرنا من الأخبار و [ قال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه و سلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى ] متفق عليه وعن ابن مسعود وعمران بن حصين مثل ذلك وروى سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خياركم من قصر في السفر وأفطر ] رواه الأثرم مع ما ذكرنا من أقوال الصحابة فيما مضى ولأنه إذا قصر أدى الفرض بالإجماع وإذا أتم اختلف فيه وأما الغسل فلا نسلم له أنه أفضل من المسح والفطر نذكره في بابه

مسألة وفصل : الجمع بين الصلاتين في السفر
فصل : واختلف الرواية في الجمع فروي أنه أفضل من التفريق لأنه أكثر تخفيفا وسهولة فكان أفضل كالقصر وعنه التفريق أفضل لأنه خروج فكان أفضل كالقصر ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم المداومة عليه ولو كان أفضل لأدامه كالقصر
مسألة : قال : وإذا دخل وقت الظهر على مسافر وهو يريد أن يرتحل صلاها وارتحل فإذا دخل وقت العصر صلاها وكذلك المغرب والعشاء الآخرة وإن كان سائرا فأحب أن يؤخر الأولى إلى وقت الثانية فجائز
جملة ذلك أن الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم وممن روي عنه ذلك سعيد بن زيد وسعد وأسامة ومعاذ بن جبل وأبو موسى وابن عباس وابن عمر وبه قال طاوس و مجاهد و عكرمة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحق و أبو ثور و ابن المنذر
وروي عن سلمان بن أخي زريق بن حكيم قال : قال مر بنا نائلة ربيعة وأبو الزناد ومحمد بن المنكدر وصفوان بن سليم وأشياخ من أهل المدينة فأتيناهم في منزلهم وقد أخذوا في الرحيل فصلوا الظهر والعصر جميعا حين زالت الشمس ثم أتينا المسجد فإذا زريق بن حكيم يصلي للناس الظهر وقال الحسن و ابن سيرين وأصحاب الرأي لا يجوز الجمع إلا في يوم عرفة بعرفة وليلة مزدلفة بها وهذا رواية ابن القاسم عن مالك واختياره واحتجوا بأن المواقيت تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد
ولنا ما روى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جدبه السير جمع بين المغرب والعشاء ويقول [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا جد به السير جمع بينهما ] وعن أنس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ] متفق عليهما ولـ مسلم [ عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق ] وروى الجمع معاذ بن جبل وابن عباس وسنذكر أحاديثهما فيما بعد وقولهم لا نترك الأخبار المتواترة قلنا لا نتركها وإنما نخصصها وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بالإجماع فتخصيص السنة بالسنة أولى وهذا ظاهر جدا فإن قيل معنى الجمع في الأخبار أن يصلي الأولى في آخر وقتها والأخرى في أول وقتها قلنا هذا فاسد لوجهين أحدهما أنه قد جاء الخبر صريحا في أنه كان يجمعهما في وقت إحداهما على ما سنذكره ولقول أنس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق فيبطل التأويل الثاني أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها ومن تدبر هذا وجده كما وصفنا ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب والعشاء والصبح ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك والعمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه أولى من هذا التكليف الذي يصان كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم من حمله عليه إذا ثبت هذا فمفهوم قول الخرقي أن الجمع إنما يجوز إذا كان سائرا في وقت الأولى فيؤخر إلى وقت الثانية ثم يجمعه بينهما ورواه الأثرم عن أحمد وروي نحو هذا القول عن سعد وابن عمر وعكرمة أخذ بالخبرين اللذين ذكرناهما وروي عن أحمد جواز تقديم الصلاة الثانية إلى الأولى وهذا هو الصحيح وعليه أكثر الأصحاب قال القاضي : الأول هو الفضيلة والاستحباب وإن أحب أن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى منها جاز نازلا كان أو سائرا أو قيما في بلد إقامة لا تمنع القصر وهذا قول عطاء وجمهور علماء المدينة و الشافعي و إسحق و ابن المنذر لما روى معاذ بن جبل قال : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فكان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل قبل زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : هذا حديث حسن وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم في الظهر والعصر مثل ذلك وقيل إنه متفق عليه وهذا صريح في محل النزاع وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذا أخبره [ أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال : فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا ] قال ابن عبد البر : هذا حديث صحيح ثابت الإسناد وقال أهل السير : أن غزوة تبوك كانت في سنة تسع وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال : لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جد به السير لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جميعا ثم ينصرف إلى خبائه وروى هذا الحديث مسلم في صحيحه قال : [ فكان يصلي الظهر والعصر جميعا ] والأخذ بهذا الحديث متعين لثبوته وكونه صريحا في الحكم ولا معارض له ولأن الجمع رخصة من رخص السفر فلم يختص بحالة السير كالقصر والمسح ولكن الأفضل التأخير لأنه أخذ بالاحتياط وخروج من خلاف القائلين بالجمع وعمل بالأحاديث كلها

فصل : مدى السفر المبيح للجمع
فصل : ولا يجوز الجمع إلا في سفر يبيح القصر وقال مالك و الشافعي في أحد قوليه يجوز في السفر القصر لأن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة وهو سفر قصير
ولنا أنه رخصة تثبت لدفع المشقة في السفر فاختصت بالطويل كالقصير والمسح ثلاثا ولأنه تأخير للعبادة عن وقتها فأشبه الفطر ولأن دليل الجمع فعل النبي صلى الله عليه و سلم والفعل لا صيغة له وإنما هو قضية في عين فلا يثبت حكمها إلا في مثلها ولم ينقل أنه جمع إلا في سفر طويل

فصول : الجمع لأجل المطر والريح والوحل
فصل : ويجوز الجمع لأجل المطر بين المغرب والعشاء ويروى ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وهو قول الفقهاء السبعة مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحق وروي عن مروان و عمر بن عبد العزيز ولم يجوزه أصحاب الرأي
ولنا أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال : إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء رواه الأثرم وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال نافع : إن عبد الله بن عمر كان يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء وقال هشام بن عروة : رأيت أبان بن عثمان يجمع بين الصلاتين في الليلة المطيرة المغرب والعشاء فيصليهما معه عروة بن الزبير وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن لا ينكرونه ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعا رواه الأثرم
فصل : فأما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز قال الأثرم : قيل لـ أبي عبد الله الجمع بين الظهر والعصر في المطر قال : لا ما سمعت وهذا اختيار أبي بكر و ابن حامد وقول مالك وقال أبو الحسن التميمي : فيه قولان أحدهما أنه لا بأس به وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لما روى يحيى بن واضح عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر ] ولأنه معنى أباح الجمع فأباحه بين الظهر والعصر كالسفر
ولنا أن مستند الجمع ما ذكرناه من قول أبي سلمة والإجماع ولم يرد إلا في المغرب والعشاء وحديثهم غير صحيح فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن وقول أحمد ما سمعت يدل على أنه ليس بشيء ولا يصح القياس على المغرب والعشاء لما فيهما من المشقة لأجل الظلمة والمضرة ولا القياس على السفر لأن مشقته لأجل السير وفوات الرفقة وهو غير موجود ها هنا
فصل : والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه وأما الطل والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب فلا يبيح والثلج كالمطر في ذلك لأنه في معناه وكذلك البرد
فصل : فأما الوحل بمجرده فقال القاضي : قال أصحابنا هو عذر لأن المشقة تلحق بذلك في النعال والثياب كما تلحق بالمطر وهو قول مالك وذكر أبو الخطاب فيه وجها ثانيا : أنه لا يبيح وهو مذهب الشافعي و أبي ثور لأن مشقته دون مشقة المطر فإن المطر يبل النعال والثياب والوحل لا يبلها فلم يصح قياسه عليه والأول أصح لأن الوحل يلوث الثياب والنعال ويتعرض الإنسان للزلق فيتأذى نفسه وثيابه وذلك أعظم من البلل وقد ساوى المطر في العذر في ترك الجمعة والجماعة فدل على تساويهما في المشقة المرعية في الحكم
فصل : فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ففيها وجهان أحدهما يبيح الجمع قال الآمدي وهو أصح وهو قول عمر بن عبد العزيز لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة بدليل ما روى محمد بن الصباح حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الليلة الباردة ذات الريح صلوا في رحالكم ] رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح والثاني لا يبيحه لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر فلا يصح قياسه عليه ولأن مشقتها من غير جنس مشقة المطر ولا ضابط لذلك يجتمعان فيه فلم يصح إلحاقه به
فصل : هل يجوز الجمع لمنفرد أو من كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع وصول المطر إليه أو من كان مقامه في المسجد على وجهين أحدهما الجواز لأن العذر إذا وجد استوى فيه حال وجود المشقة وعدمها كالسفر ولأن الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسلم وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق من لا يحتاج إليهما ولأنه قد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شيء ] والثاني المنع لأن الجمع لأجل المشقة فيختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تحلقه كالرخصة في التخلف عن الجمعة والجماعة يختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تحلقه كمن في الجامع والقريب منه

فصلان : الجمع بسبب المرض والحدث الدائم
فصل : ويجوز الجمع لأجل المرض وهو قول عطاء و مالك وقال أصحاب الرأي و الشافعي : لا يجوز فإن أخبار التوقيت ثابتة فلا تترك بأمر محتمل
ولنا ما روى ابن عباس قال : [ جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ] وفي رواية [ من غير خوف ولا سفر ] رواهما مسلم وقد أجمعتا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر ثبت أنه كان لمرض وقد روي عن أبي عبد الله أنه قال في حديث ابن عباس هذا عندي رخصة للمريض والمرضع وقد ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر والجمع بينهما بغسل واحد ] فأباح لهما الجمع لأجل الاستحاضة وأخبار المواقيت مخصوصة بالصور التي أجمعنا على جواز الجمع فيها فيخص منها محل النزاع بما ذكرنا
فصل : والمريض المبيح للجمع هو ما يلحقه بتأدية كل صلاة في وقتها مشقة وضعف قال الأثرم : قيل لـ أبي عبد الله المريض يجمع بين الصلاتين فقال : إني لأرجو له ذلك إذا ضعف وكان لا يقدر إلا على ذلك وكذلك يجوز الجمع للمستحاضة ولمن به سلس البول ومن في معناهما لما روينا من الحديث والله أعلم

فصلان : الجمع بسبب المشقة وأيهما أفضل جمع التقديم أم التأخير ؟
فصل : والمريض مخير في التقديم والتأخير كالمسافر فإن استوى عنده الأمران فالتأخير أولى لما ذكرنا في المسافر فأما الجمع للمطر فإنما يجمع في وقت الأولى لأن السلف إنما كانوا يجمعون في وقت الأولى ولأن تأخير الأولى إلى وقت الثانية يفضي إلى لزوم المشقة والخروج في الظلمة أو طول الانتظار في المسجد إلى دخول وقت العشاء ولأن العادة اجتماع الناس للمغرب فإذا حبسهم في المسجد ليجتمع بين الصلاتين كان أشق من أن يصلي كل صلاة في وقتها وربما يزول العذر قبل خروج وقت الأولى فيبطل الجمع ويمتنع وإن اختاروا تأخير الجمع جاز والمستحب أن يؤخر الأولى عن أول وقتها شيئا قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن الجمع بين الصلاتين في المطر قال : نعم يجمع بينهما إذا اختلط الظلام قبل أن يغيب الشفق كذا صنع ابن عمر قال الأثرم : وحدثنا أبو أسامة عن عبيد الله عن نافع قال : كان أمراؤنا إذا كانت الليلة المطيرة أبطؤا بالمغرب وعجلوا العشاء قبل أن يغيب الشفق فكان ابن عمر يصلي معهم ولا يرى بذلك بأسا قال عبيد الله : ورأيت القاسم و سالما يصليان معهم في مثل تلك الليلة قيل لـ أبي عبد الله فكان سنة الجمع بين الصلاتين في المطر عندك أن يجمع قبل أن يغيب الشفق وفي السفر يؤخر حتى يغيب الشفق قال : نعم
فصل : ولا يجوز الجمع لغير من ذكرنا وقال ابن شبرمة : يجوز إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة لحديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر فقيل لابن عباس لم فعل ذلك قال : أراد أن لا يحرج أمته ] ولنا عموم أخبار التوقيت وحديث ابن عباس حملناه على حالة المرض ويجوز أن يتناول من عليه مشقة كالمرضع والشيخ الضعيف وأشباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع ويحتمل أنه صلى الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال عمر : وقلت لجابر أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال : وأنا أظن ذلك

فصلان : نية الجمع والموالاة بين صلاتي الجمع
فصل : قال ومن شرط جواز الجمع نية الجمع في أحد الوجهين والآخر لا يشترط ذلك وهو قول أبي بكر والتفريع على اشتراطه وموضع النية يختلف باختلاف الجمع فإن جمع في وقت الأولى فموضعه عند الإحرام بالأولى في أحد الوجهين لأنها نية يفتقر إليها فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر والثاني موضعها من أول الصلاة الأولى إلى سلامها أي ذلك نوى فيه أجزأه لأن موضع الجمع حين الفراغ من آخر الأولى إلى الشروع في الثانية فإذا لم تتأخر النية عنه أجزأه ذلك وإن جمع في وقت الثانية فموضع النية في وقت الأولى من أوله إلى أن يبقى منه قدر ما يصليها لأنه متى أخرها عن ذلك بغير نية صارت قضاء لا جمعا ويحتمل أن يكون وقت النية إلى أن يبقى منه قدر ما يدركها به وهو ركعة أو تكبيرة الإحرام على ما قدمنا والذي ذكره أصحابنا ألوى فإن تأخيرها من القدر الذي يضيق عن فعلها حرام
فصل : فإن جمع في وقت الأولى اعتبرت المواصلة بينهما وهو أن لا يفرق بينهما إلا تفريقا يسيرا فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع لأن معنى الجمع المتابعة أو المقاربة ولم تكن المتابعة فلم يبق إلا المقاربة فإن فرق بينهما تفريقا كثيرا بطل الجمع سواء فرق بينهما لنوم أو سهو أو شغل أو قصد أو غير ذلك لأن الشرط لا يثبت المشروط بدونه وإن كان يسيرا لم يمنع لأنه لا يمكن التحرز منه والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة لا حد له سوى ذلك وقدره بعض أصحابنا بقدر الإقامة والوضوء والصحيح أنه لا حد له لأن ما لم يرد الشرع بتقديره لا سبيل إلى تقديره والمرجع فيه إلى العرف كالإحراز والقبض ومتى احتاج إلى الوضوء والتيمم فعله إذا لم يطل الفصل وإن تكلم بكلام يسير لم يبطل الجمع وإن صلى بينهما السنة بطل الجمع لأنه فرق بينهما بصلاة فبطل الجمع كما لو صلى بينهما غيرها وعنه لا يبطل لأنه تفريق يسير أشبه ما لو توضأ وإن جمع في وقت الثانية جاز التفريق لأنه متى صلى الأولى فالثانية في وقتها لا تخرج بتأخيرها عن كونها مؤداة وفيه وجه آخر أن المتابعة مشترطة لأن الجمع حقيقته ضم الشيء إلى الشيء ولا يحصل مع التفريق والأول أصح لأن الأولى بعد وقوعها صحيحة لا تبطل بشيء يوجد بعدها والثانية لا تقع إلا في وقتها

فصول : اعتبار بقاء العذر المبيح للجمع وزواله بعد أداء الصلاتين وتقديم سنة العشاء والوتر
فصل : ومتى جمع في وقت الأولى اعتبر وجود العذر المبيح حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية فمتى زال العذر في أحد هذه الثلاثة لم يبح الجمع وإن زال المطر في أثناء الأولى ثم عاد قبل الفراغ منها أو انقطع بعد الإحرام بالأولى وفي وقت الجمع وهو آخر الأولى وأول الثانية فلم يضر عدمه في غير ذلك فأما المسافر إذا نوى الإقامة في أثناء الصلاة الأولى انقطع الجمع والقصر ولزمه الإتمام ولو عاد فنوى السفر لم يبح له الترخص حتى يفارق البلد الذي هو فيه وإن نوى الإقامة بعد الإحرام بالثانية أو دخلت به السفينة بلده في أثنائها احتمل أن يتمها ويصح قياسا على انقطاع المطر قال بعض أصحاب الشافعي : هذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي ويحتمل أن ينقلب نفلا ويبطل الجمع لأنه أحد رخص السفر فبطل بذلك كالقصر والمسح ولأنه زال شرطها في أثنائها أشبه بسائر شروطها ويفارق انقطاع المطر من وجهين أحدهما أنه لا يتحقق انقطاعه لاحتمال عوده في أثناء الصلاة والثاني أن يخلفه عذر مبيح وهو الوحل بخلاف مسألتنا وكذلك الحكم في المريض يبرأ ويزول عذره في أثناء الصلاة الثانية فأما إن جمع بينهما في وقت الثانية اعتبر بقاء العذر إلى حين دخول وقتها فإن زال في وقت الأولى كالمريض يبرأ والمسافر يقدم والمطر ينقطع لم يبح الجمع لزوال سببه وإن استمر إلى حين دخول وقت الثانية جمع وإن زال العذر لأنهما صارتا واجبتين في ذمته ولا بد له من فعلهما
فصل : وإن أتم الصلاتين في وقت الأولى ثم زال العذر بعد فراغه منهما قبل دخول وقت الثانية أجزأته ولم تلزمه الثانية في وقتها لأن الصلاة وقعت صحيحة مجزية عن ما في ذمته وبرئت ذمته منها فلم تشتغل الذمة بها بعد ذلك ولأنه أدى فرضه حال العذر فلم يبطل بزواله بعد ذلك كالمتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة
فصل : وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة الثانية منهما ويوتر قبل دخول وقت الثانية لأن سنتها تابعة لها فيتبعها في فعلها ووقتها والوتر وقته ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح وقد صلى العشاء فدخل وقته

فصل : عدم اشتراط اتحاد الإمام ولا اتحاد المأموم في صلاتي الجمع
فصل : وإذا صلى إحدى صلاتي الجمع مع إمام وصلى الثانية مع إمام آخر وصلى معه مأموم في إحدى الصلاتين وصلى معه في الثانية مأموم ثان صح وقال ابن عقيل : لا يصح لأن كل واحد من الإمام والمأموم أحد من يتم به الجمع فلم يجز اختلافه وإذا اشترط دوامه كالعذر اشترط دوامه في الصلاتين
ولنا أن لكل صلاة حكم نفسها وهي منفردة بنيتها فلم يشترط اتحاد الإمام ولا المأموم كغير المجموعتين وقوله أن الإمام والمأموم أحد من يتم به الجمع لا يصح فإنه يجوز للمريض والمسافر الجمع منفردا وفي المطر في أحد الوجهين وإن قلنا أن الجمع في المطر لا يصح إلا في الجماعة فالذي يتم به الجمع الجماعة لا عين الإمام والمأموم ولم تختل الجماعة وعلى ما ذكرناه لو ائتم المأموم بإمام لا ينوي الجمع فنواه المأموم فلما سلم الإمام صلى المأموم الثانية جاز لأننا أبحنا له مفارقة إمامه في الصلاة الواحدة لعذر ففي الصلاتين أولى ولأن نيتهما لم تختلف في الصلاة الأولى وإنما نوى أن يفعل فعلا في غيرها فأشبه ما لو نوى المسافر في الصلاة الأولى إتمام الثانية وهكذا لو صلى المسافر بمقيمين فنوى الجمع فلما صلى بهم الأولى قام فصلى الثانية جاز على هذا وكذلك لو صلى أحد صلاتي الجمع منفردا ثم حضرت جماعة يصلون الثانية فأمهم فيها أو صلى معهم مأموما جاز وقول ابن عقيل يقتضي أن لا يجوز شيء من ذلك

مسألة وفصل : قضاء صلاة السفر
مسألة : قال : وإذا نسي صلاة حضر فذكرها في السفر أو صلاة سفر فذكرها في الحضر صلى في الحالتين صلاة حضر
نص أحمد رحمه الله على هاتين المسألتين في رواية أبي داود و الأثرم أما المقيم إذا ذكرها في السفر فذاك بالإجماع يصلي أربعا وإذا نسيها في السفر فذكرها في الحضر صلى أربعا بالاحتياط فإنما وجبت عليه الساعة فذهب أبو عبد الله إلى ظاهر الحديث [ فليصلها إذا ذكرها ] أما إذا نسي صلاة الحضر فذكرها في السفر فعليه الإتمام إجماعا ذكره الإمام أحمد و ابن المنذر لأن الصلاة تعين عليه فعلها أربعا فلم يجز له النقصان من عددها كما لو سافر ولأنه إنما يقضي ما فاته وقد فاته أربع وأما أن نسي صلاة السفر فذكرها في الحضر فقال أحمد : عليه الإتمام احتياطا وبه قال الأوزاعي و داود و الشافعي في أحد قوليه وقال مالك و الثوري وأصحاب الرأي يصليها صلاة سفر لأنه إنما يقضي ما فاته ولم يفته إلا ركعتان
ولنا أن القصر رخصة من رخص السفر فيبطل بزواله كالمسح ثلاثا ولأنها وجبت عليه في الحضر بدليل قوله عليه السلام [ فليصلها إذا ذكرها ] ولأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر فذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب فيها حكمه كما لو دخلت به السفينة البلد في أثناء الصلة وكالمسح وقياسهم ينتقض بالجمعة إذا فاتت وبالمتيمم إذا فاتته الصلاة فقضاها عند وجود الماء
فصل : وإن نسيها في سفر وذكرها فيه قضاها مقصورة لأنها وجبت في السفر وفعلت فيه أشبه ما لو صلاها في وقتها وإن ذكرها في سفر آخر فكذلك لما ذكرنا وسواء ذكرها في الحضر أو لم يذكرها ويحتمل أنه ذكرها في الحضر لزمته تامة لأنه وجب عليه فعلها تامة بذكره إياها فبقيت في ذمته والأول أولى لأنه وجوبها وفعلها في السفر فكانت صلاة سفر كما لو لم يذكرها في الحضر وذكر بعض أصحابنا أن من شرط القصر كون الصلاة مؤداة لأنها صلاة مقصورة فاشترطها الوقت كالجمعة هذا فاسد فإن هذا اشتراط بالرأي والتحكم لم يرد الشرع به والقياس على الجمعة غير صحيح فإن الجمعة لا تقضى ويشترط لها الخطبتان والعدد والاستيطان فجاز اشتراط الوقت لها بخلاف صلاة السفر

فصل : صلاة من سافر بعد دخول الوقت
فصل : وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة فقال ابن عقيل فيه روايتان إحداهما قصرها قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها وهذا قول مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي لأنه سافر قبل خروج وقتها أشبه ما لو سافر قبل وجوبها والثانية ليس له قصرها لأنها وجبت عليه في الحضر فلزمه إتمامها كما لو سافر بعد خروج وقتها أو بعد إحرامه بها وفارق ما قبل الوقت لأن الصلاة لم تجب عليه

مسألة وفصلان : صلاة المسافر مع المقيم ومن ائتم خلف المقيم ولو ظنا - صلاة الخوف
مسألة : قال : وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر ائتم
وجملة ذلك أن المسافر متى ائتم بمقيم لزمه الائتمام سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة أو أقل قال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن المسافر يدخل في تشهد المقيم قال : يصلي أربعا وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين وبه قال الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال إسحق : للمسافر القصر لأنها صلاة يجوز فعلها ركعتين فلم تزد بالائتمام كالفجر وقال طاوس و الشعبي و تميم بن حذلم في المسافر يدرك من صلاة المقيم ركعتين يجزيان وقال الحسن و النخعي و الزهري و قتادة و مالك إن أدرك ركعة أتم وإن أدرك دونها قصر لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ] ولأن من أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة ومن أدرك من أقل من ذلك لا يلزمه فرضها
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قيل له ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعا إذا ائتم بمقيم فقال : تلك السنة رواه أحمد في المسند وقوله : السنة ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنه فعل من سمينا من الصحابة ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا قال نافع : كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلاها أربعا وإذا صلى وحده صلاها ركعتين رواه مسلم ولأن هذه صلاة مردودة من أربع إلى ركعتين فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة وما ذكره إسحق لا يصح عندنا فإنه لا تصح له صلاة الفجر خلف من يصلي الرباعية وإدراك الجمعة يخالف ما نحن فيه فإنه لو أدرك ركعة من الجمعة رجع إلى ركعتين وهذا بخلافه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ] ومفارقة إمامه اختلاف عليه فلم يجز مع إمكان متابعته وإذا أحرم المسافرون خلف مسافر فأحدث واستخلف مسافرا آخر فلهم القصر لأنهم لم يأتموا بمقيم وإن استخلف مقيما لزمهم الإتمام لأنهم ائتموا بمقيم وللإمام الذي أحدث أن يصلي صلاة المسافر لأنه لم يأتم بمقيم ولو صلى المسافرون خلف مقيم فأحدث واستخلف مسافرا أو مقيما لأنهم ائتموا بمقيم فإن استخلف مسافرا لم يكن معهم في الصلاة فله أن يصلي صلاة السفر لأنه لم يأتم بمقيم
فصل : وإذا أحرم المسافر خلف مقيم أو من يغلب على ظنه أنه مقيم أو من يشك هل هو مقيم أو مسافر لزم الإتمام وإن قصر إمامه لأن الأصل وجوب الصلاة تامة فليس له نية قصرها مع الشك في وجوب إتمامها ويلزمه إتمامها اعتبارا بالنية وهذا مذهب الشافعي وإن غلب على ظنه أن الإمام مسافر لرؤية حلية المسافرين عليه وآثار السفر فله أن ينوي القصر فإن قصر إمامه قصر معه وإن أتم لزمه متابعته وإن نوى الإتمام لزمه الإتمام سواء قصر إمامه أو أتم اعتبارا بالنية وإن نوى إمامه فأحدث إمامه قبل علمه بحاله فله القصر لأن الظاهر أن إمامه مسافر لوجود دليله وقد أبيحت له نية القصر بناء على هذا الظاهر ويحتمل أن يلزمه الإتمام احتياطا
فصل : إذا صلى المسافر صلاة الخوف بمسافرين ففرقهم فرقتين فأحدث قبل مفارقة الطائفة الأولى واستخلف مقيما لزم الطائفتين الإتمام لوجود الإتمام بمقيم وإن كان ذلك بعد مفارقة الأولى أتمت الثانية وحدها لاختصاصها بالائتمام بالمقيم وإن كان الإمام مقيما فاستخلف مسافرا ممن كان معه في الصلاة فعلى الجميع الإتمام لأن المستخلف قد لزمه الإتمام باقتدائه بالمقيم فصار كالمقيم وإن لم يكن دخل معه في الصلاة وكان استخلافه قبل مفارقة الأولى فعليها الإتمام لائتمامها بمقيم ويقصر الإمام والطائفة الثانية وإن استخلف بعد دخول الثانية معه فعلى الجميع الإتمام وللمستخلف القصر وحده لأنه لم يأتم بمقيم

مسألة وفصلان : وجوب الائتمام على المقيم إذا صلى خلف المسافر
مسألة : قال : وإذا صلى مسافر ومقيم خلف مسافر أتم المقيم إذا سلم إمامه
أجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتم بالمسافر وسلم المسافر من ركعتين أن على المقيم إتمام الصلاة وقد روي عن [ عمران بن حصين قال : شهدت الفتح مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد صلوا أربعا فأنا سفر ] رواه أبو داود ولأن الصلاة واجبة عليه أربعا فلم يكن له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر
فصل : ويستحب للإمام إذا صلى بمقيمين أن يقول لهم عقيب تسليمه أتموا فأنا سفر لما ذكرنا من الحديث ولئلا يشتبه على الجاهل عدد ركعات الصلاة فيظن أن الرباعية ركعتان وقد روى الأثرم عن الزهري أن عثمان إنما أتم الصلاة لأن الأعراب حجوا فأراد أن يعرفهم أن الصلاة أربع
فصل : وإذا أم المسافر المقيمين فأتم بهم الصلاة فصلاتهم تامة صحيحة وبهذا قال الشافعي و إسحق وقال أبو حنيفة و الثوري تفسد صلاة المقيمين وتصح صلاة الإمام والمسافرين معه وعن أحمد نحو ذلك قال القاضي : لأن الركعتين الأخريين نفل من الإمام فلا يؤم بها مفترضين
ولنا أن المسافر يلزمه الإتمام بنيته فيكون الجمع واجبا ولو كانت نفلا فإتمام المفترض بالمتنفل جائز على ما مضى

فصل : حكم الإمام المسافر إذا أتم الصلاة سهوا
فصل : وإن أم المسافر مسافرين فنسي فصلاها تامة صحت صلاته وصلاتهم ولا يلزم لذلك سجود سهو لأنها زيادة لا يبطل الصلاة عمدها فلا يجب السجود لسهوها كزيادات الأقوال مثل القراءة في السجود والقعود وهل يشرع السجود لها ؟ يخرج على الروايتين في الزيادات المذكورة واختار ابن عقيل أنه لا يحتاج إلى سجود لأنه أتى بالأصل فلم يحتج إلى جبران ووجه مشروعيته أن هذه زيادة نقصت الفضيلة وأخلت بالكمال فأشبهت القراءة في غير محلها وقراءة السورة في الأخريين وإذا ذكر الإمام بعد قيامه إلى الثالثة لم يلزمه الإتمام وله أن يجلس فإن الموجب للإتمام نيته أو الائتمام بمقيم ولم يوجد واحد منهما وإن علم المأموم أن قيامه لسهو لم يلزمه متابعته وسبحوا به لأنه سهو فلا يجب إتباعه فيه ولهم مفارقته إن لم يرجع كما لو قام إلى ثالثة في الفجر وإن تابعوه لم تبطل صلاة لإمام فلا تبطل صلاة المأموم بمتابعته فيها كزيادات الأقوال ولأنهم لو فارقوا الإمام وأتموا صحت صلاتهم فمع موافقته أولى وقال القاضي : تفسد صلاتهم لأنهم زادوا ركعتين عمدا وإن لم يعلموا هل قام سهوا أو عمدا لزمهم متابعته ولم يكن لهم مفارقته لأن حكم وجوب المتابعة ثابت فلا يزول بالشك

مسألة وفصلان : مدة الإقامة التي تمنع القصر
مسألة : قال : وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم
المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي تلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة رواه الأثرم و المروذي وغيرهما وعنه أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإن نوى دونها قصر وهذا قول مالك و الشافعي و أبي ثور لأن الثلاث حد القلة بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يقيم المهاجر بعد قضاء منسكه ثلاثا ] ولما أخلى عمر رضي الله عنه أهل الذمة ضرب لمن قدم منهم تاجرا ثلاثا فدل على أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة ويروى هذا القول عن عثمان رضي الله عنه وقال الثوري وأصحاب الرأي : إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم وإن نوى دون ذلك قصر وروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة ولا يعرف لهم مخالف وروي عن سعيد بن المسيب هذا القول وروى عنه قتادة قال : إذا أقمت أربعا فصل أربعا وروي عن علي رضي الله عنه قال : يتم الصلاة الذي يقيم عشرا ويقصر الصلاة الذي يقول أخرج اليوم أخرج غدا شهرا وهذا قول محمد بن علي وابنه و الحسن بن صالح وعن ابن عباس قال : إذا قدمت بلدة فلم تدر متى تخرج فأتم الصلاة وإن قلت أخرج اليوم أخرج غدا فأقمت عشرا فأتم الصلاة وعنه أنه قال : [ إن النبي صلى الله عليه و سلم أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين ] قال ابن عباس : فنحن إذا أقمنا تسع عشرة نصلي ركعتين وإذا زدنا على ذلك أتممنا رواه البخاري وقال الحسن صل ركعتين ركعتين إلى أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم وقالت عائشة : إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا
ولنا ما روى أنس قال : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة ] متفق عليه وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه و سلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها ] قال : فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه و سلم قصر وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم قال الأثرم : وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر فقال : هو كلام ليس يفقهه كل أحد وقوله [ أقام النبي صلى الله عليه و سلم عشرا يقصر الصلاة ] فقال : [ قدم النبي صلى الله عليه و سلم لصبح رابعة وخامسة وسادسة وسابعة ثم قال : وثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة ] فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه و سلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له عندي غير هذا فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر فهذا يدل على أن من أقام إحدى وعشرين صلاة يقصر وهي تزيد على أربعة أيام وهذا صريح في خلاف من حده أربعة أيام وقول أصحاب الرأي لم نعرف لهم مخالفا في الصحابة غير صحيح فقد ذكرنا الخلاف فيه عنهم وذكرنا عن ابن عباس نفسه خلاف ما حكوه عنه رواه سعيد في سننه ولم أجد ما حكوه عنه فيه وحديث ابن عباس في إقامة تسع عشرة وجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجمع الإقامة قال أحمد : [ أقام النبي صلى الله عليه و سلم بمكة ثماني عشرة زمن الفتح ] لأنه أراد حنينا ولم يكن تم إجماع المقام وهذه إقامته التي رواها ابن عباس والله أعلم
فصل : ومن قصد بلد بعيدة فوصله غير عازم على الإقامة به مدة ينقطع فيها حكم سفره فله القصر فيه قال أحمد في من دخل مكة لم يجمع على إقامة تزيد على إقامة النبي صلى الله عليه و سلم بها وهو أن يقدم رابع ذي الحجة فله القصر وذلك لأن [ النبي صلى الله عليه و سلم كان في أسفاره يقصر حتى يرجع ] وحين قدم مكة وأقام بها ما أقام كان يقصر فيها وهذا خلاف قول عائشة و الحسن ولا فرق بين أن يقصد الرجوع إلى بلده كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع على ما في حديث أنس وبين أن يريد بلدا آخر كما فعل عليه السلام في غزوة الفتح على ما في حديث ابن عباس
فصل : وإن مر في طريقه على بلد له فيه أهل أو مال فقال أحمد في موضع يتم وقال في موضع يتم إلا أن يكون مارا وهذا قول ابن عباس وقال الزهري : إذا مر بمزرعة له أتم وقال مالك : إذا مر بقرية فيها أهله أو ماله أتم إذا أراد أن يقيم بها يوما وليلة وقال الشافعي و ابن المنذر يقصر ما لم يجمع على إقامة أربع لأنه مسافر لم يجمع على أربع
ولنا ما روي [ عن عثمان أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال : يا أيها الناس أني تأهلت بمكة منذ قدمت وأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم ) ] رواه الإمام أحمد في المسند وقال ابن عباس : إذا قدمت على أهل لك أو مال فصل صلاة المقيم ولأنه مقيم ببلد فيه أهله فأشبه البلد الذي سافر منه

فصل : صلاة المسافر خلف مقيم يقصد بتأويل من أهل مكة
فصل : قال أحمد : من كان مقيما بمكة ثم خرج إلى الحج وهو يريد أن يرجع إلى مكة فلا يقيم بها حتى ينصرف فهذا يصلي بعرفة ركعتين لأنه حين خرج من مكة أنشأ السفر فهو في سفر من حين خرج من مكة ولو أن رجلا مقيما ببغداد فأراد الخروج إلى الكوفة فعرضت له حاجة بالنهروان ثم رجع فمر ببغداد ذاهبا إلى الكوفة صلى ركعتين إذا كان يمر ببغداد مجتازا لا يريد الإقامة بها وإن كان الذي خرج إلى عرفة في نيته الإقامة بمكة إذا رجع فإنه لا يقصر بعرفة ولذلك أهل مكة لا يقصرون وإن صلى رجل مكي يقصر الصلاة بعرفة ركعتين ثم أقام بعد صلاة الإمام فأضاف إليها ركعتين أخريين صحت الصلاة لأن المكي يقصر بتأويل فصحت صلاة من يأتم به

فصل : مرور المسافر ببلده أو مزرعته عابرا
فصل : وإذا خرج المسافر فذكر حاجة فرجع إليها فله القصر في رجوعه إلا أن يكون نوى أن يقيم إذا رجع مدة تقطع القصر أو يكون أهله أو ماله في البلد الذي رجع إليه لما ذكرنا هكذا حكي عن أحمد وقوله في الرواية الأخرى أتم إلا أن يكون مارا يقتضي أنه إذا قصد أخذ حاجته والرجوع من غير إقامة أنه يقصر و الشافعي يرى له القصر ما لم ينو في رجوعه الإقامة في البلد أربعا قال ولو كان أتم أحب إلي وقال مالك يتم حتى يخرج فاصلا للثانية ونحوه قول الثوري
ولنا أنه قد ثبت له حكم السفر بخروجه ولم يوجد إقامة تقطع حكمه فأشبه ما لو أتى قرية غير مخرجه

مسألة : صلاة المسافر إذا نزل ببلد لم يعزم الإقامة فيه
مسألة : قال : وإن قال اليوم أخرج غدا أخرج قصر وإن أقام شهرا
وجملة ذلك أن من لم يجمع الإقامة مدة تزيد على إحدى وعشرين صلاة فله القصر ولو أقام سنين مثل أن يقيم لقضاء حاجة يرجو نجاحها أو لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض وسواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو كثيرة بعد أن يحتمل انقضاؤها في المدة التي لا تقطع حكم السفر قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون وقد روى ابن عباس قال : [ أقام النبي صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين ] رواه البخاري وقال جابر : [ أقام النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ] رواه الإمام أحمد في مسنده وفي حديث عمران بن حصين [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين ] رواه أبو داود وروي عن عبد الرحمن بن المسور عن أبيه قال : أقمنا مع سعد بعمان أو سلمان فكان يصلي ركعتين ويصلي أربعا فذكرنا ذلك له فقال : نحن أعلم رواه الأثرم
وروى سعيد بإسناده عن المسور بن مخرمة قال : أقامنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ويتمها وقال نافع : أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين وقد حال الثلج بينه وبين الدخول وعن حفص بن عبد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنين يصلي صلاة المسافر وقال أنس : أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة وعن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال : أقمت معه سنتين بكابل يقصر الصلاة ولا يجمع وقال إبراهيم : كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنتين لا يجمعون ولا يصومون وقد ذكرنا عن علي رضي الله عنه أنه قال : ويقصر إذا قال اليوم أخرج غدا أخرج شهرا وهذا مثل قول الخرقي ولعل الخرقي رحمه الله إنما قال ذلك اقتداء به ولم يرد أن نهاية القصر إلى شهر وإنما أراد أنه لا نهاية للقصر والله أعلم

فصلان : صلاة من علق إقامته بالبلد على شرط تنقل المسافر في منطقة ذات قرى
فصل : وإن عزم على إقامة طويلة في رستاق يتنقل فيه من قرية إلى قرية لا يجمع على الإقامة بواحدة منها مدة تبطل حكم السفر لم يبطل حكم سفره لأن [ النبي صلى الله عليه و سلم أقام عشرا بمكة وعرفة ومنة فكان يقصر في تلك الأيام كلها ]
وروى الأثرم بإسناده عن مورق قال : سألت ابن عمر قلت إني رجل تاجر آتي الأهواز فأنتقل في قراها من قرية إلى قرية فأقيم الشهر وأكثر من ذلك قال : تنوي الإقامة قلبت : لا قال : لا أراك إلا مسافرا صل صلاة المسافرين ولأنه لم ينو الإقامة في بلد بعينه فأشبه المتنقل في سفره من منزل إلى منزل
فصل : وإذا دخل بلدا فقال : إن لقيت فلان أقمت وإن لم ألقه لم أقم لم يبطل حكم سفره لأنه لم يجزم بالإقامة ولأن المبطل لحكم السفر هو العزم على الإقامة ولم يوجد وإنما علقه على شرط وليس ذلك بحرام

فصل : صلاة التطوع في السفر
فصل : ولا بأس بالتطوع نازلا وسائرا على الراحلة لما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه ] وكان ابن عمر يفعله وروى نحو ذلك جابر وأنس متفق عليهن وروت أم هانئ بنت أبي طالب [ أن النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة اغتسل في بيتها فصل ثماني ركعات ] متفق عليه وعن علي رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتطوع في السفر ] رواه سعيد ويصلي ركعتي الفجر والوتر لأن ابن عمر روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوتر على بعيره ولما نام النبي صلى الله عليه و سلم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس صلى ركعتي الفجر قبلها ] متفق عليهما
فأما سائر السنن والتطوعات قبل الفرائض وبعدها فقال أحمد : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس وروي عن الحسن قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها
وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر وجماعة من التابعين كثير وهو قول مالك و الشافعي و إسحق و أبي ثور و ابن المنذر وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و علي بن الحسين لما روي [ أن ابن عمر رأى قوما يسبحون بعد الصلاة فقال : لو كنت مسبحا لأتممت صلاتي يا ابن أخي صحبت رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وذكر عمر وعثمان وقال : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ] متفق عليه ووجه الأول ما روي عن ابن عباس قال : [ فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الحضر فكنا نصلي قبلها وبعدها وكنا نصلي في السفر قبلها وبعدها ] رواه ابن ماجة وعن أبي بصرة الغفاري عن البراء بن عازب قال : [ صحبت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانية عشر سفرا فما رأيته ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر ] رواه أبو داود وحديث الحسن عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ذكرناه فهذا يدل على أنه لا بأس بفعلها وحديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس بتركها فيجمع بين الأحاديث والله أعلم

كتاب صلاة الجمعة
الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } فأمر بالسعي ويقتضي الأمر الوجوب ولا يجب السعي إلا إلى الواجب ونهى عن البيع لئلا يشتغل به عنها فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها والمراد بالسعي ها هنا الذهاب إليها لا الإسراع فإن السعي في كتاب الله لم يرد به العدو قال الله تعالى : { وأما من جاءك يسعى } وقال : { وسعى لها سعيها } وقال : { سعى في الأرض ليفسد فيها } وقال : { ويسعون في الأرض فسادا } وأشباه هذا لم يرد بشيء من العدو وقد روي عن عمر أنه كان يقرأها فامضوا إلى ذكر الله
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ] متفق عليه
وعن أبي الجعد الضمري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه ] وقال عليه السلام : [ الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض ] رواهما أبو داود وعن جابر قال : [ خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ( واعلموا أن الله تعالى قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها وجحودا لها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره إلا ولا صلاة له إلا ولا زكاة له إلا ولا حج له إلا ولا صوم لهه ولا بر له حتى يتوب فإن تاب الله عليه ) ] رواه ابن ماجة وأجمع المسلمون على وجوب الجمعة

مسألة : وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام المنبر
مسألة : قال : وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام المنبر
المستحب إقامة الجمعة بعد الزوال لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك قال مسلمة بن الأكوع : [ كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه و سلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتبع الفيء ] متفق عليه وعن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس ] أخرجه البخاري ولأن في ذلك خروجا عن الخلاف فإن علماء الأمة اتفقوا على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة وإنما الخلاف فيما قبله ولا فرق في استحباب إقامتها عقيب الزوال بين شدة الحر وبين غيره فإن الجمعة يجتمع لها الناس فلو انتظروا الأبراد شق علهم وكذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعلها إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد فيستحب أن يصعد للخطبة على منبر ليسمع الناس و [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب الناس على منبره ] وقال سهل بن سعد : [ أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى فلانة امرأة سماها سهل أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس ] متفق عليه وقالت أم هشام بنت حارثة ابن النعمان : [ ما أخذت قاف إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس ] وليس ذلك واجبا فلو خطب على الأرض أو على ربوة أو وسادة أو على راحلته أو غير ذلك جاز فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد كان قبل أن يصنع المنبر يقوم على الأرض ا هـ

مسألة وفصل : استحباب نصب منبر للجمعة ومكانه وتسليم الخطيب على الناس
فصل : ويستحب أن يكون المنبر على يمين القبلة لأن النبي صلى الله عليه و سلم هكذا صنع
مسألة : قال : فإذا استقبل الناس سلم عليهم وردوا عليه وجلس
يستحب للإمام إذا خرج أن يسلم ثم إذا صعد المنبر فاستقبل الحاضرين سلم عليهم وجلس إلى أن يفرغ المؤذنون من آذانهم كان ابن الزبير إذا علا على المنبر سلم وفعله عمر بن عبد العزيز وبه قال الأوزاعي و الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يسن السلام عقيب الاستقبال لأنه قد سلم حال خروجه
ولنا ما روى جابر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صعد المنبر سلم ] رواه ابن ماجة وعن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد يوم الجمعة سلم من عند المنبر جالسا فإذا صعد المنبر توجه الناس سلم عليهم ] رواه أبو بكر بإسناده عن الشعبي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال السلام عليكم ورحمة الله ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ] وكان أبو بكر وعمر يفعلانه رواه الأثرم ومتى سلم رد عليه الناس لأن رد السلام آكد من ابتدائه ثم يجلس حتى يفرغ المؤذنون ليستريح وقد روى ابن عمر قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب خطبتين يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذنون - ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب ] رواه أبو داود

مسألة وفصلان : وقت وجوب السعي أي الجمعة وحكم البيع بعد نداء الجمعة
مسألة : قال : وأخذ المؤذنون في الأذان وهذا الأذان الذي يمنع البيع ويلزم السعي إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة
أما مشروعية الأذان عقيب صعود الإمام فلا خلاف فيه فقد [ كان يؤذن للنبي صلى الله عليه و سلم ] قال السائب بن يزيد : [ كان النداء إذا صعد الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعم فلما كان عثمان كثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء ] رواه البخاري وأما قوله هذا الأذان الذي يمنع البيع ويلزم السعي فلأن الله تعالى أمر بالسعي ونهى عن البيع بعد النداء بقوله سبحانه { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } والنداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر فتعلق الحكم به دون غيره ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده وحكى القاضي رواية عن أحمد أن البيع يحرم بزوال الشمس وإن لم يجلس الإمام على المنبر ولا يصح هذا لأن الله تعالى علقه على النداء لا على الوقت ولأن المقصود بهذا إدراك الجمعة وهو يحصل بما ذكرنا دون ما ذكره ولو كان تحريم البيع معلقا بالوقت لما اختص بالزوال فإن ما قبله وقت أيضا فأما من كان منزله بعيدا لا يدرك الجمعة بالسعي وقت النداء فعليه السعي في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة لأن الجمعة واجبة والسعي قبل النداء من ضرورة إدراكها وما لا يتم الواجب إلا به واجب كاستقاء الماء من البئر للوضوء إذا لم يقدر على غيره وإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم ونحوهما
فصل : وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة فأما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين فلا يثبت في حقه ذلك وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين والصحيح ما ذكرنا فإن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل له من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم فإن كان المسافر في غير المصر أو كان إنسانا مقيما بقرية لا جمعة على أهلها لم يحرم البيع قولا واحدا ولم يكره وإن كان أحد المتبايعين مخاطبا والآخر غير مخاطب حرم في حق المخاطب وكره في حق غيره لما فيه من الإعانة عل الإثم ويحتمل أن يحرم أيضا لقوله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }
فصل : ولا يحرم غير البيع من العقود كالإجارة والصلح والنكاح وقيل يحرم لأنه عقد معاوضة أشبه البيع
ولنا أن النهي مختص بالبيع لا يساويه في الشغل عن السعي لقلة وجوده فلا يصح قياسه على البيع

فصلان : فضيلة التكبير إلى الجمعة وآداب السعي إليها
فصل : وللسعي إلى الجمعة وقتان وقت ووقت فضيلة فأما وقت الوجوب فما ذكرناه وأما وقت الفضيلة فمن أول النهار فكلما كان أبكر كان أولى وأفضل وهذا مذهب الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي وقال مالك : لا يستحب التبكير قبل الزوال لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من راح إلى الجمعة ] والرواح بعد الزوال والغد وقبله قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ] ويقال تروحت عند انتصاف النهار قال امرؤ القيس :
( تروح من الحي أم تبتكر )
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ] متفق عليه وفي لفظ [ إذا كان يوم الجمعة وقف على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون ] متفق عليه وقال علقمة : [ خرجت مع عبد الله إلى الجمعة فوجدت ثلاثة قد سمعوه فقال : رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إن الناس يجلسون من الله عز و جل يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة ) ] رواه ابن ماجة وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن رواه ابن ماجة وزاد : [ ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ ] قوله [ بكر ] أي خرج في بكرة النهار وهي أوله [ وابتكر ] بالغ في التبكير أي جاء في أول البكرة على ما قال امرؤ القيس ( تروح من الحي أم تبتكر ) وقيل معناه ابتكر العبادة مع بكورة وقيل ابتكر الخطبة أي حضر الخطبة مأخوذ من باكورة الثمرة وهي أولها وغير هذا أجود لأن من جاء في بكرة النهار لزم أن يحضر أول الخطبة وقوله : [ غسل واغتسل ] أي جامع امرأته ثم اغتسل ولهذا قال في الحديث الآخر [ من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ] قال أحمد تفسير قوله : [ من غسل واغتسل ] مشددة يريد يغسل أهله وغير واحد من التابعين عبد الرحمن بن الأسود و هلال بن يساف يستحبون أن يغسل الرجل أهله يوم الجمعة وإنما هو على أن يطأ وإنما استحب ذلك ليكون أسكن لنفسه وأغض لطرفه في طريقه وروي ذلك عن وكيع أيضا وقيل المراد غسل رأسه واغتسل في بدنه حكي هذا عن ابن المبارك وقوله [ غسل الجنابة ] على هذا التفسير أي كغسل الجنابة وأما قول مالك فمخالف للآثار لأن الجمعة يستحب فعلها عند الزوال وكان النبي صلى الله عليه و سلم يبكر بها ومتى خرج الإمام طويت الصحف فلم يكتب من أتى الجمعة بعد ذلك فأي فضيلة لهذا وإن أخر بعد ذلك شيئا دخل في النهي والذم كما [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : للذي جاء يتخطى الناس : ( رأيتك أنيت وآذيت ) ] أي أخرت المجيء وقال عمر لعثمان حين جاء وهو يخطب أي ساعة هذه على سبيل الإنكار عليه وإن أخر أكثر من هذا فاتته الجمعة فكيف يكون لهؤلاء بدنة أو بقرة أو فضل وهم من أهل الذم وقوله راح إلى الجمعة أي ذهب إليها لا يحتمل غير هذا
فصل : والمستحب أن يمشي ولا يركب في طريقها لقوله : [ ومشى ولم يركب ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه لم يركب في عيد ولا جنازة ] والجمعة في معناهما وإنما لم يذكرها لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان باب حجرته شارعا في المسجد يخرج منه إليه فلا يحتمل الركوب ولأن الثواب على الخطوات بدليل ما رويناه ويستحب أن يكون عليه السكينة والوقار في حال مشيه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا ] ولأن الماشي إلى الصلاة في صلاة ولا يشبك بين أصابعه ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته وقد روينا عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه خرج مع زائد بن ثابت إلى الصلاة فقارب بين خطاه ثم قال : إنما فعلت لتكثر خطانا في طلب الصلاة ] وروي عن عبد الله بن رواحة أنه كان يبكر إلى الجمعة ويخلع نعليه ويمشي حافيا ويقصر في مشيه رواه الأثرم ويكثر ذكر الله في طريقه ويغض بصره ويقول ما ذكرناه في باب صفة الصلاة ويقول أيضا : اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك وأقرب من توسل إليك وأفضل من سألك ورغب إليك وروينا عن بعض الصحابة أنه مشى إلى الجمعة حافيا فقيل له في ذلك فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار ]

فصل : أداء صلاة الجمعة والعيدين خلف الإمام المبتدع أو الفاسق
فصل : وتجب الجمعة والسعي إليها سواء كان من يقيمها سنيا أو مبتدعا أو عدلا أو فاسقا نص عليه أحمد وروي عن العباس بن عبد العظيم أنه سأل أبا عبد الله عن الصلاة خلفهم يعني المعتزلة يوم الجمعة قال : أما الجمعة فينبغي شهودها فإن كان الذي يصلي منهم أعاد وإن كان لا يدري أنه منهم فلا يعيد قلت فإن كان يقال أنه قد قال بقولهم قال : حتى يستيقن ولا أعلم في هذا بين أهل العلم خلافا والأصل في هذا عموم قول الله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله له شمله ] وإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عبد الله بن عمر وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يشهدونها مع الحجاج ونظرائه ولم يسمع من أحد منهم التخلف عنها وقال عبد الله بن أبي الهذيل تذاكرنا الجمعة أيام المختار فأجمع رأيهم على أن يأتوه فإنما عليه كذبه ولأن الجمعة من أعلام الدين الظاهرة ويتولاها الأئمة ومن ولوه فتركها خلف من هذه صفته يؤدي إلى سقوطها وجاء رجل إلى محمد بن النضر الحارثي فقال : إن لي جيرانا من أهل الأهواء فكنت أعيبهم وأتنقصهم فجاءوني فقالوا ما تخرج تذكرنا قال : وأي شيء يقولون قال : أول ما أقول لك أنهم لا يرون الجمعة قال : حسبك ما قولك في من رد على أبي بكر وعمر رحمهما الله قال : قلت رجل سوء قال : فما قولك في من رد على النبي صلى الله عليه و سلم قال : قلت كافر ثم مكث ساعة ثم قال : ما قولك في من رد على العلي الأعلى ثم غشي عليه فمكث ساعة ثم قال : ردوا عليه والله قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } قالها والله هو يعلم أن بني العباس يسألونها إذا ثبت هذا فإنها لا تعاد خلف من يعاد خلفه بقية الصلوات وحكي عن أبي عبد الله رواية أخرى أنها لا تعاد وقد ذكرنا ذلك فيما مضى والظاهر من حال الصحابة رحمة الله عليهم أنهم لم يكونوا يعيدونها فإنه لم ينقل عنهم ذلك

مسألة وفصل : حكم خطبة الجمعة ووقتها واتجاه المستمعين بوجوههم
مسألة : قال : فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائما
وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها كذلك قال عطاء و النخعي و قتادة و الثوري و الشافعي و إسحق و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن قال : تجزئهم جميعهم خطب الإمام أو لم يخطب لأنها صلاة عيد فلم تشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى
ولنا قول الله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } والذكر هو الخطبة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم ما ترك الخطبة للجمعة في حال وقد قال : [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : قصرت الصلاة لأجل الخطبة وقول عائشة نحو من هذا وقال سعيد بن جبير : كانت الجمعة أربعا فجعلت الخطبة مكان الركعتين وقوله خطبهم قائما يحتمل أنه أراد اشتراط القيام في الخطبة وأنه متى خطب قاعدا لغير عذر لم تصح ويحتمله كلام أحمد رحمه الله قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الخطبة قاعدا أو يقعد في إحدى الخطبتين فلم يعجبه وقال : قال الله تعالى : { وتركوك قائما } و [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب قائما ] فقال له الهيثم بن خارجة كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته فظهر منه إنكار وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي : يجزيه الخطبة قاعدا وقد نص عليه أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه ذكر ليس من شرطه الاستقبال فلم يجب له القيام كالأذان ووجه الأول ما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس ] متفق عليه وقال جابر بن سمرة : [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما فمن نبأك أنه يخطب جالسا فقد كذب فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة ] أخرجه مسلم و أبو داود و النسائي فأما إن قعد لعذر من مرض أو عجز عن القيام فلا بأس فإن الصلاة تصح من القاعد العاجز عن القيام فالخطبة أولى ويستحب أن يشرع في الخطبة عند فراغ المؤذن من أذانه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك
فصل : ويستحب أن يستقبل الناس الخطيب إذا خطب قال الأثرم : قلت لـ أبي عبد الله يكون الإمام متباعدا فإذا أردت أن أنحرف إليه حولت وجهي عن القبلة فقال : نعم تنحرف إليه وممن كان يستقبل الإمام ابن عمر وأنس وهو قول شريح و عطاء و مالك و الثوري و الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز و ابن جابر و يزيد بن أبي مريم و الشافعي و إسحق وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : هذا كالإجماع وروي عن الحسن أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام وعن سعيد بن المسيب أنه كان لا يستقبل هشام بن إسماعيل إذا خطب فوكل به هشام شرطيا يعطفه إليه والأول أولى لما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم ] رواه ابن ماجة وعن مطيع بن يحيى المدني عن أبيه عن جده قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قام على المنبر أقبلنا بوجوهنا إليه ] أخرجه الأثرم ولأن ذلك أبلغ في سماعهم فاستحب كاستقبال الإمام إياهم

مسألة وفصلان : التطهر للخطبة مضمون الخطبة - اشتراط خطبتين والجلوس بينهما
مسألة : قال : فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم وجلس وقام فأتى أيضا بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم وقرأ ووعظ وإن أراد أن يدعو لإنسان دعا
وجملته أنه يشترط للجمعة خطبتان وهذا مذهب الشافعي وقال مالك و الأوزاعي و إسحق و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي : يجزيه خطبة واحدة وقد روي عن أحمد ما يدل عليه فإنه قال : لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه و سلم أو خطبة تامة ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه و سلم [ كان يخطب خطبتين ] كما روينا في حديث ابن عمر وجابر بن سمرة وقد قال : [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] ولأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكل خطبة مكان ركعة فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين ويشترط لكل واحدة منهما حمدا لله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه و سلم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ] وإذا وجب ذكر الله تعالى وجب ذكر النبي صلى الله عليه و سلم لما روي في تفسير قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك } قال : لا أذكر إلا ذكرت معي ولأنه موضع وجب فيه ذكر الله تعالى والثناء عليه فوجب فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم كالأذان والتشهد ويحتمل أن لا تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يذكر في خطبه ذلك فأما القراءة فقال القاضي : يحتمل أن يشترط لكل واحدة من الخطبتين وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين فكانت القراءة شرطا فيهما كالركعتين ويحتمل أن تشترط في إحداهما لما روى الشعبي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال : السلام عليكم ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ثم يقوم فيخطب ثم ينزل ] وكان أبو بكر وعمر يفعلانه رواه الأثرم فظاهر هذا أنه إنما قرأ في الخطبة الأولى ووعظ في الخطبة الثانية وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة إنما تكون في الخطبة الثانية لهذا الخبر وقال القاضي : تجب في الخطبتين لأنها بيان المقصود من الخطبة فلم يجز الإخلال بها وقال أبو حنيفة : لو أتى بتسبيحة واحدة أجزأ لأن الله تعالى قال : { فاسعوا إلى ذكر الله } ولم يعين ذكرا فأجزأ ما يقع عليه اسم الذكر ويقع اسم الخطبة على دون ما ذكرتموه بدليل [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال : علمني عملا أدخل به الجنة فقال : لأن أقصرت في الخطبة لقد أعرضت في المسألة ] وعن مالك روايتان كالمذهبين
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم فسر الذكر بفعله فيجب الرجوع إلى تفسيره قال جابر بن سمرة : [ كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم قصدا وخطبته قصدا يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس ] وقال جابر : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ] وقال ابن عمر : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم ] كما يفعلون اليوم فأما التسبيح والتهليل فلا يسمى خطبة والمراد بالذكر الخطبة وما رووه مجاز فإن السؤال لا يسمى خطبة ولذلك لو ألقى مسألة على الحاضرين لم يكف ذلك اتفاقا قال أصحابنا : ولا يكفي في القراءة أقل من آية لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتصر على أقل من ذلك ولأن الحكم لا يتعلق بما دونها بدليل منع الجنب من قراءتها دون ما هو أقل من ذلك ذلك وظاهر كلام أحمد أنه لا يشترط ذلك أنه قال القراءة في الخطبة على المنبر ليس فيها شيء مؤقت ما شاء قرأ وقال : إن خطب بهم وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم فإنه يجزيه والجنب ممنوع من قراءة آية و الخرقي قال : قرأ شيئا من القرآن ولم يعين المقروء ويحمل أن لا يجب شيء سوى حمد الله والموعظة لأن ذلك يسمى خطبة ويحصل به المقصود فأجزأ وما عداه ليس على اشتراطه دليل ولا يجب أن يخطب على صفة خطبة النبي صلى الله عليه و سلم بالاتفاق لأنه قد روي أنه كان يقرأ آيات ولا يجب قراءة آيات ولكن يستحب أن يقرأ آيات كذلك وما روت [ أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : ما أخذت { ق * والقرآن المجيد } إلا من رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب بها في كل جمعة ] وعن أخت لعمرة كانت أكبر منها مثل هذا رواه مسلم وفي حديث الشعبي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ سورة
فصل : يستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك كما روينا في حديث ابن عمر وجابر بن سمرة وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم وقال الشافعي : هي واجبة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجلسها
ولنا أنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع فلم تكن واجبة كالأولى وقد سرد الخطبة جماعة منهم المغيرة بن شعبة وأبي بن كعب قاله أحمد وروي عن أبي إسحق قال : رأيت عليا يخطب على المنبر فلم يجلس حتى فرغ وجلوس النبي صلى الله عليه و سلم كان للاستراحة فلم تكن واجبة كالأولى ولكن يستحب فإن خطب جالسا لعذر فصل بين الخطبتين بسكتة وكذلك إن خطب قائما فلم يجلس قال ابن عبد البر : ذهب مالك والعراقيون وسائر قفهاء الأمصار إلا الشافعي أن الجلوس بين الخطبتين لا شيء على من تركه
فصل : والسنة أن يخطب متطهرا قال أبو الخطاب : وعنه أن ذلك من شرائطها ولـ الشافعي قولان كالروايتين وقد قال أحمد في من خطب وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم يجزيه وهذا إنما يكون إذا خطب في غير المسجد أو خطب في المسجد غير عالم بحال نفسه ثم علم بعد ذلك والأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة من الجنابة فإن أصحابنا قالوا : يشترط قراءة آية فصاعدا وليس ذلك للجنب ولأن الخرقي اشترط للأأذان الطهارة فيه شرطا كالأذان لكن يستحب أن يكون متطهرا من الحدث والنجس ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي عقيب الخطبة لا يفصل بينهما بطهارة ] فيدل على أنه كان متطهرا والاقتداء به إن لم يكن واجبا فهو سنة ولأننا استحببنا ذلك للأذان فالخطبة أولى ولأنه لو لم يكن متطهرا احتاج إلى الطهارة بين الصلاة والخطبة فيفصل بينهما وربما طول على الحاضرين

فصلان : آداب الخطيب واستخلاف الخطيب غيره ليؤم في الصلاة
فصل : والسنة أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتولاهما بنفسه وكذلك خلفاؤه من بعده وإن خطب رجل وصلى آخر لعذر جاز نص عليه أحمد ولو خطب أمير فعزل وولي غيره فصلى بهم فصلاتهم تامة نص عليه لأنه إذا جاز الاستخلاف في الصلاة الواحدة للعذر ففي الخطبة مع الصلاة أولى وإن لم يكن عذر فقال أحمد رحمه الله : لا يعجبني من غير عذر فيحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتولاهما وقد قال : [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] ولأن الخطبة أقيمت مقام ركعتين ويحتمل الجواز لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة فأشبهتها صلاتين وهل يشترط أن يكون المصلي ممن حضر الخطبة فيه روايتان إحداهما يشترط ذلك وهو قول الثوري وأصحاب الرأي و أبي ثور لأنه إمام في الجمعة فاشترط حضوره الخطبة كما لو لم يستخلف والثانية لا يشترط وهو قول الأوزاعي و الشافعي لأنه ممن تنعقد به الجمعة فجاز أن يؤم فيها كما لو حضر الخطبة وقد روي عن أحمد رحمه الله لا يجوز الاستخلاف لعذر ولا غيره قال في رواية حنبل في الإمام إذا أحدث بعد ما خطب فقدم رجلا يصلي بهم لم يصل بهم إلا أربعا إلا أن يعيد الخطبة ثم يصلي بهم ركعتين وذلك لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من خلفائه والأول المذهب
فصل : ومن سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك ولأنه أبلغ في سماع الناس وأعدل بينهم فإنه لو التفت إلى أحد جانبيه لأعرض عن الجانب الآخر ولو خالف هذا واستدبر الناس واستقبل القبلة صحت الخطبة لحصول المقصود بدونه فأشبه ما لو أذن غير مستقبل القبلة ويستحب أن يرفع صوته ليسمع الناس قال جابر : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول : ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) ] ويستحب تقصير الخطبة لما روى عمار قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة ] و [ قال جابر بن سمرة : كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه و سلم وكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا ] روى هذه الأحاديث كلها مسلم وعن جابر بن سمرة قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلمات يسيرات ] رواه أبو داود ويستحب أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا لما [ روى الحكم بن حزم الحلفي قال : وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقمنا أياما شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه كلمات طيبات خفيفات مباركات ] رواه أبو داود ولأن ذلك أعون له فإن لم يفعل فيستحب أن يسكن أطرافه أما أن يضع يمينه على شماله أو يرسلها ساكنتين مع جنبيه ويستحب أن يبدأ بالحمد قبل الموعظة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك ولأن [ كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر ] يثني بالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ثم يعظ فإن عكس ذلك صح لحصول المقصود منه ويستحب أن يكون في خطبته مترسلا مبينا معربا لا يعجل فيها ولا يمططها وأن يكون متخشعا متعظا لما يعظ الناس به لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ عرض علي قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقيل لي هؤلاء خطباء من أمتك يقولون ما لا يفعلون ]

فصول : الدعاء وقيام الخطيب والموالاة وسجود التلاوة أثناء الخطبة
فصل : سئل أحمد عن قراءة سورة الحج على المنبر أيجزئه قال : لا لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه و سلم وقال : لا تكون الخطبة إلا كما خطب النبي صلى الله عليه و سلم أو خطبة تامة ولأن هذا لا يسمى خطبة ولا يجمع شروطها وإن قرأ آيات فيها حمد الله تعالى والموعظة وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم صح لاجتماع الشروط
فصل : وإن قرأ السجدة في أثناء الخطبة فإن شاء نزل فسجد وإن أمكن السجود على المنبر سجد عليه وإن ترك السجود فلا حرج فعله عمر وترك وبهذا قال الشافعي وترك عثمان وأبو موسى وعمار والنعمان بن بشير وعقبة بن عامر وبه قال أصحاب الرأي لأن السجود عندهم واجب وقال مالك : لا ينزل لأنه صلاة تطوع فلا يشتغل بها في أثناء الخطبة كصلاة ركعتين ولنا فعل عمر وتركه وفعل من سمينا من الصحابة رحمة الله عليهم ولأنه سنة وجد سببها لا يطوع الفصل بها فاستحب فعلها كحمد الله تعالى إذا عطس وتشميت العاطس ولا يجب ذلك لما قدمنا من أن سجود التلاوة غير واجب ويفارق صلاة ركعتين لأن سببها لم يوجد ويطوع الفصل بها
فصل : والموالاة شرط في صحة الخطبة فإن فصل بعضها من بعض بكلام طويل أو سكوت طويل أو شيء غير ذلك يقطع الموالاة استأنفها والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة وكذلك يشترط الموالاة بين الخطبة والصلاة وإن احتاج إلى الطهارة تطهر وبنى على خطبته ما لم يطل الفصل
فصل : ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ولنفسه والحاضرين وإن دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسن وقد روى ضبة بن محصن أن أبا موسى كان إذا خطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى عل النبي صلى الله عليه و سلم يدعو لعمر وأبي بكر وأنكر عليه ضبة البداية بعمر قبل الدعاء لأبي بكر ورفع ذلك إلى عمر فقال لضبة : أنت أوثق منه وأرشد وقال القاضي : لا يستحب ذلك لأن عطاء قال : هو محدث وقد ذكرنا فعل الصحابة له وهو مقدم على قول عطاء ولأن سلطان المسلمين إذا صلح كان فيه صلاح لهم ففي الدعاء له دعاء لهم وذلك مستحب غير مكروه

مسألة : القراءة في صلاة الجمعة
مسألة : قال : وينزل فيصلي بهم الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعة الحمد لله وسورة
وجملة ذلك أن صلاة الجمعة ركعتان عقيب الخطبة يقرأ في كل ركعة الحمد لله وسورة ويجهر بالقراءة فيهما لا خلاف في ذلك كله قال ابن المنذر : أجمع المسلمون على أن صلاة الجمعة ركعتان وجاء الحديث عن عمر أنه قال : صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه و سلم رواه الإمام أحمد و ابن ماجة ويستحب أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة والثانية بسورة المنافقين وهذا مذهب الشافعي و أبي ثور لما روي [ عن عبيد الله بن أبي رافع قال : صلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى وفي الركعة الآخرة { إذا جاءك المنافقون } فلما قضى أبو هريرة الصلاة أدركته فقلت : يا أبا هريرة إنك قرأت سورتين كان علي يقرأ بهما بالكوفة قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بهما في الجمعة ] رواه مسلم وإن قرأ في الثانية بالغاشية فحسن فإن [ الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة على إثر سورة الجمعة فقال : كان يقرأ بـ ( هل أتاك حديث الغاشية ) ] أخرجه مسلم وإن قرأ في الأولى بـ { سبح } وفي الثانية بـ { الغاشية } فحسن فإن النعمان بن بشير قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية } فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما أيضا في الصلاتين ] أخرجه مسلم
وروى سمرة بن جندب [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية } معا ] رواه أبو داود و النسائي وقال مالك : أما الذي جاء به الحديث { هل أتاك حديث الغاشية } مع سورة الجمعة والذي أدركت عليه الناس بـ { سبح اسم ربك الأعلى } وحكي عن أبي بكر عبد العزيز أنه كان يستحب أن يقرأ في الثانية سبح ولعله صار إلى ما حكاه مالك أنه أدرك الناس عليه واتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن ومهما قرأ فهو جائز حسن إلا أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن ولأن سورة الجمعة تليق بالجمعة لما فيها من ذكرها والأمر بها والحث عليها

مسائل وفصول : حكم المسبوق في صلاة الجمعة ومن زحم ومن أدرك بعضا من الصلاة
مسألة : قال : ومن أدرك مع الإمام منها ركعة بسجدتيها أضاف إليها أخرى وكانت له جمعة
أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها يضيف إليها أخرى ويجزيه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأنس و سعيد بن المسيب و علقمة و الأسود و عروة و الزهري و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي و إسحق و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء و طاوس و مجاهد و مكحول من لم يدرك الخطبة صلى أربعا لأن الخطبة شرط للجمعة فلا تكون جمعة في حق من لم يوجد في حقه شرطها
ولنا ما روى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة ] رواه الأثرم ورواه ابن ماجة ولفظه : [ فليصل إليها أخرى ] وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ] متفق عليه ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم
مسألة : قال : ومن أدرك معه أقل من ذلك بنى عليها ظهرا ذا كان قد دخل بنية الظهر
أما من أدرك أقل من ركعة فإنه لا يكون مدركا للجمعة ويصلي ظهرا أربعا وهو قول جميع من ذكرنا في المسألة قبل هذه وقال الحكم و حماد و أبو حنيفة يكون مدركا للجمعة بأي قدر أدرك من الصلاة مع الإمام لأن من لزمه أن يبني على صلاة الإمام إذا أدرك ركعة لزمه إذا أدرك أقل منها كالمسافر يدرك المقيم ولأنه أدرك جزأ من الصلاة فكان مدركا لها كالظهر
ولنا قوله عليه والسلام : [ من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة ] فمفهومه أنه إذا أدرك أقل من ذلك لم يكن مدركا لها ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا وقد روى بشر بن معاذ الزيات عن الزهري عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أدرك يوم الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن أدرك دونها صلاها أربعا ] ولأنه لم يدرك ركعة فلم تصح له الجمعة كالإمام إذا انفضوا قبل أن يسجد وأما المسافر فإدراكه إدراك إلزام وهذا إدراك إسقاط للعدد فافترقا وكذلك يتم المسافر خلف المقيم ولا يقصر المقيم خلف المسافر وأما الظهر فليس من شرطها الجماعة بخلاف مسألتنا
فصل : فأما قوله بسجدتيها فيحتمل أنه للتأكيد كقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } ويحتمل أنه للاحتراز من الذي أدرك الركوع ثم فاتته السجدتان أو إحداهما حتى سلم الإمام لزحام أو نسيان أو نوم أو غفلة وقد اختلفت الرواية عن أحمد في من أحرم مع الإمام ثم زحم فلم يقدر على الركوع والسجود حتى سلم الإمام فروى الأثرم و الميموني وغيرهما أنه يكون مدركا للجمعة يصلي ركعتين اختارها الخلال وهذا قول الحسن و الأوزاعي وأصحاب الرأي لأنه أحرم بالصلاة مع الإمام في أول ركعة أشبه ما لو ركع وسجد معه ونقل صالح و ابن منصور وغيرهما أنه يستقبل الصلاة وهو ظاهر قول الخرقي و ابن أبي موسى واختيار أبي بكر وقول قتادة و أيوب السختياني و يونس بن عبيد و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لأنه يدرك ركعة كاملة فلم يكن مدركا للجمعة كالتي قبلها
فصل : ومتى قدر المزحوم على السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه ذلك وأجزأه قال أحمد في رواية أحمد بن هشام يسجد على ظهر الرجل والقدم ويمكن الجبهة والأنف في العيدين والجمعة وبهذا قال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال عطاء و الزهري و مالك لا يفعل قال مالك : وتبطل الصلاة إن فعل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ومكن جبهتك من الأرض ]
ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه رواه سعيد في سننه وهذا قاله بمحضر من الصحابة وغيرهم في يوم جمعة ولم يظهر له مخالف فكان إجماعا ولأنه أتى بما يمكنه حال العجز فصح كالمريض يسجد على المرفقة والخبر لم يتناول العاجز لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يأمر العاجز عن الشيء بفعله
فصل : وإذا زحم في إحدى الركعتين لم يخل من أن يزحم في الأولى أو في الثانية فإن زحم في الأولى ولم يتمكن من السجود على ظهر ولا قدم انتظر حتى يزول الزحام ثم يسجد ويتبع إمامه مثل ما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في صلاة الخوف بعسفان سجد معه صف وبقي صف لم يسجد معه فلما قام إلى الثانية سجدوا ] وجاز ذلك للحاجة كذا ها هنا فإذا قضى ما عليه وأدرك الإمام في القيام أو في الركوع أتبعه فيه وصحت له الركعة وكذا إذا تعذر عليه السجود مع إمامه لمرض أو نوم أو نسيان لأنه معذور في ذلك فأشبه المزحوم فإن خاف أنه إن تشاغل بالسجود فاته الركوع مع الإمام في الثانية لزمه متابعته وتصير الثانية أولاه وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة يشتغل بقضاء السجود لأنه قد ركع مع الإمام فيجب عليه السجود بعده كما لو زال الزحام والإمام قائم ولـ الشافعي كالمذهبين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا ] فإن قيل فقد قال : [ فإذا سجد فاسجدوا ] قلنا قد سقط الأمر بالمتابعة في السجود عن هذا لعذره وبقي الأمر بالمتابعة في الركوع متوجها لإمكانه ولأنه خائف فوات الركوع فلزمه متابعة إمامه فيه كالمسبوق فأما إذا كان الإمام قائما فليس هذا اختلافا كثيرا وقد فعل النبي صلى الله عليه و سلم مثله بعسفان إذا تقرر هذا فإنه إن اشتغل بالسجود معتقدا تحريمه لم تصح صلاته لأنه ترك واجبا عمدا وفعل ما لا يجوز له فعله وإن اعتقد جواز ذلك فسجد لم يعتد بسجوده لأنه سجد في موضع الركوع جهلا فأشبه الساهي ثم إن أدرك الإمام في الركوع ركع معه وصحت له الثانية دون الأولى وتصير الثانية أولاه فإن فاته الركوع سجد معه فإن سجد السجدتين فقال القاضي : يتم بهما الركعة الأولى وهذا مذهب الشافعي وقياس المذهب أنه متى قام إلى الثانية وشرع في ركوعها أو شيء من أفعالها المقصودة أن الركعة الأولى تبطل على ما ذكر في سجود السهو ولكن إن لم يقم ولكن سجد السجدتين من غير قيام تمت ركعته وقال أبو الخطاب : إذا سجد معتقدا جواز ذلك اعتد له به وتصح له الركعة كما لو سجد وإمامه قائم ثم إن أدرك الإمام في ركوع الثانية صحت له الركعتان وإن أدرك بعد رفع رأسه من ركوعه فينبغي أن يركع ويتبعه لأن هذا سبق يسير ويحتمل أن تفوته الثانية بفوات الركوع وإن أدركه في التشهد تابعه وقضى ركعة بعد سلامه كالمسبوق وقال أبو الخطاب : ويسجد للسهو ولا وجه للسجود ها هنا لأن المأموم لا سجود عليه لسهو ولأن هذا فعله عمدا ولا يشرع السجود للعمد وإن زخم عن سجدة واحدة أو عن الاعتدال بين السجدتين أو بين الركوع والسجود أو عن جميع ذلك فالحكم فيه كالحكم في الزحام عن السجود فأما إن زحم عن السجود في الثانية فزال الزحام قبل سلام الإمام سجدوا تبعه وصحت الركعة وإن لم يزل حتى سلم فلا يخلو من أن يكون أدرك الركعة الأولى أو لم يدركها فإن أدركها فقد أدرك الجمعة بإدراكها ويسجد الثانية بعد سلام الإمام ويتشهد ويسلم وقد تمت جمعته وإن لم يكن أدرك الأولى فإنه يسجد بعد سلام إمامه وتصح له الركعة وهل يكون مدركا للجمعة بذلك على روايتين
فصل : وإذا ركع مع الإمام ركعة فلما قم ليقضي الأخرى ذكر أنه لم يسجد مع إمامه إلا سجدة واحدة أو شك هل سجد واحدة أو اثنتين فإنه إن لم يكن شرع في قراءة الثانية رجع فسجد للأولى فأتمها وقضى الثانية وتمت جمعته نص أحمد على هذا في رواية الأثرم وإن كان شرع في قراءة الثانية بطلت الأولى وصارت الثانية أولاه وعلى كلا الحالتين يتمها جمعة على ما نقله الأثرم وقياس الرواية الأخرى في المزحوم أنه يتمها ها هنا ظهرا لأنه لم يدرك ركعة كاملة ولو قضى الركعة الثانية ثم علم أنه ترك سجدة من إحداهما لا يدري من أي الركعتين تركها أو شك في تركها فالحكم واحد ويجعلها من الأولى ويأتي بركعة مكانها وفي كونه مدركا للجمعة وجهان بناء على الروايتين فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام مثل أن كبر والإمام راكع فرفع إمامه رأسه فشك هل أدرك المجزي من الركوع مع الإمام أو لا لم يعتد بتلك الركعة ويصلي ظهرا قولا واحدا لأن الأصل أنه ما أتى بها معه
فصل : وكل من أدرك مع الإمام ما لا يتم به جمعة فإنه في قول الخرقي ينوي ظهرا فإن نوى جمعة لم تصح في ظاهر كلامه لأنه اشترط للبناء على ما أدرك أن يكون قد دخل بنية الظهر فمفهومه أنه إذا دخل بنية الجمعة لم يبن عليها وكلام أحمد في رواية صالح و ابن منصور يحتمل هذا لقوله في من أحرم ثم زحم على الركوع والسجود حتى سلم إمامه قال : تستقبل ظهرا أربعا فيحتمل أنه أراد أنه يستأنف الصلاة وذلك لأن الظهر لا تتأدى بنية الجمعة ابتداء وكذلك دواما كالظهر مع العصر وقال أبو إسحق بن شاقلا : ينوي جمعة لئلا يخالف نية إمامه ثم يبني عليها ظهرا أربعا وهذا ظاهر قول قتادة و أيوب و يونس و الشافعي لأنهم قالوا في الذي أحرم مع الإمام بالجمعة ثم زحم عن السجود حتى سلم الإمام أتمها أربعا فجوزوا له إتمامها ظهرا مع كونه إنما أحرم بالجمعة وقال الشافعي : من أدرك ركعة فلما سلم الإمام علم أن عليه منها سجدة قال : يسجد سجدة ويأتي بثلاث ركعات لأنه يجوز أن يأتم بمن يصلي الجمعة فجاز أن يبني صلاته على نيتها كصلاة المقيم مع المسافر وكما ينوي أنه مأموم ويتم بعد سلام إمامه منفردا ولا يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة في ابتدائها وكذلك في أثنائها
فصل : وإذا صلى الإمام الجمعة قبل الزوال فأدرك المأموم معه دون الركعة لم يكن له الدخول معه لأنها في حقه ظهر فلا يجوز قبل الزوال كعذر يوم الجمعة فإن دخل معه كانت نفلا في حقه ولم تجزئه عن الظهر ولو أدرك منها ركعة ثم زحم عن سجودها وقلنا تصير ظهرا فإنها تنقلب نفلا لئلا تكون ظهرا قبل وقتها
فصل : ولو صلى مع الإمام ركعة ثم زحم في الثانية وأخرج من الصف فصار فذا فنوى الانفراد عن الإمام فقياس المذهب أنه يتمها جمعة لأنه مدرك لركعة منها مع الإمام فيبنى عليها جمعة كما لو أدرك الركعة الثانية وإن لم ينو الانفراد وأتمها مع الإمام ففيه روايتان إحداهما لا تصح لأنه فذ في ركعة كاملة أشبه ما لو فعل ذلك عمدا والثانية تصح لأنه قد يعفى في البناء عن تكميل الشروط كما لو خرج الوقت وقد صلوا ركعة وكالمسبوق بركعة يقضي ركعة وحده

مسألة وفصل : ما تدرك به الجمعة قبل خروج وقتها
مسألة : قال : ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى وأجزأتهم جمعة
ظاهر كلام الخرقي أنه لا يدرك الجمعة إلا بإدراك ركعة في وقتها ومتى دخل وقت العصر قبل ركعة لم تكن جمعة وقال القاضي : متى دخل وقت العصر بعد إحرامه بها أتمها جمعة ونحو هذا قال أبو الخطاب لأنه أرحم بها في وقتها أشبه ما لو أتمها فيه والمنصوص عن أحمد أنه إذا دخل وقت العصر بعد تشهده وقبل سلامه سلم وأجزأته وهذا قول أبي يوسف و محمد و ظاهر هذا أنه متى دخل الوقت قبل ذلك بطلت وانقلبت ظهرا وقال أبو حنيفة : إذا خرج وقت الجمعة قبل فراغه منها بطلت ولا يبني عليها ظهرا لأنهما صلاتان مختلفتان فلا يبني أحدهما على الأخرى كالظهر والعصر والظاهر أن مذهب أبو حنيفة في هذا كما ذكرنا عن أحمد لأن السلام عنده ليس من الصلاة وقال الشافعي : لا يتمها جمعة ويبني عليها ظهرا لأنهما صلاتا وقت واحد فجاز بناء إحداهما على الأخرى كصلاة الحضر والسفر واحتجوا على أنه لا يتمها جمعة بأن ما كان شرطا في بعضها كان شرطا في جميعها كالطهارة وسائر الشروط
ولنا قوله عليه السلام : [ من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة ] ولأنه أدرك ركعة من الجمعة فكان مدركا لها كالمسبوق بركعة ولأن الوقت شرط يختص الجمعة فاكتفى به في ركعة كالجماعة وما ذكروه ينتفض بالجماعة فإنه يكتفي بإدراكها في ركعة فعلى هذا إن دخل وقت العصر قبل ركعة فعلى قياس قول الخرقي تفسد ويستأنفها ظهرا كقول أبي حنيفة وعلى قول أبي إسحاق بن شاقلا يتمها ظهرا كقول الشافعي وقد ذكرنا وجه القولين
فصل : إذا أدرك من الوقت ما يمكنه أن يخطب ثم يصلي ركعة فقياس قول الخرقي أن له التلبس بها لأنه أدرك من الوقت ما يدركها فيه فإن شك هل أرك من الوقت ما يدركها به أو لا ؟ صحت لأن الأصل بقاء الوقت وصحتها

مسألة وفصل : أداء تحية المسجد أثناء الخطبة
مسألة : قال : ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما
وبهذا قال الحسن و ابن عيينة و مكحول و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال شريح و ابن سيرين و النخعي و وقتادة و الثوري و مالك و الليث و أبو حنيفة يجلس ويكره له أن يركع لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للذي جاء يتخطى راقاب الناس : ( اجلس ) فقد آذيت وأنيت ] رواه ابن ماجة ولأن الركوع يشغله عن استماع الخطبة فكره كركوع غير الداخل
ولنا ما روى جابر قال : [ جاء رجل والنبي صلى الله عليه و سلم يخطب الناس فقال : ( صليت يا فلان ؟ ) قال : لا قال : ( قم فاركع ) ] وفي رواية : [ ( فصل ركعتين ) ] متفق عليه
ولـ مسلم قال ثم قال : [ إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ] وهذا نص ولأنه دخل المسجد في غير وقت النهي عن الصلاة فسن له الركوع لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ] متفق عليه
وحديثهم قضية في عين يحتمل أن يكون الموضع يضيق عن الصلاة أو يكون في آخر الخطبة بحيث لو تشاغل بالصلاة فاتته تكبيرة الإحرام والظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أمره بالجلوس ليكف أذاه عن الناس لتخطيه إياهم فإن كان دخوله في آخر الخطبة بحيث إذا تشاغل بالركوع فإنه أول الصلاة لم يستحب له التشاغل بالركوع
فصل : وينقطع التطوع بجلوس الإمام على المنبر فلا يصلي أحد غير الداخل يصلي تحية المسجد ويتجوز فيها لما روى ثعلبة بن أبي مالك أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذن وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم

فصول : الإنصات للخطبة وحكم الكلام والصلاة قبلها وأثناءها وبعدها
فصل : ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لأحد من الحاضرين ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر وقال ابن مسعود : إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فأقرع رأسه بالعصا وكره ذلك عامة أهل العلم منهم مالك و أبو حنيفة و الأوزاعي وعن أحمد رواية أخرى لا يحرم الكلام وكان سعيد بن جبير و النخعي و الشعبي و إبراهيم بن مهاجر و أبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب وقال بعضهم : إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا ولـ الشافعي قولان كالروايتين واحتج من أجاز ذلك بما روى أنس قال : [ بينما النبي صلى الله عليه و سلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال : يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاه فادع الله أن يسقينا - وذكر الحديث إلى أن قال - ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطع النسل فادع الله يرفعها عنا ] متفق عليه وروي [ أن رجلا قام والنبي صلى الله عليه و سلم يخطب يوم الجمعة فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فأعرض النبي صلى الله عليه و سلم وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام فلما كان في الثالثة قال له النبي صلى الله عليه و سلم : ( ويحك ماذا أعددت لها ؟ ) قال حب الله ورسوله قال : ( إنك مع من أحببت ) ] ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه و سلم كلامهم ولو حرم عليهم لأنكره عليهم
ولنا ما روى أبو هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ] متفق عليه وروي عن أبي ابن كعب [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ يوم الجمعة تبارك فذكرنا بأيام الله وأبو الدرداء وأبو ذر يغمزني فقلت : متى أنزلت هذه السورة فإني لم أسمعها إلا الآن فأشار إليه أن اسكت فلما انصرفوا قال : سألتك متى أنزلت هذه فلم تخبرني قال أبي : ليس لك من صلاتك اليوم إلا ما لغوت فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره له وأخبره بما قال أبي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( صدق أبي ) ] رواه عبد الله بن أحمد في المسند و ابن ماجة وروى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده عن أبي هريرة نحوه وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ] رواه ابن أبي خيثمة وما احتجوا به فيحتمل أنه مختص بمن كلم الإمام أو كلمه الإمام لأنه لا يشغل بذلك عن سماع خطبته ولذلك سأل النبي صلى الله عليه و سلم هل صلى فأجابه وسأل عمر عثمان حين دخل وهو يخطب فأجابه فتعين حمل أخبارهم على هذا جمعا بين الأخبار وتوفيقا بينها ولا يصح قياس غيره عليه لأن كلام الإمام لا يكون في حال الخطبة خلاف غيره وإن قدر التعارض فالأخذ بحديثنا أولى لأنه قول النبي صلى الله عليه و سلم ونصه ذلك سكوته والنص أقوى من السكوت
فصل : ولا فرق بين القريب والبعيد لعموم ما ذكرناه وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : من كان قريبا يسمع وينصت ومن كان بعيدا ينصت فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ ما للسامع وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يحضر الجمعة ثلاثة نفر رجل حضرها يلغو وهو حظه منها ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله تعالى يقول : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } ] رواه أبو داود
فصل : وللبعيد أن يذكر الله تعالى ويقرأ القرآن ويصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ولا يرفع صوته قال أحمد : لا بأس أن يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم فيما بينه وبين نفسه رخص له في القراءة والذكر عطاء و سعيد بن جبير و النخعي و الشافعي وليس له أن يرفع صوته ولا يذاكر في الفقه ولا يصلي ولا يجلس في حلقة وذكر ابن عقيل أن له المذاكرة في الفقه وصلاة النافلة
ولنا عموم ما رويناه و [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الحلق يوم الجمعة قبل الصلاة ] رواه أبو داود ولأنه إذا رفع صوته منع من هو أقرب منه من السماع فيكون مؤذيا له فيكون عليه إثم من آذى المسلمين وصد عن ذكر الله تعالى وإذا ذكر الله فيما بينه وبين نفسه من غير أن يسمع أحدا فلا بأس وهل ذلك أفضل أو الإنصات يحتمل وجهين أحدهما الإنصات أفضل لحديث عبد الله بن عمرو وقول عثمان والثاني الذكر أفضل لأنه يحصل له ثوابه من غير ضرر فكان أفضل كما قبل الخطبة
فصل : ولا يحرم الكلام على الخطيب ولا على من سأله الخطيب لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل سليكا الداخل وهو يخطب ( أصليت ) قال : لا ] وعن ابن عمر [ أن عمر بينا هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فناداه عمر أية ساعة هذه قال : إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت قال عمر : الوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأمر بالغسل ] متفق عليه ولأن تحريم الكلام علته الاشتغال به عن الإنصات الواجب وسماع الخطبة ولا يحصل ها هنا وكذلك من كلم الإمام لحاجة أو سأله عن مسألة بدليل الخبر الذي تقدم ذكره
فصل : وإذا سمع الإنسان متكلما لم ينهه بالكلام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت ] ولكن يشير إليه نص عليه أحمد فيضع إصبعه على فيه وممن رأى أن يشير ولا يتكلم زيد بن صوحان و عبد الرحمن بن أبي ليلى و الثوري و الأوزاعي و ابن المنذر وكره الإشارة طاوس
ولنا [ أن الذي قال للنبي صلى الله عليه و سلم متى الساعة ؟ أومأ الناس إليه بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسكوت ] ولأن الإشارة تجوز في الصلاة التي يبطلها الكلام ففي الخطبة أولى
فصل : فأما الكلام الواجب كتحذير الضرير من البئر أو من يخاف عليه نارا أو حية أو حريقا ونحو ذلك فله فعله لأن هذا يجوز في نفس الصلاة مع إفسادها فها هنا أولى فأما تشميت العاطس ورد السلام ففيه روايتان قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل يرد الرجل السلام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ويشمت العاطس ؟ فقال : نعم والإمام يخطب قال أبو عبد الله قد فعله غير واحد قال ذلك غير مرة وممن رخص في ذلك الحسن و الشعبي و النخعي و الحكم و قتادة و الثوري و إسحاق وذلك لأن هذا واجب فوجب الإتيان به في الخطبة كتحذير الضرير والرواية الثانية إن كان لا يسمع رد السلام وتشميت العاطس وإن كان يسمع لم يفعل قال أبو طالب : قال أحمد : إذا سمعت الخطبة فاستمع وأنصت ولا تقرأ ولا تشمت وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمت ورد السلام وقال أبو داود : قلت لـ أحمد يرد السلام والإمام يخطب ويشمت العاطس ؟ قال : إذا كان ليس يسمع الخطبة فيرد وإذا كان يسمع فلا لقول الله تعالى : { فاستمعوا له وأنصتوا } وقيل لـ أحمد الرجل يسمع نغمة الإمام بالخطبة ولا يدري ما يقول يرد السلام ؟ قال : لا إذا سمع شيئا وروي نحو ذلك عن عطاء وذلك لأن الإنصات واجب فلم يجز الكلام المانع منه من غير ضرورة كالأمر بالإنصات بخلاف من لم يسمع وقال القاضي : لا يرد ولا يشمت وروي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك و الأوزاعي وأصحاب الرأي واختلف قول الشافعي فيحتمل أن يكون هذا القول مختصا بمن يسمع دون لم يسمع فيكون مثل الرواية الثانية ويحتمل أن يكون عاما في كل حاضر يسمع أو لم يسمع لأن وجوب الإنصات شامل لهم فيكون المنع من رد السلام وتشميت العاطس ثابتا في حقهم كالسامعين
فصل : لا يكره الكلام قبل شروعه في الخطبة وبعد فراغه منها وبهذا قال عطاء و طاوس و الزهري و أبو بكر المزني و النخعي و مالك و الشافعي و إسحاق و يعقوب و محمد وروي ذلك عن ابن عمر وكرهه الحكم وقال أبو حنيفة : إذا خرج الإمام حرم الكلام قال ابن عبد البر : إن عمر وابن عباس كانا يكرهان الكلام والصلاة بعد خروج الإمام ولا مخالف لهما في الصحابة
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت ] فخصه بوقت الخطبة وقال ثعلبة بن أبي مالك : إنهم كانوا في زمن عمر إذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذنون وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم ولأن الكلام إنما حرم لأجل الإنصات للخطبة فلا وجه لتحريمه مع عدمها وقولهم لا مخالف لهما في الصحابة قد ذكرنا عن عمومهم خلاف هذا القول
فصل : فأما الكلام في الجلسة بين الخطبتين فيحتمل أن يكون جائزا لأن الإمام غير خاطب ولا متكلم فأشبه ما قبلها وبعدها وهذا قول الحسن ويحتمل أن يمنع منه وهو قول مالك و الشافعي و الأوزاعي و إسحاق لأنه سكوت يسير في أثناء الخطبتين أشبه السكوت للتنفس
فصل : إذا بلغ الخطيب إلى الدعاء فهل يسوغ الكلام فيه وجهان أحدهما الجواز لأنه فرغ من الخطبة وشرع في غيرها فأشبه ما لو نزل ويحتمل أن لا يجوز لأنه تابع للخطبة فيثبت له ما ثبت لها كالتطويل في الموعظة ويحتمل أنه إن كان مشروعا كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات وللإمام العادل أنصت له وإن كان لغيره لم يلزم الإنصات لأنه لا حرمة له
فصل : ويكره العبث والإمام يخطب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ومن مس الحصا فقد لغا ] رواه مسلم قال الترمذي : هذا حديث صحيح واللغو الإثم قال الله تعالى : { والذين هم عن اللغو معرضون } ولأن العبث يمنع الخشوع والفهم ويكره أن يشرب والإمام يخطب إن كان ممن يسمع وبه قال مالك و الأوزاعي ورخص فيه مجاهد و طاوس و الشافعي لأنه لا يشغل عن السماع
ولنا أنه فعل يشتغل به أشبه مس الحصى فأما إن كان لا يسمع فلا يكره نص عليه لأنه لا يستمع فلا يشتغل به
فصل : قال أحمد : لا يتصدق على السؤال والإمام يخطب وذلك لأنهم فعلوا ما لا يجوز فلا يعنيهم عليه قال أحمد : وإن حصبه كان أعجب إلي لأن ابن عمر رأى سائلا يسأل والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبه وقيل لـ أحمد : فإن تصدق عليه إنسان فناوله والإمام يخطب ؟ قال : لا يأخذ منه قيل : فإن سأل قبل خطبة الإمام ثم جلس فأعطاني رجل صدقة أناولها إياه ؟ قال : نعم هذا لم يسأل والإمام يخطب
فصل : ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب روي ذلك عن ابن عمر وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وإليه ذهب سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين و عطاء و شريح و عكرمة بن خالد و سالم و نافع و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو داود : لم يبلغني أن أحدا كرهه إلا عبادة بن نسي لأن سهل بن معاذ روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب ] رواه أبو داود
ولنا ما روى يعلي بن شداد بن أوس قال : شهدت مع معاوية بيت المقدس فجمع بنا فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب وفعله ابن عمر وأنس ولم نعرف لهم مخالفا فكان إجماعا والحديث في إسناده مقال قاله ابن المنذر والأولى تركه لأجل الخبر وإن كان ضعيفا ولأنه يكون متهيئا للنوم والوقوع وانتقاض الوضوء فيكون تركه أولى والله أعلم ويحمل النهي في الحديث على الكراهة ويحمل أحوال الصحابة الذين فعلوا ذلك على أنهم لم يبلغهم الخبر

مسائل وفصول : شرائط وجوي الجمعة
مسألة : قال : وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة
وجملته أن الجمعة إنما تجب بسبعة شرائط إحداها أن تكون في قرية والثاني أن يكونوا أربعين والثالث الذكورية والرابع البلوغ والخامس العقل والسادس الإسلام والسابع الاستيطان وهذا قول أكثر أهل العلم فأما القرية فيعتبر أن تكون مبينة بما جرت العادة ببنائها به من حجر أو طين أو لبن أو قصب أو شجرة ونحوه فأما أهل الخيام وبيوت الشعر والحركات فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالبا وكذلك كانت قبائل العرب حول المدينة فلم يقيموا جمعة ولا أمرهم بها النبي صلى الله عليه و سلم ولو كان ذلك يم يخف ولم يترك نقله مع كثرتهم وعموم البلوى به لكن إن كانوا مقيمين بموضع يسمعون النداء لزمهم السعي إليها كأهل القرية الصغيرة إلى جانب المصر ذكره القاضي ويشترط في القرية أيضا أن تكون مجتمعة البناء بما جرت العادة في القرية الواحدة فإن كانت متفرقة المنازل تفرقا لم تجر العادة به لم تجب عليهم الجمعة إلا أن يجتمع منها ما يسكنه أربعون فتجب الجمعة بهم ويتبعهم الباقون ولا يشترط اتصال البنيان بعضه ببعض وحكي عن الشافعي أنه شرط ولا يصح لأن القرية المتقاربة قرية مبنية على ما جرت به عادة القرى فأشبهت المتصلة ومتى كانت القرية لا تجب الجمعة على أهلها بأنفسهم وكانوا بحيث يسمعون النداء من المصر أو من قرية تقام فيها الجمعة لزمهم السعي إليها لعموم الآية
فصل : فأما الإسلام والعقل والذكورية فلا خلاف في اشتراطها لوجوب الجمعة وانعقادها لأن الإسلام والعقل شرطان للتكليف وصحة العبادة المحضة والذكورية شرط لوجوب الجمعة وانعقادها لأن الجمعة يجتمع لها الرجال والمرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال ولكنها تصح منها لصحة الجماعة منها فـ [ إن النساء كن يصلين مع النبي صلى الله عليه و سلم في الجماعة ]
وأما البلوغ فهو شرط أيضا لوجوب الجمعة وانعقادها في الصحيح من المذهب وقول أكثر أهل العلم لأنه من شرائط التكليف بدليل قوله عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ ] وذكر بعض أصحابنا في الصبي المميز رواية أخرى أنها واجبة عليه بناء على تكليفه ولا معول عليه
فصل : فأما الأربعون فالمشهور في المذهب أنه شرط لوجوب الجمعة وصحتها
وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو مذهب مالك و الشافعي
وروي عن أحمد أنها لا تنعقد إلا بخمسين لما روى أبو بكر النجاد عن عبد الله الرقاشي حدثنا رجاء بن سلمة حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تجب الجمعة على خمسين رجلا ولا تجب على ما دون ذلك ] وبإسناده عن الزهري عن [ أبي سلمة قال : قلت لأبي هريرة على كم تجب الجمعة من رجل ؟ قال لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وعن أحمد أنها تنعقد بثلاثة وهو قول الأوزاعي و أبي ثور لأنه يتناوله اسم الجمع فانعقدت به الجماعة كالأربعين ولأن الله تعالى قال : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } وهذه صيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة وقال أبو حنيفة : تنعقد بأربعة لأنه عدد يزيد على أقل الجمع المطلق أشبه الأربعين وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر رجلا لما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كتب إلى مصعب بن عمير بالمدينة فأمره أن يصلي الجمعة عند الزوال ركعتين وأن يخطب فيهما فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثني عشر رجلا ] وعن جابر قال : [ كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة فقدمت سويقة فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم فأنزل الله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } إلى آخر الآية ] رواه مسلم وما يشترط للابتداء يشترط للاستدامة
ولنا ما روى كعب بن مالك قال : أول من جمع بنا أسعد بن زرارة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له : كم كنتم يومئذ قال : أربعون رواه أبو داود و الأثرم
رورى خصيف عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة رواه الدارقطني وضعفه ابن الجوزي وقول الصحابي مضت السنة ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما من روى أنهم كانوا اثني عشر رجلا فلا يصح فإن ما رويناه أصح منه رواه أصحاب السنن والخبر الآخر يحتمل أنهم عادوا فحضروا القدر الواجب ويحتمل أنهم عادوا قبل طول الفصل فأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل له فيه فإن التقديرات بابها التوقيف فلا مدخل للرأي فيها ولا معنى لاشتراط كونه جمعا ولا للزيادة على الجمع إذ لا نص في هذا ولا معنى نص ولو كان الجمع كافيا فيه لاكتفى بالاثنين فإن الجماعة تنعقد بهما
فصل : فأما الاستيطان فهو شرط في قول أكثر أهل العلم وهو الإقامة في قرية على الأوصاف المذكورة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء ولا تجب على مسافر ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف أو في بعض السنة فإن خربت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون بها عازمون على إصلاحها فحكمها باق في إقامة الجمعة بها وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان
فصل : واختلف الرواية في شرطين آخرين أحدهما الحرية ونذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى والثاني أذن الإمام والصحيح أنه ليس بشرط وبه قال مالك و الشافعي و أبو ثور والثانية هو شرط روي ذلك عن الحسن و الأوزاعي و حبيب بن أبي ثابت و أبي حنيفة لأنه لا يقيمها إلا الأئمة في كل عصر فصار ذلك إجماعا
ولنا أن عليا صلى الجمعة بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد وصوب ذلك عثمان وأمر بالصلاة معهم فروى حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال : إنه قد نزل بك ما ترى وأنت إمام العامة وهو يصلي بنا إمام فتنة وأنا أتحرج من الصلاة معه فقال : إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم أخرجه البخاري و الأثرم وهذا لفظ رواية الأثرم وقال أحمد : وقعت الفتنة بالشام تسع سنين فكانوا يجمعون
روى مالك في الموطأ عن أبي جعفر القارئ أنه رأى صاحب المقصورة في الفتنة حين حضرت الصلاة فخرج يتبع الناس يقول : من يصلي بالناس حتى انتهى إلى عبد الله بن عمر فقال له عبد الله بن عمر تقدم أنت فصل بين يدي الناس ولأنها من فرائض الأعيان فلم يشترط لها إذن الإمام كالظهر ولأنها صلاة أشبهت سائر الصلوات وما ذكروه إجماعا لا يصح على جواز ما وقع لا على تحريم غيره كالحج يتولاه الأئمة وليس بشرط فيه
فإن قلنا هو شرط فلم يأذن الإمام فيه لم يجز أن يصلوا جمعة ويصلوا جمعة ظهرا وإن أأذن في إقامتها ثم مات بطل إذنه بموته فإن صلوا ثم بان أنه قد مات قبل ذلك فهل تجزئهم صلاتهم على روايتين أصحهما أنا تجزئهم لأن المسلمين في الأمصار النائية عن بلد الإمام لا يعيدون ما صلوا من الجمعات بعد موته ولا نعلم أحدا أنكر ذلك عليهم فكان إجماعا ولأن وجوب الإعادة يشق لعمومه في أكثر البلدان وإن تعذر إذن الإمام لفتنة فقال القاضي : ظاهر كلامه صحتها بغير إذن على كلتا الروايتين فعلى هذا يكون الأذن معتبرا مع إمكانه ويسقط اعتباره بتعذره
فصل : ولا يشترط للجمعة المصر روي نحو ذلك عن ابن عمر و عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و الليث و مكحول و عكرمة و الشافعي وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع وبه قال الحسن و ابن سيرين و إبراهيم و أبو حنيفة و محمد بن الحسن لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع ]
ولنا ما روى كعب بن مالك أنه قال : أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات رواه أبو داود وقال ابن جريح : قلت لـ عطاء تعني إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قال الخطابي : حرة بني بياضة على ميل من المدينة وعن ابن عباس قال : إن أول جمعة جمعت بعد جمعة المدينة لجمعة بجواثا من البحرين من قرى عبد القيس رواه البخاري وروى أبو هريرة أنه كتب إلى عمر يسأله عن الجمعة بالبحرين وكان عامله عليها فكتب إليه عمر جمعوا حيث كنتم رواه الأثرم قال أحمد : إسناد جيد فأما خبرهم فلم يصح قال أحمد : ليس هذا بحديث ورواه الأعمش عن أبي سعيد المقبري ولم يلقه قال أحمد : الأعمش لم يسمع من أبي سعيد إنما هو عن علي وقول عمر يخالفه
فصل : ولا يشترط لصحة الجمعة إقامتها في البنيان ويجوز أقامتها فيما قاربه من الصحراء وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا تجوز في غير البنيان لأنه موضع يجوز لأنه المصر قصر الصلاة فيه فأشبه البعيد
ولنا أن مصعب بن عمير جمع بالأنصار في هزم النبيت في نقيع الخضمات والنقيع بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة فإذا نضب الماء نبت الكلأ ولأنه موضع لصلاة العيد فجازت فيه الجمعة كالجامع
ولأن الجمعة صلاة عيد فجازت في المصلي كصلاة الأضحى ولأن الأصل عدم اشتراط ذلك ولا نص في اشتراطه ولا معنى نص فلا يشترط
مسألة : قال : وإن صلوا أعادوها ظهرا
وجملته أن ما كان شرطا لوجوب الجمعة فهو شرط لانعقادها فمتى صلوا جمعة مع اختلال بعض شروطها لم يصح ولزمهم أن يصلوا ظهرا ولا يعد في الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة من لا تجب عليه ولا يعتبر اجتماع الشروط للصحة بل تصح ممن لا تجب عليه تبعا لمن وجبت عليه ولا يعتبر في وجوبها كونه ممن تنعقد به فإنها تجب على من يسمع النداء من غير أهل المصر ولا تنعقد به
فصل : ويعتبر استدامة الشروط في القدر الواجب من الخطبتين وقال أبو حنيفة في رواية : عنه لا يشترط العدد فيهما لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلم يشترط له العدد كالأذان
ولنا أنه ذكر من شرائط الجمعة فكان من شرطه العدد كتكبيرة الإحرام ويفارق الأذان فإنه ليس بشرط وإنما مقصوده الإعلام والإعلام للغائبين والخطبة مقصودها التذكير والموعظة وذلك إنما يكون للحاضرين وهي مشتقة من الخطاب والخطاب إنما يكون للحاضرين فعلى هذا إن انفضوا في أثناء الخطبة ثم عادوا فحضروا القدر الواجب أجزأهم والألم يجزئهم إلا أن يحضروا القدر الواجب ثم ينفضوا ويعودوا قبل شروعه في الصلاة من غير طول الفصل فإن طال الفصل لزمه إعادة الخطبة إن كان الوقت متسعا لأنهم من أهل وجوب الجمعة والوقت متسع لها لتصح لهم الجمعة وإن ضاق الوقت صلوا ظهرا والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة
فصل : ويعتبر استدامة الشروط في جميع الصلاة فإن نقص العدد قبل كمالها فظاهر كلام أحمد أنه لا يتمها جمعة وهذا أحد قولي الشافعي لأنه فقد بعض شرائط الصلاة فأشبه فقد الطهارة وقياس قول الخرقي أنهم إن انفضوا بعد ركعة أنه يتمها جمعة وهذا قول مالك وقال المزني : هو الأشبه عندي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى ] ولأنهم أدركوا ركعة فصحت لهم جمعة كالمسبوقين بركعة ولأن العدد شرط يختص الجمعة فلم يفت بفواته في ركعة كما لو دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة وقال أبو حنيفة : إن انفضوا بعد ما صلى ركعة بسجدة واحدة أتمها جمعة لأنهم أدركوا معظم الركعة فأشبه ما لو أدركوها بسجدتيها وقال إسحاق : إن بقي معه اثنا عشر رجلا أتمها جمعة لأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم انفضوا عنه فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا فأتمها جمعة وقال الشافعي في أحد أقواله : إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وهو قول الثوري لأنه أقل الجمع وحكى عنه أبو ثور إن بقي معه واحد أتمها جمعة لأن الاثنين جماعة
ولنا أنهم لم يدركوا ركعة كاملة بشروط الجمعة فأشبه ما لو انفض الجميع قبل الركوع في الأولى وقولهم أدرك معظم الركعة يبطل بمن لم يفته من الركعة إلا السجدتان فإنه أدرك معظمها وقول الشافعي بقي معه من تنعقد به الجماعة لا يصح لأن هذا لا يكفي في الابتداء فلا يكفي في الدوام إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا لا يتمها جمعة فقياس قول الخرقي أنها تبطل يستأنف ظهرا إلا أن يمكنهم فعل الجمعة مرة أخرى فيعيدونها قال أبو بكر : لا أعلم خلافا عن أحمد إن لم يتم العدد في الصلاة والخطبة أنهم يعيدون الصلاة وقياس قول أبي إسحاق بن شاقلا أنهم يتمونها ظهرا وهذا قول القاضي وقال : قد نص عليها أحمد في الذي زحم عن أفعال الجمعة حتى سلم الإمام يتمها ظهرا ووجه القولين قد تقدم

مسألة وفصول : تعدد الجمعات في مصر واحد
مسألة : قال : وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة
وجملته أن البلد متى كان كبيرا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت إقامة الجماعة فيما يحتاج إليه من جوامعها وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود ومقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد ] وكذلك الخلفاء بعده ولو جاز لم يعطلوا المساجد حتى قال ابن عمر : لاتقاء الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام
ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد وقد ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفه الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم فأما ترك النبي صلى الله عليه و سلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعا وقول ابن عمر يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ويترك الكبير وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له قال أبو داود سمعت أحمد يقول : أي حد كان يقام بالمدينة قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار فجمع بهم وهم أربعون
فصل : فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد وإن حصل الغنى باثنين لم تجز الثالثة وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفا إلا أن عطاء قيل له إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر قال : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ويجزى ذلك من التجميع في المسجد الأكبر وما عليه الجمهور أولى إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة إذ لم تدع الحاجة إلى ذلك ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل فإن صلوا جمعتين في مصر واحد من غير حاجة وإحداهما جمعة الإمام فهي صحيحة تقدمت أو تأخرت والأخرى باطلة لأن في الحكم ببطلان جمعة الإمام افتياتا عليه وتفويتا له الجمعة ولمن يصلي معه ويفضي إلى أنه متى شاء أربعون أن يقصدوا صلاة أهل البلد أمكنهم ذلك بأن يجتمعوا في موضع ويسبقوا أهل البلد بصلاة الجمعة وقيل السابقة هي الصحيحة لأنها لم يتقدمها ما يفسدها ولا تفسد بعد صحتها بما بعدها والأولى أصح لما ذكرنا وإن كانت إحداهما في المسجد الجامع والأخرى في مكان صغير لا يسع المصلين أو لا يمكنهم الصلاة في لاختصاص السلطان وجنده به أو غير ذلك أو كان أحدهما في قصبة البلد والآخر في أقصى المدينة كان من وجدت فيه هذه المعاني صلاتهم صحيحة دون الأخرى وهذا قول مالك فإنه قال : لا أرى الجمعة إلا لأهل القصبة وذلك لأن لهذه المعاني مزية تقتضي التقديم فقدم بها كجمعة الإمام ويحتمل أن تصح السابقة منهما دون الأخرى لأن إذن الإمام آكد ولذلك اشترط في إحدى الروايتين وإن لم يكن لإحداهما مزية لكونهما جميعا مأذونا فيهما أو غير مأذون في واحدة منهما وتساوى المكانان في إمكان إقامة الجمعة في كل واحد منهما فالسابقة هي الصحيحة لأنها وقعت بشروطها ولم يزاحمها ما يبطلها ولا سبقها ما يغني عنا والثانية باطلة لكونها وقاعة في مصر أقيمت فيه جمعة صحيحة تغني عما سواها ويعتبر السبق بالإحرام لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بغيرها للغنى عنها فإن وقع الإحرام بهما معا فهما باطلتان معا لأنه لا يمكن صحتهما معا وليست إحداهما بالفساد أولى من الأخرى فبطلتا كالمتزوج أختين أو إذا زوج الوليان رجلين وإن لم تعلم الأولى منهما أو لم يعلم كيفية وقوعهما بطلتا أيضا لأن إحداهما باطلة ولم تعلم بعينها وليست إحداهما بالإبطال أولى من الأخرى فبطلتا كالمسألتين ثم إن علمنا فساد الجمعتين لوقوعهما معا وجب إعادة الجمعة إن أمكن ذلك لبقاء الوقت لأنه مصر ما أقيمت فيه جمعة صحيحة والوقت متسع لإقامتها فلزمهم كما لو لم يصلوا شيئا وإن تيقنا صحة إحداهما لا بعينها فليس لهم أن يصلوا إلا ظهرا لأنه مصر تيقنا سقوط فرض الجمعة فيه بالأولى منهما فلم يجز إقامة الجمعة فيه كما لو علمناها وقال القاضي : يحتمل أن لهم إقامة جمعة أخرى لأننا حكمنا بفسادهما معا فكأن المصر ما صليت فيه جمعة صحيحة والصحيح الأول لأن الصحيحة لم تفسد وإنما لم يمكن إثبات حكم الصحة لها بعينها لجهلها فيصير هذا كما لو زوج الوليان أحدهما قبل الآخر وجهل السابق منهما فإنه لا يثبت حكم الصحة بالنسبة إلى واحد بعينه وثبت حكم النكاح في حق المرأة بحيث لا يحل لها أن تنكح زوجا آخر فأما إن جهلنا كيفية وقوعهما فالأولى أن لا يجوز إقامة الجمعة أيضا لأن الظاهر صحة إحداهما لأن وقوعهما معا بحيث لا يسبق إحرام إحداهما الأخرى بعيد جدا وما كان في غاية الندرة فحكمه حكم المعدوم ولأننا شككنا في شرط إقامة الجمعة فلم يجز إقامتها مع الشك في شرطها ويحتمل أن لهم إقامتها لأننا نتيقن المانع من صحتها والأول أولى
فصل : وإن أحرم بالجمعة فتبين في أثناء الصلاة أن الجمعة قد أقيمت في المصر بطلت الجمعة ولزمهم استئناف الظهر لأننا تبينا أنه أحرم بها في وقت لا يجوز الإحرام بالجمعة فلا تصح فأشبه ما لو تبين أنه أحرم بها بعد دخول وقت العصر وقال القاضي : يستحب أن يستأنف ظهرا وهذا من قوله يدل على أن له إتمامها ظهرا قياسا على المسبوق الذي أدرك دون الركعة وكما لو أحرم بالجمعة فانفض العدد قبل إتمامها والفرق ظاهر فإن هذا أحرم بها في وقت لا تصح الجمعة فيه ولا يجوز الإحرام بها والأصل الذي قاس عليه بخلاف هذا
فصل : وإذا كانت قرية إلى جانب مصر يسمعون النداء منه فأقاموا جمعة فيها لم تبطل جمعة أهل المصر لأنهم في غير المصر ولأن لجمعة المصر مزية بكونها فيه ولو كان مصران متقاربان يسمع أهل كل مصر نداء المصر الآخر كأهل مصر والقاهرة لم تبطل جمعة أحدهما بجمعة الآخر وكذلك القريتان المتقاربتان لأن لكل قوم منهم حكم أنفسهم بدليل أن جمعة أحد الفريقين لا يتم عددها بالفريق الآخر ولا تلزمهم الجمعة بكمال العدة بالفريق الآخر وإنما يلزمهم السعي إذا لم يكن لهم جمعة فهم كأهل المحلة القريبة من المصر

مسألة وفصول : سقوط الجمعة عن المسافر والعبد والمرأة ومن في طريقه مطر إليها وعلى الأعمى اختلاف
مسألة : قال : ولا جمعة على مسافر ولا عبد ولا امرأة
وعن أبي عبد الله رحمه الله في العبد روايتان إحداهما أن الجمعة عليه واجبة والرواية الأخرى ليست عليه بواجبة أما المرأة فلا خلاف في أنها لا جمعة عليها قال ابن المنذر اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا جمعة على النساء ولأن المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال ولذلك لا تجب عليها جماعة وأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه كذلك قاله مالك في أهل المدينة و الثوري في أهل العراق و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وروي ذلك عن عطاء و عمر بن عبد العزيز و الحسن و الشعبي وحكي عن الزهري و النخعي أنها تجب عليه لأن الجماعة تجب عليه فالجمعة أولى
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره وكان في حجة الوداع بعرفة يوم جمعة فصلى الظهر والعصر جمع بينهما ولم يصل جمعة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم وقد قال إبراهيم : كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك وبسجستان السنين لا يجمعون ولا يشرقون وعن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال : أقمت معه سنين بكابل يقصر الصلاة ولا يجمع رواهما سعيد وأقام أنس بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يجمع ذكره ابن المنذر وهذا إجماع مع السنة الثابتة فيه فلا يسوغ مخالفته
فصل : فأما العبد ففيه روايتان إحداهما لا تجب عليه الجمعة وهو قول من سمينا في حق المسافر والثانية تجب عليه ولا يذهب من غير إذن سيده نقلها المروذي واختارها أبو بكر وبذلك قالت طائفة إلا أن له تركها إذا منعه السيد واحتجوا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } ولأن الجماعة تجب عليه والجمعة آكد منها فتكون أولى بالوجوب حكي عن الحسن و قتادة أنها تجب على العبد الذي يؤدي الضريبة لأن حقه عليه قد تحول إلى المال فأشبه من عليه الدين
ولنا ما روى طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض ] رواه أبو داود : وقال : طارق رأى النبي صلى الله عليه و سلم ولم يسمع منه وهو من أصحابه وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا أو مسافرا أو امرأة أو صبيا أو مملوكا ] رواه الدارقطني وعن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الجمعة واجبة إلا على خمسة : امرأة أو صبي أو مريض أو مسافر أو عبد ] رواه رجاء بن مروجاء الغفاري في سننه ولأن الجمعة يجب السعي إليها من مكان بعيد فلم تجب عليه كالحج والجهاد ولأنه مملوك المنفعة محبوس على السيد أشبه المحبوس بالدين ولأنها لو وجبت عليه لجاز له المضي إليها من غير إذن سيده ولم يكن لسيده منعه منها كسائر الفرائض والآية مخصوصة بذوي الأعذار وهذا منهم
فصل : والمكاتب والمدبر حكمهما في ذلك حكم القن لبقاء الرق فيهما وكذلك من بعضه حر فإن حق سيده متعلق به وكذلك لا يجب عليه شيء مما يسقط عن العبد
فصل : إذا أجمع المسافر إقامة تمنع القصر ولم يرد استيطان البلد كطلب العلم أو الرباط أو التاجر الذي يقيم لبيع متاعه أو مشتري شيء لا ينجز إلا في مدة طويلة ففيه وجهان : أحدهما تلزمه الجمعة لعموم الآية ودلالة الأخبار التي رويناها فإن النبي صلى الله عليه و سلم أوجبها إلا على الخمسة الذين استثناهم وليس هذا منهم والثاني لا تجب عليه لأنه ليس بمستوطن والاستيطان من شرط الوجوب ولأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد على الدوام فأشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفا ويظعنون عنها شتاء ولأنهم كانوا يقيمون السنة والسنتين لا يجمعون ولا يشرقون أي لا يصلون جمعة ولا عيدا فإن قلنا تجب الجمعة عليه فالظاهر أنها لا تنعقد به لعدم الاستيطان الذي هو من شرط الانعقاد
فصل : ولا تجب الجمعة على من في طريقه إليها مطر يبل الثياب أو وحل يشق المشي إليها فيه وحكي عن مالك أنه كان لا يجعل المطر عذرا في التخلف عنها
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قال صلوا في بيوتكم قال : فكأن الناس استنكروا ذلك فقال أتعجبون من ذا ؟ فعل ذا من هو خير مني أن الجمعة عزمه وإني كرهت أن أخرجكم إليها فتمشوا في الطين والدحض أخرجه مسلم ولأنه عذر في الجماعة فكان عذرا في الجمعة كالمرض وتسقط الجمعة بكل عذر يسقط الجماعة وقد ذكرنا الأعذار في آخر صفة الصلاة وإنما ذكرنا المطر ها هنا لوقوع الخلاف فيه
فصل : تجب الجمعة على الأعمى وقال أبو حنيفة : لا تجب عليه ولنا عموم الآية والأخبار وقوله : [ الجمعة واجبة إلا على أربعة ] وما ذكرنا في وجوب الجماعة عليه

مسألة وفصول : صحة الجمعة ممن لم تجب عليه ووجوبها على من تكلف حضورها لسبب المطر وغيره
مسألة : قال : وإن حضروها أجزأتهم يعني تجزيهم الجمعة عن الظهر ولا نعلم في هذا خلافا
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا جمعة على النساء وأجمعوا على أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة أن ذلك يجزي عنهن لأن إسقاط الجمعة للتخفيف عنهن فإذا تحملوا المشقة وصلوا أجزأهم كالمريض
فصل : والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنها أكمل فأما العبد فإن أذن له سيده في حضورها فهو أفضل لينال فضل الجمعة وثوابها ويخرج من الخلاف وإن منعه سيده لم يكن له حضورها إلا أن نقول بوجوبها عليه وأما المرأة فإن كانت مسنة فلا بأس بحضورها وإن كانت شابة جاز حضورها وصلاتهما في بيوتهما خير لهما كما روي في الخبر : [ وبيوتهن خير لهن ] وقال أبو عمرو الشيباني : رأيت ابن مسعود يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة يقول : اخرجن إلى بيوتكن خير لكن
فصل : ولا تنعقد الجمعة بأحد من هؤلاء ولا يصح أن يكون إماما فيها وقال أبو حنيفة و الشافعي يجوز أن يكون العبد والمسافر إماما فيها ووافقهم مالك في المسافر وحكي عن أبي حنيفة أن الجمعة تصح بالعبيد والمسافرين لأنهم رجال تصح منهم الجمعة
ولنا أنهم من غير أهل فرض الجمعة فلم تنعقد الجمعة بهم ولم يجز أن يؤموا فيها كالنساء والصبيان ولأن الجمعة إنما تنعقد بهم تبعا لمن انعقدت به فلو انعقدت بهم أو كانوا أئمة فيها صار التبع متبوعا وعليه يخرج الحر المقيم ولأن الجمعة لو انعقدت بهم لانعقدت بهم منفردين كالأحرار المقيمين وقياسهم منتقض بالنساء والصبيان
فأما المريض ومن حبسه العذر من المطر والخوف فإذا تكلف حضورها وجبت عليه وانعقدت به ويصح أن يكون إماما فيها لأن سقوطها عنهم إنما كان لمشقة السعي فإذا تكلفوا وحصلوا في الجامع زالت المشقة فوجبت عليهم كغير أهل الأعذار

مسألة وفصول : صلاة الجمعة لمن وجبت عليه هي الأصل والظهر بدل
مسألة : قال : ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام أعادها بعد صلاته ظهرا
يعني من وجبت عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة لم يصح ويلزمه السعي إلى الجمعة إن ظن أنه يدركها لأنها المفروضة عليه فإن أدركها معه صلاها وإن فاتته فعليه صلاة الظهر وإن ظن أنه لا يدركها انتظر حتى يتيقن أن الإمام قد صلى ثم يصلي الظهر وهذا قول مالك و الثوري و الشافعي في الجديد وقال أبو حنيفة و الشافعي : في القديم تصح ظهره قبل صلاة الإمام لأن الظهر فرض الوقت بدليل سائر الأيام وإنما الجمعة بدل عنها وقائمة مقامها ولهذا إذا تعذرت الجمعة صلى ظهرا فمن صلى الظهر فقد أتى بالأصل فأجزأه كسائر الأيام وقال أبو حنيفة : ويلزم السعي إلى الجمعة فإن سعى ظهره وإن لم يسع أجزأته
ولنا أنه صلى ما لم يخاطب به وترك ما خوطب به فلم تصح كما لو صلى العصر مكان الظهر ولا نزاع في أنه مخاطب بالجمعة فسقطت عنه الظهر كما لو كان بعيدا وقد دل عليه النص والإجماع ولا خلاف في أنه يأثم بتركها وترك السعي إليها ويلزم من ذلك أن لا يخاطب بالظهر لأنه لا يخاطب في الوقت بصلاتين ولأنه يأثم بترك الجمعة وإن صلى الظهر ولا يأثم بفعل الجمعة وترك الظهر بالإجماع والواجب ما يأثم بتركه دون ما لم يأثم به وقولهم إن الظهر فرض الوقت لا يصح لأنها لو كانت الأصل لوجب عليه فعلها وأثم بتركها لوم تجزه صلاة الجمعة مع إمكانها فإن البدل لا يصار إليه إلا عند تعذر المبدل بدليل سائر الأبدال مع مبدلاتها ولأن الظهر لو صحت لم تبلط بالسعي إلى غيرها كسائر الصلوات الصحيحة ولأن الصلاة إذا صحت برئت الذمة منها وأسقطت الفرض عمن صلاها فلا يجوز اشتغالها بها بعد ذلك ولأن الصلاة إذا فرغ منها لم تبطل بشيء من مبطلاتها فكيف تبطل بما ليس من مبطلاتها ولا ورد الشرع به فأما إذا فاتته الجمعة فإنه يصير إلى الظهر لأن الجمعة لا يمكن قضاؤها لأنها لا تصح إلا بشروطها ولا يوجد ذلك في قضائها فتعين المصير إلى الظهر عند عدمها وهذا حال البدل
فصل : فإن صلى الظهر ثم شك هل صلى قبل صلاة الإمام أو بعدها لزمه إعادتها لأن الأصل بقاء الصلاة في ذمته فلا يبرأ منها إلا بيقين ولأنه صلاها مع الشك في شرطها فلم تصح كما لو صلاها مع الشك في طهارتها وإن صلاها مع صلاة الإمام لم تصح لأنه صلاها قبل فراغ الإمام منها أشبه ما لو صلاها قبله في وقت يعلم أنه لا يدركها
فصل : فأما من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر والعبد والمرأة والمريض وسائر المعذورين فله أن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام في قول أكثر أهل العلم وقال أبو بكر عبد العزيز : لا تصح صلاته قبل الإمام لأنه لا يتيقن بقاء العذر فلم تصح صلاته كغير المعذور
ولنا أنه لم يخاطب بالجمعة فصحت منه الظهر كما لو كان بعيدا من موضع الجمعة وقوله لا يتيقن بقاء العذر قلنا أما المرأة فمعلوم بقاء عذرها وأما غيرها فالظاهر بقاء عذره والأصل استمراره فأشبه المتيمم إذا صلى في أول الوقت والمريض إذا صلى جالسا إذا ثبت هذا فإنه إن صلاها ثم سعى إلى الجمعة لم تبطل ظهره وكانت الجمعة نفلا في حقه سواء زال عذره أو لم يزل وقال أبو حنيفة : تبطل ظهره بالسعي إليها كالتي قبلها
ولنا ما [ روى أبو العالية قال : سألت عبد الله بن الصامت فقلت : نصلي يوم الجمعة خلف أمراء فيؤخرون الصلاة فقال : سألت أبا ذر فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة ] وفي لفظ [ فإذا أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة ] ولأنها صلاة صحيحة أسقطت فرضه وأبرأت ذمته فأشبهت ما لو صلى الظهر منفردا ثم سعى إلى الجماعة والأفضل أن يصلوا إلا بعد صلاة الإمام ليخرجوا من الخلاف ولأنه يحتمل زوال أعذارهم فيدركون الجمعة

فصل : هل يصلي الظهر جماعة يوم الجمعة ؟
فصل : ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة إذا أمن أن ينسب إلى مخالفة الإمام والرغبة عن الصلاة معه أو أنه يرى الإعادة إذا صلى معه فعل ذلك ابن مسعود وأبو ذر والحسن بن عبيد الله وأياس بن معاوية وهو قول الأعمش و الشافعي و إسحاق وكرهه الحسن و أبو قلابة و مالك و أبو حنيفة لأن زمن النبي صلى الله عليه و سلم لم يخل من معذورين فلم ينقل أنهم صلوا جماعة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ] وروي عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة فصلى بعلقمة والأسود واحتج به أحمد وفعله من ذكرنا من قبل و مطرف و إبراهيم قال أبو عبد الله : ما أعجب الناس ينكرون هذا فأما زمن النبي صلى الله عليه و سلم فلم ينقل إلينا أنه اجتمع جماعة معذورون يحتاجون إلى إقامة الجماعة إذا ثبت هذا فإنه لا يستحب إعادتها جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه وتكره أيضا في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضي إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام أو يعيد الصلاة معه فيه وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنة أو لخوف ضرر به وبغيره وإنما يصليها في منزله أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه

مسألة وفصول : الغسل للجمعة والتجمل لها
مسألة : قال : ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب
لا خلاف في استحباب ذلك وفيه آثار كثيرة صحيحة منها ما روى سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ] رواه البخاري وليس ذلك بواجب في قول أكثر أهل العلم قال الترمذي : العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم وهو قول الأوزاعي و الثوري و مالك و الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي وقيل أن هذا إجماع قال ابن عبد البر : أجمع علماء المسلمين قديما وحديثا على أن غسل الجمعة ليس بفرض واجب وحكى عن أحمد رواية أخرى أنه واجب وروي ذلك عن أبي هريرة وعمرو بن سليم وقاول عمار بن ياسر رجلا فقال : أنا إذا أشر ممن لا يغتسل يوم الجمعة ووجهه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] وقوله عليه السلام : [ من أتى منكم الجمعة فليغتسل ] وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل رأسه وجسده ] متفق عليهن
ولنا ما روى سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل ] رواه النسائي و الترمذي وقال حديث حسن وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا ] متفق عليه وأيضا فإنه إجماع حيث قال عمر لعثمان أية ساعة هذه ؟ فقال : إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على الوضوء فقال له عمر : والوضوء أيضا - وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يأمر بالغسل ؟ - ولو كان واجبا لرده ولم يخف على عثمان وعلى من حضر من الصحابة وحديثهم محمول على تأكيد الندب ولذلك ذكر في سياقه : [ وسواك وأن يمس طيبا ] كذلك رواه مسلم والسواك ومس الطيب لا يجب ولما ذكرنا من الأخبار وقالت عائشة : كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا يروحون إلى الجمعة بهيئتهم فتظهر لهم رائحة فقيل لهم : لو اغتسلتم رواه مسلم بنحو هذا المعنى
فصل : وقت الغسل بعد طلوع الفجر فمن اغتسل بعد ذلك أجزأه وإن اغتسل قبله لم يجزئه وهذا قول مجاهد و الحسن و النخعي و الثوري و الشافعي و إسحاق وحكي عن الأوزاعي أنه يجزيه الغسل قبل الفجر وعن مالك أنه لا يجزيه الغسل إلا أن يتعقبه الرواح
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اغتسل يوم الجمعة ] واليوم من طلوع الفجر وإن اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء وهذا قول مجاهد و الحسن و مالك و الأوزاعي و الشافعي واستحب طاووس و الزهري و قتادة و يحيى بن أبي كثير إعادة الغسل
ولنا أنه اغتسل يوم الجمعة فدخل في عموم الخبر وأشبه من لم يحدث والحدث إنما يؤثر في الطهارة الصغرى ولا يؤثر في المقصود من الغسل وهو التنظيف وإزالة الرائحة ولأنه غسل فلا يؤثر الحدث في إبطاله كغسل الجنابة
فصل : ويفتقر الغسل إلى النية لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كتجديد الوضوء فإن اغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا ونواهما أجزأه ولا نعلم فيه خلافا
وروي ذلك عن ابن عمر و مجاهد و مكحول و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبي ثور وقد ذكرنا أن معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من غسل واغتسل ] أي جامع واغتسل ولأنهما غسلان اجتمعا فأشبها غسل الحيض والجنابة وإن اغتسل للجنابة ولم ينو غسل الجمعة ففيه وجهان أحدهما لا يجزيه
وروي عن بعض بني أبي قتادة أنه دخل عليه يوم الجمعة مغتسلا فقال : للجمعة اغتسلت ؟ فقال : لا ولكن للجنابة قال : فأعد غسل الجمعة ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وإنما لامرئ ما نوى ] والثاني يجزيه لأنه مغتسل فيدخل في عموم الحديث ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل بهذا الغسل وقد روي في بعض الحديث من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة
فصل : ومن لا يأتي الجمعة فلا غسل عليه قال أحمد : ليس على النساء غسل يوم الجمعة وعلى قياسهن الصبيان والمسافر والمريض وكان ابن عمر وعلقمة لا يغتسلان في السفر وكان طلحة يغتسل
وروي عن مجاهد و طاوس ولعلهم أخذوا بعموم قوله : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] وغيره من الأخبار العامة
ولنا قوله عليه السلام : [ من أتى الجمعة فليغتسل ] ولأن المقصود التنظيف وقطع الرائحة حتى لا يتأذى غيره به وهذا مختص بمن أتى الجمعة والأخبار يراد بها هذا ولهذا سماه غسل الجمعة ومن لا يأتيها لا يكون غسله غسل الجمعة وإن أتاها أحد ممن لا تجب عليه استحب له الغسل لعموم الخبر ووجود المعنى فيه
فصل : ويستحب أن يلبس ثوبين نظيفين لما روى عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم الجمعة يقول : [ ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته ] رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة وجاء في حديث : [ من لبس أحسن ثيابه يوم الجمعة واغتسل ] وذكر الحديث وأفضلها البياض لقوله عليه السلام : [ خير ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم ] ويستحب أن يعتم ويرتدي لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك والإمام في هذا ونحوه آكد من غيره لأنه المنظور إليه من بين الناس
فصل : والتطيب مندوب إليه والسواك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم وسواك وأن يمس طيبا ]
وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل وإن كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك ] ويستحب أن يدهن ويتنظف بأخذ الشعر وقطع الرائحة لقوله عليه السلام : [ لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهن أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ]

فصول : حكم تخطي الرقاب في المسجد ومن سبق إلى مجلس فهو أحق به !
فصل : إذا أتى المسجد كره له أن يتخطى رقاب الناس لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فلا يفرق بين اثنين ] وقوله [ ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا ] وقوله في الذي جاء يتخطى رقاب الناس : [ اجلس فقد آذيت وآنيت ]
وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد وقد ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه فأما الإمام إذا لم يجد طريقا فلا يكره له التخطي لأنه موضع حاجة
فصل : فإن رأى فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ففيه روايتان إحداهما له التخطي قال أحمد : يدخل الرجل ما استطاع ولا يدع بين يديه موضعا فارغا فإن جهل فترك بين يديه خاليا فلتخط الذي يأتي بعده ويتجاوزه إلى الموضع الخالي فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خاليا وقعد في غيره وقال الأوزاعي : يتخطاهم إلى السعة وقال قتادة : يتخطاهم إلى مصلاه وقال الحسن : تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد فإنه لا حرمة لهم وعن أحمد رواية أخرى إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس لأنه يسير فعفي عنه وإن كثر كرهناه وكذلك قال الشافعي : إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلاه إلا بأن يتخطى فيسعه التخطي إن شاء الله تعالى
ولعل قول أحمد : ومن وافقه في الرواية الأولى فيما إذا تركوا مكانا واسعا مثل الذين يصفون في آخر المسجد ويتركون بين أيديهم صفوفا خالية فهؤلاء لا حرمة لهم قال الحسن لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه و سلم ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف وجلسوا في شرهها ولأن تخطيهم مما لا بد منه وقوله الثاني في حق من لم يفرطوا وإنما جلسوا في مكانهم لامتلاء ما بين أيديهم لكن فيه سعة يمكن الجلوس فيه لازدحامهم ومتى كان لم يمكن الصلاة إلا بالدخول وتخطيهم جاز لأنه موضع حاجة
فصل : إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة أو احتاج إلى الوضوء فله الخروج [ قال عقبة : صليت وراء النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى حجر بعض نسائه فقال : ( ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته ) ] رواه البخاري : فإذا قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به لقول النبي صلى الله عيه وسلم : [ من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به ] وحكمه في التخطي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة
فصل : وليس له أن يقيم إنسانا ويجلس في موضعه سواء كان المكان راتبا لشخص يجلس فيه أو موضع حلقة لمن يحدث فيها أو حلقة الفقهاء يتذاكرون فيها أو لم يكن لما روى ابن عمر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقيم الرجل يعني أخاه من مقعده ويجلس فيه ] متفق عليه ولأن المسجد بيت من بيوت الله والناس فيه سواء قال الله تعالى : { سواء العاكف فيه والباد } فمن سبق إلى مكان فهو أحق به لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به ] رواه أبو داود وكمقاعد الأسواق ومشارع المياه والمعادن فإن قدم صاحبا له فجلس في موضع حتى إذا جاء قام النائب وأجلسه جاز لأن النائب يقوم باختياره وقد روي أن محمد بن سيرين كان يرسل غلاما له يوم الجمعة فيجلس فيه فإذا جاء محمد قام الغلام وجلس محمد فيه فإن لم يكن نائبا فقام ليجلس آخر في مكانه فله الجلوس فيه لأنه قام باختيار نفسه فأشبه النائب وأما القائم فإن انتقل إلى مثل مكانه الذي آثر به في القرب وسماع الخطبة فلا بأس وإن انتقل إلى ما دونه كره له لأنه يؤثر على نفسه في الدين ويحتمل أن لا يكره لأن تقديم أهل الفضل إلى ما يلي الإمام مشروع ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ] ولو آثر شخصا بمكانه لم يجز لغيره أن يسبقه إليه لأن الحق للجالس آثر به غيره فقام مقامه في استحقاقه كما لو يحجر مواتا أو سبق إليه ثم آثر غيره به وقال ابن عقيل نحو ذلك لأن القائم أسقط حقه بالقيام فبقي على الأصل فكان السابق إليه أحق به كمن وسع لرجل في طريق فمر غيره وما قلنا أصح ويفارق التوسعة في الطريق لأنها إنما جعلت للمرور فيها فمن انتقل من مكان فيها لم يبق له فيها حق يؤثر به وليس كذلك المسجد فإنه للإقامة فيه ولا يسقط حق المتنقل من مكانه إذا انتقل لحاجة وهذا إنما انتقل مؤثرا لغيره فأشبه النائب الذي بعثه إنسان ليجلس في موضع يحفظه له ولو كان الجالس مملوكا لم يكن لسيده أن يقيمه لعموم الخبر ولأن هذا ليس بمال وهو حق ديني فاستوى هو وسيده فيه كالحقوق الدينية كلها والله أعلم
فصل : وإن فرش مصلى له في مكان ففيه وجهان : أحدهما يجوز رفعه والجلوس في موضعه لأنه لا حرمة له ولأن السبق بالأجسام لا بالاوطئة والمصليات ولأن تركه يفضي إلى أن صاحبه يتأخر ثم يتخطى رقاب المصلين ورفعه ينفي ذلك والثاني لا يجوز فيه افتياتا على صاحبه ربما أفضى إلى الخصومة ولأنه سبق إليه فكان كمحتجر الموات

فصول : استحباب الدنو من الإمام لمن بكر والإكثار من الصلاة على النبي والأذكار المستحبة
فصل : ويستحب الدنو من الإمام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي و ابن ماجة وهذا لفظه
وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ احضروا الذكر وادنوا من الإمام فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها ] رواه أبو داود ولأنه أمكن له من السماع
فصل : وتكره الصلاة في المقصورة التي تحمى نص عليه أحمد وروي عن ابن عمر أنه كان إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج وكرهه الأحنف و ابن محيريز و الشعبي و إسحاق ورخص فيها أنس و الحسن و الحسين و القاسم و سالم و نافع لأنه مكان من الجامع فلم تكره الصلاة فيه كسائر المسجد ووجه الأول أنه يمنع الناس من الصلاة فيه كالمغصوب فكره لذلك فأما إن كانت لا تحمى فيحتمل أن لا تكره الصلاة فيها لعدم شبه الغصب ويحتمل أن تكره لأنها تقطع الصفوف فأشبهت ما بين السواري واختلفت الرواية عن أحمد في الصف الأول فقال : في موضع هو الذي يلي المقصورة لأن المقصورة تحمى قال : ما أدري هل الصف الأول الذي يقطعه المنبر أو الذي يليه والصحيح أنه الذي يقطع المنبر لأنه هو الأول في الحقيقة ولو كان الأول ما دونه أفضى إلى خلو ما يلي الإمام ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كان يليه فضلاؤهم ولو كان الصف الأول وراء المنبر لوقفوا فيه
فصل : ويستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول عن موضعه لما روى ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره ] رواه أبو مسعود و أحمد بن الفرات في سننه والإمام أحمد في مسنده ولأن تحوله عن مجلسه يصرف عنه النوم
فصل : ويستحب أن يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الجمعة لما روي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة ] رواه ابن ماجة وعن أوس بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ( أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ) قالوا يا رسول الله ؟ وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت قال : ( إن الله عز و جل حرم على الأرض أجساد الأنبياء عليهم السلام ) ] رواه أبو داود
فصل : ويستحب قراءة الكهف يوم الجمعة لما روي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة فإن خرج الدجال عصم منه ] رواه زيد بن علي في كتابه بإسناده وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق و قال خالد بن معدان : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة قبل أن يخرج الإمام كانت له كفارة ما بينه وبين الجمعة وبلغ نورها البيت العتيق
فصل : يستحب الإكثار من الدعاء يوم الجمعة لعله يوافق ساعة الإجابة لأن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر يوم الجمعة فقال : [ فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ] وأشار بيده يقللها وفي لفظ وهو قائم يصلي متفق عليه واختلف في تلك الساعة فقال عبد الله بن سلام و طاوس وهي آخر ساعة في يوم الجمعة وفسر ابن سلام الصلاة بانتظارها وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه و سلم فروي عن [ عبد الله بن سلام قال : قلت ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس أنا لنجد في كتاب الله في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئا إلا قضى حاجته قال عبد الله بن سلام : فأشار إلي النبي صلى الله عيه وسلم أو بعض ساعة فقلت : صدقت أو بعض ساعة قلت : أي ساعة هي ؟ قال : هي آخر ساعة من ساعات النهار - قلت أنها ليست ساعة صلاة قال بلى - إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة ] رواه ابن ماجة ويكون القيام على هذا بمعنى الملازمة والإقامة كقول الله تعالى { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } وعن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس ] أخرجه الترمذي وقيل هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة لما روى أبو موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة ] رواه مسلم وعن عمرو بن عوف المزني قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ( في الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد فيها شيئا إلا أعطي سؤله ) قيل أي ساعة ؟ قال : ( حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها ) ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب فعلى هذا التفسير تكون الساعة مختلفة فتكون في حق كل قوم في وقت صلاتهم وقيل هي ما بين الفجر إلى طلوع الشمس ومن العصر إلى غروبها وقيل هي الساعة الثالثة من النهار وقال كعب : لو قسم الإنسان جمعه في جمع أتى على تلك الساعة وقيل هي متنقلة في اليوم وقال ابن عمر : إن طلب حاجة في يوم ليسير وقيل أخفى الله تعالى هذه الساعة ليجتهد عباده في دعائه في جميع اليوم طالبا لها كما أخفى ليلة القدر في ليالي رمضان وأولياءه في الخلق ليحسن الظن بالصالحين كلهم

مسألة : صلاة الجمعة قبل الزوال
مسألة : قال : وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم
وفي بعض النسخ في الساعة الخامسة والصحيح في الساعة السادسة فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز صلاتها فيما قبل السادسة وروي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال وقال القاضي وأصحابه : يجوز فعلها في وقت صلاة العيد وروى ذلك عبد الله عن أبيه قال : نذهب إلى أنها كصلاة العيد وقال مجاهد : ما كان للناس عيد إلا في أو لانهار وقال عطاء : كل عيد حين يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر لما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما كان عيد إلا في أول النهار ولقد [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بنا الجمعة في ظل الحطيم ] رواه ابن البختري في أماليه بإسناده وروي عن ابن مسعود ومعاوية أنهما صليا الجمعة ضحى وقالا : إنما عجلنا خشية الحر عليكم وروى الأثرم حديث ابن مسعود ولأنها عيد فجازت في وقت العيد كالفطر والأضحى والدليل على أنها عيد قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين ] وقوله : [ قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان ] وقال أكثر أهل العلم : وقتها وقت الظهر إلا أنه يستحب تعجيلها في أول وقتها لقول سلمة بن الأكوع [ كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه و سلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتبع الفيء ] متفق عليه وقال أنس : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس ] رواه البخاري ولأنهما صلاتا وقت فكان وقتهما واحدا كالمقصورة والتامة ولأن إحداهما بدل الأخرى وقائمة مقامها فأشبه الأصل المذكور ولأن آخر وقتهما واحد فكان أوله واحدا كصلة الحضر والسفر
ولنا على جوازها في السادسة السنة والإجماع أما السنة فما روى جابر بن عبد الله قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي يعني الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس ] أخرجه مسلم وعن سهل بن سعد قال : [ ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه قال ابن قيتبة : لا يسمى غداء ولا قائلة بعد الزوال وعن سلمة قال : [ كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان فيء ] رواه أبو داود وأما الإجماع فروى الإمام أحمد عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله بن سيدان قال : شهدت الخطبة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد ينتصف النهار ثم صليتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره قال وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعيد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال وأحاديثهم تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم فعلها بعد الزوال في كثير من أوقاته لا خلاف في جوازه وأنه الأفضل والأولى وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال ولا تنافي بينهما وأما في أول النهار فالصحيح أنها لا تجوز لما ذكره أكثر أهل العلم ولأن التوقيت لا يثبت إلا بدليل من نص أو ما يقوم مقامه وما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن خلفائه أنهم صلوها في أول النهار ولأن مقتضى الدليل كون وقتها وقت الظهر وإنما جاز تقديمها عليه بما ذكرنا من الدليل وهو مختص بالساعة السادسة فلم يجز تقديمها عليها والله أعلم ولأنها لو صليت في أول النهار لفاتت أكثر المصلين فإن العادة اجتماعهم لها عند الزوال وإنما يأتيها ضحى أحاد من الناس وعدد يسير كما روي عن ابن مسعود أنه أتى الجمعة فوجد أربعة قد سبقوه فقال : رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد
إذا ثبت هذا فالأولى أن لا تصلى إلا بعد الزوال ليخرج من الخلاف وبفعلها في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعلها فيه في أكثر أوقاته و يعجلها في أول وقتها في الشتاء والصيف لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعجلها بدليل الأخبار التي رويناها ولأن الناس يجتمعون لها في أول وقتها ويبكرون إليها قبل وقتها فلو انتظر الإبراد بها لشق على الحاضرين وإنما جعل الإبراد بالظهر في شدة الحر دفعا للمشقة التي يحصل أعظم منها بالإبراد بالجمعة

مسألة وفصل : اتفاق الجمعة والعيد في يوم واحد
فصل : وإن اتفق عيد في يوم جمعة سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد إلا الإمام فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة وقيل في وجوبها على الإمام روايتان وممن قال بسقوطها الشعبي و النخعي و الأوزاعي وقيل هذا مذهب عمر وعثمان وعلي وسعيد وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وقال أكثر الفقهاء تجب الجمعة لعموم الآية والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد
ولنا ما روى [ أياس بن أبي رملة الشامي قال : شهدت معاوية يسأل زيد بن أرقم هل شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عيدين اجتمعا في يوم واحد ؟ قال : نعم قال : فكيف صنع ؟ قال : صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال : ( من شاء أن يصلي فليصل ) ] رواه أبو داود والإمام أحمد ولفظه : [ من شاء أن يجمع فليجمع ] وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون ] رواه ابن ماجة وعن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو ذلك ولأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة وقد حصل سماعها في العيد فأجزأه عن سماعها ثانيا ولأن وقتهما واحد بما بيناه فسقطت إحداهما بالأخرى كالجمعة مع الظهر وما احتجوا به مخصوص بما رويناه وقياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة فأما الإمام فلم تسقط عنه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ وإنا مجمعون ] ولأنه لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه ومن يريدها ممن سقطت عنه بخلاف غيره من الناس
فصل : وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد فقد روي عن أحمد قال : تجزئ الأولى منهما فعلى هذا يجزئه عن العيد والظهر ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جوز الجمعة في وقت العيد وقد روى أبو داود بإسناده عن عطاء قال : اجتمع يوم الجمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال : عيدان قد اجتمعا في يوم واحد فجمعهما وصلاهما ركعتين بكرة فلم يزد عليهما حتى صلى العصر وروي عن ابن عباس أنه بلغه فعل ابن الزبير فقال أصاب السنة قال الخطابي : وهذا لا يحمل إلا على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد والظهر ولأن الجمعة إذا سقطت مع تأكدها فالعيد أولى أن يسقط بها أما إذا قدم العيد فإنه يحتاج إلى أن يصلي الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة

مسألة وفصل : مقدار البعد الذي تلزم فيه الجمعة
مسألة : قال : وتجب الجمعة على من بينه وبين الجامع فرسخ
هذا في حق غير أهل المصر أما أهل المصر فيلزمهم كلهم الجمعة بعدوا أو قربوا قال أحمد : أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها سمعوا النداء أو لم يسمعوا وذلك لأن البلد الواحد بني للجمعة فلا فرق بين القريب والبعيد ولأن المصر لا يكاد يكون أكثر من فرسخ فهو في مظنة القرب فاعتبر ذلك وهذا قول أصحاب الرأي ونحوه قول الشافعي فأما غير أهل المصر فمن كان بينه وبين الجامع فرسخ فما دون فعليه الجمعة وإن كان أبعد فلا جمعة عليه وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وهو قول مالك و الليث وروي عن عبد الله بن عمرو قال : الجمعة على من سمع النداء وهذا قول الشافعي و إسحاق لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الجمعة على من سمع النداء ] رواه أبو داود والأشبه أنه كلام عبد الله بن عمرو ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للأعمى الذي قال : ليس لي قائد يقودني ( أتسمع النداء ؟ قال : نعم قال فأجب ) ] ولأن من سمع النداء داخل في عموم قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس و الحسن و نافع و عكرمة و الحكم و عطاء و الأوزاعي أنهم قالوا : [ الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ] لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ] وقال أصحاب الرأي : لا جمعة عل من كان خارج المصر لأن عثمان رضي الله عنه صلى العيد في يوم جمعة ثم قال لأهل العوالي : من أراد منكم أن ينصرف فلينصرف ومن أراد أن يقيم حتى يصلي الجمعة فليقم ولأنهم خارج المصر فأشبه أهل الحلل
ولنا قول الله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } وهذا يتناول غير أهل المصر إذا سمعوا النداء وحديث عبد الله بن عمرو ولأن غير أهل المصر يسمعون النداء وهم من أهل الجمعة فلزمهم السعي إليها كأهل المصر وحديث أبي هريرة غير صحيح يرويه عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف قال أحمد بن الحسن ذكرت هذا الحديث لـ أحمد بن حنبل فغضب وقال : استغفر ربك استغفر ربك وإنما فعل أحمد هذا لأنه لم ير الحديث شيئا لحال إسناده قال ذلك الترمذي وأما ترخيص عثمان لأهل العوالي فلأنه إذا اجتمع عيدان اجتزئ بالعيد وسقطت الجمعة عمن حضره على ما قررناه فيما مضى وأما اعتبار أهل القرى بأهل الحلل فلا يصح لأن أهل الحلل غير مستوطنين ولا هم ساكنون بقرية ولا في موضع جعل للاستيطان وأما اعتبار حقيقة النداء فلا يمكن لأنه قد يكون من الناس الأصم وثقيل السمع وقد يكون النداء بين يدي المنبر فلا يسمعه إلا من في الجامع وقد يكون المؤذن خفي الصوت أو في يوم ذي ريح ويكون المستمع نائما أو مشغولا بما يمنع السماع فلا يسمع ويسمع من هو أبعد منه فيفضي إلى وجوبها على البعيد دون القريب وما هذا سبيله ينبغي أن يقدر بمقدار لا يختلف والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب إذا كان المنادي صيتا في موضع عال والريح ساكنة والأصوات هادئة والمستمع سميع غير ساه ولا لاه - فرسخ أو ما قاربه فحد به والله أعلم
فصل : وأهل القرية لا يخلون من حالين إما أن يكون بينهم وبين المصر أكثر من فرسخ أولا فإن كان بينهم أكثر من فرسخ لم يجب عليهم السعي إليه وحالهم معتبر بأنفسهم فإن كانوا أربعين اجتمعت فيهم شرائط الجمعة فعليهم إقامتها وهم مخيرون بين السعي لى المصر وبين إقامتها في قريتهم والأفضل إقامتها لأنه متى سعى بعضهم أخل على الباقين الجمعة وإذا أقاموا حضرها جميعهم وفي إقامتها بموضعهم تكثير جماعات المسلمين وإن كانوا ممن لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم فهم مخيرون بين السعي إليها وبين أن يصلوا ظهرا والأفضل السعي إليها لينال فضل الساعي إلى الجمعة ويخرج من الخلاف والحال الثاني أن يكون بينهم وبين المصر فرسخ فما دون فينظر فيهم فإن كانوا أقل من أربعين فعليهم السعي إلى الجمعة لما قدمنا وإن كانوا ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم وكان موضع الجمعة القريب منهم قرية أخرى لم يلزمهم السعي إليها وصلوا في مكانهم إذ ليست إحدى القريتين بأولى من الأخرى وإن أحبوا السعي إليها جاز والأفضل أن يصلوا في مكانهم كما ذكرنا من قبل فإن سعى بعضهم فنقص عدد الباقين لزمهم السعي لئلا يؤدي إلى ترك الجمعة ممن تجب عليه وإن كان موضع الجمعة القريب مصرا فهم مخيرون أيضا بين السعي إلى المصر وبين إقامة الجمعة في مكانهم كالتي قبلها ذكره ابن عقيل وعن أحمد أن السعي يلزمهم إلا أن يكون لهم عذر فيصلون جمعة والأول أصح لأن أهل القرية لا تنعقد بهم جمعة أهل المصر فكان لهم إقامة الجمعة في مكانهم كما لو سمعوا النداء من قرية أخرى ولأن أهل القرى يقيمون الجمع في بلاد الإسلام وإن كانوا قريبا من المصر من غير نكير

فصل : العدد المعين لصلاة الجمعة
فصل : وإذا كان أهل المصر دون الأربعين فجاءهم أهل القرية فأقاموا الجمعة في المصر لم يصح لأن أهل القرية غير مستوطنين في المصر وأهل المصر لا تنعقد بهم الجمعة لقلتهم وإن كان أهل القرية ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم لزم أهل المصر السعي إليهم لأنهم ممن بينه وبين موضع الجمعة أقل من فرسخ فلزمهم السعي إليها كما يلزم أهل القرية السعي إلى المصر إذا أقيمت به وكان أهل القرية دون الأربعين وإن كان في كل واحد منهما دون الأربعين لم يجز إقامة الجمعة في واحد منهما

فصول : حكم السفر يوم الجمعة
فصل : ومن تجب عليه الجمعة لا يجوز له السفر بعد دخول وقتها وبه قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : يجوز وسئل الأوزاعي عن مسافر يسمع أذان الجمعة وقد أسرج دابته فقال ليمض في سفره لأن عمر رضي الله عنه قال : الجمعة لا تحبس عن سفر
ولنا ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته ] رواه الدارقطني في الإفراد وهذا وعيد لا يلحق بالمباح ولأن الجمعة قد وجبت عليه فلم يجز له الاشتغال بما يمنع منها كاللهو والتجارة وما روي عن عمر فقد روي عن ابنه وعائشة أخبار تدل على كراهية السفر يوم الجمعة فتعارض قوله ثم نحمله على السفر قبل الوقت
فصل : وإن سافر قبل الوقت فذكر أبو الخطاب فيه ثلاث روايات : إحداها المنع لحديث ابن عمر والثانية الجواز وهو قول الحسن و ابن سيرين وأهل العلم لقول عمر ولأن الجمعة لم تجب فلم يحرم السفر كالليل والثالثة يباح للجهاد دون غيره وهذا الذي ذكره القاضي لما روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وجه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في جيش مؤتة فتخلف عبد الله فرآه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ( ما خلفك ؟ ) قال : الجمعة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( لروحة في سبيل الله - أو قال غدوة - خير من الدنيا وما فيها ) قال : فراح منطلقا ] رواه الإمام أحمد في المسند والأولى الجواز مطلقا لأن ذمته بريئة من الجمعة فلم يمنعه إمكان وجوبها عليه كما قبل يومها وذكر أبو الخطاب أن الوقت الذي يمنع السفر ويختلف فيما قبله زوال الشمس ولم يفرق القاضي بين ما قبل الزوال وما بعده ولعله بنى على أن وقتها وقت العيد ووجه قول أبي الخطاب على أن تقديمها رخصة على خلاف الأصل فلم يتعلق به حكم المنع كتقديم الآخرة من المجموعتين إلى وقت الأولى
فصل : وإن خاف المسافر فوات رفقته جاز له ترك الجمعة لأن ذلك من الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة وسواء كان في بلده فأراد إنشاء السفر أو في غيره

فصول : التنفل قبل وبعد صلاة الجمعة
فصل : قال أحمد : إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا وفي رواية إن شاء ستا وكان ابن مسعود و النخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا ] رواه مسلم وعن علي وأبي موسى و عطاء و مجاهد و حميد بن عبد الرحمن و الثوري أنه يصلي ستا لما روي [ عن ابن عمر أنه كان إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعا وإذا كان في المدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد فقيل له فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل ذلك ] رواه أبو داود
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك كله بدليل ما روي من الأخبار وروي عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين ] متفق عليه وفي لفظ لـ مسلم [ وكان لا يصلي في المسجد حتى ينصرف فيصلي ركعتين في بيته ] وهذا يدل على أنه مهما فعل من ذلك كان حسنا قال أحمد في رواية عبد الله : ولو صلى مع الإمام ثم لم يصل شيئا حتى صلى العصر كان جائزا قد فعله عمران بن حصين وقال في رواية أبي داود : يعجبني أن يصلي يعني بعد الجمعة
فصل : فأما الصلاة قبل الجمعة فلا أعلم فيه إلا ما روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يركع من قبل الجمعة أربعا ] أخرجه ابن ماجة وروى عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه قال : كنت أبقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا أربعا قال أبو بكر : كنا نكون مع حبيب بن أبي ثابت في الجمعة فيقول : أزالت الشمس بعد ؟ ويلتفت وينظر فإذا زالت الشمس صلى الأربع التي قبل الجمعة وعن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربع ركعات وبعدها أربع ركعات رواه سعيد
فصل : ويستحب لمن أراد الركوع يوم الجمعة أن يفصل بينها وبينه بكلام أو انتقال من مكانه أو خروج إلى منزله لما [ روى السائب بن يزيد ابن أخت النمر قال : صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال : لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج ] أخرجه مسلم وعن نافع أن ابن عمر رأى رجلا يصلي يوم الجمعة ركعتين فدفعه وقال : أتصلي الجمعة أربعا ؟ و [ كان عبد الله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته ويقول : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
فصل : قال أحمد : إذا كانوا يقرؤون الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب إلي أن يسمع إذا كان فتحا من فتوح المسلمين أو كان فيه شيء من أمور المسلمين فليستمع وإن كان شيئا إنما فيه ذكرهم فلا يستمع وقال في الذين يصلون في الطرقات إذا لم يكن بينهم باب مغلق فلا بأس وسئل عن رجل يصلي خارجا من المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة قال : أرجو أن لا يكون به بأس وسئل عن الرجل يصلي يوم الجمعة وبينه وبين الإمام سترة قال إذا لم يكن يقدر على غير ذلك وقال : إذا دخلوا يوم الجمعة في دار في الرحبة فأغلقوا عليهم الباب فلم يقدروا أن يخرجوا وكانوا يسمعون التكبير فإن كان الباب مفتوحا يرون الناس كان جائزا ويعيدون الصلاة إذا كان مغلقا هؤلاء لم يكونوا مع صلاة الإمام
وهذا والله أعلم لأنهم إذا كانوا في دار ولم يروا الإمام كانوا متحيزين عن الجماعة فإذا اتفق مع ذلك عدم الرؤية لم يصح وأما إذا كانوا في الرحبة أو الطريق فليس بينهم إلا باب المسجد ويسمعون حس الجماعة ولم يفت إلا الرؤية فلم يمنع من الاقتداء

فصل : القراءة في صلاة الصبح يوم الجمعة
فصل : ويستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ألم السجدة و { هل أتى على الإنسان } نص عليه أحمد لما روى ابن عباس وأبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة { الم * تنزيل } و { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } ] رواهما مسلم قال أحمد رحمه الله : ولا أحب أن يداوم عليها لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة ويحتمل أن يستحب المداومة عليها لأن لفظ الخبر يدل عليها وكان النبي صلى الله عليه و سلم إذا عمل عملا أثبته ودام عليه وكان عمله ديمة

باب صلاة العيدين
الأصل في صلاة العيد الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { فصل لربك وانحر } المشهور في التفسير أن المراد بذلك صلاة العيد وأما السنة فـ [ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتواتر أنه كان يصلي صلاة العيدين ] [ قال ابن عباس : شهدت صلاة الفطر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر فكلهم يصليها قبل الخطبة ] : وعنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة ] متفق عليها وأجمع المسلمون على صلاة العيدين وصلاة العيد فرض على الكفاية في ظاهر المذهب إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام وبه قال بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة : هي واجبة على الأعيان وليس فرضا لأنها صلاة شرعت لها الخطبة فكانت واجبة على الأعيان وليست فرضا كالجمعة

حكم صلاة العيد
وقال ابن أبي موسى وقيل أنها سنة مؤكدة غير واجبة وبه قال مالك وأكثر أصحاب الشافعي لـ [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم للأعرابي حين ذكر خمس صلوات قال : هل علي غيرهن ؟ قال : ( لا إلا أن تطوع ) ] و [ قوله عليه السلام : خمس صلوات كتبهن الله على العبد ] الحديث ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود لم يشرع لها أذان فلم تجب ابتداء بالشرع كصلاة الاستسقاء والكسوف ثم اختلفوا فقال بعضهم : إذا امتنع جميع الناس من فعلها قاتلهم الإمام عليها وقال بعضهم : لا يقاتلهم
ولنا على أنا لا تجب على الأعيان أنها لا يشرع لها الأذان فلم تجب على الأعيان كصلاة الجنازة ولأن الخبر الذي ذكره مالك ومن وافقه يقتضي نفي وجوب صلاة سوى الخمس وإنما خولف بفعل النبي صلى الله عليه و سلم ومن صلى معه فيختص بمن كان مثلهم ولأنها لو وجبت على الأعيان لوجبت خطبتها ووجب استماعها كالجمعة
ولنا على وجوبها في الجملة أمر الله تعالى بها بقوله : { فصل لربك وانحر } والأمر يقتضي الوجوب ومداومة النبي صلى الله عليه و سلم على فعلها وهذا دليل الوجوب ولأنها من أعلام الدين الظاهرة فكانت واجبة كالجمعة ولأنها لو لم تجب لم يجب قتال تاركيها كسائر السنن يحققه أن القتال عقوبة لا تتوجه إلى تارك مندوب كالقتل والضرب فأما حديث الأعرابي فلا حجة لهم فيه لأن الأعراب لا تلزمهم الجمعة لعدم الاستيطان فالعيد أولى والحديث الآخر مخصوص بما ذكرناه على أنه إنما صرح بوجوب الخمس وخصها بالذكر لتأكيدها ووجوبها على الأعيان ووجوبها على الدوام وتكررها في كل يوم وليلة وغيرها يجب نادرا لعرض كصلاة الجنازة والمنذورة والصلاة المختلف فيها فلم يذكرها وقياسهم لا يصح لأن كونها ذات ركوع وسجود لا أثر له بدليل أن النوافل كلها فيها ركوع وسجود وهي غير واجبة فيجب حذف هذا الوصف لعدم أثره ثم ينقض قياسهم بصلاة الجنازة وينتقض على كل حال بالمنذورة

مسألة وفصلين : حكم التكبير في العيدين
مسألة : قال : ويظهرون التكبير في ليالي العيدين وهو في الفطر آكد لقول الله تعالى : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون }
وجملته أنه يستحب للناس إظهار التكبير في ليلتي العيدين في مساجدهم ومنازلهم وطرقهم مسافرين كانوا أو مقيمين لظاهر الآية المذكورة قال بعض أهل العلم في تفسيرها لتكملوا عدة رمضان ولتكبروا الله عند إكماله على ما هداكم ومعنى إظهار التكبير رفع الصوت به واستحب ذلك لما فيه من إظهار شعائر الإسلام وتذكير الغير وكان ابن عمر يكبر في فتية بمنى يسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا قال أحمد : كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعا ويعجبنا ذلك واختص الفطر بمزيد تأكيد لورود النص فيه وليس التكبير واجبا وقال داود : هو واجب في الفطر لظاهر الآية
ولنا أنه تكبير في عيد فأشبه تكبير الأضحى ولأن الأصل عدم الوجوب ولم يرد من الشرع إيجابه فيبقى على الأصل والآية ليس فيها أمر إنما أخبر الله تعالى عن إرادته فقال : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم }
فصل : ويستحب أن يكبر في طريق العيد ويجهر بالتكبير قال ابن أبي موسى : يكبر الناس في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيدين جهرا حتى يأتي الإمام المصلى ويكبر الناس بتكبير الإمام في خطبته وينصتون فيما سوى ذلك قال سعيد : حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا خرج من بيته إلى العيد كبر حتى يأتي المصلي وروي ذلك عن سعيد بن جبير و عبد الرحمن بن أبي ليلى واختلف فيه عن إبراهيم
فصل : قال القاضي : التكبير في الأضحى مطلق ومقيد فالمقيد عقيب الصلوات والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان وأما الفطر فمسنونه مطلق غير مقيد على ظاهر كلام أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وقال أبو الخطاب : يكبر من غروب الشمس من ليلة الفطر إلى خروج الإمام إلى الصلاة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وفي الأخرى إلى فراغ الإمام من الصلاة

مسائل وفصول : ما يستحب للعيد : التطهر والغسل والإفطار قبل الصلاة
مسألة : قال : فإذا أصبحوا تطهروا
وجملته أنه يستحب أن يتطهر بالغسل للعيد وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال علقمة و عروة و عطاء و النخعي و الشعبي و قتادة و أبو الزناد و مالك و الشافعي و ابن المنذر لما روى ابن عباس والفاكه بن سعد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى ] وروي أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في جمعة من الجمع : [ إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك ] رواه ابن ماجة فعلى هذه الأشياء تكون الجمعة عيدا ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة فاستحب الغسل فيه كوم الجمعة وإن اقتصر على الوضوء أجزأه لأنه إذا لم يجب الغسل للجمعة مع الأمر فيها فغيرها أولى
فصل : ويستحب أن يتنظف ويلبس أحسن ما يجد ويتطيب ويتسوك كما ذكرنا في الجمعة لما ذكرنا من الحديث وقال عبد الله بن عمر : [ وجد عمر حلة من استبرق في السوق فأخذها فأتى بها النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ابتع هذا تتجمل بها في العيدين والوفد فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( إنما هذه لباس من لا أخلاق لهم ) ] متفق عليه
وهذا يدل على أن التجمل عندهم في هذه المواضع كان مشهورا وروى ابن الأحمر في العيدين والجمعة بإسناده عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبس في العيدين برد حبرة ] وبإسناده عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوبي مهنته لجمعته وعيده ] وقال مالك : سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد والإمام بذلك أحق لأنه المنظور إليه من بينهم إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة والنسك وقال أحمد في رواية المروذي : طاوس كان يأمر بزينة الثياب و عطاء قال : هو يوم التخشع واستحسنهما جميعا وذكر استحباب خروجه في ثياب اعتكافه في غير هذا الموضع
فصل : ووقت الغسل بعد طلوع الفجر في ظاهر كلام الخرقي لقوله فإذا أصبحوا تطهروا قال القاضي و الآمدي : إن اغتسل قبل الفجر لم يصب سنة الاغتسال لأنه غسل الصلاة في اليوم فلم يجز قبل الفجر كغسل الجمعة وقال ابن عقيل : المنصوص عن أحمد أنه قبل الفجر وبعده لأن زمن العيد أضيق من وقت الجمعة فلو وقف على الفجر ربما فات ولأن المقصود منه التنظيف وذلك يحصل بالغسل في الليل لقربه من الصلاة والأفضل أن يكون بعد الفجر ليخرج من الخلاف ويكون أبلغ في النظافة لقربه من الصلاة وقول الخرقي : تطهروا لم يخص به الغسل بل هو ظاهر في الوضوء وهو غير مختص بما بعد الفجر
مسالة : قال : وأكلوا إن كان فطرا
السنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي وهذا قول أكثر أهل العلم منهم علي وابن عباس و مالك و الشافعي وغيرهم لا نعلم فيه خلافا قال أنس : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ] رواه البخاري وفي رواية استشهد بها [ ويأكلهن وترا ]
وروي عن بريدة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي ] رواه الأثرم و الترمذي ولفظ رواية الأثرم [ حتى يضحي ] ولأن يوم الفطر يوم حرم فيه الصيام عقيب وجوبه فاستحب تعجيل الفطر لإظهار المبادرة إلى طاعة الله تعالى وامتثال أمره في الفطر على خلاف العادة والأضحى بخلافه ولأن في الأضحى شرع الأضحية والأكل منها فاستحب أن يكون فطره على شيء منها قال أحمد : والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح لأن النبي صلى الله عليه و سلم أكل من ذبيحته وإذا لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل
فصل : والمستحب أن يفطر على التمر لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفطر عليه ويأكلهن وترا لقول أنس [ ويأكلهن وترا ] ولأن الله تعالى وتر يحب الوتر ولأن الصائم يستحب له الفطر كذلك

فصول : صلاة العيد في المصلى
مسألة : قال : ثم غدوا إلى المصلى مظهرين للتكبير
السنة أن يصلي العيد في المصلى أمر بذلك علي رضي الله عنه واستحسنه الأوزاعي وأصحاب الرأي وهو قول ابن المنذر وحكي عن الشافعي إن كان مسجد البلد واسعا فالصلاة فيه أولى لأنه خير البقاع وأطهرها ولذلك يصلي أهل مكة في المسجد الحرام
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده وكذلك الخلفاء بعده ولا يترك النبي صلى الله عليه و سلم الأفضل مع قربه ويتكلف فعل الناقص مع بعده ولا يشرع لأمته ترك الفضائل ولأننا قد أمرنا بإتباع النبي صلى الله عليه و سلم والاقتداء به ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص والمنهي عنه هو الكامل ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر ولأن هذا إجماع المسلمين فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه وكان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في المصلى مع شرف مسجده وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه وروينا عن علي رضي الله عنه أنه قيل له قد اجتمع في المسجد ضعفاء الناس وعميانهم فلو صليت بهم في المسجد فقال : أخالف السنة إذا ولكن نخرج إلى المصلى واستخلف من يصلي بهم في المسجد أربعا
فصل : ويستحب للإمام إذا خرج أن يخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد كما فعل علي رضي الله عنه فروى هزيل بن شرحبيل قال : قيل لعلي رضي الله عنه لو أمرت رجلا يصلي بضعفة الناس هو نافي المسجد الأكبر قال : إن أمرت رجلا يصلي أمرته أن يصلي لهم أربعا رواه سعيد وروي أنه استخلف أبا مسعود فصلى بهم في المسجد
فصل : وإن كان عذر يمنع الخروج من مطر أو خوف أو غيره صلوا في الجامع كما [ روى أبو هريرة أنه أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه و سلم صلاة العيد في المسجد ] رواه أبو داود و ابن ماجة

فصول : التبكير والتكبير جهرا
فصل : يستحب التبكير إلى العيد بعد صلاة الصبح إلا الإمام فإنه يتأخر إلى وقت الصلاة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل كذلك قال أبو سعيد : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ] رواه مسلم ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر ولو جاء إلى المصلى وقعد في مكان مستتر عن الناس فلا بأس قال مالك : مضت السنة أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ مصلاه وقد حلت الصلاة فأما غيره فيستحب له التبكير والدنو من الإمام ليحصل له أجر التبكير وانتظار الصلاة والدنو من الإمام من غير تخطي رقاب الناس ولا أذى أحد قال عطاء بن السائب : كان عبد الرحمن بن أبي ليلى و عبد الله بن معقل يصليان الفجر يوم العيد وعليهما ثيابهما ثم يتدافعان إلى الجبانة أحدهما يكبر والآخر يهلل وروي عن ابن عمر أنه كان لا يخرج حتى تخرج الشمس
فصل : ويستحب أن يخرج إلى العيد ماشيا وعليه السكينة والوقار كما ذكرنا في الجمعة وممن استحب المشي عمر بن عبد العزيز و النخعي و الثوري و الشافعي وغيرهم لما روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يركب في عيد ولا جنازة ] وروى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج إلى العيد ماشيا ويرجع ماشيا ] رواه ابن ماجة وقال علي رضي الله عنه : من السنة أن يأتي العيد ماشيا رواه الترمذي وقال : حديث حسن وإن كان له عذر وكان مكانه بعيدا فركب فلا بأس قال أحمد رحمه الله : نحن نمشي ومكاننا قريب وإن بعد ذلك عليه فلا بأس أن يركب قال : حدثنا سعيد حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء بن زبير أنه سمع عمر بن عبد العزيز على المنبر يوم الجمعة يقول : إن الفطر غدا فامشوا إلى مصلاكم فإن ذلك كان يفعل ومن كان من أهل القرى فليركب فإذا جاء المدينة فليمش إلى المصلى
فصل : ويكبر في طريق العيد ويرفع صوته بالتكبير وهو معنى قول الخرقي : مظهرين للتكبير قال أحمد : يكبر جهرا إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى روي ذلك عن علي وابن عمر وأأبي أمامة وأبي رهم وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان و أبي بكر بن محمد وفعله النخعي و سعيد بن جبير و عبد الرحمن بن أبي ليلى وبه قال الحكم و حماد و مالك و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : يكبر يوم الأضحى ولا يكبر يوم الفطر لأن ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر فقال : ما شأن الناس ؟ فقيل يكبرون فقال : أمجانين الناس ؟ وقال إبراهيم : إنما يفعل ذلك الحواكون
ولنا أنه فعل من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وقولهم قال نافع : كان ابن عمر يكبر يوم العيد في الأضحى والفطر ويكبر ويرفع صوته وقال أبو جميلة : رأيت عليا رضي الله عنه خرج يوم العيد فلم يزل يكبر حتى انتهى إلى الجبابة فأما ابن عباس فكان يقول : يكبرون مع الإمام ولا يكبرون وحدهم وهذا خلاف مذهبهم وإذا ثبت هذا فإنه يكبر حتى يأتي المصلى لما ذكرنا عن علي رضي الله عنه وغيره قال الأثرم : قيل لـ أبي عبد الله في الجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى أو حتى يخرج الإمام قال حتى يأتي المصلى وقال القاضي : فيه رواية أخرى حتى يخرج الإمام

فصل : خروج النساء إلى مصلى العيد
فصل : ولا بأس بخروج النساء يوم العيد إلى المصلى وقال ابن حامد : يستحب ذلك وقد روي عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا : حق على كل ذات نطاق أن تخرج إلى العيدين وكان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله في العيدين وروت [ أم عطية قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العواتق وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا رسول الله : إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال : ( لتلبسها أختها من جلبابها ) ] متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم ولفظ رواية البخاري : [ قالت : كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها وحتى يخرج الحيض فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته ] وعن أم عطية [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جمع نساء الأنصار في بيت فأرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددنا عليه فقال : أنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إليكن وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتق ولا جمعة علينا ونهانا عن اتباع الجنائز ] رواه أبو داود وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب وكرهه النخعي و يحيى الأنصاري وقالا : لا نعرف خروج المرأة في العيدين عندنا وكرهه سفيان و ابن المبارك ورخص أهل الرأي للمرأة الكبيرة وكرهوه للشابة لما في خروجهن من الفتنة وقول عائشة رضي الله عنها : لو رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع وقول عائشة مختص بمن أحدث دون غيرها ولا شك بأن تلك يكره لها الخروج وإنما يستحب لهن الخروج غير متطيبات ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة ويخرجن في ثياب البذلة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وليخرجن تفلات ] ولا يخالطن الرجال بل يكن ناحية منهم

مسألة وفصل : وقت صلاة العيد
مسألة : قال : فإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين
لا خلاف بين أهل العلم في أن صلاة العيد مع الإمام ركعتان وفيما تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى العيد ركعتين وفعله الأئمة بعده إلى عصرنا لم نعلم أحدا فعل غير ذلك ولا خالف فيه وقد قال عمر رضي الله عنه : صلاة العيد ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه و سلم وقد خاب من افترى وقوله حلت الصلاة يحتمل معنيين : أحدهما أن معناه إذا دخل وقتها والصلاة ها هنا صلاة العيد وحلت من الحلول كقولهم حل الدين إذا جاء أجله والثاني معناه إذا أبيحت الصلاة يعني النافلة ومعناه إذا خرج وقت النهي وهو إذا ارتفعت الشمس قيد رمح وحلت من الحل وهو الإباحة كقول الله تعالى : { ويحل لهم الطيبات } وهذا المعنى أحسن لأن فيه تفسيرا لوقتها وتعريفا له بالوقت الذي عرف في مكان آخر وعلى القول الأول ليس فيه بيان لوقتها فعلى هذا يكون وقتها من حين ترتفع الشمس قيد رمح إلى أن يقوم قائم الظهيرة وذلك ما بين وقتي النهي عن صلاة النافلة وقال أصحاب الشافعي : أول وقتها إذا طلعت الشمس لما روى يزيد بن خمير قال : [ خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم عيد فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام وقال : أنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين صلاة التسبيح ] رواه أبو داود و ابن ماجة
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال : [ ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا - حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ] ولأنه وقت نهي عن الصلاة فيه فلم يكن وقتا للعيد كقبل طلوع الشمس ولأن النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعده لم يصلوا حتى ارتفعت الشمس بدليل الإجماع على أن الأفضل فعلها في ذلك الوقت ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يفعل إلا الأفضل والأولى ولو كان لها وقت قبل ذلك لكان تقييده بطلوع الشمس تحكما بغير نص ولا معنى نص ولا يجوز التوقيت بالتحكم
وأما حديث عبد الله بن بسر فإنه أنكر إبطاء الإمام عن وقتها المجمع عليه فإنه لو حمل على غير هذا لم يكن ذلك إبطاء ولا جاز إنكاره ولا يجوز أن يحمل ذلك على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك في وقت النهي لأنه مكروه بالاتفاق على أن الأفضل خلافه ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليداوم على المكروه ولا المفضول ولو كان يداوم على الصلاة فيه لوجب أن يكون هو الأفضل والأولى فتعين حمله على ما ذكرنا
فصل : ويسن تقديم الأضحى ليتسع وقت التضحية وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى عمرو بن حزم : ( أن أخر صلاة الفطر وعجل صلاة الأضحى ) ] ولأن لكل عيد وظيفة فوظيفة الفطر إخراج المفطرة ووقتها قبل الصلاة ووظيفة الأضحى التضحية ووقتها بعد الصلاة وفي تأخير الفطر وتقديم الأضحى توسيع لوظيفة كل منهما

مسألة : لا أذان ولا إقامة لصلاة العيد
مسألة : قال : بلا أذان ولا إقامة
ولا نعلم في هذا خلافا ممن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام وقيل أول من أذن في العيد ابن زياد وهذا دليل على انعقاد الإجماع قبله على أنه لا يسن لها أذان ولا إقامة وبه يقول مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وقد ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي العيد بلا أذان ولا إقامة ] فروى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى العيدين بغير أذان ولا إقامة ] وعن جابر مثله متفق عليهما و [ قال جابر بن سمرة : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة ] رواه مسلم وعن عطاء قال : أخبرني جابر أن لا أذان يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعد ما يخرج الإمام ولا إقامة ولا نداء ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة رواه مسلم وقال بعض أصحابنا : ينادى لها الصلاة جامعة وهو قول الشافعي وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع

مسائل وفصول : صنعة صلاة العيد
مسألة : قال : ويقرأ في كل ركعة منها بالحمد لله وسورة ويجهر بالقراءة
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه يشرع قراءة الفاتحة وسورة في كل ركعة من صلاة العيد وأنه يسن الجهر إلا أنه روي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا قرأ في العيدين أسمع من يليه ولم يجهر ذلك الجهر وقال ابن المنذر أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة وفي أخبار من أخبر بقراءة النبي صلى الله عليه و سلم دليل على أنه كان يجهر ولأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة
ويستحب أن يقرأ في الأول بسبح وفي الثانية بالغاشية نص عليه أحمد لأن النعمان بن بشير قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية } ] وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما رواه مسلم وقال الشافعي : يقرأ بقاف و { اقتربت الساعة } لما روي [ أن عمر سأل أبا واقد الليثي ماذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ به الفطر والأضحى فقال : كان يقرأ بـ { ق * والقرآن المجيد } و { اقتربت الساعة وانشق القمر } ] رواه مسلم وقال أبو حنيفة : ليس فيه شيء يوقت وكان ابن مسعود يقرأ بالفاتحة وسورة من المفصل ومهما قرأ به أجزأه وكان حسنا إلا أن الأول أحسن لأن عمر رضي الله عنه عمل به وكان ذلك مذهبه ولأن في سبح الحث على الصلاة وزكاة الفطر على ما قاله سعيد بن المسيب و عمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى : { قد أفلح من تزكى } فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها
فصل : وتكون القراءة بعد التكبير في الركعتين نص عليه أحمد وروي ذلك عن أبي هريرة وفقهاء المدينة السبعة و عمر بن عبد العزيز و الزهري و مالك و الشافعي و الليث وقد روي عن أحمد أنه يوالي بين القراءتين ومعناه أن يكبر في الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها اختارها أبو بكر وروي ذلك عن ابن مسعود وحذيفة وأبي موسى وأبي مسعود البدري والحسن و ابن سيرين و الثوري وهو قول أصحاب الرأي لما روي عن أبي موسى قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر تكبيره على الجنازة ويوالي بين القراءتين ] رواه أبو داود وروى أبو عائشة جليس لأبي هريرة [ أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى وحذيفة كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر في الأضحى والفطر فقال أبو موسى : كان يكبر أربعا تكبيره على الجنازة ] فقال حذيفة : صدق
ولنا ما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كبر في العيدين في الأول سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة ] رواه الأثرم و ابن ماجة و الترمذي وقال : هو حديث حسن وهو أحسن حديث في الباب وعن عائشة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكبر في العيدين سبعا وخمسا قبل القراءة ] رواه أحمد في المسند وعن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخيرة والقراءة بعدهما كليهما ] رواه أبو داود و الأثرم ورواه ابن ماجة عن سعد مؤذن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك وحديث أبي موسى ضعيف قاله الخطابي : وليس في رواية أبي داود أنه والى بين القراءتين ثم نحمله على أنه والى بين الفتاحة والسورة لأن قراءة الركعتين لا يمكن الموالاة بينهما لما بينهما من الركوع والسجود
مسألة : قال : ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الافتتاح
قال أبو عبد الله : يكبر في الأولى سبعا مع تكبيرة الإحرام ولا يعتد بتكبيرة الركوع لأن بينهما قراءة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض ثم يقرأ في الثانية ثم يكبر ويركع وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة و عمر بن عبد العزيز و الزهري و مالك و المزني
وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وابن عمر ويحيى الأنصاري قالوا : يكبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا وبه قال الأوزاعي و الشافعي و إسحاق إلا أنهم قالوا : يكبر سبعا في الأول سوى تكبيرة الافتتاح لقول عائشة : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكبر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الافتتاح ] وروي عن ابن عباس وأنس والمغيرة بن شعبة و سعيد بن المسيب و النخعي يكبر سبعا سبعا وقال أبو حنيفة و الثوري : في الأولى والثانية ثلاثا ثلاثا واحتجوا بحديثي أبي موسى اللذين ذكرناهما
ولنا أحاديث كثير وعبد الله بن عمرو وعائشة التي قدمناها قال ابن عبد البر : قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من طرق كثيرة حسان أنه كبر في العيد سبعا في الأولى وخمسا في الثانية من حديث عبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وعائشة وأبي واقد وعمرو بن عوف المزني ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا وهو أولى ما عمل به وحديث عائشة المعروف عنها [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كبر في الفطر والأضحى سبعا وخمسا سوى تكبيرتي الركوع ] رواه أبو داود و ابن ماجة وحديث أبي موسى ضعيف يرويه أبو عائشة جليس لأبي هريرة وهو غير معروف
مسألة : قال : ويرفع يديه مع كل تكبيرة
وجملته أنه يستحب أن يرفع يديه في حال تكبيره وحسب رفعهما مع تكبيرة الإحرام وبه قال عطاء و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك و الثوري : لا يرفعهما فيما عدا تكبيرة الإحرام لأنها تكبيرات في أثناء الصلاة فأشبهت تكبيرات السجود
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه مع التكبير قال أحمد : أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله وروي عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد رواه الأثرم ولا يعرف له مخالف في الصحابة ولا يشبه هذا تكبير السجود لأن هذه يقع طرفاها في حال القيام فهي بمنزلة تكبيرة الافتتاح
مسألة : قال : ويستفتح في أولها ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه و سلم بين كل تكبيرتين وإن أحب قال : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على محمد النبي الأمي وعليه السلام وإن أحب قال غير ذلك ويكبر في الثانية خمس تكبيرات سوى التكبيرة التي قوم بها من السجود ويرفع يديه مع كل تكبيرة
قوله يستفتح يعني يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى ثم يكبر تكبيرات العيد ثم يتعوذ ثم يقرأ وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أن الاستفتاح بعد التكبيرات اختارها الخلال وصاحبه وهو قول الأوزاعي لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة وهي قبل القراءة وقال أبو يوسف : يتعوذ قبل التكبير لئلا يفصل بين الاستفتاح والاستعاذة
ولنا أن الاستفتاح شرع ليستفتح به الصلاة فكان في أولها كسائر الصلوات والاستعاذة شرعت للقراءة فهي تابعة لها فتكون عند الابتداء بها لقول الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وقد روى أبو سعيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يتعوذ قبل القراءة ] وإنما جمع بينهما في سائر الصلوات لأن القراءة تلي الاستفتاح من غير فاصل فلزم أن يليه ما يكون في أولها بخلاف مسألتنا وأيا ما فعل كان جائزا وإذا فرغ من الاستفتاح حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم ثم فعل هذا بين كل تكبيرتين فإن قال ما ذكره الخرقي فحسن لأنه يجمع ما ذكرناه وإن قال غيره نحو أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أو ما شاء من الذكر فجائز وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي يكبر متواليا لا ذكر بينه لأنه لو كان بينه ذكر مشروع لنقل كما نقل التكبير ولأنه ذكر من جنس مسنون فكان متواليا كالتسبيح في الركوع والسجود
ولنا ما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوما فقال لهم : إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه فقال عبد الله تبدأ فتكبر تكبيرة تفتح بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تقرأ ثم تكبر وتركع ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تركع فقال حذيفة وأبو موسى : صدق أبو عبد الرحمن رواه الأثرم في سننه ولأنها تكبيرات حال القيام فاستحب أن يتخللها ذكر كتكبيرات الجنازة وتفارق التسبيح لأنه ذكر يخفى ولا يظهر بخلاف التكبير وقياسهم منتقض بتكبيرات الجنازة قال القاضي : يقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة وهذا قول الشافعي
فصل : والتكبيرات والذكر بينها سنة وليس بواجب ولا تبطل الصلاة بتركه عمدا ولا سهوا ولا أعلم فيه خلافا فإن نسي التكبير وشرع في القراءة لم يعد إليه قاله ابن عقيل وهو أحد قولي الشافعي لأنه سنة فلم يعد إليه بعد الشروع في القراءة كالاستفتاح وقال القاضي : فيها وجه آخر أنه يعود إلى التكبير وهو قول مالك و أبي ثور والقول الثاني لـ الشافعي لأنه ذكره في محله فيأتي به كما قبل الشروع في القراءة وهذا لأن محلة القيام وقد ذكره فيه فعلى هذا يقطع القراءة ويكبر ثم يستأنف القراءة لأنه قطعها متعمدا بذكر طويل وإن كان المنسي شيئا يسيرا احتمل أن يبني لأنه لم يطل الفصل أشبه ما لو قطعها بقول آمين واحتمل أن يبتدئ لأن محل التكبير قبل القراءة ومحل القراءة بعده فيستأنفها ليأتي بها بعده وإن ذكر التكبير بعد القراءة فأتى به لم يعد القراءة وجها واحدا لأنها وقعت موقعها وإن لم يذكره حتى ركع سقط وجها واحدا لأنه فات المحل وكذلك المسبوق إذا أدرك الركوع لم يكبر فيه وقال أبو حنيفة : يكبر فيه لأنه بمنزلة القيام بدليل إدراك الركعة به
ولنا أنه ذكر مسنون حال القيام فلم يأت به في الركوع كالاستفتاح وقراءة السورة والقنوت عنده وإنما أدرك الركع بإدراكه لأنه أدرك معظمها ولم يفته إلا القيام وقد حصل منه ما يجزي في تكبيرة الإحرام فأما المسبوق إذا أدرك الإمام بعد تكبيره فقال ابن عقيل : يكبر لأنه أدرك محله ويحتمل أن لا يكبر لأنه مأمور بالإنصات إلى قراءة الإمام ويحتمل أنه إن كان يسمع قراءة الإمام أنصت وإن كان بعيدا كبر
فصل : وإذا شك في عدد التكبيرات بنى على اليقين فإن كبر ثم شك هل نوى الإحرام أولا ابتدأ الصلاة هو ومن خلفه لأن الأصل عدم النية إلا أن يكون وسواسا فلا يلتفت إليه وسائر المسألة قد سبق شرحها

مسألة وفصول : وقت خطبة العيد وصفتها
مسألة : قال : فإذا سلم خطب بهم خطبتين يجلس بينهما فإن كان فطرا حضهم على الصدقة وبين لهم ما يخرجون وإن كان أضحى يرغبهم في الأضحية ويبين لهم ما يضحى به
وجملته أن خطبتي العيدين بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافا بين المسلمين إلا عن بني أمية
وروي عن عثمان وابن الزبير أنهما فعلاه ولم يصح ذلك عنهما ولا يعتد بخلاف بني أمية لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم ومخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة وقد أنكر عليهم فعلهم وعد بدعة ومخالفا للسنة فإن ابن عمر قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة متفق عليه
وروى ابن عباس مثله رواه مسلم ورواه عن النبي صلى الله عليه و سلم جماعة وروى طارق بن شهاب قال : قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال : خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة فقال : ترك ذاك يا أبا فلان فقام أبو سعيد فقال : أما هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فمن لم يستطع بلسانه فمن لم يستطع فلينكره بقلبه وذلك أضعف الإيمان ] رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق ورواه مسلم في صحيحه ولفظه فليغيره فعلى هذا من خطب قبل الصلاة فهو كمن لم يخطب لأنه خطب في غير محل الخطبة أشبه ما لو خطب في الجمعة بعد الصلاة إذا ثبت هذا فإن صفة الخطبتين كصفة خطبتي الجمعة إلا أنه يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات والثانية بسبع متواليات قال القاضي : وإن أدخل بينهما تهليلا أو ذكرا فحسن وقال سعيد : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة قال : يكبر الإمام على ا لمنبر يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات ثم يخطب وفي الثانية سبع تكبيرات ويستحب أن يكثر التكبير في أضعاف خطبته
وروى سعد مؤذن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكبر بين أضعاف الخطبة يكثر التكبير في خطبتي العيدين ] رواه ابن ماجة فإذا كبر في أثناء الخطبة كبر الناس بتكبيره وقد روي عن أبي موسى أنه كان يكبر يوم العيد على المنبر اثنتين وأربعين تكبيرة ويجلس بين الخطبتين لما روى ابن ماجة بإسناده عن جابر قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائما ثم قعد قعدة ثم قام ] ويجلس عقيب صعوده المنبر وقيل لا يجلس عقيب صعوده لأن الجلوس في الجمعة للآذان ولا أذان ها هنا فإن كان في الفطر أمرهم بصدقة الفطر وبين لهم وجوبها وثوابها وقدر المخرج وجنسه وعلى من تجب والوقت الذي يخرج فيه وفي الأضحى يذكر الأضحية وفضلها وأنها سنة مؤكدة وما يجزي فيها ووقت ذبحها والعيوب التي تمنع منها وكيفية تفرقتها وما يقوله عند ذبحها لما روي عن أبي سعيد قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول ما يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف ] رواه البخاري وروى مسلم نحوه و [ عن جابر قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس فذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن ] متفق عليه وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو شاة لحم عجلة لأهله ليس من النسك في شيء ومن ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وقد أصاب سنة المسلمين ]
فصل : والخطبتان سنة لا يجب حضورها ولا استماعها لما [ روى عبد الله بن السائب قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم العيد فلما قضى الصلاة قال : إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب ] رواه النسائي و ابن ماجة ورواه أبو داود وقال : هو مرسل وإنما أخرت عن الصلاة والله أعلم لأنها لما كانت غير واجبة جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها من تركها بخلاف خطبة الجمعة والاستماع لها أفضل وقد روي عن الحسن و ابن سيرين أنهما كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب وقال إبراهيم : يخطب الإمام يوم العيد قدر ما يرجع النساء إلى بيوتهن وهذا يدل على أنه لا يستحب لهن الجلوس لاستماع الخطبة لئلا يختلطن بالرجال وحديث النبي صلى الله عليه و سلم في موعظته النساء بعد فراغه من خطبته دليل على أنهن لم ينصرفن قبل فراغه وسنة النبي صلى الله عليه و سلم أحق بالاتباع
فصل : ويستحب أن يخطب قائما لما روى جابر قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائما ثم قعد ثم قام ] رواه ابن ماجة ولأنها خطبة عيد فأشبهت خطبة الجمعة وإن خطب قاعدا فلا بأس لأنها غير واجبة فأشبهت صلاة النافلة وإن خطب على راحلته فحسن قال سعيد : حدثنا هشيم حدثنا حصين حدثنا أبو جميلة قال : رأيت عليا صلى يوم عيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب على دابته ورأيت عثمان بن عفان يخطب على راحلته ورأيت المغيرة بن شعبة يخطب على راحلته

مسألة وفصول : حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها
مسألة : قال : ولا يتنفل قبل صلاة العيدين ولا بعدها
وجملته أنه ينكره التنفل قبل صلاة العيد وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة سواء كان في المصلى أو المسجد وهو مذهب ابن عباس وابن عمر وروي ذلك عن علي وابن مسعود وحذيفة وبريدة وسلمة بن الأكوع وجابر وابن أبي أوفى وقال به شريح و عبد الله بن مغفل و الشعبي و مالك و الضحاك و القاسم و سالم و معمر و ابن جريج و مسروق وقال الزهري : لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها يعني صلاة العيد وقال : ما صلى قبل العيد بدري ونهى عنه أبو مسعود البدري وروي أن عليا رضي الله عنه رأى قوما يصلون قبل العيد فقلا : ما كان هذا يفعل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال أحمد : أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها وأهل البصرة يتطوعون قبلها وبعدها وأهل الكوفة لا يتطوعون قبلها ويتطوعون بعدها وهذا قول علقمة و الأسود و مجاهد و ابن أبي ليلى و النخعي و الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي وقال مالك : لا يتطوع في المصلى قبلها ولا بعدها وله في المسجد روايتان إحداهما يتطوع لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ] وقال الشافعي : يكره التطوع للإمام دون المأموم لأن الإمام لا يستحب له التشاغل عن الصلاة ولم يكره للمأموم لأنه وقت لم ينه عن الصلاة فيه أشبه ما بعد الزوال
ولنا ما روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوم عيد الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما ] متفق عليه وروى ابن عمر نحوه ولأنه إجماع كما ذكرناه عن الزهري وغيره ونهى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه ورووا الحديث وعملوا به ولأنه وقت نهى الإمام عن التنفل فيه فكره للمأموم كسائر أوقات النهي وكما قبل الصلاة عند أبي حنيفة وكما لو كان في المصلى عن مالك قال الأثرم : قلت لـ أحمد : قال سليمان بن حرب : إنما ترك النبي صلى الله عليه و سلم التطوع لأنه كان إماما قال أحمد : فالذين رووا هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتطوعوا ثم قال : ابن عمر وابن عباس هما راوياه وأخذا به يشير والله أعلم إلى أن عمل راوي الحديث به تفسير له وتفسيره يقدم على تفسير غيره ولو كانت الكراهة للإمام كيلا يشتغل عن الصلاة لاختصت بما قبل الصلاة إذ لم يبق بعدها ما يشتغل به ولأنه تنفل في المصلى وقت صلاة العيد فكره كالذي سلموه وقياسهم منتقض بالإمام وقد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكبر في صلاة العيد سبعا وخمسا ويقول : ( لا صلاة قبلها ولا بعدها ) ] حكى ابن عقيل أن الإمام ابن بطة رواه بإسناده
فصل : قيل لـ أحمد فإن كان رجل يصلي صلاة في ذلك الوقت قال : أخاف أن يقتدي به بعض من يراه يعني لا يصلي قال ابن عقيل : وكره أحمد أن يتعمد لقضاء صلاة وقال : أخاف أن يقتدوا به
فصل : وإنما يكره التنفل في موضع الصلاة فأما في غيره فلا بأس به وكذلك لو خرج منه ثم عاد إليه بعد الصلاة فلا بأس بالتطوع فيه قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : [ روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل قبلها ولا بعدها ورأيته يصلي بعدها ركعات في البيت وربما صلاها في الطريق يدخل بعض المساجد ] وروي عن أبي سعيد قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يصلي قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين ] رواه ابن ماجة ولأنه إنما ترك الصلاة في موضع الصلاة اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولاشتغاله بالصلاة وانتظارها وهذا معدوم في غير موضع الصلاة

مسألة : وإذا غدا من طريق رجع من غيرها
مسألة : قال : وإذا غدا من طريق رجع من غيره
وجملته أن الرجوع في غير الطريق التي غدا منها سنة وبهذا قال مالك و الشافعي والأصل فيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفعله قال أبو هريرة [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وقال بعض أهل العلم : إنما فعل هذا قصدا لسلوك الأبعد في الذهاب ليكثر ثوابه وخطواته إلى الصلاة ويعود في الأقرب لأنه أسهل وهو راجع إلى منزله وقيل : كان يحب أن يشهد له الطريقان وقيل : كان يحب المساواة بين أهل الطريقين من الفقراء وقيل : لتبرك الطريقين بوطئه عليهما وفي الجملة الاقتداء به سنة لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله من أجله ولأنه قد يفعل الشيء لمعنى ويبقى في حق غيره سنة مع زوال المعنى كالرمل والاضطباع في طواف القدوم فعله هو وأصحابه لإظهار الجلد للكفار وبقي سنة بعد زوالهم ولهذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : فيم الرملان الآن ولمن نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين ؟ ثم قال : مع ذلك لا ندع شيئا فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم

مسألة وفصل : حكم المسبوق في صلاة العيد وقضاؤها
مسألة : قال : ومن فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات كصلاة التطوع وإن أحب فصل بسلام بين كل ركعتين
وجملته أن من فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه لأنها فرض كفاية وقام بها من حصلت الكفاية به فإن أحب قضاءها فهو مخير إن شاء صلاها أربعا إما بسلام واحد وإما بسلامين روي هذا عن ابن مسعود وهو قول الثوري وذلك لما روى عبد الله بن مسعود أنه قال : من فاته العيد فليصل أربعا ومن فاتته الجمعة فليصل أربعا وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن أمرت رجلا أن يصلي بضعفة الناس أمرته أن يصلي أربعا رواهما سعيد قال أحمد رحمه الله : يقوي ذلك حديث علي أنه أمر رجلا يصلي بضعفة الناس أربعا ولا يخطب ولأنه قضاء صلاة عيد فكان أربعا كصلاة الجمعة وإن شاء أن يصلي ركعتين كصلاة التطوع وهذا قول الأوزاعي لأن ذلك تطوع وإن شاء صلاها على صفة صلاة العيد بتكبير نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعد واختاره الجوزجاني وهذا قول النخعي و مالك و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لما روي عن أنس أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات وهو مخير إن شاء صلاها وحده وإن شاء في جماعة قيل لـ أبي عبد الله أين يصلي ؟ قال : إن شاء مضى إلى المصلى وإن شاء حيث شاء
فصل : وإن أدرك الإمام في التشهد جلس معه فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعتين يأتي فيهما بالتكبير لأنه أدرك بعض الصلاة التي ليست مبدلة من أربع فقضاها على صفتها كسائر الصلوات وإن أدركه في الخطبة فإن كان في المسجد صلى تحية المسجد لأنها إذا صليت في خطبة الجمعة التي يجب الإنصات لها ففي خطبة العيد أولى ولا يكون حكمه في ترك التحية حكم من أدرك العيد وقال القاضي : يجلس فيستمع الخطبة ولا يصلي لئلا يشتغل بالصلاة عن استماع الخطبة وهذا التعليل يبطل بالداخل في خطبة الجمعة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الداخل بالركوع مع أن خطبة الجمعة آكد فأما إن لم يكن في المسجد فإنه يجلس فيستمع ثم إن أحب قضى صلاة العيد على ما ذكرناه

فصول : وقت صلاة العيد لمن لا يعلم بالعيد إلا بعد زوال الشمس
فصل : إذا لم يعلم بيوم العيد إلا بعد زوال الشمس خرج من الغد فصلى بهم العيد وهذا قول الأوزاعي و الثوري و إسحاق و ابن المنذر وصوبه الخطابي وحكي عن أبي حنيفة أنها لا تقضى وقال الشافعي : إن علم بعد غروب الشمس كقولنا وإن علم بعد الزوال لم يصل لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فلا تقضى بعد فوات وقتها كصلاة الجمعة وإنما يصليها إذا علم بعد غروب الشمس لأن العيد هو الغد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون وعرفتكم يوم تعرفون ]
ولنا ما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أن ركبا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم ] رواه أبو داود وقال الخطابي : سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى وحديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب ولأنها صلاة مؤقتة فلا تسقط بفوات الوقت كسائر الفرائض وقياسهم على الجمعة لا يصح لأنها معدول بها عن الظهر بشرائط منها الوقت فإذا فات واحد منها رجع إلى الأصل
فصل : فأما الواحد إذا فاتته حتى تزول الشمس وأحب قضاءها قضاها متى أحب وقال ابن عقيل : لا يقضيها إلا من الغد قياسا على المسألة التي قبلها وهذا لا يصح لأن ما يفعله تطوع ومتى أحب أتى به وفارق ما إذا لم يعلم الإمام والناس لأن الناس تفرقوا يومئذ على أن العيد في الغد فلا يجتمعون إلا من الغد ولا كذلك ها هنا فإنه لا يحتاج إلى اجتماع الجماعة ولأن صلاة الإمام هي الصلاة الواجبة التي يعتبر لها شروط العيد ومكانه وصفة صلاته فاعتبر لها الوقت وهذا بخلافه

فصل : من شرائط صلاة العيد الاستيطان
فصل : ويشترط الاستيطان لوجوبها لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصلها في سفره ولا خلفاؤه وكذلك العدد المشترط للجمعة لأنها صلاة عيد فأشبهت الجمعة وفي إذن الإمام روايتان أصحهما ليس بشرط ولا يشترط شيء من ذلك لصحتها لأنها تصح من الواحد في القضاء وقال أبو الخطاب : في ذلك كله روايتان وقال القاضي : كلام أحمد يقتضي روايتين : إحداهما لا يقام العيد إلا حيث تقام الجمعة وهذا مذهب أبي حنيفة إلا أنه لا يرى ذلك إلا في مصر لقوله : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع والثانية يصليها المنفرد والمسافر والعبد والنساء على كل حال وهذا قول الحسن و الشافعي لأنه ليس من شرطها الاستيطان فلم يكن من شرطها الجماعة كالنوافل إلا أن الإمام إذا خطب مرة ثم أرادوا أن يصلوا لم يخطبوا وصلونا بغير خطبة كيلا يؤدي إلى تفريق الكلمة والتفصيل الذي ذكرناه أولى ما قيل به إن شاء الله تعالى

مسائل وفصول : أوقات التكبير وصفته
مسألة : قال : ويبتدئ التكبير يوم عرفة من صلاة الفجر
لا خلاف بين العلماء رحمهم الله في أن التكبير مشروع في عبد النحر واختلفوا في مدته فذهب إمامنا رضي الله عنه إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم وإليه ذهب الثوري و ابن عيينة و أبو يوسف و محمد و أبو ثور و الشافعي في بعض أقواله وعن ابن مسعود أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى العصر من يوم النحر وإليه ذهب علقمة و النخعي و أبو حنيفة لقوله : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } وهي العشر وأجمعنا على أنه لا يكبر قبل يوم عرفة فينبغي أن يكبر يوم عرفة ويوم النحر وعن ابن عمر و عمر بن عبد العزيز أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق وبه قال مالك و الشافعي في المشهور عنه لأن الناس تبع للحاج والحاج يقطعون التلبية مع أول حصاة ويكبرون مع الرمي وإنما يرمون يوم النحر فأول صلاة بعد ذلك الظهر وآخر صلاة يصلون بمنى الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق
ولنا ما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الصبح يوم عرفة وأقبل علينا فقال : ( الله أكبر الله أكبر ) ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق ] أخرجه الدارقطني من طرق وفي بعضها [ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد ] ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رواه سعيد عن عمير وعلي وابن عباس وروى بإسناده عن محمد بن سعيد أن عبد الله كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر فأتانا علي بعده فكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد قيل لـ أحمد رحمه الله : بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق قال : الإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ولأن الله تعالى قال : { واذكروا الله في أيام معدودات } وهي أيام التشريق فتعين الذكر في جميعها ولأنها أيام يرمي فيها فكان التكبير فيها كيوم النحر وقوله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } والمراد به ذكر الله تعالى على الهدايا والأضاحي
ويستحب التكبير عند رؤية الأنعام في جميع العشر وهذا أولى من قولهم وتفسيرهم لأنهم لم يعملوا به في كل العشر ولا في أكثره وإن صح قولهم فقد أمر الله تعالى بالذكر في أيام معدودات وهي أيام التشريق فيعمل به أيضا وأما المحرمون فإنهم يكبرون عن صلاة الظهر يوم النحر لما ذكروه لأنهم كانوا مشغولين قبل ذلك بالتلبية وغيرهم يبتدئ من يوم عرفة لعدم المانع في حقهم مع وجود المقتضى وقولهم إن الناس تبع لهم في هذا دعوى مجردة لا دليل عليها فلا تسمع
فصل : وصفة التكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وبه قال الثوري و أبو حنيفة و إسحاق و ابن المبارك إلا أنه زاد على ما هدانا : لقوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } وقال مالك و الشافعي يقول : الله أكبر الله أكبر ثلاثا لأن جابرا صلى في أيام التشريق فلما فرغ من صلاته قال : الله أكبر الله أكبر الله أكبر وهذا لا يقوله إلا توقيفا ولأن التكبير شعار العيد فكان وترا كتكبير الصلاة والخطبة
ولنا خبر جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو نص في كيفية التكبير وأنه قول الخليفتين الراشدين وقول ابن مسعود وقول جابر لا يسمع مع قول النبي صلى الله عليه و سلم ولا يقدم على قول أحد ممن ذكرنا فكيف قدموه على قول جميعهم ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعا كتكبير الأذان وقولهم إن جابرا لا يفعله إلا توقيفا فاسد لوجوه أحدها أنه قد روى خلاف قوله فكيف يترك ما صرح به لاحتمال وجود ضده الثاني أنه إن كان قوله توقيفا كان قول من خالفه توقيفا فكيف قدموا الضعيف على ما هو أقوى منه مع إمامة من خالفه وفضلهم في العلم عليه وكثرتهم الثالث أن هذا ليس بمذهب لهم فإن قول الصحابي لا يحمل على التوقيف عندهم الرابع أنه إنما يحمل على التوقيف ما خالف الأصول وذكر الله تعالى لا يخالف الأصل ولا سيما إذا كان وترا
مسألة : قال : ثم لا يزال يكبر دبر كل صلاة مكتوبة صلاها في جماعة وعن أبي عبد الله رحمه الله أنه يكبر لصلاة الفرض وإن كان وحده حتى يكبر لصلاة العصر من آخر أيام التشريق ثم يقطع
المشروع عند إمامنا رحمه الله التكبير عقيب الفرائض في الجماعات في المشهور عنه قال الأثرم : قلت لـ أبي عبد الله اذهب إلى فعل ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده قال أحمد : نعم وقال ابن مسعود : إنما التكبير على من صلى في جماعة وهذا مذهب الثوري و أبي حنيفة وقال مالك لا يكبر عقيب النوافل ويكبر عقيب الفرائض كلها وقال الشافعي : يكبر عقيب كل صلاة فريضة كانت أو نافلة منفردا صلاها أو في جماعة لأنها صلاة مفعولة فيكبر عقيبها كالفرض في جماعة
ولنا قول ابن مسعود وفعل ابن عمر ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة فكان إجماعا ولأنه ذكر مختص بوقت العيد فاختص بالجماعة ولا يلزم من مشروعيته للفرائض مشروعيته للنوافل كالآذان والإقامة وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه يكبر للفرض وإن كان منفردا وهو مذهب مالك لأنه ذكر مستحب للمسبوق فاستحب للمنفرد كالسلام
فصل : والمسافرون كالمقيمين فيما ذكرنا وكذلك النساء يكبرن في الجماعة وفي تكبيرهن في الانفراد روايتان كالرجال قال ابن منصور قلت لـ أحمد : قال سفيان لا يكبر النساء أيام التشريق إلا في جماعة قال أحسن وقال البخاري كان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان و عمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد وينبغي لهن أن يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال وعن أحمد رواية أخرى أنهن لا يكبرن لأن التكبير ذكر يشرع فيه رفع الصوت فلم يشرع في حقهن كالأذان
فصل : والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته نص عليه أحمد وهذا قول أكثر أهل العلم وقال الحسن يكبر ثم يقضي لأنه ذكر مشروع في آخر الصلاة فيأتي به المسبوق قبل القضاء كالتشهد وعن مجاهد و مكحول يكبر ثم يقضي ثم يكبر لذلك
ولنا أنه ذكر شرع بعد السلام فلم يأت به في أثناء الصلاة كالتسليمة الثانية والدعاء بعدها وإن كان على المصلي سجود سهو بعد السلام سجدة ثم يكبر وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأنه سجود مشروع للصلاة فكان التكبير بعده وبعد تشهده كسجود صلب الصلاة وآخر مدة التكبير العصر من آخر أيام التشريق لما ذكرناه في المسألة التي قبلها
فصل : وإذا فاتته صلاة من أيام التشريق فقضاها فيها فحكمها حكم المؤداة في التكبير لأنها صلاة في أيام التشريق وكذلك إن فاتته من غير أيام التشريق فقضاها فيها كذلك وإن فاتته من أيام التشريق فقضاها في غيرها لم يكبر لأن التكبير مقيد بالوقت فلم يفعل في غيره كالتلبية
فصل : ويكبر مستقبل القبلة حكاه أحمد عن إبراهيم قال أبو بكر : وعليه العمل وذلك لأنه ذكر مختص بالصلاة أشبه الأذان والإقامة ويحتمل أن يكبر كيفما شاء لما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أقبل عليهم فقال : ( الله أكبر الله أكبر ) ] وإن نسي التكبير حتى خرج من المسجد لم يكبر وهذا قول أصحاب الرأي لأنه مختص بالصلاة من بعدها فأشبه سجود السهو ويحتمل أن يكبر لأنه ذكر فاستحب وإن خرج وبعد كالدعاء والذكر المشروع بعدها وإن ذكره في المسجد عاد إلى مكانه فجلس واستقبل القبلة فكبر وقال الشافعي : يكبر ماشيا وهذا أقيس لأن التكبير ذكر مشروع بعد الصلاة فأشبه سائر الذكر قال أصحابنا : وإذا أحدث قبل التكبير لم يكبر عامدا كان أ ساهيا لأن الحدث يقطع الصلاة عمده وسهوه وبالغ ابن عقيل فقال : إن تركه حتى تكلم لم يكبر والأولى إن شاء الله أن يكبر لأن ذلك منفرد بعد سلام الإمام فلا تشترط له الطهارة كسائر الذكر ولأن اشتراط الطهارة إما بنص أو معناه ولم يوجد ذلك وإذا نسي الإمام التكبير كبر المأموم وهذا قول الثوري لأنه ذكر يتبع الصلاة أشبه سائر الذكر
فصل : قال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه يكبر عقيب صلاة العيد وهو قول أبي بكر لأنها صلاة مفروضة في جماعة فأشبهت الفجر وقال أبو الخطاب : لا يسن لأنها ليست من الصلوات الخمس أشبهت النوافل والأول أولى لأن هذه الصلاة أخص بالعيد فكانت أحق بتكبيره
فصل : ويشرع التكبير في غير إدبار الصلوات وكان ابن عمر يكبر بمنى في تلك الأيام خلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا وكان يكبر في قبته بما يسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا وكذلك يستحب التكبير في أيام العشر كلها لقول الله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } كما قال : { واذكروا الله في أيام معدودات } والأيام المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق قال البخاري : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ويستحب الاجتهاد في عمل الخير في أيام العشر من الذكر والصلاة والصيام والصدقة وسائر أعمال البر لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال : ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ] أخرجه البخاري

فصل : ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد تقبل الله
فصل : قال أحمد رحمه الله : ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد : تقبل الله منا ومنك وقال حرب : سئل أحمد عن قول الناس في العيدين : تقبل الله منا ومنكم قال : لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة قيل : و واثلة بن الأسقع قال : نعم قيل : فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد قال : لا وذكر ابن عقيل في تهنئة العيد أحاديث منها أن محمد بن زياد قال : كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك وقال أحمد : إسناد حديث أبي أمامة إسناد جيد وقال علي بن ثابت سألت مالك بن أنس منذ خمسين وثلاثين سنة وقال : لم يزل يعرف هذا بالمدينة وروي عن أحمد أنه قال : لا ابتدئ به أحدا وإن قاله رددته عليه

فصل : التعريف بالأمصار عشية يوم عرفة
فصل : قال القاضي : ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن التعريف في الأمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة قال : أرجو أن لا يكون به بأس قد فعله غير واحد وروى الأثرم عن الحسن و بكر و ثابت و محمد بن واسع : كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة قال أحمد : لا بأس به إنما هو دعاء وذكر الله فقيل له تفعله أنت قال : أما أنا فلا وروي عن يحيى بن معين أنه حضر مع الناس عشية عرفة

كتاب صلاة الخوف - مشروعية صلاة الخوف
صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية وأما السنة فثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي صلاة الخوف وجمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي صلى الله عليه و سلم وقال أبو يوسف : إنما كانت تختص بالنبي صلى الله عليه و سلم لقوله تعالى { وإذا كنت فيهم } وليس بصحيح فإن ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه و سلم ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به فإن الله تعالى أمر باتباعه بقوله { فاتبعوه } و [ سئل عن القبلة للصائم فأجاب بأنني أفعل ذلك فقال السائل : لست مثلنا فغضب وقال : ( إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى وأعلمكم بما أتقي ) ] ولو اختص بفعله لما كان الإخبار بفعله جوابا ولا غضب من قول السائل لست مثلنا لأن قوله إذا يكون صوابا وكان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يحتجون بأفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويرونها معارضة لقوله وناسخة له ولذلك لما أخبرت عائشة وأم سلمة بأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم تركوا به خبر أبي هريرة [ من أصبح جنبا فلا صوم له ] ولما ذكروا ذلك لأبي هريرة قال : هن أعلم إنما حدثني به الفضل بن عباس ورجع عن قوله ولو لم يكن فعله حجة لغيره لم يكن معارضا لقوله وأيضا فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على صلاة الخوف فروي أن عليا رضي الله عنه صلى صلاة الخوف ليلة الهدير وصلى أبو موسى الأشعري صلاة الخوف بأصحابه
و [ روي أن سعيد بن العاص كان أميرا على الجيش بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف فقال حذيفة : أنا فقدمه فصلى بهم ] فأما تخصيص النبي صلى الله عليه و سلم بالخطاب فلا وجب تخصيصه بالحكم لما ذكرناه ولأن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على مانعي الزكاة قولهم إن الله تعالى خص نبيه بأخذ الزكاة بقوله { خذ من أموالهم صدقة } وقد قال الله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } وهذا لا يختص به فإن قيل للنبي صلى الله عليه و سلم أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل قلنا هذا كان قبل نزول صلاة الخوف وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكون ناسخا لما قبله ثم إن هذا الاعتراض باطل في نفسه إذ لا خلاف في أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له أن يصلي صلاة الخوف وقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه فلا يجوز الاحتجاج بما يخالف الكتاب والإجماع ويحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم أخر الصلاة نسيانا فإنه [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سألهم عن صلاتها فقالوا ما صلينا وروي أن عمر قال : ما صليت العصر فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( والله ما صليتها ) ] أو كما جاء ويدل على صحة هذا أنه لم يكن ثم قتال يمنعه من الصلاة فدل على ما ذكرناه

مسألة وفصول : ما يشترط لجواز صلاة الخوف وصفتها
مسألة : قال : وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر صلى بطائفة ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ثم تحرس وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ويسلم بهم
وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا فإذا كان في سفر يبيح القصر صلى بهم ركعتين بكل طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة وإنما يجوز ذلك بشرائط - منها أن يكون العدو مباح القتال وأن لا يؤمن هجومه قال القاضي : ومن شرطها كون العدو في غير جهة القبلة ونص أحمد على خلاف ذلك في رواية الأثرم فإنه قال : قلت له : حديث سهل نستعمله مستقبلين القبلة كانوا أو مستدبرين قال : نعم هو أنكى ولأن العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم أو استتارهم أو الخوف من كمين فالمنع من هذه الصلاة يفضي تفويتها قال أبو الخطاب : ومن شرطها أن يكون في المصلين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين كل طائفة ثلاثة فأكثر وقال القاضي : إن كانت كل فرقة أقل من ثلاثة كرهناه لأن أحمد ذهب إلى ظاهر فعل النبي صلى الله عليه و سلم ووجه قولهما أن الله تعالى ذكر الطائفة بلفظ الجمع بقوله تعالى : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } وأقل لفظ الجمع ثلاثة والأولى أن لا يشترط هذا لأن ما دون الثلاثة عدد تصح به الجماعة فجاز أن يكونوا طائفة كالثلاثة وأما فعل النبي صلى الله عليه و سلم فإنه لا يشترك في صلاة الخوف أن يكون المصلون مثل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في العدد وجها واحدا ولذلك اكتفينا بثلاثة ولم يكن كذلك أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
ويستحب أن يخفف بهم الصلاة لأن موضوع صلاة الخوف على التخفيف وكذلك الطائفة التي تفارقه تصلي لنفسها تقرأ بسورة خفيفة ولا تفارقه حتى يستقل قائما لأن النهوض يشتركون فيه جميعا فلا حاجة إلى مفارقتهم إياه قبله والمفارقة إنما جازت للعذر ويقرأ ويتشهد ويطيل في حال الانتظار حتى يدركوه وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يقرأ حال الانتظار بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية ليكون قد سوى بين الطائفتين
ولنا أن الصلاة ليس فيها حال سكوت والقيام محل للقراءة فينبغي أن يأتي بها فيه كما في التشهد إذا انتظرهم فإنه يتشهد ولا يسكت كذا ها هنا والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين والأولى في موضع واحد إذا ثبت هذا فقال القاضي : إن قرأ في انتظارهم قرأ بعد ما جاءوا بقدر فاتحة الكتاب وسورة خفيفة وإن لم يقرأ في انتظارهم قرأ إذا جاءوا بالفاتحة وسورة خفيفة وهذا على سبيل الاستحباب ولو قرأ قبل مجيئهم ثم ركع عند مجيئهم أو قبله فأدركوه راكعا ركعوا معه وصحت لهم الركعة مع ترك السنة وإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى وأطال التشهد بالدعاء والتوسل حتى يدركوه ويتشهدوا ثم يسلم بهم وقال مالك : يتشهدون معه فإذا سلم الإمام قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق وما ذكرناه أولى لقول الله تعالى : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } وهذا يدل على أن صلاتهم كلها معه
وفي حديث سهل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة ثم سلم ] رواه أبو داود وروي أنه سلم بالطائفة الثانية ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام فينبغي أن يسلم بالثانية ليسوي بينهم وبهذا قال مالك و الشافعي : إلا فيما ذكرنا من الاختلاف وقال أبو حنيفة : يصلي كما روى ابن عمر قال : [ صلى النبي صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والطائفة الأخرى مواجهة للعدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى لهم النبي صلى الله عليه و سلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ] متفق عليه وقال أبو حنيفة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة للعدو ثم تنصرف التي صلت معه إلى وجه العدو وهي في صلاتها ثم تجيء الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام الركعة الثانية ثم يسلم الإمام وترجع الطائفة إلى وجه العدو وهي في الصلاة ثم تأتي الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها فتصلي ركعة منفردة ولا تقرأ فيها لأنها في حكم الائتمام ثم تنصرف إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى إلى موضع الصلاة فتصلي الركعة الثانية منفردة وتقرأ فيها لأنها قد فارقت الإمام بعد فراغه من الصلاة فحكمها حكم المسبوق إذا فارق إمامه قال : وهذا أولى لأنكم جوزتم للمأموم فراق إمامه قبل فراغه من الصلاة وهي الطائفة الأولى وللثانية فراقه في الأفعال فيكون جالسا وهم قيام يأتون بركعة وهم في إمامته
ولنا ما روى صالح بن خوات [ عمن صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صلت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم ] رواه مسلم
وروى سهل بن أبي حثمة مثل ذلك والعمل بهذا أولى لأنه أشبه بكتاب الله تعالى وأحوط للصلاة والحرب أما موافقة الكتاب فإن قول الله تعالى : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } يقتضي أن جميع صلاتها معه وعنده تصلي معه ركعة فقط وعندنا جميع صلاتها معه - إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه ومن مفهوم قوله لم يصلوا أن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها وأما الاحتياط للصلاة فإن كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية بعضها توافق الإمام فيها فعلا وبعضها تفارقه وتأتي به وحدها كالمسبوق وعنده تنصرف في الصلاة فإما أن تمشي وإما أن تركب وهذا عمل كثير وتستدير القبلة وهذا ينافي الصلاة وتفرق بين الركعتين تفريقا كثيرا بما ينافيها ثم جعلوا الطائفة الأولى مؤتمة بالإمام بعد سلامه ولا يجوز أن يكون المأموم مأموما في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه وأما الاحتياط للحرب فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض وإعلام غيره بما يراه مما خفي عليه من أمر العدو وتحذيره وإعلام الذين مع الإمام بما يحدث ولا يمكن هذا على قولهم ولأن مبني صلاة الخوف على التخفيف لأنهم في موضع الحاجة إليه وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال الأمن لأن كل طائفة تحتاج إلى مضي إلى مكان الصلاة ورجوع إلى وجاه العدو وانتظار لمضي الطائفة الأخرى ورجوعها فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل تحتاج كل طائفة إلى مشي ميل وانتظار للأخرى قدر مشي ميل وهي في الصلاة ثم تحتاج إلى تكليف الرجوع إلى موضع الصلاة لإتمام الصلاة من غير حاجة إليه ولا مصلحة تتعلق به فلو احتاج الآمن إلى مثل هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه فكيف يكلف الخائف هذا وهو في مظنة التخفيف والحاجة إلى الرفق به وأما مفارقة الإمام فجائزة للعذر ولا بد منها على القولين فإنهم جوزوا للطائفة الأولى مفارقة الإمام والذهاب إلى وجه العدو وهذا أعظم مما ذكرناه فإنه لا نظير له في الشرع ولا يوجد مثله في موضع آخر
فصل : وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز نص عليه أحمد ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن وبهذا قال ابن جرير وبعض أصحاب الشافعي
فصل : ولا تجب التسوية بين الطائفتين لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه ويبنوا على ما مضى من صلاتهم

فصل : صلاة الجمعة في الخوف
فصل : فإن صلوا الجمعة صلاة الخوف جاز إذا كانت كل طائفة أربعين فإن قيل فالعدد شرط في الجمعة كلها ومتى ذهبت الطائفة الأولى بقي الإمام منفردا فتبطل كما لو نقص العدد فالجواب أن هذا جاز لأجل العذر ولأنه يترقب مجيء الطائفة الأخرى بخلاف الانفضاض ولا يجوز أن يخطب بإحدى الطائفتين ويصلي بالأخرى حتى يصلي معه من حضر الخطبة وبهذا قال الشافعي

فصل : السهو في صلاة الخوف
والطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقة الإمام فإن سها لحقهم حكم سهوه فيما قبل مفارقته وإن سهوا لم يلزمهم حكم سهوهم لأنهم مأمومون وأما بعد مفارقته فإن سها لم يلزمهم حكم سهوه فإن سهوا لحقهم حكم سهوهم لأنهم منفردون وأما الطائفة الثانية فيلحقها حكم سهو إمامها في جميع صلاته ما أدركت منها وما فاتها كالمسبوق يلحقه حكم سهو إمامه فيما لم يدركه ولا يلحقها حكم سهوها في شيء من صلاتها لأنها إن فارقته فعلا لقضاء ما فاتها فهي في حكم المؤتم به لأنهم يسلمون بسلامه فإذا فرغت من قضاء ما فاتها سجد وسجدت معه فإن سجد الإمام قبل إتمامها سجدت لأنها مؤتمة به فيلزمها متابعته ولا تعيد السجود بعد فراغها من التشهد لأنها لم تنفرد عن الإمام فلا يلزمها من السجود أكثر مما يلزمه بخلاف المسبوق وقال القاضي : ينبني هذا على الروايتين في المسبوق إذا سجد مع إمامه ثم قضى ما عليه وقد ذكرنا الفرق بينهما

مسائل وفصول : صلاة الخوف في الحضر
مسألة : قال : وإن خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة
وجملة ذلك أن صلاة الخوف جائزة في الحضر إذا احتيج إلى ذلك بنزول العدو قريبا من البلد وبه قال الأوزاعي و الشافعي وحكي عن مالك أنها لا تجوز في الحضر لأن الآية إنما دلت على صلاة ركعتين وصلاة الحضر أربعا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعلها في الحضر وخالفه أصحابه فقالوا كقولنا
ولنا قول الله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية وهذا عام في كل حال وترك النبي صلى الله عليه و سلم فعلها في الحضر إنما كان لغناه عن فعلها في الحضر وقولهم إنما دلت الآية على ركعتين قلنا وقد يكون في الحضر ركعتان الصبح والجمعة والمغرب ثلاث ويجوز فعلها في الخوف في السفر ولأنها حالة خوف فجازت فيها صلاة الخوف كالسفر فإذا صلى بهم الرباعية صلاة الخوف فرقهم فرقتين فصلى بكل طائفة ركعتين وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد الأول أو حين يقوم إلى الثالثة على وجهين :
أحدهما حين قيامه إلى الثالثة وهو قول مالك و الأوزاعي لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار والتشهد يستحب تخفيفه ولذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا جلس للتشهد كان كأنه على الرضف حتى يقوم ولأن ثواب القائم أكثر ولأنه إذا انتظرهم جالسا فجاءت الطائفة فإنه يقوم قبل إحرامهم فلا يحصل اتباعهم له في القيام
والثاني : في التشهد لتدرك الطائفة الثانية جميع الركعة الثالثة ولأن الانتظار في الجلوس أخف على الإمام ولأنه متى انتظرهم قائما احتاج إلى قراءة السورة في الركعة الثالثة وهو خلاف السنة وأيا ما فعل كان جائزا وإذا جلس الإمام للتشهد الأخير جلست الطائفة معه فتشهدت التشهد الأول وقامت وهو جالست فأتمت صلاتها وتقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة لأن ما تقضيه أول صلاتها ولأنها لم يحصل لها مع الإمام قراءة السورة ويطول الإمام التشهد والدعاء حتى تصلي الركعتين ثم يتشهد ويسلم بهم فأما الطائفة الأولى فإنما تقرأ في الركعتين بعد مفارقة إمامها الفاتحة وحدها لأنها آخر صلاتها وقد قرأ إمامها بها السورة في الركعتين الأوليين وظاهر المذهب أن ما تقضيه الطائفة الثانية أول صلاتها فعلى هذا تستفتح إذا فارقت إمامها وتستعيذ وتقرأ الفاتحة وسورة وقد روي أنه أخر صلاتها ومقتضاه ألا تستفتح ولا تستعيذ ولا تقرأ السورة وعلى كل حال فينبغي لها أن تخفف وإن قرأت سورة فلتكن من أخف السور أو تقرأ آية أو اثنتين من سورة وينبغي للإمام أن لا يعجل بالسلام حتى يفرغ أكثرهم من التشهد فإن سلم قبل فراغ بعضهم أتم تشهده وسلم
فصل : واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق فروي أنه أول صلاته وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا ظاهر المذهب كذلك قال ابن عمر و مجاهد و ابن سيرين و مالك و الثوري وحكي عن الشافعي و أبي حنيفة و أبي يوسف و الحسن بن حي وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن و عمر بن عبد العزيز و مكحول و عطاء و الزهري و الأوزاعي و إسحاق و المزني و أبو ثور وهو قول الشافعي ورواية عن مالك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وما فاتكم فأتموا ] متفق عليه ولأنه آخر صلاته حقيقة فكان آخرها حكما كغير المسبوق ولأنه يتشهد في آخر ما يقضيه ويسلم ولو كان أول صلاته لما تشهد وكان يكفيه تشهده مع الإمام وللرواية الأولى قوله : [ وما فاتكم فاقضوا ] وهو صحيح ولأنه يسمى قضاء والقضاء للفائت والفائت أول الصلاة ومعنى قوله : [ فأتموا ] أي اقضوا لأن القضاء إتمام ولذلك سماه فائتا والفائت أول الصلاة ولأنه يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة فكان أول الصلة كغير المسبوق ولا أعلم خلافا بين الأئمة الأربعة في قراءة الفاتحة وسورة قال ابن عبد البر : كل هؤلاء القائلين بالقولين جميعا يقولون يقضي ما فاته بالحمد لله وسورة على حسب ما قرأ إمامه إلا إسحاق و المزني و داود قالوا : يقرأ بالحمد وحدها وعلى قول من قال : أنه يقرأ في القضاء بالفاتحة وسورة لا تظهر فائدة الخلاف إلا أن يكون في الاستفتاح والاستعاذة حال مفارقة الإمام وفي موضع الجلسة للتشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب والرباعية والله أعلم
فصل : واختلفت الرواية في موضع الجلسة والتشهد الأول في حق من أدرك ركعة من المغرب أو الرباعية إذا قضى فروي عن أحمد أنه إذا قام استفتح فصلى ركعتين متواليتين يقرأ في كل واحدة بالحمد لله وسورة نص عليه في رواية حرب وفعل ذلك جندب وذلك لأنهما أول صلاته فلم يتشهد بينهما كغير المسبوق ولأن القضاء على صفة الأداء والأداء لا جلوس فيه ولأنهما ركعتان يقرأ في كل واحدة منهما بالحمد لله وسورة فلم يجلس بينهما كالمؤادتين والرواية الثانية أنه يقوم فيأتي بركعة يقرأ فيها بالحمد لله وسورة ثم يجلس ثم يقوم فيأتي بأخرى بالحمد لله وسورة في المغرب أو بركعتين متواليتين في الرباعية يقرأ في أولاها بالحمد لله وسورة وفي الثانية بالحمد وحدها نقلها صالح و أبو داود و الأثرم وفعل ذلك مسروق وقال عبد الله بن مسعود كما فعل مسروق يفعل وهو قول سعيد بن المسيب فإنه روي عنه أنه قال لـ الزهري : ما صلاة يجلس في كل ركعة منها قال سعيد : هي المغرب إذا أدركت منها ركعة ولأن الثالثة آخر صلاته فعلا فيجب أن يجلس قبلها كغير المسبوق
وقد روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم قال : جاء جندب و مسروق إلى المسجد وقد ضلوا ركعتين من المغرب فدخلا في الصف فقرأ جندب في الركعة التي أدرك مع الإمام ولم يقرأ مسروق فلما سلم الإمام قاما في الركعة الثانية فقرأ جندب وقرأ مسروق وجلس مسروق في الركعة الثانية وقام جندب وقرأ مسروق في الركعة الثالثة ولم يقرأ جندب فلما قضيا الصلاة أتيا عبد الله فسألاه عن ذلك وقصا عليه القصة فقال عبد الله : كما فعل مسروق يفعل وقال عبد الله : إذا أدركت ركعة من المغرب فأجلس فيهن كلهن وأيا ما فعل من ذلك جاز إن شاء الله تعالى ولذلك لم ينكر عبد الله على جندب فعله ولا أمره بإعادة صلاته
فصل : إذا فرقهم في الرباعية فرقتين فصلى بالأولى ثلاث ركعات وبالثانية ركعة أو بالأولى ركعة والثانية ثلاثا صحت الصلاة لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بمثلهما وبهذا قال الشافعي إلا أنه قال : يسجد للسهو ولا حاجة إليه لأن السجود للسهو ولا سهو ها هنا ولو قدر أنه فعله ساهيا لم يحتج إلى سجود لأنه مما لا يبطل عمده الصلاة فلا يسجد لسهوه كما لو رفع يديه في غير موضع الرفع وترك رفعهما في موضعه
فأما إن فرقهم أربع فرق فصلى في كل طائفة ركعة أو ثلاث فرق فصلى بإحداهن ركعتين والباقين ركعة ركعة صحت صلاة الأولى والثانية لأنهما ائتما بمن صلاته صحيحة ولم يوجد منهما ما يبطل صلاتهما وتبطل صلاة الإمام بالانتظار الثالث لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم فزاد انتظارا لم يرد الشرع به فتبطل صلاته به كما لو فعله من غير خوف ولا فرق بين أن تكون به حاجة إلى ذلك أو لم يكن لأن الرخص إنما يصار فيها إلى ما ورد الشرع به ولا تصح صلاة الثالثة والرابعة لائتمامها بمن صلاته باطلة فأشبه ما لو كانت صلاته باطلة من أولها فإن لم يعلما ببطلان صلاة الإمام فقال ابن حامد : لا تبطل صلاتهما لأن ذلك مما يخفى فلم تبطل صلاة المأموم كما لو ائتم بمحدث وينبغي على هذا أن يخفى على الإمام والمأموم كما اعتبرنا في صحة صلاة من ائتم بمحدث خفاءه على الإمام والمأموم ويحتمل أن لا تصح صلاتهما لأن الإمام والمأموم يعلمان وجود المبطل وإنما خفي عليهم حكمه فلم يمنع ذلك البطلان كما لو علم الإمام والمأموم حدث الإمام ولم يعلما كونه مبطلا وقال بعض أصحاب الشافعي كقول ابن حامد وقال بعضهم : تصح صلاة الإمام والمأمومين جميعا لأن الحاجة تدعو إلى ذلك فأشبه ما لو فرقهم فرقتين وقال بعضهم : المنصوص أن صلاتهم تبطل بالانتظار الأول لأنه زاد على انتظار رسول الله صلى الله عليه و سلم زيادة لم يرد الشرع بها
ولنا على الأول أن الرخص إنما تتلقى من الشرع ولم يرد الشرع بهذا وعلى الثاني أن طول الانتظار لا عبرة به كما لو أبطأت الثانية فيما إذا فرقهم فرقتين

مسألة : كيفية صلاة المغرب في الخوف
مسألة : قال : وإن كانت الصلاة مغربا صلى بالطائفة الأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين تقرأ فيهما بالحمد لله ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة
وبهذا قال مالك و الأوزاعي و سفيان و الشافعي في أحد قوليه وقال : في آخر يصلي بالأولى ركعة والثانية ركعتين لأنه روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى ليلة الهدير هكذا ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام والتقدم فينبغي أن تزيد الثانية في الركعات ليجبر نقصهم وتساوي الأولى
ولنا أنه إذا لم يكن بد من التفضيل فالأولى أحق به ولأنه يجبر ما فات الثانية بإدراكها السلام مع الإمام ولأنها تصلي جميع صلاتها في حكم الائتمام والأولى تفعل بعض صلاتها في حكم الانفراد وأياما فعل فهو جائز على ما قدمنا وهل تفارقه الطائفة الأولى في التشهد أو حين يقوم إلى الثالثة ؟ فعلى وجهين وإذا صلى بالثانية الركعة الثالثة وجلس للتشهد فإن الطائفة تقوم ولا تتشهد معه ذكره القاضي لأنه ليس بموضع لتشهدها بخلاف الرباعية ويحتمل أن تتشهد معه لأنها تقضي ركعتين متواليتين على إحدى الروايتين فيفضي إلى أن تصلي ثلاث ركعات بتشهد واحد ولا نظير لهذا في الصلوات فعلى هذا الاحتمال تتشهد معه التشهد الأول ثم تقوم كالصلاة الرباعية سواء

فصل : استحباب حمل السلاح في صلاة الخوف
فصل : ويستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف لقول الله تعالى : { وليأخذوا أسلحتهم } ولأنهم لا يأمنون أن يفجأهم عدوهم فيميلون عليهم كما قال الله تعالى : { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } والمستحب من ذلك ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين ولا يثقله كالجوشن ولا يمنع من إكمال السجود كالمغفر ولا ما يؤذي غيره كالرمح إذا كان متوسطا فإن كان في الحاشية لم يكره ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن من أركان الصلاة إلا عند الضرورة مثل أن يخاف وقوع الحجارة أو السهام به فيجوز له حمله لضرورة قال أصحابنا : ولا يجب حمل السلاح وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أهل العلم وأحد قولي الشافعي لأنه لو وجب لكان شرطا في الصلاة كالسترة ولأن الأمر به للرفق بهم والصيانة لهم فلم يكن للإيجاب كما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نهى عن الوصال رفقا بهم لم يكن للتحريم ويحتمل أن يكون واجبا وبه قال داود و الشافعي في القول الآخر والحجة معهم لأن ظاهر الأمر الوجوب وقد اقترن به ما يدل على إرادة الإيجاب به وهو قوله تعالى { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } ونفي الحرج مشروطا بالأذى دليل على لزومه عند عدمه فأما إن كان بهم أذى من مطر أو مرض فلا يجب بغير خلاف بتصريح النص بنفي الحرج فيه

فصول : صفة صلاة الخوف
فصل : ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أحمد : كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز وقال : ستة أوجه أو سبعة يروى فيها كلها جائز وقال الأثرم : قلت لـ أبي عبد الله تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه أو تختار واحدا منهما قال : أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن وأما حديث سهل فأنا أختاره إذا تقرر هذا فنذكر الوجوه التي بلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى عليها وقد ذكرنا منها وجهين أحدهما ما ذكره الخرقي وهو حديث سهل والثاني حديث ابن عمر وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة والثالث صلاة النبي صلى الله عليه و سلم بعسفان وهو ما [ روى أبو عياش الزرقي قال : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم في الصلاة فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه و سلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم صف وصف خلف ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله صلى الله عليه و سلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله صلى الله عليه و سلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا فسلم عليهم فصلاها بعسفان يوم بني سليم ] رواه أبو داود وروى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو هذا المعنى أخرجه مسلم
وروي [ عن حذيفة أنه أمر سعيد بن العاص بطبرستان حين سألهم أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة الخوف فقال حذيفة : أنا وأمره بنحو هذه الصلاة قال وتأمر أصحابك إن هاجهم هيج فقد حل لهم القتال والكلام ] رواه الأثرم بإسناده وإن حرس الصف الأول في الأولى والثاني في الثانية أو لم يتقدم الثاني إلى مقام الأول أو حرس بعض الصف وسجد الباقون جاز ذلك كله لأن المقصود يحصل لكن الأولى فعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم ومن شرط هذه الصلاة أن يكون العدو في جهة القبلة لأنه لا يمكن حراستهم في الصلاة إلا كذلك وأن يكونوا بحيث لا يخفى بعضهم على بعض ولا يخاف كمين لهم
فصل : الوجه الرابع أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة ويسلم بها كما روى أبو بكر قال : [ صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكان لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربع ولأصحابه ركعتان ] أخرجه أبو داود و الأثرم وهذه صفة حسنة قليلة الكلفة لا يحتاج فيها إلى مفارقة الإمام ولا إلى تعريف كيفية الصلاة وهذا مذهب الحسن وليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين
فصل : الوجه الخامس أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم ثم تسلم الطائفة وتنصرف ولا تقضي شيئا وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها ركعتين ويسلم بها ولا تقضي شيئا وهذا مثل الوجه الذي قبله إلا أنه يسلم في الركعتين الأوليين لما [ روى جابر قال : أقبلنا مع النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بذات الرقاع فذكر الحديث قال : فنودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال : وكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين ] متفق عليه وتأول القاضي هذا على أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بهم كصلاة الحضر وأن كل طائفة قضت ركعتين وهذا ظاهر الفساد جدا لأنه يخالف صفة الرواية وقول أحمد ويحمله على محمل فاسد أما الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين ولم يذكر قضاء ثم قال في آخرها وللقوم ركعتين ركعتين وأما قول أحمد فإنه قال : ستة أوجه أو سبعة يروى فيها كلها جائز وعلى هذا التأويل لا تكون ستة ولا خمسة ولأنه قال كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فهو جائز وهذا مخالف لهذا التأويل وأما فساد المحمل فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها كما قال الله تعالى :
{ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وعلى هذا التأويل يجعل مكان الركعتين أربعا ويتم الصلاة المقصورة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أتم صلاة السف فكيف يحمل هاهنا على أنه أتمها في موضع وجد فيه ما يقتضي التخفيف
فصل : الوجه السادس أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئا لما روى ابن عباس قال : [ صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي قرد صلاة الخوف والمشركون بينه وبين القبلة فصف صفا خلفه وصفا موازي العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم فكانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ركعتان وكانت لهم ركعة ركعة ] رواه الأثرم
وعن حذيفة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا ] رواه أبو داود وروي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة رواهن الأثرم وكذلك قال أبو داود في السنن وهو مذهب ابن عباس وجابر قال : إنما القصر ركعة عند القتال وقال طاووس و مجاهد و الحسن و قتادة و الحكم كذا يقولون : ركعة في شدة الخوف يومئ إيماء وقال إسحاق : يجزئك عند الشدة ركعة تومئ إيماء فإن لم يقدر فسجدة واحدة فإن لم يقدر فتكبيرة لأنها ذكر لله تعالى وعن الضحاك أنه قال : ركعة فإن لم يقدر كبر تكبيرة حيث كان وجهه فهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجها سادسا سواها وأصحابنا ينكرون ذلك قال القاضي : لا تأثير للخوف في عدد الركعات وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر و النخعي و الثوري و مالك و الشافعي و أبو حنيفة وأصحابه وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة والذي قال منهم ركعة إنما جعلها عند شدة القتال والذين روينا عنهم صلاة النبي صلى الله عليه و سلم أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين وابن عباس لم يكن ممن يحضر النبي صلى الله عليه و سلم في غزواته ولا يعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع النبي صلى الله عليه و سلم أولى

فصل : صلاة الخوف في غير الخوف
فصل : ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف فصلاته وصلاتهم فاسدة لأنها لا تخلو من مفارق إمامه لغير عذر وتارك متابعة إمامه في ثلاثة أركان أو قاصر للصلاة مع إتمام إمامه وكل ذلك يفسد الصلاة إلا مفارقة الإمام لغير عذر على اختلاف فيه وإذا فسدت صلاتهم فسدت صلاة الإمام لأنه صلى إماما بمن صلاته فاسدة إلا أن يصلي بهم صلاتين كاملتين فإنه تصح صلاته وصلاة الطائفة الأولى وصلاة الثانية تبنى على ائتمام المفترض بالمتنفل وقد نصرنا جوازه

مسائل وفصول : صلاة شدة الخوف
مسألة : قال : وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها يومئون إيماء يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا أو إلى غيرها
أما إذا اشتد الخوف والتحم القتال فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالا وركبانا إلى القبلة إن أمكنهم وإلى غيرها إن لم يمكنهم يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون ويكرون ويفرون ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة و ابن أبي ليلى : لا يصلي مع المسايفة ولا مع المشي لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل يوم الخندق وأخر الصلاة ولأن ما منع الصلاة في غير شدة الخوف منعها معه كالحدث والصياح وقال الشافعي : يصلي ولكن إن تابع الطعن أو الضرب أو المشي أو فعل ما يطول بطلت صلاته لأن ذلك من مبطلات الصلاة أشبه الحدث
ولنا قول الله تعالى : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } [ قال ابن عمر : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ] متفق عليه وروي ذلك [ عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بأصحابه في غير شدة الخوف فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم ] وهذا مشي كثير وعمل طويل واستدبار للقبلة وأجاز ذلك من أجل الخوف الذي ليس بشديد فمع الخوف الشديد أولى ومن العجب أن أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل في أثناء الصلاة وسوغه مع الغنى عنه وإمكان الصلاة بدونه ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه وكان العكس أولى سيما مع نص الله تعالى على الرخصة في هذه الحال ولأنه مكلف تصح طهارته فلم يجز له إخلاء وقت الصلاة عن فعلها كالمريض ويخص الشافعي بأنه عمل أبيح من أجل الخوف فلم تبطل الصلاة به كاستدبار القلة والركوب والإيماء ولأنه لا يخلو عند الحاجة إلى العمل الكثير من أجل ثلاثة أمور : إما تأخير الصلاة عن وقتها ولا خلاف بيننا في تحريمه أو ترك القتال وفيه هلاكه وقد قال الله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وأجمع المسلمون على أنه لا يلزمه هذا أو متابعة العمل للمتنازع فيه وهو جائز بالإجماع فتعين فعله وصحة الصلاة معه ثم ما ذكره يبطل المشي الكثير والعدو في الهرب وغيره وأما تأخير الصلاة يوم الخندق فروى أبو سعيد أنه كان قبل نزول صلاة الخوف ويحتمل أنه شغله المشركون فنسي الصلاة فقد نقل ما يدل على ذلك وقد ذكرناه فيما مضى وأكده أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم يكونوا في مسايفة توجب قطع الصلاة وأما الصياح والحدث فلا حاجة بهم إليه ويمكنهم التيمم ولا يلزم من كون الشيء مبطلا مع عدم العذر أن يبطل معه كخروج النجاسة من المستحاضة ومن به سلس البول
وإن هرب من العدو هربا مباحا أو من سيل أو سبع أو حريق لا يمكنه التخلص منه بدون الهرب فله أن يصلي صلاة شدة الخوف سواء خاف على نفسه أو ماله أو أهله والأسير إذا خافهم على نفسه إن صلى والمختفي في موضع يصليان كيفما أمكنهما نص عليه أحمد في الأسير ولو كان المختفي قاعدا لا يمكنه القيام أو مضطجعا لا يمكنه القعود ولا الحركة صلى على حسب حاله وهذا قول محمد بن الحسن وقال الشافعي : يصلي ويعيد وليس بصحيح لأنه خائف صلى على حسب ما يمكنه فلم تلزمه الإعادة كالهارب ولا فرق بين الحضر والسفر في هذا لأن المبيح خوف الهلاك وقد تساويا فيه ومتى أمكن التخلص بدون ذلك كالهارب من السيل يصعد إلى ربوة والخائف من العدو يمكنه دخول حصن يأمن فيه صولة العدو ولحوق الضرر فيصلي فيه ثم يخرج لم يكن له أن يصلي صلاة شدة الخوف لأنها إنما أبيحت للضرورة فاختصت بوجود الضرورة
فصل : والعاصي بهربه كالذي يهرب من حق توجه عليه وقاطع الطريق واللص والسارق ليس له أن يصلي صلاة الخوف لأنها رخصة ثبتت للدفع عن نفسه في محل مباح فلا تثبت بالمعصية كرخص السفر
فصل : قال أصحابنا : يجوز أن يصلوا في حال شدة الخوف جماعة رجالا وركبانا ويحتمل أن لا يجوز ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنهم يحتاجون إلى التقدم والتأخر وربما تقدموا الإمام وتعذر عليهم الائتمام واحتج أصحابنا بأنها حالة يجوز فيها الصلاة على الانفراد فجاز فيها صلاة الجماعة كركوب السفينة ويعفى عن تقدم الإمام للحاجة إليه كالعفو عن العمل الكثير ولم نصر الأول أن يقول العفو عن ذلك لا يثبت إلا بنص أو معنى نص ولم يوجد واحد منهما وليس هذا في معنى العمل الكثير لأن العمل الكثير لا يختص الإمامة بل هو في حال الانفراد كحال الائتمام فلا يؤثر الانفراد في نفيه بخلاف تقدم الإمام

فصلان : حكم الخائف إذا أمن وهو في الصلاة
فصل : وإذا صلوا صلاة الخوف ظنا منهم أن ثم عدوا فبان أنه لا عدو أو بان عدو لكن بينهم وبينه ما يمنع عبوره إليهم فعليهم الإعادة سواء صلوا صلاة شدة الخوف أو غيرها وسواء كان ظنهم مستندا إلى خبر ثقة أو غيره أو رؤية سواد أو نحوه لأنهم تركوا بعض واجبات الصلاة ظنا منهم سقوطها فلزمتهم الإعادة كما لو ترك المتوضئ غسل رجليه ومسح على خفيه ظنا منه أن ذلك يجزي عنه وصلى ثم تبين أن خفه كان مخرقا وكما لو ظن المحدث أنه متطهر فصلى ويحتمل أن لا تلزم الإعادة إذا كان عدوا بينهم وبينه ما يمنع العبور لأن السبب للخوف متحقق وإنما خفي المانع
مسألة : قال : ومن أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن وكذلك إن كان آمنا فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف
وجملته أنه إذا صلى بعض الصلاة حال شدة الخوف مع الإخلال بشيء من واجباتها كالاستقبال وغيره فأمن في أثناء الصلاة أتمها آتيا بواجباتها فإذا كان راكبا إلى غير القبلة نزل مستقبل القبلة وإن كان ماشيا وقف واستقبل القبلة وبنى على ما مضى لأن ما مضى كان صحيحا قبل الأمن فجاز البناء عليه كما لو لم يخل بشيء من الواجبات وإن ترك الاستقبال حال نزوله أو أخل بشيء من واجباتها بعد أمنه فسدت صلاته وإن ابتدأ الصلاة آمنا بشروطها وواجباتها ثم حدث شدة خوف أتمها على حسب ما يحتاج إليه مثل أن يكون قائما على الأرض مستقبلا فيحتاج أن يركب ويستدير القبلة أتمها على حسب ما يحتاج إليه ويطعن ويضرب ونحو ذلك فإنه يصير إليه ويبني على ما مضى من صلاته وحكي عن الشافعي أنه إذا أمن نزل فبنى وإذا خاف فركب ابتدأ لأن الركوب عمل كثير ولا يصح لأن الركوب قد يكون يسيرا فمثله في حق الآمن لا يبطل ففي حق الخائف أولى كالنزول ولأنه عمل أبيح للحاجة فلم يمنع صحة الصلاة كالهرب

كتاب صلاة الكسوف - مسألة : حكم صلاة الكسوف
الكسوف والخسوف شيء واحد وكلاهما قد وردت به الأخبار وجاء القرآن بلفظ الخسوف
مسألة : قال أبو القاسم : وإذا خسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة إن أحبوا جماعة وإن أحبوا فرادى
صلاة الكسوف ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما سنذكره ولا نعلم بين أهل العلم في مشروعيتها لكسوف الشمس خلافا وأكثر أهل العلم على أنها مشروعة لخسوف القمر : فعله ابن عباس وبه قال عطاء و الحسن و النخعي و الشافعي و إسحاق وقال مالك : ليس لكسوف القمر سنة وحكى ابن عبد البر عنه وعن أبي حنيفة أنهما قالا : يصلي الناس لخسوف القمر وحدانا ركعتين ركعتين ولا يصلون جماع لأن في خروجهم إليها مشقة
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا ] متفق عليه فأمر بالصلاة لهما أمرا واحدا وعن ابن عباس أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال : إنما صليت لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي ولأنه أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس ويسن فعلها جماعة وفرادى وبهذا قال مالك و الشافعي وحكي عن الثوري أنه قال : إن صلاها الإمام صلوها معه وإلا فلا تصلوا
ولنا قوله عليه الصلاة و السلام : [ فإذا رأيتموها فصلوا ] ولأنها نافلة فجازت في الانفراد كسائر النوافل وإذا ثبت هذا فإن فعلها في الجماعة أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلاها في جماعة والسنة أن يصليها في المسجد لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعلها فيه قالت عائشة : [ خسفت الشمس في حياة رسول الله صل الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه ] رواه البخاري ولأن وقت الكسوف يضيق فلو خرج إلى المصلى احتمل التجلي قبل فعلها وتشرع في الحضر والسفر بإذن الإمام وغير إذنه وقال أبو بكر : هي كصلاة العيد فيها روايتان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإذا رأيتموها فصلوا ] ولأنها نافلة أشبهت سائر النوافل وتشرع في حق النساء لـ [ أن عائشة وأسماء صلتا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه البخاري ويسن أن ينادى لها : الصلاة جامعة لما روي عن عبد الله بن عمرو قال : [ لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم نودي بالصلاة جامعة ] متفق عليه ولا يسن لها أذان ولا إقامة لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلاها بغير أذان ولا إقامة ] ولأنها من غير الصلوات الخمس فأشبهت سائر النوافل

مسألة وفصول : صفة صلاة الكسوف وما يستحب فيها
مسألة : قال : يقرأ في الأولى بأم ا لكتاب وسورة طويلة يجهر بالقراءة ثم يركع فيطيل الركوع ثم يرفع فيقرأ ويطيل القيام وهو دون القيام الأول ثم يركع فيطيل الركوع وهو دون الركوع الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين فإذا قام فعل مثل ذلك فيكون أربع ركعات وأربع سجدات ثم يتشهد ويسلم
وجملته أن المستحب في صلاة الكسوف أن يصلي ركعتين يحرم بالأولى ويستفتح ويستعيذ ويقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو قدرها في الطول ثم يركع فيسبح الله تعالى قدر مائة ثم يرفع فيقول : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم يقرأ الفاتحة وآل عمران أو قدرها ثم يركع بقدر ثلثي ركوعه الأول ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد فيطيل السجود فيهما ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ الفاتحة وسورة النساء ثم يركع فيسبح بقدر ثلثي تسبيحه في الثانية ثم يرفع فيقرأ الفاتحة والمائدة ثم يركع فيطيل دون الذي قبله ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد فيطيل فيكون الجميع ركعتين في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان وسجودان ويجهر بالقراءة ليلا كان أو نهارا وليس هذا التقدير في القراءة منقولا عن أحمد لكن قد نقل عنه أن الأولى أطول من الثانية وجاء التقدير في حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ] متفق عليه وفي حديث لـ [ عائشة حزرت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأيت أنه قرأ في الركعة الأولى بسورة البقرة وفي الثانية سورة آل عمران ] وبهذا قال مالك و الشافعي إلا أنهما قالا : لا يطيل السجود حكاه عنهما ابن المنذر لأن ذلك لم ينقل وقالا : لا يجهر : لا يجهر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر ووافقهم أبو حنيفة لقول عائشة : [ حزرت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ولو جهر بالقراءة لم تحتج إلى الظن والتخمين وكذلك قال ابن عباس : قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة وروى سمرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في خسوف الشمس فلم أسمع له صوتا ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ولأنها صلاة نهار فلم يجهر فيما كالظهر وقال أبو حنيفة : يصلي ركعتين كصلاة التطوع لما روى النعمان بن بشير قال : [ انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج فكان يصلي ركعتين ويسلم ويصلي ركعتين ويسلم حتى انجلت الشمس ] رواه أحمد عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة عن النعمان وروى قبيصة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة ]
ولنا [ أن عبد الله بن عمرو قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكسوف : ثم سجد فلم يكد يرفع ] رواه أبو داود وفي حديث عائشة [ ثم رفع ثم سجد سجودا طويلا ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طولا وهو دون الركوع الأول ثم سجد سجودا طويلا وهو دون السجود الأول ] رواه البخاري وترك ذكره في حديث لا يمنع مشروعيته إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم وأما الجهر فقد روي عن علي رضي الله عنه وفعله عبد الله بن يزيد وبحضرته البراء بن عازب وزيد بن أقم وبه قال أبو يوسف و إسحاق و ابن المنذر وروت عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الكسوف وجهر فيها بالقراءة ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ولأنها نافلة شرعت لها الجماعة فكان من سنتها الجهر كصلاة الاستسقاء والعيد والتراويح فأما قول عائشة رضي الله عنها : [ حزرت قراءته ] ففي إسناده مقال لأنه من رواية ابن إسحاق : ويحتمل أن تكون سمعت صوته ولم تفهم للبعد أو قرأ من غير أول القرآن بقدر البقرة ثم حديثنا صحيح صريح فكيف يعارض بمثل هذا وحديث سمرة يجوز أنه لم يسمع لبعده فإن حديثه دفعت إلى المسجد وهو بازر يعني مغتصا بالزحام قاله الخطابي ومن هذه حاله لا يصل مكانا يسمع منه ثم هذا نفي محتمل لأمور كثيرة فكيف يترك من أجله الحديث الصحيح الصريح وقياسهم منتقض بالجمعة والعيدين والاستسقاء وقياس هذه الصلاة على هذه الصلوات أولى من قياسها على الظهر لبعدها منها وشبهها بهذه
وأما الدليل على صفة الصلاة فروت عائشة قالت : [ خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه فاقترأ رسول الله صلى الله عليه و سلم قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال : ( سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ) ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأول ثم قال : ( سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ) ثم سجد ثم فعل في الركعة الأولى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ]
وعن ابن عباس مثل ذلك وفيه [ أنه قام في الأولى قياما طويلا نحوا من سورة البقرة ] متفق عليهما ولأنها صلاة يشرع لها الاجتماع فخالفت سائر النوافل كصلاة العيدين والاستسقاء فأما أحاديثهم فمتروكة غير معمول بها باتفاقنا فإنهم قالوا : يصلي ركعتين وحديث النعمان فيه أنه يصلي ركعتين ثم ركعتين حتى انجلت الشمس وحديث قبيصة فيه أنه يصلي كأحدث صلاة صليتموها وأحد الحديثين يخالف الآخر ثم حديث قبيصة مرسل ثم يحتمل أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركوعين ولو قدر التعارض لكان الأخذ بأحاديثنا أولى لصحتها وشهرتها واتفاق الأئمة على صحتها والأخذ بها واشتمالها على الزيادة والزياد0ة من الثقة مقبولة ثم هي ناقلة عن العادة وقد روي عن عروة أنه قيل له : أن أخاك صلى ركعتين فقال : أنه أخطأ السنة
فصل : ومهما قرأ به جاز سواء كانت القراءة طويلة أو قصيرة وقد روي عن عائشة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات وقرأ في الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثانية بيس ] أخرجه الدارقطني
فصل : ولم يبلغنا عن أحمد رحمه الله أن لها خطبة وأصحابنا على أنها لا خطبة لها وهذا مذهب مالك وأصحاب الرأي وقال الشافعي : يخطب كخطبتي الجمعة لما روت عائشة رضي الله عنها [ أن النبي صلى الله عليه و سلم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا - ثم قال - يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) ] متفق عليه
ولنا هذا الخبر فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمرهم بالصلاة والدعاء والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بخطبة ولو كانت سنة لأمرهم بها ولأنها صلاة يفعلها المنفرد في بيته فلم يشرع لها خطبة وإنما خطب النبي صلى الله عليه و سلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها وهذا مختص به وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة
فصل : ويستحب ذكر الله تعالى والدعاء والتكبير والاستغفار والصدقة والعتق والتقرب إلى الله تعالى بما استطاع لخبر عائشة هذا وفي خبر أبي موسى [ فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره ] وروي عن أسماء أنها قالت : إن كنا لنؤمر بالعتق في الكسوف ولأنه تخويف من الله تعالى فينبغي أن يبادر إلى طاعة الله تعالى ليكشفه عن عباده

فصل : صلاة الكسوف ست ركعات في أربع سجدات
فصل : ومقتضى مذهب أحمد أنه يجوز أن يصلي صلاة الكسوف على كل صلة رويت عن النبي صلى الله عليه و سلم كقوله في صلاة الخوف إلا أن اختياره من ذلك الصلاة على الصفة التي ذكرنا قال أحمد رحمه الله : روى ابن عباس وعائشة في صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات وأما علي فيقول ست ركعات وأربع سجدات فذهب إلى قول ابن عباس وعائشة وروي عن ابن عباس أنه صلى ست ركعات وأربع سجدات وكذلك حذيفة وهذا قول إسحاق و ابن المنذر وبعض أهل العلم قالوا : تجوز صلاة الكسوف على كل صفة صح أن النبي صلى الله عليه و سلم فعلها وقد روي عن عائشة وابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى ست ركعات وأربع سجدات ] أخرجه مسلم وروي عنه [ أنه صلى أربع ركعات وسجدتين في كل ركعة ] رواه مسلم و الدارقطني بإسناده عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن المنذر وروينا عن علي وابن عباس أنهما صليا هذه الصلاة وحكي عن إسحاق أنه قال : وجه الجمع بين هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد انجلت فإذا انجلت سجد فمن هاهنا صارت زيادة الركعات ولا يجاوز أربع ركعات في كل ركعة لأنه لم يأتنا عن النبي صلى الله عليه و سلم أكثر من ذلك

فصل : ما يصنع إذا انتهى الكسوف أثناء الصلاة
فصل : وصلاة الكسوف سنة مؤكدة لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعلها وأمر بها ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي فإن فاتت لم تقض لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة حتى تنجلي ] فجعل الانجلاء غاية للصلاة ولأن الصلاة إنما سنت رغبة إلى الله في ردها فإذا حصل ذلك حصل مقصود الصلاة و إن انجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها وإن استترت الشمس والقمر بالسحاب وهما منكسفان صلى لأن الأصل بقاء الكسوف وإن غابت الشمس كاسفة أو طلعت على القمر وهو خاسف لم يصل لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بنورهما وإن غاب القمر ليلا فقال القاضي : يصلي لأنه لم يذهب وقت الانتفاع بنوره وضوئه ويحتمل أن لا يصلي لأن ما يصلي له قد غاب أشبه ما لو غابت الشمس وإن فرغ من الصلاة والكسوف قائم لم يزد واشتغل بالذكر والدعاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزد على ركعتين

فصل : إذا اجتمع الكسوف وصلاة أخرى !
فصل : وإذا اجتمع صلاتان كالكسوف مع غيره من الجمعة أو العيد أو صلاة مكتوبة أو الوتر بدأ بأخوفهما فوتا فإن خيف فوتها بدأ بالصلاة الواجبة وإن لم يكن فيهما واجبة كالكسوف والوتر أو التراويح بدأ بآكدهما كالكسوف والوتر بدأ بالكسوف لأنه أكد ولهذا تسن له الجماعة ولأن الوتر يقضى وصلاة الكسوف لا تقضى فإن اجتمعت التراويح والكسوف فبأيهما يبدأ ؟ فيه وجهان هذا قول أصحابنا والصحيح عندي أن الصلوات الواجبة التي تصلى في الجماعة مقدمة على الكسوف بكل حال لأن تقديم الكسوف عليها يفضي إلى المشقة لإلزام الحاضرين بفعلها مع كونها ليست واجبة عليهم وانتظارهم للصلاة الواجبة مع أن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بتخفيف الصلاة الواجبة كيلا يشق على المأمومين فإلحاق المشقة بهذه الصلاة الطويلة الشاقة مع أنها غير واجبة أولى وكذلك الحكم إذا اجتمعت مع التراويح قدمت التراويح لذاك وإن اجتمعت مع الوتر في أول وقت الوتر قدمت لأن ا لوتر لا يفوت وإن خيف فوات الوتر قدم لأنه يسير يمكن فعله وإدراك وقت الكسوف وإن لم يبق إلا قدر الوتر فلا حاجة بالتلبس بصلاة الكسوف لأنها إنما تقع في وقت النهي وإن اجتمع الكسوف وصلاة الجنازة قدمت الجنازة وجها واحدا لأن الميت يخاف عليه والله أعلم

فصل : حكم من أدرك الإمام في الركوع الثاني
فصل : إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني احتمل أن تفوته الركعة قال القاضي : لأنه قد فاته من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة ويحتمل أن صلاته تصح لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد فاجترئ به في حق المسبوق والله أعلم

مسألة : وإذا كان الكسوف في غير وقت الصلاة
مسألة : قال : وإذا كان الكسوف في غير وقت الصلاة جعل مكان الصلاة تسبيحا هذا ظاهر المذهب لأن ا لنافلة لا تفعل في أوقات النهي سواء كان لها سبب أو لم يكن
روي ذلك عن الحسن و عطاء و عكرمة بن خالد و ابن أبي مليكة و عمرو بن شعيب و أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و مالك و أبي حنيفة خلافا لـ الشافعي وقد مضى ا لكلام في هذا ونص عليه أحمد قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الكسوف يكون في غير وقت الصلاة كيف يصنعون قال : يذكرون الله ولا يصلون إلا في وقت صلاة قيل له : وكذلك بعد الفجر قال : نعم لا يصلون
وروي عن قتادة قال : انكسفت الشمس بعد العصر ونحن بمكة فقاموا قياما يدعون فسألت عن ذلك عطاء قال : هكذا يصنعون فسألت عن ذلك الزهري قال : هكذا يصنعون
وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنهم يصلون الكسوف في أوقات النهي قال أبو بكر عبد العزيز وبالأول أقول وهو أظهر القولين عندي وقد تقدم الكلام في ذلك في بابه

فصل : الصلاة للزلزلة وغيرها من الآيات
فصل : قال أصحابنا يصلي للزلزلة كصلاة الكسوف نص عليه وهو مذهب إسحاق و أبي ثور قال القاضي : ولا يصلي للرجفة والريح الشديدة والظلمة ونحوها
وقال الآمدي : يصلي لذلك ولرمي الكواكب والصواعق وكثرة المطر وحكاه عن ابن أبي موسى وقال أصحاب الرأي : الصلاة لسائر الآيات حسنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم علل الكسوف بأنه آية من آيات الله تعالى يخوف بها عباده وصلى ابن عباس للزلزلة بالبصرة رواه سعيد وقال مالك و الشافعي : لا يصلي لشيء من الآيات سوى الكسوف لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل لغيره وقد كان في عصره بعض هذه الآيات وكذلك خلفاؤه ووجه الصلاة للزلزلة فعل ابن عباس وغيرها لا يصلي له لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل لها ولا أحد من أصحابه والله أعلم

كتاب صلاة الاستسقاء - مسألة : سبب صلاة الاستسقاء وكيفية الخروج
صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه رضي الله عنهم
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وإذا أجدبت الأرض واحتبس القطر خرجوا مع الإمام فكانوا في خروجهم كما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا خرج للاستسقاء خرج متواضعا متبذلا متخشعا متذللا متضرعا ]
وجملة ذلك أن السنة الخروج لصلاة الاستسقاء على هذه الصفة المذكورة متواضعا لله تعالى متبذلا أي في ثياب البذلة أي لا يلبس ثياب الزينة ولا يتطيب لأنه من كمال الزينة وهذا يوم تواضع واستكانة ويكون متخشعا في مشيه وجلوسه في خضوع متضرعا لله تعالى متذللا له راغبا إليه قال ابن عباس : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم للاستسقاء متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى فلم يخطب كخطبتكم هذه ولكنن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ويستحب التنظيف بالماء واستعمال السواك وما يقطع الرائحة ويستحب الخروج لكافة الناس وخروج من كان ذا دين وستر وصلاح والشيوخ استحبابا لأنه أسرع للإجابة فأما النساء فلا بأس بخروج العجائز ومن لا هيئة لها فأما الشواب وذوات الهيئة فلا يستحب لهن الخروج لأن الضرر في خروجهن أكثر من النفع ولا يستحب إخراج البهائم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله وإذا عزم الإمام على الخروج استحب أن يعد الناس يوما يخرجون فيه ويأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم والصيام والصدقة وترك التشاحن ليكون أقرب لإجابتهم فإن المعاصي سبب الجدب والطاعة تكون سببا للبركات قال الله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون }

مسألة : صفة صلاة الاستسقاء
مسألة : قال : [ فيصلي بهم ركعتين ]
لا نعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلافا في أنها ركعتان واختلفت الرواية في صفتها فروي أنه يكبر فيهما كتكبير العيد سبعا في الأولى وخمسا في الثانية وهو قول سعيد بن المسيب و عمر بن عبد العزيز و أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و داود و الشافعي وحكي عن ابن عباس وذلك لقول ابن عباس في حديثه وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد
وروى جعفر بن محمد عن أبيه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمسا ] والرواية الثانية [ أنه يصلي ركعتين كصلاة التطوع ] وهو مذهب مالك و الأوزاعي و أبي ثور و إسحاق لأن عبد الله بن زيد قال : [ استسقى النبي صلى الله عليه و سلم فصلى ركعتين وقلب رداءه ] متفق عليه
وروى أبو هريرة نحوه ولم يذكر التكبير وظاهره أنه لم يكبر وهذا ظاهر كلام الخرقي وكيفما فعل كان جائزا حسنا وقال أبو حنيفة : لا تسن الصلاة للاستسقاء ولا الخروج لها لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استسقى على المنبر يوم الجمعة ولم يصل لها ] واستسقى عمر بالعباس ولم يصل وليس هذا بشيء فإنه قد ثبت بما رواه عبد الله بن زيد وابن عباس وأبو هريرة أنه خرج وصلى وما ذكروه لا يعارض ما رووه لأنه يجوز الدعاء بغير صلاة وفعل النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكروه لا يمنع فعل ما ذكرناه بل قد فعل النبي صلى الله عليه و سلم الأمرين قال ابن المنذر : ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب ] وبه قال عوام أهل العلم إلا أبا حنيفة وخالفه أبو يوسف و محمد بن الحسن فوافقا سائر العلماء والسنة يستغني بها عن كل قول ويسن أن يجهر بالقراءة لما روى عبد الله بن زيد قال : [ خرج النبي صلى الله عليه و سلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ] متفق عليه وإن قرأ فيهما بـ { سبح اسم ربك الأعلى } و { هل أتاك حديث الغاشية } فحسن لقول ابن عباس صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد
وروى ابن قتيبة في غريب الحديث بإسناده عن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج للاستسقاء فتقدم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و { سبح اسم ربك الأعلى } وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و { هل أتاك حديث الغاشية } ]

فصل : لا أذان ولا إقامة لصلاة الاستسقاء
فصل : ولا يسن لها أذان ولا إقامة لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو هريرة قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله تعالى وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه وقلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن ] رواه الأثرم ولأنها صلاة نافلة فرم يؤذن لها كسائر النوافل قال أصحابنا : وينادى لها الصلاة جامعة كقولهم في صلاة العيد والكسوف

فصل : وليس لها وقت معين
فصل : وليس لصلاة الاستسقاء وقت معين إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بغير خلاف لأن وقتها متسع فلا حاجة إلى فعلها في وقت النهي والأولى فعلها في وقت العيد لما روت عائشة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج حين بدا حاجب الشمس ] رواه أبو داود ولأنها تشبهها في الموضع والصفة فكذلك في الوقت لأن وقتها لا يفوت بزوال الشمس لأنها ليست لها يوم معين فلا يكون لها وقت معين وقال ابن عبد البر : الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء إلا أبا بكر بن حزم وهذا على سبيل الاختيار لا أنه يتعين فعلها فيه

مسألة : مشروعية الخطبة لصلاة الاستسقاء
مسألة : قال : ثم يخطب ويستقبل القبلة
اختلفت الرواية في الخطبة للاستسقاء وفي وقتها والمشهور أن فيها خطبة بعد الصلاة قال أبو بكر : اتفقوا عن أبي عبد الله أن صلاة الاستسقاء خطبة وصعودا على المنبر والصحيح أنها بعد الصلاة بهذا قال مالك و الشافعي و محمد بن الحسن : قال ابن عبد البر : وعليه جماعة الفقهاء لقول أبي هريرة : صلى ركعتين ثم خطبنا ولقول ابن عباس صنع في الاستسقاء كما صنع في العيدين ولأنها صلاة ذات تكبير فأشبهت صلاة العيد والرواية الثانية أنه يخطب قبل الصلاة روي ذلك عن عمر وابن الزبير و أبان بن عثمان و هشام بن إسماعيل و أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وذهب إليه الليث بن سعد و ابن المنذر لما روى أنس وعائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب وصلى ] و [ عن عبد الله بن زيد قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم خرج يستسقي فحول ظهره إلى الناس واستقبل القبلة يدعو ثم حول راءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة ] متفق عليه
وروى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود قال : أدركت أبان بن عثمان و هشام بن إسماعيل و عمر بن عبد العزيز و أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كانوا إذا أرادوا أن يستسقوا خرجوا للبراز فكانوا يخطبون ثم يدعون الله ويحولون وجوههم إلى القبلة حين يدعون ثم يحول أحدهم رداءه من الجانب الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن وينزل أحدهم فيقرأ في الركعتين يجهر بهم الرواية الثالثة هو مخير في الخبطة قبل الصلاة وبعدها لورود الأخبار بكلا الأمرين ودلالتها على كلتا الصفتين فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين والرابعة أنه لا يخطب وإنما يدعوا ويتضرع لقول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم هذه لكن لم يزل في الدعاء والتضرع وأبا ما فعل من ذلك فهو جائز لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها فإن شاء فعلها وإن شاء تركها والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة لتكون كالعيد وليكونوا قد فرغوا من الصلاة إن أجيب دعاؤهم فأغيثوا فلا يحتاجون إلى الصلاة في المطر وقول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم نفي للصفة لا لأصل الخطبة أي لم يخطب كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير

مسألة وفصول : صفة خطبة الاستسقاء
مسألة : قال : ويستقبل القبلة ويحول رداءه فيجعل اليمين يسارا واليسار يمينا ويفعل الناس كذلك
وجملته أنه يستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة لما روى عبد الله بن زيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو ] رواه البخاري وفي لفظ [ فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعوا ]
ويستحب أن يدعوا سرا حال استقباله فيقول : اللهم أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك فقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا اللهم فامنن علينا بمغفرة ذنوبنا وإجابتنا في سقيانا وسعة أرزاقنا ثم دعوا بما شاء من أمر دين ودنيا وإنما يستحب الإسرار ليكون أقرب من الإخلاص وأبلغ في الخشوع والخضوع والتضرع وأسرع في الإجابة قال الله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } واستحب الجهر ببعضه ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه
ويستحب أن يحول رداءه في حال استقبال القبلة لأن في حديث عبد الله بن زيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يستسقي فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة ثم حول رداءه ] متفق عليه وهذا لفظ رواه البخاري وفي لفظ مسلم [ فحول رداءه حين استقبل القبلة ] وفي لفظ [ وقلب رداءه ] متفق عليه
ويستحب تحويل الرداء للإمام والمأموم في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : لا يسن لأنه دعاء فلا يستحب تحويل الرداء فيه كسائر الأدعية وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع وحكي عن سعيد بن المسيب و عروة و الثوري أن تحويل الرداء مختص بالإمام دون المأموم وهو قول الليث و أبي يوسف و محمد بن الحسن لأنه نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم دون أصحابه
ولنا أن ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه به دليل كيف وقد عقل المعنى في ذلك وهو التفاؤل بقلب الرداء ليقلب الله ما بهم من الجدب إلى الخصب وقد جاء ذلك في بعض الحديث وصفة تقليب الرداء أن يجعل ما على اليمين على اليسار وما على اليسار على اليمين روي ذلك عن أبان بن عثمان و عمر بن عبد العزيز و هشام بن إسماعيل و أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم و مالك وكان الشافعي يقول له ثم رجع فقال : يجعل أعلاه أسفله لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها فلما ثقلت عليه جعل العطاف الذي على الأيسر على عاتقه الأيمن والذي على الأيمن على عاتقه الأيسر ] رواه أبو داود ودليلنا ما روى أبو داود عن عبد الله بن زيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حول رداءه وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ] وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك والزيادة التي نقلوها إن ثبتت فهي ظن الراوي لا يترك لها فعل النبي صلى الله عليه و سلم وقد نقل تحويل الرداء جماعة لم ينقل أحد منهم أنه جعل أعلاه أسفله ويبعد أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء
فصل : ويستحب رفع الأيدي في دعاء الاستسقاء لما روى البخاري عن أنس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا الاستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه ] وفي حديث أيضا لأنس [ فرفع النبي صلى الله عليه و سلم ورفع الناس أيديهم ]
مسألة : قال : ويدعو ويدعون ويكثرون في دعائهم الاستغفار
وجملته أن الإمام إذا صعد المنبر جلس وإن لم يجلس لأن الجلوس لم ينقل ولا هاهنا أذان ليجلس في وقته ثم يخطب خطبة واحدة يفتتحها بالتكبير وبهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وقال مالك و الشافعي : يخطب خطبتين كخطبتي العيدين لقول ابن عباس [ صنع النبي صلى الله عليه و سلم كما صنع في العيد ] ولأنها أشبهتها في التكبير وفي صفة الصلاة فتشبهها في الخطبتين
ولنا قول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير وهذا يدل على أنه ما فصل بين ذلك بسكوت ولا جلوس ولأن كل من نقل الخطبة لم ينقل خطبتين ولأن المقصود إنما هو دعاء لله تعالى ليغيثهم ولا أثر لكونها خطبتين في ذلك والصحيح من حديث ابن عباس أنه قال : صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد ولو كان النقل كما ذكروه فهو محمول على الصلاة بدليل أول الحديث
ويستحب أن يستفتح الخطبة بالتكبير كخطبة العيد ويكثر من الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ويقرأ كثيرا { استغفروا ربكم إنه كان غفارا } وسائر الآيات التي فيها الأمر به فإن الله تعالى وعدهم بإرسال الغيث إذا استغفروه
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار وقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى ميمون بن مهران يقول : قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا وكذا وأمرتهم بالصدقة والصلاة قال الله تعالى : { قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } وأمرتم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ويقولوا كما قال نوح { وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } ويقولوا كما قال يونس { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ويقولوا كما قال موسى { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } ولأن المعاصي سبب انقطاع الغيث والاستغفار والتوبة تمحو المعاصي المانعة من الغيث فيأتي الله به ويصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ويدعوا بدعائه فروى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل ] رواه أبو داود قال الخطابي : مريعا كان معناه منبتا للربيع وعن عائشة قالت : [ شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بدأ حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال : ( إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن أبان زمانه عنكم وقد أمركم الله أن تدعواه ووعدكم أن يستجيب لكم ثم قال : { الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين } لا إله إلا هو يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين ) ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس فنزل فصلى ركعتين ] وقال عبد الله بن عمرو : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا استسقى قال : ( اللهم أسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت ) ] رواهما أبو داود
وروى ابن قتيبة بإسناده في غريب الحديث عن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج للاستسقاء فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و { سبح اسم ربك الأعلى } وفي الركعة الثانية فاتحة الكتاب و { هل أتاك حديث الغاشية } فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه وقلب رداءه ورفع يديه وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ثم قال : ( اللهم اسقنا وأغثنا اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مونقا هنيئا مريئا مريعا مربعا مرتعا سائلا مسيلا مجللا ديما درورا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد اللهم أنزل في أرضنا زينتها وأنزل علينا في أرضنا سكنها اللهم أنزل علينا من السماء ماءا طهورا فأحيي به بلدة ميتا وأسقه مما خلقت أنعاما وأناسي كثيرا ) ] قال ابن قتيبة : المغيث المحيي بإذن الله تعالى والحيا الذي تحيا به الأرض والمال والجدا : المطر العام ونه أخذ جدا العطية والجدوى مقصور والطبق الذي يطبق الأرض والغدق والمغدق الكثير القطر والمونق المعجب والمريع ذو المراعة والخصب والمربع من قولك ربعت مكان كذا إذا أقمت به وأربع على نفسك أرفق والمرتع من رتعت الإبل إذا أرعت والسابل من السبل وهو المطر يقال سبل سابل كما يقال مطر ماطر والرائث البطيء والسكن القوة لأن الأرض تسكن به
وروي عن عبد الله بن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا استسقى قال : ( اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريعا غدقا مجللا طبقا سحا دائما اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ]

فصل : إذن الإمام في صلاة الاستسقاء والدعاء
فصل : وهل من شرط هذه الصلاة إذن الإمام على روايتين إحداهما يستحب إلا بخروج الإمام أو رجل من قبله قال أبو بكر فإذا خرجوا بغير إذن الإمام دعوا وانصرفوا بلا صلاة ولا خطبة نص عليه أحمد وعنه أنهم يصلون لأنفسهم ويخطب بهم أحدهم فعلى هذه الرواية يكون الاستسقاء مشروعا في حق كل أحد مقيم ومسافر وأهل القرى والأعراب لأنها صلاة نافلة فأشبهت صلاة الكسوف ووجه الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بها وإنما فعلها على صفة فلا يتعدى تلك الصفة وهو أنه صلاها بأصحابه وكذلك خلفاؤه ومن بعدهم فلا تشرع إلا في مثل تلك الصفة
فصل : ويستحب أن يستسقي بمن ظهر صلاحه لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء فإن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن عمر : استسقى عمر عام الرمادة بالعباس فقال : اللهم إن هذا عم نبيك صلى الله عليه و سلم نتوجه إليك به فاسقنا فما برحوا حتى سقاهم الله عز و جل
وروي أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر قال : أين يزيد بن الأسود الجرشي ؟ فقام يزيد فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه ثم قال : اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الله تعالى فثارت في الغرب سحابة مثل الترس وهب لها ريح فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم واستسقى به الضحاك مرة أخرى

مسألة : إعادة صلاة الاستسقاء
مسألة : قال : فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث
وبهذا قال مالك و الشافعي وقال إسحاق : لا يخرجون إلا مرة واحدة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يخرج إلا مرة واحدة ولكن يجتمعون في مساجدهم فإذا فرغوا من الصلاة ذكروا الله تعالى ودعوا ويدعوا الإمام يوم الجمعة على المنبر ويؤمن الناس
ولنا أن هذا مبالغ في الدعاء والتضرع وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله يحب الملحين في الدعاء ] وأما النبي صلى الله عليه و سلم فلم يخرج ثانيا لاستغنائه عن الخروج بإجابته أول مرة والخروج في المرة الأولى آكد مما يعدها لورود السنة به

فصل : نزول المطر قبل صلاة الاستسقاء
فصل : وإن تأهبوا للخروج فسقوا قبل خروجهم لم يخرجوا وشكروا الله على نعمته وسألوه المزيد من فضله وإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلوا شكرا لله تعالى وحمدوه ودعوه ويستحب الدعاء عند نزول الغيث لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اطلبوا استجابة الدعاء عند ثلاث : عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول الغيث ] و [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا رأى المطر قال : ( صبيا نافعا ) ] رواه البخاري

فصلان : مستحبات الاستسقاء وكيفيته
فصل : ويستحب أن يقف في أول المطر ويخرج رحله ليصيبه المطر لما روى أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر عن لحيته ] رواه البخاري وعن ابن عباس أنه كان إذا أمطرت السماء قال لغلامه : ( أخرج رحلي وفراشي يصبه المطر ) ويستحب أن يتوضأ من ماء المطر إذا سال السيل لما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا سال السيل يقول : ( أخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر ) ]
فصل : ويستحب أن يستسقوا عقيب صلواتهم ويوم الجمعة يدعوا الإمام على المنبر ويؤمن الناس قال القاضي : الاستسقاء ثلاثة أضرب أكملها الخروج والصلاة على ما وصفنا ويليه استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر لما روي [ أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه فقال : ( اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ) ] قال أنس : ولا والله ما يرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيء ولا بيننا وبين سلع من بيت ولا دار فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فلا والله ما رأينا الشمس ستا [ ثم دخل من ذلك الباب رجل في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب فاستقبله قائما وقال يا رسول الله : هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه وقال : ( اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر ) ] قال : فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس متفق عليه
والثالث : أن يدعوا الله تعالى عقيب صلواتهم وفي خلواتهم

فصلان : وإذا كثر المطر بحيث يضرهم
فصل : وإذا كثر المطر بحيث يضرهم أو مياه العيون دعوا الله تعالى أن يخففه ويصرف عنهم مضرته ويجعله في أماكن تنفع ولا تضر كدعاء النبي صلى الله عليه و سلم في الفصل الذي قبل هذا ولأن الضرر بزيادة المطر أحد الضررين فيستحب الدعاء لإزالته كانقطاعه
مسألة : قال : وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا وأمروا أن يكونوا منفردين عن المسلمين
وجملته أنه لا يستحب إخراج أهل الذمة لأنهم أعداء الله الذين كفروا به وبدلوا نعمته كفرا فهم بعيدون من الإجابة وإن أغيث المسلمون فربما قالوا هذا حصل بدعائنا وإجابتنا وإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون أرزاقهم من ربهم فلا يمنعون من ذلك ولا يبعد أن يجيبهم الله تعالى لأنه قد ضمن أرزاقهم في الدنيا كما ضمن أرزاق المؤمنين ويؤمروا بالانفراد عن المسلمين لأنه لا يؤمن أن يصيبهم عذاب فيعم من حضرهم فإن قوم عاد استسقوا فأرسل الله ريحا صرصرا فأهلكتهم فإن قيل : فينبغي أن يمنعوا الخروج يوم يخرج المسلمون لئلا يظنوا أن ما حصل من السقيا بدعائهم قلنا : ولا يؤمن أن يتفق نزول الغيث يوم يخرجون وحدهم فيكون أعظم لفتنتهم وربما افتتن غيرهم بهم

باب الحكم فيمن ترك الصلاة - مسألة وفصل : حكم تارك الصلاة أو ركن من أركانها
مسألة : قال : ومن ترك الصلاة وهو بالغ عاقل جاحدا لها أو غير جاحد دعي إليها في وقت كل صلاة ثلاثة أيام فإن صلى وإلا قتل
وجملة ذلك أن تارك الصلاة لا يخلو إما أن يكون جاحدا لوجوبها أو غير جاحد فإن كان جاحدا لوجوبها نظر فيه فإن كان جاهلا به وهو ممن يجهل ذلك - كالحديث الإسلام والناشئ ببادية - عرف وجوبها وعلم ذلك ولم يحكم بكفره لأنه معذور فإن لم يكن ممن يجهل ذلك كالناشئ من المسلمين في الأمصار والقرى لم يعذر ولم يقبل منه ادعاء الجهل وحكم بكفره لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسنة والمسلمون يفعلونها على الدوام فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله ولا يجحدها إلا تكذيبا لله تعالى ولرسوله وإجماع الأمة وهذا يصير مرتدا عن الإسلام حكمه حكم سائر المرتدين في الاستتابة والقتل ولا أعلم في هذا خلافا وإن تركها لمرض أو عجز عن أركانها وشروطها قيل له : إن ذلك لا يسقط الصلاة وإنه يجب عليه أن يصلي على حسب طاقته وإن تركها تهاونا أو كسلا دعي إلى فعلها وقيل له : إن صليت وإلا قتلناك فإن صلى وإلا وجب قتله ولا يقتل حتى يحبس ثلاثا ويضيق عليه فيها ويدعى في وقت كل صلاة إلى فعلها ويخوف بالقتل فإن صلى وإلا قتل بالسيف وبهذا قال مالك و حماد بن زيد و وكيع و الشافعي وقال الزهري : يضرب ويسجن وبه قال أبو حنيفة قال : ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ] متفق عليه وهذا لم يصدر منه أحد الثلاثة فلا يحل دمه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] متفق عليه ولأنه فرع من فروع الدين فلا يقتل بتركه كالحج ولأن القتل لو شرع لشرع زجرا عن ترك الصلاة ولا يجوز شرع زاجر تحقق المزجور عنه والقتل يمنع فعل الصلاة دائما فلا يشرع ولأن الأصل تحريم الدم فلا تثبت الإباحة إلا بنص أو معنى نص والأصل عدمه
ولنا قول الله تعالى : { فاقتلوا المشركين } إلى قوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فأباح قتلهم وشرط في تخلية سبيلهم التوبة وهي الإسلام وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة فمتى ترك الصلاة متعمدا لم يأت بشرط تخليته فبقي على وجوب القتل وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة ] وهذا يدل على إباحة قتله وقال عليه السلام : [ بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ] رواه مسلم والكفر مبيح للقتل وقال عليه السلام : [ نهيت عن قتل المصلين ] وعن أنس قال : قال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ] رواه الدارقطني فمفهومه أن غير المصلين يباح قتلهم ولأنها ركن من أركان الإسلام لا تدخله النيابة ينفس ولا مال فوجب أن يقتل تاركه كالشهادة وحديثهم حجة لنا لأن الخبر الذي رويناه يدل على أن تركها كفر والحديث الآخر استثنى منه إلا بحقها والصلاة من حقها ثم إن أحاديثنا خاصة فنخص بها عموم ما ذكروه ولا يصح قياسها على الحج لأن الحج مختلف في جواز تأخيره ولا يجب القتل بفعل مختلف فيه وقولهم أن هذا يفضي إلى ترك الصلاة بالكلية قلنا الظاهر أن من يعلم أنه يقتل إن ترك الصلاة لا يتركها سيما بعد استتابته ثلاثة أيام فإن تركها بعد هذا كان ميؤوسا من صلاته فلا فائدة في بقائه ولا يكون القتل هو المفوت له ثم لو فات به احتمال الصلاة لحصل به صلاة ألف إنسان وتحصيل ذلك بتفويت احتمال صلاة واحدة لا يخالف الأصل إذا ثبت هذا فظاهر كلام الخرقي أنه يجب قتله بترك صلاة واحدة وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأنه تارك للصلاة فلزم قتله كتارك ثلاث ولأن الأخبار تتناول تارك صلاة واحدة لكن لا يثبت الوجوب حتى يضيق وقت التي بعدها لأن الأولى لا يعلم تركها إلا بفوات وقتها فتصير فائتة لا يجب القتل بفواتها فإذا ضاق وقتها علم أنه يريد تركها فوجب قتله والثانية لا يجب قتله حتى يترك ثلاث صلوات ويضيق وقت الرابعة عن فعلها لأنه قد يترك الصلاة والصلاتين لشبهة فإذا تكرر ذلك ثلاثا تحقق أنه تاركها رغبة عنها ويعتبر أن يضيق وقت الرابعة عن فعلها لما ذكرنا وحكى ابن حامد عن أبي إسحاق ابن شاقلا أنه إن ترك صلاة لا تجمع إلى بعدها كصلاة الفجر والعصر وجب قتله وإن ترك الأولى من صلاتي الجمع لم يجب قتله لأن الوقتين كالوقت الواحد عند بعض العلماء وهذا قول حسن واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو حدا فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين ولا يرثه أحد ولا يرث أحدا اختارها أبو إسحاق بن شاقلا و ابن حامد وهو مذهب الحسن و الشعبي و أيوب و السختياني و الأوزاعي و ابن المبارك و حماد بن زيد و إسحاق و محمد بن الحسن لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ] وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بيننا وبينهم ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر ] رواهن مسلم وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدونها الصلاة ] قال أحمد : كل شيء ذهب أخره لم يبق منه شيء وقال عمر رضي الله عنه : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وقال علي رضي الله عنه : من لم يصل فهو كافر وقال ابن مسعود : من لم يصل فلا دين له وقال عبد الله بن شقيق : لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ولأنها عبادة يدخل بها في الإسلام فيخرج بتركها منه كالشهادة
والرواية الثانية يقتل حدا مع الحكم بإسلامه كالزاني المحصن وهذا اختيار أبي عبد الله بن بطة وأنكر قول من قال : أنه يكفر وذكر أن المذهب على هذا لم يجد في المذهب خلافا فيه وهذا قول أكثر الفقهاء وقول أبي حنيفة و مالك و الشافعي وروي عن حذيفة أنه قال : يأتي على الناس زمان لا يبقى معهم من الإسلام إلا قول : لا إله إلا الله فقيل له : وما ينفعهم ؟ قال : تنجيهم من النار لا أبا لك وعن والان قال : انتهيت إلى داري فوجدت شاة مذبوحة فقلت : من ذبحها ؟ قالوا : غلامك قلت : والله إن غلامي لا يصلي فقال النسوة : نحن علمناه فسمى فرجعت إلى ابن مسعود فسألته عن ذلك فأمرني بأكلها والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حرم النار على من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ] وعن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ] وعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ] وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ] متفق على هذه الأحاديث كلها ومثلها كثير وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن دخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ] ولو كان كافرا لم يدخله في المشيئة وقال الخلال في جامعه : ثنا يحيى ثنا عبد الوهاب ثنا هشام بن حسان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي شميلة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج إلى قباء فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما هذا ؟ قالوا : مملوك لآل فلان كان من أمره قال : ( أكان يشهد أن لا إله إلا الله ) قالوا : نعم ولكنه كان وكان فقال : ( أما كان يصلي ) فقالوا : قد كان يصلي ويدع فقال لهم : ( ارجعوا به فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه ) ] وروي بإسناده عن عطاء عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال : لا إله إلا الله ] ولأن ذلك إجماع المسلمين فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا منع هو ميراث مورثه ولا فرق بين زوجين لترك الصلاة مع أحدهما لكثرة تاركي الصلاة ولو كان كافرا لثبتت هذه الأحكام كلها ولا نعلم بين المسلمين خلافا في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها ولو كان مرتدا لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام
وأما الأحاديث المتقدمة فهي على سبيل التغليظ والتشبيه له بالكفار لا على الحقيقة كقوله عليه السلام : [ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ] وقوله : [ كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق ] وقوله : [ من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ] وقوله : [ من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد ] قال : [ ومن قال : مطرنا بنوء الكواكب فهو كافر بالله مؤمن بالكواكب ] وقوله : [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] وقوله : [ شارب الخمر كعابد وثن ] وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد وهو أصوب القولين والله أعلم
فصل : ومن ترك شرطا مجمعا عليه أو ركنا كالطهارة والركوع والسجود فهو كتاركها حكمه لأن الصلاة مع ذلك وجودها كعدمها وإن ترك مختلفا فيه كإزالة النجاسة وقراءة الفاتحة والطمأنينة والاعتدال بين الركوع والسجود أو بين السجدتين معتقدا جواز ذلك فلا شيء عليه وإن تركه معتقدا تحريمه لزمته إعادة الصلاة ولا يقتل من أجل ذلك بحال لأنه مختلف فيه فأشبه المتزوج بغير ولي وسارق مال له فيه شبهة والله أعلم

كتاب الجنائز
يستحب للإنسان ذكر الموت والاستعداد له فإنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أكثروا من ذكر هاذم اللذات فما ذكر إلا قلله ولا في قليل إلا كثره ] روى البخاري أوله وإذا مرض استحب له أن يصبر ويكره الأنين لما روي عن طاوس أنه كرهه ولا يتمنى الموت لضر نزل به لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل وليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ] وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ويحسن ظنه بربه تعالى [ قال جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول قبل موته بثلاث : ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ) ] رواه مسلم و أبو داود
وقال معتمر عن أبيه أنه قال له عند موته : حدثني بالرخص

فصل : استحباب عيادة المريض ما يستحب عند المريض والمحتضر
فصل : يستحب عيادة المريض [ قال البراء : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع الجنائز وعيادة المريض ] رواه البخاري و مسلم وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من رجل يعود مريضا ممسيا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة ومن أتاه مصبحا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وإذا دخل على مريض دعا له ورقاه [ قال ثابت لأنس : يا أبا حمزة اشتكيت قال أنس : أفلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : بلى قال : ( اللهم رب الناس مذهب إلباس اشف أنت الشافي شفاه لا يغادر سقما ) ] وروى أبو سعيد قال : [ ( أتى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد اشتكيت ؟ قال : نعم قال : ( بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس وعين حاسدة الله يشفيك ) ] ونال أبو زرعة : كلا هذين الحديثين صحيح وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإنه لا يرد من قضاء الله شيئا وإنه يطيب نفس المريض ] رواه ابن ماجة ويرغبه في التوبة والوصية لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده ] متفق عليه
فصل : ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به وأعلمهم بسياسته وأتقاهم لربه تعالى ليذكره الله تعالى والتوبة من المعاصي والخروج من المظالم والوصية وإذا رآه منزولا به تعهد بل حلقه بتقطير ماء أو شراب فيه ويندي شفتيه بقطنة ويستقبل به القبلة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خير المجالس ما استقبل به القبلة ] ويلقنه قول لا إله إلا الله لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ] رواه مسلم وقال الحسن : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله ) ] رواه سعيد ويكون ذلك في لطف ومداراة ولا يكرر عليه ولا يضجره إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه لتكون لا إله إلا الله آخر كلامه نص على هذا أحمد وروي عن عبد الله بن المبارك أنه لما حضره الموت جعل رجل يلقنه لا إله إلا الله فأكثر عليه فقال له عبد الله : إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم قال الترمذي : إنما أراد عبد الله ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ] رواه أبو داود بإسناده وروى سعيد بإسناده [ عن معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة قال : أجلسوني فلما أجلسوه قال : كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه و سلم كنت أخبؤها ولولا ما حضرني من الموت ما اخبرتكم بها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من كان آخر قوله عند الموت لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا هدمت ما كان قبلها من الخطايا والذنوب فلقنوها موتاكم ) فقيل يا رسول الله فكيف هي للأحياء ؟ قال : ( هي أهدم وأهدم ) ] قال أحمد ويقرؤون عند الميت إذا حضر ليخفف عنه بالقراءة يقرأ { يس } وأمر بقراءة فاتحة الكتاب وروى سعيد ثنا فرج بن فضالة عن أسد بن وداعة لما حضر غضيف بن حارث الموت حضره إخوانه فقال : هل فيكم من يقرأ سورة يس قال رجل من القوم : نعم قال : اقرأ ورتل وانصتوا فقرأ ورتل وأسمع القوم فلما بلغ { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون } خرجت نفسه قال أسد بن وداعة : فمن حضره منكم الموت فشدد عليه الموت فليقرأ عنده سورة يس فإنه يخفف عنه الموت

مسألة وفصل : تجهيز الميت بعد تيقن موته
مسألة : قال أبو القاسم : وإذا تيقن الموت وجه إلى القبلة وغمضت عيناه وشد لحياه لئلا يسترخي فكه وجعل على بطنه مرآة أو غيرها لئلا يعلو بطنه
قوله إذ تيقن الموت يحتمل أنه أراد حضور الموت لأن التوجيه إلى القبلة يستحب تقديمه على الموت واستحبه عطاء و النخعي و مالك وأهل المدينة و الأوزاعي وأهل الشام و إسحاق وأنكره سعيد بن المسيب فإنهم لما أرادوا أن يحولوه إلى القبلة قال : ما لكم ؟ قالوا : نحولك إلى القبلة قال : ألم أكن على القبلة إلى يومي هذا ؟ والأول أولى لأن حذيفة قال : وجهوني ولأن فعلهم ذلك بـ سعيد دليل على أنه كان مشهورا بينهم يفعله المسلمون كلهم بموتاهم ولأن خير المجالس ما استقبل به القبلة ويحتمل أن الخرقي أراد تيقن وجود الموت لأن سائر ما ذكر إنما يفعل بعد الموت وهو تغميض الميت فإنه يسن عقيب الموت لما روي عن أم سلمة قالت : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال : ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) فضج الناس من أهله فقال : ( لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ) ثم قال : ( اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين المقربين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه ) ] أخرجه مسلم وروى شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت ] رواه أحمد في المسند وروي أن عمر رضي الله عنه قال لابنه حين حضرته الوفاة : ادن مني فإذا رأيت روحي قد بلغت لهاتي فضع كفك اليمنى على جبهتي واليسرى تحت ذقني واغمضني ويستحب شد لحييه بعصابة عريضة يربطها من فوق رأسه لأن الميت إذا كان مفتوح العينين والفم فلم يغمض حتى يبرد بقي مفتوحا فيقبح منظره ولا يؤمن دخول الهوام فيه والماء في وقت غسله وقال بكر بن عبد الله المزني : ويقول الذي يغمضه : بسم الله وعلى وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجعل على بطنه شيء من الحديد كمرآة أو غيرها لئلا ينتفخ بطنه فإن لم يكن شيء من الحديد فطين مبلول ويستحب أن يلي ذلك منه أرفق الناس به بأرفق ما يقدر عليه
قال أحمد : تغمض المرأة عينه إذا كانت ذات محرم له قوال : يكره للحائض والجنب تغميضه وأن تقرباه وكره ذلك علقمة وروي نحوه عن الشافعي وكره الحسن و ابن سيرين و عطاء أن يغسل الحائض والجنب الميت وبه قال مالك وقال إسحاق و ابن المنذر : يغسله الجنب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمن ليس بنجس ] ولا نعلم بينهم اختلافا في صحة تغسيلهما وتغميضهما له ولكن الأولى أن يكون المتولي لأموره في تغميضه وتغسيله طاهرا لأنه أكمل وأحسن
فصل : ويستحب المسارعة إلى تجهيزه إذا تيقن موته لأنه أصوب له وأحفظ من أن يتغير وتصعب معافاته قال أحمد : كرامة الميت تعجيله وفيما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله ] ولا بأس أن ينتظر بها مقدار ما يجتمع لها جماعة لما يؤمل من الدعاء له إذا صلى عليه ما لم يخف عليه أو يشق على الناس نص عليه أحمد وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت من استرخاء رجليه وانفصال كفيه وميل أنفه وامتداد جلده وجهه وانخساف صدغيه وإن مات فجأة كالمصعوق أو خائفا من حرب أو سبع أو تردى من جبل انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته قال الحسن في المصعوق : ينتظر به ثلاثا قال أحمد رحمه الله : إنه ربما تغير في الصيف في اليوم والليلة قيل فكيف تقول قال : يترك بقدر ما يعلم أنه ميت قيله له : من غدوة إلى الليل قال : نعم

فصل : المسارعة في قضاء دين الميت
فصل : ويسارع في قضاء دينه لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وإن تعذر إيفاء دينه في الحال استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل به عنه كما فعل [ أبو قتادة لما أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة فلم يصل عليها قال أبو قتادة : صل عليها يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه ] رواه البخاري
ويستحب المسارعة إلى تفريق وصيته ليجعل له ثوابها بجريانها على الموصي له

فصل : يستحب خلع ثياب الميت
فصل : ويستحب خلع ثبا الميت لئلا يخرج منه شيء يفسد به ويلوث بها إذا نزعت عنه ويسجى بثوب يستر جميعه قالت عائشة : [ سجي رسول الله صلى الله عليه و سلم بثوب حيرة ] متفق عليه ولا يترك الميت على الأرض لأنه أسرع لفساده ولكن على سرير أو لوح ليكون أحفظ له

مسائل وفصول : صفة غسل الميت ووضعه
مسألة : قال : فإذا أخذ في غسله ستر من سرته إلى ركبتيه
وجملته أن المستحب تجريد الميت عند غسله ويستر عورته بمئزر هذا ظاهر قول الخرقي ورواه الأثرم عن أحمد فقال : يغطي ما بين سرته وركبتيه وهذا اختيار أبي الخطاب وهو مذهب ابن سيرين و مالك و أبي حنيفة وروى المروذي عن أحمد أنه قال : يعجبني أن يغسل الميت وعليه ثوب يدخل يده من تحت الثوب قال : وكان أبو قلابة إذا غسل ميتا جلله بثوب قال القاضي : السنة أن يغسل في قميص رقيق ينزل الماء فيه ولا يمنع أن يصل بدنه ويدخل يده في كم فيمرها على بدنه والماء يصب فإن كان القميص ضيقا فتق رأي الدخاريص وأدخل يده منه وهذا مذهب الشافعي لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم غسل في قميصه ] وقال سعد : اصنعوا بي كما صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم قال أحمد : [ غسل النبي صلى الله عليه و سلم في قميصه وقد أرادوا خلعه فنودوا أن لا تخلعوه واستروا نبيكم ]
ولنا أن تجريده أمكن لتغسيله وأبلغ في تطهيره والحي يتجرد إذا اغتسل فكذا الميت ولأنه إذا اغتسل في ثوبه تنجس الثوب بما يخرج وقد لا يطهر بصب الماء عليه فيتنجس الميت به
فأما النبي صلى الله عليه و سلم فذاك خاص له ألا ترى أنهم قالوا : نجرده كما نجرد موتانا كذلك روت عائشة قال ابن عبد البر : روي ذلك عنها من وجه صحيح فالظاهر أن تجريد الميت فيما عدا العورة كان مشهورا عندهم ولم يكن هذا ليخفى على النبي صلى الله عليه و سلم بل الظاهر أنه كان بأمره لأنهم كانوا ينتهون إلى رأيه ويصدرون عن أمره في الشرعيات واتباع أمره وفعله أولى من اتباع غيره ولأن ما يخشى من تنجيس قميصه بما يخرج منه كان مأمونا في حق النبي صلى الله عليه و سلم لأنه طيب حيا وميتا بخلاف غيره وإنما قال سعد : إلحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم ولوثبت أنه أراد الغسل فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى بالاتباع
وأما ستر ما بين السرة والركبة فلا نعلم فيه خلافا فإن ذلك عورة وستر العورة مأمور به وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي : لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ] قال ابن عبد البر : وروي : [ الناظر من الرجال إلى فروج الرجال كالناظر منهم إلى فروج النساء والمتكشف ملعون ]
فصل : قال أبو داود قلت لـ أحمد : الصبي يستر كما يستر الكبير أعني الصبي الميت في الغسل قال : أي شيء يستر منه وليست عورته بعورة ويغسله النساء
مسألة : قال : والاستحباب أن لا يغسل تحت السماء ولا يحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل
وجملة ذلك أن المستحب أن يغسل في بيت وكان ابن سيرين يستحب أن يكون البيت الذي يغسل فيه مظلما ذكره أحمد فإن لم يكن جعل بينه وبين السماء سترا قال ابن المنذر : كان النخعي يحب أن يغسل وبينه وبين السماء سترة
وروى أبو داود بإسناده قال : أوصى الضحاك أخاه سالما قال : إذا غسلتني فاجعل حولي سترا واجعل بيني وبين السماء سترا وذكر القاضي [ أن عائشة قالت : أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نغسل ابنته فجعلنا بينها وبين السقف سترا ] قال : وإنما استحب ذلك خشية أن يستقبل السماء بعورته وإنما كره أن يحضره من لا يعين في أمره لأنه يكره النظر إلى الميت إلا لحاجة ويستحب للحاضرين غض أبصارهم عنه إلا من حاجة وسبب ذلك أنه ربما كان بالميت عيب يكتمه ويكره أن يطلع عليه بعد موته وربما حدث منه أمر يكره الحي أن يطلع منه على مثله وربما ظهر فيه شيء هو في الظاهر منكر فيحدث به فيكون فضيحة له وربما بدت عورته فشاهدها ولهذا أحببنا أن يكون الغاسل ثقة أمينا صالحا ليستر ما يطلع عليه وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليغسل موتاكم المأمونون ] رواه ابن ماجة
وروي عنه عليه السلام أنه قال : [ من غسل ميتا ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] رواه ابن ماجة أيضا وفي المسند عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] وقال : [ ليله أقربكم منه إن كان يعلم فإن كان لا يعلم فمن ترون أن عنده حظا من ورع وأمانة ] وقال القاضي : لوليه أن يدخله كيف شاء وكلام الخرقي عام في المنع والعلة تقتضي التعميم والله أعلم
فصل : وينبغي للغاسل ولمن حضر إذا رأى من الميت شيئا مما ذكرناه مما يحب الميت ستره أن يستره ولا يحدث به لما رويناه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة ] وإن رأى حسنا مثل أمارات الخير من وضاءة الوجه والتبسم ونحو ذلك استحب إظهاره ليكثر الترحم عليه ويحصل الحث على مثل طريقته والتشبه بجميل سيرته قال ابن عقيل : وإن كان الميت مغموصا عليه في الدين والسنة مشهورا ببدعه فلا بأس بإظهار الشر عليه لتحذر طريقته وعلى هذا ينبغي أن يكتم ما يرى عليه من أمارات الخير لئلا يغتر مغتر بذلك فيقتدي به في بدعته
مسألة : قال : وتلين مفاصله إن سهلت عليه وإلا تركها
معنى تليين المفاصل هو أن يرد ذراعيه إلى عضديه وعضديه إلى جنبيه ثم يردهما ويرد ساقيه إلى فخذيه وفخذيه إلى بطنه ثم يردهما ليكون ذلك أبقى للينه فيكون ذلك أمكن للغاسل من تكفينه وتمديده وخلع ثيابه وتغسيله قال أصحابنا : ويستحب ذلك في موضعين عقيب موته قبل قسوتها ببرودته وإذا أخذ في غسله وإن شق ذلك لقسوة الميت أو غيرها تركه لأنه لا يؤمن أن تنكسر أعضاؤه ويصير به ذلك إلى المثلة
مسألة : قال : ويلف على يده خرقة فينقى ما به نجاسة ويعصر بطنه عصرا رفيقا
وجملته أنه يستحب أن يغسل الميت على سرير يترك عليه متوجها إلى القبلة منحدرا نحو رجليه لينحدر الماء بما يخرج منه ولا يرجع إلى جهة رأسه ويبدأ الغاسل فيحني الميت حنيا رفيقا لا يبلغ به قريبا من الجلوس لأن في الجلوس أذية له ثم يمر يده على بطنه يعصره عصرا رفيقا ليخرج ما معه من نجاسة لئلا يخرج بعد ذلك ويصب عليه الماء حين يمر يده صبا كثيرا ليخفي ما يخرج منه ويذهب به الماء ويستحب أن يكون بقربه مجمر فيه بخور حتى لا يظهر منه ريح وقال أحمد رحمه الله : لا يعصر بطن الميت في المرة الأولى ولكن في الثانية وقال في موضع آخر : يعصر بطنه في الثالثة يمسح مسحا رفيقا مرة واحدة وقال أيضا : عصر بطن الميت في الثانية أمكن لأن الميت لا يلين حتى يصيبه الماء ويلف الغاسل على يده خرقة خشنة بمسحة بها لئلا يمس عورته لأن النظر إلى العورة حرام فاللمس أولى ويزيل ما على بدنه من نجاسة لأن الحي يبدأ بذلك في اغتساله من الجنابة
ويستحب أن لا يمس بقية بدنه إلا بخرقة قال القاضي : يعد الغاسل خرقتين يغسل بأحدهما السبيلين والأخرى سائر بدنه فإن كان الميت امرأة حاملا لم يعصر بطنها لئلا يؤذي الولد وقد جاء في حديث رواه الخلال بإسناده عن أم سليم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا توفيت المرأة فأرادوا غسلها فليبدأ ببطنها فليمسح مسحا رفيقا إن لم تكن حبلى فإن كانت حبلى فلا يحركها ]
مسألة : قال : [ ويؤضئه وضوءه للصلاة ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه فإن كان فيهما أذى أزاله بخرقة ]
وجملة ذلك أنه إذا أنجاه وأزال عنه النجاسة بدأ بعد ذلك فوضأه وضوء الصلاة فيغسل كفيه ثم يأخذ خرقة خشنة فيبلها ويجعلها على إصبعه فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما ويكون ذلك في رفق ثم يغسل وجهه ويتمم وضوءه لأن الوضوء يبدأ به في غسل الحي وقد [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للنساء اللاتي غسلن ابنته : ( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ) ] متفق عليه
وفي حديث أم سليم : [ فإذا فرغت من غسل سفلتها غسلا نقيا بماء وسدر فوضئيها وضوء الصلاة ثم اغسليها ] ولا يدخل الماء فاه ولا منخريه في قول أكثر أهل العلم كذلك قال سعيد بن جبير و النخعي و الثوري و أبو حنيفة وقال الشافعي : يمضمضه وينشقه كما يفعل الحي
ولنا أن إدخال الماء فاه وأنفه لا يؤمن معه وصوله إلى جوفه فيفضي إلى المثلة به ولا يؤمن خروجه في أكفانه
مسألة : قال : ويصب عليه الماء فيبدأ بميامنه ويقبله على جنبيه ليعم الماء سائر جسمه
وجملة ذلك أنه إذا وضأه بدأ بغسل رأسه ثم لحيته نص عليه أحمد فيضرب السدر فيغسلهما برغوته ويغسل وجهه ويغسل اليد اليمنى من المنكب إلى الكفين وصحفة عنقه اليمنى وشق صدره وجنبيه وفخذه وساقه يغسل الظاهر من ذلك وهو مستلق ثم يصنع ذلك بالجانب الأيسر ثم يرفعه من جانبه الأيمن ولا يكبه لوجهه فيغسل الظهر وما هناك من وركه وفخذه وساقه ثم يعود فيحرفه على جنبه الأيمن ويغسل قه الأيسر كذلك هكذا ذكره إبراهيم و النخعي والقاضي وهو أقرب إلى موافقة قوله عليه السلام : [ ابدأن بميامنها ] وهو أشبه بغسل الحي
مسألة : قال : ويكون في كل المياه شيء من السدر ويضرب السدر فيغسل برغوته رأسه ولحيته
هذا المنصوص عن أحمد قال صالح : قال أبي : الميت يغسل بماء وسدر ثلاث غسلات قلت فينقي عليه فقال : أي شيء يكون هو أنقى له وذكر عن عطاء أن ابن جريج قال له : أنه يبقى عليه السدر إذا غسل به كل مرة فقال عطاء : هو طهور وفي رواية أبي داود عن أحمد قال : قلت يعني لـ أحمد : أفلا تصبون ماء قراحا ينظفه ؟ قال : إن صبوا فلا بأس واحتج أحمد بحديث أم عطية [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفيت ابنته قال : ( اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا ) ] متفق عليه وحيث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اغسلوه بماء وسدر ] متفق عليه حديث أم سليم : [ ثم اغسليها بعد ذلك ثلاث مرات بماء وسدر ] وذهب كثير من أصحابنا المتأخرين إلى أنه لا يترك مع الماء سدرا يغيره ثم اختلفوا فقال ابن حامد : يطرح في كل المياه شيء يسير من السدر لا يغيره ليجمع بين العمل بالحديث ويكون الماء باقيا على طهوريته وقال القاضي و أبو الخطاب : يغسل أول مرة بالسدر ثم يغسل بعد ذلك بالماء القراح فيكون الجميع غسلة واحدة ويكون الاعتداد بالآخر دون الأول لأن أحمد رحمه الله شبه غسله بغسل الجنابة ولأن السدر إن غير الماء سلبه وصف الطهورية وإن لم يغيره فلا فائدة في ترك يسير لا يؤثر وظاهر كلام أحمد الأول ويكون هذا من قوله دالا على أن تغيير الماء بالسدر لا يخرجه عن طهوريته قال بعض أصحابنا يتخذ الغاسل ثلاثة أواني : آنية كبيرة يجمع فيها الماء الذي يغسل به الميت يكون بالبعد منه إناءين صغيرين يطرح من أدهما على الميت والثالث يغرف به من الكبير في الصغير الذي يغسل به الميت ليكون الكبير مصونا فإذا فسد الماء الذي في الصغير وطار فيه من رشاش الماء كان ما بقي في الكبير كافيا ويضرب السدر فيغسل برغوته رأسه ولحيته ويبلغه سائر بدنه كما يفعل الحي إذا اغتسل
فصل : فإن لم يجد السدر غسله بما يقوم مقامه ويقرب منه كالخطمي ونحوه لأن المقصود يحصل منه وإن غسله بذلك مع وجود السدر جاز لأن الشرع ورد بهذا لمعنى معقول وهو التنظيف فيتعدى إلى كل ما وجد فيه المعنى
مسألة : قال : ويستعمل في كل أموره الرفق به
ويستحب الرفق بالميت في تقليبه وعرك أعضائه وعصر بطنه وتليين مفاصله وسائر أموره احتراما له فإنه مشبه بالحي في حرمته ولا يأمن إن عنف به أن ينفصل منه عضو فيكون مثلة به وقد قال عليه الصلاة و السلام : [ كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ] وقال : [ إن ا لله يحب الرفق في الأمر كله ]
مسألة : قال : والماء الحار والاشنان والخلال يستعمل إن احتيج إليه
هذه الثلاثة تستعمل عند الحاجة إليها مثل أن يحتاج إلى الماء الحار لشدة البرد أو لوسخ لا يزول إلا به وكذا الاشنان يستعمل إذا كان الميت وسخ
قال أحمد : إذا طال ضنى المريض غسل بالاشنان يعني أنه يكثر وسخه فيحتاج إلا الاشنان ليزيله والخلال يحتاج إليه لإخراج شيء والمستحب أن يكون من شجرة لينة كالصفصاف ونحوهما ينفي ولا يجرح وإن لف على رأسه قطنا فحسن ويتتبع ما تحت أظفاره حتى ينفيه فإن لم يحتج إلى شيء من ذلك لم يستحب استعماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : المسخن أولى بكل حال لأنه ينفي ما لا ينفي البارد
ولنا أن البارد يمسكه والمسخن يرخيه ولهذا يطرح الكافور في الماء ليشده ويبرده والإنقاء يحصل بالسدر إذا لم يكثر وسخه فإن كثر ولم يزل إلا بالحار صار مستحبا
مسألة : قال : ويغسل الثالثة بماء فيه كافور وسدر ولا يكون فيه سدر صحاح
الواجب في غسل الميت مرة واحدة لأنه غسل واجب عن غير نجاسة أصابته فكان مرة واحدة كغسل الجنابة والحيض ويستحب أن يغسل ثلاثا كل غسلة بالماء والسدر على ما وصفنا ويجعل في الماء كافورا في الغسلة الثالثة ليشده ويبرده ويطيبه لـ [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم للنساء اللاتي غسلن ابنته : غسلنها بالسدر وترا ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورا ] وفي حديث أم سليم : [ فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها فاجعلي ماء فيه شيء من كافور وشيء من سدر ثم اجعلي ذلك في جرة جديدة ثم أفرغيه عليها وابدئي برأسها حتى يبلغ رجليها ] ولا يجعل في الماء سدر صحيح لأنه لا فائدة فيه لأن السدر إنما أمر به للتنظيف والمعد للتنظيف إنما هو المطحون ولهذا لا يستعمله المغتسل به من الأحياء إلا كذلك قال أبو داود : قلت لـ أحمد : إنهم يأتون بسبع ورقات من سدر فيلقونها في الماء في الغسلة الأخيرة فأنكر ذلك ولم يعجبه وإذا فرغ من الغسلة الثالثة لم يمر يده على بطن الميت لئلا يخرج منه شيء ويقع في أكفانه قال أحمد : ويوضأ الميت مرة واحدة في الغسلة الأولى وما سمعنا إلا أنه يوضأ أول مرة وهذا والله أعلم ما لم يخرج منه شيء ومتى خرج منه شيء أعاد وضوءه لأن ذلك ينقض الوضوء من الحي ويوجبه وإن رأى الغاسل أن يزيد على ثلاث لكونه لم ينق بها أو غير ذلك غسله خمسا أو سبعا ولم يقطع إلا على وتر قال أحمد : ولا يزاد على سبع والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا ] لم يزد على ذلك وجعل جميع ما أمر به وترا وقال أيضا : [ اغسلنها وترا ] وإن لم ينق بسبع فالأولى غسله حتى ينقى ولا يقطع إلا على وتر لقوله عليه السلام : [ اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ] ولأن الزيادة على الثلاث إنما كان للإنقاء أو للحاجة إليها وكذلك فيما بعد السبع ولم يذكر أصحابنا أنه يزيد على سبع
مسألة : قال : فإن خرج منه شيء غسله إلى خمس فإن زاد فإلى سبع
يعني إن خرجت نجاسة من قبله أو دبره وهو على مغتسلة بعد الثلاث غسله إلى خمس فإن خرج بعد الخامسة إلى سبع ويوضيه في الغسلة التي تلي خروج النجاسة قال صالح : قال أبي : يوضأ الميت مرة واحدة إلا أن يخرج منه شيء فيعاد عليه الوضوء ويغسله إلى سبع وهو قول ابن سيرين و إسحاق واختار أبو الخطاب أنه يغسل موضع النجاسة ويوضأ ولا يجب إعادة غسله وهو قول الثوري و مالك و أبي حنيفة لأن خروج النجاسة من الحي بعد غسله لا يبطله فكذلك الميت وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أن القصد من غسل الميت أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة ألا ترى أن الموت جرى مجرى زوال العقل في حق الحي وقد أوجب الغسل في حق الميت فكذلك هذا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا إن رأيتن ذلك بماء وسدر ]
فصل : وإن خرجت منه نجاسة من غير السبيلين فقال أحمد : فيما روى أبو داود الدم أسهل من الحدث ومعناه أن الدم الذي يخرج من أنفه أسهل من الحدث في أن لا يعاد له الغسل لأن الحدث ينقض الطهارة بالاتفاق ويسوي بين كثيره وقليله ويحتمل أنه أراد أن الغسل لا يعد من يسيره كما لا ينقض الوضوء بخلاف الخارج من السبيلين
مسألة : قال : فإن زاد حشاه بالقطن فإن لم يستمسك فبالطين الحر
وجملة ذلك أنه إذا خرجت منه نجاسة بعد السبع لم يعد إلى الغسل قال أحمد : من غسل ميتا لم يغسله أكثر من سبع لا يجاوزه خرج منه شيء أو لم يخرج قيل له فنوضيه إذا خرج منه شيء بعد السبع قال : لا لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كذا أمر ثلاثا أو خمسا أو سبعا ] في حديث أم عطية ولأن زيادة الغسل وتكريره عند كل خارج يرخيه ويفضي إلى الحرج لكنه يغسل النجاسة ويحشو مخرجها بالقطن وقيل يلجم بالقطن كما تفعل المستحاضة ومن به سلس البول فيغن لم يمسكه ذلك حشي بالطين الحر وهو الخالص الصلب الذي له قوة تمسك المحل وقد ذكر أحمد أنه لا يوضأ ويحتمل أنه يوضأ وضوء الصلاة كالجنب إذا أحدث بعد غسله وهذا أحسن
فصل : والحائض والجنب إذا ماتا كغيرهما في الغسل قال ابن المنذر : هذا قول من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقال الحسن و سعيد بن المسيب : ما مات ميت إلا جنب وقيل عن الحسن أنه يغسل الجنب للجنابة والحائض للحيض ثم يغسلان للموت والأول أولى لأنهما خرجا من أحكام التكليف ولم يبق عليهما عبادة واجبة وإنما الغسل للميت تعبد وليكون في حال خروجه من الدنيا على أكمل حال من النظافة النضارة وهذا يحصل بغسل واحد ولأن الغسل الواحد يجزي من وجد في حقه موجبان له كما لو اجتمع الحيض والجنابة
فصل : والواجب في غسل الميت النية والتسمية في إحدى الروايتين وغسله مرة واحدة لأنه غسل تعبد عن غير نجاسة أصابته شرط لصحة الصلاة فوجب ذلك فيه كغسل الجنابة وقد شبه أحمد غسله بغسل الجنابة ولما تعذرت النية والتسمية من الميت اعتبرت في الغاسل لأنه المخاطب بالغسل قال عطاء : يجزيه غسلة واحدة إن أنقوه وقال أحمد : لا يعجبني أن يغسل واحدة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اغسلنها ثلاثا أو خمسا ] وهذا على سبيل الكراهة دون الأجزاء لما ذكرناه ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته : ( اغسلوه بماء وسدر ) ] ولم يذكر عددا وقال ابن عقيل : يحتمل أن لا تعتبر النية لأن القصد التنظيف فأشبه غسل النجاسة ولا يصح هذا لأنه لو كان كذلك لما وجب غسل متنظف ولجاز غسله بماء الورد وسائر ما يحصل به التنظيف وإنما غسل تعبد أشبه غسل الجنابة

مسائل وفصول : ما ورد في الكفن وصفة التكفين وتطييب الميت
مسألة : قال : وينشفه بثوب ويجمر أكفانه
وجملته أنه إذا فرغ الغاسل من غسل الميت نشفه بثوب لئلا يبل أكفانه وفي حديث أم سليم فإذا فرغت منها فألق عليها ثوبا نظيفا وذكر القاضي في حديث ابن عباس في غسل النبي صلى الله عليه و سلم قال : فجففوه بثوب ومعنى تجمير أكفانه تبخيرها بالعود وهو أن يترك العود على النار في مجمر ثم يبخر به الكفن حتى تعيق رائحته ويطيب ويكون ذلك بعد أ يرش عليه ماء الورد لتعلق الرائحة به وقد روي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثا ] وأوصى أبو سعيد وابن عمر وابن عباس أن تجمر أكفانهم بالعود وقال أبو هريرة : يجمر الميت ولأن هذا عادة الحي عند غسله وتجديد ثيابه أن يجمر بالطيب والعود فكذلك الميت
مسألة : قال : ويكفن في ثلاثة أثواب بيض يدرج فيها إدراجا ويجعل الحنوط فيما بينها
الأفضل عند إمامنا رحمه الله أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ولا يزيد عليها ولا ينقص منها قال الترمذي : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم وهو مذهب الشافعي ويستحب كون الكفن أبيض لأن النبي صلى الله عليه و سلم كفن في ثالث أثواب بيض ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ البسوا من ثيابكم البيض فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيه موتاكم ] رواه النسائي وحكي عن أبي حنيفة أن المستحب أ يكفن في إزار ورداء وقميص لما روى ابن المغفل أن النبي صلى الله عليه و سلم كفن في قميصه ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه وكفنه به ] رواه النسائي
ولنا قول عائشة رضي الله عنها : [ كفن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثالثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ] متفق عليه وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعائشة أقرب إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأعرف بأحواله ولهذا لما ذكر لها قول الناس إن النبي صلى الله عليه و سلم كفن في برد قالت : قد أتي بالبرد ولكنهم لم يكفنوه فيه فحفظت ما أغفله غيرها وقالت أيضا : [ أدرج النبي صلى الله عليه و سلم في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلة وقال : أكفن فيها ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكفن فيها فتصدق بها ] رواه مسلم لأن حال الإحرام أكمل أ وال الحي هو لا يلبس المخيط وكذلك حالة الموت أشبه بها
وأما إلباس النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن أبي قميصه فإنما فعل ذلك تكرمه لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وإجابة لسؤاله حين سأله ذلك ليتبرك به أبنه ويندفع عنه العذاب ببركة قميص رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيل إنما فعل ذلك جزاء لعبد الله بن أبي عن كسوته العباس قميصه يوم بدر والله أعلم
فصل : والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها فيبسط أولا ليكون الظاهر للناس حسنها فإن هذا عادة الحي يجعل الظاهر أفخر ثيابه ويجعل عليها حنوطا ثم يبسط الثانية التي تليها في الحسن والسعة عليها ويجعل فوقها حنوطا وكافورا ثم يبسط فوقهما الثالثة ويجعل فوقها حنوطا وكافورا ولا يجعل على وجه العليا ولا على النعش شيء من الحنوط لأن الصديق رضي الله عنه قال : لا تجعلوا على أكفاني حنوطا ثم يحمل الميت مستورا بثوب فيوضع عليها متسلقيا لأنه أمكن لإدراجه فيها ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه ويجعل من الطيب على وجهه ومواضع سجوده ومغابنه لأن الحي يتطيب هكذا ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن ويجعل منه بين إليتيه برفق ويكثر ذلك ليرد شيئا إن خرج منه حين تحريكه ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف كالتبان وهو السراويل بلا أكمام ويجعل الباقي على منافذ وجهه في فيه ومنخريه وعينيه لئلا يحدث منهن حادث وكذلك الجراح النافذة ويترك على مواضع السجود منه لأنها أعضاء شريفة ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر وإنما استحب ذلك لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن إذا وضع على يمينه في القبر ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك ثم يجمع ما فضل عند رأسه ورجليه فيرد على وجهه ورجليه وإن خاف انتشارها عقدها وإذا وضع في القبر حلها ولم يخرق الكفن
فصل : وتكره الزيادة على ثلاثة أثواب في الكفن لما فيه من إضاعة المال وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم ويحرم ترك شيء مع الميت من ماله لغير حاجة لما ذكرنا إلا مثل ما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه ترك تحته قطيفة في قبره ] فإن ترك نحو ذلك فلا بأس
مسألة : قال : وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جعل المئزر مما يلي جلده ولم يزر عليه القميص
التكفين في القميص والمئزر واللفافة غير مكروه وإنما الأفضل الأول وهذا جائز لا كراهة فيه فـ [ إن النبي صلى الله عليه و سلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات ] رواه البخاري فيؤزر بالمئزر ويلبس القميص ثم يلف باللفافة بعد ذلك وقال أحمد : إن جعلوه قميصا فأحب إلي أن يكون مثل قميص الحي له كمان ودخاريص وإزرار ولا يزر عليه القميص
فصل : قال أبو داود : قلت لـ أحمد : يتخذ الرجل كفنه يصلي فيه أياما أو قلت : يحرم فيه ثم يغسله ويضعه لكفنه فرآه حسنا قال : يعجبني أن يكون جديدا أو غسيلا وكره أن يلبسه حتى لا يدنسه
فصل : ويجوز التكفين في ثوبين لـ [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في المحرم الذي وقصته دابته : ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ) ] رواه البخاري وكان سويد بن غفلة يقول : يكفن في ثوبين وقال الأوزاعي : يجزي ثوبان وأقل ما يجزي ثوب واحد يستر جميعه [ قالت أم عطية : لما فرغنا يعني من غسل بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ألقى إلينا حقوه فقال : أشعرنها إياه ولم يزد على ذلك ] رواه البخاري وقال : معنى أشعرنها إياه الففنها فيه قال ابن عقيل : العورة المغلظة يسترها ثوب واحد فجسد الميت أولى وقال القاضي : لا يجزي أقل من ثلاثة أثواب لمن يقدر عليها وروى مثل ذلك عن عائشة واحتج بأنه لو جاز أقل منها لم يجز التكفين بها في حق من له أيتام احتياطا لهم والصحيح الأول وما ذكره القاضي لا يصح فإنه يجوز التكفين بالحسن مع حصول الأجزاء بما دونه
فصل : قال أحمد : يكفن الصبي في خرقة وإن كفن في ثلاثة فلا بأس وكذلك قال إسحاق ونحوه قال سعيد بن المسيب و الثوري وأصحاب الرأي وغيرهم لا خلاف بينهم في أن ثوبا يجزئه وإن كفن في ثلاثة فلا بأس لأنه ذكره فأشبه الرجل
فصل : فإن لم يجد الرجل ثوبا يستر جميعه ستر رأسه وجعل على رجليه حشيشا أو ورقا كما روي [ عن خباب أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه فأمرنا النبي صلى الله عليه و سلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الأذخر ] رواه البخاري فإن لم يجد إلا ما يستر العورة سترها لأنها أهم في الستر بدليل حالة الحياة فإن كثر القتلى وقلت الأكفان كفن الرجلان والثلاثة في الثوب الواحد كما صنع بقتلى أحد قال أنس كثرت قتلى أحد وقلة الثياب قال : فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ثم يدفنون في قبر واحد قال الترمذي : حديث أنس حديث حسن غريب
مسألة : قال : وتجعل الذريرة في مفاصله ويجعل الطيب في مواضع السجود والمغابن ويفعل به كما يفعل بالعروس
الذريرة هي الطيب المسحوق ويستحب أن يجعل في مفاصل الميت ومغابنه وهي المواضع التي تنثني من الإنسان كطي الركبتين وتحت الإبطين وأصول الفخذين لأنها مواضع الوسخ ويتبع بإزالة الوسخ والدرن منها من الحي ويتبع بالطيب من المسك والكافور مواضع السجود لأنها أعضاء شريفة ويفعل به كما يفعل بالعروس لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم ] وكان ابن عمر يتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك قال أحمد : يخلط الكافور بالذريرة وقيل له : يذر المسك على الميت أو يطلي به قال : لا يبالي قد روي عن ابن عمر أنه ذر عليه
وروي عنه أنه مسجد بالمسك مسحا و ابن سيرين طلا إنسانا بالمسك من قرنه إلى قدمه وقال إبراهيم النخعي : يوضع الحنوط على أعظم السجود الجبهة والراحتين والركبتين وصدور القدمين
مسألة : قال : ولا يجعل في عينيه كافورا
إنما كره هذا لأنه يفسد العضو ويتلفه ولا يصنع مثله بالحي قال أحمد : ما سمعنا إلا في المساجد وحكي له عن ابن عمر أنه كان يفعل فأنكر أن يكون ابن عمر فعله وكره ذلك
مسألة : قال : وإن خرج منه شيء يسير بعد وضعه في أكفانه لم يعد إلى الغسل وحمل
لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا والوجه في ذلك أن إعادة الغسل فيها مشقة شديدة لأنه يحتاج إلى إخراجه وإعادة غسله وغسل أكفانه وتجفيفها أو إبدالها ثم لا يؤمن مثل هذا في المرة الثانية والثالثة فسقط لذلك ولا يحتاج أيضا إلى إعادة وضوءه ولا غسل موضع النجاسة دفعا لهذه المشقة ويحمل بحاله ويروى عن الشعبي أن ابنة له لما لفت في أكفانها بدا منها شيء فقال الشعبي : ارفعوا فأما إن كان الخارج كثيرا فاحشا فمفهوم كلام الخرقي هاهنا أنه يعاد غسله إن كان قبل تمام السبعة لأن الكثير يتفاحش ويؤمر مثله في المرة الثانية لتحفظهم بالشد والتلجم ونحوه
ورواه إسحاق بن منصور عن أحمد قال الخلال وخالفه أصحاب أبي عبد الله كلهم رووا عنه : لا يعاد إلى الغسل بحال قال : والعمل على ما اتفق عليه لما ذكرنا من المشقة فيه ويحتمل أن تحمل الروايتان على حالتين فالموضع الذي قال : لا يعاد غسله إذا كان يسيرا ويخفي على المشيعين والموضع الذي أمر بإعادته إذا كان يظهر لهم ويفحش

مسألة : السماح لأهل الميت برؤيته
مسألة : قال : وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا
وذلك لما روي [ عن جابر قال : لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي والنبي صلى الله عليه و سلم لا ينهاني ] وقالت عائشة : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل ] وقالت : [ أقبل أبو بكر فتيمم النبي صلى الله عليه و سلم وهو مسجى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى فقال : ( بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين ) ] وهذه أحاديث صحاح

مسائل وفصول : تكفين المرأة وكيفيته
مسألة : قال : والمرأة تكفن في خمسة أثواب قميص ومئزر ولفافة ومقنعة وخامسة تشد بها فخذاها
قال ابن المنذر : أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب وإنما استحب ذلك لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته فكذلك بعد الموت ولما كانت تلبس المخيط في إحرامها وهو أكمل أحوال الحياة استحب إلباسها إياه بعد موتها والرجل بخلاف ذلك فافترقا في اللبس بعد الموت لافتراقهما فيه في الحياة واستويا في الغسل بعد الموت لاستوائهما فيه في الحياة وقد روى أبو داود بإسناده [ عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت : كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه و سلم الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر قالت : ورسول الله صلى الله عليه و سلم عند الباب معه كفنها يناولناها ثوبا ثوبا ] إلا أن الخرقي إنما ذكر لفافة واحدة فعلى هذا تشد الخرقة على فخذيها أولا ثم تؤزر بالمئزر ثم يلبس القميص ثم تخمر بالمقنعة ثم تلبف بلفافة واحدة وقد أشار إليه أحمد فقال : تخمر ويترك قدر ذراع يسدل على وجهها ويسدل على فخذيها الحقو وسئل عن الحقو فقال : هو الإزار قيل : الخامسة قال : خرقة تشد على فخذيها قيل له : قميص المرأة قال : يخيط قيل : يكف ويزر قال : يكف ولا يزر عليها والذي عليه أكثر أصحابنا وغيرهم أن الأثواب الخمسة إزار ودرع وخمار ولفافتان وهو الصحيح لحديث ليلى الذي ذكرناه ولما [ روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه و سلم ناولها إزارا ودرعا وخمارا وثوبين ]
فصل : قال المروذي : سألت أبا عبد الله في كم تكفن الجارية إذا لم تبلغ ؟ قال : في لفافتين وقميص لا خمار فيه وكفن ابن سيرين بنتا له قد أعصرت في قميص ولفافتين وروى في بقير ولفافتين قال أحمد : البقير القميص الذي ليس له كمان ولأن غير البالغ لا يلزمها ستر رأسها في الصلاة واختلفت الرواية عن أحمد في الحد الذي تصير به في حكم المرأة في الكفن فروي عنه إذا بلغت وهو ظاهر كلامه في رواية المروذي لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ] مفهومه أن غيرها لا تحتاج إلى خمار في صلاتها فكذلك في كفنها ولأن ابن سيرين كفن ابنته وقد أعصرت أي قاربت المحيض بغير خمار وروى عن أحمد أكثر أصحابه إذا كانت بنت تسع يصنع بها ما يصنع بالمرأة واحتج بحديث عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل بها وهي بنت تسع سنين ] وروي عنها أنها قالت : إذا بلغت الجارية تسعا فهي امرأة
فصل : قال أحمد : لا يعجبني أن تكفن في شيء من الحرير وكره ذلك الحسن و ابن المبارك و إسحاق قال ابن المنذر : ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وفي جواز تكفين المرأة بالحرير حتما لأن أقيسهما الجواز لأنه من لباسها في حياتها لكنن كرهناه لها لأنها خرجت عن كونها محلا للزينة والشهوة وكذلك يكره تكفينها بالمعصفر ونحوه لذلك قال الأوزاعي : لا يكفن الميت في الثياب المصبغة إلا ما كان م العصب يعني ما صنع بالعصب وهو نبت ينبت باليمن
مسألة : قال : ويضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل من خلفها
وجملة ذلك أن شعر الميتة يغسل وإن كان معقوصا نقض ثم غسل ثم ضفر ثلاثة قرون قرنيها وناصبتها ويلقى من خلفها وبهذا قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يضفر ولكن يرسل مع خديها من بين يديها من الجانبين ثم يرسل عليه الخمار لأن ضفره يحتاج إلى تسريحها فينقطع شعرها وينتف
ولنا ما روت [ أم عطية قالت : ضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه خلفها يعني بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه ولـ مسلم [ فضفرنا شعرها ثلاثة قرون قرنيها وناصبتها ] ولـ البخاري [ جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة قرون نقضنه ثم غسلنه ثم جعلنه ثلاثة قرون وإنما غسلنه بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وتعليمه ]
وفي حديث أم سليم عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ وأضفرن شعرها ثلاثة قرون قصة وقرنين ولا تشبهنها بالرجال ] فأما التسريح فكرهه أحمد وقال : قالت عائشة : علام تنصون ميتكم ؟ قال : يعني لا تسرحوا رأسه بالمشط ولأن ذلك يقطع شعره وينتفه وقد روي عن أم عطية قالت : [ مشطناها ثلاثة قرون ] متفق عليه قال أحمد : إنما ضفرن وأنكر المشط فكأنه تأول قولها مشطناها على أنها أرادت ضفرناها لما ذكرناه والله أعلم

مسألة وفصلين : الإسراع في الجنازة
مسألة : قال : والمشي بالجنازة الإسراع
لا خلاف بين الأئمة رحمه الله في استحباب الإسراع بالجنازة وبه ورد النص وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ] متفق عليه وعن أبي هريرة قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تبع الجنازة قال : انبسطوا بها ولا تدبوا دبيب اليهود بجنائزهم ] رواه أحمد في المسند واختلفوا في الإسراع المستحب فقال القاضي : المستحب إسراع لا يخرج عن المشي المعتاد وهو قول الشافعي وقال أصحاب الرأي : يخب ويرمل لما روى أبو داود عن [ عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : كنا في جنازة عثمان بن أبي العاص فكنا نمشي مشيا خفيفا فلحقنا أبو بكر فرفع سوطه فقال : لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه و سلم نرمل رملا ]
ولنا ما [ روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضا فقال عليه السلام : ( عليكم بالقصد في جنائزكم ) ] من المسند وعن [ ابن مسعود قال : سألنا نبينا صلى الله عليه و سلم عن المشي بالجنائز فقال : ( ما دون الخبب ) ] رواه أو داود و الترمذي وقال : يرويه أبو ماجد وهو مجهول وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ انبسطوا بها ولا تدبوا دبيب اليهود ] يدل على أن المراد إسراع يخرج به عن شبه مشي اليهود بجنائزهم لأن الإسراف في الإسراع يمخضها ويؤذي حامليها ومتبعيها ولا يؤمن على الميت وقد قال ابن عباس في جنازة ميمونة : لا تزلزلوا وارفقوا فإنها أمكم

مسألة وفصول : اتباع الجنائز وآدابه وصفة المشي
فصل : واتباع الجنائز سنة [ قال البراء : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع الجنائز ] وهو على ثلاثة أضرب أحدها أن يصلي عليها ثم ينصرف قال زيد بن ثابت : إذا صليت فقد قضيت الذي عليك وقال أبو داود رأيت أحمد ما لا أحصي صلى على جنائز ولم يتبعها إلى القبر ولم يستأذن الثاني أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من شهد الجنازة حتى يصل فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن كان له قيراطان وقيل : وما القيراطان ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين ] متفق عليه الثالث أن يقف بعد الدفن فيستغفر له ويسأل الله له التثبيت ويدعو له بالرحمة فإنه روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا دفن ميتا وقف وقال : ( استغفروا له واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسئل ) ] رواه أبو داود وقد روي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها
فصل : يستحب لمتبع الجنازة أن يكون متخشعا متفكرا في مآله متعظا بالموت وبما يصير إليه الميت ولا يتحدث بأحاديث الدنيا ولا يضحك قال سعد بن معاذ : ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها ورأى بعض السلف رجلا يضحك في جنازة فقال : أتضحك وأنت تتبع الجنازة ؟ لا كلمتك أبدا
مسألة : قال : والمشي أمامها أفضل
أكثر أهل العلم يرون الفضيلة الماشي أن يكون أمام الجنازة روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير و أبي قتادة و أبي سعيد و و عبيد بن عمير و شريح و القاسم بن محمد و سالم و الزهري و مالك و الشافعي وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي : المشي خلفها أفضل لما روى ابن مسعود عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال : [ الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منها من تقدمها ] و [ قال علي رضي الله عنه : فضل الماشي خلف الجنازة على الماشي قدامها كفضل المكتوبة على التطوع سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ولأنها متبوعة فيجب أن تقدم كالإمام في الصلاة ولهذا قال في الحديث الصحيح : [ من تبع جنازة ] ولنا ما [ روى ابن عمر قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة ] رواه أبو داود و الترمذي وعن أنس نحوه رواه ابن ماجة قال ابن المنذر : ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ] وقال أبو صالح : كان أصحاب رسول الله صلى الله لعيه وسلم يمشون أمام الجنازة ولأنهم شفعاء له بدليل قوله عليه السلام : [ ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة لهم يشفعون له إلا شفعوا فيه ] رواه مسلم والشفيع يتقدم المشفوع له وحديث ابن مسعود يرويه أبو ماجد وهو مجهول قيل لـ يحيى : من أبو ماجد هذا ؟ قال : طائر طار قال الترمذي : سمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث والحديث الآخر لم يذكره أصحاب السنن وقالوا وهو ضعيف ثم نحمله على من تقدمها إلى موضع الصلاة أو الدفن ولم يكن معها وقياسهم يبطل بسنة الصبح والظهر فإنها تابعة لهما وتتقدمهما في الوجود
فصل : ويكره الركوب في اتباع الجنائز [ قال ثوبان : خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في جنازة فرأى ناسا ركبانا فقال : ( ألا تستحون ؟ إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم على ظهور الدواب ) ] رواه الترمذي فإن ركب في جنازة فالسنة أن يكون خلفها قال الخطابي في الراكب : لا أعلمهم اختلفوا في أنه يكون خلفها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها ] رواه أبو داود وروى الترمذي نحوه ولفظه : [ الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها والطفل يصلي عليه ] وقال : هذا حديث صحيح ولأن سير الراكب أمامها يؤذي المشاة لأنه موضع مشيهم على ما قدمناه فأما الركوب في الرجوع منها فلا بأس به قال جابر بن سمرة : [ إن النبي صلى الله عليه و سلم أتبع جنازة ابن الدحداح ماشيا ورجع على فرس ] رواه مسلم قال الترمذي : هذا حديث حسن
فصل : ويكره رفع الصوت عند الجنازة لنهي النبي صلى الله عليه و سلم أن تتبع الجنازة بصوت قال ابن المنذر : روينا عن قيس بن عباد أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث : عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال وذكر الحسن عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم كانوا يستحبون خفض الصوت عند ثلاث فذكر نحوه وكره سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و الحسن و النخعي وإمامنا و إسحاق قول القائل خلف الجنازة : استغفروا له وقال الأوزاعي : بدعة وقال عطاء : محدثة وقال سعيد بن المسيب : في مرضه إياي وحاديهم هذا الذي يحدو لهم يقول : استغفروا له غفر الله لكم وقال فضيل بن عمرو : بينا ابن عمر في جنازة إذ سمع قائلا يقول : استغفروا له غفر الله لكم فقال ابن عمر : لا غفر الله لك رواهما سعيد قال أحمد : ولا يقول خلف الجنازة سلم رحمك الله فإنه بدعة ولكن يقول بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم ويذكر الله إذا تناول السرير
فصل : ومس الجنازة بالأيدي والأكمام والمناديل محدث مكروه ولا يؤمن معه فساد الميت وقد منع العلماء مس القبر فمس الجيد مع خوف الأذى أولى بالمنع
فصل : ويكره اتباع الميت بنار قال ابن المنذر : يكره ذلك كل من يحفظ عنه روي عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن مغفل ومعقل بن يسار وأبي سعيد وعائشة و سعيد بن المسيب أنهم وصوا أن لا يتبعوا بنار وروى ابن ماجة أن أبا موسى حين حضره الموت قال : لا تتبعوني بمجمر قالوا له : أو سمعت فيه شيئا ؟ قال : نعم من رسول الله صلى الله عليه و سلم وروى أبو داود بإسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ] فإن دفن ليلا فاحتاجوا إلى ضوء فلا باس به إنما كره المجامر فيها البخور وفي حديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج ] قال الترمذي : هذا حديث حسن
فصل : ويكره اتباع النساء الجنائز لما روي عن أم عطية قالت : نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا متفق عليه وكره ذلك ابن مسعود وابن عمر وأبو أمامة وعائشة و مسروق و الحسن و المنخعي و الأوزاعي و إسحاق وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج فإذا نسوة جلوس قال : ( ما يجلسكن ) ؟ قلن : ننتظر الجنازة قال : ( هل تغسلن ) قلن : لا قال : ( هل تحملن ) قلن : لا قال : ( هل تدلين فيمن يدلي ) قلن : لا قال : ( فارجعن مأزورات غير مأجورات ) ] رواه ابن ماجة
وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لقي فاطمة فقال : ( ما أخرجك يا فاطمة من بيتك ؟ ) قالت : يا رسول الله : أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( فلعلك بلغت معهم الكدى ) قالت : معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال : ( لو بلغت معهم الكدى ) فذكر تشديدا ] رواه أبو داود
فصل : فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه فإن قدر على إنكاره وإزالته أزاله وإن لم يقدر على إزالته ففيه وجهان : أحدهما ينكره ويتبعها فيسقط فرضه بالإنكار ولا يترك حقا للباطل والثاني يرجع لأنه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك وأصل هذا في الغسل فإن فيه روايتين فيخرج في اتباعها وجهان
مسألة : قال : والتربيع أن يوضع على الكتف اليمنى إلى الرجل ثم الكتف اليسرى إلى الرجل
التربيع هو الأخذ بجوانب السرير الأربع وهو سنة في حمل الجنازة لقول ابن مسعود : إذ أتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع ثم ليتطوع بعد أو ليذر فإنه من السنة رواه سعيد في سننه وهذا يقتضي سنة النبي صلى الله عليه و سلم وصفة التربيع المسنون أن يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت ثم يضع القائمة اليسرى من عند ا لرجل على الكتف اليمنى ثم يعود أيضا إلى القائمة اليمنى من عند رأس الميت فيضعها على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى اليمنى من عند رجليه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وعن أحمد رحمه الله أنه يدور عليها فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة يامنة المؤخرة ثم المقدمة وهو مذهب إسحاق وروي عن ابن مسعود وابن عمر و سعيد بن جبير و أيوب ولأنه أخف ووجه الأول أنه أحد الجانبين فينبغي أن يبدأ فيه بمقدمه كالأول فأما الحمل بين العمودين فقال ابن المنذر : روينا عن عثمان وسعيد بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير وقال به الشافعي و أحمد و أبو ثور و ابن المنذر وكرهه النخعي و الحسن و أبو حنيفة و إسحاق والصحيح الأول لأن الصحابة رحمة الله عليهم قد فعلوه وقفيهم أسوة حسنة وقال مالك : ليس في حمل الميت توقيت يحمل من حيث شاء ونحوه قال الأوزاعي واتباع الصحابة رضي الله عنهم فيما فعلوه وقالوه أحسن وأولى
فصل : إذا مرت به جنازة لم يستحب له القيام لها لقول علي رضي الله عنه : [ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قعد ] رواه مسلم وقال إسحاق معنى قول علي يقول : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رأى جنازة قام ثم ترك ذلك بعد ] قال أحمد : إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس وذكر ابن أبي موسى والقاضي أن القيام مستحب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه ] رواه مسلم وقد ذكرنا أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك القيام لها والأخذ بالآخرة من أمره أولى وقد روي في حديث أن يهوديا رأى النبي صلى الله عليه و سلم قام للجنازة فقال يا محمد : هكذا نصنع فترك النبي صلى الله عليه و سلم القيام لها
فصل : ومن يتبع الجنازة استحب له أن لا يجلس حتى توضع وممن رأى أن لا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال الحسن بن علي وابن عمر وأبو هريرة وابن الزبير و النخعي و الشعبي و الأوزاعي و إسحاق ووجه ذلك ما روى مسلم بإسناده عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع ] ورأى الشافعي أن هذا منسوخ بحديث علي ن ولا يصح لأن قول علي يحتمل ما ذكره إسحاق والسبب الذي ذكرناه فيه وليس في اللفظ عموم فيعم الأمرين جميعا فلم يجز النسخ بأمر محتمل ولأن قول علي [ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قعد ] يدل على ابتداء فعل القيام وهاهنا إنما وجدت منه الاستدامة إذا ثبت هذا فأظهر الروايتين عن أحمد أنه أريد بالوضع وضعها عن أعناق الرجال وهو قول من ذكرنا من قبل
وقد روى الثوري الحديث : [ إذا أتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع بالأرض ] ورواه أبو معاوية : [ حتى توضع في اللحد ] وحديث سفيان أصح فأما من تقدم الجنازة فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه قال الترمذي : روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنهم كانوا يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم فإذا جاءت الجنازة لم يقوموا لها لما تقدم

مسائل وفصول : أحق الناس بالصلاة على الميت وكراهية رفع الصوت - مكروهات الجنازة
مسألة : قال : وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى له أن يصلي عليه
هذا مذهب أنس و زيد بن أرقم و أبي برزة و سعيد بن زيد و أم سلمة و ابن سيرين وقال الثوري و أبو حنيفة و مالك و الشافعي : الولي أحق لأنها ولاية تترتب بترتب العصبات فالولي فيها أولى كولاية النكاح
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي أن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر قاله أحمد قال : وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب و أم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد و أبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة وقال : غيره عائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير و يونس بن جبير أوصى أن يصلي عليه أنس بن مالك و أبو سريحة أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم فيصلي عليه فقال ابنه : أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيدا فهذه قضايا انتشرت فلم يظهر مخالف فكان إجماعا ولأنه حق للميت فإنها شفاعة له فتقدم وصيته فيما كتفريق ثلثه وولاية النكاح يقدم فيها الوصي أيضا فهي كمسألتنا وإن سلمت فليت حقا له إنما هي حق للمولى عليه ثم الفرق بينهما أن ا لأمير يقم في الصلاة بخلاف ولاية النكاح ولأن الغرض في الصلاة والدعاء والشفاعة إلى الله عز و جل فالميت يختار لذلك من هو أظهر صلاحا وأقرب إجابة في الظاهر بخلاف ولاية النكاح
فصل : فإن كان الوصي فاسقا أو مبتدعا لم تقبل الوصية لأن الموصي جهل الشرع فرددنا وصيته كما لو كان الوصي ذميا فإن كان الأقرب إليه كذلك لم يقدم وصلى غيره كما يمنع من التقديم في الصلوات الخمس
مسألة : قال : ثم الأمير
أكثر أهل ا لعلم يرون تقديم الأمير على الأقارب في الصلاة على الميت : وقال الشافعي في أحد قوليه : يقدم الولي قياسا على تقديمه في النكاح بجامع اعتبار ترتيب العصبات وهو خلاف قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤم الرجل في سلطانه ] وحكى أبو حازم قال : شهدت حسينا حين مات الحين وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص ويقول : تقدم لولا السنة ما قدمتك وسعيد أمير المدينة وهذا يقتضي سنة النبي صلى الله عليه و سلم وروى الإمام أحمد بإسناده عن عمار مولى بني هاشم قال : شهدت جنازة أم كلثوم بنت علي وزيد بن عمر فصلى عليها سعيد بن العاص وكان أمير المدينة وخلفه يومئذ ثمانون من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فيهم ابن عمر والحسن والحسين وسمى في موضع آخر زيد بن ثابت وأبا هريرة وقال علي رضي الله عنه : الإمام أحق من صلى على الجنازة وعن ابن مسعود نحو ذلك وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعا ولأنها صلاة سرعت فيها الجماعة فكان الإمام أحق بالإمامة فيما كسائر الصلوات وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي على الجنائز مع حضور أقاربها والخلفاء بعده ولم ينقل إلينا أنهم استأذنوا أولياء الميت في التقدم عليها
فصل : والأمير هاهنا الإمام فإن لم يكن فالأمير من قبله فإن لم يكن فالنائب من قبله في الإمامة فإن الحسين قدم سعيد بن العاص وإنما كان أميرا من قبل معاوية فإن لم يكن فالحاكم
مسألة : قال : ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل ثم أقرب العصبة
الصحيح في المذهب ما ذكره الخرقي في أن أولى الناس بعد الأمير الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الابن ثم ابنه وإن نزل ثم الأخ الذي هو عصبة ثم ابنه ثم الأقرب فالأقرب من العصبات وقال أبو بكر : إذا اجتمع جد وأخ ففيه قولان وحكي عن مالك أن الابن أحق من الأب لأنه أقوى تعصيبا منه بدليل الإرث والأخ أولى من الجد لأنه يدلي بالنبوة والجد يدلي بالأبوة
ولنا أنهما استويا في الإدلاء لأن كل واحد منهما يدلي بنفسه والأب أرأف وأشفق ودعاؤه لابنه أقرب إلى الإجابة فكان أولى كالقريب مع البعيد إذا كان المقصود الدعاء للميت والشافعة له بخلاف الميراث
فصل : وإن اجتمع زوج المرأة وعصباتها فظاهر كلام الخرقي تقديم العصبات وهو أكثر الروايات عن أحمد وقول سعيد بن المسيب و الزهري و بكير بن الأشج ومذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي إلا أن أبا حنيفة يقدم زوج المرأة على ابنها منه وروي عن أجمد : تقديم الزوج على العصبات لأن أبا بكرة صلى على امرأته ولم يستأذن إخوتها وروي ذلك عن ابن عباس و الشعبي و عطاء و عمر بن عبد العزيز و إسحاق ولأنه أحق بالغسل فكان أحق بالصلاة كمحل الوفاق
ولنا أنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل امرأته : أنتم أحق بها ولأن الزوج قد زالت زوجتيه بالموت فصار أجنبيا والقرابة لم تزل فعلى هذه الرواية إن لم يكن لها عصبات فالزوج أولى لأن له سببا وشفقة فكان أولى من الأجنبي
فصل : فإن اجتمع أخ من الأبوين وأخ من أب ففي تقديم الأخ من الأبوين أو التسوية وجهان أخذا من الروايتين في ولاية النكاح والحكم في أولادهما وفي الأعمام وأولادهم كالحكم فيهما سواء فإن انقرض العصبة من النسب فالمولى المنعم ثم أقرب عصباته ثم الرجل من ذوي أرحامه الأقرب فالأقرب ثم الأجانب
فصل : فإن استوى وليان في درجة واحدة فأولاهما أحقهما بالإمامة في المكتوبات لعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ] قال القاضي : ويحتمل أن يقدم له الأسن لأنه اقرب إلى إجابة الدعاء وأعظم عند الله قدرا وهذا ظاهر مذهب الشافعي والأول أولى وفضيلة السن معارضة بفضيلة العلم وقد رجحها الشارع في سائر الصلوات مع أنه يقصد فيها إجابة الدعاء والحظ للمأمومين وقد روي عنه عليه السلام أنه قال : [ أئمتكم شفعاؤكم ] ولا نسلم أن الأسن الجاهل أعظم قدرا من العالم ولا أقرب إجابة فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم كما في سائر الصلوات
فصل : ومن قدمه الولي فهو بمنزلته لأنها ولاية تثبت له فكانت له الاستنابة فيها ويقدم نائبه فيها على غيره كولاية النكاح
فصل : والحر البعيد أولى من العبد القريب لأن العبد لا ولاية له ولهذا لا يلي في النكاح ولا المال فإن اجتمع صبي ومملوك ونساء فالمملوك أولى لأنه تصح إمامته بهما فإن لم يكن إلا نساء وصبيان فقياس المذهب أنه لا يصح أن يؤم أحد الجنسين الآخر ويصلي كل نوع لأنفسهم وإمامهم منهم ويصلي النساء جماعة إمامتهن في وسطهن نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يصلين منفردات لا يسبق بعضهن بعضا وإن صلين جماعة جاز
ولنا أنهن من أهل الجماعة فيصلين جماعة كالرجال وما ذكروه من كونهن منفردات لا يسبق بعضهن بعضا تحكم لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع وقد صلى أزواج النبي صلى الله عليه و سلم على سعد بن أبي وقاص رواه مسلم
فصل : فإن اجتمع جنائز فتشاح أولياؤهم فيمن يتقدم للصلاة عليهم قدم أولاهم بالإمامة في الفرائض وقال القاضي : يقدم السابق يعني من سبق ميته
ولنا أنهم تساووا فأشبهوا الأولياء إذا تساووا في الدرجة مع قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ] وإن أراد ولي كل ميت أفراد ميته بصلاة جاز

مسائل وفصول : صفة صلاة الجنازة
مسألة : قال : والصلاة عليه : يكبر ويقرأ الحمد
وجملة ذلك أن سنة التكبير على الجنازة أربع لا تسن الزيادة عليها ولا يجوز النقص منها فيكبر الأولى ثم يستعيذ ويقرأ الحمد يبدؤها بـ { بسم الله الرحمن الرحيم } ولا يسن الاستفتاح قال أبو داود : سمعت أحمد يسأل عن الرجل يستفتح الصلاة على الجنازة بسبحانك اللهم وبحمدك قال : ما سمعت قال ابن المنذر : كان الثوري يستحب أن يستفتح في صلاة الجنازة ولم نجده في كتب سائر أهل العلم وقد روي عن أحمد مثل قول الثوري لأن الاستعاذة فيها مشروعة فسن فيها الاستفتاح كسائر الصلوات
ولنا أن صلاة الجنازة شرع فيها التخفيف ولهذا لا يقرأ فيها بعد الفاتحة بشيء وليس فها ركوع ولا سجود والتعوذ سنة للقراءة مطلقا في الصلاة وغيرها لقول الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } إذا ثبت هذا فإن قراءة الفاتحة واجبة في صلاة الجنازة وبهذا قال الشافعي و إسحاق وروي ذلك عن ابن عباس وقال الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة : لا يقرأ فيها بشيء من القرآن لأن ابن مسعود قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوقت فيها قولا ولا قراءة ولأن ما لا ركوع فيه لا قراءة فيه كسجود التلاوة
ولنا أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب : فقال أنه من السنة أو من تمام السنة قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى ابن ماجة بإسناده عن أم شريك قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب وروى الشافعي في مسنده بإسناده عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كبر على الجنازة أربعا وقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى ] ثم هو داخل في عموم قوله عليه السلام : [ لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن ] ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصلوات وإن صح ما رووه عن ابن مسعود فإنما قال : لم يوقت أي لم يقدر ولا يدل هذا على نفي أصل القراءة وقد روى ابن المنذر عنه أنه قرأ على جنازة بفاتحة الكتاب ثم لا يعارض ما رويناه لأنه نفي يقدم عليه الإثبات ويفارق سجود التلاوة فإنه لا قيام فيه والقراءة إنما محلها القيام
فصل : ويسر القراءة والدعاء في صلاة الجنازة لا نعمل بين أهل العلم فيه خلافا ولا يقرأ بعد أم القرآن شيئا وقد روي عن ابن عباس أنه جهر بفاتحة الكتاب قال أحمد : إنما جهر ليعلمهم
مسألة : قال : ويكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه و سلم كما يصلي عليه في التشهد
هكذا وصف أحمد الصلاة على الميت كما ذكر الخرقي وهو مذهب الشافعي وروي عن ابن عباس أنه صلى على جنازة بمكة فكبر ثم قرأ وجهر وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم ثم دعا لصاحبها فأحسن ثم انصرف وقال هكذا ينبغي أن تكون الصلاة على الجنازة وروى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى يقرأ في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه وصفة الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم كصفة الصلاة عليه في التشهد لأن النبي
صلى الله عليه و سلم لما سألوه كيف نصلي عليك علمهم ذلك وإن أتى بها على غير ما ذكر في التشهد فلا بأس لأن القصد مطلق الصلاة قال القاضي يقول : اللهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين وأهل طاعتك أجمعين من أهل السماوات وأهل الأرضين إنك على كل شيء قدير لأن أحمد قال : في رواية عبد الله يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ويصلي على الملائكة المقربين
مسألة : قال : ويكر الثالثة ويدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين ويدعو للميت
وإن أحب أن يقول اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم منقلبنا ومثوانا إنك على كل شيء قدير اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان اللهم إنه عبدك ابن أمتك نزل بك وأنت خير منزول به ولا نعلم إلا خيرا اللهم إن كان محسنا فجازه بإحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده والواجب أدنى دعاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ] رواه أبو داود وهذا يحصل بأدنى دعاء ولأن المقصود الشفاعة للميت والدعاء له فيجب أقل ذلك ويستحب أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين قال أحمد : وليس على الميت دعاء موقت والذي ذكره الخرقي حسن يجمع ذلك وقد روي أكثره في الحديث فمن ذلك ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى على الجنازة قال : ( اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ) ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل حديث أبي إبراهيم وزاد : [ اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده ] وفي حديث آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر له ] رواه أبو داود وروى مسلم بإسناده [ عن عوف بن مالك قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول : ( اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار ) ] حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت
فصل : زاد أبو الخطاب على ما ذكره الخرقي : اللهم جئناك شفعاء له فشفعنا فيه وقه فتنة القبر وعذاب النار وأكرم مثواه وأبده دارا خيرا من داره وجوارا خيرا من جواره وافعل بنا ذلك وبجميع المسلمين وزاد ابن أبي موسى : الحمد لله الذي أمات وأحيا الحمد لله الذي يحيي الموتى له العظمة والكبرياء والملك والقدرة والثناء وهو على كل شيء قدير اللهم إنه عبدك ابن عبدك ابن أمتك أنت خلقته ورزقته وأنت أمته وأنت تحييه وأن تعلم سره جئناك شفعاء له فشفعنا فيه اللهم إنا نستجير بحبل جوارك له إنك ذو وفاء وذمة اللهم وقه نم فتنة القبر ومن عذاب جهنم اللهم إن كان محسنا فجازه بإحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه اللهم قد نزل بك وأنت خير منزول به فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه اللهم ثبت عند المسألة منطقه ولا تبتله في قبره اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده )
فصل : وقوله لا نعلم إلا خيرا إنما يقوله لمن لم يعلم منه شرا لئلا يكون كاذبا وقد روى القاضي حديثا [ عن عبد الله بن الحارث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم علمهم الصلاة على الميت : ( اللهم اغفر لأحيائنا وأمواتنا وصغيرنا وكبيرنا وشاهدنا وغائبنا اللهم إن عبدك وابن عبدك نزل بفنائك فاغفر له وارحمه ولا نعلم إلا خيرا ) فقلت : وأنا اصغر الجماعة يا رسول الله وإن لم أعلم خيرا قال : ( لا تقل إلا ما تعلم ) ] وإنما شرع هذا للخبر ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أثنى عنده على جنازة بخير قال : وجبت وأثنى على أخرى بشر فقال : وجبت ثم قال : ( إن بعضكم على بعض شهيد ) ] رواه أبو داود متفق عليه وفي حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من عبد مسلم يموت يشهد له اثنان من جيرانه الادنين بخير إلا قال الله تعالى : قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا وغفرت له ما أعلم ] رواه الإمام أحمد في المسند وفي لفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من مسلم يموت فيقوم رجلان من جيرانه الادنين فيقولان اللهم لا نعلم إلا خيرا - إلا قال الله تعالى : قد قبلت شهادتهما لعبدي وغفرت له ما لا يعلمان ] أخرجه اللالكائي
فصل : وإن كان الميت طفلا جعل مكان الاستغفار له : اللهم اجعله فرطا لوالديه وذخرا وسلفا وأجرا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما اللهم اجعله في كفالة إبراهيم وألحقه بصالح سلف المؤمنين وأجره برحمتك من عذاب الجحيم وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله اللهم اغفر لأسلافنا وأفراطنا ومن سبقنا بالإيمان ونحو ذلك وبأي شيء دعا مما ذكرنا أو نحوه اجزأه وليس فيه شيء موقت
مسألة : قال : ويكبر الرابعة ويقف قليلا
ظاهر كلام الخرقي أنه لا يدعو بعد الرابعة شيئا ونقله عن أحمد جماعة من أصحابه وقال : لا أعلم فيه شيئا لأنه لو كان فيه دعاء مشروع لنقل وروي عن أحمد : أنه يدعو ثم يسلم لأنه قيام في صلاة فكان فيه ذكر مشروع كالذي قبل التكبيرة الرابعة قال ابن أبي موسى و أبو الخطاب يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وقيل يقول : اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده وهذا الخلاف في استحبابه ولا خلاف في المذهب أنه غير واجب وإن الوقوف بعد التكبير قليلا مشروع وقد روى الجوزجاني بإسناده [ عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يكبر أربعا ثم يقول ما شاء الله ثم ينصرف ] قال الجوزجاني : وكنت أحسب أن هذه الوقفة ليكبر آخر الصفوف فإن الإمام إذا كبر ثم سلم خفت أن يكون تسليمه قبل أن يكبر آخر الصفوف فإن كان هكذا فالله عز و جل الموفق له وإن غير ذلك فإني أبرأ إلى الله عز و جل من أن أتأول على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرا لم يرده أو أراد خلافه
مسألة : قال : ويرفع يديه في كل تكبيرة
أجمع أهل العلم على أن المصلي على الجنائز يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها وكان ابن عمر يرفع يديه في كل تكبيرة وبه قال سالم و عمر بن عبد العزيز و عطاء و قيس بن أبي حازم و الزهري و إسحاق و ابن المنذر و الأوزاعي و الشافعي وقال مالك و الثوري و أبو حنيفة لا يرفع يديه إلا في الأولى لأن كب تكبيرة مقام ركعة ولا ترفع الأيدي في جميع الركعات
ولنا ما روي عن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرفع يديه في كل تكبيرة ] رواه ابن أبي موسى وعن ابن عمر وأنس أنهما كانا يفعلان ذلك ولأنها تكبيرة حال الاستقرار أشبهت الأولى وما ذكروه غير مسلم فإذا رفع يديه فإنه يحطهما عند انقضاء التكبير ويضع اليمنى على اليسرى كما في بقية الصلوات وفيما روى ابن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله
مسألة : قال : ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه
السنة أن يسلم على الجنازة تسليمة واحدة قال رحمه الله : التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن سنة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم وروي تسليمة واحدة عن علي وابن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة وأنس بن مالك وابن أبي أوفى وواثلة بن الأسقع وبه قال سعيد بن جبير و الحسن و ابن سيرين و أبو أمامة بن سهل و القاسم بن محمد و الحارث و إبراهيم النخعي و الثوري و ابن عيينة و ابن المبارك و عبدالرحمن بن مهدي و إسحاق وقال ابن المبارك : من سلم على الجنازة تسليمتين فهو جاهل جاهل واختار القاضي أن المستحب تسليمتان وتسليمة واحدة تجزي وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي قياسا على سائر الصلوات
ولنا ما روى عطاء بن السائب [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سلم على الجنازة تسليمة ] رواه الجوزجاني بإسناده وأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا قال أحمد ليس فه اختلاف إلا عن إبراهيم قال الجوزجاني : هذا عندنا لا اختلاف فيه لأن الاختلاف إنما يكون بين الأقران والأشكال أما إذا أجمع الناس واتفقت الرواية عن الصحابة والتابعين فشذ عنهم رجل لم يقل لهذا اختلاف واختيار القاضي في هذه المسألة مخالف لقول إمامة وأصحابه وإجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم إذا ثبت هذا فإن المستحب أن يسلم تسليمة واحدة عن يمينه وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس قال أحمد يسلم تسليمة واحدة وسئل يسلم تلقاء وجهه ؟ قال : كل هذا وأكثر ما روي فيه عن يمينه قيل : خفية ؟ قال : نعم يعني أن الكل جائز والتسليم عن يمينه أولى لأنه أكثر ما روي وهو أشبه بالتسليم في سائر الصلوات قال أحمد : يقول : السلام عليكم ورحمة الله وروى عنه علي بن سعيد أنه قال : إذا قال السلام عليكم أجزأه وروى الخلال بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى على يزيد بن المكفف فسلم واحدة عن يمينه : السلام عليكم
فصل : روي عن مجاهد أنه قال : إذا صليت فلا تبرح مصلاك حتى ترفع قال : ورأيت عبد الله بن عمر لا يبرح مصلاه إذا صلى على جنازة حتى يراها على أيدي الرجال قال الأوزاعي : لا تنقض الصفوف حتى ترفع الجنازة

فصل : ما يغير لصحة صلاة الجنازة : النية والتكبيرات والقيام وقراءة الفاتحة والصلاة على النبي وأدنى دعاء للميت وتسليمة واحدة
فصل : والواجب في صلاة الجنازة النية والتكبيرات والقيام وقراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم وأدنى دعاء للميت وتسليمة واحدة ويشترط لها شرائط المكتوبة إلا الوقت وتسقط بعض واجباتها عن المسبوق على ما سنبين ولا يجوز أن يصلي على الجنائز وهو راكب لأنه يفوت القيام الواجب وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي و أبي ثور ولا أعلم فيه خلافا

فصل : تعدد الصفوف وتسويتها في صلاة الجنازة
ويستحب أن يصف في الصلاة على الجنائز ثلاثة صفوف لما روي عن مالك بن هبيرة حمصي وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب ] قال : فكان مالك بين هبيرة إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة أجزاء رواه الخلال بإسناده وقال الترمذي : هذا حديث حسن قال أحمد : أحب إذا كان فيهم قلة أن جعلهم ثلاثة صفوف قالوا : فإن كان وراءه أربعة كيف يجعلهم ؟ قال : يجعلهم صفين في كل صف رجلين وكره أن يكونوا ثلاثة فيكون في صف رجل واحد وذكر ابن عقيل أن عطاء بن أبي رباح روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على جنازة فكانوا سبعة فجعل الصف الأول ثلاثة والثاني اثنين والثالث واحدا ] قال ابن عقيل : ويعايابها فيقال : أين تجدون فذا انفراده أفض ؟ ولا أحسب هذا الحديث صحيحا فإنني لم أره في غير كتاب ابن عقيل و أحمد قد صار إلى خلافه وكره أن يكون الواحد صفا ولو علم أحمد في هذا حديثا لم يعده إلى غيره والصحيح في هذا أن يجعل كل اثنين صفا
فصل : ويستحب تسوبة الصف في الصلاة على الجنازة نص عليه أحمد وقيل لـ عطاء : أخذ على الناس أن يصفوا على الجنازة ما يصفون في الصلاة ؟ قال : لا قوم يدعون ويستغفرون ولم يعجب أحمد قول عطاء هذا وقال : يسوون صفوفهم فإنها صلاة ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا ] متفق عليه وروي عن أبي المليح أنه صلى على جنازة فالتفت فقال : استووا لتحسن شفاعتكم

فصلان : الصلاة على الجنازة في المسجد والمقبرة
فصل : ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إذا لم يخف تلويثه وبهذا قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور و داود وكره ذلك مالك و أبو حنيفة لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له ] من المسند
ولنا ما روى مسلم وغيره [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد ] وقال سعيد : حدثنا مالك عن سالم بن النضر قال : لما مات سعد بن أبي وقاص قالت عائشة رضي الله عنها مروا به علي حتى أدعو له فأنكر الناس ذلك فقالت : ما أسرع ما نسي الناس ! [ ما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد ] وقال : حدثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام عن عروة عن أبيه قال : صلي على أبي بكر في المسجد وقال : حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال : صلي على عمر في المسجد وهذا كان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر فكان إجماعا ولأنها صلاة فلم يمنع منها كسائر الصلوات وحديثهم يرويه صالح مولى التوأمة قال ابن عبد البر : من أهل العلم من لا يقبل من حديثه شيئا لضعفه لأنه اختلط ومنهم من قبل منه ما رواه عن ابن أبي ذئب خاصة ثم يحمل على من خيف عليه الانفجار وتلويث المسجد
فصل : فأما الصلاة على الجنازة في المقبرة فعن أحمد فيها روايتان إحداهما لا بأس بها لـ [ أن النبي صلى الله عليه سلم صلى على قبر وهو في المقبرة ] قال ابن المنذر : ذكر نافع أنه صلي على عائشة وأم سلمة وسط قبور البقيع صلى على عائشة أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر وفعل ذلك عمر بن عبد العزيز والرواية الثانية : يكره ذلك روي ذلك عن علي وعبد الله بن عمر وابن العاص وابن عباس وبه قال عطاء و النخعي و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ] ولأنه ليس بموضع للصلاة غير صلاة الجنازة فكرهت فيه صلاة الجنازة كالحمام

فصلان : حكم المسبوق في صلاة الجنازة
مسألة : قال : ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعا فإن سلم مع الإمام ولم يقض فلا بأس
وجملة ذلك أن المسبوق بتكبير الصلاة في الجنازة يسن له قضاء ما فاته منها وممن قال : يقضي ما فاته سعيد بن المسيب و عطاء و النخعي و الزهري و ابن سيرين و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي فإن سلم قبل القضاء فلا باس هذا قول ابن عمر و الحسن و أيوب السختياني و الأوزاعي قالوا : لا يقض ما فات من تكبير الجنازة قال أحمد : إذا لم يقض لم يبال العمري عن نافع عن ابن عمر أنه لا يقضي وإن كبر متتابعا فلا بأس كذا قال إبراهيم وقال أيضا يبادر بالتكبير قبل أن يرفع وقال ابن الخطاب : إن سلم قبل أن يقضيه فهل تصح صلاته ؟ على روايتين إحداهما لا تصح وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي لقوله عليه السلام : [ ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ] وفي لفظ : [ فاقضوا ] وقياسا على سائر الصلوات
ولنا قول ابن عمر ولم يعرف له في الصحابة مخالف وقد روي [ عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله إني أصلي على الجنازة ويخفي علي بعض التكبير قال : ( ما سمعت فكبري وما فاتك فلا قضاء عليك ) ] وهذا صريح ولأنها تكبيرات متواليات حال القيام فلم يجب قضاء ما فاته منها كتكبيرات العيد وحديثهم ورد في الصلوات الخمس بدليل قوله في صدر الحديث : [ ولا تأتوها وأنتم تسعون ] وروي أنه سعى في جنازة سعد حتى سقط رداؤه عن منكبيه فعلم أنه لم يرد بالحديث هذه الصلاة ثم الحديث الذي رويناه أخص منه فيجب تقديمه والقياس على سائر الصلوات لا يصح لأنه لا يقضي في شيء من الصلوات التكبير المنفرد ثم يبطل بتكبيرات العيد إذا ثبت هذا فإنه متى قضى أتى بالتكبير متواليا لا ذكر معه كذلك قال أحمد وحكاه عن إبراهيم قال : يبادر بالتكبير متتابعا وإن لم يرفع قضى ما فاته وإذا أدرك الإمام في الدعاء على الميت تابعه فيه فإذا سلم الإمام كبر وقرأ الفاتحة ثم كبر وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم وكبر وسلم وقال الشافعي : متى دخل المسبوق في الصلاة ابتدأ الفاتحة ثم أتى بالصلاة في الثانية ووجه الأول أن المسبوق في سائر الصلوات يقرأ فيما يقضيه الفاتحة وسورة على صفة ما فاته فينبغي أن يأتي هاهنا بالقراءة على صفة ما فاته والله أعلم
فصل : قال : وإذا أدرك الإمام فيما بين تكبيرتين فعن أحمد أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه وبه قال أبو حنيفة و الثوري و إسحاق لأن التكبيرات كالركعات ثم لو فاتته ركعة لم يتشاغل بقضائها كذلك إذا فاتته تكبيرة والثانية يكبر ولا ينتظر وهو قول الشافعي لأنه في سائر الصلوات متى أدرك الإمام كبر معه ولم ينتظر وليس هذا اشتغالا بقضاء ما فاته وإما يصلي معه ما أدركه فيجزيه ذلك كالذي يكبر عقيب تكبير الإمام أو يتأخر عن ذلك قليلا وعن مالك كالروايتين قال ابن المنذر : سهل أحمد في القولين جميعا ومتى أدرك الإمام في التكبيرة الأولى فكبر وشرع في القراءة ثم كبر الإمام قبل أن يتمها فإنه يكبر ويتابعه ويقطع القراءة كالمسبوق في بقية الصلوات إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة

فصلان : إدخال الميت القبر ووضعه فيه
مسألة : قال : ويدخل قبره من عند رجليه إن كان أسهل عليهم
الضمير في قوله رجليه يعود إلى القبر أي من عند موضع الرجلين وذلك أن المستحب أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل سلا إلى القبر روي ذلك عن ابن عمر وأنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري و النخعي و الشعبي و الشافعي وقال أبو حنيفة : توضع الجنازة على جانب القبر مما يلي القبلة ثم يدخل القبر معترضا لأنه يروى عن علي رضي الله عنه ولأن النخعي قال : حدثني من رأى أهل المدينة في الزمن الأول يدخلون موتاهم من قبل القبلة وأن السل شيء أحدثه أهل المدينة
لنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن يزيد الأنصاري أن الحارث أوصى أن يليه عند موته فصلى عليه ثم دخل القبر فأدخله من رجلي القبر وقال : هذا السنة وهذا يقتضي سنة النبي صلى الله عليه و سلم وروى ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم سل من قبل رأسه سلا وما ذكر عن النخعي لا يصح لأن مذهبه بخلافه ولأنه لا يجوز على العدد الكثير أن يغيروا سنة ظاهرة في الدفن إلا بسبب ظاهر أو سلطان قاهر قال : ولم ينقل من ذلك شيء ولو ثبت فسنة النبي صلى الله عليه و سلم مقدمة على فعل أهل المدينة وإن كان الأسهل عليهم أخذه من قبل القبلة أو من رأس القبر فلا حرج فيه لأن استحباب أخذه من رجلي القبر إنما كان طلبا للسهولة عليهم والرفق بهم فإن كان الأسهل غيره كان مستحبا قال أحمد رحمه الله : كل لا بأس به
فصل : قال أحمد رحمه الله : يعمق القبر إلى الصدر الرجل والمرأة في ذلك سواء كان الحسن و ابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر وقال سعيد : حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة ولا يعمقوا فإن ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها وذكر أبو الخطاب أنه يستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة وهو قول الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ احفروا وأوسعوا وأعمقوا ] رواه أبو داود ولأن ابن عمر أوصى بذلك في قبره ولأنه أحرى أن لا تناله السباع وأبعد على من ينبشه والمنصوص عن أحمد أن المستحب تعميقه إلى الصدر لأن التعميق ولم يصح عن ابن عمر أنه أوصى بذلك في قبره ولو صح عن أبي عبد الله لم يعده إلى غيره إذا ثبت هذا فإنه يستحب تحسنه وتعميقه وتوسيعه للخبر وقد [ روى زيد بن أسلم قال : وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على قبر فقال : اصنعوا كذا اصنعوا كذا ثم قال : ( ما بي أن يكون يغني عنه شيئا ولكن الله يجب إذا عمل العمل أن يحكم ) ] قال معمر : وبلغني أنه قال : [ ولكنه أطيب لأنفس أهله ] رواه عبد الرزاق في كتاب الجنائز
فصل : والسنة أن يلحد قبر الميت كما صنع بقبر النبي صلى الله عليه و سلم قال سعد بن أبي وقاص : ألحدوا لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم ومعنى اللحد أنه إذا بلغ أرض القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكانا يوضع الميت فيه فإن كانت الأرض رخوة جعل له من الحجارة شبه اللحد قال أحمد : ولا أحب الشق لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ اللحد لنا والشق لغيرنا ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال : هذا حديث غريب فإن لم يمكن اللحد شق له في الأرض ومعنى الشق أن يحفر في أرض القبر شقا يضع الميت فيه ويسقفه عليه بشيء ويضع الميت في اللحد على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه ويضع تحت رأسه لبنة أو حجرا أو شيئا مرتفعا كما يصنع الحي وقد روي عن عمر رضي الله عنه قال : إذا جعلتموني في اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض ويدني من الحائط لئلا ينكب على وجهه ويسند من ورائه بتراب لئلا ينقلب قال أحمد رحمه الله : ما أحب أن يجعل في القبر مضربة ولا مخدة وقد جعل في قبر النبي صلى الله عليه و سلم قطيفة حمراء فإن جعلوا قطيفة فلعلة فإذا فرغوا نصبوا عليه اللبن نصبا ويسد خلله بالطين لئلا يصل إليه التراب وإن جعل مكان اللبن قصبا فحسن لأن الشعبي قال : جعل على لحد النبي صلى الله عليه و سلم طن قصب إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك : قال الخلال : كان أبو عبد الله يميل إلى اللبن ويختاره على القصب ثم ترك ذلك ومال إلى استحباب القصب على اللبن وأما الخشب فكرهه على كل حال ورخص فيه عند الضرورة إذا لم يوجد غيره وأكثر الروايات عن أبي عبد الله استحباب اللبن وتقديمه على القصب لقول سعد : انصبوا علي البن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه و سلم وقول سعد أولى من قول الشعبي فإن الشعبي لم ير ولم يحضر وأيهما فعله كان حسنا قال حنبل : قلت لـ أبي عبد الله : فإن لم يكن لبن ؟ قال : ينصب عليه القصب والحشيش وما أمكن من ذلك ثم يهال عليه التراب

فصلان : ما يفعل وما يقال بعد الدفن
فصل : روي عن أحمد أنه حضر جنازة فلما ألقي عليها التراب قام إلى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات ثم رجع إلى مكانه وقال : قد جاء عن علي وصح أنه حنى على قبر ابن مكفف روي عنه أنه قال : إن فعل فحسن وإن لم يفعل فلا بأس ووجه استحبابه ما روي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت من قبل رأسه فحثى عليه ثلاثا ] أخرجه ابن ماجة وعن عامر بن ربيعة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى على عثمان بن مظعون فكبر عليه أربعا ثم أتى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات وهو قائم عند رأسه ] رواه الدارقطني وعن جعفر بن محمد عن أبيه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعا ] أخرجه الشافعي في مسنده وفعله علي رضي الله عنه وروي عن ابن عباس أنه لما دفن زيد بن ثابت حثى في قبره ثلاثا وقال هكذا يذهب العلم
فصل : ويقول حين يضعه في قبره ما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أدخل الميت القبر قال : ( بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ] وروي [ وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وروى ابن ماجة [ عن سعيد بن المسيب قال : حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال : بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال : اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر اللهم جافي الأرض عن جنبيها وصعد روحها ولقها منك رضوانا قلت : يا بن عمر أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم أم قلته برأيك قال : إني إذا لقادر على القول ! بل سمعته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سوي على الميت قال : اللهم أسلمه إليك الأهل والمال والعشيرة وذنبه عظيم فاغفر له رواه ابن المنذر

فصل : ما يصنع بالميت في البحر
إذا مات في سفينة في البحر فقال أحمد رحمه الله : ينتظر به إن كانوا يرجون أن يجدوا له موضعا يدفنونه فيه حبسوه يوما أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد فإن لم يجدوا عليه الفساد فإن لم يجدوا غسل وكفن وحنط ويصلى عليه ويثقل بشيء ويلقى في الماء وهذا قول عطاء و الحسن قال الحسن : يترك في زنبيل ويلقى في البحر وقال الشافعي : يربط بين لوحين ليحمله البحر إلى الساحل فربما وقع إلى قوم يدفنونه وإن ألقوه في البحر لم يأتموا والأول أولى لأنه يحصل به الستر المقصود من دفنه وإلقاؤه بين لوحين تعريض له للتغيير والهتك وربما بقي على الساحل مهتوكا عريانا وربما وقع إلى قومن المشركين فكان ما ذكرناه أولى

مسألة : ستر قبر المرأة حين الدفن
لا نعلم في استحباب هذا بين أهل العلم خلافا وقد روى ابن سيرين أن عمر كان يغطي قبر المرأة وروي عن علي أنه مر بقوم قد دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال : إنما يصنع هذا بالنساء وشهد أنس بن مالك دفن أبي زيد الأنصاري فخمر القبر بثوب فقال عبد الله بن أنس : ارفعوا الثوب إنما يخمر النساء وأنس شاهد على شفير القبر لا ينكر ولأن المرأة عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون فإن كان ا لميت رجلا كره ستر قبره لما ذكرنا وكرهه عبد الله بن يزيد ولم يكرهه أصحاب الرأي و أبو ثور والأول أولى لأن فعل علي رضي الله عنه وأنس يدل على كراهته ولأنه كشفه أمكن وأبعد من التشبه بالنساء مع ما فيه من اتباع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم

مسألة : أولى الناس بإدخال المرأة قبرها
مسألة : قال : ويدخلها محرمها فإن لم يكن فالنساء فإن لم يكن فالمشايخ
لا خلاف بين أهل العلم في أن أولى الناس بإدخال المرأة قبرها محرمها وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها ولها السفر معه وقد روى الخلال بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قام عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفيت زينب بنت جحش فقال : ألا إني أرسلت إلى النسوة من يدخلها قبرها فأرسلن من كان يحل له الدخول عليها في حياتها فرأيت أن قد صدقن ولما توفيت امرأة عمر قال لأهلها : أنتم أحق بها ولأن محرمها أولى الناس بولايتها في الحياة فكذلك بعد الموت وظاهر كلام أحمد أن الأقارب يقدمون على الزوج قال الخلال : استقامت الرواية عن أبي عبد الله أنه إذا حضر الأولياء والزوج فالأولياء أحب إليه فإن لم يكن الأولياء فالزوج أحق من الغريب لما ذكرنا من خبر عمر ولأن الزوج قد زالت زوجيته بموتها والقرابة باقية وقال القاضي : الزوج أحق من الأولياء لأن أبا بكر أدخل امرأته قبرها دون أقاربها ولأنه أحق بغسلها منهم فكمان أولى بإدخالها قبرها كمحل الوفاق وأيهما قدم فالآخر بعده فإن لم يكن واحد منهما فقد روي عن أحمد أنه قال : أحب إلي أن يدخلها النساء لأنه مباح لهن النظر إليها وهن أحق بغسلها وعلى هذا يقدم الأقرب منهن فالأقرب كما في حق الرجل وروي عنه أن النساء لا يستطعن أن يدخلن القبر ولا يدفن وهذا أصح وأحسن لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حين ماتت امرأته أمر أبا طلحة فنزل في قبرها ] وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( أيكم لم يفارق الليلة ) قال أبو طلحة : أنا فأمره النبي صلى الله عليه و سلم فنزل فأدخلها قبرها ] رواه البخاري و [ رأى النبي صلى الله عليه و سلم النساء في جنازة فقال : ( هل تحملن ؟ قلن : لا قال : ( هل تدلين في من يدلي ؟ قلن : لا قال : ( فارجعن مأزورات غير مأجورات ) ] رواه ابن ماجة وهذا استفهام إنكار فدل على أن ذلك غير مشروع لهن بحال وكيف يشرع لهن وقد نهاهن رسول الله صلى الله عليه و سلم عن اتباع الجنائز ولأن ذلك لو كان مشروعا لفعل في عصر النبي صلى الله عليه و سلم أو خلفائه ولنقل عن بعض الأئمة ولأن الجنازة يحضرها جموع الرجال وفي نزول النساء في القبر بين أيديهم هتك لهن مع عجزهن عن الدفن وضعفهن عن حمل الميتة وتقليبها فلا يشرع لكن إن عدم محرمها استحب ذلك للمشايخ لأنهم أقل شهوة وأبعد من الفتنة وكذلك من يليهم نم فضلاء الناس وأهل الدين لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أبا طلحة فنزل في قبر ابنته دون غيره ]

فصل : أولى الناس بدفن الرجل
فصل : فأما الرجل فأولى الناس بدفنهن أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه لأن القصد طلب الحظ للميت والرفق به قال علي رضي الله عنه : إنما يلي الرجل أهله ولما توفي النبي صلى الله عليه و سلم ألحده العباس وعلي وأسامة رواه أبو داود ولا توقيت في عدد من يدخل القبر نص عليه أحمد فعلى هذا يكون عددهم على حسب حال الميت وحاجته وما هو أسهل في أمره قال القاضي : يستحب أن يكون وترا لأن النبي صلى الله عليه و سلم ألحده ثلاثة ولعل هذا كان اتفاقا أو لحاجتهم إليه وقد روى أبو داود عن أبي مرحب أن عبد الرحمن بن عوف نزل في قبر النبي صلى الله عليه و سلم قال : كأني أنظر إليهم أربعة وإذا كان المتولي فقيها كان حسنا لأنه محتاج إلى معرفة ما يصنعه في القبر

فصل : لا يشق الكفن في القبر وتحل العقد
مسألة : قال : ولا يشق الكفن في القبر وتحل العقد
أما شق الكفن فغير جائز لأنه إتلاف مستغنى عنه ولم يرد الشرع به وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ] رواه مسلم وتخريقه يتلفه ويذهب بحسنه وأما حل العقد من عند رأسه ورجليه فمستحب لأن عقدها كان للخوف من انتشارها وقد أمن ذلك بدفنه وقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر نزع الأخلة بغيه ] وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب نحو ذلك

مسألة وفصول : وضع الميت في القبر وطمره والوقوف على القبر
مسألة : قال : ولا يدخل القبر آجرا ولا خشبا ولا شيئا مسته النار
قد ذكرنا أن اللبن والقصب مستحب وكره أحمد الخشب وقال إبراهيم النخعي : كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب ولا يستحب الدفن في تابوت لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه وفيه تشبه بأهل الدنيا والأرض أنشف لفضلاته ويكره الآخر لأنه من بناء المترفين وسائر ما مسته النار تفاؤلا بأن لا تمسه النار
فصل : وإذا فرغ من اللحد أهال عليه التراب ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر ليعلم أنه قبر فيوقى ويترحم على صاحبه وروى الساجي [ عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر ] وروى القاسم بن محمد قالت : قلت لعائشة : يا أمه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرقة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء رواه أبو داود ولا يستحب رفعه بأكثر من ترابه نص عليه أحمد وروى بإسناده عن عقبة بن عامر أنه قال : لا يجعل في القبر من التراب أكثر مما خرج منه حين حفر وروى الخلال بإسناده عن جابر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يزاد على القبر على حفرته ] ولا يستحب رفع القبر إلا شيئا يسيرا لقول النبي صلى الله عليه و سلم لعلي رضي الله عنه : [ لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرقا إلى سويته ] رواه مسلم وغيره والمشرف ما رفع كثيرا بدليل قول القاسم في صفة قبر النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه لا مشرقة ولا لاطية ويستحب أن يرش على القبر ماء ليلتزق ترابه قال أبو رافع : [ سل رسول الله صلى الله عليه و سلم سعدا ورش على قبره ماء ] رواه ابن ماجة و [ عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رش على قبره ماء ] رواهما الخلال جميعا
فصل : ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة قال أحمد : لا باس أن يعلم الرجل القبر علامة يعرفه بها قد [ علم النبي صلى الله عليه و سلم قبر عثمان بن مظعون ] وروى أبو داود بإسناده عن المطلب قال : [ لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن أمر النبي صلى الله عليه و سلم رجلا أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فحسر عن ذراعيه ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال : ( أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهله ) ] ورواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه و سلم من رواية أنس
فصل : وتسنيم القبر أفضل من تسطيحه وبه قال مالك و أبو حنيفة و الثوري وقال الشافعي : تسطيحه أفضل قال : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سطح قبر ابنه إبراهيم وعن القاسم قال : رأيت قبر النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر مسطحة
ولنا ما روى سفيان التمار أنه قال : رأيت قبر النبي صلى الله عليه و سلم مسنما رواه البخاري بإسناده وعن الحسن مثله ولأن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا وهو أشبه بشعار أهل البدع فكان مكروها وحديثنا أثبت من حديثهم وأصح فكان العمل به أولى
فصل : وسئل أحمد عن الوقوف على القبر بعد ما يدفن يدعى للميت قال : لا باس به قد وقف علي والأحنف بن قيس وروى أبو داود بإسناده عن عثمان قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دفن الرجل وقف عليه وقال : ( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسئل ) ] وروى الخلال بإسناده و مسلم و البخاري عن السري قال : لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال : اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم فإني أستأنس بكم

فصل : تلقين الميت
فصل : فأما التلقين بعد الدفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئا ولا أعلم فيه للأئمة قولا سوى ما رواه الأثرم قال : قلت لـ أبي عبد الله فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت يقف الرجل ويقول : يا فلان بان فلان اذكر ما فارقت عليه شهادة أن لا إله إلا الله فقال : ما رأيت أحدا فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو مغيرة جاء إنسان فقال ذاك قال : وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه وكان ابن عياش يرويه ثم قال فيه : إنما لأثبت عذاب القبر قال القاضي و أبو الخطاب : يستحب ذلك ورويا فيه عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقف أحدكم عند رأس قبره ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة فإنه يسمعه ولا يجيب ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة الثانية فيستوي قاعدا ثم ليقل : يا فلان ابن فلانة فإنه يقول : أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تسمعون فيقول : اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه و سلم نبيا وبالقرآن إماما فإن منكرا ونكيرا يتأخر كل واحد منهما فيقول : انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله تعالى حجته دونهما ) فقال رجل : يا رسول الله فإن لم يعرف اسم أمه قال : ( فلينسبه إلى حواء ) ] رواه ابن شاهين في كتاب ذكر الموت بإسناده

فصل : تطيين القبور
فصل : سئل أحمد عن تطيين القبور فقال : أرجو أن لا يكون به بأس ورخص في ذلك الحسن و الشافعي وروى أحمد بإسناده عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتعاهد قبر عاصم بن عمر قال نافع : وتوفي ابن له وهو غائب فقدم فسألنا عنه فدللناه عليه فكان يتعاهد القبر ويأمر بإصلاحه وروي عن الحسن عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يزال الميت يسمع الأذان ما لم يطين قبره ] أو قال : [ ما لم يطو قبره ]

فصول : البناء على القبور والكتابة والجلوس وبناء المساجد عليها
فصل : ويكره البناء على القبر وتجصيصه والكتابة عليه لما روى مسلم في صحيحه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه ] - زاد الترمذي - [ وأن يكتب عليه ] وقال : هذا حديث حسن صحيح ولأن ذلك من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه وفي هذا الحديث دليل على الرخصة في طين القبر لتخصيصه التجصيص بالنهي ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى على القبر بآجر فأوصى بذلك وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرا وقال إبراهيم : كانوا يكرهون الآجر في قبورهم وكره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا عليه فسطاطا
فصل : ويكره الجلوس على القبر والاتكاء عليه والاستناد إليه والمشي عليه والتغوط بين القبور لما تقدم من حديث جابر وفي حديث أبي مرثد الغنوي ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) صحيح وذكر لـ أحمد أن مالكا يتأول حديث النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى أن يجلس على القبور : أي للخلاء - فقال : ليس هذا بشيء ولم يعجبه رأي مالك وروى الخلال بإسناده عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق ] رواه ابن ماجة
فصل : ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله زوارات القبور المتخذات عليهن المساجد والسرج ] رواه أبو داود و النسائي ولفظه لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو أبيح لم يلعن النبي صلى الله عليه و سلم من فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ] يحذر مثل ما صنعوا متفق عليه وقالت عائشة : إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم لئلا يتخذ مسجدا ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها

فصول : استحباب الدفن في المقابر ونقل الميت من بلد لآخر ومن قبره إلى غيره ودفن الشهيد حيث قتل
فصل : والدفن في مقابر المسلمين أعجب إلى أبي عبد الله من الدفن في البيوت لأنه أقل ضررا على الأحياء من ورثته وأشبه بمساكن الآخرة وأكثر للدعاء له والترحم عليه ولم يزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم يقبرون في الصحاري فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه و سلم قبر في بيته وقبر صاحباه معه ؟ قلنا : قالت عائشة : إنما فعل ذلك لئلا يتخذ قبره مسجدا رواه البخاري ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدفن أصحابه بالبقيع وفعله أولى من فعل غيره وإنما أصحابه رأوا تخصيصه بذلك ولأنه روي : يدفن الأنبياء حيث يموتون وصيانة لهم عن كثرة الطراق وتمييزا له عن غيره
فصل : ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم وكذلك في البقاع الشريفة وقد روى البخاري و مسلم بإسنادهما أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر ]
فصل : وجمع الأقارب في الدفن حسن لـ [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون : ( أدفن إليه من مات من أهله ) ] ولأن ذلك أسهل لزيارتهم وأكثر للترحم عليهم ويسن تقديم الأب ثم من يليه في السن والفضيلة إذا أمكن
فصل : ويستحب دفن الشهيد حيث قتل قال أحمد : أما القتلى فعلى حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ادفنوا القتلى في مصارعهم ] وروى ابن ماجة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم فأما غيرهم فلا ينقل الميت من بلده إلى بلد آخر إلا لغرض صحيح ] وهذا مذهب الأوزاعي و ابن المنذر قال عبد الله بن أبي مليكة : توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشة فحمل إلى مكة فدفن فلما قدمت عائشة أتت قبره ثم قالت : والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت ولو شهدتك ما زرتك ولأن ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير فأما إن كان فيه غرض صحيح جاز قال أحمد : ما أعلم ينقل الرجل يموت في بلده إلى بلد أخرى بأسا وسئل الزهري عن ذلك فقال : قد حمل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة وقال ابن عيينة : مات ابن عمر هنا فأوصى أن لا يدفن هاهنا وأن يدفن بسرف
فصل : وإذا تنازع اثنان من الورثة فقال أحدهما : يدفن في المقبرة المسبلة وقال الآخر : يدفن في ملكه دفن في المسبلة لأنه لا منة فيه وهو أقل ضررا على الوارث فإن تشاحا في الكفن قدم قول من قال : نكفنه من ملكه لأن ضرره على الوارث بلحوق المنة وتكفينه من ماله قليل الضرر وسئل أحمد عن الرجل يوصي أن يدفن في داره قال : يدفن في المقابر مع المسلمين فإن دفن في داره أضر بالورثة وقال : لا بأس أن يشتري الرجل موضع قبره ويوصي أن يدفن فيه فعل ذلك عثمان بن عفان وعائشة و عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم
فصل : وإذا تنازع اثنان في الدفن في المقبرة المسبلة قدم أسبقهما كما لو تنازعا في مقاعد الأسواق ورحاب المساجد فإن تساويا أقرع بينهما
فصل : وإن تيقن أن الميت قد بلي وصار رميما جاز نبش قبره ودفن غيره فيه وإن شك في ذلك رجع إلى أهل الخبرة فإن حفر فوجد فيها عظاما دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه أحمد واستدل بأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي وسئل أحمد عن الميت يخرج من قبره إلى غيره فقال : إذا كان شيء يؤذيه قد حول طلحة وحولت عائشة وسئل عن قوم دفنوا في بساتين ومواضع رديئة فقال : قد نبش معاذ امرأته وقد كانت كفنت في خلقان فكفنها ولم ير أبو عبد الله بأسا أن يحولوا

فصول : الصلاة على القبر وإعادة الصلاة
مسألة : قال : ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر
وجملة ذلك أن فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يصلي عليها ما لم تدفن فإن دفنت فله أن يصلي على القبر إلى شهر هذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم روي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وإليه ذهب الأوزاعي و الشافعي وقال النخعي و الثوري و مالك و أبو حنيفة : لا تعاد الصلاة على الميت إلا للولي إذا كان غائبا ولا يصلي على القبر إلا كذلك ولو جاز ذلك لكان قبر النبي صلى الله عليه و سلم يصلى عليه في جميع الأعصار
ولنا ما روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر رجلا مات فقال : ( فدلوني على قبره فأتى قبره فصلى عليه ) ] متفق عليه وعن ابن عباس أنه مر مع النبي صلى الله عليه و سلم على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه قال أحمد رحمه الله : ومن شك في الصلاة على القبر يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم من ستة وجوه كلها حسان ولأنه من أهل الصلاة فيسن له الصلاة على القبر كالولي وقبر النبي صلى الله عليه و سلم لا يصلى عليه لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر
فصل : ومن صلى مرة فلا يسن له إعادة الصلاة عليها وإذا صلى على الجنازة مرة لم توضع لأحد يصلي عليها قال القاضي : لا يحسن بعد الصلاة عليه ويبادر بدفنه فإن رجي مجيء الولي أخر إلى أن يجيء إلا أن يخاف تغيره قال ابن عقيل لا ينتظر به أحد لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في طلحة بن البراء : ( اعجلوا به فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله ) ] فأما من أدرك الجنازة ممن لم يصل فله أن يصلي عليها فعل ذلك علي وأنس وسلمان بن ربيعة وأبو حمزة ومعمر بن سمير
فصل : ويصلي على القبر وتعاد الصلاة عليه قبل الدفن جماعة وفرادى نص عليهما أحمد وقال : وما بأس بذلك قد فعله عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي حديث ابن عباس قال : [ انتهى النبي صلى الله عليه و سلم إلى قبر رطب فصفوا خلفه وكبر أربعا ] متفق عليه

فصول : الصلاة على الغائب
فصل : وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية فيستقبل القبلة ويصلي عليه كصلاته على حاضر وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يجوز وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما لأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها بدليل ما لو كان في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غيبتها عنه
ولنا ما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نعى النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه وصلى بهم بالمصلى فكبر عليه أربعا ] متفق عليه فإن قيل : فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم زويت له الأرض فأري الجنازة قلنا : هذا لم ينقل ولو كان لأخبر به
ولنا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه و سلم ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه وإن رئي ثم لو رآه النبي صلى الله عليه و سلم لاختصت الصلاة به وقد صف النبي صلى الله عليه و سلم فصلى بهم فإن قيل : لم يكن بالحبشة من يصلي عليه قلنا : ليس هذا مذهبكم فإنكم لا تجيزون الصلاة على الغريق والأسير ومن مات بالبوادي وإن كان لم يصل عليه ولأن هذا بعيد لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر إسلامه فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه
فصل : فإن كان الميت في أحد جانبي البلد لم يصل عليه من الجانب الآخر قال : وهذا اختيار أبي حفص البرمكي لأنه يمكنه الحضور للصلاة عليه أو على قبره وصلى أبو عبد الله بن حامد على ميت مات في أحد جانبي بغداد وهو في الجانب الآخر لأنه غائب فجازت الصلاة عليه كالغائب في بلد آخر وهذا مختص بما إذا كان معه في هذا الجانب
فصل : وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر كالصلاة على القبر لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش أكثر من ذلك وقال ابن عقيل : في أكيل السبع والمحترق بالنار يحتمل أن لا يصلى عليه لذهابه بخلاف الضائع والغريق فإنه قد بقي منه ما يصلى عليه ويصلى عليه إذا عرف قبل الغسل كالغائب في بلد بعيد لأن الغسل تعذر لمانع أشبه الحي إذا عجز عن الغسل والتيمم صلى على حسب حاله

مسألة وفصل : عدد التكبيرات في صلاة الجنازة ومتابعة الإمام
مسألة : قال : وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا أنقص من أربع والأولى أربع لا يزاد عليها واختلفت الرواية فيما بين ذلك فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها ورواه الأثرم عن أحمد وروى حرب عن أحمد إذا كبر خمسا لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام قال الخلال : وكل من روى عن أبي عبد الله يخالفه وممن لم ير متابعة الإمام في زيادة على أربع - الثوري و مالك و أبو حنيفة و الشافعي واختارها ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة للإمام فلا يتابعه المأموم فيما كالقنوت في الركعة الأولى
ولنا ما روي [ عن زيد بن أرقم أنه كبر على جنازة خمسا وقال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يكبرها ] أخرجه مسلم و سعيد بن منصور وغيرهما وفي رواية سعيد فسئل عن ذلك فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال سعيد : ثنا خالد بن عبد الله عن يحيى الجابري عن عيسى مولى لحذيفة أنه كبر على جنازة خمسا فقيل له : فقال : مولاي وولي نعمتي صلى على جنازة وكبر عليها خمسا وذكر حذيفة أن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك وروى بإسناده أن عليا صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه خمسا وكان أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمسا وروى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب قال : كل ذلك قد كان أربعا وخمسا وأمر الناس بأربع قال أحمد : في إسناد حديث زيد بن أرقم إسناد جيد رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن أرقم ومعلوم أن المصلين معه كانوا يتابعونه
وروى الأثرم عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم غير أهل بدر خمسا وعلى سائر الناس أربعا وهذا أولى مما ذكروه فأما إن زاد الإمام على خمس فعن أحمد : أنه يكبر مع الإمام إلى سبع قال الخلال : ثبت القول عن أبي عبد الله أنه يكبر مع الإمام إلى سبع ثم لا يزاد على سبع ولا يسلم إلا مع الإمام وهذا قول بكر بن عبد الله المزني وقال عبد الله بن مسعود : كبر ما كبر إمامك فإنه لا وقت ولا عدد
ووجه ذلك ما روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كبر على حمزة سبعا ] رواه ابن شاهين وكبر علي على جنازة أبي قتادة سبعا وعلى سهل بن حنيف ستا وقال : إنه بدري وروي أن عمر رضي الله عنه جمع الناس فاستشارهم فقال بعضهم : كبر النبي صلى الله عليه و سلم سبعا : وقال بعضهم : خمسا وقال بعضهم : أربعا فجمع عمر الناس على أربع تكبيرات وقال : هو أول الصلاة وقال الحكم بن عتيبة : إن عليا رضي الله عنه صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا وكانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا فإن زاد على سبع لم يتابعه نص عليه أحمد وقال في رواية أبي داود : إن زاد على سبع ينبغي أن يسبح به ولا أعلم أحدا قال بالزيادة على سبع إلا عبد الله بن مسعود فإن علقمة روى أن أصحاب عبد الله قالوا له : إن أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمسا فلو وقت لنا وقتا فقال : إذا تقدمكم إمامكم فكبروا ما يكبر فإنه لا وقت ولا عدد رواه سعيد و الأثرم والصحيح أنه لا يزاد على سبع لأنه لم ينقل ذلك من فعل النبي صلى الله عليه و سلم ولا أحد من الصحابة ولكن لا يسلم حتى يسلم إمامه قال ابن عقيل : لا يختلف قول أحمد إذا كبر الإمام زيادة على أربع أنه لا يسلم قبل إمامه على الروايات الثلاث بل يتبعه ويقف فيسلم معه قال الخلال : العمل في نص قوله وما ثبت عنه أ ه يكبر ما كبر الإمام إلى سبع وإن زاد على سبع فلا ولا يسلم إلا مع الإمام وهو مذهب الشافعي في أنه لا يسلم قبل إمامه وقال الثوري و أبو حنيفة : ينصرف كما لو قام الإمام إلى خامسة فارقه ولم ينتظر تسليمه قال أبو عبد الله : ما أعجب حال الكوفيين سفيان ينصرف إذا كبر الرابعة والنبي صلى الله عليه و سلم كبر خمسا وفعله زيد بن أرقم وحذيفة وقال ابن مسعود : كبر ما كبر إمامك ولأن هذه زيادة قول مختلف فيه فلا يسلم قبل إمامه إذا اشتغل به كما لو صلى خلف من يقنت في صلاة يخالفه الإمام في القنوت فيها ويخالف ما قاسوا عليه من وجهين : أحدهما أن الركعة الخامسة لا خلاف فيها والثاني أنها فعل والتكبيرة الزائدة بخلافها وكل تكبيرة قلنا : يتابع الإمام فيها فله فعلها وما لا فلا
فصل : والأفضل أن لا يزيد على أربع لأن فيه خروجا من الخلاف وأكثر أهل العلم يرون التكبير أربعا منهم عمر وابنه وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب وأبو هريرة وعقبة بن عامر وابن الحنفية و عطاء و الأوزاعي وهو قول مالك و أبو حنيفة و الثوري و الشافعي لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كبر على النجاشي أربعا ] متفق عليه وكبر على قبر بعد ما دفن أربعا وجمع عمر الناس على أربع ولأن أكثر الفرائض لا تزيد على أربع ولا يجوز النقصان منها
وروي عن ابن عباس أنه كبر على الجنازة ثلاثا ولم يعجب ذلك أبا عبد الله وقال : قد كبر أنس ثلاثا ناسيا فأعاد ولأنه خلاف ما نقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأن الصلاة الرباعية إذا نقص منها ركعة بطلت كذلك هاهنا فإن نقص منها تكبيرة عامدا بطلت كما لو ترك ركعة عمدا وإن تركها سهوا احتمل أن يعيدها كما فعل أنس ويحتمل أن يكبرها ما لم يطل الفصل كما لو نسي ركعة ولا يشرع لها سجود سهو في الموضعين =

4.

مجلد 4.  المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد  

فصل : حضور جنائز أخرى بعد التكبير
فصل : قال أحمد رحمه الله : يكبر على الجنازة فيجيئون بأخرى يكبر إلى سبع ثم يقطع ولا يزيد على ذلك حتى ترفع الأربع قال أصحابنا : إذا كبر على جنازة ثم جيء بأخرى كبر الثانية عليهما وينويهما فإن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن ونواهن فإن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن ثم يكمل التكبير عليهن إلى سبع ليحصل الرابعة أربع تكبيرات إذ لا يجوز النقصان منهن ويحصل للأولى سبع وهو أكثر ما ينتهي إليه التكبير فإن جيء بخامسة لم ينوها بالتكبير وإن نواها لم يجز لأنه دائر بين أن يزيد على سبع أو ينقص في تكبيرها عن أربع وكلاهما لا يجوز وهكذا لو جيء بثانية بعد تكبيرة الرابعة لم يجز أ يكبر عليها الخامسة لما بينا فإن أراد أهل الجنازة الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز لأن السلام ركن لا تتم الصلاة إلا به إذا تقرر هذا فإنه يقرأ في التكبيرة الخامسة الفاتحة وفي السادسة يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ويدعو في السابعة ليكمل لجميع الجنائز القراءة والأذكار كما كمل لهن التكبيرات وذكر ابن عقيل وجها ثانيا قال : ويحتمل أن يكبر ما زاد على الأربع متتابعا كما قلنا في القضاء للمسبوق ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كبر سبعا ومعلوم أنهن لم يرو أنه قرأ قراءتين والأول أصح لأن الثانية وما بعدها جنائز فيعتبر في الصلاة عليهن شروط الصلاة وواجباتها كالأولى

مسألة وفصل : موقف الإمام من الجنازة
مسألة : قال : والإمام يقوم عند صدر الرجل ووسط المرأة
لا يختلف المذهب في أن السنة أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة وعند صدر الرجل أو عند منكبيه وإن وقف في غير هذا الموضع خالف سنة الموقف وأجزأه وهذا قول إسحاق ونحوه قول الشافعي إلا أن بعض أصحابه قال : يقوم عند رأس الرجل وهو مذهب أبي يوسف و محمد لما روي عن أنس : أنه صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير فقال له العلاء بن زياد : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه ؟ قال : نعم فلما فرغ قال : احفظا قال : الترمذي : هذا حديث حسن وقال أبو حنيفة : يقوم عند صدر الرجل والمرأة لأنهما سواء فإذا وقف عند صدر الرجل فكذا المرأة وقال مالك : يقف من الرجل عند وسطه لأنه يروى هذا عن ابن مسعود ويقف عن المرأة عند منكبها لأن الوقوف عند أعاليها أمثل وأسلم
ولنا ما [ روى سمرة قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه و سلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها ] متفق عليه وحديث أنس الذي ذكرناه والمرأة تخالف الرجل في الموقف فجاز أن تخالفه هاهنا ولأن قيامه عند وسط المرأة ستر لها من الناس فكان أولى فأما قول من قال : يقف عند رأس الرجل - فغير مخالف لقول من قال بالوقوف عند الصدر لأنهما متقاربان فالواقف عند أحدهما واقف عند الآخر والله أعلم
فصل : فإن اجتمع جنائز رجال ونساء فعن أحمد روايتان أحدهما يسوي بين رؤوسهم وهذا اختيار القاضي وقول إبراهيم وأهل مكة ومذهب أبي حنيفة لأنه يروى عن ابن عمر أنه كان يسوي بين رؤوسهم وروى سعيد بإسناده عن الشعبي : أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا جميعا فأخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمير المدينة فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما
وبإسناده عن حبيب بن أبي مالك قال : قدم سعيد بن جبير على أهل مكة وهم يسوون بين الرجل والمرأة إذا صلي عليهما فأرادهم على أن يجعلوا على أن يجعلوا رأس المرأة عند وسط الرجل فأبوا عليه والرواية الثانية أن يقف الرجال صفا والنساء صفا ويجعل وسط النساء عند صدور الرجال وهذا اختيار أبي الخطاب ليكون موقف الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة وقال سعيد : حدثني خالد بن يزيد بن أبي مالك الدمشقي قال : حدثني أبي قال : رأيت واثلة بن الأسقع يصلي على جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت فيصف الرجال صفا ثم يصف النساء خلف الرجال راس أول مرأة يضعها عند ركبة آخر الرجال ثم يصفهن ثم يقوم وسط الرجال وإذا كانوا رجالا كلهم صفهم ثم قام وسطهم وهذا يشبه مذهب مالك وقول سعيد بن جبير وما ذكرناه أولى لأنه مدلول عليه بفعل النبي صلى الله عليه و سلم ولا حجة في قول أحد خالف فعله أو قوله والله أعلم

مسألة : لا يصلي على الغائب بعد شهر
وبهذا قال أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يصلي عليه أبدا واختاره ابن عقيل لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنين ] حديث صحيح متفق عليه وقال بعضهم : يصلى عليه ما لم يبل جسده وقال أبو حنيفة : يصلي عليه الولي إلى ثلاث ولا يصلي عليه غيره بحال وقال إسحاق : يصلي عليه الغائب إلى شهر والحاضر إلى ثلاث
ولنا ما روى سعيد بن المسيب [ أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه و سلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر ] أخرجه الترمذي وقال أحمد : أكثر ما سمعنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر ] ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها فجازت الصلاة عليه فيها كما قبل الثلاث وكالغائب وتجويز الصلاة عليه مطلقا باطل بقبر النبي صلى الله عليه و سلم فإنه لا يصلى عليه الآن اتفاقا وكذلك التحديث ببلى الميت فإن النبي صلى الله عليه و سلم لا يبلى ولا يصلى على قبره فإن قيل : فالخبر دل على الجواز بعد شهر فكيف منعتموه قلنا تحديده بالشهر يدل على أن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم كانت عند رأسه ليكون مقاربا للحد وتجوز الصلاة بعد الشهر قريبا منه لدلالة الخبر عليه ولا يجوز بعد ذلك لعدم وروده

مسألة : يستحب تحسين كفن الميت
مسألة : قال : وإذا تشاح الورثة في الكفن جعل بثلاثين درهما فإن كان موسرا فبخمسين
وجملة ذلك أنه يستحب تحسين كفن الميت بدليل ما روى مسلم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل فقال : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) ] ويستحب تكفينه في البياض لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ البسوا من ثيابكم البياض فإنه أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم ] رواه النسائي وكفن رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثلاثة أثواب سحولية وإن تشاح الورثة في الكفن جعل كفنه بحسب حاله إن كان موسرا كان كفنه رفيعا حسنا ويجعل على حسب ما كان يلبس في حال الحياة وإن كان دون ذلك فعلى حسب حاله وقول الخرقي جعل بثلاثين درهما وإن كان موسرا فبخمسين ليس هو على سبيل التحديد إذ لم يرد به نص ولا فيه إجماع والتحديد إنما يكون بأحدهما وإنما هو تقريب فلعله كان يحصل الجيد والمتوسط في وقته بالقدر الذي ذكره وقد روي عن ابن مسعود أنه أوصى أن يكفن بنحو من ثلاثين درهما والمستحب أن يكفن في جديد إلا أن يوصي الميت بغير ذلك فتمتثل وصيته كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : كفنوني في ثوبي هذين فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما هما للمهنة والتراب وذهب ابن عقيل إلى أن التكفين في الخليع أولى لهذا الخبر والأول أولى لدلالة قول النبي صلى الله عليه و سلم وفعل أصحابه عليه

فصلان : نفقة تجهيز الميت
فصل : ويجب كفن الميت لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به ولأن سترته واجبة في الحياة فكذلك بعد الموت ويكون ذلك من رأس ماله مقدما على الدين والوصية والميراث لأن حمزة ومصعب بن عمير رضي الله عنهما لم يوجد لكل واحد منهما إلا ثوب فكفن فيه ولأن لباس المفلس مقدم على قضاء دينه فكذلك كفن الميت ولا ينتقل إلى الوارث من مال الميت إلا ما فضل عن حاجته الأصلية وكذلك مؤونة دفنه وتجهيزه وما لا بد للميت منه فأما الحنوط والطيب فليس بواجب ذكره أبو عبد الله بن حامد لأنه لا يجب في الحياة فكذلك بعد الموت وقال القاضي : يحتمل أنه واجب لأنه مما جرت العادة به وليس بصحيح فإن العادة جرت بتحسين الكفن وليس بواجب
فصل : وكفن المرأة مؤونة دفنها من مالها إن كان لها مال وهذا قول الشافعي و أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يجب على الزوج واختلفوا عن مالك فيه واحتجوا بأن كسوتها ونفقتها واجبة عليه فوجب عليه كفنها كسيد العبد والوالد
ولنا أن النفقة والكسوة تجب في النكاح للتمكن من الاستمتاع ولهذا تسقط بالنشوز والبينونة وقد انقطع ذلك بالموت فأشبه ما لو انقطع بالفرقة في الحياة ولأنها بانت منه بالموت فأشبهت الأجنبية وفارقت المملوك فإن نفقته تجب بحق الملك لا بالانقطاع ولهذا تجب نفقة الآبق وفطرته والوالد أحق بدفنه وتوليه إذا تقرر هذا فإنه إن لم يكن لها مال فعلى من تلزمه نفقتها من الأقارب فإن لم يكن ففي بيت المال كمن لا زوج لها

مسألة وفصل : تغسيل السقط والصلاة عليه وتسميته
مسألة : قال : والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه
السقط الولد تضعه المرأة ميتا أو لغير تمام فأما إن خرج حيا واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل يصلى عليه وإن لم يستهل قال أحمد : إذا أتى له أربعة أشهر غسل وصلي عليه وهذا قول سعيد بن المسيب و ابن سيرين و إسحاق وصلى ابن عمر على ابن لابنته ولد ميتا وقال الحسن و إبراهيم و الحكم و حماد و مالك و الأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يصلى عليه حتى يستهل ولـ الشافعي قولان كالمذهبين لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل ] رواه الترمذي ولأنه لم يثبت له حكم الحياة ولا يرث ولا يورث فلا يصلى عليه كمن دون أربعة أشهر
ولنا ما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ والسقط يصلى عليه ] رواه أبو داود و الترمذي وفي لفظ رواية الترمذي : [ والطفل يصلى عليه ] وقال : هذا حديث حسن صحيح وذكره أحمد واحتج به وبحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : ( ما أحد أحق أن يصلى عليه من الطفل ) ولأنه نسمة نفخ فيه الروح فيصلى عليه كالمستهل فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر في حديثه الصادق المصدوق أنه ينفخ فيه الروح لأربعة أشهر وحديثهم قال الترمذي : قد اضطرب الناس فيه فرواه بعضهم موقوفا قال الترمذي : كان هذا أصح من المرفوع وأما الإرث فلأنه لا تعلم حياته حال موت موروثه وذلك من شروط الإرث والصلاة من شرطها أن تصادف من كانت فيه حياة وقد علم ذلك بما ذكرنا من الحديث ولأن الصلاة عليه دعاء له ولوالديه وخير فلا يحتاج فيها إلى الاحتياط واليقين لوجود الحياة بخلاف الميراث فأما من لم يأت له أربعة أشهر فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ويلف في خرقة ويدفن ولا نعلم فيه خلافا إلا عن ابن سيرين فإنه قال : يصلى عليه إذا علم أنه نفخ فيه الروح وحديث الصادق المصدوق يدل على أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد أربعة أشهر وقبل ذلك فلا يكون نسمة فلا يصلى عليه كالجمادات والدم
مسألة : قال : فإن لم يتبين أذكر هو أم أنثى سمي اسما يصلح للذكر والأنثى
هذا على سبيل الاستحباب لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم ] رواه ابن السماك بإسناده قيل : أنهم إنما يسمون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم فإذا لم يعلم هل السقط ذكر أو أنثى سمي اسما يصلح لهما جميعا كسلمة وقتادة وسعادة وهند وعتبة وهبة الله ونحو ذلك

مسائل وفصول : تغسيل الرجل المرأة والمرأة الرجل
مسألة : قال : وتغسل المرأة زوجها
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المرأة تغسل زوجها إذا مات قالت عائشة : لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا نساؤه رواه أبو داود وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس وكانت صائمة فعزم عليها أن تفطر فلما فرغت من غسله ذكرت يمينه فقالت : لا أتبعه اليوم حنثا فدعت بماء فشربت وغسل أبا موسى امرأته أم عبد الله وأوصى جابر بن زيد أن تغسله امرأته قال أحمد : ليس فيه اختلاف بين الناس
مسألة : قال : وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس
المشهور عن أحمد أن للزوج غسل امرأته وهو قول علقمة و عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود و جابر بن زيد و سليمان بن يسار و أبي سلمة بن عبد الرحمن و قتادة و حماد و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وعن أحمد رواية ثانية ليس للزوج غسلها وهو قول أبي حنيفة و الثوري لأن الموت فرقة تبيح أختها وأربعا سواها فحرمت النظر واللمس كالطلاق
ولنا ما روى ابن المنذر أن عليا ري الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعا ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة رضي الله عنها : ( لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ) ] رواه ابن ماجة والأصل في إضافة الفعل إلى الشخص أن يكون للمباشرة وحمله على الأمر يبطل فائدة التخصيص ولأنه أحد الزوجين فأبيح له غسل صاحبه كالآخر والمعنى فيه أن كل واحد من الزوجين يسهل عليه إطلاق الآخر على عورته دون غيره لما كان بينهما في الحياة ويأتي بالغسل على أكمل ما يمكنه لما بينهما من المودة والرحمة ما قاسوا عليه لا يصح لأنه يمنع الزوجة من النظر وهذا بخلافه ولأنه لا فرق بين الزوجين إلا بقاء العدة ولا أثر لها بدليل ما لو مات المطلق ثلاثا فإنه لا يجوز لها غسله مع العدة ولأن المرأة لو وضعت حملها عقب موته كان لها غسله ولا عدة عليها وقول الخرقي وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس يعني به أنه يكره له غسلها مع وجود من يغسلها سواه لما فيه من الخلاف والشبهة ولم يرد أنه محرم فإن غسلها لو كان محرما لم تبحه الضرورة كغسل ذوات محارمه والأجنبيات
فصل : فإن طلق امرأته ثم مات أحدهما في العدة وكان الطلاق رجعيا فحكمهما حكم الزوجين قبل الطلاق لأنها زوجة تعتد للوفاة وترثه ويرثها ويباح له وطؤها وإن كان بائنا لم يجز لأن اللمس والنظر محرم حال الحياة فبعد الموت أولى وإن قلنا : إن الرجعية محرمة لم يبح لأحدهما غسل صاحبه لما ذكرناه
فصل : وحكم أم الولد حكم المرأة فيما ذكرنا وقال ابن عقيل : يحتمل أن لا يجوز لها غسل سيدها لأن عتقها حصل بالموت ولم يبق علقة من ميراث ولا غيره وهذا قول أبي حنيفة
ولنا أنها في معنى الزوجة في اللمس والنظر والاستمتاع فكذلك في الغسل والميراث ليس من المقتضى بدليل الزوجين إذا كان أحدهما رقيقا والاستبراء هاهنا كالعدة ولأنها إذا ماتت يلزمه كفنها ودفنها ومؤنتها بخلاف الزوجة فأما غير أم الولد من الإماء فيحتمل أن لا يجوز لها غسل سيدها لأن الملك انتقل فيها إلى غيره ولم يكن بينهما من الاستمتاع ما تصير به في معنى الزوجات ولو مات قبل الدخول بامرأته احتمل أن لا يباح لها غسله لذلك والله أعلم
فصل : وإن كانت الزوجة ذمية فليس لها غسل زوجها لأن الكافر لا يغسل المسلم لأن النية واجبة في الغسل والكافر ليس من أهلها وليس لزوجها غسلها لأن المسلم لا يغسل الكافر ولا يتولى دفنه ولأنه لا ميراث بينهما ولا موالاة وقد انقطعت الزوجية بالموت ويتخرج جواز ذلك بناء على جواز غسل المسلم الكافر
فصل : وليس لغير من ذكرنا من الرجال غسل أحد من النساء ولا أحد من النساء غسل غير من ذكرنا من الرجال وإن كن ذوات رحم محرم وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن أبي قلابة أنه غسل ابنته واستعظم أحمد هذا ولم يعجبه وقال : أليس قد قيل : استأذن على أمك وذلك لأنها محرمة حال الحياة فلم يجز غسلها كالأجنبية وأخته من الرضاع فإن دعت الضرورة إلى ذلك بأن لا يوجد من يغسل المرأة من النساء فقال مهنا : سألت أحمد عن الرجل يغسل أخته إذا لم يجد نساء قال : لا قلت : فكيف يصنع قال : يغسلها وعليها ثيابها يصب عليها الماء صبا قلت لـ أحمد : وكذلك كل ذات محرم تغسل وعليها ثيابها قال : نعم وقال الحسن و محمد و مالك لا بأس بغسل ذات محرم عند الضرورة فأما إن مات رجل بين نسوة أجانب أو امرأة بين رجال أجانب أو مات خنثي مشكل فإنه ييمم وهذا قول سعيد بن المسيب و النخعي و حماد و مالك وأصحاب الرأي و ابن المنذر وحكى أبو الخطاب رواية ثانية أنه يغسل من فوق القميص يصب عليه الماء من فوق القميص صبا ولا يمس وهو قول الحسن و إسحاق
ولنا ما روى تمام الرازي في فوائده بإسناده عن مكحول عن واثلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينهما وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجال ] ولأن ا لغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة بل ربما كثرت ولا يسلم من النظر فكان العدول إلى التيمم أولى كما لو عدم الماء

فصل : غسل الأطفال
فصل : وللنساء غسل الطفل بغير خلاف قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة تغسل الصبي الصغير قال أحمد : لهن غسل من له دون سبع سنين وقال الحسن : إذا كان فطيما أو فوقه وقال الأوزاعي : ابن أربع أو خمس وقال أصحاب الرأي : الذي لم يتكلم
ولنا أن من له دون السبع لم نؤمر بأمره بالصلاة ولا عورة له فأشبه ما سلموه فأما من بلغ السبع ولم يبلغ فحكى أبو الخطاب فيه روايتين والصحيح أن من بلغ عشرا ليس للنساء غسله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وفرقوا بينهم في المضاجع ] وأمر بضربهم للصلاة على لعشر يحتمل أن يلحق بمن دون السبع لأنه في معناه ويحتمل أن لا يلحق به لأنه يفارقه في أمره بالصلاة وقربه من المراهق فأما الطفلة الصغيرة فلم ير أبو عبد الله أن يغسلها الرجل وقال : النساء أعجب إلي وذكر له أن الثوري يقول : تغسل المرأة الصبي والرجل الصبية قال : لا بأس أن تغسل المرأة الصبي وأما الرجل يغسل الصبية فلا أجترئ عليه إلا أن يغسل الرجل ابنته الصغيرة فإنه يروى عن أبي قلابة أنه غسل بنتا له صغيرة و الحسن قال : لا باس أن يغسل الرجل ابنته إذا كانت صغيرة وكره غسل الرجل الصغيرة سعيد الزهري قال الخلال : القياس التسوية بين الغلام والجارية لولا أن التابعين فرقوا بينهما فكرهه أحمد لذلك وسوى أبو الخطاب بينهما فجعل فيهما روايتين جريا على موجب القياس والصحيح ما عليه السلف من أن الرجل لا يغسل الجارية والتفرقة بين عورة الغلام والجارية لأن عورة الجارية أفحش ولأن العادة معاناة المرأة للغلام الصغير ومباشرة عورته في حال تربيته ولم تجر العادة بمباشرة الرجل عورة الجارية في الحياة فكذلك حالة الموت والله أعلم
فأما الصبي إذا غسل الميت فإن كان عاقلا صح غسله صغيرا كان أو كبيرا لأنه يصح طهارته فصح أن يطهر غيره كالكبير

فصلان : تغسيل المحرم وتكفينه ولا يصح غسل غير المسلم المسلم
فصل : ويصح أن يغسل المحرم الحلال والحلال المحرم لأن كل واحد منهما تصح طهارته وغسله فكان له أن يغسل غيره
فصل : ولا يصح غسل الكفار المسلم لأنه عبادة وليس الكافر من أهلها وقال مكحول : في امرأة توفيت في سفر ومعها ذو محرم ونساء نصارى يغسلها النساء وقال سفيان : في رجل مات من نساء ليس معهن رجل قال : إن وجدوا نصرانيا أو مجوسيا فلا بأس إذا توضأ أن يغسله ويصلي عليه النساء وغسلت امرأة علقمة امرأة نصرانية ولم يعجب هذا أبا عبد الله وقال : لا يغسله إلا مسلم وييمم لأن الكافر نجس فلا يطهر غسله المسلم ولأنه ليس من أهل العبادة فلا يصح غسله للمسلم كالمجنون وإن مات كافر مع مسلمين لم يغسلوه سواء كان قريبا منهم أو لم يكن ولا يتولوا دفنه إلا أن لا يجدوا من يواريه وهذا قول مالك وقال أبو حفص العكبري : يجوز له غسل قريبه الكافر ودفنه وحكاه قولا لـ أحمد وهو مذهب الشافعي لما روي [ عن علي رضي الله عنه أنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه و سلم : ( إن عمك الشيخ الضال قد مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( اذهب فواره ) ]
ولنا أنه لا يصلي عليه ولا يدعو له فلم يكن له غسله وتولي أمره كالأجنبي والحديث إن صح يدل على مواراته وله ذلك إذا خاف من التغيير به والضرر ببقائه قال أحمد رحمه الله في يهودي أو نصراني مات وله ولد مسلم : فليركب دابة وليسر أمام الجنازة وإذا أراد أن يدفن رجع مثل قول عمر رضي الله عنه

مسألة : تغسيل الشهيد والصلاة عليه
مسألة : قال : والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ولم يصل عليه
يعني إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل رواية واحدة وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن و سعيد بن المسيب قالا : يغسل ما مات ميت إلا جنبا والاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في ترك غسلهم أولى
فأما الصلاة عليه فالصحيح أنه لا يصلى عليه وهو قول مالك و الشافعي و إسحاق وعن أحمد رواية أخرى أنه يصلى عليه اختارها الخلال وهو قول الثوري و أبي حنيفة إلا أن كلام أحمد في هذه الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه مستحبة غير واجبة قال في موضع : إن صلي عليه فلا بأس به وفي موضع آخر قال : يصلى وأهل الحجاز لا يصلون عليه وما تضره الصلاة لا بأس به وصرح بذلك في رواية المروذي فقال : الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ فكأن الروايتين في استحباب الصلاة لا في وجوبها إحداهما يستحب لما روى عقبة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر ] متفق عليه وعن ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم على صلى قتلى أحد ]
ولنا ما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم ] متفق عليه ولأنه لا يغسل مع إمكان غسله فلم يصل عليه كسائر من لم يغسل وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد فإنه صلى عليهم في القبور بعد ثماني سنين وهم لا يصلون على القبر أصلا ونحن لا نصلي عليه بعد شهر : وحديث ابن عباس يرويه الحسن بن عمارة وهو ضعيف وقد أنكر عليه شعبة رواية هذا الحديث وقال : إن جرير بن حازم يكلمني في أن لا أتكلم في الحسن بن عمارة وكيف لا أتكلم فيه وهو يروي هذا الحديث ثم نحمله على الدعاء إذا ثبت هذا فيحتمل أن ترك غسل الشهيد لما تضمنه الغسل من إزالة أثر العبادة المستحسنة شرعا فإنه جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح مسك ] رواه البخاري وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : أما الأثران : فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة الله تعالى ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن وقد جاء ذكر هذه العلة في الحديث فإن عبد الله بن ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا يأتي يوم القيامة يدمي لونه لون الدم وريحه ريح المسك ] رواه النسائي ويحتمل أن الغسل لا يجب إلا من أجل الصلاة إلا أن الميت لا فعل له فامرنا بغسله لنصلي عليه فمن لم تجب الصلاة عليه لم يجب غسله كالحي ويحتمل أن الشهداء في المعركة يكثرون فيشق غسلهم وريما يكنن فيهم الجراح فيتضررون فعفى عن غسلهم لذلك وأما سقوط الصلاة عليهم فيحتمل أن تكون علته كونهم أحياء عند ربهم والصلاة إنما شرعت في حق الموتى ويحتمل أن ذلك لغناهم عن الشفاعة لهم فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله فلا يحتاج إلى شفيع والصلاة إنما شرعت للشفاعة

فصلان : وإن كان جنبا غسل
فصل : فإن كان الشهيد جنبا غسل وحكمه في الصلاة عليه حكم غيره من الشهداء وبه قال أبو حنيفة وقال مالك : لا يغسل لعموم الخبر وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا ما روي [ أن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله ) فقالوا : أنه جامع ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال ] رواه ابن إسحاق في المغازي ولأنه غسل واجب لغير الموت فسقط بالموت كغسل النجاسة وحديثهم لا عموم له فإنه قضية في عين ورد في شهداء أحد وحديثنا خاص في حنظلة وهو من شهداء أحد فيجب تقديمه : إذا ثبت هذا فمن وجب الغسل عليه بسبب سابق على الموت كالمرأة تطهر من حيض أو نفاس ثم تقتل فهي كالجنب للعلة التي ذكرناها ولو قتلت في حيضها أو نفاسها لم يجب الغسل لأن الطهر من الحيض شرط في الغسل أو في السبب الموجب فلا يثبت الحكم بدونه فأما إن أسلم ثم استشهد فلا غسل عليه لأنه روي أن أصيرم بن عبد الأشهل أسلم يوم أحد ثم قتل فلم يؤمر بغسله
فصل : والبالغ وغيره سواء وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ لأنه ليس من أهل القتال
ولنا أنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم أشبه البالغ ولأنه أشبه البالغ في الصلاة عليه والغسل إذا لم يقتله المشركون فيشبه في سقوط ذلك عنه بالشهادة وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وهما صغيران والحديث عام في الكل وما ذكره يبطل بالنساء

مسألتان : الشهيد يدفن بثيابه وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه
مسألة : قال : ودفن في ثيابه وإن كان عليه شيء من الجلود والسلاح نحي عنه
أما دفنه بثيابه فلا نعلم فيه خلافا وهو ثابت بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ادفنوهم بثيابهم ] وروى أبو داود و ابن ماجة عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم ] وليس هذا بحتم لكنه الأولى وللولي أن ينزع عنه ثيابه ويكفنه بغيرها وقال أبو حنيفة : لا ينزع عنه شيء لظاهر الخبر
ولنا ما روي [ أن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثوبين ليكفن فيهما حمزة فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر ] رواه يعقوب بن شيبة وقال : هو صالح الإسناد فدل على أن الخيار إلى الولي والحديث الآخر يحمل على الإباحة والاستحباب إذا ثبت هذا فإنه ينزع عنه من لباسه ما لم يكن من عامة لباس الناس من الجلود والفراء والحديد قال أحمد : لا يترك عليه فرو ولا خف ولا جلد وبهذا قال الشافعي و أبو حنيفة وقال مالك : لا ينزع عنه فرو ولا خف ولا محشو لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ادفنوهم بثيابهم ] وهذا عام في الكل وما رويناه أخص فكان أولى
مسألة : قال : وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه
معنى قوله : رمق أي حياة مستقرة فهذا يغسل ويصلى عليه وإن كان شهيدا لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدا رماه ابن العرفة يوم الخندق بسهم فقطع أكحله فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما حتى حكم في بني قريظة ثم انفتح جرحه فمات ] وظاهر كلام الخرقي أنه متى طالت حياته بعد حمله غسل وصلي عليه وإن مات في المعترك أو عقب حمله لم يغسل ولم يصل عليه ونحو هذا قول مالك قال : إن أكل أو شرب أو بقي يومين أو ثلاثة غسل وقال أحمد في موضع : إن تكلم أو أكل أو شرب صلي عليه وقول أصحاب أبي حنيفة نحو من هذا وعن أحمد أنه سئل عن المجروح إذا بقي في المعترك يوما إلى الليل ثم مات فرأى أن يصلى عليه وقال أصحاب الشافعي : إن مات حال الحرب لم يغسل ولم يصل عليه وإلا فلا والصحيح التحديد بطول الفصل أو الأكل لأن الأكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة وطول الفصل يدل على ذلك وقد ثبت اعتباره في كثير من المواضع وأما الكلام والشرب وحالة الحرب فلا يصح التحديد بشيء منها لأنه يروى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم أحد : ( من ينظر ما فعل سعد بن الربيع ؟ ) فقال رجل أنا أنظر لك يا رسول الله فنظر فوجده جريحا به رمق فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرين أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات قال : فأنا في الأموات فأبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم عني السلام وذكر الحديث قال : ثم لم أبرح أن مات ] وروي أن أصيرم بن عبد الأشهل وجد صريعا يوم أحد فقيل له : ما جاء بك ؟ قال : أسلمت ثم جئت وهما من شهداء أحد دخلا في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ادفنوهم بدمائهم وثيابهم ] ولم يغسلهم ولم يصل عليهم وقد تكلما وماتا بعد انقضاء الحرب وفي قصة أهل اليمامة عن ابن عمر أنه طاف في القتلى فوجد أبا عقيل الأنفي قال : فسقيته ماء وبه أربعة عشر جرحا كلها قد خلص إلى مقتل فخرج الماء من جراحاته كلها فلم يغسل وفي فتوح الشام أن رجلا قال : أخذت ماء لعلي اسقي ابن عمي إن وجدت به حياة فوجدت الحارث بن هشام فأردت أن أسقيه فإذا رجل ينظر إليه فأومأ أن اسقيه فذهبت إليه لأسقيه فإذا آخر ينظر إليه فأومأ لي أن اسقيه فلم أصل أليه حتى ماتوا كلهم ولم يفرد أحد منهم بغسل ولا صلاة وقد ماتوا بعد انقضاء الحرب

فصل : وإن عاد للشهيد سلاحه فقتله
فإن كان الشهيد عاد عليه سلاحه فتله فهو كالمقتول بأيدي العدو وقال القاضي : يغسل ويصلى عليه لأنه مات بغير أيدي المشركين أشبه ما لو أصابه ذلك في غير المعترك
ولنا ما روى أبو داود [ عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : أغرنا على حي من جهينة فطلب رجل من المسلمين رجلا منهم فضربه فأخطاه فأصاب نفسه بالسيف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أخوكم يا معشر المسلمين ) فابتدره الناس فوجوده قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه و سلم بثيابه ودمائه وصلى عليه فقالوا يا رسول الله أشهيد هو ؟ قال : ( نعم وأنا له شهيد ) ] وعامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فذهب يسفل له فرجع سيفه على نفسه فكانت فيها نفسه فلم يفرد عن الشهداء بحكم ولأنه شهيد المعركة فأشبه ما لو قتله الكفار وبهذا فارق ما لو كان في غير المعترك فأما إن سقط من دابته أو وجد ميتا ولا أثر به فإنه يغسل نص عليه أحمد وتأول الحديث : [ ادفنوهم بكلومهم ] فإذا كان به كلم لم يغسل وهذا قول أبي حنيفة في الذي يوجد ميتا لا أثر به وقال الشافعي : لا يغسل بحال لاحتمال أنه مات بسبب من أسباب القتال
ولنا أن الأصل وجوب الغسل فلا يسقط بالاحتمال ولأن سقوط الغسل في محل الوفاق مقرون بمن كلم فلا يجوز حذف ذلك عن درجة الاعتبار

فصل : غسل الشهيد في قتال أهل البغي والصلاة عليه
فصل : ومن قتل من أهل العدل في المعركة فحكمه في الغسل والصلاة حكم من قتل في معركة المشركين لأن عليا رضي الله عنه لم يغسل من قتل معه وعمار أوصى أن لا يغسل وقال : ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم قال أحمد : قد أوصى أصحاب الجمل إنا مستشهدون غدا فلا تنزعوا عنا ثوبا ولا تغسلوا عنا دما ولأنه شهيد المعركة أشبه قتيل الكفار وهذا قول أبي حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه : يغسلون لأن أسماء غسلت ابنها عبد الله بن الزبير والأول أولى لما ذكرناه وأما عبد الله بن الزبير فإنه أخذ وصلب فهو كالمقتول ظلما وليس بشهيد المعركة
وأما الباغي فقال الخرقي : من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه ويحتمل إلحاقه بأهل العدل لأنه لم ينقل إلينا غسل أهل الجمل وصفين من الجانبين ولأنهم يكثرون في المعترك فيشق غسلهم فأشبهوا أهل العدل فأما الصلاة على أهل العدل فيحتمل أن لا يصلى عليهم لأننا شبهناهم بشهداء معركة المشركين في الغسل فكذلك في الصلاة ويحتمل أن يصلى عليهم لأن عليا رضي الله عنه صلى عليهم

فصلان : تغسيل شهداء غير المعركة والصلاة عليهم
فصل : فأما من قتل ظلما أو قتل دون ماله أو دون نفسه وأهله ففيه روايتان إحداهما بغسل اخترها الخلال وهون قول الحسن ومذهب الشافعي و مالك لأن رتبته دون رتبة الشهيد في المعترك فأشبه المبطون ولأن هذا لا يكثر القتل فيه فلم يجز إلحاقه بشهيد المعترك والثانية لا يغسل ولا يصلى عليه وهو قول الشعبي و الأوزاعي و إسحاق في الغسل لأنه قتل شهيدا أشبه شهيد المعترك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل دون ماله فهو شهيد ]
فصل : فأما الشهيد بغير قتل كالمبطون والمطعون والغرق وصاحب الهدم والنفساء فإنهم يغسلون ويصلى عليهم لا نعلم فيه خلافا إلا ما يحكى عن الحسن : لا يصلى على النفساء لأنها شهيدة
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها ] متفق عليه وصلى على سعد بن معاذ وهو شهيد وصلى المسلمون على عمر وعلي رضي الله عنهما وهما شهيدان وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح متفق عليه
وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الشهادة سبع سوى القتل ] وزاد على ما ذكر في هذا الخبر صاحب الحريق وصاحب ذات الجنب والمرأة تموت بجمع شهيدة وكل هؤلاء يغسلون ويصلى عليهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم ترك غسل الشهيد في المعركة لما يتضمنه من إزالة الدم المستطاب شرعا أو لمشقة غسلهم لكثرتهم أو لما فيهم من الجراح ولا يوجد ذلك هاهنا

فصلان : حكم الصلاة على موتى المسلمين إذا اشتبهوا بموتى غيرهم وإذ وجد ميتا فلم يعلم أمسلم هو ؟ !
فصل : فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين فلم يميزوا صلي على جميعهم ينوي المسلمين قال أحمد : ويجعلهم بينه وبين القبلة ثم يصلي عليهم وهذا قول مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان المسلمون أكثر صلى عليهم وإلا فلا لأن الاعتبار بالأكثر بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها الإسلام لكثرة المسلمين بها وعكسها دار الحرب لكثرة من بها من الكفار
ولنا أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر فوجب كما لو كانوا أكثر ولأنه إذا جاز أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر جاز قصد الأقل ويبطل ما قالوه بما إذا اختلطت أخته بأجنبيات أو ميتة بمذكيات ثبت الحكم للأقل دون الأكثر
فصل : وإن وجد ميت فلم يعلم أمسلم هو أم كافر نظر إلى العلامات من الختان والثياب والخضاب فإن لم يكن عليه علامة وكان في دار الإسلام غسل وصلي عليه وإن كان في دار الكفر لم يغسل ولم يصل عليه نص عليه أحمد لأن الأصل أن من كان في دار فهو من أهلها يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل

مسألة : المحرم : تغسيله وتكفينه
مسألة : قال : والمحرم يغسل بماء وسدر ولا يقرب طيبا ويكفن في ثوبيه ولا يغطى رأسه ولا رجلاه
إنما كان كذلك لأن المحرم لا يبطل حكم إحرامه بموته فلذلك جنب ما يجنبه المحرم من الطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط وقطع الشعر روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وبه قال عطاء و الثوري و الشافعي و إسحاق وقال مالك و الأوزاعي و أبو حنيفة : يبطل إحرامه بالموت ويصنع به كما يصنع بالحلال وروي ذلك عن عائشة و ابن عمر طاوس لأنها عبادة شرعية فبطلت بالموت كالصلاة والصيام
ولنا ما [ روى ابن عباس أن رجلا وقصه بعيره ونحنن مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبدا ) ] وفي رواية [ ملبيا ] متفق عليه فإن قيل : هذا خاص له لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا قلنا : حكم النبي صلى الله عليه و سلم في واحد حكمه في مثله إلا أن يرد تخصيصه ولهذا ثبت حكمه في شهداء أحد في سائر الشهداء وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ] قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : في هذا الحديث خمس سنن كفنوه في ثوبيه أي يكفن في ثوبين وأن يكون في الغسلات كلها سدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا ويكون الكفن من جميع المال وقال أحمد في موضع : يصب عليه الماء صبا ولا يغسل كما يغسل الحلال وإنما كره عرك رأسه ومواضع الشعر كيلا يتقطع شعره واختلف عنه في تغطية رجليه فروى حنبل عنه لا تغطى رجلاه وهو الذي ذكره الخرقي وقال الخلال : لا أعرف هذا في الأحاديث ولا رواه أحدج عن أبي عبد الله غير حنبل وهو عندي وهم من حنبل والعمل على أنه يغطى جميع المحرم إلا رأسه لأن إحرام الرجل في رأسه ولا يمنع من تغطية رجليه في حباته فكذلك في مماته واختلفوا عن أحمد في تغطية وجهه فنقل عنه إسماعيل بن سعيد لا يغطى وجهه لأن في بعض الحديث : [ ولا تخمروا رأسه ولا وجهه ] ونقل نه سائر أصحابه لا بأس بتغطية وجهه لحديث ابن عباس الذي رويناه وهو أصح ما روي فيه وليس فيه إلا المنع من تغطية الرأس ولأن إحرام الرجل في رأسه ولا يمنع من تغطية وجهه في الحياة فبعد الموت أولى ولم ير أن يلبس المحرم المخيط بعد موته كما لا يلبسه في حياته وإن كان الميت امرأة محرمة ألبست القميص وخمرت كما تغل ذلك في حياتها ولم تقرب طيبا لأنه يحرم عليها في حياتها فكذلك بعد موتها

مسألة وفصلان : حكم ما ينفصل من بدن الميت وما يخشى تقطعه بالغسل
مسألة : قال : وإن سقط من الميت شيء غسل وجعل معه في أكفانه
وجملته أنه إذا بان من الميت شيء وهو موجود غسل وجعل معه في أكفانه قاله ابن سيرين ولا نعلم فيه خلافا وقد روي عن أسماء أنها غسلت ابنها فكانت تنزعه أعضاء كلما غسلت عضوا طيبته وجعلته في كفنه ولأن في ذلك جمع أجزاء الميت في موضع واحد وهو أولى من تفريقها
فصل : فإن لم يوجد إلا بعض الميت فالمذهب أنه يغسل ويصلى عليه وهو قول الشافعي ونقل ابن منصور عن أحمد أنه لا يصلى على الجوارح قال الخلال ولعله قول قديم لـ أبي عبد الله والذي استقر عليه قول أبي عبد الله أنه يصلى على الأعضاء وقال أبو حنيفة و مالك : إن وجد الأكثر صلي عليه وإلا فلا لأنه بعض لا يزيد على النصف فلم يصل عليه كالذي بان في حياة صاحبه والشعر والظفر
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم قال أحمد : صلى أبو أيوب على رجل وصلى عمر على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس بالشام رواهما عبد الله بن أحمد بإسناده وقال الشافعي : ألقى طائر يدا بمكة من وقعة الجمل فعرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصلى عليها أهل مكة وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم نعرف من الصحابة مخالفا في ذلك ولأنه بعض من جملة تجب الصلاة عليهما فيصلى عليه كالأكثر وفارق ما بان في الحياة لأنه من جملة لا يصلى عليها والشعر والظفر لا حياة فيه
فصل : وإن وجد الجزء بعد دفن الميت غسل وصلى عليه ودفن إلى جانب القبر أو نبش بعض القبر ودفن فيه ولا حاجة إلى كشف الميت لأن ضرر نبش الميت وكشفه أعظم من الضرر بتفرقة أجزائه
فصل : والمجدور والمحترق والغريق إذا أمكن غسله غسل وإن خيف تقطعه بالغسل صب عليه الماء صبا ولم يمس فإن خيف تقطعه بالماء لم يغسل وييمم إن أمكن كالحي الذي يؤذيه الماء وإن تعذر غسل الميت لعدم الماء يمم وإن تعذر غسل بعضه دون بعض غسل ما أمكن غسله ويمم الباقي كالحي سواء
فصل : فإن مات في بئر ذات نفس فأمكن معالجة البئر بالأكسية المبلولة تدار في البئر حتى تجتذب بخاره ثم ينزل من يطلعه أو أمكن إخراجه بكلاليب من غير مثلة لزم ذلك لأنه أمكن غسله من غير ضرر فلزم كما لو كان على ظهر الأرض وإذا شك في زوال بخاره أنزل إليه سراج أو نحوه فإن انطفأ فالبخار باق وإن لم ينطفئ فقد زال فإنه يقال : لا تبقى النار إلا فيما يعيش فيه الحيوان وإن لم يمكن إخراجه إلا بمثلة ولم يكن إلى البئر حاجة طمت عليه فكانت قبره وإن كان طمها يضر بالمارة أخرج بالكلاليب سواء أفضى إلى المثلة أو لم يفض لأن فيه جمعا بين حقوق كثيرة نفع المارة وغسل الميت وربما كانت المثلة في بقائه أعظم لأنه يتقطع وينتن فإن نزل على البئر قوم فاحتاجوا إلى الماء وخافوا على أنسهم فلهم إخراجه وجها واحدا وإن حصلت مثلة لأن ذلك أسهل من تلف نفوس الأحياء ولهذا لو لم يجد من السترة إلا كفن الميت واضطر الحي إليه قدم الحي ولأن حرمة الحي وحفظ نفسه أولى من حفظ الميت عن المثلة لأن زوال الدنيا أهون على الله من قتل مسلم ولأن الميت لو بلع مال غيره شق بطنه لحفظ مال الحي وحفظ النفس أولى من حفظ المال والله أعلم

مسألة وفصلان : قص شارب الميت وأظافره وختانه
مسألة : قال : وإن كان شاربه طويلا أخذ وجعل معه
وجملته أن شارب الميت إن كان طويلا استحب قصه وهذا قول الحسن و بكر بن عبد الله و سعيد بن جبير و إسحاق وقال أبو حنيفة و مالك : لا يؤخذ من الميت شيء فإنه قطع شيء منه فلم يستحب كالختان واختلف أصحاب الشافعي كالقولين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم ] والعروس يحسن ويزال عنه ما يستقبح من الشارب وغيره ولأن تركه يقبح منظره فشرعت إزالته كفتح عينيه وفمه شرع ما يزيله ولأنه فعل مسنون في الحياة لا مضرة فيه فشرع بعد الموت كالاغتسال ويخرج على هذا الختان لما فغيه من المضرة فإذا أخذ الشعر جعل معه في أكفانه لأنه من الميت فيستحب جعله في أكفانه كأعضائه وكذلك كل ما أخذ من الميت من شعر أو ظفر أو غيرهما فإنه يغسل ويجعل معه في أكفانه كذلك
فصل : فأما الأظافر إذا طالت ففيها روايتان : أحدهما لا تقلم قال أحمد : لا تقلم أظفاره وينقى وسخها وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : و الخلال يستعمل إن احتيج إليه و الخلال يزال به ما تحت الأظفار لأن الظفر لا يظهر كظهور الشارب فلا حاجة إلى قصه والثانية يقص إذا كان فاحشا نص عليه لأنه من السنة ولا مضرة فيه فيشرع أخذه كالشارب ويمكن أن تحمل الرواية الأولى على ما إذا لم تكن فاحشة وأما العانة فظاهر كلام الخرقي أنها لا تؤخذ لتركه ذكرها وهو قول ابن سيرين و مالك و أبي حنيفة لأنه يحتاج في أخذها إلى كشف العورة ولمسها وهتك الميت وذلك محرم لا يفعل لغير واجب ولأن العورة مستورة يستغنى بسترها عن إزالتها وروي عن أحمد أن أخذها مسنون وهو قول الحسن و بكر بن عبد الله و سعيد بن جبير و إسحاق لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت ولأنه شعر إزالته من السنة فأشبه الشارب والأول أولى ويفارق الشارب العانة لأنه ظاهر يتفاحش لرؤيته ولا يحتاج في أخذه إلى كشف العورة ولا مسها فإذا قلنا : يأخذها فإن حنبلا روى أن أحمد سئل ترى أن تستعمل النورة ؟ قال : الموسى أو مقراض يؤخذ به الشعر من عانته وقال القاضي : تزال بالنورة لأنه أسهل ولا يمسها ووجه قول أحمد أنه فعل سعد والنورة لا يؤمن أن تتلف جلد الميت
فصل : فأما الختان فلا يشرع لأنه إبانة جزء من أعضائه وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن بعض الناس أنه يختن حكاه الإمام أحمد والأول أولى لما ذكرناه ولا يحلق راس الميت لأنه ليس من السنة في الحياة وإنما يراد لزينة أو نسك ولا يطلب شيء من ذلك هاهنا

فصل : حكم الأعضاء المزروعة في البدن
فصل : وان جبر عظمه بعظم فجبر ثم مات لم ينزع أن كان طاهرا وان كان نجسا فأمكن إزالته من غير مثله أزيل لأنه نجاسه مقدور على إزالتها من غير مضرة وان أفضى إلى المثلة لم يقلع وصار في حكم الباطن كما لو كان حيا وان كان على الميت جبيرة يقضي نزعها إلى مثلة مسحت كمسح جبيرة الحي وإن لم يفض إلى مثلة نزعت فغسل ما تحتها قال أحمد : في الميت تكون أسنانه مربوطة بذهب أن قدر على نزعه من غير أن يسقط بعض أسنانه نزعه وإن خاف أن يسقط بعضها تركه

فصل : ما يفعل بالمشنج والأحدب وأمثالهما إذا مات
فصل : ومن كان مشنجا أو به حدب أو نحو ذلك فأمكن تمديده بالتليين والماء الحار فعل ذلك وإن لم يمكن إلا بعنف تركه بحاله فإن كان على صفة لا يمكن تركه على النعش إلا على وجه يشتهر بالمثلة ترك في تابوت أو تحت مكبة مثل ما يصنع بالمرأة لأنه أصون وأستر لحاله

فصل : صفة ستر المرأة قبل الدفن
فصل : ويستحب أن يترك فوق سرير المرأة شيء من الخشب أو الجريد مثل القبة يترك فوقه ثوب ليكون أستر لها وقد روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم رضي الله عنها أول من صنع لها ذلك بأمرها

مسألة وفصول : استحباب تعزية أهل الميت
مسألة : قال : ويستحب تعزية أهل الميت
لا نعلم في هذه المسألة خلافا إلا أن الثوري قال : لا تستحب التعزية بعد الدفن لأنه خاتمة أمره
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ من عزى مصابا فله مثل أجره ] رواه الترمذي وقال : وهو حديث غريب
وروى ابن ماجة في سننه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة ] وقال أبو برزة : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة ] قال الترمذي : هذا ليس إسناده بالقوي والمقصود بالتعزية تسلية أهل المصيبة وقضاء حقوقهم والتقرب إليهم والحاجة إليها بعد الدفن كالحاجة إليها قبله
فصل : ويستحب تعزية جميع أهل المصيبة كبارهم وصغارهم ويخص خيارهم والمنظور إليه من بينهم لستن به عيره ودا الضعف منهم عن تحمل المصيبة لحاجته إليها ولا يعزي الرجل الأجنبي شواب النساء مخافة الفتنة
فصل : ولا نعلم في التعزية شيئا محدودا إلا أنه يروى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم عزى رجلا فقال : ( رحمك الله وآجرك ) ] رواه الإمام أحمد وعزى أحمد أبا طالب فوقف على باب المسجد فقال : أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم وقال بعض أصحابنا : إذا عزى مسلما بمسلم قال : أعظم الله أجرك وأحسن عزاك ورحم ميتك واستحب بعض أهل العلم أن يقول ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وجاءت التعزية سمعوا قائلا يقول : إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل ما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب رواه الشافعي في مسنده وإن عزى مسلما بكافر قال : أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك
فصل : وتوقف أحمد رحمه الله عن تعزية أهل الذمة وهي تخرج على عيادتهم وفيها روايتان أحدهما لا نعودهم فكذلك لا تعزيهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تبدؤوهم بالسلام ] وهذا في معناه والثانية نعودهم لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى غلاما من اليهود كان مرض يعوده فقعد عند رأسه فقال له : ( أسلم ) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له : أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه و سلم وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار ) ] رواه البخاري فعلى هذا نعزيهم فنقول في تعزيتهم بمسلم : أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وعن كافر أخلف الله عليك ولا نقص عددك ويقصد زيادة عددهم لتكثر جزيتهم وقال أبو عبد الله بن بطة يقول : أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل دينك فأما الرد من المعزى فبلغنا عن أحمد بن الحسين قال : سمعت أبا عبد الله وهو يعزي في عبثر ابن عمه وهو يقول : استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك
فصل : قال أبو الخطاب : يكره الجلوس للتعزية وقال ابن عقيل : يكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهييجا للحزن وقال أحمد : أكره التعزية عند القبر إلا لمن لم يعز فيعزي إذا دفن الميت أو قبل أن يدفن وقال : إن شئت أخذت بيد الرجل في التعزية وإن شئت لم تأخذ وإذا رأى الرجل قد شق ثوبه على المصيبة عزاه ولم يترك حقا لباطل وإن نهاه فحسن

مسألة وفصول : والندب والنياحة
مسألة : قال : والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة
أما البكاء بمجرده فلا يكره في حال وقال الشافعي : يباح إلى أن تخرج الروح ويكره بعد ذلك لما روى عبد الله بن عتيك قال : [ جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عبد الله بن ثابت يعوده فوجده قد غلب فصاح به فلم يجبه فاسترجع وقال : ( غلبنا عليك يا أبا الربيع ) فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ( دعهن فإذا وجب فلا تبكني باكية ) ] يعني إذا مات
ولنا ما [ روى أنس قال : شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان ] و [ قبل النبي صلى الله عليه و سلم عثمان بن مظعون وهو ميت ورفع رأسه وعيناه تهراقان ] و [ قال أنس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب وإن عيني رسول الله صلى الله عليه و سلم لتذرفان ] وقالت عائشة : دخل أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبله ثم بكى وكلها أحاديث صحاح وروى الأموي في المغازي عن عائشة أن سعد بن معاذ لما مات جعل أبو بكر وعمر ينتحبان حتى اختلطت علي أصواتهما وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على سعد بن عبادة وهو في غاشيته فبكى وبكى أصحابه وقال : ( ألا تسمعون ؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم ) ] وعنه عليه السلام : [ أنه دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ فقال : ( يا ابن عوف أنها رحمة ) ثم أتبعها بأخرى فقال : ( إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما رضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) ] متفق عليهما وحديثهم محمول على رفع الصوت والندب وشبههما بدليل ما روى جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ ابنه فوضعه في حجره فبكى فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتبكي أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ قال : ( لا ولكنن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان ) ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وهذا يدل على أنه لم ينه عن مطلق البكاء وإنما نهى عنه موصوفا بهذه الصفات وقال عمر رضي الله عنه : ما على نساء بني المغيرة أن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع لقلقة قال أبو عبد : اللقلقة رفع الصوت والنقع التراب يوضع على الرأس
فصل : وأما الندب فهو تعداد محاسن الميت وما يلقون بفقده بلفظ النداء لأنه يكون بالواو مكان الياء وربما زيدت فيه الألف والهاء مثل قولهم وارجلاه واجبلاه وانقطاع ظهراه وأشباه هذا والنياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب وضرب الخدود والدعاء بالويل والثبور فقال بعض أصحابنا : هو مكروه ونقل حرب عن أحمد كلاما فيه احتمال إباحة النوح والندب اختاره الخلال وصاحبه لأن واثلة بن الأسقع وأبا وائل كانا يستمعان النوح ويبكيان وقال أحمد : إذا ذكرت المرأة مثل ما حكي عن فاطمة في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح يعني لا باس به وروي عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت : يا أبتاه من ربه ما أدناه يا أبتاه إلى جبريل أنعاه يا أبتاه أجاب ربا دعاه وروي عن علي رضي الله عنه : أن فاطمة رضي الله عنها أخذت قبضة من تراب قبر النبي صلى الله عليه و سلم فوضعتها على عينها ثم قالت :
( ماذا على مشتم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا )
( صبت علي مصيبة لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا )
وظاهر الأخبار تدل على تحريم النوح وهذه الأشياء المذكورة لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها في حديث جابر لقول الله تعالى : { ولا يعصينك في معروف } قال أحمد : هو النوح ولعن النبي صلى الله عليه و سلم النائحة والمستمعة و [ قالت أم عطية : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم عند البيعة أن لا ننوح ] متفق عليهن وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ] متفق عليه ولأن ذلك يشبه الظلم والاستغاثة والسخط بقضاء الله وفي بعض الآثار إن أهل البيت إذا دعوا بالويل والثبور وقف ملك الموت في عتبة الباب وقال : إن كانت صيحتكم علي فإن مأمور وإن كانت على ميتكم فإنه مقبور وإن كان على ربكم فالويل لكم والثبور وإن لي فيكم عودات ثم عودات وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حضرتم الميت فقولوا خيرا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ]
فصل : وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الميت يعذب في قبره بما يناح عليه ] وفي لفظ : [ إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ] وروي ذلك عن عمر وابنه والمغيرة وهي أحاديث متفق عليها واختلف أهل العلم في معناها فحملها قوم على ظواهرها وقالوا : يتصرف في خلقه بما شاء وأيدوا ذلك بما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ نما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول : واجبلاه واسنداه ونحو ذلك إلا وكل الله به ملكني يلهزانه أهكذا كنت ؟ ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي وتقول : واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق : ما قلت لي شيئا إلا قيل لي أنت كذلك ؟ فلما مات لم تبك عليه أخرجه البخاري وأنكرت عائشة رضي الله عنها حملها على ظاهرها ووافقها ابن عباس قال ابن عباس : ذكرت لعائشة فقالت : يرحم الله ما حدث رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ] ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ] وقالت : حسبكم القرآن { ولا تزر وازرة وزر أخرى } قال ابن عباس : عند ذلك والله أضحك وأبكي وذكر ذلك ابن عباس لابن عمر حين روى حديثه فما قال شيئا رواه مسلم وحمله قوم على من كان النوح بسببه ولم ينه أهله لقول الله تعالى : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ] وحمله آخرون على من أوصى بذلك في حياته كقول طرفة :
( إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا بنت معبد )
وقال آخر :
( من كان من أمهاتي باكيا أبدا ... فاليوم أبي أراني اليوم مقبوضا )
( سمعتنيه فإني غير سامعه ... إذا جعلت على الأعناق معروضا )
ولا بد من حمل البكاء في هذه الأحاديث على البكاء غير المشروع وهو الذي معه ندب ونياحة ونحو هذا بدليل ما قدمناه من الأحاديث في صدر المسألة
فصل : وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه ويتمثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة ويتنجز ما وعد الله به الصابرين حيث يقول سبحانه { وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } وروى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : { إنا لله وإنا إليه راجعون } اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ] قالت : فلما مات أبو سلمة قلت : كما أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخلف لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه و سلم وليحذر أن يتكلم بشيء يحبط أجره ويسخط ربه مما يشبه التظلم والاستغاثة فإن الله عدل لا يجور وله ما أخذ وله ما أعطى وهو الفعال لما يريد فلا يدعو على نفسه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما مات أبو سلمة : [ لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ] ويحتسب ثواب الله ويحمده لما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم فيقول : قبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع فيقول : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب

مسألة : استحباب صنع الطعام لأهل الميت
مسألة : قال : ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعاما يبعث به إليهم ولا يصلحون هم طعاما يطعمون الناس
وجملته أنه يستحب إصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم إعانة لهم وجبرا لقلوبهم فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم وقد روى أبو داود في سننه بإسناده [ عن عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد أتاهم أمر شغلهم ) ] وروي عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال : فما زالت السنة فينا حتى تركها من تركها فأما صنع أهل الميت طعاما للناس فمكروه لأن فيه زيادة على مصيبتهم وشغلا لهم إلى شغلهم وتشبها بصنع أهل الجاهلية ويروى أن جريرا وفد على عمر فقال : هل يناح على ميتكم ؟ قال : لا قال : وهل يجتمعون عند أهل الميت ويجعلون الطعام ؟ قال : نعم قال : ذاك النوح وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه

مسألة : إخراج الجنين من بطن أمه إذا ماتت
مسألة : قال : والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك فلا يشق بطنها ويسطو عليه القوابل فيخرجنه
معنى يسطو القوابل أن يدخلن أيديهن في فرجها فيخرجن الولد من مخرجه والمذهب أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها مسلمة كانت أو ذمية وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة وإن لم يوجد نساء لم يسط الرجال عليه وتترك أمه حتى يتيقن موته ثم تدفن ومذهب مالك و إسحاق قريب من هذا ويحتمل أن يشق بطن الأم إن غلب على الظن أن الجنين يحيا وهو مذهب الشافعي لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء حي فجاز كما لو خرج بعضه حيا ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق ولأنه يشق لإخراج المال مه فلإبقاء الحي أولى
ولنا أن هذا الولد لا يعيش عادة ولا يتحقق أنه يحيا فلا يجوز هتك حرمة متيقنة لأمر موهوم وقد قال عليه السلام : [ كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ] رواه أبو داود وفيه مثلة وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة وفارق الأصل فإن حياته متيقنة وبقاءه مظنون فعلى هذا إن خرج بعض الولد حيا ولم يمكن إخراجه إلا بشق شق المحل وأخرج لما ذكرنا وإن مات على تلك الحال فأمكن إخراجه أخرج وغسل وإن تعذر غسله ترك وغسلت الأم وما ظهر من الولد وما بقي ففي حكم الباطن لا يحتاج إلى التيمم من أجله لأن الجميع كان في حكم الباطن فظهر البعض فتعلق به الحكم وما بقي فهو على ما كان عليه ذكر هذا ابن عقيل وقال : هي حادثة سئلت عنها فأفتيت فيها

فصول : ما يشق بطن الميت وينبش قبره لأجله
فصل : وإن بلع الميت مالا لم يخل من أن يكون له أو لغيره فإن كان له لم يشق بطنه لأنه استهلكه في حياته ويحتمل أنه إن كان يسيرا ترك وإن كثرت قيمته شق بطنه وأخرج لأن فيه حفظ المال عن الضياع ونفع الورثة الذين تعلق حقهم بما له بمرضه وإن كان المال لغيره وابتلعه بإذنه فهو كماله لأن صاحبه أذن في إتلافه وإن بلعه غصبا ففيه وجهان : أحدهما لا يشق بطنه ويغرم من تركته لأنه إذا لم يشق من أجل الولد المرجو حياته فمن أجل المال أولى والثاني يشق إن كان كثيرا لأن فيه دفع الضرر عن المالك برد ماله إليه وعن الميت بإبراء ذمته وعن الورثة بحفظ التركة لهم ويفارق الجنين من وجهين : أحدهما أنه لا يتحقق حياته والثاني أنه ما حصل بجنايته فعلى هذا الوجه إلا بلي جسده وغلب على الظن ظهور المال وتخلصه من أعضاء الميت جاز نبشه وإخراجه وقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أن هذا قبر أبي رغال وآية ذلك أن معه غصنا من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه ] فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن ولو كان في أذن الميت حلق أو في إصبعه خاتم أخذ فإن صعب أخذه برد وأخذ لأن تركه تضييع للمال
فصل : وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخرج قال أحمد : إذا نسي الحفار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها وقال في الشيء يسقط في القبر مثل الفأس والدراهم : ينبش قال : إذا كان له قيمة يعني ينبش قيل : فإن أعطاه أولياء الميت ؟ قال : إن أعطوه حقه أي شيء يريد وقد روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : خاتمي ففتح موضع منه فأخذ المغيرة خاتمه فكان يقول : أنا أقربكم عهدا برسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل : وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة نبش وغسل ووجه إلا أن يخاف عليه أن يتفسخ يترك وهذا قول مالك و الشافعي و أبي ثور وقال أبو حنيفة : لا ينبش لأن النبش مثلة وقد نهي عنها
ولنا أن الصلاة تجب ولا تسقط بذلك كإخراج إما له قيمة وقولهم : إن النبش مثلة قلنا : إنما هو مثلة في حق من يقبر ولا ينبش
فصل : وإن دفن قبل الصلاة فعن أحمد أنه ينبش ويصلى عليه وعنه أنه إن صلي على القبر جاز واختار القاضي أنه يصلى على القبر ولا ينبش وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على قبر المسكينة ولم ينبشها ووجه الأول أنه دفن قبل واجب فنبش كما لو دفن من غير غسل وإنما يصلى على القبر عند الضرورة وأما المسكينة فقد كانت صلي عليها ولم تبق الصلاة عليها واجبة فلم تنبش لذلك فأما إن تغير الميت لم ينبش بحال
فصل : وإن دفن بغير كفن ففيه وجهان أحدهما يترك لأن القصد بالكفن ستره وقد حصل ستره بالتراب والثاني ينبش ويكفن لأن التكفين واجب فأشبه الغسل وإن كفن بثوب مغصوب فقال القاضي : يغرم قيمته من تركته ولا ينبش لما فيه من هتك حرمته مع إمكان دفع الضرر بدونها ويحتمل أن ينبش إذا كان الكفن باقيا بحاله ليرد إلى مالكه عن ماله وإن كان باليا فقيمته من تركته فإن دفن في أرض غصب أو أرض مشتركة بينه وبين غيره بغير إذن شريكه نبش وأخرج لأن القبر في الأرض يدوم ضرره ويكثر بخلاف الكفن فإن أذن المالك في الدفن في أرضه ثم أراد إخراجه لم يملك ذلك لأن في ذلك ضررا وإن بلي الميت وعاد ترابا فلصاحب الأرض أخذها وكل موضع أجزنا نبشه لحرمة ملك الآدمي فالمستحب تركه احتراما للميت

مسألة : اجتماع صلاة الجنازة والمكتوبة
مسألة : قال : وإذا حضرت الجنازة وصلاة الفجر بدئ بالجنازة وإذا حضرت صلاة المغرب بدئ بالمغرب
وجملته أنه متى حضرت الجنازة والمكتوبة بدئ بالمكتوبة إلا الفجر والعصر لأن ما بعدهما وقت نهي عن الصلاة فيه نص عليه أحمد على نحو من هذا وهو قول ابن سيرين ويروى عن مجاهد و الحسن و سعيد بن المسيب و قتادة أنهم قالوا : يبدأ بالمكتوبة لأنها أهم وأيسر والجنازة يتطاول أمرها والاشتغال بها فإن قدم جميع أمرها على المكتوبة أفضى إلى تفويتها وإن صلى عليها ثم انتظر فراغ المكتوبة لم يعد تقديمها شيئا إلا في الفجر والعصر فإن تقديم الصلاة عليها بعيد أن يقع في غير وقت النهي عن الصلاة فيكون أولا

فصلان : الصلاة على الجنازة في أوقات النهي والدفن ليلا
فصل : قال أحمد : تكره الصلاة يعني على الميت في ثلاثة أوقات عند طلوع الشمس ونصف النهار وعند غروب الشمس وذكر حديث [ عقبة بن عامر : ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا : حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى يميل وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب ] رواه مسلم ومعنى تتضيف أي تجنح وتميل للغروب من قولك تضيفت فلانا إذا ملت إليه قال ابن المبارك : معنى أن نقبر فيهن موتانا يعني الصلاة على الجنازة قيل لـ أحمد : الشمس على الحيطان مصفرة قال : يصلى عليها ما لم تدل للغروب فلا وتجوز الصلاة على الميت في غير هذه الأوقات روي ذلك عن ابن عمر و عطاء و النخعي و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي وحكي عن أحمد أن ذلك جائز وهو قول الشافعي قياسا على ما بعد الفجر والعصر والأول أصح لحديث عقبة بن عامر ولا يصح القياس على الوقتين الأخيرين لأن مدتهما تطول فيخاف على الميت فيهما ويشق انتظار خروجهما بخلاف هذه وكره أحمد أيضا دفن الميت في هذه الأوقات لحديث عقبة فأما الصلاة على القبر والغائب فلا يجوز في شيء من أوقات النهي لأن علة تجويزها على الميت معللة بالخوف عليه وقد أمن ذلك هاهنا فيبقى على اصل المنع والعمل بعموم النهي
فصل : فأما الدفن ليلا فقال أحمد : وما بأس بذلك وقال : أبو بكر دفن ليلا وعلي دفن فاطمة ليلا وحديث عائشة : كنا سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه و سلم وممن دفن ليلا عثمان وعائشة وابن مسعود ورخص فيه عقبة بن عامر و سعيد بن المسيب و عطاء و الثوري و الشافعي و إسحاق وكرهه الحسن لما روى مسلم في صحيحه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض وكفن في كفن غير طائل ودفن ليلا فزجر النبي صلى الله عليه و سلم أن يقبر الرجل بالليل إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك ] وقد روي عن أحمد أنه قال : إليه أذهب
ولنا ما روى [ ابن مسعود قال : والله لكأني أسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك وهو في قبر ذي النجادين وأبو بكر وعمر وهو يقول : ( أدنيا مني أخاكما حتى أسنده في لحده ) ثم قال لما فرغ من دفنه وقام على قبره مستقبل القبلة : ( اللهم إني أمسيت عنه راضيا فأرض عنه ) وكان ذلك ليلا قال : فوالله لقد رأيتني ولوددت أني مكانه ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة وأخذه من قبل القبلة ] رواه الخلال في جامعه وروى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل قبرا ليلا فاسرج له سراج فأخذ من قبل القبلة وقال : ( رحمك الله إن كنت لأواها تلاء للقرآن ) ] قال الترمذي : هذا حديث حسن
وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل عن رجل فقال : ( من هذا ) قالوا : فلان دفن البارحة فصلى عليه ] أخرجه البخاري فلم ينكر عليهم ولأنه أحد الآيتين فجاز الدفن فيه كالنهار وحديث الزجر محمول على الكراهة والتأديب فإن الدفن نهارا أولى لأنه أسهل على متبعها وأكثر للمصلين عليها وأمكن لاتباع السنة في دفنه وإلحاده

مسألة وفصول : الصلاة على المنتحر ومرتكب الكبيرة والمبتدعة
مسألة : قال : ولا يصلي الإمام على الغال ولا من قتل نفسه
الغال هو الذي يكتم غنيمته أو بعضها ليأخذه لنفسه ويختص به فهذا لا يصلي عليه الإمام ولا على من قتل نفسه متعمدا ويصلي عليه سائر الناس نص عليهما أحمد وقال عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي لا يصلى على قاتل نفسه بحال لأن من لا يصلي عليه الأمام لا يصلي عليه غيره كشهيد المعركة وقال عطاء و النخعي و الشافعي : يصلي الإمام وغيره على كل مسلم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال : لا إله إلا الله ] رواه الخلال بإسناده ولنا ما روى جابر بن سمره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جاؤوه برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ] رواه مسلم وروى أبو داود [ أن رجلا انطلق إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره عن رجل أنه قد مات قال : ( وما يدريك ؟ ) قال : رأيته ينحر نفسه قال : ( أنت رأيته ؟ ) قال : نعم قال : ( إذا لا أصلى عليه ) ] وروى زيد بن خالد الجهيني قال : [ توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ( صلوا على صاحبكم ) فتغيرت وجوه القوم فلما رأى ما بهم قال : ( إن صاحبكم غل من الغنيمة ) ] احتج به أحمد واختص هذا الامتناع بالإمام لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما امتنع من الصلاة على الغال قال : [ صلوا على صاحبكم ] وروي أنه أمر بالصلاة على قاتل نفسه وكان النبي صلى الله عليه و سلم هو الإمام فألحق به من ساواه في ذلك ولا يلزم من ترك صلاة النبي صلى الله عليه و سلم ترك صلاة غيره فان النبي صلى الله عليه و سلم كان في بدء الإسلام لا يصلي على من عليه دين لا وفاء له ويأمرهم بالصلاة عليه فإن قيل : هذا خاص للنبي صلى الله عليه و سلم لأن صلاته سكن قلنا : ما ثبت في حق النبي صلى الله عليه و سلم ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل فإن قيل : فقد ترك النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة على من عليه دين قلنا ثم صلى عليه بعد فروى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول : ( هل ترك لدينه من وفاء ؟ ) فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال للمسلمين : ( صلوا على صاحبكم ) فلما فتح الفتوح قام فقال : ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين وترك دينا علي قضاؤه ومن ترك مالا فللورثة ) ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح ولولا النسخ كان كمسألتنا وهذه الأحاديث خاصة فيجب تقديمها على قوله : [ صلوا على من قال : لا إله إلا الله ] على أنه لا تعارض بين الخبرين فإن النبي صلى الله عليه و سلم ترك الصلاة على هذين وأمر بالصلاة عليهما فلم يكن أمره بالصلاة عليهما منافيا لتركه الصلاة عليهما كذلك أمره بالصلاة على من قال : لا إله إلا الله
فصل : قال أحمد : لا أشهد الجهمية ولا الرافضة ويشهده من شاء قد ترك النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة على أقل من هذا : الدين والغلول وقاتل نفسه وقال : لا يصلى على الرافضي وقال أبو بكر بن عياش : لا اصلي على رافضي ولا حروري وقال الفريابي : من شتم أبا بكر فهو كافر لا أصلي عليه قيل له : فكيف تصنع به وهو يقول لا إله إلا الله ؟ قال : لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته وقال أحمد : أهل البدع لا يعادون إن مرضوا ولا تشهد جنائزهم إن ماتوا وهذا قول مالك قال ابن عبد البر : وسائر العلماء يصلون على أهل البدع والخوارج وغيرهم لعموم قوله عليه السلام : [ صلوا على من قال : لا إله إلا الله ]
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم ترك الصلاة بأدون من هذا فأولى أن نترك الصلاة به وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن لكل أمة مجوسا وإن مجوس أمتي الذين يقولون لا قدر فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ] رواه الإمام أحمد
فصل : ولا يصلى على أطفال المشركين لأن لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه مثل أن يسلم أحد أبويه أو يموت أو يسبى منفردا من أبويه أو من أحدهما فإنه يصلى عليه قال أبو ثور : من سبي من أحد أبويه لا يصلى عليه حتى يختار الإسلام
ولنا أنه محكوم له بالإسلام أشبه ما لو سبي منفردا منهما
فصل : ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم قال أحمد : من استقبل قبلتنا وصلى بصلاتنا نصلي عليه وندفنه ويصلى على ولد الزنا والزانية والذي يقاد منه بالقصاص أو يقتل في حد وسئل عمن لا يعطي زكاة ماله فقال : يصلى عليه ما يعلم [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك الصلاة على أحد إلا على قاتل نفسه والغال ] وهذا قول عطاء و النخعي و الشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة قال : لا يصلى على البغاة ولا المحاربين لأنهم باينوا أهل الإسلام أشبهوا أهل دار الحرب وقال مالك : لا يصلى على من قتل في حد لأن أبا برزة الأسلمي قال : [ لم يصل رسول الله صلى الله عليه و سلم على ماعز بن مالك ولم ينه عن الصلاة عليه ] رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال : لا إله إلا الله ] رواه الخلال بإسناده وروى الخلال بإسناده عن أبي شميلة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج إلى قباء فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( ما هذا ؟ ) قالوا : مملوك لآل فلان قال : ( أكان يشهد أن لا إله إلا الله ؟ ) قالوا : نعم ولكنه كان وكان فقال : ( أكان يصلي ؟ ) قالوا : قد كان يصلي ويدع فقال لهم : ( ارجعوا به فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه ) ]
وأما أهل الحرب فلا يصلى عليهم لأنهم كفار ولا يقبل فيهم شفاعة ولا يستجاب فيهم دعاء وقد نهينا عن الاستغفار لهم وقال الله تعالى لنبيه : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } وقال : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وأما ترك الصلاة على ماعز فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من يصلي عليه لعذر بدليل [ أنه رجم الغامدية وصلى عليها فقال له عمر ترجمها وتصلي عليها ؟ فقال : ( لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم ) ] كذلك رواه الأوزاعي وروى معمر وهشام عن أبان أنه أمرهم بالصلاة عليها قال ابن عبد البر : وهو الصحيح

مسألة وفصول : ترتيب الجنائز المختلفة في وصفها والصلاة على عدة جنائز
مسألة : قال : واذا حضرت جنازة رجل وامرأة وصبي جعل الرجل مما يلي الامام والمرأة خلفه والصبي خلفهما
لاخلاف في المذهب أنه اذا اجتمع مع الرجال غيرهم أنه يجعل الرجال مما يلي الامام وهو مذهب أكثر أهل العلم فان كان معهم نساء وصبيان فنقل الخرقي ها هنا أن المرأة تقدم مما يلي الرجال ثم يجعل الصبي خلفهما مما يلي القبلة لأن المرأة شخص مكلف فهي أحوج الى الشفاعة ولأنه قد روي عن عمار مولى الحارث بن نوفل أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي القبلة فانكرت ذلك وفي القوم ابن عباس و أبو سعيد الخدري و أبو قتادة وأبو هريرة فقالوا : هذه السنة والمنصوص عن أحمد في رواية جماعة من أصحابه أن الرجال مما يلي الامام والصبيان أمامهم والنساء يلين القبلة وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأنهم يقدمون عليهن في الصف في الصلاة المكتوبة فكذلك يقدمون عليهن مما يلي الامام عند اجتماع الجنائز كالرجال
وأما حديث عمارة فالصحيح فيه أنه جعلها مما يلي القبلة وجعل ابنها مما يليه كذلك رواه سعيد وعمار مولى بني سليم عن عمار مولى بني هاشم وأخرجه كذلك أبو داود و النسائي وغيرهما ولفظه قال : شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم ووضعت المرأة وراءه وفي القوم أبو سعيد الخدري و أبن عباس و أبو قتادة وأبو هريرة فقلنا لهم : فقالوا السنة
فأما الحديث الأول فلا يصح فان زيد بن عمر هو ابن أم كلثوم بنت علي الذي صلي عليه معها وكان رجلا له أولاد كذلك قال الزبير بن بكار ولا خلاف في تقديم الرجل على المرأة ولأن زيدا ضرب في حرب كانت بين عدي في خلافة بعض بني أمية فصرع وحمل فمات والتفت صارختان عليه وعلى أمه ولا يكون إلا رجلا
فصل : ولا خلاف في تقديم الخنثى على المرأة لأنه يحتمل أن يكون رجلا وأدنى أحواله أن يكون مساويا لها ولا في تقديم الحر على العبد لشرفه وتقديمه عليه في الامامة ولا في تقديم الكبير على الصغير كذلك وقد روى الخلال باسناده عن علي رضي الله عنه في جنازة رجل وامرأة وحر وعبد وصغير وكبير يجعل الرجل مما يلي الامام والمرأة أمام ذلك والكبير مما يلي الامام والصغير أمام ذلك والحر مما يلي الامام والمملوك أمام ذلك فان اجتمع حر صغير وعبد كبير قال أحمد في رواية الحسن بن محمد في غلام حر وشيخ عبد : يقدم الحر الى الامام هذا اختيار الخلال وغلط من روى خلاف ذلك واحتج بقول علي : الحر مما يلي الامام والمملوك وراء ذلك ونقل أبو الحارث يقدم أكبرهما الى الامام وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يقدم في الصف في الصلاة وقول علي أراد به اذا تساويا في الكبر والصغر بدليل أنه قال : والكبير مما يلي الامام والصغير أمام ذلك
فصل : فان كانوا نوعا واحدا قدم إلى الأمام أفضلهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوم أحد يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ويقدم أكثرهم أخذا للقرآن ولأن الأفضل يقدم في صف المكتوبة فيقدم ها هنا كالرجال مع المرأة وقد دل على الأصل قوله عليه السلام : [ ليلني منكم أولوا الاحلام والنهى ] وان تساووا في الفضل قدم الأكبر فالأكبر فان تساووا قدم السابق وقال القاضي : يقدم السابق وان كان صبيا فلا تقدم المرأة وان كانت سابقة لموضع الذكورية فان تساووا قدم الإمام من شاء منهم فان تشاح الاولياء في ذلك أقرع بينهم
فصل : ولا خلاف بين أهل العلم في جواز الصلاة على الجنائز دفعة واحدة وان أفرد كل جنازة بصلاة جاز وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى على حمزة مع غيره وقال حنبل : صليت مع أبي عبد الله على جنازة امرأة منفوسة فصلى أبو إسحاق على الأم واستأمر أبا عبد الله وقال : صل على ابنتها المولودة أيضا قال أبو عبد الله : لو أنهما وضعا جميعا كانت صلاتهما واحدة تصير اذا كانت أنثى عن يمين المرأة واذا كان ذكرا عن يسارها وقال بعض أصحابنا : أفراد كل جنازة بصلاة أفضل ما لم يريدوا المبادرة وظاهر كلام أحمد في هذه الرواية التي ذكرناها أنه أفضل في الافراد وهو ظاهر حال السلف فانه لم ينقل عنهم ذلك

مسألة وفصل : دفن الجماعة في قبر واحد
مسألة : قال : وان دفنوا في قبر يكون الرجل مما يلي القبلة والمرأة خلفه والصبي خلفهما ويجعل بين كل اثنين حاجزا من تراب
وجملته أنه إذا دفن الجماعة في القبر قدم الأفضل منهم إلى القبلة ثم الذي يليه في الفضيلة على حسب تقديمهم إلى الأمام في الصلاة سواء على ما ذكرنا في المسألة قبل هذه لما روى هشام بن عامر قال : [ شكي الى رسول الله صلى الله عليه و سلم الجراحات يوم أحد فقال : احفروا واوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرآنا ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح فاذا ثبت هذا فانه يجعل بين كل اثنين حاجزا من التراب فيجعل كل واحد منهم في مثل القبر المنفرد لأن الكفن حائل غير حصين قال أحمد : ولو جعل لهم شبه النهر وجعل رأس أحدهم عند رجل الآخر وجعل بينهما شيء من التراب لم يكن به بأس أو كما قال
فصل : ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة وسئل أحمد عن الاثنين والثلاثة يدفنون في قبر واحد قال : أما في مصر فلا وأما في بلاد الروم فتكثر القتلى فيحفر شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا ويجعل بينهما حاجزا لا يلتزق واحد بالآخر وهذا قول الشافعي وذلك أنه لا يتعذر في الغالب إفراد كل واحد بقبر في المصر ويتعذر ذلك غالبا في دار الحرب وفي موضع المعترك وان وجدت الضرورة جاز دفن الاثنين والثلاثة وأكثر في القبر الواحد حيثما كان من مصر أو غيره فان مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره وان استووا في ذلك بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات : فان استووا في القرب قدم أنسبهم وأفضلهم

مسألة : دفن زوجة المسلمة الذمية
مسألة : قال : وإن ماتت نصرانية وهي حاملة من مسلم دفنت بين مقبرة المسلمين ومقبرة النصارى
اختار هذا أحمد لأنها كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها ولا في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم وتدفن منفردة مع أنه روي عن واثلة بن الأسقع مثل هذا القول وروي عن عمر أنها تدفن في مقابر المسلمين قال ابن المنذر : لا يثبت ذلك قال أصحابنا : ويجعل ظهرها الى القبلة على جانبها الأيسر ليكون وجه الجنين الى القبلة على جانبه الأيمن لأن وجه الجنين الى ظهرها

مسألة وفصول : استحباب خلع النعال في المقابر والجلوس ونحوه على القبر وزيارة القبور وما يستحب منها والقراءة عندها
مسألة : قال : ويخلع النعال اذا دخل المقابر
هذا مستحب لما [ روى بشير بن الخصاصية قال : بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال : ياصاحب السبتيتين الق سبتيتيك فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم خلعهما فرمى بهما ] رواه أبو داود وقال أحمد : اسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد اذهب اليه الا من علة وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا [ قال جرير بن حاز : رأيت الحسن و ابن سيرين يمشيان بين القبور في نعالهما ومنهم من احتج بقول النبي صلى الله عليه و سلم إن العبد اذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه يسمع قرع نعالهم ] رواه البخاري وقال ابو الخطاب : يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم إنما كره للرجل المشي في نعليه لما فيهما من الخيلاء فان نعال السبت من لباس أهل النعيم قال عنتر : * يحذي نعال السبت ليس بتوأم *
ولنا أمر النبي صلى الله عليه و سلم في الخبر الذي تقدم وأقل أحواله الندب ولأن خلع النعلين أقرب الى الخشوع وزي أهل التواضع واحترام أموات المسلمين وأخبار النبي صلى الله عليه و سلم بأن الميت يسمع قرع نعالهم لا ينفي الكراهة فانه يدل على وقوع هذا منهم ولا نزاع في وقوعه وفعلهم اياه مع كراهيته فأما أن كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه مثل الشوك يخافه على قدميه أو نجاسة تمسهما لم يكره المشي في النعلين قال أحمد في الرجل يدخل المقابر وفيها شوك يخلع نعليه : هذا يضيق على الناس حتى يمشي الرجل في الشوك وان فعله فحسن هو أحوط وان لم يفعله رجل يعني لا بأس وذلك لأن العذر يمنع الوجوب في بعض الأحوال والاستحباب أولى ولا يدخل في الاستحباب نزع الخفاف لأن نزعها يشق وقد روي عن أحمد أنه كان اذا أراد أن يخرج الى الجنازة لبس خفيه مع أمره بخلع النعال وذكر القاضي أن الكراهة لا تتعدى النعال الى الشمشكات ولا غيرها لأن النهي غير معلل فلا يتعدى محله
فصل : ويكره المشي على القبور وقال الخطابي : ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن توطأ القبور وروى ابن ماجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب الي من أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبور - كذا قال - قضيت حاجتي أو وسط السوق ] لأنه كره المشي بينها بالنعلين فالمشي عليها أولى
فصل : ويكره الجلوس عليها والاتكاء عليها لما روى أبو يزيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لأن يجلس أحدكم على جمرة تحرق ثيابه فتخلص الى جلده خير له من أن يجلس على قبر ] رواه مسلم قال الخطابي : وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلا قد اتكأ على قبر فقال : لا تؤذ صاحب القبر ]
مسألة : قال : ولا بأس أن يزور الرجال المقابر
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة زيارة الرجال القبور وقال علي بن سعيد سألت أحمد : عن زيارة القبور تركها أفضل عندك أو زيارتها ؟ قال : زيارتها وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانها تذكركم الموت ] رواه مسلم و الترمذي بلفظ : فانها تذكر الآخرة
فصل : واذا مر بالقبور أو زارها استحب أن يقول ما روى مسلم عن بريدة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمهم اذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا ان شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وفي حديث عائشة : [ ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ] وفي حديث آخر : [ اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ] وان أراد قال : اللهم اغفر لنا ولهم كان حسنا
فصل : قال : ولا بأس بالقراءة عند القبر وقد روي عن أحمد أنه قال : اذا دخلتم المقابر اقرأوا آية الكرسي وثلاث مرار قل هو الله أحد ثم قل اللهم ان فضله لأهل المقابر وروي عنه أنه قال : القراءة عند القبر بدعة وروي ذلك عن هشيم قال أبو بكر : نقل ذلك عن أحمد جماعة ثم رجع رجوعا أبان به عن نفسه فروى جماعة أن أحمد نهى ضريرا أن يقرأ عند القبر وقال له إن القراءة عند القبر بدعة فقال له محمد بن قدامة الجوهري يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي ؟ قال ثقة فأخبرني مبشر عن أبيه أنه أوصى اذا دفن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال سمعت ابن عمر يوصي بذلك قال أحمد بن حنبل فارجع فقل للرجل يقرأ وقال الخلال : حدثني أبو علي الحسن بن الهيثم البزاز شيخنا الثقة المأمون قال رأيت أحمد بن حنبل يصلي خلف ضرير يقرأ على القبور وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات ] وروي عنه عليه السلام : [ من زار قبر والديه فقرأ عنده أو عندهما يس غفر له ]

فصل : واي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت نفعه ذلك
فصل : وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك ان شاء الله أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافا اذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة وقد قال الله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } وقال الله تعالى : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ودعا النبي صلى الله عليه و سلم لأبي سلمة حين مات وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك ولكل ميت صلى عليه وسأل رجل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أمي ماتت فينفعها ان تصدقت عنها قال : نعم رواه أبو داود وروي ذلك عن سعد بن عبادة [ وجاءت امرأة الى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله ان فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته قالت : نعم قال : فدين الله أحق أن يقضى ] و [ قال للذي سأله أن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها : قال نعم ] وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها الى الميت فكذلك ما سواها مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ يس وتخفيف الله تعالى عن أهل المقابر بقراءته وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمرو بن العاص : لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك ] وهذا عام في حج التطوع وغيره ولأنه عمل بر وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصدقة والصيام والحج الواجب وقال الشافعي : ما عدا الواجب والصدقة والدعاء والاستغفار لا يفعل عن الميت ولا يصل ثوابه اليه لقول الله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له ] ولأن نفعه لا يتعدى فاعله فلا يتعدى ثوابه وقال بعضهم اذا قرىء القرآن عند الميت أو أهدي اليه ثوابه كان الثواب لقارئه ويكون الميت كأنه حاضرها وترجى له الرحمة
ولنا ما ذكرناه وانه إجماع المسلمين فانهم في كل عصر ومصر يجتمعونه ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه الى موتاهم من غير نكير ولأن الحديث صح عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه ] والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية اليه ويحجب عنه المثوبة ولأن الموصل لثواب ما سلموه قادر على إيصال ثواب ما منعوه والآية مخصوصة بما سلموه وما اختلفنا فيه في معناه فنقيسه عليه ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به فإنما دل على انقطاع عمله فلا دلالة فيه عليه ثم لو دل عليه كان مخصوصا بما سلموه وفي معناه ما منعوه فيتخصص به أيضا بالقياس عليه وما ذكروه من المعنى غير صحيح فان تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع ثم هو باطل بالصوم والدعاء وليس له أصل يعتبر به والله أعلم

مسألة : كراهية زيارة النساء للمقابر
مسألة : قال : وتكره للنساء
اختلفت الرواية عن أحمد في زيارة النساء القبور فروي عنه كراهتها لما روت أم عطية قالت : نهينا عن زيارة القبور ولم يعزم علينا رواه مسلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله زوارات القبور ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح وهذا خاص في النساء والنهي المنسوخ كان عاما للرجال والنساء ويحتمل أنه كان خاصا للرجال ويحتمل أيضا كون الخبر في لعن زوارات القبور بعد أمر الرجال بزيارتها فقد دار بين الحظر والإباحة فأقل أحواله الكراهة ولأن المرأة قليلة الصبر كثيرة الجزع وفي زيارتها للقبر تهييج لحزنها وتجديد لذكر مصابها ولا يؤمن أن يفضي بها ذلك الى فعل ما لا يجوز بخلاف الرجل ولهذا اختصصن بالنوح والتعديد وخصصن بالنهي عن الحلق والصلق ونحوهما والرواية الثانية لا يكره لعموم قوله عليه السلام : [ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ] وهذا يدل على سبق النهي ونسخه فيدخل في عمومه الرجال والنساء وروي عن ابن أبي مليكة أنه قال لعائشة : يا أم المؤمنين أين أقبلت ؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها : قد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم قد نهى ثم أمر بزيارتها وروى الترمذي : أن عائشة زارت قبر أخيها وروي عنها أنها قالت : لو شهدته ما زرته

فصل : نعي الميت
فصل : ويكره النعي وهو أن يبعث مناديا ينادي في الناس إن فلانا قد مات ليشهدوا جنازته لما [ روى حذيفة قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن النعي ] قال الترمذي هذا حديث حسن واستحب جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم منهم عبد الله بن مسعود وأصحابه علقمة والربيع بن خيثم وعمرو بن شرحبيل قال علقمة : لا تؤذونوا بي أحدا وقال عمرو بن شرحبيل : اذا أنا مت فلا أنعى الى أحد وقال كثير من أهل العلم : لا بأس أن يعلم بالرجل اخوانه ومعارفه وذوو الفضل من غير نداء قال ابراهيم النخعي لا بأس اذا مات الرجل أن يؤذن صديقه وأصحابه وانما كانوا يكرهون أن يطاف في المجالس أنعي فلانا كفعل الجاهلية وممن رخص في هذا أبو هريرة وابن عمرو و ابن سيرين وروي عن ابن عمر أنه نعي اليه رافع بن خديج قال : كيف تريدون أن تصنعوا به ؟ قال : نحبسه حتى ترسل الى قباء والى من قد بات حول المدينة ليشهدوا جنازته قال : نعم ما رأيتم وقال النبي صلى الله عليه و سلم في الذي دفن ليلا : [ ألا أذنتموني ] وقد صح عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم الى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات ] متفق عليه وفي لفظ : [ ان أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يموت فيكم أحد إلا آذنتموني به ] أو كما قال ولأن في كثرة المصلين عليه أجرا لهم ونفعا للميت فانه يحصل لكل مصل منهم قيراط من الأجر وجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب ] وقد ذكرنا هذا وروى الامام أحمد باسناده عن أبي المليح أنه صلى على جنازة فالتفت فقال : استووا ولتحسن شفاعتكم ألا وانه حدثني عبد الله بن سليط عن إحدى أمهات المؤمنين وهي ميمونة وكان أخاها من الرضاعة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مسلم يصلي عليه أمة من الناس إلا شفعوا فيه ] فسألت أبا المليح عن الأمة ؟ فقال : أربعون

كتاب الزكاة
كتاب الزكاة

أدلة فرضيتها
قال أبو محمد بن قتيبة : الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه يقال زكا الزرع اذا كثر ريعه وزكت النفقة إذا بورك فيها وهي في الشريعة حق يجب في المال فعند إطلاق لفظها في موارد الشريعة ينصرف الى ذلك والزكاة أحد أركان الاسلام الخمسة وهي واجبة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله وإجماع أمته أما الكتاب فقول الله تعالى : { وآتوا الزكاة } وأما السنة [ فان النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا الى اليمن فقال : أعلمهم ان الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] متفق عليه في آي وأخبار سوى هذين كثيرة وأجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعيها فروى البخاري باسناده عن أبي هريرة قال : [ لما توفي النبي صلى الله عليه و سلم وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب فقال عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فان الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم على منعها قال عمر : فوالله ما هو الا أن رأيت قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق ] ورواه أبو داود وقال لو منعوني عقالا قال أبو عبيد : العقال صدقة العام قال الشاعر :
( سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين )
وقيل : كانوا اذا أخذوا الفريضة أخذوا معها عقالها ومن رواه عناقا ففي روايته دليل على أخذ الصغيرة من الصغار

فصلان : حكم من منكر الزكاة وحكم مانعها
فصل : فمن أنكر وجوبها جهلا به وكان ممن يجهل ذلك إما لحداثة عهده بالإسلام أو لأنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار عرف وجوبها ولا يحكم بكفره لأنه معذور وان كان مسلما ناشئا ببلاد الإسلام بين أهل العلم فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين ويستتاب ثلاثا فان تاب والا قتل لأن أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة و إجماع الأمة فلا تكاد تخفى على أحد ممن هذه حاله فاذا جحدها فلا يكون الا لتكذيبه الكتاب والسنة وكفره بهما
فصل : وان منعها معتقدا وجوبها وقدر الامام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة و مالك و الشافعي وأصحابهم وكذلك ان غل ماله وكتمه حتى لا يأخذ الامام زكاته فظهر عليه وقال اسحق بن راهوية وأبو بكر عبد العزيز يأخذها وشطر ماله لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول : [ في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون لا تفرق عن حسابها من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء ] وذكر هذا الحديث لأحمد فقال : ما أدري ما وجهه ؟ وسئل عن اسناده ؟ فقال : هو عندي صالح الاسناد رواه أبو داود و النسائي في سننهما ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس في المال حق سوى الزكاة ] ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم فلم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولا بذلك واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر فقيل كان في بدء الإسلام حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه وحكى الخطابي عن ابراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجبة عليه من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد لكن ينتقي من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه فيكون المراد بما له ها هنا الواجب عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره والله أعلم فأما ان كان مانع الزكاة خارجا عن قبضة الامام قاتله لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعيها وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه الى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه فان ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة أيضا ولم تسب ذريته لأن الجناية من غيرهم ولأن المانع لا يسبى فذريته أولى وان ظفر به دون ماله دعاه الى أدائها واستتابه ثلاثا فان تاب وأدى والا قتل ولم يحكم بكفره وعن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها فروى الميموني عنه : اذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر وقاتلوا عليها لم يورثوا ولم يصل عليهم قال عبد الله بن مسعود : ما تارك الزكاة بمسلم ووجه ذلك ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب قالوا نؤديها قال : لا أقبلها حتى تشهدوا ان قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ولم ينقل إنكار ذلك عن أحد من الصحابة فدل على كفرهم ووجه الأول ان عمر وغيره من الصحابة امتنعوا من القتال في بدء الأمر ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على أصل النفي ولأن الزكاة فرع من فروع الدين فلم يكفر تاركه بمجرد تركه كالحج واذا لم يكفر بتركه لم يكفر بالقتال عليه كأهل البغي وأما الذين قال لهم أبو بكر هذا القول فيحتمل أنهم جحدوا وجوبها فانه نقل عنهم أنهم قالوا إنما كنا نؤدي الى رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن صلاته سكن لنا وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا فلا نؤدي اليه وهذا يدل على أنهم جحدوا وجوب الأداء الى أبي بكر رضي الله عنه ولأن هذه قضية في عين فلا يتحقق من الذين قال لهم أبو بكر هذا القول فيحتمل أنهم كانوا مرتدين ويحتمل أنهم جحدوا وجوب الزكاة ويحتمل غير ذلك فلا يجوز الحكم به في محل النزاع ويحتمل أن أبا بكر قال ذلك لأنهم ارتكبوا كبائر وماتوا من غير توبة فحكم لهم بالنار ظاهرا كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرا والأمر الى الله تعالى في الجميع ولم يحكم عليهم بالتخليد ولا يلزم من الحكم بالنار الحكم بالتخليد بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه و سلم ان قوما من أمته يدخلون النار ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة

مسائل وفصول : أنصبة الإبل والواجب فيها وما يجزيء من الغنم في زكاة الابل
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وليس فيما دون خمس من الابل سائمة صدقة
بدأ الخرقي رحمه الله بذكر صدقة الابل لأنها أهم فانها أعظم النعم قيمة وأجساما وأكثر أموال العرب فالاهتمام بها أولى ووجوب زكاتها مما أجمع عليه علماء الاسلام وصحت فيه السنة عن النبي صلى الله عليه و سلم ومن أحسن ما روي في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الانصاري قال : حدثنا أبي قال حدثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين والتي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه و سلم فمن سألها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعط : في أربع وعشرين فما دونها من الابل في كل خمس شاه فاذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فاذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فاذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقه طروقة الجمل فاذا بلغت واحدة وستين الى خمس وسبعين ففيها جذعة فاذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فاذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل فاذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاري بها فاذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة وذكر تمام الحديث نذكره : [ ان شاء الله تعالى في أبوابه ] ورواه أبو داود في سننه وزاد واذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين فان لم يكن فيها ابنة مخاض ففيها ابنة لبون ذكر وهذا كله مجمع عليه إلى أن يبلغ عشرين ومائة ذكره ابن المنذر قال : ولا يصح عن علي رضي الله عنه ما روي عنه في خمس وعشرين يعني ما حكي عنه في خمس وعشرين خمس شياه وقول الصديق رضي الله عنه : التي فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني قدر والتقدير يسمى فرضا ومنه فرض الحاكم للمرأة فرضا وقوله : ومن سئل فوقها فلا يعط يعني لا يعطي فوق وأجمع المسلمون على أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه وقال النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث : [ ومن لم يكن معه الا أربع من الإبل فليس عليه فيها صدقة الا أن يشاريها ] وقال : [ ليس فيما دون خمس ذود صدقة ] متفق عليه والسائمة الراعية وقد سامت تسوم سوما اذا رعت وأسمتها اذا رعيتها وسومتها اذا جعلتها سائمة ومنه قول الله تعالى : { ومنه شجر فيه تسيمون } أي ترعون وفي ذكر السائمة احتراز من المعلوفة والعوامل فانه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم وحكي عن مالك في الإبل النواضح والمعلوفة الزكاة لعموم قوله عليه السلام : [ في كل خمس شياه ] قال أحمد : ليس في العوامل زكاة وأهل المدينة يرون فيها الزكاة وليس عندهم في هذا أصل
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون ] في حديث بهز بن حكيم فقيده بالسائمة فدل على أنه لا زكاة في غيرها وحديثهم مطلق فيحمل على المقيد ولأن وصف النماء معتبر في الزكاة والمعلوفة يستغرق علفها نماءها إلا أن يعدها للتجارة فيكون فيها زكاة التجارة
مسألة : قال : فاذا ملك خمسا من الإبل فأسامها أكثر السنة ففيها شاة وفي العشر شاتان وفي الخمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه
وهذا كله مجمع عليه وثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم بما رويناه وغيره الا قوله : فأسامها أكثر السنة فان مذهب امامنا ومذهب أبي حنيفة أنها اذا كانت سائمة أكثر السنة ففيها الزكاة وقال الشافعي : ان لم تكن سائمة في جميع الحول فلا زكاة فيها لأن السوم شرط في الزكاة فاعتبر في جميع الحول كالملك وكمال النصاب ولأن العلف يسقط والسوم يوجب واذا اجتمعا غلب الاسقاط كما لو ملك نصابا بعضه سائمة وبعضه معلوفة
ولنا عموم النصوص الدالة على وجوب الزكاة في نصب الماشية واسم السوم لا يزول بالعلف اليسير فلا يمنع دخولها في الخبر ولأنه لا يمنع حقه للمؤنة فأشبهت السائمة في جميع الحول ولأن العلف اليسير لا يمكن التحرز منه فاعتباره في جميع الحول يسقط الزكاة بالكلية سيما عند من يسوغ له الفرار من الزكاة فانه اذا أراد اسقاط الزكاة علفها يوما فأسقطها ولأن هذا وصف معتبر في رفع الكلفة فاعتبر فيه الأكثر كالسقي بما لا كلفة فيه في الزرع والثمار وقولهم السوم شرط يحتمل أن يمنع ونقول بل العلف اذا وجد في نصف الحول فما زاد مانع كما أن السقي بكلفة مانع من وجوب العشر ولا يكون مانعا حتى يوجد في النصف فصاعدا كذا في مسألتنا وأن سلمنا كونه شرطا فيجوز أن يكون الشرط وجوده في أكثر الحول كالسقي بما لا كلفة فيه شرط في وجوب العشر ويكتفي بوجوده في الاكثر ويفارق ما اذا كان في بعض النصاب معلوف لأن النصاب سبب للوجوب فلا بد من وجود الشرط في جميعه وأما الحول فانه شرط الوجوب فجاز أن يعتبر الشرط في أكثره
فصل : ولا يجزي في الغنم المخرجة في الزكاة الا الجذع من الضان والثني من المعز وكذلك شاة الجبران وأيهما أخرج أجزأه ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا جنس غنم البلد لأن الشاة مطلقة في الخبر الذي ثبت به وجوبها وليس غنمه ولا غنم البلد سببا لوجوبها فلم يتقيد بذلك كالشاة الواجبة في الفدية وتكون انثى فان أخرج ذكرا لم يجزئه لأن الغنم الواجبة في نصها أناث ويحتمل أن يجزئه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق لفظ الشاة فدخل فيه الذكر والانثى ولأن الشاة اذا تعلقت بالذمة دون العين أجزأ فيها الذكر كالأضحية فان لم يكن له غنم لزمه شراء شاة وقال أبو بكر : يخرج عشرة دراهم قياسا على شاة الجبران
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نص على الشاة فيجب العمل بنصه ولأن هذا إخراج قيمة فلم يجز كما لو كانت الشاة واجبة في نصابها وشاة الجبران مختصة بالبدل بعشرة دراهم بدليل أنها لا تجوز بدلا عن الشاة الواجبة في سائمة الغنم
فصل : فان أخرج عن الشاة بعيرا لم يجزئه سواء كانت قيمته أكثر من قيمة الشاة أو لم يكن وحكي ذلك عن مالك و داود وقال الشافعي وأصحاب الرأي : يجزئه البعير عن العشرين فما دونها ويخرج لنا مثل ذلك اذا كان المخرج مما يجزي عن خمس وعشرين لأنه يجزىء عن خمس وعشرين والعشرون داخلة فيها ولأن ما أجزأ عن الكثير أجزأ عما دونه كابنتي لبون عما دون ست وسبعين
ولنا أنه أخرج غير المنصوص عليه من غير جنسه فلم يجزه كما لو أخرج بعيرا عن أربعين شاة ولأن النص ورد بالشاة فلم يجزىء البعير كالأصل أو كشاة الجبران ولأنها فريضة وجبت فيها شاة فلم يجزىء عنها البعير كنصاب الغنم ويفارق ابنتي لبون عن الجذعة لأنها من الجنس
فصل : وتكون الشاة المخرجة كحال الإبل في الجودة والرداءة فيخرج عن الإبل السمان سمينة وعن الهزال هزيلة وعن الكرائم كريمة وعن اللئام لئيمة فان كانت مراضا أخرج شاة صحيحة على قدر المال فيقال له لو كانت الابل صحاحا كم كانت قيمتها وقيمة الشاة ؟ فيقال قيمة الابل مائة وقيمة الشاة خمسة فينقص من قيمتها قدر ما نقصت الابل فاذا نقصت الابل خمس قيمتها وجب شاة قيمتها أربعة وقيل تجزئه شاة تجزىء في الأضحية من غير نظر الى القيمة وعلى القولين لا تجزئه مريضة لأن المخرج من غير جنسها وليس كله مراضا فينزل منزلة إجتماع الصحاح والمراض لا تجزىء فيه إلا الصحيحة
مسألة : قال : فاذا صارت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض الى خمس وثلاثين
فان لم يكن فيها بنت مخاض وابن لبون ذكر فاذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون الى خمس وأربعين فاذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقه طروقة الفحل الى ستين فاذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة الى خمس وسبعين فاذا بلغت ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون الى تسعين فاذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان الى عشرين ومائة وهذا كله مجمع عليه والخبر الذي رويناه متناول له وابنة المخاض التي لها سنة وقد دخلت في الثانية سميت بذلك لأن أمها قد حملت غيرها والماخض الحامل وليس كون أمها ماخضا شرطا فيها وانما ذكر تعريفا لها بغالب حالها كتعريفة الربتبة بالحجر وكذلك بنت لبون وبنت المخاض أدنى سن يوجد في الزكاة ولا تجب إلا في خمس وعشرين الى خمس وثلاثين خاصة وبنت لبون التي تمت لها سنتان ودخلت في الثالثة سميت بذلك لأن أمها قد وضعت حملها ولها لبن والحقة التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة لأنها قد استحقت أن يطرقها الفحل ولهذا قال طروقة الفحل واستحقت أن يحمل عليها وتركب والجذعة التي لها أربع سنين ودخلت في الخامسة وقيل لها ذلك لأنها تجذع اذا سقطت سنها وهي أعلا سن تجب في الزكاة ولا تجب إلا في إحدى وستين الى خمس وسبعين وإن رضي رب المال أن يخرج مكانها ثنية جاز وهي التي لها خمس سنين ودخلت في السادسة سميت ثنية لأنها قد ألفت ثنيتيها وهذا الذي ذكرنا في الاسنان ذكره أبو عبيد وحكاه عن الاصمعي وأبي زيد الانصاري و أبي زياد الهلالي وغيرهم وقول الخرقي : فان لم يكن ابنة مخاض - أراد إن لم يكن في إبله ابنة مخاض أجزأه ابن لبون ولا يجزئه مع وجود ابنة مخاض لقوله عليه السلام : [ فان لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لبون ذكر ] في الحديث الذي رويناه شرط في إخراجه عدمها فان اشتراها وأخرجها جاز وإن أراد اخراج ابن لبون بعد شرائها لم تجز لأنه صار في إبله بنت مخاض فان لم يكن في ابله ابن لبون وأراد الشراء لزمه شراء بنت مخاض وهذا قول مالك وقال الشافعي : يجزيه شراء ابن لبون لظاهر الخبر وعمومه
ولنا أنهما استويا في العدم فلزمته ابنة مخاض كما لو استويا في الوجود والحديث محمول على وجوده لأن ذلك للرفق به اغناء له عن الشراء ومع عدمه لا يستغنى عن الشراء فكان شراء الأصل أولى على أن في بعض ألفاظ الحديث : [ فمن لم يكن عنده ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فانه يقبل منه وليس معه شيء ] فشرط في قبوله وجوده وعدمها وهذا في حديث أبي بكر وفي بعض الالفاظ : [ ومن بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ] وهذا يفسد بتعين حمل المطلق عليه وان لم يجد إلا ابنة مخاض معينة فله الانتقال الى ابن لبون لقوله في الخبر : فان لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها ولأن وجودها كعدمها لكونها لا يجوز اخراجها فأشبه الذي لا يجد إلا ما لا يجوز الوضوء به في انتقاله الى التيمم وإن وجد ابنة مخاض أعلا من صفة الواجب لم يجزه ابن لبون لوجود بنت مخاض على وجهها ويخير بين اخراجها وبين شراء بنت مخاض على صفة الواجب ولا يخير بعض الذكورية بزيادة سن في غير هذا الموضع ولا يجزيه أن يخرج عن ابن لبون حقا ولا عن الحقة جذعا لعدمهما ولا جودهما وقال القاضي وابن عقيل : يجوز ذلك مع عدمهما لأنهما أعلا وأفضل فيثبت الحكم فيهما بطريق التنبيه
ولنا أنه لا نص فيهما ولا يصح قياسهما على ابن لبون مكان بنت مخاض لأن زيادة سن ابن لبون على بنت مخاض يمتنع بها من صغار السباع ويرعى الشجر بنفسه ويرد الماء ولا يوجد هذا في الحق مع بنت لبون لأنهما يشتركان في هذا فلم يبق إلا مجرد السن فلم يقابل الا بتوجيه وقولهما أنه يدل على ثبوت الحكم فيهما بطريق التنبيه قلنا بل يدل على انتفاء الحكم فيهما بدليل خطابه فان تخصيصه بالذكر دونهما دليل على اختصاصه بالحكم دونهما
فصل : وإن أخرج عن الواجب سنا أعلا من جنسه مثل أن يخرج بنت لبون عن بنت مخاض وحقة عن بنت لبون أو بنت مخاض أو أخرج عن الجذعة ابنتي لبون أو حقتين جاز لا نعلم فيه خلافا لأنه زاد على الواجب من جنسه ما يجزي عنه مع غيره فكان مجزيا عنه على انفراده كما لو كانت الزيادة في العدد وقد روى الامام أحمد في مسنده و أبو داود في سننه باسنادهما [ عن أبي بن كعب قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقا فمررت برجل فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا بنت مخاض فقلت له : أد بنت مخاض فانها صدقتك ؟ فقال : ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها فقلت ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به وهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم منك قريب فان أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فان قبله منك قبلته وان رده عليك رددته قال : فاني فاعل فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض علي حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي وايم الله ما قام في مالي رسول الله ولا رسوله قط قبله فجمعت له مالي فزعم أن ما علي فيه بنت مخاض وذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر وقد عرضت عليه ناقة فتية سمينة عظيمة ليأخذها فأبى وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله خذها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذاك الذي وجب عليك فان تطوعت بخير أجزل الله فيه وقبلناه منك فقال فها هي ذه يا رسول الله قد جئتك بها قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة ] وهكذا الحكم اذا أخرج أعلا من الواجب في الصفة مثل أن يخرج السمينة مكان الهزيلة والصحيحة مكان المريضة والكريمة مكان اللئيمة والحامل عن الحوابل فانها تقبل منه وتجزيه وله أجر الزيادة
فصل : ويخرج عن ماشيته من جنسها على صفتها فيخرج عن البخاتي بختية وعن العراب عربية وعن الكرام كريمة وعن السمان سمينة وعن اللئام والهزال لئيمة هزيلة فان أخرج عن البخاتي عربية بقيمة البختية أو أخرج عن السمان هزيلة بقيمة السمينة جاز لأن القيمة مع اتحاد الجنس هي المقصود أجاز هذا أبو بكر وحكي عن القاضي وجه آخر أنه لا يجوز لأن فيه تفويت صفة مقصودة فلم يجز كما لو أخرج من جنس آخر والصحيح الاول لما ذكرنا وفارق خلاف الجنس فان الجنس مرعي في الزكاة ولهذا لو أخرج البعير عن الشاة لم يجز ومع الجنس يجوز اخراج الجيد عن الرديء بغير خلاف
مسألة : قال : فاذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة
ظاهر هذا أنها اذا زادت على العشرين والمائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب الأوزاعي و الشافعي و إسحق والرواية الثانية لا يتعدى الفرض الى ثلاثين ومائة فيكون فيها حقة وبنتا لبون وهذا مذهب محمد بن إسحق بن يسار و أبي عبيد و لمالك روايتان لأن الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة بدليل سائر الفروض
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فاذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون ] والواحدة زيادة وقد جاء مصرحا به في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان عند آل عمر بن الخطاب رواه أبو داود و الترمذي وقال هو حديث حسن وقال ابن عبد البر هو أحسن شيء روي في أحاديث الصدقات وفيه : [ فاذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون ] وفي لفظ : [ الى عشرين ومائة فاذا زادت واحدة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ] أخرجه الدارقطني وأخرج حديث أنس من رواية اسحق بن راهوية عن النضر بن اسماعيل عن حماد بن سلمة قال : أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدث به عن أنس وفيه : فاذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ولأن سائر ما جعله النبي صلى الله عليه و سلم غاية للفرض اذا زاد عليه واحدة تغير الفرض كذا هذا وقولهم ان الفرض لا يتغير بزيادة الواحدة قلنا وهذا ما تغير بالواحدة وحدها وإنما تغير بها مع ما قبلها فأشبهت الواحدة الزائدة عن التسعين والستين وغيرهما وقال ابن مسعود و النخعي و الثوري و أبو حنيفة اذا زادت الابل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة في كل خمس شاة الى خمس وأربعين ومائة فيكون فيها حقتان وبنت مخاض الى خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق وتستأنف الفريضة في كل خمس شاة لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب لعمرو بن حزم كتابا ذكر فيه الصدقات والديات وذكر فيه مثل هذا
ولنا أن في حديثي الصدقات الذي كتبه أبو بكر لأنس والذي كان عند آل عمر بن الخطاب مثل مذهبنا وهما صحيحان وقد رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم على المسلمين وأما كتاب عمرو بن حزم فقد اختلف في صفته فرواه الأثرم في سننه مثل مذهبنا والأخذ بذلك أولى لموافقته الاحاديث الصحاح وموافقته القياس فان المال اذا وجب فيه من جنسه لم يجب من غير جنسه كسائر بهيمة الانعام ولأنه مال احتمل المواساة من جنسه فلم يجب من غير جنسه كالبقر والغنم وانما وجب في الابتداء من غير جنسه لأنه ما احتمل المواساة من جنسه فلم يجب من غير جنسه فعدلنا الى غير الجنس ضرورة وقد زال ذلك بزيادة المال وكثرته ولأنه عندهم ينقل من بنت مخاض الى حقة بزيادة خمس من الابل وهي زيادة يسيرة لا تقتضي الانتقال الى حقة فإنا لم ننقل في محل الوفاق من بنت مخاض الى حقة إلا بزيادة إحدى وعشرين وإن زادت على مائة وعشرين جزءا من بعير لم يتغير الفرض عند أحد من الناس لأن في بعض الروايات فاذا زادت واحدة وهذا يقيد مطلق الزيادة في الرواية الأخرى ولأن سائر الفروض لا تتغير بزيادة جزء وعلى كلا الروايتين متى بلغت الابل مائة وثلاثين ففيها حقه وبنتا لبون وفي مائة وأربعين حقتان وبنتا لبون وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق وفي مائة وستين أربع بنات لبون ثم كلما زادت عشرا أبدلت مكان بنت لبون حقة ففي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون وفي مائة وثمانين حقتان وابنتا لبون وفي مائةو وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون فاذا بلغت مائتين اجتمع الغرضان لأن فيهما خمسين أربع مرات وأربعين خمس مرات فيجب عليه أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي الفرضين شاء أخرج وإن كان الآخر أفضل منه وقد روي عن أحمد أن عليه أربع حقاق وهذا محمول على أن عليه أربع حقاق بصيغة التخيير اللهم إلا أن يكون المخرج وليا ليتيم أو مجنون فليس له أن يخرج من ماله إلا أدنى الفرضين وقال الشافعي الخيرة الى الساعي ومقتضى قوله أن رب المال اذا أخرج لزمه اخراج أعلا الفرضين واحتج بقول الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولأنه وجد سبب الفرضين فكانت الخيرة الى مستحقه أو نائبه كقتل العمد الموجب للقصاص أو الدية
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب الصدقات الذي كتبه وكان عند آل عمر بن الخطاب فاذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي البنتين وجدت أخذت وهذا نص لا يعرج معه على شيء يخالفه وقوله عليه السلام لمعاذ : [ إياك وكرائم أموالهم ] ولأنها زكاة ثبت فيها الخيار فكان ذلك لرب المال كالخيرة في الجبران بين مائتين أو عشرين درهما وبين النزول والصعود وتعيين المخرج ولا تتناول الآية ما نحن فيه لأنه إنما يأخذ الفرض بصفة المال فيأخذ من الكرام كرائم ومن غيرها من وسطها فلا يكون خبيثا لأن الأدنى ليس بخبيث وكذلك لو لم يوجد إلا سبب وجوبه وجب إخراجه وقياسهم يبطل بشاة الجبران وقياسنا أولى منه لأن قياس الزكاة على الزكاة أولى من قياسها على الديات اذا ثبت هذا فكان أحد الفرضين في ماله دون الآخر فهو مخير بين إخراجه أو شراء الآخر ولا يتعين عليه سوى اخراج الموجود لأن الزكاة لا تجب في عين المال وقال القاضي : يتعين عليه اخراج الموجود لأن الزكاة لا تجب في عين المال وقال القاضي : يتعين عليه اخراج الموجود لأن الزكاة لا تجب في عين المال ولعله أراد اذا لم يقدر على شراء الآخر
فصل : فان أراد إخراج الفرض من النوعين نظرنا فان لم يحتج الى تشقيص كرجل عنده أربعمائة يخرج منها أربع حقاق وخمس بنات لبون جاز وإن احتاج الى تشقيص كزكاة المائتين لم يجز لأنه لا يمكنه ذلك الا بالتشقيص وقيل يحتمل أن يجوز على قياس قول أصحابنا يجوز أن يعتق نصفي عبدين في الكفارة وهذا غير صحيح فان الشرع لم يرد بالتشقيص في زكاة السائمة إلا من حاجة ولذلك جعل لها أوقاصا دفعا للتشقيص عن الواجب فيها وعدل فيها دون خمس وعشرين من الإبل عن ايجاب الابل الى ايجاب الغنم ولا يجوز القول بتجويزه مع امكان العدول عنه الى ايجاب فريضة كاملة وان وجد أحد الفريضين كاملا والآخر ناقصا لا يمكنه اخراجه الا بجبران معه مثل أن يجد في المائتين خمس بنات لبون وثلاث حقاق تعين أخذ الفريضة الكاملة لأن الجبران بدل يشترط له عدم المبدل وان كانت كل واحدة تحتاج الى جبران مثل أن يجد أربع بنات لبون وثلاث حقاق فهو مخير أيهما شاء أخرج مع الجبران ان شاء أخرج بنات اللبون وحقة وأخذ بالجبران وان شاء أخرج الحقاق وبنت اللبون مع جبرانها فان قال خذوا مني حقة وثلاث بنات لبون مع الجبران لم يجز لأنه يعدل عن الفرض مع وجوده الى الجبران ويحتمل الجواز لأنه لا بد من الجبران وان لم يوجد إلا حقة وأربع بنات لبون أداها وأخذ الجبران ولم يكن له دفع ثلاث بنات لبون مع الجبران في أصح الوجهين وان كان الفرضان معدومين أو معيبين فله العدول عنهما مع الجبران فان شاء أخرج أربع جذعات وأخذ ثماني شياه أو ثمانين درهما وان شاء دفع خمس بنات مخاض ومعها عشر شياه أو مائة درهم وان أحب أن ينقل عن الحقاق الى بنات المخاض أو عن بنات اللبون الى الجذاع لم يجز لأن الحقاق وبنات اللبون منصوص عليهن في هذا المال فلا يصعد الى الحقاق بجبران ولا ينزل الى بنات اللبون بجبران

مسألة وفصول : فقد السن الواجبة في زكاة الابل
مسألة : قال : ومن وجبت عليه حقة وليست عنده وعنده ابنة لبون أخذت منه ومعها شاتان أو عشرون درهما ومن وجبت عليه ابنة لبون وليست عنده وعنده حقة أخذت منه وأعطى الجبران شاتين أو عشرين درهما
المذهب في هذا أنه متى وجبت عليه سن وليست عنده فله أن يخرج سنا أعلى منها ويأخذ شاتين أو عشرين درهما أو سنا أنزل منها ومعها شاتين أو عشرين درهما الا ابنة مخاض ليس له أن يخرج أنزل منها لأنها أدنى سن تجب في الزكاة أو جذعة ولا يخرج أعلى منها الا أن يرضى رب المال باخراجها لا جبران معها فتقبل منه والاختيار في الصعود والنزول والشياه والدراهم الى رب المال وبهذا قال النخعي و الشافعي و ابن المنذر واختلف فيه عن اسحاق وقال الثوري : يخرج شاتين أو عشرة دراهم لأن الشاة في الشرع متقومة بخمسة دراهم بدليل أن نصابها أربعون ونصاب الدراهم مائتان وقال أصحاب الرأي يدفع قيمة ما وجب عليه أو دون السن الواجبة وفضل ما بينهما دراهم
ولنا قوله عليه السلام في الحديث الذي رويناه عن طريق البخاري : [ ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فانها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين ان استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده الجذعة فانها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الا بنت لبون فانها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فانها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده ابنة مخاض فانها تقبل منه ابنة مخاض ويعطى معها عشرين درهما أو شاتين ] وهذا نص ثابت صحيح لم يلتفت الى ما سواه اذا ثبت هذا فانه لا يجوز العدول الى هذا الجبران مع وجود الأصل لأنه مشروط في الخبر بعدم الأصل وان أراد أن يخرج في الجبران شاة وعشرة دراهم وقال القاضي : لا يمنع هذا كما قلنا في الكفارة فله إخراجها من جنسين لأن الشاة مقام عشرة دراهم فاذا اختار اخراجها وعشرة جاز ويحتمل المنع لأن النبي صلى الله عليه و سلم خير بين شاتين وعشرين درهما وهذا قسم ثالث فتجويزه يخالف الخبر والله أعلم بالصواب
فصل : فان عدم السن الواجبة والتي تليها كمن وجبت عليه جذعة فعدمها وعدم الجذعة وابنة اللبون فقال القاضي : يجوز أن ينتقل الى السن الثالث مع الجبران فيخرج ابنة اللبون في الصورة الأولى ويخرج معها أربع شياه وأربعين درهما ويخرج ابنة مخاض في الثانية ويخرج معها مثل ذلك وذكر أن أحمد أومأ اليه وهذا قول الشافعي وقال أبو الخطاب : لا ينتقل الى سن تلي الواجب فأما إن انتقل من حقه الى بنت مخاض أو من جذعة الى بنت لبون لم يجز لأن النص ورد بالعدول الى سن واحدة فيجب الاقتصار عليها كما اقتصرنا في أخذ الشياه عن الإبل على الموضع الذي ورد به النص هذا قول ابن المنذر : ووجه الاول أنه قد جوز الانتقال الى السن التي تليه مع الجبران وجوز العدول عن ذلك أيضا اذا عدم مع الجبران اذا كان هو الفرض وها هنا لو كان موجودا أجزأ فان عدم جاز العدول الى ما يليه مع الجبران والنص اذا عقله عدي وعمل بمعناه وعلى مقتضى هذا القول يجوز العدول عن الجزعة الى بنت المخاض مع ست شياه أو ستين درهما ويعدل عن ابنة المخاض الى الجذعة ويأخذ ست شياه أو ستين درهما وان أراد أن يخرج عن الاربع شياه شاتين وعشرين درهما جاز لأنهما جبرانان فهما كالكفارتين وكذلك في الجبران الذي يخرجه عن فرض المائتين من الإبل اذا أخرج عن خمس بنات لبون خمس بنات مخاض أو مكان أربع حقاق أربع جذعات جاز أن يخرج بعض الجبران وبعضه شياها ومتى وجد سنا تلي الواجب لا يجوز العدول الى سن لا تليه لأن الانتقال عن السن التي تليه الى السن الأخرى بدل ولا يجوز مع امكان الأصل فان عدم الحقة وابنة اللبون ووجد الجذعة وابنة المخاض وكان الواجب الحقة لم يجز العدول الى بنت المخاض وان كان الواجب ابنة لبون لم يجز اخراج الجذعة والله أعلم
فصل : فان كان النصاب كله مراضا وفريضته معدومة فله أن يعدل إلى السن السفلى مع دفع الجبران وليس له أن يصعد مع أخذ الجبران لأن الجبران أكثر من الفضل الذي بين الفرضين وقد يكون الجبران جبرا من الأصل فان قيمة الصحيحتين أكثر من قيمة المريضتين وكذلك قيمة ما بينهما فاذا كان كذلك لم يجز في الصعود وجاز في النزول لأنه متطوع بشيء من ماله ورب المال يقبل منه الفضل ولا يجوز للساعي أن يعطي الفضل من المساكين فان كان المخرج ولي اليتيم لم يجز له أيضا النزول لأنه لا يجوز أن يعطي الفضل من مال اليتيم فيتعين شراء الفرض من غير المال ا ه

فصل : الجبران خاص بزكاة الابل
فصل : ولا يدخل الجبران في غير الابل لأن النص فيها ورد وليس غيرها في معناها لأنها أكثر قيمة ولأن الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها وما بين الفريضتين في البقر يخالف ما بين الفريضتين في الابل فامتنع القياس فمن عدم فريضة البقر أو الغنم ووجد دونها لم يجز له اخراجها فان وجد أعلى منها فأحب أن يدفعها متطوعا بغير جبران قبلت منه وإن لم يفعل كلف شراءها من غير ماله

فصل : الوقص ومعناه الزكاة تتعلق بالنصاب دون الوقص
فصل : قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله رحمه الله تفسير الاوقاص ما بين الفريضتين قلت له كأنه ما بين الثلاثين الى الأربعين في البقر وما أشبه هذا ؟ قال : نعم والسبق ما دون الفريضة قلت له كأنه ما دون الثلاثين من البقر وما دون الفريضة فقال : نعم وقال الشعبي السبق ما بين الفريضتين أيضا قال أصحابنا : الزكاة تتعلق بالنصاب دون الوقص ومعناه أنه اذا كان عنده أكثر من الفريضة مثل أن يكون عنده ثلاثون من الإبل فالزكاة تتعلق بخمسة وعشرين دون الخمسة الزائدة عليها فعلى هذا لو وجبت الزكاة فيها وتلفت الخمس الزائدة قبل التمكن من أدائها وقلنا ان تلف النصاب قبل التمكن يسقط الزكاة لمن يسقط ها هنا منها شيء لأن التالف لم تتعلق الزكاة به وان تلف منها عشر سقط من الزكاة خمسها لأن الاعتبار بتلف جزء من النصاب وانما تلف منها من النصاب خمسة وأما من قال لا تأثير لتلف النصاب في إسقاط الزكاة فلا فائدة في الخلاف عنده في هذه المسألة فيما أعلم والله تعالى أعلم

باب صدقة البقر
وهي واجبة بالسنة والاجماع أما السنة فما روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما من صاحب ابل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها الا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن تنطحه بقرونها وتطأه بأخفافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس ] متفق عليه ورى النسائي و الترمذي عن مسروق [ أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا الى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ومن البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة وروى الامام أحمد باسناده عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال ] بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم : أصدق أهل اليمن وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة قال : فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين فأبيت ذلك وقلت لهم حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاثة أتباع ومن المائة مسنة وتبعين ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع و أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا آخذ فيها بين ذلك شيئا إلا إن بلغ مسنة أو جذعا يعني تبيعا وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها وأما الاجماع فلا أعلم اختلافا في وجوب الزكاة في البقر وقال أبو عبيد : لا أعلم الناس يختلفون فيه اليوم ولأنها أحد أصناف بهيمة الأنعام فوجبت الزكاة في سائمتها كالابل والغنم

مسائل وفصول : نصاب زكاة البقر وشرطها وما يجزيء منها
مسألة : قال : وليس فيما دون ثلاثين من البقر سائمة صدقة
وجملة ذلك أنه لا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر في قول جمهور العلماء وحكي عن سعيد بن المسيب و الزهري أنهما قالا : في كل خمس شاة ولأنها عدلت بالابل في الهدي والأضحية فكذلك في الزكاة
ولنا ما تقدم من الخبر ولأن نصب الزكاة إنما ثبتت بالنص والتوقيف وليس فيما ذكراه نص ولا توقيف فلا يثبت وقياسهم فاسد فان خمسا وثلاثين من الغنم تعدل خمسا من الابل في الهدي ولا زكاة فيها اذا ثبت هذا فانه لا زكاة في غير السائمة من البقر في قول الجمهور وحكي عن مالك أن في العوامل والمعلوفة صدقة كقوله في الإبل وقد تقدم الكلام معه وروي عن علي رضي الله عنه قال الراوي أحسبه عن النبي صلى الله عليه و سلم في صدقة البقر قال : وليس في العوامل شيء رواه أبو داود وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس فيء البقر العوامل صدقة ] وهذا مقيد يحمل عليه المطلق وروي عن علي ومعاذ وجابر أنهم قالوا : لا صدقة في البقر العوامل ولأن صفة النماء معتبرة في الزكاة ولا يوجد إلا في السائمة
مسألة : قال : واذا ملك الثلاثين من البقر فأسامها أكثر السنة ففيها تبيع أو تبيعة الى تسع وثلاثين فاذا بلغت أربعين ففيها مسنة الى تسع وخمسين فاذا بلغت ستين ففيها تبينان الى تسع وستين فاذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة واذا زادت ففي كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة
التبيع الذي له سنة ودخل في الثانية وقيل له ذلك لأنه يتبع أمه والمسنة التي لها سنتان وهي الثنية ولا فرض في البقر غيرهما وبما ذكر الخرقي ها هنا قال : أكثر أهل العلم منهم الشعبي و النخعي و الحسن و مالك و الليث و الثوري و ابن اماجشون و الشافعي و اسحق و أبو عبيد و أبو يوسف و محمد بن الحسن و أبو ثور وقال أبو حنيفة : في بعض الروايات عنه فيما زاد على الأربعين بحسابه في كل بقرة ربع عشر مسنة فرارا من جعل الوقص تسعة عشر وهو مخالف لجميع أوقاصها فإن جميع أوقاصها عشرة عشرة
ولنا حديث يحيى بن الحكم الذي رويناه وهو صريح في محل النزاع وقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الآخر : [ في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة ] يدل على أن الاعتبار بهذين العددين ولأن البقر أحد بهيمة الانعام ولا يجوز في زكاتها كسر كسائر الأنواع ولا ينقل من فرض فيها إلى فرض بغير وقص كسائر الفروض ولأن هذه زيادة لا يتم بها أحد العددين فلا يجب فيها شيء كما بين الثلاثين والأربعين وما بين الستين والسبعين ومخالفة قولهم للأصول أشد من الوجوه التي ذكرناها وعلى أن أوقاص الابل والغنم مختلفة فجاز الاختلاف ههنا
فصل : واذا رضي رب المال باعطاء المسنة عن التبيع والتبيعين عن المسنة أو أخرج أكثر منها سنا عنها جاز ولا مدخل للجبران فيها كما قدمناه في زكاة الإبل
فصل : ولا يخرج الذكر في الزكاة أصلا إلا في البقر فان ابن اللبون ليس بأصل إنما هو بدل عن ابنة مخاض ولهذا لا يجزىء مع وجودها وإنما يجزىء الذكر في البقر عن الثلاثين وما تكرر منها كالستين والسبعين وما تركب من الثلاثين وغيرها كالسبعين فيها تبيع ومسنة والمائة فيها مسنة وتبيعان وإن شاء أخرج مكان الذكور اناثا لأن النص ورد بهما جميعا فأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين فلا يجزىء في فرضها إلا الاناث إلا أن يخرج عن المسنة تبيعين فيجوز واذا بلغت البقر مائة وعشرين اتفق الفرضان جميعا فيخير رب المال بين إخراج ثلاث مسنات أو أربع أتبعة والواجب أحدهما أيهما شاء على ما نطق به الخبر المذكور والخيرة في الإخراج إلى رب المال كما ذكرنا في زكاة الإبل وهذا التفصيل فيما اذا كان فيها أناث فان كانت كلها ذكورا أجزأ الذكر فيها بكل حال لأن الزكاة مواساة فلا يكلف المواساة من غير ماله ويحتمل أنه لا يجزئه إلا إناث في الأربعينيات لأن النبي صلى الله عليه و سلم نص على المسنات فيجب إتباع مورده فيكلف شراءها فإذا لم تكن في ماشيته كما لو لم يجد إلا دونها في السن والاول أولى لأننا أخرنا الذكر في الغنم مع أنه لا مدخل له في زكاتها مع وجود الاناث فالبقر التي للذكر فيها مدخل أولى لأن للذكر فيها مدخلا

مسألة وفصل : الجواميس كالبقر أما بقر الوحش ففيه روايتان
مسألة : قال : والجواميس كغيرها من البقر
لا خلاف في هذا نعلمه وقال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على هذا ولأن الجواميس من أنواع البقر كما أن البخاتي من أنواع الابل فاذا اتفق في المال جواميس وصنف آخر من البقر أو بخاتي وعراب أو معز وضأن كمل نصاب أحدهما بالآخر وأخذ الفرض من أحدهما على قدر المالين على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
فصل : واختلفت الرواية في بقر الوحش فروي أن فيها الزكاة اختاره أبو بكر لأن اسم البقر يشملها فيدخل في مطلق الخبر وعنه لا زكاة فيها وهي أصح وهذا قول أكثر أهل العلم لأن اسم البقر عند الاطلاق لا ينصرف اليها ولا يفهم منه اذا كانت لا تسمى بقرا بدون الاضافة فيقال بقر الوحش ولأن وجود نصاب منها موصوفا بصفة السوم حولا لا وجود له ولأنها حيوان لا يجزىء نوعه في الأضحية والهدي فلا تجب فيه الزكاة كالظباء ولأنها ليست من بهيمة الانعام فلا تجب فيها الزكاة كسائر الوحوش وسر ذلك أن الزكاة انما وجبت في بهيمة الانعام دون غيرها لكثرة النماء فيها من درها ونسلها وكثرة الانتفاع بها لكثرتها وخفة مؤنتها وهذا المعنى يختص بها فاختصت الزكاة بها دون غيرها ولا تجب الزكاة في الظباء رواية واحدة لعدم تناول اسم الغنم لها

فصل : لا تجب الزكاة في المتولد بين الوحشي والاهلي
فصل : قال أصحابنا : تجب الزكاة في المتولد بين الوحشي والأهلي سواء كانت الوحشية الفحول أو الأمهات وقال مالك و أبو حنيفة : إن كانت الامهات أهلية وجبت الزكاة فيها والا فلا لأن ولد البهيمة يتبع أمه وقال الشافعي : لا زكاة فيها لأنها متولدة من وحشي أشبه المتولد من وحشيين واحتج أصحابنا بأنها متولدة بين ما تجب فيها الزكاة وما لا تجب فيه فوجبت فيها الزكاة كالمتولدة بين سائمة ومعلوفة وزعم بعضهم أن غنم مكة متولدة من الظباء والغنم وفيها الزكاة بالاتفاق فعلى هذا القول تضم إلى جنسها من الاهلي في وجوب الزكاة وتكمل بها نصابه وتكون كأحد أنواعه والقول بانتفاء الزكاة فيها أصح لأن الأصل انتفاء الوجوب وانما ثبت بنص أو إجماع أو قياس ولا نص في هذة ولا إجماع انما هو في بهيمة الانعام من الأزواج الثمانية وليست هذه داخلة في أجناسها ولا حكمها ولا حقيقتها ولا معناها فان المتولد بين شيئين ينفرد باسمه وجنسه وحكمه عنهما كالبغل المتولد بين الفرس والحمار والسبع المتولد بين الذئب والضبع والعسار المتولد بين الضبعان والذئبة فكذلك المتولد بين الظباء والمعز ليس بمعز ولا ظبي ولا يتناوله نصوص الشارع ولا يمكن قياسه عليها لتباعد ما بينهما واختلاف حكمهما في كونه لا يجزيء في هدي ولا أضحية ولا دية ولو أسلم في الغنم لم يتناوله العقد ولو وكل وكيلا في شراء شاة لم يدخل في الوكالة ولا يحصل منه ما يحصل من الشاة من الدر وكثرة النسل بل الظاهر أنه لا ينسل له أصلا فان المتولد بين ثنتين لا نسل له كالبغال وما لا نسل له لا در فيه فامتنع القياس ولم يدخل في نص ولا إجماع فأيجاب الزكاة فيها تحكم بالرأي واذا قيل تجب الزكاة احتياطا وتغليبا للايجاب كما أثبتنا التحجريم فيها في الحرم والاحرام احتياطا لم يصح لأن الواجبات لا تثبت احتياطا بالشك ولهذا لا تجب الطهارة على من تيقنها وشك في الحدث ولا غيرها من الواجبات وأما السوم والعلف فالاعتبار فيه بما تجب فيه الزكاة لا بأصله الذي تولد منه بدليل أنه لو علف المتولد من السائمة لم تجب زكاته ولو أسام أولاد المعلوفة لوجبت زكاتها وقول من زعم أن غنم مكة متولدة من الغنم والظباء لا يصح لأنها لو كانت كذلك لحرمت في الحرم والاحرام ووجب فيها الجزاء كسائر المتولد بين الوحشي والأهلي ولأنها لو كانت كذلك متولدة من جنسين لما كان لها نسل كالسبع والبغال

باب صدقة الغنم مسألتان : انصبة الغنم وحكم الواجب فيها
وهي واجبة بالسنة والاجماع أما السنة فما روى أنس في كتاب أبي بكر الذي ذكرنا أوله قال : وفي صدقة الغنم في سائمتها اذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة فاذا زادت على مائتين الى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة واذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلاأن يشاري بها ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيسا إلا ما شاء المصدق واختار سوى هذا كثير وأجمع العلماء على وجوب الزكاة فيها
مسألة : قال : وليس فيما دون أربعين من الغنم سائمة صدقة
فاذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها شاة إلى عشرين ومائة فاذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فاذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه وهذا كله مجمع عليه قاله ابن المنذر إلا المعلوفة في أقل من نصف الحول على ما ذكرنا من الخلاف فيه وحكي عن معاذ رضي الله عنه أن الفرض لا يتغير بعد المائة واحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين واثنين وأربعين ليكون مثلي مئة واحدى وعشرين ولا يثبت عنه وروى سعيد عن خالد بن مغيرة عن الشعبي عن معاذ قال : كان اذا بلغت الشياه مائتين لم يغيرها حتى تبلغ أربعين ومائتين فيأخذ منها ثلاث شياه فاذا بلغت ثلاثمائة لم يغيرها حتى تبلغ أربعين وثلاثمائة فيأخذ منها أربعا ولفظ الحديث الذي ذكرناه دليل عليه والاجماع على خلاف هذا القول دليل على فساده و الشعبي لم يلق معاذا
مسألة : قال : فاذا زادت ففي كل مائة شاة شاة
ظاهر هذا القول أن الفرض لا يتغير بعد المائتين وواحدة حتى يبلغ أربعمائة فيجب في كل مائة شاة ويكون الوقص ما بين المائتين وواحدة إلى أربعمائة وذلك مئة وتسعة وتسعون وهذا احدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء وعن أحمد رواية أخرى أنها اذا زادت على ثلاثمائة وواحدة ففيها أربع شياه ثم لا يتغير الفرض حتى تبلغ خمسمائة فيكون في كل مائة شاة ويكون الوقص الكبير بين ثلاثمائة وواحدة إلى خمسمائة وهو أيضا مائة وتسعة وتسعون وهذا اختيار أبي بكر وحكي عن النخعي و الحسن بن صالح لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الثلاثمائة حدا للوقص وغاية له فيجب أن يتعقبه تغير النصاب كالمائتين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فاذا زادت ففي كل مائة شاة ] وهذا يقتضي أن لا يجب في دون المائة شيء وفي كتاب الصدقات الذي كان عند آل عمر بن الخطاب : فاذا زادت على ثلاثمائة وواحدة فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعمائة شاة ففيها أربع شياه وهذا نص لا يجوز خلافه إلا بمثله أو أقوى منه وتحديد النصاب لاستقرار الفريضة لا للغاية والله أعلم

مسألتان : وفصل : ذكر ما لا يجوز للمصدق أخذه من النعم
مسألة : قال : ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار
ذات العوار المعيبة وهذه الثلاث لا تؤخذ لدناءتها فان الله تعالى قال : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق ] وقد قيل : لا يؤخد تيس الغنم وهو فحلها لفضيلته وكان أبو عبيد يروي الحديث إلا ما شاء المصدق ويفتح الدال يعني صاحب المال فعلى هذا يكون الاستثناء في الحديث راجعا إلى التيس وحده وذكر الخطابي أن جميع الرواة يخالفونه في هذا فيروونه المصدق بكسر الدال أي العامل وقال : التيس الذي لا يؤخذ لنقصه وفساد لحمه وكونه ذكرا وعلى هذا لا يأخذ المصدق وهو الساعي أحد هذه الثلاثة إلا أن يرى ذلك بأن يكون جميع النصاب من جنسه فيكون له أن يأخذ من جنس المال فيأخذ هرمة وهي الكبيرة من الهرمات وذات عوار من أمثالها وتيسا من التيوس وقال مالك و الشافعي : إن رأى المصدق أن أخذ هذه الثلاثة خير له وأنفع للفقراء فله أخذه لظاهر الاستثناء ولا يختلف المذهب أنه ليس له أحذ الذكر في شيء من الزكاة اذا كان في النصاب أناث في غير أتبعة البقر وابن اللبون بدلا عن بنت مخاض اذا عدمها وقال أبو حنيفة : يجوز اخراج الذكر من الغنم الأناث لقوله عليه السلام : [ في أربعين شاة شاة ] ولفظ الشاة يقع على الذكر والانثى ولأن الشاة اذا أمر بها مطلقا اجزأ فيها الذكر كالاضحية والهدي
ولنا أنه حيوان تجب الزكاة في عينه فكانت الانوثة معتبرة في فرضه كالابل والمطلق يتقيد بالقياس على سائر النصب والاضحية غير معتبرة بالمال بخلاف مسألتنا فان قيل فما فائدة تخصيص التيس بالنهي اذا قلنا لأنه لا يؤخذ عن الذكور أيضا فلو ملك أربعين ذكرا وفيها تيس معد للضراب لم يجز أخذه أما لفضيلته فانه لا يعد للضراب إلا أفضل الغنم وأعظمها وأما لذاته لفساد لحمه ويجوز أن يمنع من أخذه للمعنين جميعا وإن كان النصاب كله ذكورا جاز اخراج الذكر في الغنم وجها واحدا وفي البقر في أصح الوجهين وفي الابل وجهان والفرق بين النصب الثلاثة أن النبي صلى الله عليه و سلم نص على الانثى في فرائض الابل والبقر وأطلق الشاة الواجبة وقال في الأبل : [ من لم يجد بنت مخاض أخرج ابن لبون ذكرا ] ومن حيث المعنى أن الابل يتغير فرضها بزيادة السن فاذا جوزنا اخراج الذكر أفضى إلى التسوية بين الفريضتين لأنه يخرج ابن لبون عن خمس وعشرين ويخرجه عن ستة وثلاثين وهذا المعنى يختص الابل فان قيل فالبقر أيضا يأخذ منها تبيعا عن ثلاثين وتبيعا عن أربعين اذا كانت أتبعة كلها وقلنا تؤخذ الصغيرة عن الصغار قلنا هذا لا يلزم مثله في اخراج الانثى فلا فرق ومن جوز اخراج الذكر في الكل قال : يأخذ ابن لبون خمس وعشرين قيمته دون فيمة ابن لبون يأخذه من ستة وثلاثين ويكون بينهما في القيمة كما بينهما في العدد ويكون الفرض بصفة المال واذا اعتبرنا القيمة لم يؤد إلى التسوية كما قلنا في الغنم
فصل : ولا يجوز إخراج المعيبة عن الصحاح وإن كثرت قيمتها لما نهي عن أخذها ولما فيه من الأضرار بالفقراء ولهذا يستحق ردها في البيع وان كثرت قيمتها وإن كان في النصاب صحاح ومراض أخرج صحيحة على قدر قيمة المالين فان كان النصاب كله مراضا إلا مقدار الفرض فهو مخير بين اخراجه وبين شراء مريضة قليلة القيمة فيخرجها ولو كانت الصحيحة غير الفريضة بعدد الفريضة مثل من وجب عليه ابنتا لبون وعنده حواران صحيحان كان عليه شراء صحيحتين فيخرجهما وإن وجبت عليه حقتان وعنده ابنتا لبون صحيحتان خير بين إخراجهما مع الجبران وبين شراء حقتين صحيحتين على قدر قيمة المال وإن كان عنده جذعتان صحيحتان فله اخراجهما مع أخذ الجبران وإن كانت عليه حقتان ونصف ماله صحيح ونصفه مريض فقال ابن عقيل : له اخراج حقة صحيحة وحقة مريضة لأن النصف الذي يجب فيه إحدى الحقتين مريض كله والصحيح في المذهب خلاف هذا لأن في ماله صحيحا ومريضا فلم يملك اخراج مريضة كما لو كان نصابا واحدا ولم يتغير النصف الذي وجبت فيه الحقة في المراض وكذلك لو كان لشريكين لم يتعين حق أحدهما في المراض دون الآخر وإن كان النصاب مراضا كله فالصحيح في المذهب جواز اخراج الفرض منه ويكون وسطا في القيمة والاعتبار بقلة العيب وكثرته لأن القيمة تأتي على ذلك وهو قول الشافعي و أبي يوسف و محمد وقال مالك : إن كانت كلها جربا أخرج جرباء وإن كانت كلها هتماء كلف شراء صحيحة وقال أبو بكر : لا تجزىء إلا صحيحة لأن أحمد قال : لا يؤخذ إلا ما يجوز في الاضاحي وللنهي عن أخذ ذات العوار فعلى هذا يكلف شراء صحيحة بقدر قيمة المريضة
ولنا قول الني صلى الله عليه و سلم : [ اياك وكرائم أموالهم ] وقال : [ إن الله تعالى لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره ] رواه أبو داود ولأن مبنى الزكاة على المواساة وتكليف الصحيحة عن المراض اخلال بالمواساة ولهذا يأخذ من الرديء من الحبوب والثمار من جنسه ويأخذ من اللئام والهزال من المواشي من جنسه كذا ههنا وقد ذكرنا إن الاستثناء في الحديث يدل على جواز اخراج المعيبة في بعض الاحوال أو نحمله على ما اذا كان فيه صحيح فان الغالب الصحة وإن كان جميع النصاب مريضا إلا بعض الفريضة أخرج الصحيحة وتمم الفريضة من المراض على قدر المال ولا فرق في هذا بين الابل والبقر والغنم والحكم في الهرمة كالحكم في المعيبة سواء
مسألة : قال : ولا الربا ولا الماخض ولا الاكولة
قال أحمد : الربا التي وضعت وهي تربي ولدها يعني قريبة العهد بالولادة وتقول العرب في ربابها كما تقول في نفاسها قال الشاعر :
( حنين أم البو في ربابها )
قال أحمد : والماخض التي قد حان ولدها فان كان في بطنها ولد لم يحن ولادها فهي خلفة وهذه الثلاث لا تؤخذ لحق رب المال قال عمر لساعيه : لا تأخذ الربا ولا الماخض ولا الاكولة ولا فحل الغنم وإن تطوع رب المال باخراجها جاز أخذها وله ثواب الفضل على ما ذكرنا في حديث أبي بن كعب واذا ثبت هذا وأنه منع من أخذ الرديء من أجل الفقراء ومن أخذ كرائم الاموال من أجل أربابه - ثبت أن الحق في الوسط من المال قال الزهري : اذا جاء المصدق قسم الشياه أثلاثا : ثلث خيار وثلث أوساط وثلث شرار وأخذ المصدق من الوسط وروي نحو هذا عن عمر رضي الله عنه وقاله امامنا وذهب اليه والاحاديث تدل على هذا فروى أبو داود و النسائي باسنادهما عن سعد بن دليم قال : كنت في غنم لي فجاءني رجلان على بعير فقالا : انا رسولا رسول الله صلى الله عليه و سلم اليك لتؤدي الينا صدقة غنمك قلت : وما علي فيها ؟ قالا شاة فعمد إلى شاة قد عرف مكانها ممتلئة مخضا وشحما فأخرجها اليهما فقالا : هذه شافع وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نأخذ شاة شافعا والشافع الحامل سميت بذلك لأن ولدها قد شفعها والمخض اللبن وقال سويد بن غفلة : [ سرت أو أخبرني من سار مع مصدق رسول الله فاذا في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا نأخذ من راضع لبن قال فكان يأتي المياه حين ترد الغنم فيقول : أدوا صدقات أموالكم قال فعمد رجل منهم إلى ناقة كوماء - وهي العظيمة السنام - فأبى أن يقبلها ] رواه أبو داود و النسائي
وروى أبو داود باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الايمان من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فان الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره ] رافدة يعني معيبة والدرنة الجرباء والشرط رذالة المال

مسألة : زكاة أولاد الماشية الصغار
مسألة : قال : وتعد عليهم السخلة ولا تؤخذ منهم
السخلة بفتح السين وكسرها الصغيرة من أولاد المعز
وجملته أنه متى كان عنده نصاب كامل فنتجت منه سخال في أثناء الحول وجبت الزكاة في الجميع عند تمام حول الامهات في قول أكثر أهل العلم وحكي عن الحسن و النخعي : لا زكاة في السخال حتى يحول عليها الحول ولقوله عليه السلام : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ]
ولنا ما روي عن عمر أنه قال لساعيه : اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها منهم وهو مذهب علي ولا نعرف لهما في عصرهما مخالفا فكان اجماعا ولأنه نماء نصاب فيجب أن يضم اليه في الحول كأموال التجارة والخبر مخصوص بمال التجارة فنقيس عليه فأما إن لم يكمل النصاب إلا بالسخال احتسب الحول من حين كمل النصاب في الصحيح من المذهب وهو قول الشافعي و اسحق و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر حول الجميع من حين ملك الامهات وهو قول مالك لأن الاعتبار بحول الامهات دون السخال فيما اذا كانت نصابا وكذلك اذا لم تكن نصابا
ولنا أنه لم يحل الحول على نصاب فلم تجب الزكاة فيها كما لو كملت يغير سخالها أو كمال التجارة فانه لا تختلف الرواية فيه وإن نتجت السخال بعد الحول ضمت إلى أمهاتها في الحول الثاني وحده والحكم في فصلان الابل وعجول البقر كالحكم في السخال اذا ثبت هذا فان السخلة لا تؤخذ في الزكاة لما قدمنا من قول عمر ولما سنذكره في المسألة التي تلي هذه ولا نعلم فيه خلافا إلا أن يكون النصاب كله صغارا فيجوز أخذ الصغيرة في الصحيح من المذهب وانما يتصور ذلك بأن يبدل كبارا بصغار في أثناء الحول أو يكون عنده نصب من الكبار فتوالد نصاب من الصغار ثم تموت الامهات ويحول الحول على الصغار وقال أبو بكر : لا يؤخذ أيضا إلا كبيرة تجزيء في الأضحية وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ انما حقنا في الجذعة أو الثنية ] ولأن زيادة السن في المال لا يزيد به الواجب كذلك نقصانه لا ينقص به
ولنا قول الصديق رضي الله عنه : والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليها فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق ولأنه مال تجب فيه الزكاة من غير اعتبار قيمته فيجب أن يؤخذ من عينه كسائر الأموال والحديث محمول على ما فيه كبار وأما زيادة السن فليست تمنع الرفق بالمالك في الموضعين كما أن ما دون النصاب عفو وما فوقه عفو فظاهر قول أصحابنا أن الحكم في الفصلان والعجول كالحكم في السخال لما ذكرنا في الغنم ويكون التعديل بالقيمة مكان زيادة السن كما قلنا في اخراج الذكر من الذكور ويحتمل أن لا يجوز اخراج الفصلان والعجول وهو قول الشافعي كيلا يفضي إلأى التسوية بين الفروض فانه يفضي الى اخراج ابنة المخاض عن خمس وعشرين وست وثلاثين وست وأربعين واحدى وستين ويخرج ابنتي اللبون عن ست وسبعين واحدى وتسعين ومائة وعشرين ويفضي الى الانتقال من ابنة اللبون الواحدة من إحدى وستين إلى اثنتين في ست وسبعين مع تقارب الوقص بينهما وبينهما في الأصل أربعون والخبر ورد في السخال فيمتنع قياس الفصلان والعجول عليهما لما بينهما من الفرق

فصل : انعقاد الحول على النصاب من صغار بهيمة الانعام
فصل : وإن ملك نصابا من الصغار انعقد عليه حول الزكاة من حين ملكه وعن أحمد لا ينعقد عليه الحول حتى يبلغ سنا يجزىء مثله في الزكاة وهو قول أبي حنيفة وحكي ذلك عن الشعبي لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس في السخال زكاة ] وقال : [ لا نأخذ من راضع لبن ] ولأن السن معنى يتغير به الفرض فكان لنقصانه تأثير في الزكاة كالعدد
ولنا أن السخال تعد مع غيرها فتعد منفردة كالامهات والخبر يرويه جابر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي مرسلا ثم هو محمول على أنه لا تجب فيها قبل حول الحول والعدد تزيد الزكاة بزيادته بخلاف السن فاذا قلنا بهذه الرواية فاذا ماتت الامهات الا واحدة لم ينقطع الحول وإن ماتت كلها انقطع الحول

مسألة : يجزىء من المعز والضأن
مسألة : قال : ويؤخذ من المعز الثني ومن الضان الجذع
وجملته أنه لا يجزي في صدقة الغنم إلا الجذع من الضأن وهو ماله ستة أشهر والثني من المعز وهو ماله سنة فان تطوع المالك بأفضل منها في السن جاز فان كان الفرض في النصاب أخذه وإن كان كله فوق الفرض خير المالك بين دفع واحدة منه وبين شراء الفرض فيخرجه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : في احدى الروايتين عنه لا يجزىء الا الثنية منهما جميعا لأنهما نوعا جنس فكان الفرض منهما واحدا كأنواع الابل والبقر وقال مالك تجزي الجذعة منهما لذلك ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ انما حقنا في الجذعة والثنية ]
ولنا على جواز اخراج الجذعة من الضان مع هذا الخبر قول سعد بن دليم أتاني رجلان على بعير فقالا : إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه و سلم اليك لتؤدي صدقة غنمك قلت وأي شيء تأخذان قالا : عناق جذعة أو ثنية أخرجه أبو داود
ولنا ما روى مالك عن سويد بن غفلة قال : أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضان والثنية من المعز وهذا صريح وفيه بيان المطلق في الحديثين قبله ولأن جذعة الضان تجزيء في الأضحية بخلاف جذعة المعز بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي دينار في جذعة المعز : تجزئك ولا تجزىء عن أحد بعدك ] قال ابراهيم الحربي انما أجزأ الجذع من الضأن لأنه يلقح والمعز لا يلقح اذا كان ثنيا

مسألة وفصل : ضم أنواع الأجناس الى بعضها في زكاة الأنعام
مسألة : قال : فان كانت عشرين ضأنا وعشرين معزا أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن ونصف معز
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في ضم أنواع الاجناس بعضها الى بعض في ايجاب الزكاة وقال ابن المنذر : أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على ضم الضأن الى المعز اذا ثبت هذا فانه يخرج الزكاة من أي الأنواع أحب سواء دعت الحاجة الى ذلك بأن يكون الواجب واحدا أو لا يكون أحد النوعين موجبا لواحد أو لم يدع بأن يكون كل واحد من النوعين يجب فيه فريضة كاملة وقال عكرمة و مالك و اسحق : يخرج من أكثر العددين فان استويا أخرج من أيهما شاء وقال الشافعي : القياس أن يؤخذ من كل نوع ما يخصه اختاره ابن المنذر لأنها أنواع تجب فيها الزكاة فتجب زكاة كل نوع منه كأنواع الثمرة والحبوب
ولنا أنهما نوعا جنس من الماشية فجاز الاخراج من أيهما شاء كما لو استوى العددان وكالسمان والمهازيل وما ذكره الشافعي يفضي إلى تشقيص الفرض وقد عدل إلى غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من أجله فالعدول إلى النوع أولى فاذا ثبت هذا فانه يخرج من أحد النوعين ما قيمته كقيمة المخرج من النوعين فاذا كان النوعان سواء وقيمة المخرج من أحدهما اثنا عشر وقيمة المخرج من الآخر خمسة عشر أخرج من أحدهما ما قيمته ثلاثة عشر ونصف وإن كان الثلث معزا والثلثان ضأنا أخرج ما قيمته أربعة عشر وإن كان الثلث ضأنا والثلثان معزا أخرج ما قيمته ثلاثة وهكذا لو كان في ابله عشر بخاتي وعشر مهرية وعشر عرابية وقيمة ابنة المخاض البختية ثلاثون وقيمة المهرية أربعة وعشرون وقيمة العرابية اثنا عشر أخرج ابنة مخاض قيمتها ثلث قيمة ابنة مخاض بختية وهو عشرة وثلث قيمة مهرية ثمانية وثلث قيمة اعرابية أربعة فصار الجميع اثنين وعشرين وهذا الحكم في أنواع البقر وكذلك الحكم في السمان مع المهازيل والكرام مع اللئام فأما الصحاح مع المراض والذكور مع الاناث والكبار مع الصغار فيتعين عليه صحيحة وكبيرة أنثى على قدر قيمة المالين إلا أن يتطوع رب المال بالفضل وقد ذكر هذا
فصل : فان أخرج عن النصاب من غير نوعه مما ليس في ماله منه شيء ففيه وجهان أحدهما يجزىء لأنه أخرج عنه من جنسه فجاز كما لو كان المال نوعين فأخرج من أحدهما عنهما والثاني لا يجزيء لأنه أخرج من غير نوع ماله أشبه ما لو أخرج من غير الجنس وفارق ما اذا أخرج من أحد نوعي ماله لأنه جاز فرارا من تشقيض الفرض وقد جوز الشارع الاخراج من غير الجنس في قليل الابل وشاة الجبران لذلك بخلاف مسألتنا

مسائل وفصول : خلطة السائحة وشروطها وما يبطلها وما لا يبطلها
مسألة : قال : وان اختلط جماعة في خمس من الابل أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم وكان مرعاهم ومسرحهم ومبيتهم ومحلهم وفحلهم واحدا أخذت منهم الصدقة
وجملته أن الخلطة في السائمة تجعل مال الرجلين كمال الرجل الواحد في الزكاة سواء كانت خلطة أعيان وهي أن تكون الماشية مشتركة بينهما لكل واحد منهما نصيب مشاع مثل أن يرثا نصابا أو يشترياه أو يوهب لهما فيبقياه بحاله أو خلطة أوصاف وهي أن يكون مال كل واحد منهما مميزا فخلطاه واشتركا في الأوصاف التي نذكرها وسواء تساويا في الشركة أو اختلفا مثل أن يكون لرجل شاة ولآخر تسعة وثلاثون أو يكون لأربعين رجلا أربعون شاة لكل واحد منهم شاة نص عليهما أحمد وهذا قول عطاء و الأوزاعي و الشافعي و الليث و اسحق وقال مالك : انما تؤثر الخلطة اذا كان لكل واحد من الشركاء نصاب وحكي ذلك عن الثوري و أبي ثور واختاره ابن المنذر وقال أبو حنيفة : لا أثر لها بحال لأن ملك كل واحد دون النصاب فلم يجب عليه زكاة كما لو لم يختلط بغيره و لأبي حنيفة فيما اذا اختلطا في نصابين ان كل واحد منهما يملك أربعين من الغنم فوجبت عليه شاة لقوله عليه السلام [ في أربعين شاة شاة ]
ولنا ما روى البخاري في حديث أنس الذي دكرنا أوله : [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ] وما كان من خليطين فانهما يتراجعان بينهما بالسوية ولا يجيء التراجع إلا على قولنا في خلطة الاوصاف وقوله : لا يجمع بين متفرق انما يكون هذا اذا كان لجماعة فان الواحد يضم مالة بعضه الى بعض وإن كان في أماكن وهذا لا يفرق بين مجتمع ولأن للخلطة تأثيرا في تخفيف المؤنة فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم والسقي وقياسهم مع مخالفة النص غير مسموع
اذا ثبت هذا فان خلطة الأوصاف يعتبر فيها اشتراكهم في خمسة أوصاف المسرح والمبيت والمحلب والمشرب والفحل قال أحمد : الخليطان أن يكون راعيهما واحدا ومراحهما واحدا وشربهما واحدا وقد ذكر أحمد في كلامه شرطا سادسا وهو الراعي قال الخرقي : وكان مرعاهم ومسرحهم واحدا فيحتمل أنه أراد بالمرعى الراعي ليكون موافقا لقول أحمد ولكون المرعى هو المسرح قال ابن حامد : المرعى والمسرح شرط واحد وانما ذكر أحمد المسرح ليكون فيه راع واحد والأصل في هذا ما روى الدارقطني في سننه باسناده [ عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي ] وروي الرعي وبنحو من هذا قال الشافعي وقال بعض أصحاب مالك : لا يعتبر في الخلطة الا شرطان : الراعي والمرعى لقوله عليه السلام : [ لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق ] والاجتماع يحصل بذلك ويسمى خلطة فاكتفي به
ولنا قوله صلى الله عليه و سلم : [ والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل ] فان قيل فلم اعتبرتم زيادة على هذا ؟ قلنا هذا تنبيه على بقية الشرائط والغاء لما ذكروه ولأن لكل واحد من هذه الأوصاف تأثيرا فاعتبر كالمرعى اذا ثبت هذا فالمبيت معروف وهو المراح الذي تروح اليه الماشية قال الله تعالى : { حين تريحون وحين تسرحون } والمسرح والمرعى واحد وهو الذي ترعى فيه الماشية يقال سرحت الغنم اذا مضت الى المرعى وسرحتها أنا بالتخفيف والتثقيل ومنه قوله تعالى : { وحين تسرحون } والمحلب الموضع الذي تحلب فيه الماشية يشترط أن يكون واحدا ولا يفرد كل واحد منهما لحلب ماشيته موضعا وليس المراد منه خلط اللبن في اناء واحد لأن هذا ليس بمرفق بل مشقة لما فيه من الحاجة الى قسمة اللبن ومعنى كون الفحل واحدا أن لا تكون فحولة أحد المالين لا تتطرق غيره وكذلك الراعي هو أن لا يكون لكل مال راع ينفرد برعايته دون الآخر ويشترط أن يكون المختلطان من أهل الزكاة فان كان أحدهما ذميا أو مكاتبا لم يعتد بخلطته ولا تشترط نية الخلطة وحكي عن القاضي أنه اشترطها
ولنا قوله عليه السلام : [ والخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل ] ولأن النية لا تؤثر في الخلطة فلا تؤثر في حكمها ولأن المقصود بالخلطة من الارتفاق يحصل بدونها فلم يتغير وجودها معه كما لا تتغير نية السوم في الاسامة ولا نية السقي في الزرع والثمار ولا نية مضي الحول فيما يشترط الحول فيه
فصل : فان كان بعض مال الرجل مختلطا وبعضه منفردا أو مختلطا مع مال لرجل آخر فقال أصحابنا : يصير ماله كله كالمختلط بشرط أن يكون مال الخلطة نصابا فان كان دون النصاب لم يثبت حكمها فلو كان لرجل ستون شاة منها عشرون مختلطة مع عشرين لرجل آخر وجب عليهما شاة واحدة ربعها على صاحب العشرين وباقيها على صاحب الستين لأننا لما ضممنا ملك صاحب الستين صار صاحب العشرين كالمخالط لستين فيكون الجميع ثمانين عيها شاة بالحصص ولو كان لصاحب الستين ثلاثة خلطاء كل واحد منهم بعشرين بعشرين وجب على الجميع شاة نصفها على صاحب الستين ونصفها على الخلطاء على كل واحد منهم سدس شاة ولو كان رجلان لكل واحد منهما ستون فخالط كل واحد منهما صاحبه بعشرين فقط وجب عليهما شاة واحدة بينهما نصفين فان اختلطا في أقل من ذلك لم يثبت لهما حكم الخلطة ووجب على كل واحد منهما شاة كاملة وإن اختلطا في أربعين لواحد منهما عشرة وللآخر ثلاثون ثبت لهما حكم الخلطة لوجودها في نصاب كامل
فصل : ويعتبر اختلاطهم في جميع الحول وإن ثبت لهم حكم الانفراد في بعضه زكوا زكاة المنفردين وبهذا قال الشافعي في الجديد وقال مالك : لا يعتبر اختلاطهم في أول الحول لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع ] يعني في وقت أخذ الزكاة
ولنا أن هذا مال ثبت له حكم الانفراد فكانت زكاته زكاة المنفرد كما لو انفرد في آخر الحول والحديث محمول على المجتمع في جميع الحول اذا تقرر هذا فمتى كان لرجلين ثمانون شاة بينهما نصفين وكانا منفردين فاختلطا في أثناء الحول فعلى كل واحد منهما عند تمام حوله شاة وفيما بعد ذلك من السنين يزكيان زكاة الخلطة وإن اتفق حولاهما أخرجا شاة عند تمام حول على كل واحد منهما نصفها وإن اختلف حولاهما فعلى الأول منهما عند تمام حوله شاة فاذا تم حول الثاني فان كان الأول أخرجها من غير المال فعلى الثاني نصف شاة أيضا وإن أخرجها من النصاب نظرت فان أخرج الشاة جميعها عن ملكه فعلى الثاني أربعون جزءا من تسعة وسبعين جزءا من شاة وان أخرج نصف شاة فعلى الثاني أربعون جزءا من تسعة وسبعين ونصف جزء من شاة
فصل : وان ثبت لأحدهما حكم الانفراد دون صاحبه ويتصور ذلك بأن يملك رجلان نصابين فيخلطاهما ثم يبيع أحدهما نصيبه أجنبيا أو يكون لأحدهما نصاب منفرد فيشتري آخر نصابا ويخلطه به في الحال اذا قلنا اليسير معفو عنه فانه لا بد أن تكون عقيب ملكها منفردة في جزء وان قل أو يكون لأحدهما نصاب وللآخر دون النصاب فاختلطا في أثناء الحول فاذا تم حول الاول فعليه شاة فاذا تم حول الثاني فعليه زكاة الخلطة على التفصيل الذي ذكرناه ويزكيان فيما بعد ذلك زكاة الخلطة كلما تم حول أحدهما فعليه من زكاة الجميع بقدر ماله منه فاذا كان المالان جميعا ثمانين شاة فأخرج الأول منها شاة زكاة الأربعين التي يملكها فعلى الثاني أربعون جزءا من تسعة وسبعين جزءا فان أخرج الشاة كلها من ملكه وحال الحول الثاني فعلى الأول نصف شاة زكاة خلطة فان أخرجه وحده فعلى الثاني تسعة وثلاثون جزءا من سبعة وسبعين جزءا ونصف جزء من شاة وان توالدت شيئا حسب معها
فصل : وإن كان بينهما ثمانون شاة مختلطة مضى عليها بعض الحول فتبايعاها باع كل واحد منهما غنمه صاحبه مختلطة وبعثاها على الخلطة لم يقطع حولهما ولم تزل خلطتهما وكذلك لو باع بعض غنمه من غير إفراد قل المبيع أو كثر فأما إن أفردها ثم تبايعاها ثم خلطاها وتطاول زمن الافراد بطل حكم الخلطة وإن خلطاها عقيب البيع ففيه وجهان أحدهما لا ينقطع لأن هذا زمن يسير يعفى والثاني ينقطع لأن الانفراد قد وجد في بعض الحول فيزكيان زكاة المنفردين وان أفرد كل واحد منهما نصف نصاب وتبايعاه لم ينقطع حكم الخلطة لأن ملك الانسان يضم بعضه الى بعض فكأن الثمانين مختلطة بحالها كذلك إن تبايعا أقل من النصف وان تبايعا أكثر من النصف منفردا بطل حكم الخلطة لأن من شرطها كونها في نصاب فمتى بقيت فيما دون النصاب صارا منفردين وقال القاضي : تبطل الخلطة في جميع هذه المسائل في المبيع ويصير منفردا وهذا مذهب الشافعي لأن عنده أن المبيع بجنسه ينقطع حكم الحول فيه فتنقطع الخلطة ضرورة انقطاع الحول وسنبين ان شاء الله أن حكم الحول لا ينقطع في وجوب الزكاة فلا تنقطع الخلطة لأن الزكاة انما تجب في المشترى ببنائه على حول المبيع فيجب أن يبنى عليه في الصفة التي كان عليها
فأما إن كان مال واحد منهما منفردا فخلطاه ثم تبايعاه فعليهما في الحول زكاة الانفراد لأن الزكاة تجب فيه ببنائه على حول الأول وهو منفرد فيه ولو كان لرجل نصاب منفرد فباعه بنصاب مختلط زكى كل واحد منهما زكاة الانفراد لأن الزكاة في الثاني تجب ببنائه على الأول فهما كالمال الواحد الذي حصل الانفراد في أحد طرفيه فان كان لكل واحد منهما أربعون مختلطة مع مال آخل فتبايعاها وبعثاها مختلطة لم يبطل حكم الخلطة وان اشترى أحدهما بالاربعين المختلطة أربعين منفردة وخلطها في الحال احتمل أن يزكي زكاة الخلطة لأنه يبني حولها على حول مختلطة وزمن الانفراد يسير فعفي عنه واحتمل أن يزكي زكاة المنفرد لوجود الانفراد في بعض الحول
فصل : وان كان لرجل أربعون شاة ومضى عليها بعض الحول فباع بعضها مشاعا في بعض الحول فقال أبو بكر : ينقطع الحول ويستأنفان حول من حين البيع لأن النصف المشترى قد انقطع الحول فيه فكأنه لم يجز في حول الزكاة أخلا فلزم انقطاع الحول في الآخر وقال ابن حامد : لا ينقطع الحول فيما بقي للبائع لأن حدوث الخلطة لا يمنع ابتداء الحول فلا يمنع استدامته ولأنه لو خالط غيره في جميع الحول وجبت الزكاة فاذا خالط في بعضه نفسه وفي بعضه غيره كان أولى بالايجاب وانما بطل حول المبيعة لانتقال الملك فيها والا فهذه العشرون لم تزل مخالطة لمال جار في الزكاة وهكذا الحكم فيما اذا علم على بعضها وباعه مختلطا فأما ان أفرد بعضها وباعه فخلطه المشتري في الحال بغنم الاول فقال ابن حامد : ينقطع الحول لثبوت حكم الانفراد في البعض وقال القاضي : يحتمل أن يكون كما لو باعها مختلطة لأن هذا زمن يسير وهذا الحكم فيما اذا كانت الأربعون لرجلين فباع أحدهما نصيبه أجنبيا فعلى هذا اذا تم حول الأول فعليه نصف شاة ثم اذا تم حول الثاني نظرنا في البائع فان كان أخرج الزكاة من غير المال فلا شيء على المشتري لأنم النصاب نقص في بعض الحول الا أن يكون الفقير مخالطا لهما بالنصف الذي صار له فلا ينقص النصاب اذا ويخرج الثاني نصف شاة وان كان الاول أخرج الزكاة من غير المال وقلنا الزكاة تتعلق بالذمة وجب على المشتري نصف شاة وان قلنا تتعلق بالعين فقال القاضي : يجب نصف شاة أيضا لان تعلق الزكاة بالعين لا بمعنى أن الفقراء ملكوا جزءا من النصاب بل بمعنى أنه تعلق حقهم به كتعلق ارش الجناية بالجاني فلم يمنع وجوب الزكاة وقال أبو الخطاب لا شيء على المشتري لأن تعلق الزكاة بالعين نقص النصاب وهذا الصحيح فان فائدة قولنا الزكاة تتعلق بالعين انما تظهر في منع الزكاة وقد ذكره القاضي في غير هذا الموضع وعلى قياس هذا لو كان لرجلين نصاب خلطة فباع أحدهما خليطه في بعض الحول فهي عكس المسألة الأولى في الصورة ومثلها في المعنى لأنه كان في الاول خليط نفسه ثم صار خليط أجنبي وههنا كان خليط أجنبي ثم صار خليط نفسه ومثله لو كان رجلان متوارثان لهما نصاب خلطة فمات أحدهما في بعض الحول فورثه صاحبه على قياس قول أبي بكر لا يجب عليه شيء حتى يتم الحول على المالين من حين ملكه لهما الا أن يكون أحدهما بمفرده يبلغ نصابا وعلى قياس قول ابن حامد تجب الزكاة في النصف الذي كان له خاصة
فصل : اذا استأجر أجيرا يرعى له بشاة معينة من النصاب فحال الحول ولم يفردها فهما خليطان تجب عليهما زكاة الخلطة وان أفردها قبل الحول فلا شيء عليهما لنقصان النصاب وان استأجره بشاة موصوفة بالذمة صح أيضا فاذا حال الحول وليس له ما يقتضيه غير النصاب انبنى على الدين هل يمنع الزكاة في الاموال الظاهرة ؟ وسنذكره فيما بعد ان شاء الله تعالى
مسألة : قال : وتراجعوا فيما بينهم في الحصص
قد ذكرنا أن الخلطاء تؤخذ الصدقة من أموالهم كما تؤخذ من مال الواحد فظاهر كلام أحمد ان الساعي يأخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء سواء دعت الحاجة الى ذلك بأن تكون الفريضة عينا واحدة لا يمكن أخذها من المالين جميعا أو لا يجد فرضهما جميعا الا في أحد المالين مثل أن يكون مال أحدهما صحاحا كبارا ومال خليطه صغارا أو مراضا فانه تجب صحيحة كبيرة أو لم تدع الحاجة الى ذلك بأن يجد فرض كل واحد من المالين فيه قال أحمد : انما يجيء المصدق فيجد الماشية فيصدقها ليس يجيء فيقول : أي شيء لك ؟ وانما يصدق ما يجده والخليط قد ينفع وقد يضر قال الهيثم بن خارجة لأبي عبد الله : أنا رأيت مسكينا كان له في غنم شاتان فجاء المصدق فأخذ احداهما والوجه في ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما كان من خليطين فانهما يتراجعان بالسوية ] وقوله : [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ] وهما خشيتان : خشية رب المال من زيادة الصدقة وخشية الساعي من نقصانها فليس لأرباب الأموال أن يجمعوا أموالهم المتفرقة التي كان الواجب في كل واحد منها شاة ليقل الواجب فيها ولا أن يفرقوا أموالهم المجتمعة التي كان فيها باجتماعها فرض ليسقط عنها بتفرقتها وليس للساعي أن يفرق بين الخلطاء لتكثر الزكاة ولا أن يجمعها اذا كانت متفرقة لتجب الزكاة ولأن المالين قد صارا كالمال الواحد في وجوب الزكاة فكذلك في اخراجها ومتى أخذ الساعي الفرض من ما لأحدهما رجع على خليطه بقدر قيمة حصته من الفرض فاذا كان لأحدهما ثلث المال وللآخر ثلثاه فأخذ الفرض من مال صاحب الثلث رجع بثلثي قيمة المخرج على صاحبه وان أخذه من الآخر رجع على صاحب الثلث بثلث قيمة المخرج والقول قول المرجوع عليه مع يمينه اذا اختلفا وعدمت البينة لأنه غارم فكان القول قوله كالغاصب اذا اختلفا في قيمة المغصوب بعد تلفه
فصل : اذا أخذ الساعي أكثر من الفرض بغير تأويل مثل أن يأخذ شاتين مكان شاة أو يأخذ جذعة مكان حقه لم يكن للمأخوذ منه الرجوع إلا بقدر الواجب وان كان بتأويل سائغ مثل أن يأخذ الصحيحة عن المراض والكبيرة عن الصغار فانه يرجع بالحصة منها لأن ذلك الى اجتهاد الامام فاذا أداه اجتهاده الى أخذه وجب دفعه اليه وصار بمنزلة الفرض الواجب وكذلك اذا أخذ القيمة رجع بما يخص شريكه منها لأنه بتأويل

حكم ما إذا أخذ المصدق أكثر من الفرض وتجدد ملك الانصبة من الماشية
فصل : اذا ملك رجل أربعين شاة في المحرم وأربعين في صفر وأربعين في ربيع فعليه في الأول عند تمام حوله شاة فاذا تم حول الثاني فعلى وجهين أحدهما لا زكاة فيه لأن الجميع ملك واحد فلم يزد فرضه على شاة واحدة كما لو اتفقت أحواله والثاني فيه الزكاة لأن الاول استقل بشاة فيجب الزكاة في الثاني وهي نصف شاة لاختلاطها بالأربعين الأولى من حين ملكها واذا تم حول الثالث فعلى وجهين أحدهما لا زكاة فيه والثاني فيه الزكاة وهو ثلث شاة لأنه ملكه مختلطا بالثمانين المتقدمة وذكر أبو الخطاب فيه وجها ثالثا وهو أنه يجب في الثاني وفي الثالث شاة كاملة لأنه نصاب كامل وجبت الزكاة فيه بنفسه فوجبت فيه شاة كاملة كما لو انفرد وهذا ضعيف لأنه لو كان المالك للثاني والثالث أجنبيين ملكاهما مختلطين لم يكن عليهما الا زكاة خلطة فاذا كان لمالك الأول كان أولى فان ضم بعض ماله الى بعض أولى من ضم مالك الخليط الى خليط وان ملك في الشهر الثاني ما يغير الفرض مثل أن ملك مائة شاة فعليه عند تمام حوله شاة ثانية على الوجه الأول وكذلك الثالث لأننا نجعل ملكه في الايجاب كملكه للكل في حال واحدة فتصير كأنه ملك مائتين وأربعين فيجب عليه ثلاث شياه عند تمام حول كل مال شاة وعلى الوجه الثاني يجب عليه في الشهر الثاني حصة من فرض المالين معا وهو شاة وثلاثة أسباع شاة لأنه لو ملك المالين دفعة واحدة كان عليه فيهما شاتان حصة المائة منها خمسة أسباعهما وهو شاة وثلاثة أسباع شاة وعليه في الثالث شاة وربع لأنه لوملك الجميع دفعة واحدة وهو مائتان وأربعون شاة لكان عليه ثلاث شياه حصة الثالث منهن ربعهن وسدسهن وهو شاة وربع ولو كان المالك للأموال الثلاثة ثلاثة أشخاص وملك الثاني سائمته مختلطة بسائمة الأول ثم ملك الثالث سائمته مختلطة بغنمها لكان الواجب في الثاني والثالث كالواجب على المالك في الوجه الثاني لا غير
فصل : فان ملك عشرين من الابل في المحرم وخمسا في صفر فعليه في العشرين عند تمام حولها أربع شياه وفي الخمس عند تمام حولها خمس بنات مخاض على الوجهين الأولين وعلى الوجه الثالث عليه شاة وان ملك في المحرم خمسا وعشرين وفي صفر خمسا فعليه في الأول عند تمام حوله بنت مخاض ولا شئ عليه في الخمس في الوجه الاول وعلى الثاني عليه سدس بنت مخاض وعلى الثالث عليه فيها شاة فان ملك مع ذلك في ربيع شيئا ففي الوجه الأول عليه في الاول عند تمام حوله بنت مخاض ولا شئ عليه في الخمس حتى يتم حول الست فيجب فيها ربع بنت لبون ونصف تسعها وفي الوجه الثاني عليه في الخمس سدس بنت مخاض اذا تم حولها وفي الست سدس بنت لبون عند تمام حولها وفي الوجه الثالث عليه في الخمس الثانية شاة عند تمام حولها وفي الست شاة عند تمام حولها

فصل : ضم السانحة بعضها إلى بعض إذا كانت في بلدان شتى
فصل : فان كانت سائمة الرجل في بلدان شتى وبينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة أو كانت مجتمعة ضم بعضها الى بعض وكانت زكاتها كزكاة المختلطة بغير خلاف نعلمه وان كان بين البلدان مسافة القصر فعن أحمد فيه روايتان إحداهما ان لكل مال حكم نفسه يعتبر على حدته إن كان نصابا ففيه الزكاة والا فلا ولا يضم الى المال الذي في البلد الآخر نص عليه قال ابن المنذر : لا أعلم هذا القول عن غير أحمد واحتج بظاهر قوله عليه السلام : [ لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ] وهذا مفرق فلا يجمع ولأنه لما أثر اجتماع مالين لرجلين في كونهما كالمال الواحد يجب أن يؤثر افتراق مال الرجل الواحد حتى يجعله كالمالين والرواية الثانية قال فيمن له مائة شاة في بلدان متفرقة لا يأخذ المصدق منها شيئا لأنه لا يجمع بين متفرق وصاحبها اذا ضبط ذلك وعرفه أخرج هو بنفسه يضعها في الفقراء روي هذا عن الميموني و حنبل وهذا يدل على أن زكاتها تجب مع اختلاف البلدان إلا أن الساعي لا يأخذها لكونه لا يجد نصابا كاملا مجتمعا ولا يعلم حقيقة الحال فيها فأما المالك العالم بملكه نصابا كاملا فعليه أداء الزكاة وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب سائر الفقهاء قال مالك : أحسن ما سمعت فيمن كان له غنم على راعيين متفرقين ببلدان شتى أن ذلك يجمع على صاحبه فيؤدي صدقته وهذا هو الصحيح ان شاء الله تعالى لقوله عليه السلام : [ في أربعين شاة شاة ] ولأنه ملك واحد أشبه ما لو كان في بلدان متقاربة أو غير السائمة ونحمل كلام أحمد في الرواية الأولى على أن المصدق لا يأخذها وأما رب المال فيخرج فعلى هذا يخرج الفرض في أحد البلدين لأنه موضع حاجة

مسألة : حكم الخلطة في غير السوائم
مسألة : قال : وإن اختلطوا في غير هذا أخذ من كل واحد منهم على انفراده إذا كان ما يخصه تجب فيه الزكاة
ومعناه أنهم اذا اختلطوا في غير السائمة كالذهب والفضة وعروض التجارة والزروع والثمار لم تؤثر خلطتهم شيئا وكان حكمهم حكم المنفردين وهذا قول أكثر أهل العلم وعن أحمد رواية أخرى ان شركة الاعيان تؤثر في غير الماشية فاذا كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة وهذا قول اسحق و الأوزاعي في الحب والثمر والمذهب الأول قال أبو عبد الله : الأوزاعي يقول في الزرع اذا كانوا شركاء فخرج لهم خمسة أوسق يقول فيه الزكاة قاسه على الغنم ولا يعجبني قول الأوزاعي وأما خلطة الأوصاف فلا مدخل لها في غير الماشية بحال لأن الاختلاط لا يحصل : وخرج القاضي وجها آخر أنها تؤثر لأن المؤونة تخف اذا كان الملقح واحدا والصعاد والناطور والجرين وكذلك أموال التجارة والدكان واحد والمخزن والميزان والبائع فأشبه الماشية ومذهب الشافعي على نحو مما حكينا من مذهبنا والصحيح أن الخلطة لا تؤثر في غير الماشية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ والخليطان ما اشتركا في الحوض والفحل والراعي ] فدل على أن ما لم يوجد فيه ذلك لا يكون خلطة مؤثرة وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ] إنما يكون في الماشية لأن الزكاة تقل بجمعها تارة وتكثر أخرى وسائر الأموال تجب فيها فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها ولأن الخلطة في الماشية تؤثر في النفع تارة وفي الضرر أخرى ولو اعتبرناها في غير الماشية أثرت ضررا محضا برب المال فلا يجوز اعتبارها اذا ثبت هذا فان كان لجماعة وقف أو حائط مشترك بينهم فيه ثمرة أو زرع فلا زكاة عليهم الا أن يحصل في يد بعضهم نصاب كامل فيجب عليه وقد ذكر الخرقي هذا في باب الوقف وعلى الرواية الأخرى إذا كان الخارج نصابا ففيه الزكاة وإن كان الوقف نصابا من السائمة فيحتمل أن عليهم الزكاة لاشتراكهم في ملك نصاب تؤثر الخلطة فيه وينبغي أن تخرج الزكاة من غيره لأن الوقف لا يجوز نقل الملك فيه ويحتمل أن لا تجب الزكاة فية لنقص الملك فيه وكما له معتبر في إيجاب الزكاة بدليل مال المكاتب

فصل : لا زكاة في الخيل السانحة
فصل : ولا زكاة في غير بهيمة الانعام من الماشية في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : في الخيل الزكاة اذا كانت ذكورا واناثا وان كانت ذكورا مفردة أو إناثا منفردة ففيها روايتان وزكاتها دينار عن كل فرس أو ربع عشر قيمتها والخيرة في ذلك الى صاحبها أيهما شاء أخرج لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ في الخيل السائمة في كل فرس دينار ] وروي عن عمر أنه كان يأخذ من الرأس عشرة ومن الفرس عشرة ومن البرذون خمسة ولأنه حيوان يطلب نماؤه من جهة السوم أشبه النعم
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة ] متفق عليه وفي لفظ : [ ليس على الرجل في فرسه ولا في عبده صدقة ] وعن علي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ] رواه الترمذي وهذا هو الصحيح وروى أبو عبيد في الغريب عن النبي صلى الله عليه و سلم : ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة وفسر الجبهة بالخيل والنخة بالرقيق والكسعة بالحمير وقال الكسائي النخة بضم النون البقر العوامل ولأن ما لا زكاة في ذكوره المفردة وإناثه المفردة ولا زكاة فيهما اذا اجتمعا كالحمير ولأن ما لا يخرج من جنسه من السائمة لا تجب فيها كسائر الدواب ولأن الخيل دواب فلا تجب الزكاة فيها كسائر الدواب ولأنها ليست من بهيمة الانعام فلم تجب زكاتها كالوحوش وحديثهم يرويه عورك السعدي وهو ضعيف
وأما عمر فانما أخذ منهم شيئا تبرعوا به وسألوه أخذه وعوضهم عنه برزق عبيدهم فروى الامام أحمد باسناده عن حارثة قال جاء ناس من أهل الشام الى عمر فقالوا إنا قد أصبنا مالا وخيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور قال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وفيهم علي فقال هو حسن ان لم يكن جزية يؤخذون بها من بعدك قال أحمد فكان عمر يأخذ منهم ثم يرزق عبيدهم فصار حديث عمر حجة عليهم من وجوه أحدها قوله : ما فعله صاحباي يعني النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر ولو كان واجبا لما تركا فعله الثاني أن عمر امتنع من أخذها ولا يجوز أن يمتنع من الواجب الثالث قول علي هو حسن ان لم يكن جزية يؤخذون بها من بعدك فسمى جزية ان أخذوا بها وجعل مشروطا بعدم أخذهم به فيدل على أن أخذهم بذلك غير جائز الرابع استشارة عمر أصحابه في أخذه ولو كان واجبا لما احتاج الى الاستشارة الخامس أنه لم يشر عليه بأخذه أحد سوى علي بهذا الشرط الذي ذكره ولو كان واجبا لاشاروا به السادس أن عمر عوضهم عنه رزق عبيدهم والزكاة لا يؤخذ عنها عوض ولا يصح قياسها على النعم لأنها يكمل نماؤها وينتفع بدرها ولحمها ويضحى بجنسها وتكون هديا وفدية عن محظورات الاحرام وتجب الزكاة من عينها ويعتبر كمال نصابها ولا يعتبر قيمتها والخيل بخلاف ذلك

مسائل وفصول : على من تجب الزكاة ؟
مسألة : قال : والصدقة لا تجب إلا على أحرار المسلمين
وفي بعض النسخ الا على الأحرار المسلمين ومعناهما واحد وهو أن الزكاة لا تجب إلا على حر مسلم تام الملك وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا إلا عن عطاء و أبي ثور فانهما قالا على العبد زكاة ماله
ولنا أن العبد ليس بتام الملك فلم تلزمه زكاة كالمكاتب فأما الكافر فلا خلاف في أنه لا زكاة عليه ومتى صار أحد هؤلاء من أهل الزكاة وهو مالك للنصاب استقبل به حولا ثم زكاه فاما الحر المسلم اذا ملك نصابا خاليا عن دين فعليه الزكاة عند تمام حوله سواء كان كبيرا أو صغيرا أو عاقلا أو مجنونا
مسألة : قال : والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما
وجملة ذلك أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاث فيهما روي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وعائشة و الحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم وبه قال جابر بن زيد و ابن سيرين و عطاء و مجاهد و ربيعة و مالك و الحسن بن صالح و ابن أبي ليلى و الشافعي و العنبري و ابن عيينة و إسحق و أبو عبيد و أبو ثور ويحكى عن ابن مسعود و الثوري و الأوزاعي أنهم قالوا تجب الزكاة ولا تخرج حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوه قال ابن مسعود : أحصى ما يجب في مال اليتيم من الزكاة فاذا بلغ أعلمه فان شاء زكى وان شاء لم يزك وروي هذا عن ابراهيم وقال الحسن و سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و أبو وائل و النخعي و أبو حنيفة لا تجب الزكاة في أموالهما وقال أبو حنيفة : يجب العشر في زروعهما وثمرتهما وتجب صدقة الفطر عليهما واحتج في نفي الزكاة بقوله عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق ] وبانها عبادة محضة فلا تجب عليهما كالصلاة والحج
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ] أخرجه الدارقطني وفي رواية المثني بن الصباح وفيه مقال وروي موقوفا على عمر : [ وانما تأكله الصدقة باخراجها ] وانما يجوز اخراجها اذا كانت واجبة لأنه ليس له أن يتبرع بمال اليتيم ولأن من وجب العشر في زرعه وجب ربع العشر في ورقه كالبالغ العاقل ويخالف الصلاة والصوم فانها مختصة بالبدن وبنية الصبي ضعيفة عنها والمجنون لا يتحقق منه نيتها والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه نفقة الأقارب والزوجات وأروش الجنايات وقيم المتلفات والحديث أريد به رفع الإثم والعبادات البدنية بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر والحقوق المالية ثم هو مخصوص بما ذكرناه والزكاة في المال في معناه فنقيسها عليه اذا تقرر هذا فان الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة فوجب اخراجها كزكاة البالغ العاقل والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون فكان على الولي أداؤه عنهما كنفقة أقاربه وتعتبر نية الولي في الاخراج كما تعتبر النية من رب المال
مسألة : قال : والسيد يزكي عما في يد عبده لأنه مالكه
يعني أن السيد مالك لما في يد عبده وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في زكاة مال العبد الذي ملكه إياه فروي عنه زكاته على سيده هذا مذهب سفيان و إسحق وأصحاب الرأي وروي عنه لا زكاة في ماله لا على العبد ولا على سيده قال ابن المنذر : وهذا قول ابن عمر و جابر و الزهري و قتادة و مالك وأبي عبيد و للشافعي قولان كالمذهبين قال أبو بكر : المسألة مبنية على الروايتين في ملك العبد اذا ملكه سيده احداهما لا يملك قال أبو بكر : وهو اختياري وهو ظاهر كلام الخرقي ها هنا لأنه جعل السيد مالكا لمال عبده ولو كان مملوكا للعبد لم يكن مملوكا لسيده لأنه لا يتصور اجتماع ملكين كاملين في مال واحد ووجهه أن العبد مال فلا يملك المال كالبهائم فعلى هذا تكون زكاته على سيد العبد لأنه ملك له في يد عبده فكانت زكاته عليه كالمال الذي في يد المضارب والوكيل والثانية يملك لأنه آدمي يملك النكاح فملك المال كالحر وذلك لأنه بالآدمية يتمهد للملك من قبل ان الله تعالى خلق المال لبني آدم ليستعينوا به على القيام بوظائف العبادات وأعباء التكاليف فان الله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا فبالآدمية يتمهد للملك ويصلح له كما يتمهد للتكليف والعبادة فعلى هذا لا زكاة على السيد في مال العبد لأنه لا يملكه ولا على العبد لأن ملكه ناقص والزكاة إنما تجب على تام الملك
فصل : ومن بعده حر عليه زكاة ماله لأنه يملك بجزئه الحر ويورث عنه وملكه كامل فيه فكانت زكاته عليه كالحر الكامل والمدبر وأم الولد كالقن لأنه لا حرية فيهما
مسألة : قال : ولا زكاة على مكاتب
فان عجز استقبل سيده بما في يده من المال حولا وزكاه إن كان نصابا وإن أدى وبقي في يده نصاب للزكاة استقبل به حولا لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا زكاة على المكاتب ولا على سيده في ماله الا قول أبي ثور ذكر ابن المنذر نحو هذا واحتج أبو ثور بأن الحجر من السيد لا يمنع وجوب الزكاة كالحجر على الصبي والمجنون والمرهون وحكي عن أبي حنيفة أنه أوجب العشر في الخارج من أرضه بناء على أصله في أن العشر مؤنة الأرض وليس بزكاة
ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا زكاة في مال المكاتب ] رواه الفقهاء في كتبهم ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة فلم تجب في مال المكاتب كنفقة الأقارب وفارق المحجور عليه فانه منع التصرف لنقص تصرفه لا لنقص ملكه والمرهون منع من التصرف فيه بعقده فلم يسقط حق الله تعالى ومتى كان منع التصرف فيه لدين لا يمكن وفاؤه من غيره فلا زكاة عليه اذا ثبت هذا فمتى عجز ورد في الرق صار ما كان في يده ملكا لسيده فان كان نصابا أو يبلغ بضمه الى ما في يده نصابا استأنف له حولا من حين ملكه وزكاه كالمستفاد سواء ولا أعلم في هذا خلافا فان أدى المكاتب نجوم كتابته وبقي في يده نصاب فقد صار حرا كامل الملك فيستأنف الحول من حين عتقه ويزكيه إذا تم الحول والله أعلم

مسألة : اشتراط الحول في وجوب الزكاة
مسألة : قال : ولا زكاة في مال حتى يحول عليه حول
روى أبو عبد الله بن ماجة في السنن باسناد عن عمر [ عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] وهذا اللفظ غير مبقي على عمومه فان الأموال الزكاتية خمسة السائمة من بهيمة الأنعام والأثمان وهي الذهب والفضة وقيم عروض التجارة وهذه الثلاثة الحول شرط في وجوب زكاتها لا نعلم فيه خلافا سوى ما سنذكره في المستفاد والرابع ما يكال ويدخر من الزروع والثمار والخامس المعدن وهذان لا يعتبر لهما حول والفرق بين ما اعتبر له الحول وما لم يعتبر له ان ما اعتبر له الحول مرصد للنماء فالماشية مرصدة للدر والنسل وعروض التجارة مرصدة للربح وكذا الاثمان فاعتبر له الحول لأنه مظنة النماء ليكون اخراج الزكاة من الربح فانه أسهل وأيسر ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة ولم نعتبر حقيقة النماء لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت الى حقيقته كالحكم مع الأسباب ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال فلا بد لها من ضابط كيلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات فينفد مال المالك أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها تتكامل عند اخراج الزكاة منها فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ثم تعود في النقص لا في النماء فلا تجب فيها زكاة ثانية لعدم ارصادها للنماء والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع والثمر الا أنه ان كان من جنس الاثمان ففيه الزكاة عند كل حول لأنه مظنة للنماء من حيث إن الاثمان قيم الأموال ورأس مال التجارات وبهذا تحصل المضاربة والشركة وهي مخلوقة لذلك فكانت بأصلها وخلقتها كمال التجارة المعد لها

فصل : حكم المستفاد من الزكاة أثناء الحول
فصل : فان استفاد مالا مما يعتبر له الحول ولا مال له سواه وكان نصابا أو كان له مال من جنسه لا يبلغ نصابا فبلغ بالمستفاد نصابا انعقد عليه حول الزكاة من حينئذ فاذا تم حول وجبت الزكاة فيه وان كان عنده نصاب لم يخل المستفاد من ثلاثة أقسام أحدها أن يكون المستفاد من نمائه كربح مال التجارة ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله فيعتبر حوله بحوله لا نعلم فيه خلافا لأنه تبع له من جنسه فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة ويشمل العبد والجارية الثاني أن يكون المستفاد من غير جنس ما عنده فهذا له حكم نفسه لا يضم الى ما عنده في حول ولا نصاب بل ان كان نصابا استقبل به حولا وزكاه وإلا فلا شيء فيه وهذا قول جمهور العلماء
وروي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية : ان الزكاة تجب فيه حين استفاده قال أحمد : عن غير واحد يزكيه حين يستفيده وروى باسناده عن ابن مسعود قال : كان عبد الله يعطينا ويزكيه وعن الأوزاعي فيمن باع عبده أو داره أنه يزكي الثمن حين يقع في يده إلأا أن يكون له شهر يعلم فيؤخره حتى يزكيه مع ماله وجمهور العلماء على خلاف هذا القول منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قال ابن عبد البر على هذا جمهور العلماء والخلاف في ذلك شذوذ ولم يعرج عليه أحد من العلماء ولا قال به أحد من أئمة الفتوى وقد روي عن أحمد فيمن باع داره بعشرة آلاف درهم إلى سنة اذا قبض المال يزكيه وانما نرى أن أحمد قال : ذلك لأنه ملك الدراهم في أول الحول وصارت دينا له على المشتري فاذا قبضه زكاة للحول الذي مر عليه في ملكه كسائر الديون وقد صرح بهذا المعنى في رواية بكر بن محمد عن أبيه فقال : اذا كرى دارا أو عبدا في سنة بألف فحصلت له الدراهم وقبضها زكاها اذا حال عليها الحول من حين قبضها وان كانت على المكتري فمن يوم وجبت له فيها الزكاة بمنزلة الدين اذا وجب له على صاحبه زكاة من يوم وجب له القسم الثالث أن يستفيد مالا من جنس نصاب عنده قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول فيشتري أو يتهب مائة فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول أيضا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يضمه الى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعا عند تمام حول المال الذي كان عنده الا أن يكون عوضا عن مال مزكى لأنه يضم الى جنسه في النصاب فوجب ضمه اليه في الحول كالنتاج ولأنه اذا ضم في النصاب وهو سبب فضمه اليه في الحول الذي هو شرط أولى وبيان ذلك أنه لو كان عنده مائتا درهم مضى عليها نصف الحول فوهب له مائة أخرى فان الزكاة تجب فيها اذا تم حرلها بغير خلاف ولولا المائتان ما وجب فيها شيء فاذا ضمت الى المائتين في أصل الوجوب فكذلك في وقته ولأن افراده بالحول يفضي الى تشقيص الواجب في السائمة واختلاف أوقات الواجب والحاجة الى ضبط مواقيت التملك ومعرفة قدر الواجب في كل جزء ملكه ووجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من اخراجه ثم يتكرر ذلك في كل حول ووقت وهذا حرج مدفوع بقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } وقد اعتبر الشرع ذلك بايجاب غير الجنس فيما دون خمس وعشرين من الإبل وجعل الأوقاص في السائمة وضم الارباح والنتاج الى حول أصلها مقرونا بدفع هذه المفسدة فيدل على أنه علة لذلك فيجب تعدية الحكم الى محل النزاع وقال مالك كقوله في السائمة دفعا للتشقيص الواجب وكقولنا في الاثمان لعدم ذلك فيها
ولنا [ حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم : لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] ورى الترمذي عن ابن عمر أنه قال : من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول وروي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه و سلم الا أن الترمذي قال : الموقوف أصح وإنما رفعه عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم وهو ضعيف وقد روي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عمر وعائشة و عطاء و عمر بن عبد العزيز و سالم و النخعي أنه لا زكاة في المستفاد حتى يحول عليه الحول ولأنه مملوك أصلا فيعتبر فيه الحول شرطا كالمستفاد من غير الجنس ولا تشبه هذه الأموال الزروع والثمار لأنها تتكامل ثمارها دفعة واحدة ولهذا لا تتكرر الزكاة فيها وهذه نماؤها بنقلها فاحتاجت الى الحول
وأما الأرباح والنتاج فانما ضمت الى أصلها لأنها تبع له ومتولدة منه ولا يوجد ذلك في مسألتنا وان سلمنا أن علة ضمها ما ذكروه من الحرج فلا يوجد ذلك في مسألتنا لأن الأرباح تكثر وتتكرر في الأيام والساعات ويعسر ضبطها وكذلك النتاج وقد يوجد ولا يشعر به فالمشقة فيه أثم لكثرة تكرره بخلاف هذه الأسباب المستقلة فان الميراث والاغتنام والانهاب ونحو ذلك يندر ولا يتكرر فلا يشق ذلك فيه فان شق فهو دون المشقة في الأرباح والنتاج فيمتنع قياسه عليه واليسر فيما ذكرنا أكثر لأن الانسان يتخير بين التأخير والتعجيل وما ذكروه يتعين عليه التعجيل ولا شك أن التخيير بين شيئين أيسر من تعيين أحدهما لأنه مع التخيير فيختار أيسرهما عليه وأحبهما اليه ومع التعيين يفوته ذلك وأما ضمه اليه في النصاب فلأن النصاب معتبر لحصول الغنى وقد حصل الغنى بالنصاب الأول والحول معتبر لا سيما المال ليحصل أداء الزكاة من الربح ولا يحصل ذلك بمرور الحول على أصله فوجب أن يعتبر الحول له

فصلان : اعتبار بقاء النصاب في جميع الحول
فصل : ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول فان نقص الحول نقصا يسيرا فقال أبو بكر : ثبت أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه وظاهر كلام القاضي أن النقص اليسير في أثناء الحول يمنع لأنه قال فيمن له أربعون شاة فماتت منها شاة ونتجت أخرى اذا كان النتاج والموت حصلا في وقت واحد لم تسقط الزكاة لأن النصاب لم ينقص وكذلك إن تقدم النتاج الموت وإن تقدم الموت النتاج سقطت الزكاة لأن حكم الحول سقط بنقصان النصاب ويحتمل أن كلام أبي بكر أراد به النقص في طرف الحول ويحتمل أن القاضي أراد بالوقت الواحد الزمن المتقارب فلا يكون بين القولين اختلاف وحكي عن أبي حنيفة أن النصاب اذا كمل في طرفي الحول لم يضر نقصه في وسطه
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] يقتضي مرور الحول على جميعة ولأن ما اعتبر في طرفي الحول اعتبر في وسطه كالملك والإسلام
فصل : واذا ادعى رب المال أنه ما حال الحول على المال أو لم يتم النصاب الا منذ شهر أو أنه كان في يدي وديعة وانما اشتريته من قريب أو قال بعته في الحول ثم اشتريته أو رد علي ونحو هذا مما ينفي وجوب الزكاة فالقول قوله من غير يمين قال أحمد في رواية صالح لا يستحلف الناس على صدقاتهم فظاهر هذا أنه لا يستحلف وجوبا ولا استحبابا وذلك لأن الزكاة عبادة فالقول قول من تجب عليه بغير يمين كالصلاة والكفارات

مسائل وفصول : تعجيل الزكاة
مسألة : قال : ويجوز تقدمة الزكاة
وجملته أنه متى وجد سبب وجوب الزكاة وهو النصاب الكامل جاز تقديم الزكاة وبهذا قال الحسن و سعيد بن جبير و الزهري و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و إسحق و أبو عبيد وحكي عن الحسن أنه لا يجوز وبه قال ربيعة و مالك و داود لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تؤدى زكاة قبل حلول الحول ] ولأن الحول أحد شرطي الزكاة فلم يجز تقديم الزكاة عليه كالنصاب ولأن للزكاة وقتا فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة
ولنا ما روى علي أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك رواه أبو داود وقال يعقوب بن شيبة هو أثبتها اسنادا وروى الترمذي عن علي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعمر : إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام ] وفي لفظ قال : [ إنا كنا تعجلنا صدقة العباس لعامنا هذا عام أول ] رواه سعيد عن عطاء و ابن أبي مليكة و الحسن بن مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا ولأنه تعجيل لمال وجد سبب وجوبه قبل وجوبه فجاز كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله وأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الخنث وكفارة القتل بعد الجرح قبل الزهوق وقد سلم مالك تعجيل الكفارة وفارق تقديمها قبل النصاب لأنه تقديم لها على سببها فأشبه تقديم الكفارة على اليمين وكفارة القتل على الجرح ولأنه قد قدمها على الشرطين وها هنا قدمها على أحدهما وقولهم إن للزكاة وقتا قلنا الوقت اذا دخل في الشيء رفقا بالانسان كان له أن يعجله ويترك الارفاق بنفسه كالدين المؤجل وكمن أدى زكاة مال غائب وان لم يكن على يقين من وجوبها ومن الجائز أن يكون المال تالفا في ذلك الوقت وأما الصلاة والصيام فتعبد محض والتوقيت فيهما غير معقول فيجب أن يقتصر عليه
فصل : ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل ملك النصاب بغير خلاف علمناه ولو ملك بعض نصاب فعجل زكاته أو زكاة نصاب لم يجز لأنه تعجل الحكم قبل سببه وان ملك نصابا فعجل زكاته وزكاة ما يستفيده وما ينتج منه أو يربحه فيه أجزأه عن النصاب دون الزيادة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يجزيه لأنه تابع لما هو مالكه
ولنا أنه عجل زكاة مال ليس في ملكه فلم يجز كالنصاب الأول ولأن الزائد من الزكاة على زكاة النصاب إنما سببها الزائد في الملك فقد عجل الزكاة قبل وجود سببها فأشبه ما لو عجل الزكاة قبل ملك النصاب وقوله إنه تابع قلنا إنما يتبع في الحول فأما في الايجاب فان الوجوب ثبت بالزيادة لا بالأصل ولأنه إنما يصير له حكم بعد الوجود فأما قبل ظهوره فلا حكم له في الزكاة
فصل : وإن عجل زكاة نصاب من الماشية فتوالدت نصابا ثم ماتت الأمهات وحال الحول على النتاج أجزأ المعجل عنها لأنها دخلت في حول الأمهات وقامت مقامها فأجزأت زكاتها عنها فاذا كان عنده أربعون من الغنم فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وماتت الأمهات وحال الحول على السخال أجزأت المعجلة عنها لأنها كانت مجزئة عنها وعن أمهاتها لو بقيت فلأن تجزي عن إحداهما أولى وإن كان عنده ثلاثون من البقر فعجل عنها تبيعا ثم توالدت ثلاثين عجلة وماتت الأمهات وحال الحول على العجول احتمل أن يجزي عنها لأنها تابعة لها في الحول واحتمل أن لا يجزي عنها لأنه لو عجل عنها تبيعا مع بقاء الأمهات لم يجز عنها فلئلا يجزي عنها اذا كان التعجيل عن غيرها أولى وهكذا الحكم في مائة شاة اذا عجل عنها شاة فتوالدت مئة ثم ماتت الأمهات وحال الحول على السخال وان توالد نصفها ومات نصف الأمهات وحال الحول على الصغار ونصف الكبار فان قلنا بالوجه الأول أجزأ المعجل عنهما جميعا وإن قلنا بالثاني فعليه في الخمسين سخلة شاة لأنها نصاب لم تؤد زكاته وليس عليه في العجول إذا كانت خمسة عشر شيء لأنها لم تبلغ نصابا وإنما وجبت الزكاة فيها بناء على أمهاتها التي عجلت زكاتها وإن ملك ثلاثين من البقر فعجل مسنة زكاة لها ولنتاجها فنتجت عشرا أجزأته عن الثلاثين دون العشر ووجب عليه في العشر ربع مسنة ويحتمل أن تجزئه المسنة المعجلة عن الجميع لأن العشر تابعة للثلاثين في الوجوب والحول فانه لولا ملكه للثلاثين لما وجب عليه في العشر شيء فصارت الزيادة على النصاب منقسمة أربعة أقسام أحدها ما لا يتبع في وجوب ولا حول وهو المستفاد من غير الجنس ولا يجزيء تعجيل زكاته قبل وجوده وكمال نصابه بغير خلاف والثاني ما يتبع في الوجوب دون الحول وهوالمستفاد من الجنس بسبب مستقل فلا يجزيء تعجيل زكاته أيضا قبل وجوده مع الخلاف في ذلك الثالث ما يتبع في الحول دون الوجوب كالنتاج والربح اذا بلغ نصابا فانه يتبع أصله في الحول فلا يجزيء التعجيل عنه قبل وجوده كالذي قبله الرابع ما يتبع في الوجوب والحول وهو الربح والنتاج اذا لم يبلغ نصابا فهذا يحتمل وجهين أحدهما لا يجزىء تعجيل زكاته قبل وجوده كالذي قبله والثاني يجزيء لأنه تابع في الوجوب والحول فأشبه الموجود
فصل : اذا عجل الزكاة لأكثر من حول ففيه روايتان إحداهما لا يجوز لأن النص لم يرد بتعجيلها لأكثر من حول والثانية يجوز
وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يخرج الرجل زكاة ماله قبل حلها لثلاث سنين لأنه تعجيل لها بعد وجود النصاب أشبه تقديمها على الحول الواحد وما لم يرد به النص يقاس على المنصوص عليه اذا كان في معناه ولا نعلم معنى سوى أنه تقديم للمال الذي وجد سبب وجوبه على شرط وجوبه وهذا متحقق في التقديم في الحولين كتحققه في الحول الواحد فعلى هذا اذا كان عنده أكثر من النصاب فعجل زكاته لحولين جاز وإن كان قدر النصاب مثل من عنده أربعون شاة فعجل شاتين لحولين وكان المعجل من غيره جاز وإن أخرج شاة منه وشاة من غيره جاز عن الحول الأول ولم يجز عن الثاني لأن النصاب نقص فان كمل بعد ذلك وصار اخراج زكاته وتعجيله لها قبل كمال نصابها وإن أخرج الشاتين جميعا من النصاب لم تجز الزكاة في الحول الأول اذا قلنا ليس له ارتجاع ما عجله لأنه كالتالف فيكون النصاب ناقصا فان كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين كمل النصاب وكان ما عجله سابقا على كمال النصاب فلم يجز عنه
فصل : وإن عجل زكاة ماله فحال الحول والنصاب ناقص مقدار ما عجله أجزأت عنه ويكون حكم ما عجله حكم الموجود في ملكه يتم النصاب به فلو زاد ماله حتى بلغ النصاب أو زاد عليه وحال الحول اجزأ المعجل عن زكاته لما ذكرنا فان نقص أكثر مما عجله فقد خرج بذلك من كونه سببا للزكاة مثل من له أربعون شاة فعجل شاة ثم تلفت أخرى فقد خرج عن كونه سببا للزكاة فان زاد بعد ذلك أما بنتاج أو شراء ما يتم به النصاب استؤنف الحول من حين كمل النصاب ولم يجز ما عجله عنه لما ذكرنا وإن زاد بحيث يكون انضمامه إلى ما عجله يتغير به الفرض مثل من له مائة وعشرون فعجل زكاتها شاة ثم حال الحول وقد أنتجت سخلة فانه يلزمه اخراج شاة ثانية وبما ذكرناه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : ما عجله في حكم التآلف فقال في المسألة الأولى : لا تجب الزكاة ولا يكون المخرج زكاة وقال في هذه المسألة : لا يجب عليه زيادة لأن ما عجله زال ملكه عنه فلم يحسب من ماله كما لو تصدق به تطوعا
ولنا أن هذا نصاب تجب فيه الزكاة بحول الحول فجاز تعجيلها منه كما لو كان أكثر من أربعين ولأن ما عجله بمنزلة الموجود في اجزائه عن ماله فكان بمنزلة الموجود في تعلق الزكاة به ولأنها لو لم تعجل كان عليه شاتان فكذلك اذا عجلت لأن التعجيل إنما كان رفقا بالمساكين فلا يصير سببا لنقص حقوقهم والتبرع يخرج ما تبرع به عن حكم الموجود في ماله وهذا في حكم الموجود في الاجزاء عن الزكاة
فصل : وكل موضع قلنا لا يجزئه ما عجله عن الزكاة فان كان دفعها إلى الفقراء مطلقا فليس له الرجوع فيها وإن كان دفعها بشرط أنها زكاة معجلة فهل له الرجوع على وجهين يأتي توجيههما
فصل : فأما تعجيل العشر من الزرع والثمرة فظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز لأنه قال : كل ما تتعلق الزكاة فيه بسببين : حول ونصاب جاز تعجيل زكاته فمفهوم هذا أنه لا يجوز تعجيل زكاة غيره لأن الزكاة معلقة بسبب واحد وهو ادراك الزرع والثمرة فاذا قدمها قبل وجود سببها لكن ان أداها بعد الادراك وقبل يبس الثمرة وتصفية الحب وجاز وقال أبو الخطاب : يجوز اخراجها بعد وجود الطلع والحصرم ونبات الزرع ولا يجوز قبل ذلك لأن وجود الزرع واطلاع النخيل بمنزلة النصاب والادراك بمنزلة حلول الحول فجاز تقديمها عليه وتعلق الزكاة بالادراك لا يمنع جواز التعجيل بدليل أن زكاة الفطر يتعلق وجوبها بهلال شوال وهو زمن الوجوب فاذا ثبت هذا فانه لا يجوز تقديمها قبل ذلك لأنه يكون قبل وجود سببها

فصلان : حكم من عجل الزكاة ثم مات قبل الحول وحالات استرداد الزكاة
فصل : وإن عجل زكاة ماله ثم مات فأراد الوارث الاحتساب بها عن زكاة حوله لم يجز وذكر القاضي وجها في جوازه بناء على ما لو عجل زكاة عامين ولا يصح لأنه تعجيل للزكاة قبل وجود سببها أشبه ما لو عجل زكاة نصاب لغيره ثم اشتراه وذلك لأن سبب الزكاة ملك النصاب وملك الوارث حادث ولا يبني الوارث على حول الموروث ولأنه لم يخرج الزكاة وإنما أخرجها غيره عن نفسه واخراج الغير عنه من غير ولاية ولا نيابة لا يجزىء ولو نوى فكيف اذا لم ينو وقد قال أصحابنا : لو أخرج زكاته وقال : إن كان مورثي قد مات فهذه زكاة ماله فبان أنه قد مات لم يقع الموقع وهذا أبلغ ولا يشبه هذا تعجيل زكاة العامين لأنه عجل بعد وجود السبب وأخرجها بنفسه بخلاف هذا فان قيل فانه لما مات المورث قبل الحول كان للوارث ارتجاعها فاذا لم يرتجعها احتسب بها كالدين قلنا فلو أراد أن يحسب الدين عن زكاته لم يصح ولو كان له عند رجل شاة من غصب أو قرض فأراد أن يحسبها عن زكاته لم تجزه
مسألة : : قال : ومن قدم زكاة ماله فأعطاها لمستحقها فمات المعطي قبل الحول أو بلغ الحول وهو غني منها أو من غيرها اجزأت عنه
وجملة ذلك أنه اذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها لم يخل من أربعة أقسام أحدها أن لا يتغير الحال فان المدفوع يقع موقعه ويجزىء عن المزكي ولا يلزمه بدله ولا له استرجاعه كما لو دفعها بعد وجوبها
الثاني : أن يتغير حال الآخذ لها بأن يموت قبل الحول أو يستغني أو يرتد قبل الحول فهذا في حكم القسم الذي قبله وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يجزيء لأن ما كان شرطا للزكاة اذا عدم قبل الحول لم يجز كما لو تلف المال أو مات ربه
ولنا أنه اذا أدى الزكاة إلى مستحقها فلم يمنع الاجزاء تغير حاله كما لو استغنى بها ولأنه حق أداه إلى مستحقه فبرىء منه كالدين يتعجله قبل أجله وما ذكروه منتقض بما اذا استغنى بها والحكم في الأصل ممنوع ثم الفرق بينهما ظاهر فان المال اذا تلف تبين عدم الوجوب فأشبه ما لو أدى إلى غريمه دراهم يظنها عليه فتبين أنها ليست عليه وكما لو أدى الضامن الدين فبان أن المضمون عنه قد قضاه وفي مسألتنا الحق واجب وقد أخذه مستحقه القسم الثالث أن يتغير حال رب المال قبل الحول بموته أو ردته أو تلف النصاب أو نقصه أو بيعه فقال أبو بكر : لا يرجع بها على الفقير سواء أعلمه أنها زكاة معجلة أو لم يعلمه وقا ل القاضي : وهو المذهب عندي لأنها وصلت الى الفقير فلم يكن له ارتجاعها كما لو لم يعلمه ولأنها زكاة دفعت إلى مستحقها فلم يجز استرجاعها كما لو تغير حال الفقير وحده قال أبو عبد الله بن حامد : إن كان الدافع لها الساعي استرجعها بكل حال وان كان الدافع رب المال وأعلمه أنها زكاة معجلة رجع بها وإن أطلق لم يرجع بها وهذا مذهب الشافعي لأنه مال دفعه عما يستحقه القابض في الثاني فاذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده كالاجرة اذا انهدمت الدار قبل السكنى أما اذا لم يعلمه فيحتمل أن يكون تطوعا ويحتمل أن يكون هبة فلم يقبل قوله في الرجوع فعلى قول ابن حامد ان كانت العين باقية لم تتغير أخذها وإن زادت زيادة متصلة أخذها بزيادتها لأنها تمنع في الفسوخ وإن كانت منفصلة أخذها دون زيادتها لأنها حدثت في ملك الفقير وإن كانت ناقصة رجع على الفقير بالنقص لأن الفقير قد ملكها بالنقص فكان نقصها عليه كالمبيع اذا نقص في يد المشتري ثم علم عيبه وإن كانت تالفة أخذ قيمتها يوم القبض لأن ما زاد بعد ذلك أو نقص فانما هو في ملك الفقير فلم يضمنه كالصداق يتلف في يد المرأة القسم الرابع أن يتغير حالهما جميعا فحكمه حكم القسم الذي قبله سواء
فصل : اذا قال رب المال : قد أعلمته أنها زكاة معجلة فلي الرجوع فأنكر الأخذ فالقول قول الآخذ لأنه منكر والأصل عدم الإعلام وعليه اليمين وإن مات الآخذ واختلف المخرج ووارث الآخذ فالقول قول الوارث ويحلف أنه لا يعلم أن مورثه أعلم بذلك فأما من قال بعدم الاسترجاع فلا يمين ولا غيرها
فصل : اذا تسلف الامام الزكاة فهلكت في يده فلا ضمان عليه وكانت من ضمان الفقراء ولا فرق بين إن يسأله ذلك رب المال أو الفقراء أو لم يسأله أحد لأن يده كيد الفقراء : وقال الشافعي أن تسلفها من غير سؤال ضمنها لأن الفقراء رشد لا يولى عليهم فاذا قبض بغير اذنهم ضمن كالأب اذا قبض لابنه الكبير وان كان بسؤالهم كان من ضمانهم لأنه وكيلهم فاذا كان بسؤال أرباب الأموال لم يجزئهم الدفع وكان من ضمانهم لأنه وكيلهم وإن كان بسؤالهم ففيه وجهان أصحهما أنه من ضمان الفقراء
ولنا أن للامام ولاية على الفقراء بدليل جواز قبض الصدقة لهم بغير اذنهم سلفا وغيره فاذا تلفت في يده من غير تفريط لم يضمن كولي اليتيم اذا قبض له وما ذكروه يبطل بما اذا قبض الصدقة بعد وجوبها وفارق الأب في حق ولده الكبير فانه لا يجوز له القبض له لعدم ولايته عليه ولهذا يضمن ما قبضه له من الحق بعد وجوبه

مسألة وفصلان : اشتراط النية في الزكاة
مسألة : قال : ولا يجوز اخراج الزكاة إلا بنية
الا أن يأخذها الامام منه قهرا مذهب عامة الفقهاء أن النية شرط في أداء الزكاة الا ما حكي عن الأوزاعي أنه قال لا تجب لها النية لأنها دين فلا تجب لها النية كسائر الديون ولهذا يخرجها ولي اليتيم ويأخذها السلطان من الممتنع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ انما الاعمال بالنيات ] وأداؤها عمل ولأنها عبادة فتتنوع الى فرض ونفل فافتقرت الى النية كالصلاة وتفارق قضاء الدين فانه ليس بعبادة ولهذا يسقط باسقاط مستحقه وولي الصبي والسلطان ينوبان عند الحاجة فاذا ثبت هذا فان النية أن يعتقد أنها زكاته أو زكاة من يخرج عنه كالصبي والمجنون ومحلها القلب لأن محل الاعتقادات كلها القلب
فصل : ويجوز تقديم النية على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات ولأن هذه تجوز النيابة فيها فاعتبار مقارنة النية للإخراج يؤدي الى التغرير بماله فان دفع الزكاة الى وكيله ونوى هو دون الوكيل جاز اذا لم تتقدم نيته الدفع بزمن طويل وان تقدمت بزمن طويل لم يجز إلا أن يكون قد نوى حال الدفع الى الوكيل ونوى الوكيل عند الدفع الى المستحق ولو نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجز لأن الفرض يتعلق به والاجزاء يقع عنه وإن دفعها الى الامام ناويا ولم ينو الامام حال دفعها الى الفقراء جاز وإن طال لأنه وكيل الفقراء ولو تصدق الانسان بجميع ماله تطوعا ولم ينو به الزكاة لم يجزئه وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب أبي حنيفة : يجزئه استحبابا ولا يصح لأنه لم ينو به الفرض فلم يجزئه كما لو تصدق بعضه وكما لو صلى مائة ركعة ولم ينو الفرض بها
فصل : ولو كان له مال غائب فشك في سلامته جاز اخراج الزكاة عنه وكانت نية الاخراج صحيحة لأن الأصل بقاؤه فان نوى ان كان مالي سالما فهذه زكاته وان كان تالفا فهي تطوع فبان سالما أجزأت نيته لأنه أخلص النية للفرض ثم رتب عليها النفل وهذا حكمها كما لو لم يقله فاذا قاله لم يضر ولو قال هذا زكاة مالي الغائب أو الحاضر صح لأن التعيين ليس بشرط بدليل أن من له أربعون دينارا اذا أخرج نصف دينار عنها صح وان كان ذلك يقع عن عشرين غير معينة وان قال هذا زكاة مالي الغائب أو تطوع لم نجزئه ذكره أبو بكر لأنه لم يخلص النية للفرض أشبه ما لو قال أصلي فرضا أو تطوعا وان قال هذا زكاة مالي الغائب ان كان سالما والا فهو زكاة مالي الحاضر أجزأه عن السالم منهما وإن كانا سالمين فعن أحدهما لأن التعيين ليس بشرط وان قال زكاة مالي الغائب وأطلق فبان تالفا لم يكن له أن يصرفه الى زكاة غيره لأنه عينه فأشبه ما لو اعتق عبدا عن كفارة عينها فلم يقع عنها لم يكن له صرفه الى كفارة أخرى هذا التفريع فيما اذا كانت العينة مما لا يمنع اخراج زكاته في بلد رب المال إما لقربه أو لكون البلد لا يوجد فيه أهل السهمان أو على الرواية التي تقول باخراجها في بلد بعيد من بلد المال وان كان له مورث غائب فقال ان كان مورثي قد مات فهذه زكاة ماله الذي ورثته منه فبان ميتا لم يجزئه ما أخرج لأنه يبني على غير أصل فهو كما لو قال ليلة الشك ان كان غدا من رمضان فهو فرضي وان لم يكن فهو نفل

مسألة : الا أن يأخذها الإمام قهرا
مسألة : قال : الا أن يأخذها الامام منه قهرا
مقتضى كلام الخرقي ان الانسان متى دفع زكاته طوعا لم تجزئه الا بنية سواء دفعها الى الامام أو غيره وإن أخذها الامام منه قهرا أجزأت من غير نية لأن تعذر النية في حقه أسقط وجوبها عنه كالصغير والمجنون وقال القاضي : متى أخذها الامام أجزأت من غير نية سواء أخذها طوعا أو كرها وهذا قول للشافعي لأن أخذ الامام بمنزلة القسم بين الشركاء فلم يحتج الى نية ولأن للإمام ولاية في أخذها ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقا ولو لم يجزئه لما أخذها أو لأخذها ثانيا وثالثا حتى ينفد ماله لأن أخذها ان كان لاجزائها فلا يحصل الاجزاء بدون النية وان كان لوجوبها فالوجوب باق بعد أخذها واختار أبو الخطاب و ابن عقيل انها لا تجزيء فيما بينه وبين الله تعالى الا بنية رب المال لأن الامام إما وكيله وإما وكيل الفقراء أو وكيلهما معا وأي ذلك كان فلا تجزيء نيته عن نية رب المال ولأن الزكاة عبادة تجب لها النية فلا تجزيء عمن وجبت عليه تغير نية ان كان من أهل النية كالصلاة وانما أخذت منه مع عدم الاجزاء حراسة للعلم الظاهر كالصلاة يجبر عليها ليأتي بصورتها ولو صلى بغير نية لم يجزئه عند الله تعالى قال ابن عقيل ومعنى قول الفقهاء يجزيء عنه أي في الظاهر بمعنى أنه لا يطالب بأدائها ثانيا كما قلنا في الاسلام فان المرتد يطالب بالشهادة فمتى أتى بها حكم باسلامه ظاهرا ومتى لم يكن معتقدا صحة ما يلفظ به لم يصح اسلامه باطنا قال وقول أصحابنا لا تقبل توبة الزنديق معناه لا يسقط عنه القتل الذي توجه عليه لعدم علمنا بحقيقة توبته لأن أكثر ما فيه أنه أظهر إيمانه وقد كان دهره يظهر إيمانه ويستر كفره فأما عند الله عز و جل فانها تصح اذا علم منه حقيقة الانابة وصدق التوبة واعتقاد الحق ومن نصر قول الخرقي قال ان للامام ولاية على الممتنع فقامت نيته مقام نيته كولي اليتيم والمجنون وفارق الصلاة فان النيابة فيها لا تصح فلا بد من نية فاعلها وقوله لا يخلو من كونه وكيلا له أو وكيلا للفقراء أولهما - قلنا بل هو وال على المالك وأما الحاق الزكاة بالقسمة فغير صحيح فان القسمة ليست عبادة ولا يعتبر لها نية بخلاف الزكاة

فصل : يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه
فصل : يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه ليكون على يقين من وصولها الى مستحقها سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة قال الامام أحمد : أعجب الي أن يخرجها وان دفعها الى السلطان فهو جائز وقال الحسن و مكحول و سعيد بن جبير و ميمون بن مهران يضعها رب المال في موضعها وقال الثوري احلف لهم واكذبهم ولا تعطهم شيئا اذا لم يضعوها مواضعها وقال : لا تعطهم وقال عطاء : أعطهم اذا وضعوها مواضعها فمفهومه أنه لا يعطيهم اذا لم يكونوا كذلك وقال الشعبي و أبو جعفر اذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها وقال ابراهيم ضعوها في مواضعها فان أخذها السلطان أجزاك وقال سعيد أنبأنا أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن قال : أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها ثم جئت مرة أخرى فرأيت أبا وائل وحده فقال لي ردها فضعها مواضعها وقد روي عن أحمد أنه قال : أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها الى السلطان وأما زكاة الأموال كالمواشي فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين فظاهر هذا أنه استحب دفع العشر خاصة الى الأئمة وذلك لأن العشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض فهو كالخراج يتولاه الأئمة بخلاف سائر الزكاة والذي رأيت في الجامع قال : أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها الى السلطان ثم قال أبو عبد الله قيل لابن عمر إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور قال : ادفعها اليهم وقال ابن أبي موسى و أبو الخطاب دفع الزكاة الى الامام العادل أفضل وهو قول أصحاب الشافعي وممن قال يدفعها الى الامام الشعبي و محمد بن علي و أبو رزين و الأوزاعي لان الامام أعلم بمصارفها ودفعها اليه يبرئه ظاهرا وباطنا ودفعها الى الفقير لا يبرئه باطنا لاحتمال أن يكون غير مستحق لها ولأنه يخرج من الخلاف وتزول عنه التهمة وكان ابن عمر يدفع زكاته الى من جاءه من سعاه ابن الزبير أو نجدة الحروري وقد روي عن سهيل ابن أبي صالح قال : أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت عندي مال وأريد أن أخرج زكاته وهؤلاء القوم على ما نرى فما تأمرني ؟ قال : ادفعها اليهم فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك فأتيت أبا هريرة فقال : مثل ذلك وأتيت أبا سعيد فقال : مثل ذلك ويروى نحوه عن عائشة رضي الله عنها وقال مالك و أبو حينفة و أبو عبيد : لا يفرق الأموال الظاهرة إلا الامام لقول الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها وقال لو منعوني عنافا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليها ووافقه الصحابة على هذا ولأن ما للامام قبضه بحكم الولاية لا يجوز دفعه الى المولى عليه كولي اليتيم و للشافعي قولان كالمذهبين
ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق الى مستحقه الجائز تصرفه فأجزأه كما لو دفع الدين الى غريمه وكزكاة الأموال الباطنة ولأنه أحد نوعي الزكاة فأشبه النوع الآخر والآية تدل على أن للامام أخذها ولا خلاف فيه ومطالبة أبي بكر لهم بها لكونهم لم يؤدوها الى أهلها ولو أدوها الى أهلها لم يقاتلهم عليها لأن ذلك مختلف في إجزائه فلا تجوز المقاتلة من أجله وانما يطالب الامام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها فاذا دفعها اليهم جاز لأنهم أهل رشد فجاز الدفع اليهم بخلاف اليتيم
وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه فلأنه ايصال الحق الى مستحقه مع توفير أجر العمالة وصيانة حقهم عن خطر الخيانة ومباشرة تفريج كربة مستحقها وإغنائه بها مع اعطائها للأولى بها من محاويج أقاربه وذوي رحمه وصلة رحمه بها فكان أفضل كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل فان قيل فالكلام في الامام العادل اذ الخيانة مأمونة في حقه قلنا الامام لا يتولى ذلك بنفسه وإنما يفوضه الى سعاته ولا تؤمن منهم الخيانة ثم ربما لا يصل الى المستحق الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه شيء منها وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته وقولهم ان أخذ الامام يبرئه ظاهرا وباطنا قلنا يبطل هذا بدفعها الى غير العادل فانه يبرئه أيضا وقد سلموا أنه ليس بأفضل ثم إن البراءة الظاهرة تكفي وقولهم أنه تزول به التهمة قلنا متى أظهرها زالت التهمة سواء أخرجها بنفسه ولا يختلف المذهب إن دفعها الى الامام سواء كان عادلا أو غير عادل وسواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة ويبرأ بدفعها سواء تلفت في يد الامام أو لم تتلف أو صرفها في مصارفها أو لم يصرفها لما ذكرنا عن الصحابة ولأن الامام نائب عنهم شرعا فبرئ بدفعها اليه كولي اليتيم اذا قبضها له ولا يختلف المذهب أيضا في أن صاحب المال يجوز أن يفرقها بنفسه

فصل : أخذ البغاة وأئمة الجور الزكاة
فصل : اذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها وحكى ابن المنذر عن أحمد و الشافعي و أبي ثور في الخوارج أنه يجزي وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها سواء عدل فيها أو جار وسواء أخذها قهرا أو دفعها اليه اختيارا قال أبو صالح سألت سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و جابرا و أبا سعيد الخدري وأبا هريرة فقلت هذا السلطان يصنع ما ترون أفأدفع اليهم زكاتي فقالوا كلهم نعم وقال ابراهيم يجزىء عنك ما أخذ منك العشارون وعن سلمة بن الأكوع أنه دفع صدقته الى نجدة وعن ابن عمر أنه سئل عن مصدق ابن الزبير ومصدق نجدة فقال الى أيهما دفعت أجزأ عنك وبهذا قال أصحاب الرأي : فيما غلبوا عليه وقالوا اذا مر على الخوارج فعشروه لا يجزىء عن زكاته وقال أبو عبيد : في الخوارج يأخذون الزكاة على من أخذوا منه الاعادة لأنهم ليسوا بأئمة فأشبهوا قطاع الطريق
ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه فيكون إجماعا ولأنه دفعها الى أهل الولاية فأشبه دفعها الى أهل البغي

فصل ومسألة : تعطى الزكاة للكبير والصغير ما يقول معطي الزكاة وآخذها
فصل : واذا دفع الزكاة استحب أن يقول : اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما ويحمد الله على التوفيق لأدائها فقد روى أبو هريرة قال : قال رسول الله عليه وسلم : [ اذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما ] أخرجه ابن ماجة ويستحب للآخذ أن يدعو لصاحبها فيقول آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أنفقت وجعله لك طهورا وإن كان الدفع الى الساعي أو الامام شكره ودعا له قال الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } [ قال عبد الله بن أبي أوفى كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه و سلم اذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى ] متفق عليه والصلاة هاهنا الدعاء والتبريك وليس هذا بواجب [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم حين بعث معاذا الى اليمن قال : أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] متفق عليه فلم يأمره بالدعاء ولأن ذلك لا يجب على الفقير المدفوع اليه فالنائب أولى
فصل : ويجوز دفع الزكاة الى الكبير والصغير سواء أكل الطعام أو لم يأكل قال أحمد : يجوز إن يعطي زكاته في أجر رضاع لقيط غيره فهو فقير من الفقراء وعنه لا يجوز دفعها الا الى من أكل الطعام قال المروذي : كان أبو عبد الله لا يرى أن يعطي الصغير من الزكاة إلا أن يطعم الطعام والأول أصح لأنه فقير فجاز الدفع اليه كالذي طعم ولأنه يحتاج الى الزكاة لأجر رضاعه وكسوته وسائر حوائجه فيدخل في عموم النصوص ويدفع الزكاة الى وليه لأنه يقبض حقوقه وهذا من حقوقه فان لم يكن له ولي دفعها الى من يعني بأمره ويقوم به من أمه أو غيرها نص عليه أحمد وكذلك المجنون قال هارون الحمال قلت لأحمد : وكيف يصنع بالصغار قال يعطي أولياءهم فقلت ليس لهم ولي قال فيعطي من يعنى بأمرهم من الكبار فرخص في ذلك وقال مهنا سألت أبا عبد الله : يعطى من الزكاة المجنون والذاهب عقله ؟ قال نعم قلت من يقبضها له ؟ قال وليه قلت ليس له ولي ؟ قال الذي يقوم عليه وان دفعها الى الصبي العاقل فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه قال المروذي : قلت لأحمد يعطي غلاما يتيما من الزكاة ؟ قال : نعم قلت فاني أخاف أن يضيعه قال يدفعه الى من يقوم بأمره وقد روى الدارقطني باسناده عن أبي جحيفة قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم : ساعيا فأخذ الصدقة من اغنيائنا فردها في فقرائنا وكنت غلاما يتيما لا مال لي فأعطاني قلوصا
فصل : واذا دفع الزكاة الى من يظنه فقيرا لم يحتج الى اعلامه انها زكاة قال الحسن أتريد أن تفرعه لا تخبره وقال أحمد بن الحسين قلت لاحمد يدفع الرجل الزكاة الى الرجل فيقول : هذا من الزكاة أو يسكت ؟ قال ولم يبكته بهذا القول ؟ يعطيه ويسكت ما حاجته الى أن يقرعه

مسألة وفصول : من لا يجوز دفع الزكاة إليهم ومن لا يجوز
مسألة : قال : ولا يعطي من الصدقة المفروضة للوالدين وإن علوا ولا للولد وان سفل
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها الى الوالدين في الحال التي يجبر الدافع اليهم على النفقة عليهم ولأن دفع زكاته اليهم تغنيهم عن نفقته وتسقطها عنه ويعود نفعها اليه فكأنه دفعها الى نفسه فلم تجز كما لو قضى بها دينه وقول الخرقي الوالدين يعني الأب والأم وقوله وان علوا يعني آباءهما وأمهاتهما وان ارتفعت درجتهم من الدافع كأبوي الأب وأبوي الأم وأبوي كل واحد منهم وان علت درجتهم من يرث منهم ومن لا يرث وقوله والولد وان سفل يعني وان نزلت درجته من أولاده البنين والبنات الوارث وغير الوارث نص عليه أحمد فقال : لا يعطى الوالدين من الزكاة ولا الولد ولا ولد الولد ولا الجد ولا الجدة ولا ولد البنت قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان ابني هذا سيد ] يعني الحسن فجعله ابنه ولأنه من عمودي نسبه فأشبه الوارث ولأن بينهما قرابة جزئية وبعضية بخلاف غيرها
فصل : فأما سائر الاقارب فمن لا يورث منهم يجوز دفع الزكاة اليه سواء كان انتفاء الأرث لانتفاء سببه لكونه بعيد القرابة ممن لم يسم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه و سلم له ميراثا أو كان لمانع مثل أن يكون محجوبا عن الميراث كالأخ المحجوب بالابن أو الأب والعم المحجوب بالأخ وابنه وإن نزل فيجوز دفع الزكاة اليه لأنه قرابة جزئية بينهما ولا ميراث فأشبها الاجانب وإن كان بينهما ميراث كالأخوين اللذين يرث كل واحد منهما الآخر ففيه روايتان إحداهما يجوز لكل واحد منهما دفع زكاته إلى الآخر وهي الظاهرة عنه رواها عنه الجماعة قال في رواية اسحق بن ابراهيم و اسحق بن منصور وقد سأله يعطي الأخ والأخت والخالة من الزكاة ؟ قال : يعطي كل القرابة إلا الابوين والولد وهذا قول أكثر أهل العلم قال أبو عبيد : هو القول عندي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان صدقة وصلة ] فلم يشترط نافلة ولا فريضة ولم يفرق بين الوارث وغيره ولأنه ليس من عمودي نسبه فأشبه الأجنبي والرواية الثانية لا يجوز دفعها إلى الموروث وهو ظاهر قول الخرقي لقوله ولا لمن تلزمه مؤنته وعلى الوارث مؤنة الموروث لأنه يلزمه مؤنته فيغنيه بزكاته عن مؤنته ويعود نفع زكاته اليه فلم يجز كدفعها الى والده أو قضاء دينه بها والحديث يحتمل صدقة التطوع فيحمل عليها فعلى هذا أن كان أحدهما يرث الآخر ولا يرثه الآخر كالعمة مع ابن أخيها والعتيق مع معتقه فعلى الوارث منهما نفقة مورثه وليس له دفع زكاته اليه وليس على الموروث منها نفقة وارثه ولا يمنع من دفع زكاته اليه لانتفاء المقتضي للمنع ولو كان الاخوان لأحدهما ابن والآخر لا ولد له فعلى أبي الابن نفقة أخيه وليس له دفع زكاته اليه والذي لا ولد له له دفع زكاته إلى أخيه ولا يلزمه نفقته لأنه محجوب عن ميراثه ونحو هذا قول الثوري : فأما ذوو الأرحام في الحال الذي يرثون فيها فيجوز دفعها اليهم في ظاهر المذهب لأن قرابتهم ضعيفة لا يرث بها مع عصبة ولا ذي فرض غير أحد الزوجين فلم تمنع دفع الزكاة كقرابة سائر المسلمين فان ماله يصير اليهم اذا لم يكن له وارث
مسألة : قال : ولا للزوج ولا للزوجة
أما الزوجة فلا يجوز دفع الزكاة اليها إجماعا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة وذلك لأن نفقتها واجبة عليه فتستغني بها عن أخذ الزكاة فلم يجز دفعها اليها كما لو دفعها اليها على سبيل الانفاق عليها وأما الزوج ففيه روايتان إحداهما لا يجوز دفعها اليه وهو اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأنه أحد الزوجين فلم يجز للآخر دفع زكاته اليه كالآخر ولأنها تنتفع بدفعها اليه لأنه إن كان عاجزا عن الانفاق عليها تمكن بأخذ الزكاة من الانفاق فيلزمه وإن لم يكن عاجزا ولكنه أيسر بها لزمته نفقة الموسرين فتنتفع بها في الحالين فلم يجز لها ذلك كما لو دفعتها في أجرة دار أو نفقة رقيقها أو بهائمها فان قيل فيلزم على هذا الغريم فانه يجوز له دفع زكاته إلى غريمه ويلزم الآخذ بذلك وفاء دينه فينتفع الدافع بدفعها اليه قلنا الفرق بينهما من وجهين أحدهما أن حق الزوجة في النفقة آكد من حق الغريم بدليل أن نفقة المرأة مقدمة في مال المفلس على أداء دينه وأنها تملك أخذها من ماله بغير علمه اذا امتنع من ادائها والثاني أن المرأة تنبسط في مال زوجها بحكم العادة ويعد مال كل واحد منهما مالا للآخر ولهذا قال ابن مسعود في عبد سرق مرآة امرأة سيده : عبدكم سرق مالكم ولم يقطعه وروي ذلك عن عمر وكذلك لا تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه بخلاف الغريم مع غريمه والرواية الثانية يجوز لها دفع زكاتها إلى زوجها وهو مذهب الشافعي و ابن المنذر وطائفة من أهل العلم [ لأن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : يا نبي الله انك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه هو وولده أحق من تصدقت عليهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ] رواه البخاري وروي [ أن امرأة عبد الله سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن بني أخ لها أيتام في حجرها أفتعطيهم زكاتها ؟ قال : نعم ]
وروى الجوزجاني باسناده عن عطاء قال : [ أتت النبي صلى الله عليه و سلم امرأة فقالت يا رسول الله : إن علي نذرا أن أتصدق بعشرين درهما وان لي زوجا فقيرا أفيجزيء عني أن أعطيه ؟ قال : نعم لك كفلان من الأجر ] ولأنه لا تجب نفقته فلا يمنع دفع الزكاة اليه كالأجنبي ويفارق الزوجة فان نفقتها واجبة عليه ولأن الأصل جواز الدفع لدخول الزوج في عموم الأصناف المسلمين في الزكاة وليس في المنع نص ولا إجماع وقياسه على من ثبت المنع في حقه غير صحيح لوضوح الفرق بينهما فيبقى جواز الدفع ثابتا والاستدلال بهذا أقوى من الاستدلال بالنصوص لضعف دلالتها
فان الحديث الأول في صدقة التطوع لقولها : أردت أن أتصدق بحلي لي ولا تجب الصدقة بالحلي وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم ] والولد لا تدفع اليه الزكاة
والحديث الثاني ليس فيه ذكر الزوج وذكر الزكاة فيه غير محفوظ قال أحمد : من ذكر الزكاة فهو عندي غير محفوظ انما ذاك صدقو من غير الزكاة كذا قال الأعمش : فأما الحديث الآخر فهو مرسل وهو في النذر
فصل : فان كان في عائلته من لا يجب عليه الانفاق عليه كيتيم أجنبي فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز له دفع زكاته اليه لأنه ينتفع بدفعها اليه لاغنائه بها عن مؤنته والصحيح إن شاء الله جواز دفعها اليه لأنه داخل في أصناف المستحقين للزكاة ولم يرد في منعه نص ولا إجماع ولا قياس صحيح فلا يجوز اخراجه من عموم النص بغير دليل وإن توهم أنه ينتفع بدفعها اليه قلنا قد لا ينتفع به فانه يصرفها في مصالحه التي لا يقوم بها الدافع وإن قدر الانتفاع فانه نفع لا يسقط به واجب عليه ولا يجتلب به مال اليه فلم يمنع ذلك الدفع كما لو كان يصله تبرعا من غير أن يكون من عائلته

فصلان : شراء المزكي زكاته ممن دفعها اليه
فصل : وليس لمخرج الزكاة شراؤها ممن صارت اليه وروي ذلك عن الحسن وهو قول قتادة و مالك قال أصحاب مالك : فان اشتراها لم ينقض البيع وقال الشافعي وغيره : يجوز لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة رجل ابتاعها بماله ] وروى سعيد في سننه [ أن رجلا تصدق على أمه بصدقة ثم ماتت فسأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قد قبل الله صدقتك وردها اليك الميراث ] وهذا في معنى شرائها ولأن ما صح أن يملك أرثا صح أن يملك ابتياعا كسائر الأموال
ولنا ما [ روى عمر أنه قال : حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده وظننت أنه بائعه برخص فأردت أن أشتريه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا تبتعه ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم فان العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ] متفق عليه فان قيل يحتمل أنها كانت حبسا في سبيل الله فمنعه لذلك قلنا لو كانت حبسا لما باعها للذي هي في يده ولا هم عمر بشرائها بل كان ينكر على البائع ويمنعه فانه لم يكن يقر على منكر فكيف يفعله ويعين عليه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم ما أنكر بيعها إنما أنكر على عمر الشراء معللا بكونه عائدا في الصدقة الثاني اننا نحتج بعموم اللفظ من غير نظر إلى خصوص السبب فان النبي صلى الله عليه قال : [ لا تعد في صدقتك ] أي بالشراء فان العائد في صدقته كالعائد في قيئه والأخذ بعموم اللفظ أولى من التمسك بخصوص السبب فان قيل فان اللفظ لا يتناول الشراء فان العود في الصدقة استرجاعها بغير عوض وفسخ للعقد كالعود في الهبة والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العائد في هبته كالعائد في قيئه ] ولو وهب إنسانا شيئا ثم اشتراه منه جاز قلنا النبي صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك جوابا لعمر حين سأله عن شراء الفرس فلو لم يكن اللفظ متناولا للشراء المسئول عنه لم يكن مجيبا له ولا يجوز إخراج خصوص السبب من عموم اللفظ لئلا يخلو السؤال عن الجواب وقد روي عن جابر أنه قال اذا جاء المصدق فادفع اليه صدقتك ولا تشترها فانهم كانوا يقولون ابتعها فأقول إنما هي لله وعن ابن عمر أنه قال لا تشتر طهور مالك ولأن في شرائه لها وسيلة الى استرجاع شيء منها لأن الفقير يستحي منه فلا يماكسه في ثمنها وربما رخصها له طمعا في أن يدفع اليه صدقة أخرى وربما علم أنه ان لم يبعه إياها استرجعها منه أو توهم ذلك وما هذا سبيله ينبغي أن يجتنب كما لو شرط عليه أن يبيعه إياها وهو أيضا ذريعة الى اخراج القيمة وهو ممنوع من ذلك أما حديثهم فيقول به وانها ترجع اليه بالميراث وليس هذا محل النزاع قال ابن عبد البر كل العلماء يقولون اذا رجعت اليه بالميراث طابت له الا ابن عمر و الحسن بن حي وليس البيع في معنى الميراث لأن الملك ثبت بالميراث حكما بغير اختياره وليس بوسيلة الى شيء مما ذكرنا والحديث الآخر مرسل وهو عام وحديثنا خاص صحيح فالعمل به أولى من كل وجه
فصل : فان دعت الحاجة الى شراء صدقته مثل أن يكون الفرض جزءا من حيوان لا يمكن الفقير الانتفاع بعينه ولا يجد من يشتريه سوى المالك لباقيه ولو اشتراه غيره لتضرر المالك بسوء المشاركة أو اذا كان الواجب في ثمرة النخل والكرم عنبا ورطبا فاحتاج الساعي الى بيعها قبل الجذاذ فقد ذكر القاضي أنه يجوز بيعها من رب المال في هذا الموضع وكذلك يجيء في الصورة الأولى وفي كل موضع دعت الحاجة الى شرائه لها لأن المنع من الشراء في محل الوفاق إنما كان لدفع الضرر عن الفقير والضرر عليه في منع البيع هاهنا أعظم فدفعه بجواز البيع أولى

فصل : دفع الزكاة الى المدين
فصل : قال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن وليس عنده قضاؤه ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع اليه رهنه ويقول له الدين الذي لي عليك هو لك ويحسبه من زكاة ماله قال : لا يجزيه ذلك فقلت له فيدفع اليه من زكاته فان رده اليه قضاء من ماله أخذه ؟ فقال نعم وقال في موضع آخر وقيل له فان أعطاه ثم رده اليه قال : اذا كان بحيلة فلا يعجبني قيل له فان استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة فقال : اذا أراد بها احياء ماله فلا يجوز فحصل من كلامه أن دفع الزكاة الى الغريم جائز سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه اليه الا أنه متى قصد بالدفع احياء ماله أو استيفاء دينه لم يجز لأن الزكاة لحق الله تعالى فلا يجوز صرفها الى نفعه ولا يجوز أن يحتسب الدين الذي له من الزكاة قبل قبضه لأنه مأمور بأدائها وإيتائها وهذا اسقاط والله أعلم

مسائل وفصول : ولا تعطى لكافر ولا مملوك الا بقدر أجرته أو أن يكون من المؤلفة قلوبهم
مسألة : قال : ولا لكافر ولا لمملوك
لانعلم بين أهل العلم خلافا في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر ولا لمملوك قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم ] فخصهم بصرفها الى فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم
وأما المملوك فلا يملكها بدفعها اليه وما يعطاه فهو لسيده فكأنه دفعها الى سيده ولأن العبد يجب على سيده نفقته فهو غني بغنائه
مسألة : قال : الا يكونوا من العاملين عليها فيعطون بحق ما عملوا
وجملته أنه يجوزه للعامل أن يأخذ عمالته من الزكاة سواء كان حرا أو عبدا وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يكون كافرا وهذي إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى قال : { والعاملين عليها } وهذا لفظ عام يدخل فيه كل عامل على أي صفة كان ولأن ما يأخذ على العمالة أجرة عمله فلم يمنع من أخذه كسائر الاجارات والرواية الأخرى لا يجوز أن يكون العامل كافرا لأن من شرط العامل أن يكون أمينا والكفر ينافي الأمانة يجوز أن يكون غنيا وذا قرابة لرب المال وقوله : بحق ما عملوا يعني يعطيهم بقدر أجرتهم والامام مخير اذا بعث عاملا ان شاء استأجره اجارة صحيحة ويدفع اليه ما سمى له وان شاء بعثه بغير اجارة ويدفع اليه أجر مثله وهذا كان المعروف على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فانه لم يبلغنا أنه قاطع أحدا من العمال على أجر وقد روى أبو داود باسناده [ عن ابن الساعدي قال : استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها اليه أمر لي العمالة فقلت انما عملت لله وأجري على الله قال : خذ ما أعطيت فاني قد عملت على عهد رسول الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : اذا أعطيت شيئا من غير ان تسألة فكل وتصدق ]
فصل : ويعطى منها أجر الحاسب والكاتب والحاشد والخازن والحافظ والراعي ونحوهم فكلهم معدودون من العاملين عليها ويدفع اليهم من حصة العاملين عليها فأما أجر الوزان والكيال ليقبض الساعي الزكاة فعلى رب المال لأنه من مؤنه دفع الزكاة
فصل : ولا يعطى الكافر من الزكاة الا لكونه مؤلفا على ما سنذكره ويجوز أن يعطى لإنسان ذا قرابة من الزكاة لكونه غازيا أو مؤلفا أو غارما في إصلاح ذات البين أو عاملا ولا يعطى لغير ذلك وقد روى أبو داود باسناده عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تحل الصدقة الا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل ابتاعها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فاهدى المسكين الى الغني ] ورواه أيضا عن عطاء عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم
فصل : وإن اجتمع في واحد أسباب تقتضي الأخذ بها جاز أن يعطى بها فالعامل الفقير له أن يأخذ عمالته فان لم تغنه فله أن يأخذ ما يتم به غناه فان كان غازيا فله أخذ ما يكفيه لغزوه وإن كان غارما أخذ ما يقضي به غرمه لأن كل واحد من هذه الأسباب يثبت حكمه بانفراده فوجود غيره لا يمنع ثبوت حكمه كما لم يمنع وجوده وقد روي عن أحمد أنه قال : اذا كان له مائتان وعليه مثلها لا يعطى من الزكاة لأن المغني خمسون درهما وهذا يدل على أنه يعتبر في الدفع إلى الغارم أن يكون فقيرا فاذا أعطي لأجل الغرم وجب صرفه إلى قضاء الدين وإن أعطي للفقير جاز أن يقضي به دينه

مسألتان : ولا تعطى لبني هاشم ولا لمواليهم
مسألة : قال : ولا لبني هاشم
لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ] أخرجه مسلم وعن أبي هريرة قال : [ أخذ الحين تمرة من تمر الصدقة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كخ كخ ليطرحها وقال : أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ] متفق عليه
مسألة : قال : ولا لمواليهم
يعني أن موالي بني هاشم وهم من أعتقهم هاشمي لا يعطون من الزكاة وقال أكثر العلماء يجوز لأنهم ليسوا بقرابة النبي صلى الله عليه و سلم فلم يمنعوا الصدقة كسائر الناس ولأنهم لم يعوضوا عنها بخمس الخمس فانهم لا يعطون منه فلم يجز أن يحرموها كسائر الناس
ولنا ما روى أبو رافع [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع أصحبني كيما تصيب منها فقال لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسأله فانطلق إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله فقال : أنا لا تحل لنا الصدقة وإن موالي القوم منهم ] أخرجه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنهم ممن يرثهم بنو هاشم بالتعصيب فلم يجز دفع الصدقة اليهم كبني هاشم وقولهم انهم ليسوا بقرابة قلنا هم بمنزلة القرابة بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الولاء لحمة كلحمة النسب ] وقوله : [ موالي القوم منهم ] وثبت فيهم حكم القرابة من الأرث والعقل والنفقة فلا يمتنع ثبوت حكم تحريم الصدقة فيهم

فصلان : اما بنو عبد المطلب ففي جواز أخذهم روايتان
فصل : فأما بنو المطلب فهل لهم الأخذ من الزكاة ؟ على روايتين إحداهما ليس لهم ذلك نقلها عبد الله بن أحمد وغيره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام إنما نحن وهم شيء واحد ] وفي لفظ رواه الشافعي في مسنده : [ انما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ] وشبك بين أصابعه ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فلم يكن لهم الأخذ كبني هاشم وقد أكد ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم علل منعهم الصدقة باستغنائهم عنهم بخمس الخمس فقال : [ أليس في خمس الخمس ما يغنيكم ؟ ] والرواية الثانية لهم الأخذ منها وهو قول أبي حنيفة لأنهم دخلوا في عموم قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية لكن خرج بنو هاشم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ] فيجب أن يختص المنع بهم ولا يصح قياس بني المطلب على بني هاشم لأن بني هاشم أقرب إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأشرف وهم آل النبي صلى الله عليه و سلم ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل أن بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئا وإنما شاركوه بالنصرة أو بهما جميعا والنصرة لا تقتضي منع الزكاة
فصل : وروى الخلال باسناده عن ابن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة سفرة من الصدقة فردتها وقالت : انا آل محمد صلى الله عليه و سلم لا تحل لنا الصدقة وهذا يدل على تحريمها على أزواج النبي صلى الله عليه و سلم

فصلان : وذوي القربى فيمنعون وفي جوازها قولان - ويجوز دفع صدقة التطوع لمن حرم صدقة الفرض
فصل : وظاهر قول الخرقي ههنا أن ذوي القربى يمنعون الصدقة وإن كانوا عاملين وذكر في باب قسم الفيء والصدقة ما يدل على إباحة الأخذ لهم عمالة وهو قول أكثر أصحابنا لأن ما يأخذونه أجر فجاز لهم أخذه كالحمال وصاحب المخزن اذا أجرهم مخزنه
ولنا حديث أبي رافع وقد ذكرناه وما روى مسلم باسناده [ أنه اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا ما يصيب الناس فبينما هما في ذلك إذ جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما فذكرا له ذلك قال علي : لا تفعلا فوالله ما هو بفاعل فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال : والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا قال فألقى علي رداءه ثم اضطجع ثم قال : أنا أبو الحسن والله لا أريم مكاني حتى يرجع اليكما ابناكما بخبر ما بعثتما به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الحديث - إلى أن قال - فأتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا يا رسول الله : أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي اليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون فسكت طويلا ثم قال : إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد انما هي أوساخ الناس ] وفي لفط أنه قال : [ ان الصدقة إنما هي أوساخ الناس وانها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ]
فصل : ويجوز لذوي القربى الأخذ من صدقة التطوع قال أحمد في رواية ابن القاسم : إنما لا يعطون من الصدقة المفروضة فأما التطوع فلا وعن أحمد رواية أخرى أنهم يمنعون صدقة التطوع أيضا لعموم قوله عليه السلام : [ انها لا تحل لنا الصدقة ] والأول أظهر فان النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ المعروف كله صدقة ] متفق عليه وقال الله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } وقال تعالى : { فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي والعفو عنه وإنظاره وقال اخوة يوسف : { وتصدق علينا } والخبر أريد به صدقة الفرض لأن الطلب كان لها والألف واللام تعود إلى المعهود
وروى جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقلت له أتشرب من الصدقة فقال : انما حرمت علينا الصدقة المفروضة ويجوز أن يأخذوا من الوصايا للفقراء ومن النذور لأنهما تطوع فأشبه ما لو وصى لهم وفي الكفارة وجهان أحدهما يجوز لأنها ليست بزكاة ولا هي أوساخ الناس فأشبهت صدقة التطوع والثاني لا يجوز لأنها واجبة أشبهت الزكاة
فصل : وكل من حرم صدقة الفرض من الاغنياء وقرابة المتصدق والكافر وغيرهم يجوز دفع صدقة التطوع اليهم ولهم أخذها قال الله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } ولم يكن الأسير يومئذ الا كافرا
[ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة فقلت يا رسول الله : ان أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها قال : نعم صلي أمك ] وكسا عمر خاله حلة كان النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه اياها وعن أبي مسعود عن رسول الله صلى عليه وسلم قال : [ اذا أنفق على أهله وهو يحتسبها فهي له صدقة ] متفق عليه [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لسعد : إن نفقتك على أهلك صدقة وإن ما تأكل امرأتك صدقة ] متفق عليه
فصل : فأما النبي صلى الله عليه و سلم فالظاهر أن الصدقة جميعها كانت محرمة عليه فرضها ونفلها لأن اجتنابها كان من دلائل نبوته وعلاماتها فلم يكن ليخل بذلك وفي حديث اسلام سلمان الفارسي أن الذي أخبره عن النبي صلى الله عليه و سلم ووصفه قال : انه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة
وقال أبو هريرة : كان النبي صلى الله عليه و سلم اذا أتي بطعام سأل عنه فان قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل وان قيل له هدية ضرب بيده فأكل معهم أخرجه البخاري [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم في لحم تصدق به على بريرة : وهو عليها صدقة وهو لنا هدية ] وقال عليه السلام : [ اني لأنقلب الى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها ] رواه مسلم وقال : [ إنا لا تحل لنا الصدقة ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كان أشرف الخلق وكان له من المغانم خمس الخمس والصفي فحرم نوعي الصدقة فرضها ونفلها وآله دونه في الشرف ولهم خمس الخمس وحده فحرموا أحد نوعيها وهو الفرض وقد روي عن أحمد أن صدقة التطوع لم تكن محرمة عليه قال الميموني : سمعت أحمد يقول : الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه و سلم وأهل بيته صدقة الفطر وزكاة الأموال والصدقة يصرفها الرجل على محتاج يريد بها وجه الله تعالى فأما غير ذلك فلا أليس يقال كل معروف صدقة وقد كان يهدى للنبي صلى الله عليه و سلم ويستقرض فليس ذلك من جنس الصدقة على وجه الحاجة والصحيح أن هذا لا يدل على إباحة الصدقة له إنما أراد أن ما ليس من صدقة الأموال على الحقيقة كالقرض والهدية وفعل المعروف غير محرم عليه لكن فيه دلالة على التسوية بينه وبين آله في تحريم صدقة التطوع عليهم لقوله بأن الصدقة على المحتاج يريد بها وجه الله محرمة عليهما وهذا هو صدقة التطوع فصارت الروايتان في تحريم صدقة التطوع على آله والله أعلم

مسألة وفصل : الغني تعريفه وامتناع الزكاة عليه وعلى زوجته
مسألة : قال : ولا لغني وهو الذي يملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب
يعني لا يعطي من سهم الفقراء والمساكين غني ولا خلاف في هذا بين أهل العلم وذلك لأن الله تعالى جعلها للفقراء والمساكين والغني غير داخل فيهم وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] وقال : [ لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] وقال : [ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأن أخذ الغني منها يمنع وصولها الى أهلها ويخل بحكمة وجوبها وهو اغناء الفقراء بها واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها ونقل عن أحمد فيه روايتان : أظهرهما أنه ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك ولو ملك من العروض أو الحبوب أو السائمة أو العقار ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنيا وان ملك نصابا هذا الظاهر من مذهبه وهو قول الثوري و النخعي و ابن مبارك و اسحق
وروي عن علي وعبد الله أنهما قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عدلها أو قيمتها من الذهب وذلك لما روى عبد الله بن مسعود قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشا أو خدوشا أو كدوحا في وجهه فقيل يا رسول الله ما الغني ؟ قال : خمسون درهما أو قيمتها من الذهب ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن فان قيل هذا يرويه حكيم بن جبير وكان شعبة لا يروي عنه وليس بقوي في الحديث قلنا قد قال عبد الله بن عثمان لسفيان : حفظي أن شعبة لا يروي عن عن حكيم بن جبير فقال سفيان : وحدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن وقد قال علي وعبد الله مثل ذلك : والرواية الثانية أن الغنى ما تحصل به الكفاية فاذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئا وإن كان محتاجا حلت له الصدقة وإن ملك نصابا والأثمان وغيرها في هذا سواء وهذا اختيار أبي الخطاب وابن شهاب العكبري وقول مالك و الشافعي [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لقبيصة بن المخارق : لا تحل المسألة الا لأحد ثلاثة رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ] رواه مسلم فمد إباحة المسألة الى وجود اصابة القوام أو السداد ولأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجا فهو فقير يدخل في عموم النص ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة والحديث الأول فيه ضعف ثم يجوز أن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة اذا جاءته من غير مسألة فا المذكور فيه تحريم المسألة فنقتصر عليه وقال الحسن و أبو عبيد : الغنى ملك أوقية وهي أربعون درهما لما روى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ] وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين درهما رواه أبو داود وقال أصحاب الرأي : الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة من الأثمان والعروض المعدة للتجارة أو السائمة أو غيرها لقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] فجعل الاغنياء من تجب عليهم الزكاة فيدل ذلك على أن من تجب عليه غني ومن لا تجب عليه ليس بغني فيكون فقيرا فتدفع الزكاة اليه لقوله : [ فترد في فقرائهم ] ولأن الموجب للزكاة غنى والأصل عدم الاشتراك لأن من لا نصاب له لا تجب عليه الزكاة ولا يمنع منها كمن يملك دون الخمسين ولا له ما يكفيه فيحصل الخلاف بيننا وبينهم في أمور ثلاثة أحدها أن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها عندنا ودليل ذلك حديث ابن مسعود وهو أخص من حديثهم فيجب تقديمه ولأن حديثهم دل على الغنى الموجب وحديثنا دل على الغنى المانع ولا تعارض بينهما فيجب الجمع بينهما وقولهم الأصل عدم الاشتراك قلنا قد قام دليله بما ذكرناه فيجب الأخذ به الثاني أن من له ما يكفيه من مال غير زكائي أو من مكسبه أو أجرة عقارات أو غيره ليس له الأخذ من الزكاة وبهذا قال الشافعي و اسحق و أبو عبيدة و ابن المنذر وقال أبو يوسف : ان دفع الزكاة اليه فهو قبيح وأرجو أن يجزئه وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : يجوز دفع الزكاة اليه لأنه ليس بغني لما ذكروه في حجتهم
ولنا ما روى الامام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار [ عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه الصدقة فصعد فيهما البصر فرآهما جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] قال أحمد : ما أجوده من حديث وقال هو أحسنها اسنادا وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن صحيح إلا ابن أحمد قال : لا أعلم فيه شيئا يصح قيل فحديث سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال : سالم لم يسمع من أبي هريرة ولأن له ما يغنيه عن الزكاة فلم يجز الدفع اليه كمالك النصاب
الثالث : إن من ملك نصابا زكائيا لا تتم به الكفاية من غير الأثمان فله الأخذ من الزكاة قال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله فقلت : قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير ويكون له أربعون شاة وتكون لهم الضعيفة ولا تكفيه فيعطى من الصدقة ؟ قال : نعم وذكر قول عمر : أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا قلت فهذا قدر من العدد أو الوقت قال لم أسمعه وقال في رواية محمد بن الحكم : اذا كان له عقار يشغله أو ضيقة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة وهذا قول الشافعي وقال أصحاب الرأي : ليس له أن يأخذ منها اذا ملك نصابا زكاتيا لأنه تجب عليه الزكاة فلم تجب له للخبر
ولنا أنه لا يملك ما يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه فجاز له الأخذ من الزكاة كما لو كان ما يملك لا تجب فيه الزكاة ولأن الفقر عبارة عن الحاجة قال الله تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } أي المحتاجون اليه وقال الشاعر :
( فيا رب اني مؤمن بك عابد ... مقر بزلاتي اليك فقير )
وقال آخر :
( واني إلى معروفها لفقير )
وهذا محتاج فيكون فقيرا غير غني ولأنه لو كان ما يملكه لا زكاة فيه لكان فقيرا ولا فرق في دفع الحاجة بين المالين وقد سمى الله تعالى الذين لهم سفينة في البحر مساكين فقال تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } وقد بينا بما ذكرناه من قبل أن الغنى يختلف مسماه فيقع على ما يوجب الزكاة وعلى ما يمنع منها فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ولا من عدمه عدمه فمن قال ان الغنى هو الكفاية سوى بين الاثمان وغيرها وجوز الأخذ لكل من لا كفاية له وإن ملك نصبا من جميع الأموال ومن قال بالرواية الأخرى فرق بين الأثمان وغيرها لخبر ابن مسعود ولأن الأثمان آلة الانفاق المعدة له دون غيرها فجوز الأخذ لمن لا يملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب ولا ما تحصل به الكفاية من مكسب أو أجرة أو عقار أو غيره أو نماء سائمة أو غيرها وإن كان له مال معد للأنفاق من غير الأثمان فينبغي أن تعتبر الكفاية به في حول كامل لأن الحول يتكرر وجوب الزكاة بتكرره فيأخذ منها كل حول ما يكفيه الى مثله ويعتبر وجود الكفاية له ولعائلته ومن يمونه لأن كل واحد منهم مقصود دفع حاجته فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد وإن كان له خمسون درهما جاز أن يأخذ لعائلته حتى يصير لكل واحد منهم خمسون قال أحمد في رواية أبي داود فيمن يعطي الزكاة وله عيال يعطي كل واحد من عياله خمسين خمسين وهذا لأن الدفع إنما هو إلى العيال وهذا نائب عنهم في الأخذ
فصل : وإن كان للمرأة الفقيرة زوج موسر يتفق عليها لم يجز دفع الزكاة اليها لأن الكفاية حاصلة لها بما يصلها من نفقتها الواجبة فأشبهت من له عقار يستغني بأجرته وإن لم ينفق عليها وتعذر ذلك جاز الدفع اليها كما لو تعطلت منفعة العقار وقد نص أحمد على هذا

مسألة وفصل : تحديد مصرف الزكاة : الأصناف الثمانية التي ذكرها الله
مسألة : قال : ولا يعطى الا في الثمانية الاصناف التي سمى الله تعالى
يعني قول الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل } وقد ذكرهم الخرقي في موضع آخر فنؤخر شرحهم اليه
وقد روى زياد بن الحارث الصدائي قال : [ أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فبايعته قال فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فان كنت من تلك الاجزاء أعطيتك حقك ] رواه أبو داود وأحكامهم كلها باقية وبهذا قال الحسن و الزهري و أبو جعفر محمد بن علي وقال الشعبي و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي : انقطع سهم المؤلف بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أعز الله تعالى الاسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفا بحال قالوا وقد روي هذا عن عمر
ولنا كتاب الله وسنة رسوله فان الله تعالى سمى المؤلفة في الاصناف الذين سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء ] وكان يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة ولم يزل كذلك حتى مات ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ والنسخ لا يثبت بالاحتمال ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه و سلم لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم وانقراض زمن الوحي ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك بها قياس فكيف يتركون به الكتاب والسنة قال الزهري : لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة فان الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم وانما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم فمتى دعت الحاجة إلى اعطائهم أعطوا فكذلك جميع الاصناف اذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة فاذا وجد عاد حكمه كذا ههنا
فصل : ولا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والقناطر والسقايات واصلاح الطرقات وسد البثوق وتكفين الموتى والتوسعة على الأضياف وأشباه ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى وقال أنس و الحسن : ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية والأول أصح لقوله سبحانه وتعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } وانما للحصر والإثبات تثبت المذكور وتنفي ما عداه والخبر المذكور قال أبو داود : سمعت أحمد وسئل يكفن الميت من الزكاة ؟ قال لا ولا يقضى من الزكاة دين الميت وانما لم يجز دفعها في قضاء دين الميت لأن الغارم هو الميت ولا يمكن الدفع اليه وإن دفعها الى غريمه صار الدفع إلى الغريم لا إلى الغارم وقال أيضا : يقضى من الزكاة دين الحي ولا يقضى منها دين الميت لأن الميت لا يكون غارما قيل فانما يعطى أهله قال إن كانت على أهله فنعم

فصل : ظهور عدم استحقاق المعطى له
فصل : واذا أعطى من يظنه فقيرا فبان غنيا فعن أحمد فيه روايتان إحداهما يجزئه اختارها أبو بكر وهذا قول الحسن و أبي عبيد و أبي حنيفة [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم الرجلين الجلدين وقال : إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] [ وقال للرجل الذي سأله الصدقة : إن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك حقك ] ولو اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقولهم وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال : [ قال رجل لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فأتي فقيل له أما صدقتك فقد قبلت لعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله ] متفق عليه والرواية الثانية لا يجزئه لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه فلم يخرج من عهدته كما لو دفعها الى كافر أو ذي قرابة كديون الآدميين وهذا قول الثوري و الحسن بن صالح و أبي يوسف و ابن المنذر و للشافعي قولان كالروايتين فأما إن بان الآخذ عبدا أو كافرا أو هاشميا أو قرابة للمعطي ممن لا يجوز الدفع اليه لم يجزه رواية واحدة لأنه ليس بمستحق ولا تخفى حاله غالبا فلم يجزه الدفع اليه كديون الآدميين وفارق من بان غنيا بأن الفقر والغنى مما يعسر الإطلاع عليه والمعرفة بحقيقته قال الله تعالى : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم } فاكتفى بظهور الفقر ودعواه بخلاف غيره

فصول : صرف الزكاة في جهة واحدة من الأصناف الثمانية ما تندفع به حاجته
مسألة : قال : إلا أن يتولى الرجل اخراجها بنفسه فيسقط العامل
وجملته أن الرجل إذا تولى اخراج زكاته بنفسه سقط حق العامل منها لأنه انما يأخذ أجرا لعمله فاذا لم يعمل فيها شيئا فلا حق له فيسقط وتبقى سبعة أصناف إن وجد جميعهم أعطاهم وإن وجد بعضهم اكتفى بعطيته وإن أعطى البعض مع إمكان عطية الجميع جاز أيضا
مسألة : قال : وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه لم يخرجه إلى الغني
وجملته أنه يجوز أن يقتصر على صنف واحد من الأصناف الثمانية ويجوز أن يعطيها شخصا واحدا وهو قول عمر وحذيفة و ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير و الحسن و النخعي و عطاء واليه ذهب الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي
وروي عن النخعي أنه قال : إن كان المال كثيرا يحتمل الاصناف قسمه عليهم وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد وقال مالك يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الاولى فالاولى وقال عكرمة و الشافعي يجب أن يقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجود من الأصناف الستة الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف الى أقل من ثلاثة منهم وأن وجد منهم ثلاثة أو أكثر فان لم يجد الا واحدا صرف حصة ذلك الصنف اليه
وروى الأثرم عن أحمد كذلك وهو اختيار أبي بكر لأن الله تعالى جعل الصدقة لجميعهم وشرك بينهم فيها فلا يجوز الاقتصار على بعضهم كأهل الخمس
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فأخبر أنه مأمور برد جملتها في الفقراء وهم صنف واحد ولم يذكر سواهم ثم أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان سوى الفقراء وهم المؤلفة الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة وزيد الخيل قسم فيهم الذهبية التي بعث بها اليه علي من اليمن وانما يؤخذ من أهل اليمن الصدقة ثم أتاه مال آخر فجعله في صنف آخر لقوله لقبيصة بن المخارق حين تحمل حمالة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم يسأله فقال : أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ] وفي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه أمر له بصدقة قومه ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز دفعها إلى واحد ولأنها لا يجب صرفها إلى جميع الأصناف اذا أخذها الساعي فلم يجب دفعها اليهم اذا فرقها المالك كما لو لم يجد إلا صنفا واحدا ولأنه لا يجب عليه تعميم أهل كل صنف بها فجاز الاقتصار على واحد كما لو وصى لجماعة لا يمكن حصرهم ويخرج على هذين المعنيين الخمس فانه يجب على الامام تفريقه على جميع مستحقيه واستيعاب جميعهم به بخلاف الزكاة والآية أريد بها بيان الاصناف الذين يجوز الدفع اليهم دون غيرهم اذا ثبت هذا فان المستحب صرفها إلى جميع الاصناف أو الى من أمكن منهم لأنه يخرج بذلك عن الخلاف ويحصل الاجزاء يقينا فكان أولى
فصل : قول الخرقي اذا لم يخرجه الى الغني يعني به الغني المانع من أخذ الزكاة وقد ذكرناه وظاهر قول الخرقي أنه لا يدفع اليه ما يحصل به الغني والمذهب أنه يجوز أن يدفع اليه ما يغنيه من غير زيادة نص عليه أحمد في مواضع وذكره أصحابه فتعين حمل كلام الخرقي على أنه لا يدفع اليه زيادة على ما يحصل به الغني وهذا قول الثوري و مالك و الشافعي و أبي ثور وقال أصحاب الرأي : يعطى ألفا وأكثر اذا كان محتاجا اليها ويكره أن يزاد على المئتين
ولنا أن الغنى لو كان سابقا منع فيمنع اذا قارن كالجمع بين الاختين في النكاح
فصل : وكل صنف من الاصناف يدفع اليه ما تندفع به حاجته من غير زيادة فالغارم والمكاتب يعطى كل واحد منهما ما يقضي به دينه وان كثر وابن السبيل يعطى ما يبلغه إلى بلده والغازي يعطى ما يكفيه لغزوه والعامل يعطى بقدر أجره قال أبو داود سمعت أحمد قيل له يحمل في السبيل بألف من الزكاة ؟ قال ما أعطي فهو جائز ولا يعطى أحد من هؤلاء زيادة عل ما تندفع به الحاجة لأن الدفع لها فلا يزاد على ما تقتضيه
فصل : وأربعة أصناف يأخذون أخذا مستقرا ولا يراعى حالهم بعد الدفع وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة فمتى أخذوها ملكوها ملكا دائما مستقرا لا يجب عليهم ردها بحال وأربعة منهم وهم الغارمون وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل فانهم يأخذون أخذا مراعى فان صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها وإلا استرجع منهم والفرق بين هذه الاصناف والتي قبلها أن هؤلاء أخذوا لمنعى لم يحصل بأخذهم للزكاة والاولون حصل المقصود بأخذهم وهو غنى الفقراء والمساكين وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين وان قضى هؤلاء حاجتهم بها وفضل معهم فضل ردوا الفضل إلا الغازي فان ما فضل له بعد غزوه فهو له ذكره الخرقي في غير هذا الموضع وظاهر قوله في المكاتب أنه لا يرد ما فضل في يده لأنه قال : واذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشيء فهو لسيده ونص عليه أحمد أيضا في رواية المروذي والكوسج ونقل عنه حنبل اذا عجز يرد ما في يديه في المكاتبين وقا أبو بكر عبد العزير : ان كان باقيا بعينه استرجع منه لأنه إنما دفع اليه ليعتق به ولم يقع وقال القاضي : كلام الخرقي محمول على أن الذي بقي في يده لم يكن عين الزكاة وانما تصرف فيها وحصل عوضها وفائدتها ولو تلف المال الذي في يد هؤلاء بغير تفريط لم يرجع عليهم بشيء

مسألة وفصول : اخراج الزكاة في بلد آخر
مسألة : قال : ولا يجوز نقل الصدقة من بلدها الى بلد تقصر في مثله الصلاة
المذهب على أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلدها إلى مسافة القصر قال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن الزكاة يبعث بها من بلد إلى بلد ؟ قال لا قيل وان كان قرابته بها ؟ قال لا واستحب أكثر أهل العلم أن لا تنقل من بلدها وقال سعيد : حدثنا سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال في كتاب معاذ بن جبل : من أخرج من مخلاف الى مخلاف فان صدقته وعشره ترد إلى مخلافه وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه رد زكاة أتي بها من خراسان إلى الشام الى خراسان وروي عن الحسن و النخعي أنهما كرها نقل الزكاة من بلد إلى بلد إلا لذي قرابة وكان أبو العالية يبعث بزكاته إلى المدينة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ أخبرهم ان عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ] وهذا يختص بفقراء بلدهم ولما بعث معاذ الصدقة من اليمن الى عمر أنكر عليه ذلك عمر وقال لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم فقال معاذ : أنا ما بعثت اليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني رواه أبو عبيد في الأموال وروي أيضا عن ابراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين ان زيادا أو بعض الامراء بعث عمران على الصدقة فلما رجع قال : أين المال ؟ قال : أللمال بعثتني ؟ أخذناها من حيث كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ووضعناها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأن المقصود اغناء الفقراء بها فاذا أبحنا نقلها أفضى الى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين
فصل : فان خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم قال القاضي : وظاهر كلام أحمد يقتضي ذلك ولم أجد عنه نصا في هذه المسألة وذكر أبو الخطاب فيها روايتين إحداهما يجزيه واختارها لأنه دفع الزكاة إلى غير من أمر بدفعها اليه أشبه ما لو دفعها الى غير الأصناف
فصل : فان استغنى عنها فقراء أهل بلدها جاز نقلها نص عليه أحمد فقال : قد تحمل الصدقة إلى الامام إذا لم يكن فقراء أو كان فيها فضل عن حاجتهم وقال أيضا : لا تخرج صدقة قوم عنهم من بلد الى بلد الا أن يكون فيها فضل عنهم لأن الذي كان يجيء الى النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وعمر من الصدقة انما كان عن فضل عنهم يعطون ما يكفيهم ويخرج الفضل عنهم وروى أبو عبيد في كتاب الأموال باسناده عن عمرو بن شعيب ان معاذ بن جبل لم يزل بالجند اذ بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى مات النبي صلى الله عليه و سلم ثم قدم على عمر فرده على ما كان عليه فبعث اليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر وقال : لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية لكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم فقال معاذ : ما بعثت اليك بشيء وأنا أجد أحدا يأخذه مني فلما كان العام الثاني بعث اليه بشطر الصدقة فتراجعا بمثل ذلك فلما كان العام الثالث بعث اليه بها كلها فراجعه عمر بمثل ما راجعه فقال معاذ : ما وجدت أحدا يأخذ مني شيئا وكذلك اذا كان ببادية ولم يجد من يدفعها اليه فرقها على فقراء أقرب البلاد اليه
فصل : قال أحمد في رواية محمد بن الحكم : اذا كان الرجل في بلد وماله في بلد فأحب الي أن تؤدى حيث كان المال فان كان بعضه حيث هو وبعضه في مصر يؤدي زكاة كل مال حيث هو فان كان غائبا عن مصره وأهله والمال معه فأسهل أن يعطي بعضه في هذا البلد وبعضه في البلد الآخر فأما إذا كان المال في البلد الذي هو فيه حتى يمكث فيه حولا تاما فلا يبعث بزكاته الى بلد آخر فان كان المال تجارة يسافر به فقال القاضي يفرق زكاته حيث حال حوله في أي موضع كان ومفهوم كلام أحمد في اعتباره الحول التام أنه يسهل في أن يفرقها في ذلك البلد وغيره من البلدان التي أقام بها في ذلك الحول وقال في الرجل يغيب عن أهله فتجب عليه الزكاة يزكيه في الموضع الذي كثر مقامه فيه فأما زكاة الفطر فانه يفرقها في البلد الذي وجبت عليه فيه سواء كان ماله فيه أو لم يكن لأنه سبب وجوب الزكاة ففرقت في البلد الذي سببها فيه
فصل : والمستحب تفرقة الصدقة في بلدها ثم الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان قال أحمد في رواية صالح : لا بأس أن يعطي زكاته في القرى التي حوله ما لم نقصر الصلاة في أثنائها ويبدأ بالأقرب فالأقرب وإن نقلها إلى البعيد لتحري قرابة أو من كان أشد حاجة فلا بأس ما لم يجاوز مسافة القصر

مسائل وفصول : حكم ابدال النصاب لجنسه أو لغيره
فصل : واذا أخذ الساعي الصدقة فاحتاج الى بيعها لمصلحة من كلفة في نقلها أو مرضها أو نحوهما فله ذلك لما روى قيس بن أبي حازم أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فسأل عنها فقال المصدق : إني ارتجعتها بابل فسكت رواه أبو عبيد في الأموال وقال الرجعة أن يبيعها ويشتري بثمنها مثلها أو غيرها فان لم يكن حاجة الى بيعها فقال القاضي : لا يجوز والبيع باطل وعليه الضمان ويحتمل الجواز لحديث قيس فان النبي صلى الله عليه و سلم سكت حين أخبره المصدق بارتجاعها ولم يستفصل
سمألة : قال : وإن باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها اذا تم حول من وقت ملكه الأول
وجملته أنه اذا باع نصابا للزكاة مما يعتبر فيه الحول بجنسه كالابل بالابل أو البقر بالبقر أو الغنم بالغنم أو الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة لم ينقطع الحول وبني حول الثاني على حول الأول وبهذا قال مالك و قال الشافعي : ولا ينبني حول نصاب على حول غيره بحال لقوله : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] ولأنه أصل بنفسه فلم ينبن على حول غيره كما لو اختلف الجنسان ووافقنا أبو حنيفة في الاثمان ووافق الشافعي فيما سواها لأن الزكاة إنما وجبت في الأثمان لكونها ثمنا وهذا المعنى يشملها بخلاف غيرها
ولنا أنه نصاب يضم اليه نماؤه في الحول فبني حول بدله من جنسه على حوله كالعروض والحديث مخصوص بالنماء والربح والعروض فنقيس عليه محل النزاع والجنسان لا يضم أحدهما الى الآخر مع وجودهما فأولى أن لا يبنى حول أحدهما على الآخر
فصل : قال أحمد بن سعيد : سألت أحمد عن الرجل يكون عنده غنم سائمة فيبيعها بضعفها من الغنم أيزكيها كلها أم يعطي زكاة الأصل ؟ قال : بل يزكيها كلها على حديث عمر في السخلة يروح بها الراعي لأن نماءها معها قلت فان كانت للتجارة قال : يزكيها كلها على حديث حماس فاما ان باع النصاب بدون النصاب انقطع الحول وان كان عنده مئتان فباعهما بمئة فعليه زكاة مائة وحدها
مسألة : قال : وكذلك إن أبدل عشرين دينارا أو مئتي درهم بعشرين دينارا لم تبطل الزكاة بانتقالها
وجملة ذلك أنه متى أبدل نصابا من غير جنسه انقطع حول الزكاة واستأنف حولا الا الذهب بالفضة أو عروض التجارة لكون الذهب والفضة كالمال الواحد اذ هما اروش الجنايات وقيم المتلفات ويضم أحدهما الى الآخر في الزكاة وكذلك اذا اشترى عرضا للتجارة بنصاب من الأثمان أو باع عرضا بنصاب لم ينقطع الحول لأن الزكاة تجب في قيمة العروض لا في نفسها والقيمة هي الأثمان فكانا جنسا واحدا واذا قلنا إن الذهب والفضة لا يضم أحدهما الى صاحبه لم يبن حول أحدهما على حول الآخر لأنهما مالان لا يضم أحدهما الى الآخر فلم يبن حوله على حوله كالجنسين من الماشية وأما عروض التجارة فان حولها يبنى على حول الأثمان بكل حال

مسألة وفصول : الحيلة لاسقاط الزكاة لا تسقطها اذا حال الحول أو قبل الحول
مسألة : قال : ومن كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم فرارا من الزكاة لم تسقط الزكاة عنه
قد ذكرنا أن ابدال النصاب بغير جنسه يقطع الحول ويستأنف حولا آخر فان فعل هذا فرارا من الزكاة لم تسقط عنه سواء كان المبدل ماشية أو غيرها من النصب وكذا لو أتلف جزءا من النصاب قصدا للتنقيص لتسقط عنه الزكاة لم تسقط وتؤخذ الزكاة منه في آخر الحول اذا كان ابداله واتلافه عند قرب الوجوب ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة لأن ذلك ليس بمظنة للفرار وبما ذكرناه قال مالك و الأوزاعي و ابن الماجشون و اسحق و أبو عبيد وقال أبو حنيفة و الشافعي : تسقط عنه الزكاة لأنه نقص قبل تمام حوله فلم تجب فيه الزكاة كما لو أتلف لحاجته
ولنا قول الله تعالى : { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم } فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرارهم من الصدقة ولأنه قصد اسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه فلم يسقط كما لو طلق امرأته في مرض موته ولأنه لما قصد قصدا فاسدا اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل مورثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان واذا أتلفه لحاجته لم يقصد قصدا فاسدا
فصل : واذا حال الحول أخرج الزكاة من جنس المال المبيع دون الموجود لأنه الذي وجبت الزكاة بسببه ولولاه لم تجب في هذا زكاة
فصل : فان لم يقصد بالبيع ولا بالتنقيص القرار انقطع الحول واستأنف بما استبدل به حولا إن كان محلا للزكاة فان وجد بالثاني عيبا فرده أو باعه بشرط الخيار ثم استرده استأنف أيضا حولا لزوال ملكه بالبيع قل الزمان أو كثر وقد ذكر الخرقي هذا في موضع آخر فقال والماشية اذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولا سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري لأنه تجديد ملك وإن حال الحول على النصاب الذي اشتراه وجبت فيه الزكاة فان وجد به عيبا قبل اخراج زكاته فله الرد سواء قلنا الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة لما بينا من أن الزكاة فان وجد به عيبا قبل اخراج زكاته فله الرد سواء قلنا الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة لما بينا من أن الزكاة لا تجب في العين بمعنى استحقاق الفقراء جزءا منه بل بمعنى تعلق حق به كتعلق الأرش بالجاني فيرد النصاب وعليه اخراج زكاته من مال آخر فان أخرج الزكاة منه ثم أراد رده انبنى على المعيب اذا حدث به عيب آخر عند المشتري هل له رده ؟ على روايتين : وانبنى أيضا على تفريق الصفقة فان قلنا يجوز جاز الرد ههنا وإلا لم يجز ومتى رده فعليه عوض الشاة المخرجة تحسب عليه بالحصة من الثمن والقول قوله في قيمتها مع يمينه اذا لم تكن بينة لأنها تلفت في يده فهو أعرف بقيمتها ولأن القيمة مدعاة عليه فهو غارم والقول في الأصول قول الغارم وفيه وجه آخر أن القول قول البائع لأنه يغرم الثمن فيرده والأول أصح لأن الغارم لثمن الشاة المدعاة هو المشتري فان أخرج الزكاة من غير النصاب فله الرد وجها واحدا
فصل : فان كان البيع فاسدا لم ينقطع حول الزكاة في النصاب وبني على حوله الاول لأن الملك ما انتقل فيه إلا أن يتعذر رده فيصير كالمغصوب على ما مضى
فصل : ويجوز التصرف في النصاب الذي وجبت الزكاة فيه بالبيع والهبة وأنواع التصرفات وليس للساعي فسخ البيع وقال أبو حنيفة : تصح إلا أنه اذا امتنع من اداء الزكاة نقض البيع في قدرها وقال الشافعي : في صحة البيع قولان
أحدهما : لا يصح لأننا إن قلنا إن الزكاة تتعلق بالعين فقد باع مالا يملكه وإن قلنا تتعلق بالذمة فقدر الزكاة مرتهن بها وبيع الرهن غير جائز
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها متفق عليه ومفهومه صحة بيعها اذا بدا صلاحها وهو عام فيما وجبت فيه الزكاة وغيره ونهى عن بيع الحب حتى يشتد وبيع العنب حتى يسود وهما مما تجب الزكاة فيه ولأن الزكاة وجبت في الذمة والمال خال عنها فصح بيعه كما لو باع ماله وعليه دين آدمي أو زكاة فطر وإن تعلقت بالعين فهو تعلق لا يمنع التصرف في جزء من النصاب فلم يمنع بيع جميعه كارش الجناية وقولهم : باع ما لا يملكه لا يصح فان الملك لم يثبت للفقراء في النصاب بدليل أن له اداء الزكاة من غيره ولا يتمكن الفقراء من الزامه أداء الزكاة منه وليس برهن فان أحكام الرهن غير ثابتة فيه فاذا تصرف في النصاب أخرج الزكاة من غيره وإلا كلف اخراجها وإن لم يكن له كلف تحصيلها فان عجز بقيت الزكاة في ذمته كسائر الديون ولا يؤخذ من النصاب ويحتمل أن يفسح البيع في قدر الزكاة وتؤخذ منه ويرجع البائع عليه بقدرها لأن على الفقراء ضررا في اتمام البيع وتفويتا لحقوقهم فوجب فسخه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] وهذا أصح

مسألة وفصل : الزكاة تجب في العين والذمة وحلول الحول
مسألة : قال : والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول وان تلف المال فرط أو لم يفرط
هذه المسألة تشتمل على أحكام ثلاثة
أحدها : أن الزكاة تجب في الذمة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي لأن اخراجها من غير النصاب جائز فلم تكن واجبة فيه كزكاة الفطر ولأنها لو وجبت فيه لامتنع تصرف المالك فيه ولتمكن المستحقون من الزامه أداء الزكاة من عينه أو ظهر شيء من أحكام ثبوته فيها ولسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط كسقوط ارش الجناية بتلف الجاني
والثانية : أنها تجب في العين : وهذا القول الثاني للشافعي وهذه الرواية هي الظاهرة عند بعض أصحابنا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في أربعين شاة شاة ] وقوله : [ فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بدالية أو نضج نصف العشر ] وغير ذلك من الألفاظ الواردة بحرف في وهي للظرفية وانما جاز الاخراج من غير النصاب رخصة وفائدة الخلاف أنها اذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه اداؤها لما مضى ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني وكذلك إن كان أكثر من نصاب لم تنقص الزكاة وان مضى عليه أحوال فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه وان كانت مائة دينار فعليه سبعة دنانير ونصف لأن الزكاة وجبت في ذمته فلم يؤثر في تنقيص النصاب لكن ان لم يكن له مال آخر يؤدي الزكاة منه احتمل أن تسقط الزكاة في قدرها لأن الدين يمنع وجوب الزكاة
وقال ابن عقيل : لا تسقط الزكاة بهذا بحال لأن الشيء لا يسقط نفسه وقد يسقط غيره بدليل أن تغير الماء بالنجاسة في محلها لا يمنع صحة طهارتها وازالتها به ويمنع ازالة نجاسة غيرها والأول أولى لأن الزكاة الثانية غير الاولى وان قلنا الزكاة تتعلق بالعين وكان النصاب مما تجب الزكاة في عينه فحالت عليه أحوال لم تؤد زكاتها تعلقت الزكاة في الحول الاول من النصاب بقدرها فان كان نصابا لا زيادة عليه فلا زكاة فيه فيما بعد الحول الاول لأن النصاب نقص فيه وان كان أكثر من نصاب عزل قدر فرض الحول الأول وعليه زكاة ما بقي وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية جماعة وقال في رواية محمد بن الحكم اذا كانت الغنم أربعين فلم يأته المصدق عامين فاذا أخذ المصدق شاة فليس عليه شيء في الباقي وفيه خلاف وقال في رواية صالح : اذا كان عند الرجل مائتا درهم فلم يزكها حتى حال عليها حول آخر يزكيها للعام الأول لأن هذه تصير مائتين غير خمسة دراهم وقال في رجل له ألف درهم فلم يزكها سنين يزكي في أول سنة خمسة وعشرين ثم في كل سنة بحساب ما بقي وهذا قول مالك و الشافعي و أبي عبيد فان كان عنده أربعون من الغنم نتجت سخلة في كل حول وجب عليه في كل سنة شاة لأن النصاب كمل بالسخلة الحادثة فان كان نتاج السخلة بعد وجوب الزكاة عليه بمدة استؤنف الحول الثاني من حين نتجت لأنه حينئذ كمل
فصل : فان ملك خمسا من الابل فلم يؤد زكاتها أحوالا فعليه في كل سنة شاة نص عليه في رواية الأثرم قال في رواية الأثرم : المال غير الابل اذا أدي من الابل لم ينقص والخمس بحالها وكذلك ما دون خمس وعشرين من الابل لا تنقص زكاتها فيما بعد الحول الأول لأن الفرض يجب من غيرها فلا يمكن تعلقه بالعين و للشافعي قولان أحدهما أن زكاتها تنقص كسائر الأموال فاذا كان عنده خمس من الإبل فمضى عليها أحوال لم تجب عليه فيها الا شاة واحدة لأنها نقصت بوجوب الزكاة فيها في الحول الأول عن خمس كاملة فلم يجب عليه فيها شيء كما لو ملك أربعا وجزءا من بعير
ولنا أن الواجب من غير النصاب فلم ينقص به النصاب كما لو أداه وفارق سائر الأموال فان الزكاة يتعلق وجوبها بعينه فينقصه كما لو أداه من النصاب فعلى هذا لو ملك خمسا وعشرين فحالت عليه أحوال فعليه في الحول الأول بنت مخاض وعليه لكل حول بعده أربع شياه وان بلغت قيمة الشاة الواجبة أكثر من خمس من الابل فان قيل فاذا لم يكن في خمس وعشرين بنت مخاض فالواجب فيها من غير عينها فيجب أن لا تنقص زكاتها أيضا في الأحوال كلها قلنا إذا أدى عن خمس وعشرين أكبر من بنت مخاض جاز فقد أمكن تعلق الزكاة بعينها لإمكان الاداء منها بخلاف عشرين من الابل فانه لا يقبل منه واحدة منها فافترقا
فصل : الحكم الثاني أن الزكاة تجب بحلول الحول سواء تمكن من الأداء أو لم يتمكن وبهذا قال أبو حنيفة : وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر التمكن من الاداء شرط فيشترط للوجوب ثلاثة أشياء الحول والنصاب والتمكن من الاداء وهذا قول مالك حتى لو أتلف الماشية بعد الحول قبل إمكان الاداء لا زكاة عليه اذا لم يقصد الفرار من الزكاة لأنها عبادة فيشترط لوجوبها امكان أدائها كسائر العبادات
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] فمفهومه وجوبها عليه اذا حال الحول ولأنه لو لم يتمكن من الاداء حتى حال عليه حولان وجبت عليه زكاة الحولين ولا يجوز وجوب فرضين في نصاب واحد في حال واحد وقياسهم ينقلب عليهم فاننا نقول هذه عبادة فلا يشترط لوجوبها امكان أدائها كسائر العبادات فان الصوم يجب على الحائض والمريض العاجز عن أدائه والصلاة تجب على المغمى عليه والنائم ومن أدرك من أول الوقت جزءا ثم جن أو حاضت المرأة والحج يجب على من أيسر في وقت لا يتمكن من الحج فيه أو منعه من المضي مانع ثم الفرق بينهما أن تلك عبادات بدنية يكلف فعلها ببدنه فأسقطها تعذر فعلها وهذة عبادة مالية يمكن ثبوت الشركة للمساكين في ماله والوجوب في ذمته مع عجزه عن الاداء كثبوت الديون في ذمة المفلس وتعلقها بماله بجنايته

مسألة وفصول : سقوط الزكاة
فصل : الثالث أن الزكاة لا تسقط بتلف المال فرط أو لم يفرط هذا المشهور عن أحمد وحكى عنه الميموني أنه ان تلف النصاب قبل التمكن من الاداء سقطت الزكاة عنه وإن تلف بعده لم تسقط وحكاه ابن المنذر مذهبا لأحمد وهو قول الشافعي و الحسن بن صالح و إسحق و أبي ثور و ابن المنذر وبه قال مالك إلا في الماشية فانه قال لا شيء فيها حتى يجيء المصدق فان هلكت قبل مجيئه فلا شيء عليه وقال أبو حنيفة : تسقط الزكاة بتلف النصاب على كل حال الا أن يكون الامام قد طالبه بها فمنعها لأنه تلف قبل محل الاستحقاق فسقطت الزكاة كما لو تلفت الثمرة قبل الجذاذ ولأنه حق يتعلق بالعين فسقط بتلفها كارش الجناية في العبد الجاني ومن اشترط التمكن قال هذه عبادة يتعلق وجوبها بالمال فيسقط فرضها بتلفه قبل إمكان أدائها كالحج ومن نصر الاول قال مال وجب في الذمة فلم يسقط بتلف النصاب كالدين أو لم يشترط في ضمانه امكان الاداء كثمن المبيع والثمرة لا تجب زكاتها في الذمة حتى تحرز لأنها في حكم غير المقبوض ولهذا لو تلفت بحائحة كانت في ضمان البائع على ما دل عليه الخبر وإذا قلنا بوجوب الزكاة في العين فليس هو بمعنى استحقاق جزء منه ولهذا لايمنع التصرف فيه والحج لا يجب حتى يتمكن من الأداء فاذا وجب لم يسقط بتلف المال بخلاف الزكاة فان التمكن ليس بشرط لوجوبها على ما قدمناه والصحيح ان شاء الله أن الزكاة تسقط بتلف المال اذا لم يفرط في الاداء لأنها تجب على سبيل المواساة فلا تجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال وفقر من تجب عليه ومعنى التفريط أن يتمكن من اخراجها فلا يخرجها وان لم يتمكن من اخراجها فليس بمفرط سواء كان ذلك لعدم المستحق أو لبعد المال عنه أو لكون الفرض لا يوجد في المال ويحتاج الى شرائه فلم يجد ما يشتريه أو كان في طلب الشراء أو نحو ذلك وان قلنا بوجوبها بعد تلف المال فأمكن المالك أداؤها أداها والا أنظر بها الى ميسرته وتكنه من أدائها من غير مضرة عليه لأنه اذا لزم انظاره بدين الآدمي المتعين فبالزكاة التي هي حق الله تعالى أولى
فصل : ولا تسقط الزكاة بموت رب المال وتخرج من مالة وان لم يوص بها هذا قول عطاء و الحسن و الزهري و قتادة و مالك و الشافعي و إسحق و أبي ثور و ابن المنذر وقال الأوزاعي و الليث : تؤخذ من الثلث مقدمة على الوصايا ولا يجاوز الثلث وقال ابن سيرين و الشعبي و النخعي و حماد بن سليمان و داود بن أبي هند و حميد الطويل و المثنى و الثوري لا تخرج الا أن يكون أوصى بها وكذلك قال أصحاب الرأي وجعلوها اذا أوصى بها وصية تخرج من الثلث ويزاحم بها أصحاب الوصايا واذا لم يوص بها سقطت لأنها عبادة من شرطها النية فسقطت بموت من هي عليه كالصوم
ولنا أنها حق واجب تصح الوصية به فلم تسقط بالموت كدين الآدمي ولأنها حق مالي واجب فلم يسقط بموت من هو عليه كالدين ويفارق الصوم والصلاة فهما عبادتان بدنيتان لا تصح الوصية بهما ولا النيابة فيهما ا ه
فصل : وتجب الزكاة على الفور فلا يجوز تأخير اخراجها مع القدرة عليه و التمكن منه اذا لم يخش ضررا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : له التأخير ما لم يطالب لأن الأمر بأدائها مطلق فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره كما لا يتعين لذلك مكان دون مكان
ولنا أن الأمر المطلق يقتضي الفور على ما يذكر في موضعه ولذلك يستحق المؤخر للامتثال العقاب ولذلك أخرج الله تعالى إبليس وسخط عليه ووبخه بامتناعه عن السجود ولو أن رجلا أمر عبده أن يسقيه فأخر ذلك استحق العقوبة ولأن جواز التأخير ينافي الوجوب لكون الواجب ما يعاقب على تركه ولو جاز التأخير لجاز الى غير غاية فتنبغي العقوبة بالترك ولو سلمنا أن مطلق الأمر لا يقتضي الفور لاقتضاه في مسألتنا اذ لو جاز التأخير هاهنا لأخره بمقتضى طبعه ثقة منه بأنه لا يأثم بالتأخير فيسقط عنه بالموت أو بتلف ماله أو بعجزه عن الاداء فتضرر الفقراء ولأن هاهنا قرينة تقتضي الفور وهو أن الزكاة وجبت لحاجة الفقراء وهي ناجزة فيجب أن يكون الوجوب ناجزا ولأنها عبادة تتكرر فلم يجز تأخيرها الى وقت وجوبها مثلها كالصلاة والصوم قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يحول الحول على ماله فيؤخر عن وقت الزكاة فقال : لا ولم يؤخر اخراجها ؟ وشدد في ذلك قيل فابتدأ في اخراجها فجعل يخرج أولا فأولا فقال لا بل يخرجها كلها اذا حال الحول فأما اذا كانت عليه مضرة في تعجيل الاخراج مثل من يحول حوله قبل مجيء الساعي ويخشى ان أخرجها بنفسه أخذها الساعي منه مرة أخرى فله تأخيرها نص عليه أحمد وكذلك إن خشي في إخراجها ضررا في نفسه أو مال له سواها فله تأخيرها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأنه اذا جاز تأخير دين الآدمي لذلك فتأخير الزكاة أولى
فصل : فان أخرها ليدفعها الى من هو أحق بها من ذي قرابة أو ذي حاجة شديدة فان كان شيئا يسيرا فلا بأس وان كان كثيرا لم يجز قال أحمد : لا يجري على أقاربه من الزكاة في كل شهر يعني لا يؤخر اخراجها حتى يدفعها اليهم متفرقة في كل شهر شيئا فأما إن عجلها فدفعها اليهم أو الى غيرهم متفرقة أو مجموعة جاز لأنه لم يؤخرها عن وقتها وكذلك ان كان عنده مالان أو أموال زكاتها واحدة وتختلف أحوالها مثل أن يكون عنده نصاب وقد استفاد في أثناء الحول من جنسه دون النصاب لم يجز تأخير الزكاة ليجمعها كلها لأنه يمكنه جمعها بتعجيلها في أول واجب منها
فصل : فان أخر الزكاة فلم يدفعها الى الفقير حتى ضاعت لم تسقط عنه كذلك قال الزهري و الحكم و حماد و الثوري و أبو عبيد وبه قال الشافعي إلا أنه قال إن لم يكن فرط في إخراج الزكاة وفي حفظ ذلك المخرج رجع الى ماله فان كان فيما بقي زكاة أخرجها وإلا فلا وقال أصحاب الرأي يزكي مابقي الا أن ينقص عن النصاب فتسقط الزكاة فرط أو لم يفرط وقال مالك : أراها تجزئه اذا أخرجها في محلها وان أخرجها بعد ذلك ضمنها وقال مالك يزكي ما بقي بقسطه وان بقي عشرة دراهم
ولنا أنه حق متعين على رب المال تلف قبل وصوله الى مستحقه فلم يبرأ منه بذلك كدين الآدمي قال أحمد : ولو دفع الى أحد زكاته خمسة دراهم فقيل أن يقبضها منه قال اشتري لي بها ثوبا أو طعاما فذهبت الدراهم أو اشترى بها ما قال فضاع منه فعليه أن يعطي مكانها لأنه لم يقبضها منه ولو قبضها منه ثم ردها اليه وقال اشتر لي بها فضاعت أو ضاع ما اشترى بها فلا ضمان عليه اذا لم يكن فرط وانما قال ذلك لأن الزكاة لا يملكها الفقير الا بقبضها فاذا وكله في الشراء بها كان التوكيل فاسدا لأنه وكله في الشراء بما ليس له وبقيت على ملك رب المال فاذا تلفت كانت في ضمانه
فصل : ولو عزل قدر الزكاة فنوى أنه زكاة فتلف فهو في ضمان رب المال ولا تسقط الزكاة عنه بذلك سواء قدر على أن يدفعها اليه أو لم يقدر والحكم فيه كالمسألة التي قبلها اه

مسألة : زكاة الرهن
مسألة : قال : ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها اذا لم يكن له ما يؤدي عنها والباقي رهن
وجملة ذلك أنه اذا رهن ماشية فحال الحول وهي في يد المرتهن وجبت زكاتها على الراهن لأن ملكه فيها تام فان أمكنه أداؤها من غيرها وجبت لأن الزكاة من مؤنة الرهن ومؤنة الرهن تلزم الراهن كنفقة النصاب ولا يخرجها من النصاب لأن حق المرتهن متعلق به تعلقا يمنع تصرف الراهن فيه والزكاة لا يتعين اخراجها منه فلم يملك اخراجها منه كزكاة مال سواه وان لم يكن له ما يؤدي منه سوى هذا الرهن فلا يخلو من أن يكون له مال يمكن قضاء الدين منه ويبقى بعد قضائه نصاب كامل مثل أن تكون الماشية زائدة على النصاب قدرا يمكن قضاء الدين منه ويبقى النصاب فانه يخرج الزكاة من الماشية ويقدم حق الزكاة على حق المرتهن لأن المرتهن يرجع الى بدل وهو استيفاء الدين وحقوق الفقراء في الزكاة لا بدل لها وان لم يكن له مال يقضي به الدين ويبقى بعد قضائه نصاب ففيه روايتان احداهما تجب الزكاة أيضا ولا يمنع وجوب الدين الزكاة في الأموال الظاهرة وهي المواشي والحبوب قاله في رواية الأثرم قال لأن المصدق لو جاء فوجد ابلا وغنما لم يسأل صاحبها أي شيء عليك من الدين ولكنه يزكيها والمال ليس كذلك وهذا ظاهر كلام الخرقي هاهنا لأن كلامه عام في كل ماشية وذلك لأن وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها لرؤيتهم إياها ولأن الحاجة الى حفطها أشد ولأن الساعي يتولى أخذ الزكاة منها ولا يسأل عن دين صاحبها والرواية الثانية لا تجب الزكاة فيها ويمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال كلها من الظاهرة والباطنة قال ابن أبي موسى الصحيح من مذهبه أن الدين يمنع وجوب الزكاة على كل حال وهو مذهب أبي حنيفة وروي ذلك عن ابن عباس و مكحول و الثوري وحكى ذلك ابن المنذر عنهم في الزرع اذا استدان عليه صاحبه لأنه أحد نوعي الزكاة فيمنع الدين وجوبها كالنوع الآخر ولأن المدين محتاج والصدقة إنما تجب على الاغنياء لقوله عليه السلام : [ أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائهم فأردها في فقرائهم ] وقوله عليه السلام : [ لا صدقة الا عن ظهر غنى ] وروى أبو عبيد في كتاب الأموال عن السائب بن يزيد قال سمعت عثمان بن عفان يقول هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ومن لم يكن عنده زكاة لم يطلب منه حتى يأتي تطوعا قال ابراهيم النخعي اراه يعني شهر رمضان

فصل : الزكاة في دار الحرب ودار البغي
فصل : ولو أسلم في دار الحرب وأقام بها سنين لم يؤد زكاة أو غلب الخوارج على بلده فأقام أهله سنين لا يؤدون الزكاة ثم غلب عليهم الامام أدوا الماضي وهذا مذهب مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي لا زكاة عليهم لما مضى في المسألين
ولنا أن الزكاة من أركان الاسلام فلم تسقط عمن هو في غير قبضة الامام كالصلاة والصيام

فصل : ترتيب المستحقين للزكاة
فصل : اذا تولى الرجل اخراج زكاته فالمستحب أن يبدأ بأقاربه الذين يجوز دفع الزكاة اليهم فان [ زينب سألت النبي صلى الله عليه و سلم أيجزي عني من الصدقة النفقة على زوجي ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة ] رواه البخاري و ابن ماجة وفي لفظ [ يسعني أن أضع صدقتي في زوجي وبني أخي لي أيتام ؟ فقال : نعم لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة ] رواه النسائي [ ولما تصدق أبو طلحة بحائطه قال النبي صلى الله عليه و سلم : اجعله في قرابتك ] رواه أبو داود ويستحب أن يبدأ بالأقرب فالأقرب إلا أن يكون منهم من هو أشد حاجة فيقدمه ولو كان غير القرابة أحوج أعطاه قا ل أحمد : إن كانت القرابة محتاجة أعطاها وإن كان غيرهم أحوج أعطاهم ويعطي الجيران وقال إن كان قد عود قوما برا فيجعله في ماله ولا يجعله من الزكاة ولا يعطي الزكاة من يمون ولا من تجري عليه نفقته وإن أعطاهم لم يجز وهذا والله أعلم اذا عودهم برا من غير الزكاة واذا أعطى من تجري عليه نفقته شيئا يصرفه في نفقته فأما إن عودهم دفع زكاته اليهم أو أعطى من تجري عليه نفقته تطوعا شيئا من الزكاة يصرفه في غير النفقة وحوائجه فلا بأس وقال أبو داود : قلت لأحمد يعطي أخاه وأخته من الزكاة قال نعم اذا لم يبق به ماله أو يدفع به مذمة قيل لأحمد : فاذا استوى فقراء قراباتي والمساكين قال فهم كذلك أولى فأما إن كان غيرهم أحوج فانما يريد يغنيهم ويدع غيرهم فلا قيل له فيعطي امرأة ابنه من الزكاة قال إن كان لا يريد به كذا شيئا ذكره فلا بأس به كأنه أراد منفعة ابنه قال أحمد : كان العلماء يقولون في الزكاة لا تدفع بها مذمة ولا يحابى بها قريب ولا يقي بها مالا وسئل أحمد عن رجل له قرابة يجري عليها من الزكاة قال : إن كان عدها من عياله فلا يعطيها قيل له إنما يجري عليها شيئا معلوما في كل شهر قال اذا كفاها ذلك
وفي الجملة من لا يجب عليه الانفاق عليه فله دفع الزكاة اليه ويقدم الأحوج فالأجوج فان شاءوا قدم من هو أقرب اليه ثم من كان أقرب في الجوار وأكثر دينا وكيف فرقها بعدما يضعها في الاصناف الذين سماهم الله تعالى جاز والله أعلم

باب زكاة الزروع والثمار
والأصل فيها الكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } والزكاة تسمى نفقة بدليل قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } وقال الله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } قال ابن عباس حقه الزكاة المفروضة وقال مرة : العشر ونصف العشر ومن السنة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ] متفق عليه وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فيما سقت السماء والعيون وكان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر ] أخرجه البخاري و أبو داود و الترمذي وعن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر ] أخرجه مسلم و أبو داود وأجمع أهل العلم على أن الصدقة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب قاله ابن المنذر و ابن عبد البر

مسألة وفصول : ما تجب الزكاة فيه من الزروع والثمار
مسألة : قال أبو القاسم : وكل ما أخرج الله عز و جل من الأرض مما ييبس ويبقى مما يكال ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا ففيه العشر إن كان سقيه من السماء والسوح وإن كان يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر
هذه المسألة تشتمل على أحكام : منها أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف الكيل والبقاء واليبس من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون اذا نبت في أرضه سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن أو من القطنيات كالباقلى والعدس والماش والحمص أو من الأبازير كالكسفرة والكمون و الكراويا أو البزور كبزر الكتان والقثاء والخيار أو حب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم والترمس والسمسم وسائر الحبوب وتجب أيضا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار كالتمر والزبيب والمشمش واللوز والفستق والبندق ولا زكاة في سائر الفواكه كالخوخ والإجاص والكمثري والتفاح والمشمش والتين والجوز ولا في الخضر كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر وبهذا قال عطاء في الحبوب كلها ونحوه قول أبي يوسف و محمد فانهما قالا : لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كانت له ثمرة باقية يبلغ مكيلها خمسة أوسق
وقال أبو عبد الله بن حامد : لا شيء في الابازير ولا البزور ولا حب البقول ولعله لا يوجب الزكاة الا فيما كان قوتا أو أدما لأن ما عداه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه فيبقى على النفي الأصلي وقال مالك و الشافعي : لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب إلا ما كان قوتا في حالة الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف وحكي عن أحمد إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهذا قول ابن عمر وموسى بن طلحة و الحسن و ابن سيرين و الشعبي و الحسن بن صالح و ابن أبي ليلى و ابن المبارك و أبي عبيد والسلت نوع من الشعير ووافقهم ابراهيم وزاد الذرة ووافقهم ابن عباس وزاد الزيتون لأن ما عدا هذا لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معنى المنصوص عليه ولا المجمع عليه فيبقى على الأصل
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال : إنما سن رسول الله ثلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وفي رواية عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير ] وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال : إنما سن رسول الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة : الحنطة والشعير والتمر والزبيب و [ عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فأمرهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة : الحنطة والشعير والتمر والزبيب ] رواهن كلهن الدارقطني ولأن غير هذه الأربعة لا نص فيها ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها وكثرة نفعها ووجودها فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها فيبقى على الأصل وقال أبو حنيفة : تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض الا الحطب والقصب والحشيش لقوله عليه السلام : [ فيما سقت السماء العشر ] وهذا عام ولأن هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب
ووجه قول الخرقي أن عموم قوله عليه السلام : [ فيما سقت السماء العشر ] وقوله عليه السلام لمعاذ : [ خذ الحب من الحب ] يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب بمفهوم قوله عليه السلام : [ ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ] رواه مسلم و النسائي فدل هذا الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال ففيما هو مكيل يبقى على العموم والدليل على انتفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكرنا من اعتبار التوسيق
وروي [ عن علي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليس في الخضراوات صدقة ] و [ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليس فيما أنبتت الأرض من الخضر صدقة ] وعن موسى بن طلحة عن أبيه وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم مثله رواهن الدارقطني وروى الترمذي باسناده [ عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال : ليس فيها شيء ] وقال يرويه الحسن بن عمارة وهو ضعيف والصحيح أنه عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسل وقال موسى بن طلحة : جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في خمسة أشياء : الشعير والحنطة والسلت والزبيب والتمر وما سوى ذلك مما أخرجت الأرض فلا عشر فيه وقال : ان معاذا لم يأخذ من الخضر صدقة
وروى الأثرم باسناده أن عامل عمر كتب اليه في كروم فيها من - الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافا فكتب عمر إنه ليس عليها عشر هي من العضاة
فصل : ولا شيء فيما ينبت من المباح الذي لا يملك الا بأخذه كالبطم والعفص والزعبل وهو شعير الجبل وبزر قطونا وبزر البقلة وحب الثمام والقت وهو بزر الاشنان اذا ادرك وتناهى نضحه حصلت فيه مرورة وملوحة وأشباه هذا ذكره ابن حامد لأنه إنما يملك بحيازته وأخذ الزكاة إنما تجب فيه اذا بدا صلاحه وفي تلك الحال لم يكن مملوكا له فلا يتعلق به الوجوب كالذي يلتقطه اللقاط من السنبل فانه لا زكاة فيه نص عليه أحمد وذكر القاضي في المباح أن فيه الزكاة اذا نبت في أرضه ولعله بنى هذا على أن ما نبت في أرضه من الكلأ يكون ملكا له والصحيح خلافه فأما إن نبت في أرضه ما يزرعه الآدميون مثل أن سقط في أرض انسان حب من الحنطة أو الشعير فنبت ففيه الزكاة لأنه يملكه ولو اشترى زرعا بعد بدو الصلاح فيه أو ثمرة قد بدا صلاحها أو ملكها بجهة من جهات الملك لم تجب فيه الزكاة لما ذكرنا
فصل : ولا تجب فيما ليس بحب ولا ثمر سواء وجد فيه الكيل والأدخار أو لم يوجد فلا تجب في ورق مثل ورق السدر والخطمي والأشنان و الصعتر والآس ونحوه لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ومفهوم قوله عليه السلام : [ لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق ] ان الزكاة لا تجب في غيرهما قال ابن عقيل في ثمر السدر : فورقه أولى ولأن الزكاة لا تجب في الحب المباح ففي الورق أولى ولا زكاة في الازهار كالزعفران والعصفر والقطن لأنه ليس بحب ولا ثمر ولا هو بمكيل فلم تجب فيه زكاة كالخضراوات قال أحمد : ليس في القطن شيء وقال ليس في الزعفران زكاة وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر
وروي عن علي في الفاكهة والبقل والتوابل والزعفران زكاة وعن عمر أنه قال : انما سن رسول الله صلى الله عليه و سلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وكذلك عبد الله بن عمر وحكي عن أحمد أن في القطن والزعفران زكاة وخرج أبو الخطاب في العصفر والورس وجها قياسا على الزعفران والأولى ما ذكرناه وهذا مخالف لأصول أحمد قال : المروي عنه روايتان إحداهما أنه لا زكاة الا في الأربعة والثانية انها انما تجب في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة والسلت والأرز والعدس وكل شيء يقوم مقام هذه حتى يدخر ويجري فيه القفيز مثل اللوبيا والحمص والسماسم والقطنيات ففيه الزكاة وهذا لا يجري فيه القفيز ولا هو في معنى ما سماه

فصل : مقدار زكاة الزيتون
فصل : واختلفت الرواية في الزيتون فقال أحمد : في رواية ابنه صالح فيه العشر اذا بلغ - يعني خمسة أوسق وان عصر قوم ثمنه لأن الزيت له بقاء وهذا قول الزهري و الأوزاعي و مالك و الليث و الثوري و أبي ثور وأصحاب الرأي وروي عن ابن عباس لقول الله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } في سياقه قوله : { والزيتون والرمان } ولأنه يمكن ادخار غلته أشبه التمر والزبيب وعن أحمد لا زكاة فيه وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي وهذا قول ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و أبي عبيدة واحد قولي الشافعي لأنه لا يدخر يابسا فهو كالخضراوات والآية لم يرد بها الزكاة لأنها مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة ولهذا ذكر الرمان ولا عشر فيه وقال مجاهد اذا حصد زرعه ألقى لهم من السنبل واذا جد نخله ألقى لهم من الشماريخ وقال النخعي وأبو جعفر : هذه الآية منسوخة على أنها محمولة على ما يتأتى حصاده بدليل أن الرمان مذكور بعده ولا زكاة فيه ا ه

فصل : نصاب الزروع وحولها
فصل : الحكم الثاني أن الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق هذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر و جابر وأبو إمامة بن سهل وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد و الحسن و عطاء و مكحول و الحكم و النخعي و مالك وأهل المدينة و الثوري و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و الشافعي و أبو يوسف و محمد وسائر أهل العلم لا نعلم أحدا خالفهم الا مجاهدا و أبا حنيفة ومن تابعه قالوا تجب الزكاة في قليل ذلك وكثيره لعموم قوله عليه السلام : [ فيما سقت السماء العشر ] ولأنه لا يعتبر له حول فلا يعتبر له نصاب
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ] متفق عليه وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به كما خصصنا قوله : [ في سائمة الابل الزكاة ] بقوله : [ ليس فيما دون خمس ذود صدقة ] وقوله : [ في الرقة ربع العشر ] بقوله : [ ليس فيما دون خمسة أواق صدقة ] ولأنه مال تجب فيه الصدقة فلم تجب في يسيره كسائر الأموال الزكاتية وإنما لم يعتبر الحول لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه واعتبر الحول في غيره لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال والنصاب اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه فلهذا اعتبر فيه يحققه أن الصدقة تجب على الأغنياء بما قد ذكرنا فيما تقدم ولا يحصل الغنى بدون النصاب كسائر الأموال الزكاتية ا ه
فصل : وتعتبر خمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار فلو كان له عشرة أوسق عنبا لا يجيء منه خمسة أوسق زبيبا لم يجب عليه شيء لأنه حال وجوب الاخراج منه فاعتبر النصاب بحاله وروى الأثرم عنه أنه يعتبر نصاب النخل والكرم عنبا ورطبا ويؤخذ منه مثل عشر الرطب تمرا اختاره أبو بكر وهذا محمول على أنه أراد يؤخذ عشر ما يجيء به منه من التمر اذا بلغ رطبا خمسة أوسق لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر ايجاب لأكثر من العشر وذلك يخالف النص والاجماع فلا يجوز أن يحمل عليه كلام أحمد ولا قول إمام ا ه
فصل : والعلس نوع من الحنطة يدخر في قشره ويزعم أهله أنه اذا أخرج من قشره لا يبقى بقاء غيره من الحنطة ويزعمون أنه يخرج على النصف فيعتبر نصابه في قشره للضرر في إخراجه فاذا بلغ بقشره عشرة أوسق ففيه العشر لأن فيه خمسة أوسق وان شككنا في بلوغه نصابا خير صاحبه بين اخراج عشره وبين اخراجه من قشره لنقدره بخمسة أوسق كقولنا في مغشوش الذهب والفضة اذا شككنا في بلوغ ما فيها نصابا ولا يجوز تقدير غيره من الحنطة في قشره ولا اخراجه قبل تصفيته لأن الحاجة لا تدعو الى بقائه في قشره ولا العادة جارية به ولا يعلم قدر ما يخرج منه

فصلان : نصاب الأرز والزيتون
فصل : وذكر أبو الخطاب أن نصاب الأرز مع قشره عشرة أوسق لأنه يدخر مع قشره فاذا أخرج من قشره لم يبق بقاء ما في القشر فهو كالعلس سواء فيما ذكرنا وقال غيره لا يعتبر نصابه بذلك الا أن يقول ثقات من أهل الخبرة أنه يخرج على النصف فيكون كالعلس ومتى لم يوجد ثقات يخبرون بهذا أو شككنا في بلوغه نصابا خيرنا ربه بين اخراج عشره في قشره وبين تصفيته ليعلم قدره مصفى فان بلغ نصابا أخذ منه والا فلا لأن اليقين لا يحصل الا بذلك فاعتبرناه كمغشوش الاثمان ا ه
فصل : ونصاب الزيتون خمسة أوسق نص عليه أحمد في رواية صالح ونصاب الزعفران والقطن وما ألحق بهما من الموزونات ألف وستمائة رطل بالعراقي لأنه ليس بمكيل فيقوم وزنه مقام كيله ذكره القاضي في المجرد وحكي عنه اذا بلغت قيمته نصابا من أدنى ما تخرجه الأرض مما فيه الزكاة ففيه الزكاة وهذا قول أبي يوسف في الزعفران لأنه لم يمكن اعتباره بنفسه فاعتبر بغيره كالعروض تقوم بأدنى النصابين من الأثمان وقال أصحاب الشافعي : في الزعفران تجب الزكاة في قليله وكثيره ولا أعلم لهذه الاقوال دليلا ولا أصلا يعتمد عليه ويردها قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ] وايجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة واعتباره بغيره مخالف لجميع ما يجب عشره واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لا نظير له أصلا وقياسه على العروض لا يصح لأن العروض لا تجب الزكاة في عينها وانما تجب في قيمتها ويؤدي من القيمة التي اعتبرت بها والقيمة يرد اليهاكل الأموال المتقومات فلا يلزم من الرد اليها الرد الى ما لم يرد اليه شيء أصلا ولا تخرج الزكاة منه ولأن هذا مال تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العشر أو نصفه فأشبه سائر ما يجب فيه ذلك ولأنه مال تجب فيه الزكاة فلم يجب في قليله وكثيره وكسائر الأموال ولأنه لا نص فيما ذكروه ولا إجماع ولا هو في معناهما فوجب أن لا يقال به لعدم دليله انتهى

فصول ومسألة : وجوب العشر ونصف العشر في النبات الذي يسقي بنصف مؤونة ومقدار الوسق والنصاب
فصل : الحكم الثالث أن العشر يجب فيما سقي بغير مؤنة كالذي يشرب من السماء والأنهار وما يشرب بعروقه وهو الذي يغرس في أرض ماؤها قريب من وجهها تصل اليه عروق الشجر فيستغني عن سقي وكذلك ما كانت عروقه تصل الى نهر أو ساقية ونصف العشر فيما سقي بالمؤن كالدوالي النواضح لا نعلم في هذا خلافا وهو قول مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر ] رواه البخاري : قال أبو عبيد العثري ما تسقيه السماء وتسميه العامة العدي وقال القاضي : هو الماء المستنقع في بركة أو نحوها يصب اليه ماء المطر في سواقي تشق له فاذا اجتمع سقي منه واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأنها يعثر بها من يمر بها وفي رواية مسلم : [ وفيما يسقى بالسانية نصف العشر ] والسواني هي النواضح وهي الابل يستقى بها لشرب الأرض [ وعن معاذ قال بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم الى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماء أو سقي بعلا العشر وما سقي بدالية نصف العشر ] قال أبو عبيد : البعل ما شرب بعروقه من غير سقي وفي الجملة كل ما سقي بكلفة ومؤنة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعورا أو غير ذلك ففيه نصف العشر وما سقي بغير مؤنة ففيه العشر لما روينا من الخبر ولأن للكلفة تأثيرا في اسقاط الزكاة جملة بدليل العلوفة فبأن يؤثر في تخفيفها أولى ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي وللكلفة تأثير في تعليل النماء فأثرت في تقليل الواجب فيها ولا يؤثر حفر الأنهار والسواقي في نقصان الزكاة لأن المؤنة تقل لأنها تكون من جملة إحياء الأرض ولا تتكرر كل عام وكذلك لا يؤثر احتياجها الى ساق يسقيها ويحول الماء في نواحيها لأن ذلك لا بد منه في كل سقي يكلفه فهو زيادة على المؤنة في التنقيص يجري مجرى حرث الأرض وتحسينها وان كان الماء يجري من النهر في ساقية الى الأرض ويستقر في مكان قريب من وجهها بغرف أو دولاب فهو من الكلفة المسقطة لنصف الزكاة على ما مر لأن مقدار الكلفة وقرب الماء وبعده لا يعتبر والضابط لذلك هو أن يحتاج في ترقية الماء الى الأرض بآلة من غرف أو نضح أو دالية ونحو ذلك وقد وجد ا ه
فصل : فان سقي نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة ففيه ثلاثة أرباع العشر وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا لأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر نص عليه وهو قول عطاء و الثوري و أبي حنيفة واحد قولي الشافعي وقال ابن حامد : يؤحذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة فكذلك اذا كان أحدهما أكثر كما لو كانت الثمرة نوعين ووجه الأول أن اعتبار مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق ويتعذر فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية وان جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر احتياطا نص عليه أحمد في رواية عبد الله لأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط بوجود الكلفة فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر فلا يثبت وجودها مع الشك فيه وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر فالقول قول رب المال بغير يمين فان الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ا ه
فصل : واذا كان لرجل حائطان سقى أحدهما بمؤنة الآخر بغير مؤنة ضم غلة أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب أو أخرج من الذي سقي بغير مؤنة عشره ومن الآخر نصف عشره كما يضم أحد النوعين الى الآخر ويخرج من كل واحد منهما ما وجب فيه
مسألة : قال : والوسق ستون صاعا والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي
أما كون الوسق ستين صاعا فلا خلاف فيه قال ابن المنذر : هو قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم وقد روى الأثرم عن سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الوسق ستون صاعا ] وروى أبو سعيد و جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك رواه ابن ماجة
وأما كون الصاع خمسة أرطال وثلثا ففيه اختلاف ذكرناه في باب الطهارة وبينا أنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي فيكون مبلغ الخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع وهو ألف وستمائة رطل بالعراقي والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ووزنه بالمثاقيل سبعون مثقالا ثم زيد في الرطل مثقال آخر وهو درهم وثلاثة أسباع فصار إحدى وتسعين مثقالا وكملت زنته بالدراهم مائة وثلاثين درهما والاعتبار بالأول قبل الزيادة فيكون الصاع بالرطل الدمشقي الذي هوستمائة درهم رطلا وسبعا وذلك أوقية وخمسة أسباع أوقية ومبلغ الخمسة الأوسق بالرطل الدمشقي ثلاثمائة رطل واثنان وأربعون رطلا وعشر أواقي وسبع أوقية وذلك ستة أسباع رطل
فصل : والنصاب معتبر بالكيل فان الأوساق مكيلة وانما نقلت الى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات والمكيلات تختلف في الوزن فمنها الثقيل كالحنطة والعدس ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة وروى جماعة عنه أنه قال الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثي رطل حنطة وقال حنبل قال أحمد : أخذت الصاع من أبي النضر وقال ابو النضر : أخذته من ابن أبي ذئب وقال هذا صاع النبي صلى الله عليه و سلم الذي يعرف بالمدينة قال ابو عبد الله فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصلح ما يكال به لأنه لا يتجافى عن مواضعه فكلنا به ووزناه فاذا هو خمسة أرطال وثلث هذا أصح ما وفقا عليه وما بين لنا من صاع النبي صلى الله عليه و سلم وقال بعض أهل العلم أجمع على أن مد النبي صلى الله عليه و سلم رطل وثلث قمحا من أوسط القمح فمتى بلغ القمح ألفا وستمائة رطل ففيه الزكاة وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل فأما الخفيف فتجب الزكاة فيه اذا قارب هذا وان لم يبلغه ومتى شك في وجوب الزكاة فيه ولم يوجد مكيال يقدر به فالاحتياط الاخراج وان لم يخرج فلا حرج لأن الأصل عدم وجوب الزكاة فلا تجب بالشك
فصل : قال القاضي : وهذا النصاب معتبر تحديدا فمتى نقص شيئا لم تجب الزكاة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ] والناقص عنها لم يبلغها الا أن يكون نقصا يسيرا يدخل في المكاييل كالأوقية ونحوها فلا عبرة به لأن مثل ذلك يجوز أن يدخل في المكاييل فلا ينضبط فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين

فصل : الوقص في زكاة الزروع والثمار
فصل : ولا وقص في نصاب الحبوب والثمار بل مهما زاد على النصاب أخرج منه بالحساب فيخرج عشر جميع ما عنده فانه لا ضرر في تبعيضه بخلاف الماشية فان فيها ضررا على ما تقدم

فصل : عدم تكرر زكاة الزروع والثمار بتجدد الحول
فصل : واذا وجب عليه عشر مرة لم يجب عليه عشر آخر وان حال عنده أحوالا لأن هذه الأموال غير مرصدة للنماء في المستقبل بل هي الى النقص أقرب والزكاة انما تجب في الاشياء النامية ليخرج من النماء فيكون أسهل فان اشترى شيئا من ذلك للتجارة صار عرضا تجب فيه زكاة التجارة اذا حال عليه الحول والله أعلم

فصل : وقت وجوب الزكاة في الحب والزرع
فصل : ووقت وجوب الزكاة في الحب إذا اشتد وفي الثمرة اذا بدا صلاحها وقال ابن أبي موسى : تجب زكاة الحب يوم حصاده لقول الله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } وفائدة الخلاف أن لو تصرف في الثمرة أو الحب قبل الوجوب لا شيء عليه لأنه تصرف فيه قبل الوجوب فأشبه ما لو أكل السائمة أو باعها قبل الحول وان تصرف فيها بعد الوجوب لم تسقط الزكاة عنه كما لو فعل ذلك في السائمة ولا يستقر الوجوب على كلا القولين حتى تصير الثمرة في الجريب والزرع في البيدر ولو تلف قبل ذلك بغير اتلافه أو تفريط منه فيه فلا زكاة عليه قال أحمد : إذا خرص وترك في رؤوس النخل فعليهم حفظه فان أصابته جائحة فذهبت الثمرة سقط عنهم الخرص ولم يؤخذوا به ولا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الخارص اذا خرص الثمرة ثم أصابته جائحة فلا شيء عليه اذا كان قبل الجداد : ولأنه قبل الجداد في حكم ما لا تثبت اليد عليه بدليل أنه لو اشترى ثمرة فتلفت بجائحة رجع بها على البائع وان تلف بعض الثمرة فقال القاضي : ان كان الباقي نصابا ففيه الزكاة وإلا فلا وهذا القول يوافق قول من قال : لا تجب الزكاة فيه الا يوم حصاده لأن وجوب النصاب شرط في الوجوب فمتى لم يوجد وقت الوجوب لم يجب وأما من قال ان الوجوب ثبت اذا بدا الصلاح واشتد الحب فقياس قوله ان تلف البعض ان كان قبل الوجوب فهو كما قال القاضي : وان كان بعده وجب في الباقي بقدره سواء كان نصابا أو لم يكن نصابا لأن المسقط اختص بالبعض فاختص السقوط به كما لو تلف بعض نصاب السائمة بعد وجوب الزكاة فيها وهذا فيما اذا تلف بغير تفريطه وعدوانه فاما ان أتلفها أو تلفت بتفريطه أو عدوانه بعد الوجوب لم تسقط عنه الزكاة وان كان قبل الوجوب سقطت الا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة فيضمنها ولا تسقط عنه ومتى ادعى رب المال تلفها بغير تفريطه قبل قوله من غير يمين سواء كان ذلك قبل الخرص أو بعده ويقبل قوله أيضا في قدرها بغير يمين وكذلك في سائر الدعاوى قال أحمد : لا يستحلف الناس على صدقاتهم وذلك لأنه حق لله تعالى فلا يستحلف فيه كالصلاة والحد

فصول : تصرف المالك في نصاب الزكاة
فصل : وان جذها وجعلها في الجرين أو جعل الزرع في البيدر استقر وجوب الزكاة عليه عند من لم يرى التمكن من الأداء شرطا في استقرار الوجوب وان تلفت بعد ذلك لم تسقط الزكاة عنه وعليه ضمانها كما لو تلف نصاب السائمة أو الاثمان بعد الحول وعلى الرواية الأخرى في كون التمكن من الأداء معتبرا لا يستقر الوجوب فيها حتى تجف الثمرة ويصفى الحب ويتمكن من أداء حقه فلا يفعل وان تلف قبل ذلك فلا شيء عليه على ما ذكرنا في غير هذا
فصل : ويصح تصرف المالك في النصاب قبل الخرص وبعده بالبيع والهبة وغيرهما فان باعه أو وهبه بعد بدو صلاحه فصدقته على البائع والواهب وبهذا قال الحسن و مالك و الثوري و الأوزاعي وبه قال الليث الا أن يشترطها على المبتاع وانما وجبت على البائع لأنها كانت واجبة عليه قبل البيع فبقي على ما كان عليه وعليه اخراج الزكاة من جنس المبيع والموهوب وعن أحمد أنه مخير بين أن يخرج ثمرا أو من الثمن قال القاضي : الصحيح أن عليه عشر الثمرة فانه لا يجوز إخراج القيمة في الزكاة على صحيح المذهب ولأن عليه القيام بالثمرة حتى يؤدي الواجب منها ثمرا فلا يسقط ذلك عنه ببيعها ولا هبتها ويتخرج أن تجب الزكاة على المشتري على قول من قال إن الزكاة إنما تجب يوم حصاده لأن الوجوب إنما تعلق بها في ملك المشتري فكان عليه ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم بدا صلاحها في يد المشتري على وجه صحيح مثل أن يشتري نخلة مثمرة ويشترط ثمرتها أو وهبت له ثمرة قبل بدو صلاحها فبدا صلاحها في يد المشتري أو المتهب أو وصى له بثمرة فقبلها بعد موت الموصي ثم بدا صلاحها فالصدقة عليه لأن سبب الوجوب وجد في ملكه فكان عليه كما لو اشترى سائمة أو اتهبها فحال الحول عليها عنده ا ه
فصل : واذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها فان لم يكن شرط القطع فالبيع باطل وهي باقية على ملك البائع زكاتها عليه وان شرط القطع فقد روي أن البيع باطل أيضا ويكون الحكم فيها كما لو لم يشترط القطع وروي أن البيع صحيح ويشتركان في الزيادة فعلى هذا يكون على المشتري زكاة حصته منها إن بلغت نصابأ فان لم يكن المشتري من أهل الزكاة كالمكاتب والذمي فلا زكاة فيها وإن عاد البائع فاشتراها بعد بدو الصلاح أو غيره فلا زكاة فيها إلا أن يكون قصد ببيعها الفرار من الزكاة فلا تسقط

فصل : تلف الثمار والزروع قبل بدو الصلاح واتلافها
فصل : وان تلفت الثمرة قبل بدو الصلاح أو الزرع قبل اشتداد الحب فلا زكاة فيه وكذلك ان أتلفه المالك الا أن يقصد الفرار من الزكاة وسواء قطعها للأكل أو للتخفيف عن النخيل لتحسين بقية الثمرة أو حفظ الأموال اذا خاف عليها العطش أو ضعف الجمار فقطع الثمرة أو بعضها بحيث نقص النصاب أو قطعها لغير غرض فلا زكاة عليه لأنها تلفت قبل وجوب الزكاة وتعلق حق الفقراء بها فأشبه ما لو هلكت السائمة قبل الحول وان قصد قطعها الفرار من الزكاة لم تسقط عنه لأنه قصد قطع حق من انعقد سبب استحقاقه فلم تسقط كما لو طلق امرأته في مرض موته

فصول : وجوب الخرص على الامام وصفة الخارص وموقف الخارص بعد الخرص
فصل : وينبغي أن يبعث الامام ساعيه اذا بدا صلاح الثمار ليخرصها ويعرف قدر الزكاة ويعرف المالك ذلك وممن كان يرى الخرص عمر بن الخطاب وسهل بن أبي حثمة ومروان و القاسم بن محمد و الحسن و عطاء و الزهري وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي أن الخرص بدعة وقال أهل الرأي الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم وانما كان الخرص تخويفا للأكرة لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا
ولنا ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم رواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي وفي لفظ عن عتاب قال أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا وقد عمل به النبي صلى الله عليه و سلم فخرص على امرأة بوادي القرى حديقة لها رواه الامام أحمد في مسنده وعمل به أبو بكر بعده والخلفاء وقالت عائشة وهي تذكر شأن خيبر كان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث عبد الله بن رواحة الى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه متفق عليه رواه أبو داود قولهم هو ظن قلنا بل هو اجتهاد في معرفة قدر الثمرة وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير فهو كتقويم المتلفات ووقت الخرص حين يبدو صلاحه لقول عائشة رضي الله عنها : يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ولأن فائدة الخرص معرفة الزكاة واطلاق أرباب الثمار في التصرف فيها والحاجة انما تدعو الى ذلك حين يبدو الصلاح وتجب الزكاة
فصل : ويجزىء خارص واحد لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبعث ابن رواحة فيخرص ولم يذكر معه غيره ولأن الخارص يفعل ما يؤديه اجتهاده اليه فهو كالحاكم والقائف ويعتبر في الخارص أن يكون أمينا غير متهم

فصل : كيفية الخرص فصلان : خرص الثمار وترك الريع أو الثلث لاصحابها بعد زكاة
فصل : وصفة الخرص تختلف باختلاف الثمرة فان كان نوعا واحدا فانه يطيف بكل نخلة أو شجرة وينظر كم في الجميع رطبا أو عنبا ثم يقدر ما يجيء منها تمرا وان كان أنواعا خرص كل نوع على حدته لأن الأنواع تختلف فمنها ما يكثر رطبه ويقل ثمره ومنها ما يكون بالعكس وهكذا العنب ولأنه يحتاج الى معرفة قدر كل نوع حتى يخرج عشره فاذا خرص على المالك وعرفه قدر الزكاة خيره بين أن يضمن قدر الزكاة ويتصرف فيها بما شاء من أكل وغيره وبين حفظها الى وقت الجداد والجفاف فان اختار حفظها ثم أتلفها أو تلفت بتفريطه فعليه ضمان نصيب الفقراء بالخرص وان أتلفها أجنبي فعليه قيمة ما أتلف والفرق بينهما أن رب المال وجبت عليه تجفيف هذا الرطب بخلاف الأجنبي ولهذا قلنا فيمن أتلف أضحيته المتعينة عليه أضحية مكانها وان أتلفها أجنبي فعليه قيمتها وان تلفت بجائحة من السماء سقط عنهم الخرص نص عليه أحمد لأنها تلفت قبل استقرار زكاتها وان ادعى تلفها بغير تفريطه فالقول قوله بغير يمين كما تقدم وان حفظها الى وقت الاخراج فعليه زكاة الموجود لا غير سواء اختار الضمان أو حفظها على سبيل الأمانة وسواء كانت أكثر مما خرصه الخارص أو أقل وبهذا قال الشافعي وقال مالك يلزمه ما قال الخارص زاد أو نقص اذا كانت الزكاة متقاربة لأن الحكم انتقل الى ما قال الساعي بدليل وجوب ما قال عند تلف المال
ولنا أن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة بالشرط كالوديعة ولا نسلم أن الحكم انتقل الى ما قاله الساعي وانما يعمل بقوله اذا تصرف في الثمرة ولم يعلم قدرها لأن الظاهر إصابته قال أحمد : اذا خرص على الرجل فاذا فيه فضل كثير مثل الضعف تصدق بالفضل لأنه يخرص بالسوية وهذه الرواية تدل على مثل قول مالك وقال : اذا تجافى السلطان عن شيء من العشر يخرجه فيؤديه وقال : اذا حط من الخرص عن الأرض يتصدق بقدر ما نقصوه من الخرص وان أخذ منهم أكثر من الواجب عليهم فقال أحمد : يحتسب لهم من الزكاة لسنة أخرى ونقل عنه أبو داود لا يحتسب بالزيادة لأن هذا غاصب وقال أبو بكر : وبهذا أقول ويحتمل أن يجمع بين الروايتين فيحتسب به اذا نوى صاحبه به التعجيل ولا يحتسب به اذا لم ينو ذلك
فصل : وان ادعى رب المال غلط الخارص وكان ما ادعاه محتملا قبل قوله بغير قوله بغير يمين وإن لم يكن محتملا مثل أن يدعي غلط النصف ونحوه لم يقبل منه لأنه لا يحتمل فيعلم كذبه وان قال لم يحصل في يدي غير هذا قبل منه بغير يمين لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها
فصل : وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم ويكون في الثمرة السقاطة وينتابها الطير وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضر بهم وبهذا قال اسحاق ونحوه قال الليث و أبو عبيد والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده فان رأى الآكلة كثيرا ترك الثلث وإن كانوا قليلا ترك الربع لما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ اذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فان لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ] رواه أبو عبيد و أبو داود و النسائي و الترمذي وروى أبو عبيد باسناده عن مكحول قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم اذا بعث الخراص قال : خففوا على الناس فان في المال العرية والواطئة والآكلة ] قال أبو عبيد : الواطئة السابلة سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين والآكلة أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم ومنه حديث سهل في مال سعد بن أبي سعد حين قال : لولا أني وجدت فيه أربعين عريشا لخرصته تسعمائة وسق وكانت تلك العرش لهؤلاء الآكلة والعرية النخلة أوالنخلات يهب انسانا ثمرتها فجاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس في العرايا صدقة ]
وروى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قال لسهل بن حثمة : اذا أتيت على نخل قد حضرها قوم فدع لهم ما يأكلون والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء فان لم يترك لهم الخارص شيئا فلهم الأكل قدر ذلك ولا يحتسب عليهم به نص عليه لأنه حق لهم فان لم يخرج الامام خارصا فاحتاج رب المال إلى التصرف في الثمرة فأخرج خارصا جاز أن يأخذ بقدر ذلك ذكره القاضي : وان خرص هو وأخذ بقدر ذلك جاز ويحتاط في أن لا يأخذ أكثر مما له أخذه

فصلان : الأموال التي لا تخرص
فصل : ويخرص النخل والكرم لما روينا من الأثر فيهما ولم يسمع بالخرص في غيرهما فلا يخرص الزرع بسنبله وبهذا قال عطاء و الزهري و مالك لأن الشرع لم يرد بالخرص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن ثمرة النخل والكرم تؤكل رطبا فيخرص على أهله للتوسعة عليهم ليخلي بينهم وبين أكل الثمرة والتصرف فيها ثم يؤدون الزكاة منها على ما خرص ولأن ثمرة الكرم والنخل ظاهرة مجتمعة فخرصها أسهل من خرص غيرها وما عداهما فلا يخرص وانما على أهله فيه الامانة اذا صار مصفى يابسا ولا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله ولا يحتسب عليهم
وسئل أحمد عما يأكل أرباب الزروع من الفريك قال : لا بأس به أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج اليه وذلك لأن العادة جارية به فأشبه ما يأكله أرباب الثمار من ثمارهم فاذا صفى الحب أخرج زكاة الموجود كله ولم يترك منه شيء لأنه انما ترك لهم في الثمرة شيء لكون النفوس تتوق إلى أكلها رطبة والعادة جارية به وفي الزرع انما يؤكل شيء يسير لا وقع له
فصل : ولا يخرص الزيتون ولا غير النخل والكرم لأن حبه متفرق في شجره مستور بورقه ولا حاجة بأهله إلى أكله بخلاف النخل والكرم فان ثمرة النخل مجتمعة في عذوقه والعنب في عناقيده فيمكن أن يأتي الخرص عليه والحاجة داعية إلى أكلهما في حال رطوبتهما وبهذا قال مالك وقال الزهري و الأوزاعي و الليث : يخرص لأنه ثمر تجب فيه الزكاة فيخرص كالرطب والعنب
ولنا أنه لا نص في خرصه ولا هو في معنى المنصوص فيبقى على الأصل

فصلان : وقت اخراج الزكاة للحبوب والثمار وزكاة الثمار المقطوعة قبل نضجها
فصل : ووقت الاخراج للزكاة بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار لأنه أوان الكمال وحال الادخار والمؤنة التي تلزم الثمرة إلى حين الاخراج على رب المال لأن الثمرة كالماشية ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها والقيام عليها إلى حين الاخراج على ربها كذا ههنا فان أخذ الساعي الزكاة قبل التجفيف فقد أساء ويرده إن كان رطبا بحاله وإن تلف رد مثله وإن جففه وكان قدر الزكاة فقد استوفى الواجب وإن كان دونه أخذ الباقي وإن كان زائدا رد الفضل وأن كان المخرج لها رب المال لم يجزه ولزمه اخراج الفضل بعد التجفيف لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه كما لو أخرج الصغيرة من الماشية عن الكبار
فصل : وإن احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها خوفا من العطش أو لضعف الجمار جاز قطعها لأن حق الفقراء إنما يجب على طريق المواساة فلا يكلف الانسان من ذلك ما يهلك أصل ماله ولأن حفظ الأصل أحظ للفقراء من حفظ الثمرة لأن حقهم يتكرر بحفظها في كل سنة فهم شركاء في النخل ثم إن كان يكفي تجفيف الثمرة دون قطع جميعها جففها وإن لم يكف إلا قطع جميعها جاز وكذلك إن أراد قطع الثمرة لتحسين الباقي منها جاز واذا أراد ذلك فقال القاضي : يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجداد بالخرص ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة ويأخذ ثمرتها وبين أن يجدها ويقاسمه إياها بالكيل ويقسم الثمرة في الفقراء وبين أن يبيعها من رب المال أو من غيره قبل الجداد أو بعده ويقسم ثمنها في الفقراء وقال أبو بكر : عليه الزكاة فيه يابسا وذكر أن أحمد نص عليه وكذلك الحكم في العنب الذي لا يجيء منه زبيب كالخمري والرطب الذي لا يجيء منه تمر جيد كالبرنبا والهلياث فان قيل فهلا قلتم لا زكاة فيه لأنه لا يدخر فهو كالخضراوات وطلع الفحال قلنا لأنه يدخر في الجملة وانما لم يدخرها هنا لأن أخذه رطبا أنفع فلم تسقط منه الزكاة بذلك ولا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ حدا يكون منه خمسة أوسق تمرا أو زبيبا إلا على الرواية الاخرى واذا اتلف رب المال هذه الثمرة فقال القاضي : عليه قيمتها كما لو أتلفها غير رب المال وعلى قول أبي بكر يجب في ذمته العشر تمرا أو زبيبا كما في غير هذه الثمرة قال : فان لم يجد التمر ففيه قولان أحدهما يؤخذ منه قيمته والثاني يكون في ذمته وعليه أن يأتي به

فصل : كيفية اخراج زكاة الزروع والثمار
فصل : فأما كيفية الاخراج فان كان المال الذي فيه الزكاة نوعا واحدا أخذ منه جيدا كان أو رديئا لأن حق الفقراء يجب على طريق المواساة فهم بمنزلة الشركاء لا نعلم في هذا خلافا وإن كان أنواعا أخذ من كل نوع ما يخصه هذا قول أكثر أهل العلم وقال مالك و الشافعي : يؤخذ من الوسط وكذلك قال أبو الخطاب : اذا شق عليه اخراج زكاة كل نوع منه قال ابن المنذر وقال غيرهما : يؤخذ عشر ذلك من كل بقدره وهو أولى لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فينبغي أن يتساووا في كل نوع منه ولا في مشقة ذلك بخلاف الماشية اذا كانت أنواعا فان اخراج حصة كل نوع منه يفضي إلى تشقيص الواجب وفيه مشقة بخلاف الثمار ولهذا وجب في الزائد بحسابه ولا يجوز اخراج الرديء لقوله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } قال أبو أمامة سهل بن حنيف في هذه الآية هو الجعرور ولون الحبيق فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يؤخذ في الصدقة رواه النسائي و أبو عبيد قال : وهما ضربان من التمر أحدهما انما يصير قشرا على نوى والآخر اذا أثمر صار حشفا ولا يجوز أخذ الجيد عن الرديء لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اياك وكرائم أموالهم ] فان تطوع رب المال بذلك جاز وله ثواب الفضل على ما ذكرنا في فضل الماشية

فصل : مقدار زكاة الزيتون
فصل : فأما الزيتون فان كان مما لا زيت له فانه يخرج منه عشره حبا اذا بلغ نصابا لأنه حال كماله وادخاره فانه يخرج منه كما يخرص الرطب في حال رطوبته وإن كان له زيت أخرج منه زيتا اذا بلغ الحب خمسة أوسق وهذا قول الزهري و الأوزاعي و مالك و الليث قالوا : يخرص الزيتون ويؤخذ زيتا صافيا وقال مالك اذا بلغ خمسة أوسق أخذ العشر من زيته بعد أن يعصر وقال الثوري و أبوحنيفة : يخرج من حبه كسائر الثمار ولأنه الحالة التي تعتبر فيها الأوساق فكان اخراجه فيها كسائر الثمار وهذا جائز والأول أولى لأنه يكفي الفقراء مؤنته فيكون أفضل كتجفيف التمر ولأنه حال كماله وادخاره فيخرج منه كما يخرص الرطب في حال رطوبته ويخرج منه اذا يبس

فصلان : زكاة العسل مقدارها
فصل : ومذهب احمد أن في العسل والعشر قال الأثرم : سئل أبو عبد الله أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة ؟ قال نعم اذهب إلى أن في العسل زكاة العشر قد أخذ عمر منهم الزكاة قلت ذلك على أنهم تطوعوا به قال لا : بل أخذه منهم ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز و مكحول و الزهري وسليمان بن موسى و الأوزاعي و اسحاق وقال مالك و الشافعي و ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و ابن المنذر : لا زكاة فيه لأنه مائع خارج من حيوان أشبه اللبن قال ابن المنذر : ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت ولا إجماع فلا زكاة فيه وقال أبو حنيفة إن كان في أرض العشر ففيه الزكاة وإلا فلا زكاة فيه
ووجه الاول ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من كل قربة من أوسطها رواه أبو عبيد و الأثرم و ابن ماجة وعن سليمان بن موسى أن أبا سيارة المتعي قال : [ قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال : أد عشرها قال فاحم اذا جبلها فحماه له ] رواه أبو عبيد و ابن ماجة وروى الأثرم عن ابن أبي ذبابة عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه أمره في العسل بالعشر أما اللبن فان الزكاة وجبت في أصله وهي السائمة بخلاف العسل وقول أبي حنيفة : ينبنى على أن العشر والخراج لا يجتمعان وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
فصل : ونصاب العسل عشرة أفراق وهذا قول الزهري وقال أبو يوسف و محمد خمسة أوساق لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ] وقال أبو حنيفة : تجب في قليله وكثيره بناء على أصله في الحبوب والثمار ووجه الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه أن ناسا سألوه فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع لنا واديا باليمن فيه خلايا من نحل وأنا نجد ناسا يسرقونها فقال عمر رضي الله عنه : إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفراق فرقا حميناها لكم رواه الجوزجاني وهذا تقدير من عمر رضي الله عنه فيتعين المصير اليه اذا ثبت هذا فان الفرق ستة عشر رطلا بالعراقي فيكون نصابه مائة وستون رطلا وقال أحمد في رواية أبي داود قال الزهري في عشرة أفراق فرق والفرق ستة عشر رطلا قال ابن حامد : الفرق ستون رطلا فيكون النصاب ستمائة رطل فانه يروى أن الخليل بن أحمد قال : الفرق باسكان الراء مكيال ضخم من مكاييل أهل العراق وقيل هو مائة وعشرون رطلا ويحتمل أن يكون نصابه ألف رطل لحديث عمرو بن شعيب أن كان يؤخذ في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها والقربة عند الاطلاق مائة رطل بدليل أن القلتين خمس قرب وهي خمسمائة رطل
وروى سعيد قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئاب عن أبيه عن جده أنه قال لقومه : إنه لا خير في مال لا زكاة فيه قال : فأخذ من كل عشر قرب قربة فجئت بها إلى عمر بن الخطاب فأخذها فجعلها في صدقات المسلمين ووجه الاول قول عمر : من كل عشرة أفراق فرقا والفرق بتحريك الراء ستة عشر رطلا قال أبو عبيد : لا خلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لكعب بن عجرة : أطعم ستة مساكين فرقا من طعام ] فقد بين أنه ثلاثة آصع [ وقالت عائشة : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم من اناء ] هو الفرق هذا هو المشهور فينصرف الاطلاق اليه والفرق هو مكيال ضخم لا يصح حمله عليه لوجوه أحدها أنه غير مشهور في كلامهم فلا يحمل عليه المطلق من كلامهم قال ثعلب : قل فرق ولا تقل فرق قال خداش بن زهير : يأخذون الأرش في أخوتهم فرق السمن وشاة في الغنم الثاني أن عمر قال : من كل عشرة أفراق فرق والافراق جمع فرق بفتح الراء وجمع فرق باسكان الراء فروق وفي القلة أفرق لأن ما كان على وزن فعل ساكن العين غير معتل فجمعه في القلة أفعل وفي الكثرة فعال أو فعول والثالث أو الفرق الذي هو مكيال ضخم من مكاييل أهل العراق لا يحمل عليه كلام عمر رضي الله عنه وانما يحمل كلام عمر رضي الله عنه على مكاييل أهل الحجاز لأنه بها ومن أهلها ويؤكد ما ذكرنا تفسير الزهري له نصاب العسل بما قلناه والا ما أحمد ذكره في معرض الاحتجاج به فيدل على أنه ذهب اليه والله أعلم

فصل : أقسام الأرض : أرض صلح وأرض العنوة
مسألة : قال : والأرض أرضان أرض صلح وعنوة
وجملته أن الأرض قسمان : صلح وعنوة فأما الصلح فهو كل أرض صالح أهلها عليها لتكون لهم ويؤدون خراجا معلوما فهذه الأرض ملك لأربابها وهذا الخراج في حكم الجزية متى أسلموا سقط عنهم ولهم بيعها وهبتها ورهنها لأنها ملك لهم وكذلك إن صالحوا على أداء شيء غير موظف على الأرض وكذلك كل أرض أسلم عليها أهلها كأرض المدينة وشبهها فهذه ملك لأربابها لاخراج عليها ولهم التصرف فيها كيف شاءوا وأما الثاني وهو ما فتح عنوة فهي ما أجلي عنها بالسيف ولم تقسم بين الغانمين فهذه تصير وقفا للمسلمين يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام يكون أجرة لها وتقر في أيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها وسواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة ولا يسقط خراجها باسلام أربابها ولا بانتقالها الى مسلم لأنه بمنزلة أجرتها ولم نعلم أن شيئا مما فتح عنوة قسم بين المسلمين إلا خيبر فان رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم نصفها فصار ذلك لأهله لا خراج عليه وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم يقسم منه شيء فروى أبو عبيد في الأموال أن عمر رضي الله عنه قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين فقال له معاذ : والله إذا ليكونن ما تكره انك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك الى الرجل الواحد والمرأة ثم يأتي بعدهم قوم آخر يسدون من الاسلام مسدا وهم لا يجدون شيئا فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم فصار عمر الى قول معاذ وروى أيضا قال : قال الماجشون : قال بلال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القرى التي افتتحوها عنوة : اقسمها بيننا وخذ خمسها فقال عمر لا هذا عين المال ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه لعمر أقسمها بيننا فقال عمر اللهم اكفني بلالا وذويه قال فما حال الحول ومنهم عين تطرف
وروى باسناده عن سفيان بن وهب الخولاني قال : لما افتتح عمرو بن العاص مصر قام ابن الزبير فقال : يا عمرو بن العاص أقسمها فقال عمرو : لا أقسمها فقال ابن الزبير : لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر فقال عمرو : لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين فكتب إلى عمر فكتب اليه عمر أن دعها حتى يعرو منها حبل الحبلة قال القاضي : ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من الصحابة أنه قسم أرضا عنوة إلا خيبر

فصل : بيان ما فتح عنوة وفتح صلحا
فصل : قال أحمد : ومن يقوم على أرض الصلح وأرض العنوة ومن أين هي وإلى أين هي ؟ وقال أرض الشام عنوة إلا حمص وموضعا آخر وقال ما دون النهر صلح وما وراءه عنوة وقال فتح المسلمون السواد عنوة إلا ما كان منه صلح وهي أرض الحيرة وأرض مانقيا وقال أرض الثرة خلطوا في أمرها فأما ما فتح عنوة من نهاوند إلى طبرستان خراج وقال أبو عبيد : أرض الشام عنوة ما خلا مدنها فانها فتحت صلحا إلا قيسارية افتتحت عنوة وأرض السواد والحل ونهاوند والاهواز ومصر والمغرب قال موسى بن علي بن رباح عن أبيه : المغرب كله عنوة فأما أرض الصلح فأرض هجر والبحرين وأيلة ودومة الجندل وأذرح فهذه القرى التي أدت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الجزية ومدن الشام ماصخا أرضها إلا قيسارية وبلاد الجزيرة كلها وبلاد خراسان كلها أو أكثرها صلح وكل موضع فتح عنوة فانه وقف على المسلمين

فصلان : حكم ما فتح عنوة وحكم الأرض التي صولح عليها
فصل : وما استأنف المسلمون فتحه فان فتح عنوة ففيه ثلاث روايات إحداهن أن الامام مخير بين قسمتها على الغانمين وبين وقفيتها على جميع المسلمين لأن كلا الأمرين قد ثبت فيه حجة عن النبي صلى الله عليه و سلم فان النبي صلى الله عليه و سلم قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه ووقف عمر الشام والعراق ومصر وسائر ما فتحه وأقره على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه به وكذلك فعل من بعده من الخلفاء ولم يعلم أحد منهم قسم شيئا من الأرض التي افتتحوها
والثانية : أنها تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة عليه وقسمة النبي صلى الله عليه و سلم خيبر كان في بدء الاسلام وشدة الحاجة فكانت المصلحة فيه وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض فكان ذلك هو الواجب
والثالثة : أن الواجب قسمتها وهو قول مالك و أبي ثور لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره مع عموم قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية يفهم منها أن أربعة أخماسها للغانمين والرواية الاولى أولى لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين جميعا في خيبر ولأن عمر قال : لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم النبي صلى الله عليه و سلم خيبر فقد وقف الأرض مع علمه بفعل النبي صلى الله عليه و سلم فدل على أن فعله ذلك لم يكن متعينا كيف والنبي صلى الله عليه و سلم قد وقف نصف خيبر ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها قال أبو عبيد : تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في خيبر حين قسمها وبه أشار بلال وأصحابه على عمر في أرض الشام ؟ وأشار به الزبير في أرض مصر وحكم عمر في أرض السواد وغيره حين وقفه وبه أشار علي ومعاذ على عمر في أرض الشام وليس فعل النبي صلى الله عليه و سلم رادا لفعل عمر لأن كل واحد منهما أتبع آية محكمة قال الله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } وقال : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية وكان كل واحد من الأمرين جائزا والنظر في ذلك إلى الامام فما رأى من ذلك فعله وهذا قول الثوري و أبي عبيد : اذا ثبت هذا فان الاختيار المفوض إلى الامام اختيار مصلحة لا اختيار تشه فيلزمه فعل ما يرى المصلحة فيه ولا يجوز له العدول عنه كالخيرة بين القتل والاسترقاق والفداء والمن في الأسرى ولا يحتاج إلى النطق بالوقف بل تركه له من غير قسمة هو وقفه لها كما أن قسمها بين الغانمين لا يحتاج معه إلى لفظ وإن عمر وغيره لم ينقل عنهم في وقف الأرض لفظ الوقف ولأن معنى وقفها ههنا أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ خراجها ويصرف في مصالحهم ولا يخص أحد بملك شيء منها وهذا حاصل بتركها
فصل : فأما ما جلى عنها أهلها خوفا من المسلمين فهذه تصير وقفا بنفس الظهور عليها لأن ذلك متعين فيها إذ لم يكن لها غانم فكان حكمها حكم الفيء يكون للمسلمين كلهم وقد روي أنها لا تصير وقفا حتى يقفها الامام وحكمها حكم العنوة اذا العنوة اذا وقفت وما صالح عليه الكفار من أرضهم على أن الأرض لنا ونقرهم فيها بخراج معلوم فهو وقف أيضا حكمه حكم ما ذكرناه لأن النبي صلى الله عليه و سلم فتح خيبر وصالح أهلها على أن يعمروا أرضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين منهم وصالح بني النضير على أن يجليهم من المدينة ولهم ما أقلت الابل من الامتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فكانت مما أفاء الله على رسوله فأما ما صولحوا عليه على أن الأرض لهم ونقرهم فيها بخراج معلوم فهذا الخراج في حكم الجزية تسقط باسلامهم والأرض لهم لا خراج عليها لأن الخراج الذي ضرب عليهم إنما كان من أجل كفرهم بمنزلة الجزية المضروبة على رؤوسهم فاذا أسلموا سقط كما تسقط الجزية وتبقى الأرض ملكا لهم لا خراج عليها ولو انتقلت الأرض الى مسلم لم يجب عليها خراج لذلك

فصول : شراء وبيع الأراضي الحراجية الموقوفة بالفتح
فصل : ولا يجوز شراء شيء من الأرض الموقوفة ولا بيعه في قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي و ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وروي ذلك عن عبد الله بن مغفل وقبيصة بن ذؤيب و مسلم بن مسلم و ميمون بن مهران و الأوزاعي و مالك و أبي إسحق الفزاري وقال الأوزاعي لم يزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية ويكرهه علماؤهم وقال الأوزاعي أجمع رأي عمر وأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لما ظهروا على الشام على اقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون خراجها الى المسلمين ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرض طوعا ولا كرها وكرهوا ذلك مما كان من اتفاق عمر وأصحابه في الارضين المحبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين لا تباع ولا تورث قوة على جهاد من لم تظهر عليه بعد من المشركين وقال الثوري : اذا أقر الامام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها وروي نحو هذا عن ابن سيرين و القرظي لما روى عبد الرحمن بن يزيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضا على أن يكفيها جزيتها وروي عنه أنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن السفر في الأهل والمال ثم قال عبد الله وكيف بمال بزاذان وبكذا وبكذا وهذا يدل على أن له مالا بزاذان ولأنها أرض لهم فجاز بيعها وقد روي عن أحمد أنه قال ان كان الشراء أسهل يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه عن الناس هو رجل من المسلمين وكره البيع في أرض السواد وانما رخص في الشراء والله أعلم لأن بعض الصحابة اشترى ولم يسمع عنهم البيع ولأن الشراء استخلاص للأرض فيقوم فيها مقام من كانت في يده والبيع أخذ عوض عما لا يمكله ولا يستحقه فلا يجوز
ولنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم فانه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا أرضهم وقال الشعبي اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطىء الفرات ليتخذ فيها قصبا فذكر ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها قال : من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والانصار قال : هؤلاء أربابها فهل اشتريت منهم شيئا قال : لا قال : فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك وهذا قول عمر في المهاجرين والأنصار بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم فلم ينكر فكان إجماعا ولا سبيل الى وجود إجماع أقوى من هذا وشبهه اذ لا سبيل الى نقل قول جميع الصحابة في مسألة ولا الى نقل قول العشرة ولا يوجد الاجماع الا القول المنتشر فان قيل فقد خالفه ابن مسعود بما ذكرناه عنه قلنا لا نسلم المخالفة وقولهم اشترى قلنا المراد به اكترى كذلك قال أبو عبيد : والدليل عليه قوله على أن يكفيه جزيتها ولا يكون مشتريا لها وجزيتها على غيره وقد روى عنه القاسم أنه قال : من أقر بالطسق فقد أمر بالصغار والذل وهذا يدل على أن الشراء هاهنا الاكتراء وكذلك كل من رويت عنه الرخصة في الشراء فمحمول على ذلك وقوله فكيف بمال بزاذان فليس فيه ذكر الشراء ولأن المال أرض فيحتمل أنه أراد مالا من السائمة أو التجارة أو الزرع أو غيره ويحتمل أنه أرض أكتراها ويحتمل أنه أراد بذلك غيره وقد يعيب الانسان الفعل المعيب من غيره جواب ثان أنه يتناول الشراء وبقي قول عمر في النهي عن البيع غير معارض وأما المعنى فلأنها موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الاحباس والوقوف والدليل على وقفها النقل والمعنى
أما النقل فما نقل من الأخبار ان عمر لم يقسم الأرض التي افتتحها وتركها لتكون مادة لاجناد المسلمين الذين يقاتلون في سبيل الله الى يوم القيامة وقد نقلنا بعض ذلك وهو مشهور تغني شهرته عن نقله وأما المعنى فلأنها لو قسمت لكانت للذين افتتحوها ثم لورثتهم أو لمن انتقلت اليه عنهم ولم تكن مشتركة بين المسلمين ولأنها لو قسمت لم تخف بالكلية فان قيل فليس في هذا ما يلزم منه الوقف لأنه يحتمل أنه تركها للمسلمين عامة فيكون فيئا للمسلمين والامام نائبهم فيفعل ما يرى فيه المصلحة من بيع أو غيره ويحتمل أنه تركها لأربابها كفعل النبي صلى الله عليه و سلم بمكة قلنا أما الأول فلا يصح أن عمر إنما ترك قسمتها لتكون مادة للمسلمين كلهم ينتفعون بها مع بقاء أصلها وهذا معنى الوقف ولو جاز تخصيص قوم بأصلها لكان لاذين افتتحوها أحق بها فلا يجوز أن يمنعها أهلها لمفسدة ثم يخص بها غيرهم مع وجود المفسدة المانعة والثاني أظهر فسادا من الأول فانه اذا منعها المسلمين المستحقين كيف يخص بها أهل الذمة المشركين الذين لا حق لهم ولا نصيب ؟
فصل : واذا قلنا بصحة الشراء فانها تكون في يد المشتري على ما كانت في يد البائع يؤدي خراجها ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع الى المشتري بعوض وان شرط الخراج على البائع كما فعل ابن مسعود فيكون اكتراء لا شراء وينبغي أن يشترط بيان مدته كسائر الاجارات
فصل : واذا بيعت هذه الأرض فحكم بصحة البيع حاكم صح لأنه مختلف فيه فصح بحكم الحاكم كسائر المجتهدات وان باع الامام شيئا لمصلحة رآها مثل أن يكون في الأرض ما يحتاج الى عمارة لا يعمرها الا من يشتريها صح أيضا لأن فعل الامام كحكم الحاكم وقد ذكر بن عائد في كتاب فتوح الشام قال : قال غير واحد من مشيختنا إن الناس سألوا عبد الملك والوليد وسليمان ان يأذنوا لهم في شراء الأرض من أهل الذمة فأذنوا لهم على ادخال أثمانها في بيت المال فلما ولي عمر بن عبد العزيز أعرض عن تلك الاشرية لاختلاط الأمور فيها لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولم يقدر على تخليصه ولا معرفة ذلك وكتب كتابا قرىء على الناس سنة المائة ( أن من اشترى شيئا بعد سنة مائة فان بيعه مردود وسمي سنة مائة مائة سنة المدة ) فتناهى الناس عن شرائها ثم اشتروا أشرية كثيرة كانت بأيدي أهلها تؤدي العشر ولا جزية عليها فلما أفضى الأمر إلى المنصور وقعت تلك الأشرية اليه وأن ذلك أضر بالخراج فأراد ردها ألى أهلها فقيل له قد وقعت في المواريث والمهور واختلط أمرها فبعث المعدلين منهم عبد الله بن يزيد الى حمص واسماعيل بن عياش إلى بعلبك وهضاب بن طوق ومحمد بن زريق إلى الغوطة وأمرهم أن لا يضعوا على القطائع والاشرية العظيمة القديمة خراجا ووضعوا الخراج على ما بقي بأيدي الانباط وعلى الاشرية المحدثة من بعد سنة مائة إلى السنة التي عدل فيها فينبغي أن يجري ما باعه امام أو بيع باذنه أو تعذر رد بيعه هذا المجرى في أن يضرب عليه خراج بقدر ما يحتمل ويترك في يد مشتريه أو من انتقل اليه إلا ما بيع قبل المائة السنة فانه لا خراج عليه كما نقل في هذا الخبر

فصل : حكم اقطاع الأرض المفتوحة عنوة والأرض المغلة والمساكن
فصل : وحكم اقطاع هذه الأرض حكم بيعها في أن ما كان من عمر أو مما كان قبل مائة سنة فهو لأهله وما كان بعدها ضرب عليه كما فعل المنصور إلا أن يكون بغير أذن الامام فيكون باطلا وذكر ابن عائذ في كتابه باسناده عن سليمان بن عتبة أن أمير المؤمنين عبد الله بن محمد أظنه المنصور سأله في مقدمة الشام سنة ثلاث أو أربع وخمسين عن سبب الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة يذكرون أنها قطائع لآبائهم قديمة فقلت يا أمير المؤمنين : إن الله تعالى لما أظهر المسلمين على بلاد الشام وصالحوا أهل دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم واثخانهم في عدو الله فعسكروا في مرج بردى بين المزة إلى مرج شعبان جنبتي بردى مروج كانت مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها ليست لأحد منهم فأقاموا بها حتى أوطأ الله بهم المشركين قهرا وذلا فأحيا كل قوم محلتهم وهيئوا بها بناء فبلغ ذلك عمر فأمضاه لهم وأمضاه عثمان من بعده إلى أمير المؤمنين قال : وقد أمضيناه لهم وعن الأحوص بن حكيم أن المسلمين الذين فتحوا حمص لم يدخلوها بل عسكروا على نهر الأربد فأحيوه فأمضاه لهم عمر وعثمان وقد كان منهم ناس تعدوا اذ ذاك إلى جسر الأربد الذي على باب الرستن فعسكروا في مرجه مسلحة لمن خلفهم من المسلمين فلما بلغهم ما أمضاه عمر للمعسكرين على نهر الأربد سألوا أن يشركوهم في تلك القطائع وكتبوا إلى عمر فيه فكتب أو يعوضوا مثله من المروج التي كانوا عسكروا فيها على باب الرستن فلم تزل تلك القطائع على شاطىء الأربد وعلى باب حمص وعلى باب الرستن ماضية لأهلها لاخراج عليها تؤدي العشر
فصل : وهذا الذي ذكرناه في الأرض المغلة فأما المساكن فلا بأس بحيازتها وبيعها وشرائها وسكناها قال أبو عبيد : ما علمنا أحدا كره ذلك وقد اقتسمت الكوفة خططا في زمن عمر رضي الله عنه بإذنه والبصرة وسكنهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك الشام ومصر وغيرهما من البلدان فما عاب ذلك أحد ولا أنكره

مسألة : زكاة ما خرج من أرض صلح انتقلت الى مسلم
مسألة : قال : فما كان من الصلح ففيه الصدقة
يعني ما صولحوا عليه على أن ملكه لأهله ولنا عليهم خراج معلوم فهذا الخراج في حكم الجزية فمتى أسلموا سقط عنهم وإن انتقلت إلى مسلم لم يكن عليها خراج وفي مثله جاء عن [ العلاء بن الحضرمي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى البحرين وإلى هجر فكنت آتي الحائط تكون بين الأخوة يسلم أحدهم فآخذ من المسلم العشر ومن المشرك الخراج ] رواه ابن ماجة فهذا في أحد هذين البلدين لأنهما فتحا صلحا وكذلك كل أرض أسلم أهلها عليها كأرض المدينة فهي ملك لهم ليس عليها خراج ولا شيء أما الزكاة فهي واجبة على كل مسلم ولا خلاف في وجوب العشر في الخارج من هذه الأرض قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن كل أرض أسلم أهلها عليها قبل قهرهم عليها أنها لهم وأن أحكامهم أحكام المسلمين وأن عليهم فيما زرعوا فيها الزكاة

مسألة وفصل : اجتماع العشر والخراج على الأرض المفتوحة عنوة اذا ملكها مسلم فصل : من يجب العشر عليهم
مسألة : قال : وما كان عنوة أدي عنها الخراج وزكي ما بقي اذا كان خمسة أوسق وكان لمسلم
يعني ما فتح عنوة ووقف على المسلمين وضرب عليهم خراج معلوم فانه يؤدي الخراج من غلته وينظر في باقيها فان كان نصابا ففيه الزكاة اذا كان لمسلم وإن لم يبلغ نصابا أو بلغ نصابا ولم يكن لمسلم فلا زكاة فيه فان الزكاة لا تجب على غير المسلمين وكذلك الحكم في كل أرض خراجية وهذا قول عمر بن عبد العزيز و الزهري و يحيى الأنصاري و ربيعة و الأوزاعي و مالك ومغيرة و الليث و الحسن بن صالح و ابن أبي ليلى و ابن المبارك و الشافعي و اسحاق و أبي عبيد وقال أصحاب الرأي : لا عشر في الأرض الخراجية لقوله عليه السلام : [ لا يجتمع العشر والخراج في أرض مسلم ] ولأنهما حقان سبباها متنافيان فلا يجتمعان كزكاة السوم والتجارة والعشر وزكاة القيمة وبيان تنافيهما أو الخراج وجب عقوبة لأنه جزية الأرض والزكاة وجبت طهرة وشكرا
ولنا قول الله تعالى : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ فيما سقت السماء العشر ] وغيره من عمومات الأخبار قال ابن المبارك : يقول الله : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } ثم قال : نترك القرآن لقول أبي حنيفة ؟ ولأنهما حقان يجبان لمستحقين يجوز وجوب كل واحد منهما على المسلم فجاز اجتماعهما كالكفارة والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم يرويه يحيى بن عنبسة هو ضعيف عن أبي حنيفة ثم نحمله على الخراج الذي هو جزية وقول الخرقي وكان لمسلم يعني أن الزكاة لا تجب على صاحب الأرض اذا لم يكن مسلما وليس عليه في أرضه سوى الخراج قال أحمد رحمه الله : ليس في أرض أهل الذمة صدقة انما قال الله تعالى : { صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } فأي طهرة للمشركين وقولهم أن سببيهما يتنافيان غير صحيح فان الخراج أجرة الأرض والعشر زكاة الزرع ولا يتنافيان كما لو استأجر أرضا فزرعها ولو كان الخراج عقوبة لما وجب على مسلم كالجزية
فصل : فان كان في غلة الأرض مالا عشر فيه كالثمار التي لا زكاة فيها والخضراوات وفيها زرع فيه الزكاة جعل ما لا زكاة فيه في مقابلة الخراج زكى ما فيه الزكاة اذا كان مالا زكاة فيه وافيا بالخراج وان لم يكن لها عليه الا ما تجب فيه الزكاة أدى الخراج من غلتها وزكى ما بقي وهذا قول عمر بن عبد العزيز اذا كان ما لا زكاة فيه وافيا بخراج وإن لم يكن لهما غلة إلا ما تجب فيه الزكاة أدى الخراج من غلتها
روى أبو عبيد عن ابراهيم بن أبي عبلة قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبدالله بن أبي عوفي عامله على فلسطين فيمن كانت في يده أرض يحرثها من المسلمين أو يقبض منها جزيتها ثم يأخذ منها زكاة ما بقي بعد الجزية قال ابن أبي عبلة : أنا ابتليت بذلك ومني أخذوا ذلك لأن الخراج من مؤنة الأرض فيمنع وجوب الزكاة في قدره كما قال أحمد : من استدان ما أنفق على زرعه واستدان ما أنفق على أهله احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله لأنه من مؤنة الزرع وبهذا قال ابن عباس وقال عبد الله بن عمر : يحتسب بالدينين جميعا ثم يخرج مما بعدهما وحكي عن أحمد أن الدين كله يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة فعلى هذه الرواية يحسب كل دين عليه ثم يخرج العشر مما بقي إن بلغ نصابا وان لم يبلغ نصابا فلا عشر فيه وذلك لأن الواجب زكاة فمنع الدين وجوبها كزكاة الأموال الباطنة ولأنه دين فمنع وجوب العشر كالخراج وما أنفقه على زرعه والفرق بينهما على الرواية الاولى أن ما كان من مؤنة الزرع فالحاصل في مقابلته يجب صرفه الى غيره فكأنه لم يحصل
فصل : ومن استأجر أرضا فزرعها فالعشر عليه دون مالك الأرض وبهذا قال مالك و الثوري و شريك و ابن المبارك و الشافعي و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : هو على مالك الأرض لأنه من مؤنتها أشبه الخراج
ولنا أنه واجب في الزرع فكان على مالكه كزكاة القيمة فيما اذا أعده للتجارة وكعشر زرعه في ملكه ولا يصح قولهم إنه من مؤنة الأرض لأنه لو كان من مؤنتها لوجب فيها وان لم تزرع كالخراج ولو وجب على الذمي كالخراج ولتقدر بقدر الأرض لا بقدر الزرع ولوجب صرفه إلى مصارف الفيء دوم مصرف الزكاة ولو استعار أرضا فزرعها فالزكاة على صاحب الزرع لأنه مالكه وإن غصبها فزرعها وأخذ الزرع فالعشر عليه أيضا لأنه ثبت على ملكه وإن أخذه مالكها قبل اشتداد حبه فالعشر عليه وإن أخذه بعد ذلك احتمل أن يجب عليه أيضا لأن أخذه اياه استند الى أول زرعه فكأنه أخذه من تلك الحال ويحتمل أن تكون زكاته على الغاصب لأنه كان ملكا له حين وجوب عشره وهو حين اشتداد حبه وإن زارع رجلا مزارعة فاسدة فالعشر على من يجب الزرع له وإن كانت صحيحة فعلى كل واحد منهما عشر حصته إن بلغت خمسة أوسق أو كان له من الزرع ما يبلغ بضمه اليها خمسة أوسق وإلا فلا عشر عليه وإن بلغت حصة أحدهما دون صاحبه النصاب فعلى من بلغت حصته النصاب عشرها ولا شيء على الآخر لأن الخلطة لا تؤثر في غير السائمة في الصحيح ونقل عن أحمد أنها تؤثر فيلزمهما العشر اذا بلغ الزرع جميعه خمسة أوسق ويخرج كل واحد منهما عشر نصيبه إلا أن يكون أحدهما ممن لا عشر عليه كالمكاتب والذمي فلا يلزم شريكه عشرا إلا أن تبلغ حصته نصابأ وكذلك الحكم في المساقاة

فصل : كراهة بيع أرض المسلم من ذمي
فصل : ويكره لمسلم بيع أرضه من ذمي واجارتها منه لافضائه الى اسقاط عشر الخارج منها قال محمد بن موسى : سألت أبا عبد الله عن المسلم يؤجر أرض الخراج من الذمي قال لا يؤجر من الذمي إنما عليه الجزية وهذا ضرر وقال في موضع آخر لأنهم لا يؤدون الزكاة فان آجرها منه ذمي أو باع أرضه التي لا خراج عليها ذميا صح البيع والاجارة وهذا مذهب الثوري و الشافعي و شريك و أبي عبيد وليس عليهم فيها عشر ولا خراج قال : حرب سألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر قال : لا أعلم عليه شيئا إنما الصدقة كهيئة مال الرجل وهذا المشتري ليس عليه وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا يقولون لا نترك الذمي يشتري أرض العشر وأهل البصرة يقولون قولا عجيبا يقولون يضاعف عليهم وقد روي عن أحمد أنهم يمنعون من شرائها اختارها الخلال وصاحبه وهو قول مالك وصاحبه فان اشتروها ضوعف عليهم العشر وأخذ منهم الخمس لأن في اسقاط العشر من غلة هذه الأرض اضرارا بالفقراء وتقليلا لحقهم فاذا تعرضوا لذلك ضوعف عليهم العشر كما لو اتجروا بأموالهم إلى غير بلدهم ضوعفت عليه الزكاة فأخذ منهم نصف العشر وهذا قول أهل البصرة و أبي يوسف ويروى ذلك عن الحسن وعبيد الله بن الحسن العنبري وقال محمد بن الحسن : العشر بحاله وقال أبو حنيفة تصير أرض خراج
ولنا أن هذه أرض لا خراج عليها فلا يلزم فيها الخراج ببيعها كما لو باعها مسلما ولأنها مال مسلم يجب الحق فيه للفقراء عليه فلم يمنع من بيعه للذمي كالسائمة واذا ملكها الذمي فلا عشر عليه فيما يخرج منها لأنها زكاة فلا تجب على الذمي كزكاة السائمة وما ذكره يبطل بالسائمة فان الذمي يصح أن يشتريها وتسقط الزكاة منها وما ذكروه من تضعيف العشر فتحكم لا نص فيه ولا قياس

مسألة وفصول : ضم الأجناس وأنواعها الى بعضها البعض
مسألة : قال : وتضم الحنطة الى الشعير وتزكى اذا كانت خمسة أوسق وكذلك القطنيات وكذلك الذهب والفضة
وعن أبي عبد الله رواية أخرى أنها لا تضم وتخرج من كل صنف أن كان منصبا للزكاة القطنيات بكسر القاف جمع قطنية ويجمع أيضا قطاني قال ابو عبيد : هي صنوف الحبوب من العدس والحمص والأرز والجلبان والجلجلان يعني السمسم وزاد غيره الدخن واللوبيا والفول والماش وسميت قطنية فعلية من قطن يقطن في البيت أي يمكث فيه ولا خلاف بين أهل العلم في غير الحبوب والثمار أنه لا يضم جنس الى جنس آخر في تكميل النصاب فالماشية ثلاثة أجناس الابل والبقر والغنم لا يضم جنس منها الى آخر والثمار لا يضم جنس الى غيره فلا يضم التمر الى الزبيب ولا الى اللوز والفستق والبندق ولا يضم شيء من هذه الى غيره ولا تضم الاثمار الى شيء من السائمة ولا من الحبوب والثمار ولا خلاف بينهم في أن أنواع الاجناس يضم بعضها الى بعض في اكمال النصاب ولا خلاف بينهم أيضا في أن العروض تضم الى الاثمان وتضم الأثمان اليها إلا أن الشافعي لا يضمها إلا الى جنس ما اشتريت به لأن نصابها معتبر به واختلفوا في ضم الحبوب بعضها الى بعض وفي ضم أحد النقدين الى الآخر فروي عن أحمد في الحبوب ثلاث روايات إحداهن لا يضم جنس منها الى غيره ويعتبر النصاب في كل جنس منها منفردا هذا قول عطاء و مكحول و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و الثوري و الحسن بن صالح و شريك و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور وأصحاب الرأي لأنها أجناس فاعتبر النصاب في كل جنس منها منفردا كالثمار أيضا والمواشي
والرواية الثانية : أن الحبوب كلها تضم بعضها الى بعض في تكميل النصاب اختارها أبو بكر وهذا قول عكرمة وحكاه ابن المنذر عن طاوس وقال أبو عبيد : لا نعلم أحدا من الماضين جمع بينهما الا عكرمة وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا زكاة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق ] ومفهومه وجوب الزكاة فيه اذا بلغ خمسة أوسق ولأنها تتفق في النصاب وقدر المخرج والمنبت والحصاد فوجب ضم بعضها الى بعض كأنواع الجنس وهذا الدليل منتقض بالثمار
والثالثة : أن الحنطة تضم الى الشعير وتضم القطنيات بعضها الى بعض نقلها أبو الحارث عن أحمد وحكاها الخرقي قال القاضي : وهذا هو الصحيح وهو مذهب مالك و الليث إلا أنه زاد فقال : السلت والذرة والدخن والأرز والقمح والشعير صنف واحد ولعله يحتج بأن هذا كله مقتات فيضم بعضه الى بعض كأنواع الحنطة وقال الحسن و الزهري : تضم الحنطة الى الشعير لأنها تتفق في الاقتيات والمنبت والحصاد والمنافع فوجب ضمها كما يضم العلس الى الحنطة وأنواع الجنس بعضها الى بعض والرواية الاولى أولى إن شاء الله تعالى لأنها أجناس يجوز التفاضل فيها فلم يضم بعضها الى بعض كالثمار ولا يصح القياس على العلس مع الحنطة لأنه نوع منها ولا على أنواع الجنس لأن الأنواع كلها جنس واحد يحرم التفاضل فيها وثبت حكم الجنس في جميعها بخلاف الاجناس واذا انقطع القياس لم يجز إيجاب الزكاة بالتحكم ولا بوصف غير معتبر ثم هو باطل بالثمار فانها تتفق فيما ذكروه ولا يضم بعضها الى بعض ولأن الأصل عدم الوجوب فما لم يرد بالايجاب نص أو إجماع أو معناهما لا يثبت إيجابه والله أعلم ولا خلاف فيما نعلمه في ضم الحنطة الى العلس لأنه نوع منها وعلى قياسه السلت يضم الى الشعير لأنه منه
فصل : ولا تفريع على الروايتين الأوليين لوضوحهما
فأما الثالثة وهي ضم الحنطة الى الشعير والقطنيات بعضها الى بعض فان الذرة تضم الى الدخن لتقاربهما في المقصد فانهما يتخذان خبزا وادما وقد ذكرا من جملة القطنيات أيضا فيضمان اليها وأما البزور فلا تضم الى القطنيات ولكن الابازير يضم بعضها الى بعض لتقاربها في المقصد فأشبهت القطنيات وحبوب البقول لا تضم الى القطنيات ولا الى البزور فما تقارب منها ضم بعضه الى بعص وما لا فلا وما شككنا فيه لا يضم لأن الأصل عدم الوجوب فلا يجب بالشك والله أعلم
فصل : وذكر الخرقي في ضم الذهب الى الفضة روايتين وقد ذكرناهما فيما مضى واختار أبو بكر أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر مع اختياره الضم في الحبوب لاختلاف نصابهما واتفاق نصاب الحبوب
فصل : ومتى قلنا بالضم فان الزكاة تؤخذ من كل جنس على قدر ما يخصه ولا يؤخذ من جنس عن غيره فاننا اذا قلنا في أنواع الجنس يؤخذ من كل نوع ما يخصه فأولى أن يعتد ذلك في الأجناس المختلفة مع تفاوت مقاصدها إلا الذهب والفضة فان في اخراج أحدهما عن الآخر روايتين

ضم زرع العام الواحد وثمرته
فصل : ويضم زرع العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب سواء اتفق وقت زرعه وادراكه أو اختلف ولو كان منه صيفي وربيعي ضم الصيفي إلى الربيعي ولو حصدت الذرة والدخن ثم نبت أصولهما يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب لأن الجميع زرع عام واحد فضم بعضه إلى بعض كما لو تقارت زرعه وادراكه
فصل : وتضم ثمرة العام الواحد بعضها الى بعض سواء اتفق وقت اطلاعها وادراكها أو اختلف فيقدم بعضها على بعض في ذلك ولو أن الثمرة جدت ثم أطلعت الأخرى وجدت ضمت إحداهما الى الأخرى فان كان له نخل يحمل في السنة حملين ضم أحدهما إلى الآخر وقال القاضي : لا يضم وهو قول الشافعي لأنه حمل ينفصل عن الأول فكان حكمه حكم حمل عام آخر وإن كان له نخل يحمل مرة ونخل يحمل مرتين ضممنا الحمل الأول الى الحمل المنفرد ولم يجب في الثاني شيء إلا أن يبلغ بمفرده نصابا والصحيح أن أحد الحملين يضم إلى الآخر ذكره أبو الخطاب و ابن عقيل لأنهما ثمرة عام واحد فيضم بعضها إلى بعض كزرع العام الواحد وكالذرة التي تنبت مرتين ولأن الحمل الثاني يضم الى الحمل المنفرد لو لم يكن حمل أول فكذا اذا كان فان وجود الحمل الأول لا يصلح أن يكون مانعا بدليل حمل الذرة الأول وما ذكره من الانفصال يبطل بالذرة والله أعلم بالصواب

باب زكاة الذهب والفضة وهي واجبة بالكتاب والسنة
وهي واجبة بالكتاب والسنة ولاجماع
أما الكتاب فقوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } الآية ولا يتوعد بهذه العقوبة إلا على ترك واجب
وأما السنة فما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها الا اذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فاحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره كلما بردت أعيدت عليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين العباد ] أخرجه مسلم وروى البخاري وغيره في كتاب أنس : [ وفي الرقة ربع العشر فان لم يكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء الا أن يشاء ربها ] والرقة هي الدراهم المضروبة وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس فيما دون خمس أواق صدقة ] متفق عليه وأجمع أهل العلم على أن في مائتي درهم خمسة دراهم وعلى أن الذهب اذا كان عشرين مثقالأ وقيمته مائتا درهم أن الزكاة تجب فيه الا ما اختلف فيه عن الحسن

مسألة وفصل ضم الذهب ولافضة وعروض التجارة الى بعضها في تكميل النصاب - نصاب زكاة الفضة
مسألة : قال أبو القاسم : ولا زكاة فيما دون المائتين الا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة فيتم به
وجملة ذلك أن يصاب الفضة مائتا درهم لا خلاف في ذلك بين علماء الاسلام وقد بينته السنة التي رويناها بحمد الله والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسه وهي الدراهم الاسلامية التي تقدر بها نصب الزكاة ومقدار الجزية والديات ونصاب القطع في السرقة وغير ذلك وكانت الدراهم في صدر الاسلام صنفين سودا وطبرية وكانت السود ثمانية دوانيق والطبرية أربعة دوانيق فجمعا في الاسلام وجعلا درهمين متساويين في كل درهم ستة دوانيق فعل ذلك بنو أمية فاجتمعت فيها ثلاثة أوجه أحدها أن كل عشرة وزن سبعة والثاني أنه عدل بين الصغير والكبير والثالث أنه موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية ولا فرق في ذلك بين التبر والمضروب ومتى نقص النصاب عن ذلك فلا زكاة فيه سواء كان كثيرا أو يسيرا هذا ظاهر كلام الخرقي ومذهب الشافعي و اسحاق و ابن المنذر لظاهر قوله عليه السلام : [ ليس فيما دون خمس أواق صدقة ] والأوقية أربعون درهما بغير خلاف فيكون ذلك مائتي درهم وقال غير الخرقي من أصحابنا ان كان النقص يسيرا كالحبة والحبتين وجبت الزكاة لأنه لا يضبط غالبا فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين وان كان نقصا بينا كالدانق والدانقين فلا زكاة فيه وعن أحمد أن نصاب الذهب اذا نقص ثلث مثقال زكاه وهو قول عمر بن عبد العزيز وسفيان وان نقص نصفا لا زكاة فيه وقال أحمد : في موضع آخر ان نقص ثمنا لا زكاة فيه اختاره أبو بكر وقال مالك : اذا نقصت نقصا يسيرا يجوز جواز الوازنة وجبت الزكاة لأنها تجوز جواز الوازنة أشبهت الوازنة والاول ظاهر الخبر فينبغي أن لا يعدل عنه فأما قوله : الا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة فيتم به فان عروض التجارة تضم الى كل واحد من الذهب والفضة ويكمل به نصابه لا نعلم فيه اختلافا قال الخطابي : ولا أعلم عامتهم اختلفوا فيه وذلك لأن الزكاة انما تجب في قيمتها فتقوم بكل واحد منهما فتضم الى كل واحد منهما ولو كان له ذهب وفضة وعروض وجب ضم الجميع بعضه الى بعض في تكميل النصاب لأن العرض مضموم الى كل واحد منهما فيجب ضمهما اليه وجمع الثلاثة فاما ان كان له من كل واحد من الذهب والفضة ما لا يبلغ نصابا بمفرده أو كان له نصاب من أحدهما وأقل من نصاب من الآخر فقد توقف أحمد عن ضم أحدهما الى الآخر في رواية الأثرم وجماعة وقطع في رواية حنبل أنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابا وذكر الخرقي فيه روايتين في الباب قبله إحداهما لا يضم وهو قول ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و شريك و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور واختاره أبو بكر عبد العزيز لقوله عليه السلام : [ ليس فيما دون خمس أواق صدقة ] ولأنهما مالان يختلف نصابهما فلا يضم أحدهما الى الآخر كأجناس الماشية والثانية يضم أحدهما الى الآخر في تكميل النصاب وهو قول الحسن و قتادة و مالك و الأوزاعي و الثوري وأصحاب الرأي لأن أحدهما يضم الى ما يضم اليه الآخر فيضم الى الآخر كأنواع الجنس ولأن نفعهما واحد والأصول فيهما متحدة فانهما قيم المتلفات وأروش الجنايات وأثمان البياعات وحلي لمن يريدهما لذلك فأشبه النوعين والحديث مخصوص بعرض التجارة فنقيس عليه فاذا قلنا بالضم فان أحدهما يضم الى الآخر بالاجزاء يعني أن كل واحد منهما يحتسب من نصابه فاذا كملت اجزاؤهما نصابا وجبت الزكاة مثل أن يكون عنده نصف نصاب من أحدهما ونصف نصاب أو أكثر من الآخر أو ثلث من أحدهما وثلثان أو أكثر من الآخر فلو ملك مائة درهم وعشرة دنانير أو مائة وخمسين درهما وخمسة دنانير أو مائة وعشرين درهما وثمانية دنانير وجبت الزكاة فيهما وان نقصت أجزاؤهما عن نصاب فلا زكاة فيهما سئل أحمد عن رجل عنده ثمانية دنانير ومائة درهم فقال : انما قال من قال فيها الزكاة اذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم وهذا قول مالك و أبي يوسف و محمد و الأوزاعي لأن كل واحد منهما لا تعتبر قيمته في وجوب الزكاة اذا كان منفردا فلا تعتبر اذا كان عنده عشرة دنانير مضمومة كالحبوب والثمار وأنواع الأجناس كلها وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنها تضم بالأحوط من الاجزاء والقيمة ومعناه أنه يقوم الغالي منهما بقيمة الرخيص فاذا بلغت قيمتهما بالرخيص منهما نصابا وجبت الزكاة فيهما فلو ملك مائة درهم وسبعة دنانير قيمتها مئة درهم أو عشرة دنانير وسبعين درهما قيمتها عشرة دنانير وجبت الزكاة فيهما وهذا قول أبي حنيفة في تقويم الدنانير بالفضة لأن كل نصاب وجب فيه ضم الذهب الى الفضة ضم بالقيمة كنصاب القطع في السرقة ولأن أصل الضم لتحصيل حظ الفقراء فكذلك صفة الضم والأول أصح لأن الاثمان تجب الزكاة في أعيانها فلا تعتبر قيمتها كما لو انفردت ويخالف نصاب القطع فان نصاب القطع فيه الورق خاصة في إحدى الروايتين وفي الأخرى أنه لا يجب في الذهب حتى يبلغ ربع دينار والله أعلم
مسألة : قال : وكذلك دون العشرين مثقالا
يعني أن ما دون العشرين لا زكاة فيه إلا أن يتم بورق أو عروض تجارة قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الذهب اذا كان عشرين مثقالا قيمتها مئتا درهم أن الزكاة تجب فيها إلا ما حكي عن الحسن أنه قال : لا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين وأجمعوا على أنه اذا كان أقل من عشرين مثقالا ولا يبلغ مائتي درهم فلا زكاة فيه وقال عامة الفقهاء : نصاب الذهب عشرون مثقالا من غير اعتبار قيمتها الا ما حكي عن عطاء و طاوس و الزهري و سليمان بن حرب وأيوب السختياني أنهم قالوا : هو معتبر بالفضة فما كان قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم تقدير في نصابه فثبت أنه حمله على الفضة ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا في أقل من مائتي درهم صدقة ] رواه أبو عبيد
وروى ابن ماجة عن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا فصاعدا نصف دينار ومن الاربعين دينارا وروى سعيد و الأثرم عن علي على كل أربعين دينارا دينار وفي كل عشرين دينارا نصف دينار ورواه غيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه مال تجب الزكاة في عينه فلم يعتبر بغيره كسائر الأموال الزكوية

فصل : زكاة خليطة الذهب والفضة
فصل : ومن ملك ذهبا أو فضة مغشوشة أو مختلطا بغيره فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب الفضة نصابا لقوله عليه السلام : [ ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ] فان لم يعلم قدر ما فيه منهما وشك هل بلغ نصابا أولا - خير بين سبكهما ليعلم قدر ما فيه منهما وبين أن يستظهر ويخرج ليسقط الفرض بيقين فان أحب ان يخرج إستظهارا فأراد إخراج الزكاة من المغشوشة نظرت فان كان الغش لا يختلف مثل أن يكون الغش في كل دينار سدسه وعلم ذلك جاز أن يخرج منها لأنه يكون مخرجا لربع العشر وإن اختلف قدر ما فيها أو لم يعلم لم يجزه الاخراج منها إلا أن يستظهره بحيث يتيقن أن ما أخرجه من الذهب محيط بقدر الزكاة وإن أخرج عنها ذهبا لا غش فيه فهو أفضل وإن أراد اسقاط الغش واخراج الزكاة عن قدر ما فيه من الذهب كمن معه أربعة وعشرون دينارا سدسها غش فأسقط السدس أربعة وأخرج نصف دينار عن عشرين جاز لأنه لو سبكها لم يلزمه إلا ذلك ولأن غشها لا زكاة فيه إلا أن يكون فضة وله من الفضة ما يتم به النصاب أو له نصاب سواه فيكون عليه زكاة الغش حينئذ وكذلك إن قلنا بضم أحد النقدين إلى الآخر واذا ادعى رب المال أنه يعلم الغش أو أنه استظهره وأخرج الفرض قبل منه بغير يمين وإن زادت قيمة المغشوش بالغش فصارت قيمة العشرين تساوي اثنين وعشرين فعليه اخراج ربع عشرها مما قيمته كقيمتها لأن عليه اخراج زكاة المال الجيد من جنسه بحيث لا ينقص عن قيمته والله أعلم

فصلان : مقدار زكاة الذهب والفضة
مسألة : قال : فاذا تمت ففيها ربع العشر
يعني اذا تمت الفضة مائتين والدنانير عشرين فالواجب فيها ربع عشرها ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن زكاة الذهب والفضة ربع عشرها فقد ثبت ذلك بقوله عليه السلام : [ في الرقة ربع العشر ] وقال النبي صلى الله عليه سلم : [ هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شيء ] قال الترمذي قال البخاري في هذا الحديث هو صحيح عندي ورواه سعيد ولفظه : [ فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما ] وأجمع أهل العلم على أن في مائتي درهم خمسة دراهم وروى ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا فصاعدا نصف دينار ومن الأربعين دينارأ دينار
مسألة : قال : وفي زيادتها وان قلت
روي هذا عن علي و ابن عمر رضي الله عنهما وبه قال عمر بن عبد العزيز و النخعي و مالك و الثوري و ابن أبي ليلى و الشافعي و أبو يوسف و محمد و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و الحسن و الشعبي و مكحول و الزهري وعمرو بن دينار و أبو حنيفة : لا شيء في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير لقوله عليه السلام : [ من كل أربعين درهما درهما ] وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اذا بلغ الورق مائتين ففيه خمسة دراهم ثم لا شيء فيه حتى يبلغ الى أربعين درهما ] وهذا نص ولأن له عفوا في الابتداء فكان له عفو بعد النصاب كالماشية
ولنا ما روي عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهما وليس عليكم شيء حتى يتم مائتين فاذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم فما زاد بحساب ذلك ] رواه الأثرم و الدارقطني ورواه أبو داود باسناده عن عاصم بن ضمرة والحارث عن علي الا أنه قال أحسبه عن النبي صلى الله عليه و سلم وروي ذلك عن علي و ابن عمر موقوفا عليهم ولم نعرف لهما مخالفا من الصحابة فيكون اجماعا ولأنه مال متجر فلم يكن له عفو بعد النصاب كالحبوب وما احتجوا به من الخبر الأول فهو احتجاج بدليل الخطاب والمنطوق مقدم عليه والحدث الآخر يرويه أبو العطوف الجراح بن منهال وهو متروك الحديث قال الدارقطني وقال مالك : هو دجال من الدجاجلة ويرويه عن عبادة بن نسي عن معاذ ولم يلق عبادة معاذا فيكون مرسلا والماشية يشق تشقيصها بخلاف الأثمان

فصلان : صفة ما يخرجه من زكاة الذهب والفضة
فصل : ويخرج الزكاة من جنس ماله فان كان أنواعا متساوية القيم جاز أن يخرج الزكاة من أحدها كما تخرج من أحد نوعي الغنم وإن كانت مختلفة القيم أخذ من كل نوع ما يخصه وإن أخرج من أوسطها ما يفي بقدر الواجب وقيمته جاز وإن أخرج الفرض من أجودها بقدر الواجب جاز وله ثواب الزيادة وإن أخرجه بالقيمة مثل أن يخرج عن نصف دينار ثلث دينار جيد لم يجز لأن النبي صلى الله عليه و سلم نص على نصف دينار فلم يجز النقص منه وإن أخرج من الأدنى وزاد في المخرج ما يفي بقيمة الواجب مثل أن يخرج عن دينار دينارأ ونصفا بقيمته جاز وكذلك لو أخرج عن الصحاح مكسرة وزاد بقدر ما بينهما من الفضل جاز لأنه أدى الواجب عليه قيمة وقدرا وإن أخرج عن كثير القيمة قليل القيمة فكذلك فان أخرج بهرجا عن الجيد وزاد بقدر ما يساوي قيمة الجيد فقال أبو الخطاب يجوز وقال القاضي : يلزمه اخراج جيد ولا يرجع فيما أخرجه من المعيب لأنه أخرج معيبا في حق الله تعالى فأشبه ما لو أخرج مريضه عن صحاح وبهذا قال الشافعي إلا أن أصحابه قالوا : له الرجوع فيما أخرج من المعيب في أحد الوجهين : وقال أبو حنيفة : يجوز اخراج الرديئة عن الجيدة والمكسورة عن الصحيحة من غير جبران لأن الجودة اذا لاقت جنسها فيما فيه الربا لا قيمة لها
ولنا أن الجودة متقومة بدليل ما لو أتلف حيدا لم يجزئه أن يدفع عند رديئا ولأنه اذا لم يجبره بما يتم به قيمة الواجب عليه دخل في عموم قوله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولأنه أخرج رديئا عن جيد بقدره فلم يجز كما في الماشية ولأن المستحق معلوم القدر والصفة فلم يجز النقص في الصفة كما لا يجوز في القدر وأما الربا فلا يجري ههنا لأن المخرج حق لله ولا ربا بين العبد وسيده ولأن المساواة في المعيار الشرعي انما اعتبرت في المعاوضات والقصد من الزكاة المواساة واغناء الفقير وشكر نعمة الله تعالى فلا يدخل الربا فيها فان قيل فلو أخرج في الماشية رديئتين عن جيدة أو أخرج قفيزين رديئين عن قفيز جيد لم يجز فلم اجزتم أن يخرج عن الصحيح أكثر منه مكسرا ؟ قلنا يجوز ذلك اذا لم يكن في إخراجه عيب سوى نقص القيمة وإن سلمناه فالفرق بينهما أن القصد من الاثمان القيمة لا غير فاذا تساوى الواجب والمخرج في القيمة والقدر جاز وسائر الأموال يقصد الانتفاع بعينها فلا يلزم من التساوي في الامرين الاجزاء لجواز أن يفوت بعض المقصود
فصل : وهل يجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر ؟ فيه روايتان نص عليهما احداهما لا يجوز وهو اختيار أبي بكر لأن أنواع الجنس لا يجوز اخراج أحدهما عن الآخر اذا كان أقل في المقدار فمع اختلاف الجنس أولى والثانية يجوز وهو أصح إن شاء الله لأن المقصود من أحدهما يحصل باخراج الآخر فيجزىء كأنواع الجنس وذلك لأن المقصود منهما جميعا الثمنية والتوسل بها إلى المقاصد وهما يشتركان فيه على السواء فأشبه إخراج المكسرة عن الصحاح بخلاف سائر الاجناس والانواع مما تجب فيه الزكاة فان لكل جنس مقصودا مختصا به لا يحصل من الجنس الآخر وكذلك أنواعها فلا يحصل باخراج غير الواجب من الحكمة ما يحصل باخراج الواجب وههنا المقصود حاصل فوجب إجزاؤه إذ لا فائدة باختصاص الاجزاء بعين مع مساواة غيرها لها في الحكمة وكون ذلك أرفق بالمعطي والآخذ وأنفع لهما ويندفع به الضرر عنهما فانه لو تعين اخراج زكاة الدنانير منها شق على من يملك أقل من أربعين دينارا اخراج جزء من دينار ويحتاج إلى التشقيص ومشاركة الفقير له في دينار من ماله أو بيع أحدهما نصيبه فيستضر المالك والفقير واذا جاز اخراج الدراهم عنها دفع إلى الفقير من الدراهم بقدر الواجب فيسهل ذلك عليه وينتفع الفقير من غير كلفة ولا مضرة ولأنه اذا دفع إلى الفقير قطعة من الذهب في موضع لا يتعامل بها فيه أو قطعة من درهم في مكان لا يتعامل بها فيه لم يقدر على قضاء حاجته بها وان أراد بيعها بحسب ما يتعامل بها احتاج إلى كلفة البيع وربما لا يقدر عليه ولا يفيده شيئا وإن أمكن بيعها احتاج إلى كلفة البيع والظاهر أنها تنقص عوضها عن قيمتها فقد دار بين ضررين وفي جواز اخراج أحدهما عن الآخر نفع محض ودفع لهذا الضرر وتحصيل لحكمة الزكاة على التمام والكمال فلا حاجة ولا وجه لمنعه وإن توهمت هنا منفعة تفوت بذلك فهي يسيرة مغمورة فيما يحصل من النفع الظاهر ويندفع من الضرر والمشقة من الجانبين فلا يعتبر والله أعلم
وعلى هذا لا يجوز الابدال في موضع يلحق الفقير ضرر مثل أن يدفع اليه ما لا ينفق عوضا عما ينفق لأنه اذا لم يجز اخراج أحد النوعين عن الآخر مع الضرر فمع غيره أولى وإن اختار الدفع من الجنس واختار الفقير الأخذ من غيره لضرر يلحقه في أخذ الجنس لم يلزم المالك اجابته لأنه اذا أدى ما فرض عليه لم يكلف سواه والله أعلم

مسألة وفصول : زكاة الحلى
مسألة : قال : وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره
هذا ظاهر المذهب وروي ذلك عن ابن عمر و جابر وأنس وعائشة وأسماء رضي الله عنهم وبه قال القاسم و الشعبي و قتادة و محمد بن علي و عمرة و مالك و الشافعي و أبو عبيد و اسحاق و أبو ثور وذكر بن أبي موسى رواية أخرى أنه فيه الزكاة وروي ذلك عن عمر وابن مسعود و ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير و عطاء و مجاهد وعبد الله بن شداد وجابر بن زيد و ابن سيرين وميمون بن مهران و الزهري و الثوري وأصحاب الرأي لعموم قوله عليه السلام : [ في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق صدقة ] مفهومه أن فيها صدقة اذا بلغت خمس أواق
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ أتت امرأة من أهل اليمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعها ابنة لها في يديها مسكتان من ذهب فقال : هل تعطين زكاة هذا ؟ قالت : لا قال : أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار ] رواه أبو داود ولأنه من جنس الأثمان أشبه التبر وقال مالك يزكي عاما واحدا وقال الحسن وعبد الله بن عتبة و قتادة : زكاته عاريته قال أحمد : خمسة من أصحاب رسول الله يقولون : ليس في الحلي زكاة ويقولون زكاته عاريته ووجه الاول ما روى عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس في الحلي زكاة ] ولأنه مرصد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل وثياب القنية
وأما الاحاديث الصحيحة التي احتجوا بها فلا تتناول محل النزاع لأن الرقة هي الدراهم المضروبة قال أبو عبيد : لا نعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب إلا على الدراهم المنقوشة ذات السكة السائرة في الناس وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم كل أوقية أربعون درهما وأما حديث المسكتين فقال أبو عبيد : لا نعلمه إلا من وجه قد تكلم الناس فيه قديما وحديثا وقال الترمذي : ليس يصح في هذا الباب شيء ويحتمل أنه أراد بالزكاة اعارته كما فسره به بعض العلماء وذهب اليه جماعة من الصحابة وغيرهم والتبر غير معد للاستعمال بخلاف الحلي وقول الخرقي اذا كان مما تلبسه أو تعيره يعني أنه انما تسقط عنه الزكاة اذا كان كذلك أو معدا له فأما المعد للكرى والنفقة اذا احتيج اليه ففيه الزكاة لأنها انما تسقط عما أعد للاستعمال لصرفه عن جهة النماء ففيما عداه يبقى على الأصل وكذلك ما اتخذ حلية فرارا من الزكاة لا يسقط عنه ولا فرق بين كون الحلي المباح مملوكا لامرأة تلبسه أو تعيره أو لرجل يحلي به أهله ويعيره أو يعده لذلك لأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح أشبه حلي المرأة
فصل : وقليل الحلي وكثيره سواء في الاباحة والزكاة وقال ابن حامد ما لم يبلغ ألف مثقال فان بلغها حرم وفيه الزكاة لما روى أبو عبيد و الأثرم عن عمرو بن دينار قال : سئل جابر عن الحلي هل فيه زكاة ؟ قال لا فقيل له ألف دينار ؟ فقال : إن ذلك لكثير ولأنه يخرج إلى السرف والخيلاء ولا يحتاج اليه في الاستعمال والأول أصح لأن الشرع أباح التحلي مطلقا من غير تقييد فلا يجوز تقييده بالرأي والتحكم وحديث جابر ليس بصريح في نفي الوجوب وانما يدل على التوقف ثم قد روي عنه خلافه فروى الجوزجاني باسناده عن أبي الزبير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الحلي فيه زكاة ؟ قال : لا قلت إن الحلي يكون فيه ألف دينار قال : وإن كان فيه يعار ويلبس ثم إن قول جابر قول صحابي خالفه غيره ممن أباحه مطلقا بغير تقييد فلا يبقى قوله حجة والتقييد بالرأي المطلق والتحكم غير جائز
فصل : واذا انكسر الحلي كسرا لا يمنع الاستعمال واللبس فهو كالصحيح لا زكاة فيه إلا أن ينوي كسره وسبكة ففيه الزكاة حينئذ لأنه نوى صرفه عن الاستعمال وإن كان الكسر يمنع الاستعمال فقال القاضي : عندي أن فيه الزكاة لأنه كان بمنزلة النقرة والتبر

فصلان : نية الاتجار بالحلي توجب الزكاة
فصل : واذا كان الحلي للبس فنوت به المرأة التجارة انعقد عليه حول الزكاة من حين نوت لأن الوجوب هو الأصل وانما انصرف عنه لعارض الاستعمال فعاد إلى الأصل بمجرد النية من غير استعمال فهو كما لو نوى بعرض التجارة القنية انصرف اليه من غير استعمال
فصل : ويعتبر في النصاب في الحلي الذي تجب فيه الزكاة بالوزن فلو ملك حليا قيمته مائتا درهم ووزنه دون المئتين لم يكن عليه زكاة وإن بلغ مائتين وزنا ففيه الزكاة وإن نقص في القيمة لقوله عليه السلام : [ ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ] اللهم إلا أن يكون الحلي بتجارة فيقوم فاذا بلغت قيمته بالذهب والفضة نصابا ففيه الزكاة لأن الزكاة متعلقة بالقيمة وما لم يكن للتجارة فالزكاة في عينه فيعتبر أن يبلغ بقيمته ووزنه نصابا وهو مخير بين اخراج ربع عشر حلية مشاعا أو دفع ما يساوي ربع عشرها من جنسها وإن زاد في الوزن على ربع العشر لما بينا أن الربا لا يجري ههنا ولو أراد كسرها ودفع ربع عشرها لم يكن منه لأنه ينقص قيمتها وهذا مذهب الشافعي وقال مالك : الاعتبار بالوزن واذا كان وزن الحلي عشرين وقيمته ثلاثون فعليه نصف مثقال لا تزيد قيمته شيئا لأنه نصاب من جنس الاثمان فتعلقت الزكاة بوزنه لا بصفته كالدراهم المضروبة
ولنا أن الصناعة صارت صفة للنصاب لها قيمة مقصودة فوجب اعتبارها كالجودة في سائر أموال الزكاة ودليلهم نقول به وأن الزكاة تتعلق بوزنه وصفته جميعا كالجيد من الذهب والفضة والمواشي والحبوب والثمار فانه لا يجزئه اخراج رديء عن جيد كذاك ههنا وإن أراد اخراج الفضة عن حلي الذهب أو الذهب عن الفضة أخرج على الوجهين كما قدمنا في اخراج أحد النقدين عن الآخر وذكر ابن عقيل أن الاعتبار في قدر النصاب أيضا بالقيمة فلو ملك حليا وزنه تسعة عشر وقيمته عشرون لأجل الصناع ففيه الزكاة وظاهر كلام أحمد اعتبار الوزن وهو ظاهر نصه عليه لقوله : [ ليس فيما دون خمس أواق صدقة ] ولأنه مال تجب الزكاة في عينه فلا تعتبر قيمة الدنانير المضروبة لأن زيادة القيمة بالصناعة كزيادتها بنفاسة جوهره فكما لاتجب الزيادة فيما كان نفيس الجوهر كذلك الآخر

فصول : ما يحل من حلي الذهب والفضة للرجال
فصل : فان كان في الحلي جوهر ولآلىء مرصعة فالزكاة في الحلي من الذهب والفضة دون الجوهر لأنها لا زكاة فيها عند أحد من أهل العلم فان كان الحلي للتجارة قومه بما فيه من الجواهر لأن الجواهر لو كانت مفردة وهي للتجارة لقومت وزكيت فكذلك اذا كانت في حلي التجارة
فصل : وإذا اتخذت المرأة حليا ليس لها اتخاذه كما إذا اتخذت حلية الرجال كحلية السيف والمنطقة فهو محرم وعليها الزكاة كما لو اتخذ الرجل حلي المرأة
فصل : ويباح للنساء من حلي الذهب والفضة والجواهر كل ما جرت عادتهن بلبسه مثل السوار والخلخال والقرط والخاتم وما يلبسنه على وجوههن وفي أعناقهن وأيديهن وأرجلهن وآذنهن وغيره فأما ما لم تجر عادتهن بلبسه كالمنطقة وشبهها من حلي الرجال فهو محرم وعليها زكاته كما لو اتخذ الرجل لنفسه حلي المرأة
مسألة : قال : وليس في حلية سيف الرجل ومنطقته وخاتمه زكاة
وجملة ذلك أن ما كان مباحا من الحلي فلا زكاة فيه اذا كان معدا للاستعمال سواء كان لرجل أو امرأة لأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية ويباح للرجال من الفضة الخاتم لأن النبي صلى الله عليه و سلم اتخذ خاتما من ورق متفق عليه وحلية السيف بأن تجعل قبيعته فضة أو تحليتها بفضة فان أنسا قال : كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم فضة وقال هشام بن عروة : كان سيف الزبير محلى بالفضة رواهما الأثرم باسناده والمنطقة تباح تحليتها بالفضة لأنها حلية معتادة للرجل فهي كالخاتم وقد نقل كراهة ذلك لما فيه من الفخر والخيلاء فهو كالطوق والأول أولى لأن الطوق ليس معتادا في حق الرجل بخلاف المنطقة وعلى قياس المنطقة الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل وتباح الضبة في الاناء وما أشبهها للحاجة ونعني بالحاجة أنه ينتفع بها في ذلك وإن قام غيرها مقامها
وفي صحيح البخاري عن أنس أن قدح النبي صلى الله عليه و سلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة وقال القاضي : يباح اليسير وإن لم يكن لحاجة وانما كره أحمد الحلقة في الاناء لأنها تستعمل وأما الذهب فيباح منه ما دعت الضرورة اليه كالأنف في حق من قطع أنفه لما [ روي عن عبد الرحمن بن طرفة أن جذه عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم فاتخذ أنفا من ذهب ]
رواه أبو داود وقال الامام أحمد ربط الاسنان بالذهب اذا خشي عليها أن تسقط قد فعله الناس فلا بأس به عند الضرورة
وروى الأثرم عن موسى بن طلحة وأبي جمرة الضبعي وأبي رافع وثابت البناني واسماعيل بن زيد بن ثابت والمغيرة بن عبد الله أنهم شدوا أسنانهم بالذهب وعن الحسن و الزهري و النخعي أنهم رخصوا فيه وما عدا ذلك من الذهب فقد روي عن أحمد الرخصة فيه في السيف قال الأثرم قال أحمد : روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب قال أبو عبد الله : فذاك الآن في السيف وقال : أنه كان لعمر سيف سبائكه من ذهب من حديث اسماعيل بن أمية عن نافع وروى الترمذي باسناده عن مزيدة العصري أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة وعلى سيفه ذهب وفضة وروي عن أحمد رواية أخرى تدل على تحريم ذلك قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله يخاف عليه أن يسقط يجعل فيه مسمارا من ذهب قال : انما رخص في الاسنان وذلك انما هو على الضرورة فأما المسمار فقد روي : [ من تحلى بخريصيصة كوي بها يوم القيامة ] قلت أي شيء خريصيصية ؟ قال : شيء صغير مثل الشعيرة وروى الأثرم أيضا باسناده عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال : من حلي أو تحلى بخريصيصة كوي بها يوم القيامة مغفورا له أو معذبا وحكي عن أبي بكر من أصحابنا أنه أباح يسير الذهب ولعله يحتج بما رويناه من الأخبار ويقاس الذهب على الفضة ولأنه أحد الثلاثة المحرمة على الذكور دون الاناث فلم يحرم يسيره كسائرها وكل ما أبيح من الحلي فلا زكاة فيه اذا كان معدا للاستعمال

مسألة وفصلان : زكاة أنية الذهب والفضة
مسألة : قال : والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص وفيها الزكاة
وجملته أن اتخاذ آنية الذهب والفضة حرام على النساء والرجال جميعا وكذلك استعماله وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يحرم اتخاذها لأن النص انما ورد في تحريم الاستعمال فيبقى اباحة الاتخاذ على مقتضى الأصل في الاباحة
ولنا أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالملاهي ويستوي في ذلك الرجال والنساء لأن المعنى المقتضي للتحريم يعمهما وهو الافضاء إلى السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء فيستويان في التحريم وانما أحل للنساء التحلي لحاجتهن اليه للتزين للأزواج وليس هذا بموجود في الآنية فيبقى على التحريم اذا ثبت هذا فان فيها الزكاة بغير خلاف بين أهل العلم ولا زكاة فيها حتى تبلغ نصابا بالوزن أو يكون عنده ما يبلغ نصابا بضمها اليه وإن زادت قيمته لصناعته فلا عبرة بها لأنها محرمة فلا قيمة لها في الشرع وله أن يخرج عنها قدر ربع عشرها بقيمته غير مصوغ وإن أحب كسرها أخرج ربع عشرها مكسورا وإن أخرج ربع عشرها مصوغا جاز لأن الصناعة لم تنقصها عن قيمة المكسور وذكر أبو الخطاب وجها في اعتبار قيمتها والأول أصح ان شاء الله تعالى
فصل : وكل ما كان اتخاذه محرما من الاثمان لم تسقط زكاته باتخاذه لأن الأصل وجوب الزكاة فيها لكونها مخلوقة للتجارة والتوسل بها إلى غيرها ولم يوجد ما يمنع ذلك فبقيت على أصلها قال أحمد : ما كان على سرج أو لجام ففيه الزكاة ونص على حلية الثفر والركاب واللجام أنه محرم وقال في رواية الأثرم : أكره رأس المكحلة فضة ثم قال وهذا شيء تأولته وعلى قياس ما ذكره حلية الدواة والمقلمة والسرج ونحوه مما على الدابة ولوموه سقفه بذهب أو فضة فهو محرم وفيه الزكاة وقال أصحاب الرأي : يباح لأنه تابع للمباح فيتبعه في الاباحة
ولنا أن هذا اسراف ويفضي فعله إلى الخيلاء وكسر قلوب الفقراء فحرم كاتخاذ الآنية وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن التختم بخاتم الذهب للرجل فتمويه السقف أولى وإن صار التمويه الذي في السقف مستهلكا لا يجتمع منه شيء لم تحرم استدامته لأنه لا فائدة في أتلافه وإزالته ولا زكاة فيه لأن ماليته ذهبت وإن لم تذهب ماليته ولم يكن مستهلكا حرمت استدامته وقد بلغنا أن عمر بن عبد العزيز لما ولي أراد جمع ما في مسجد دمشق مما موه به من الذهب فقيل له إنه لا يجتمع منه شيء فتركه ولا يجوز تحلية المصاحق ولا المحاريب ولا اتخاذ قناديل من الذهب والفضة لأنها بمنزلة الآنية وإن وقفها على مسجد أو نحوه لم يصح لأنه ليس بر ولا معروف ويكون ذلك بمنزلة الصدقة فيكسر ويصرف في مصلحة المسجد وعمارته وكذلك إن حبس الرجل فرسا له لجام مفضض وقد قال أحمد في الرجل يقف فرسا في سبيل الله ومعه لجام مفضض فهو على ما وقفه وإن بيعت الفضة من السرج واللجام جعلت في وقف مثله فهو أحب إلي لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشتري بذلك سرجا ولجاما فيكون أنفع للمسلمين قيل فتباع الفضة وينفق على الفرس ؟ قال نعم وهذا يدل على إباحة حلية السرج واللجام بالفضة لولا ذلك لما قال هو على ما وقف وهذا لأن العادة جارية به فأشبه حلية المنطقة واذا قلنا بتحريمها فصار بحيث لا يجتمع منه شيء لم يحرم استدامته كقولنا في تمويه السقف وأباح القاضي علاقة المصحف ذهبا أو فضة للنساء خاصة وليس بجيد لأن حلية المرأة ما لبسته وتحلت به في بدنها أو ثيابها وما عداه فحكمه حكم الأواني لا يباح للنساء منه إلا ما أبيح للرجال ولو أبيح لها ذلك لأبيح علاقة الأواني والادراج ونحوهما ذكره ابن عقيل !
فصل : وكل ما يحرم اتخاذه ففيه الزكاة اذا كان نصابا أو بلغ بضمه إلى ما عنده نصابا على ما ذكرناه

مسألة وفصول : صفة زكاة الركاز ومقدارها ومصرفها
مسألة : قال : وما كان من الركاز وهو دفن الجاهلية قل أو كثر ففيه الخمس لأهل الصدقات وباقيه له
الدفن بكسر الدال المدفون والركاز المدفون في الأرض واشتقاقه من ركز يركز مثل غرز يغرز اذا خفي يقال ركز الرمح اذا غرز أسفله في الأرض ومنه الركز وهو الصوت الخفي قال الله تعالى : { أو تسمع لهم ركزا } والأصل في صدقة الركاز ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ العجماء جبار وفي الركاز الخمس ] متفق عليه وهو أيضا مجمع عليه قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا خالف هذا الحديث الا الحسن فانه فرق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب فقال فيما يوجد في أرض الحرب الخمس وفيما يوجد في أرض العرب الزكاة
فصل : وأوجب الخمس في الجميع الزهري و الشافعي و أبي حنيفة وأصحابه و أبو ثور و ابن المنذر وغيرهم وهذه المسألة تشتمل على خمسة فصول
الفصل الأول : ان الركاز الذي يتعلق به وجوب الخمس ما كان من دفن الجاهلية هذا قول الحسن و الشعبي و مالك و الشافعي و أبي ثور ويعتبر ذلك بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك فان كان عليه علامة الاسلام أو اسم النبي صلى الله عليه و سلم أو أحد من خلفاء المسلمين أو وال لهم أو آية من قرآن أو نحو ذلك فهو لقطة لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه وإن كان على بعضه علامة الاسلام وعلى بعضه علامة الكفر فكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن منصور لأن الظاهر أنه صار الى مسلم ولم يعلم زواله عن ملك المسلمين فأشبه ما على جميعه علامة المسلمين
الفصل الثاني : في موضعه ولا يخلو من أربعة أقسام
أحدها أن يجده في موات أو ما لا يعلم له مالك مثل الارض التي يوجد فيها آثار الملك كالأبنية القديمة والتلول وجدران الجاهلية وقبورهم فهذا فيه الخمس بغير خلاف سوى ما ذكرناه ولو وجده في هذه الأرض على وجهها أو في طريق غير مسلوك أو قرية خراب فهو كذلك في الحكم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن اللقطة فقال : ماكان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة فان جاء صاحبها وإلا فلك وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس ] رواه النسائي
القسم الثاني : أن يجده في ملكه المنتقل اليه فهو له في أحد الوجهين لأنه مال كافر مظهور عليه في الاسلام فكان لمن ظهر عليه كالغنائم ولأن الركاز لا يملك بملك الأرض لأنه مودع فيها وانما يملك بالظهور عليه وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه والرواية الثانية هو للمالك قبله إن اعترف به وان لم يعترف به فهو للذي قبله كذلك الى أول مالك وهذا مذهب الشافعي لأنه كانت يده على الدار فكانت على ما فيها وإن انتقلت الدار بالميراث حكم بأنه ميراث فان اتفق الورثة على أنه لم يكن لموروثهم فهو لأول مالك فان لم يعرف أول مالك فهو كالمال الضائع الذي لا يعرف له مالك والاول أصح ان شاء الله تعالى لأن الركاز لا يملك بملك الدار لأنه ليس من أجزائها وانما هو مودع فيها فينزل منزلة المباحات من الحشيش والحطب والصيد يجده في أرض غيره فيأخذه فيكون أحق به لكن إن ادعى المالك الذي انتقل الملك عنه أنه له فالقول قوله لأن يده كانت عليه لكونها على محله وإن لم يدعه فهو لواجده وان اختلف الورثة فأنكر بعضهم أن يكون لموروثهم ولم ينكره الباقون فحكم من أنكر في نصيبه حكم المالك الذي لم يعترف به وحكم المعترفين حكم المالك المعترف
القسم الثالث : أن يجده في ملك آدمي مسلم معصوم أو ذمي فعن أحمد ما يدل على أنه لصاحب الدار فانه قال فيمن استأجر حفارا ليحفر في داره فأصاب في الدار كنزا عاديا فهو لصاحب الدار وهذا قول ابي حنيفة و محمد بن الحسن ونقل عن أحمد ما يدل على أنه لواجده لأنه قال في مسألة من استأجر أجيرا ليحفر له في داره فأصاب في الدار كنزا فهو للأجير نقل ذلك عنه محمد بن يحيى الكحال قال القاضي هو الصحيح وهذا يدل على أن الركاز لواجده وهو قول الحسن بن صالح و أبي ثور واستحسنه أبو يوسف وذلك لأن الكنز لا يملك بملك الدار على ما ذكرنا في القسم الذي قبله فيكون لمن وجده لكن إن ادعاه المالك فالقول قوله لأن يده عليه بكونها على محله وان لم يدعه فهو لواجده وقا ل الشافعي : هو لمالك الدار إن اعترف به وان لم يعترف به فهو لأول مالك لأنه في يده ويخرج لنا مثل ذلك لما ذكرنا من الرواية في القسم الذي قبله وإن استأجر حفارا ليحفر له طلبا لكنز يجده فوجده فلا شيء للأجير ويكون الواجد له هو المستأجر لأنه استأجره لذلك فأشبه ما لو استأجره ليحتش له أو يصطاد فان الحاصل من ذلك للمستأجر دون الأجير وان استأجره لأمر غير طلب الركاز فالواجد له هو الأجير وهكذا قال الأوزاعي : اذا استأجرت أجيرا ليحفر لي في داري فوجد كنزا فهو له وان قلت استأجرتك لتحفر لي ههنا رجاء أن أجد كنزا فسميت له فله أجره ولي ما يوجد
فصل : وإن اكترى دارا فوجد فيها ركازا فهو لواجده في أحد الوجهين والآخر هو للمالك بناء على الروايتين فيمن وجد ركازا في ملك انتقل اليه وان اختلفا فقال كل واحد منهما هذا لي فعلى وجهين : أحدهما القول قول المالك لأن الدفن تابع للأرض والثاني القول قول المكتري لأن هذا مودع في الأرض وليس منها فكان القول قول من يده عليها كالقماش
القسم الرابع : أن يجده في أرض الحرب فان لم يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين فهو غنيمة له وإن قدر عليه بنفسه فهو لواجده حكمه حكم ما لو وجده في موات في أرض المسلمين وقال أبو حنيفة و الشافعي : إن عرف مالك الأرض وكان حربيا فهو غنيمة أيضا لأنه في حرز مالك معين فأشبه ما لو أخذه من بيت أو خزانة
ولنا أنه ليس لموضعه مالك محترم أشبه ما لو لم يعرف مالكه ويخرج لنا مثل قولهم بناء على قولنا إن الركاز في دابر الاسلام يكون لمالك الأرض
الفصل الثالث : في صفة الركاز الذي فيه الخمس وهو كل ما كان مالا على اختلاف أنواعه من الذهب والفضة الحديد والرصاص والصفر والنحاس والآنية وغير ذلك وهو قول إسحاق و أبي عبيد و ابن المنذر وأصحاب الرأي وإحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي والقول الآخر لا تجب إلا في الأثمان
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ وفي الركاز الخمس ] ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب فيه الخمس مع اختلاف أنواعه كاالغنيمة اذا ثبت هذا فان الخمس يجب في قليله وكثيره في قول امامنا و مالك و اسحق وأصحاب الرأي و الشافعي في القديم وقال في الجديد يعتبر النصاب فيه لأنه حق مال يجب فيما استخرج من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالمعدن والزرع
ولنا عموم الحديث ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له نصاب كالغنيمة ولأنه مال كافر مظهور عليه في الاسلام فأشبه الغنيمة والمعدن والزرع يحتاج الى عمل ونوائب فاعتبر فيه النصاب تخفيفا بخلاف الركاز ولأن الواجب فيهما مواساة فاعتبر النصاب ليبلغ حدا يحتمل المواساة منه بخلاف مسألتنا
الفصل الرابع : في قدر الواجب في الركاز ومصرفه أما قدره فهو الخمس لما قدمنا من الحديث والاجماع وأما مصرفه فاختلفت الرواية عن أحمد فيه مع ما فيه من اختلاف أهل العلم فقال الخرقي : هو لأهل الصدقات ونص عليه أحمد في رواية حنبل فقال : يعطي الخمس من الركاز على مكانه وان تصدق به على المساكين أجزأه وهذا قول الشافعي لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين حكاه الامام أحمد وقال : حدثنا سعيد ثنا سفيان عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن رجل من قومه يقال له ابن حممة قال : سقطت على جرة من دير قديم بالكوفة عند جبانة بشر فيها أربعة آلاف درهم فذهبت بها الى علي رضي الله عنه فقال : اقسمها خمسة أخماس فقسمتها فأخذ علي منها خمسا وأعطاني أربعة أخماس فلما أدبرت دعاني فقال : في جيرانك فقراء ومساكين ؟ قلت نعم قال فخذها فاقسميها بينهم ولأنه مستفاد من الأرض أشبه المعدن والزرع والرواية الثانية مصرفه مصرف الفيء نقله محمد بن الحكم عن أحمد وهذه الرواية أصح وأقيس على مذهبه وبه قال أبو حنيفة و المزني : لما روى أبو عبيد عن هشيم عن مجالد عن الشعبي أن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارجا من المدينة فأتى بها عمر بن الخطاب فأخذ منها الخمس مائتي دينار ودفع الى الرجل بقيتها وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين الى أن فضل منها فضلة فقال أين صاحب الدنانير ؟ فقام اليه فقال عمر : خذ هذه الدنانير فهي لك ولو كانت زكاة خص بها أهلها ولم يرده على واجده ولأنه يجب على الذمي والزكاة لا تجب عليه ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر أشبه خمس الغنيمة !
الفصل الخامس : فيمن يجب عليه الخمس وهو كل من وجده من مسلم وذمي وحر وعبد ومكاتب وكبير وصغير وعاقل ومجنون إلا أن الواجد له اذا كان عبدا فهو لسيده لأنه كسب مالا فأشبه الاحتشاش والاصطياد وإن كان مكاتبا ملكه وعليه خمسه لأنه بمنزلة كسبه وإن كان صبيا أو مجنونا فهو لهما ويخرج عنهما وليهما وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على الذمي في الركاز يجده الخمس قاله مالك وأهل المدينة و الثوري و الأوزاعي وأهل العراق وأصحاب الرأي وغيرهم وقال الشافعي : لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة وحكي عنه في الصبي والمرأة أنهما لا يملكان الركاز وقال الثوري و الأوزاعي و أبو عبيد اذا كان الواجد له عبدا يرضخ له منه ولا يعطاه كله
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ وفي الركاز الخمس ] فانه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز يوجد وبمفهومه على ان باقيه لواجده من كان ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان فيه الخمس على من وجده وباقيه لواجده كالغنيمة ولأنه اكتساب مال فكان لمكتسبه إن كان حرا أو لسيده إن كان عبدا كالاحتشاش والاصطياد ويتخرج لنا أن لا يجب الخمس إلا على من تجب عليه الزكاة بناء على قولنا أنه زكاة والأول أصح
فصل : ويجوز أن يتولى الانسان تفرقة الخمس بنفسه وبه قال أصحاب الرأي و ابن المنذر لأن عليا أمر واجد الكنز بتفرقته على المساكين قاله الامام أحمد : ولأنه أدى الحق الى مستحقه فبرىء منه كما لو فرق الزكاة وأدى الدين الى ربه ويتخرج أن لا يجوز ذلك لأن الصحيح أنه فيء فلم يملك تفرقته بنفسه كخمس الغنيمة وبهذا قال أبو ثور قال : وان فعل ضمنه الامام قال القاضي : وليس للإمام رد خمس الركاز لأنه حق مال فلم يجز رده على من وجب عليه كالزكاة و خمس الغنيمة وقال ابن عقيل يجوز لأنه روي عن عمر أنه رد بعضه على واجده ولأنه فيء فجاز رده أو رد بعضه على واجده كخراج الأرض وهذا قول أبي حنيفة

مسألة وفصول : زكاة المعادن والقدر الواجب فيه
مسألة : قال : واذا أخرج من المعادن من الذهب عشرين مثقالا أو من الورق مائتي درهم أو قيمة ذلك من الزئبق والرصاص والصفر أو غير ذلك مما يستخرج من الأرض فعليه الزكاة من وقته
اشتقاق المعدن من عدن في المكان يعدن اذا أقام به ومنه سميت جنة عدن لأنها دار إقامة وخلود قال أحمد : المعادن هي التي تستنبط ليس هو شيء دفن والكلام في هذه المسألة في فصول أربعة :
أحدها : في صفة المعدن الذي يتعلق به وجوب الزكاة وهو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة كالذي ذكره الخرقي ونحوه من الحديد والياقوت والزبرجد والبلور والعقيق والسبج والكحل والزاج والزرنيخ والمغرة وكذلك المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت ونحو ذلك وقال مالك و الشافعي لا تتعلق الزكاة إلا بالذهب والفضة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في حجر ] ولأنه مال يقوم بالذهب والفضة مستفاد من الأرض أشبه الطين الأحمر وقال أبو حنيفة في احدى الروايتين عنه تتعلق الزكاة بكل ما ينطبع كالرصاص والحديد والنحاس دون غيره
ولنا عموم قوله تعالى : { ومما أخرجنا لكم من الأرض } ولأنه معدن فتعلقت الزكاة بالخارج منه كالأثمان ولأنه مال لو غنمه وجب عليه خمسه فاذا أخرجه من معدن وجبت الزكاة كالذهب وأما الطين فليس بمعدن لأنه تراب والمعدن ما كان في الأرض من غير جنسها
الفصل الثاني : في قدر الواجب وصفته وقدر الواجب فيه ربع العشر وصفته أنه زكاة وهذا قول عمر بن عبد العزيز و مالك وقال أبو حنيفة : الواجب فيه الخمس وهو فيء واختاره أبو عبيد وقال الشافعي هو زكاة واختلف قوله في قدره كالمذهبين واحتج من أوجب الخمس بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس ] رواه النسائي و الجوزجاني وغيرهما وفي رواية : [ ما كان في الخراب ففيها وفي الركاز الخمس ] وروى سعيد و الجوزجاني باسنادهما عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الركاز والذهب الذي ينبت من الأرض ] وفي حديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : وفي الركاز الخمس قيل يا رسول الله وما الركاز ؟ قال : هوة لذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض ] وهذا نص وفي حديث عنه عليه السلام أنه قال : [ وفي السيوب الخمس ] قال : والسيوب عروق الذهب والفضة التي تحت الأرض ولأنه مال مظهور عليه في الاسلام أشبه الركاز
ولنا ما روى أبو عبيد باسناده عن ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية ] في ناحية الفرع قال : فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة الى اليوم وقد أسنده عبد الله بن كثير بن عوف الى النبي صلى الله عليه و سلم عن أبيه عن جده ورواه الدراوردي عن ربيعة بن الحارث بن بلال بن الحارث المزني ان النبي صلى الله عليه و سلم أخذ منه زكاة المعادن القبلية قال أبو عبيد : القبلية بلاد معروفة بالحجاز ولأنه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى فكان زكاة كالواجب في الأثمان التي كانت مملوكة له وحديثهم الأول لا يتناول محل النزاع لأن النبي صلى الله عليه و سلم انما ذكر ذلك في جواب سؤاله عن اللقطة وهذا ليس بلقطة ولا يتناوله اسمها فلا يكون متناولا لمحل النزاع والحديث الثاني يرويه عبد الله بن سعد وهو ضعيف وسائر أحاديثهم لا يعرف صحتها ولا هي مذكورة في المسانيد والدواوين ثم هي متروكة الظاهر فان هذا ليس هو المسمى بالركاز والسيوب هو الركاز لأنه مشتق من السيب وهو العطاء الجزيل
الفصل الثالث : في نصاب المعادن : وهو ما يبلغ من الذهب عشرين مثقالا ومن الفضة مائتي درهم أو قيمة ذلك من غيرهما وهذا مذهب الشافعي وأوجب أبو حنيفة الخمس في قليله وكثيره من غير اعتبار نصاب بناء على أنه ركاز لعموم الأحاديث التي احتجوا بها عليه ولأنه لا يعتبر له حول فلم يعتبر له نصاب كالركاز
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ ليس فيما دون خمس أواق صدقة ] وقوله : [ ليس في تسعين ومائة شيء ] وقوله عليه السلام : [ ليس عليكم في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالا ] وقد بينا ان هذا ليس بركاز وأنه مفارق للركاز من حيث أن الركاز مال كافر أخذ في الاسلام فأشبه الغنيمة وهذا وجب مواساة وشكرا لنعمة الغني فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات وانما لم يعتبر له الحول لحصوله دفعة واحدة فأشبه الزرع والثمار اذا ثبت هذا فانه يعتبر إخراج النصاب دفعة واحدة أو دفعات لا يترك العمل بينهن ترك اهمال فان خرج دون النصاب ثم ترك العمل مهملا له ثم أخرج دون النصاب فلا زكاة فيهما وإن بلغا بمجموعهما نصابا وإن بلغ أحدهما نصابأ دون الآخر زكى النصاب ولا زكاة في الآخر وفيما زاد على النصاب بحسابه فأما ترك العمل ليلا أو للاستراحة أو لعذر من مرض أو لاصلاح الأداة أو إباق عبيده ونحوه فلا يقطع حكم العمل ويضم ما خرج في العملين بعضه الى بعض في اكمال النصاب وكذلك ان كان مشتغلا بالعمل فخرج بين المعدنين تراب لا شيء فيه وان اشتمل المعدن على أجناس كمعدن فيه الذهب والفضة فذكر القاضي : انه لا يضم أحدهما الى الآخر في تكميل النصاب وانه يعتبر النصاب في الجنس بانفراده لأنه أجناس فلا يكمل نصاب أحدها بالآخر كغير المعدن والصواب ان شاء الله أنه إن كان المعدن يشتمل على ذهب وفضة ففي ضم أحدهما الى الآخر وجهان بناء على الروايتين في ضم أحدهما الى الآخر في غير المعدن وان كان فيه أجناس من غير الذهب والفضة ضم بعضها الى بعض لأن الواجب في قيمتها والقيمة واحدة فأشبهت عروض التجارة وان كان فيها أحد النقدين وجنس آخر ضم أحدهما الى الآخر كما تضم العروض الى الأثمان فان استخرج نصابا من معدنين وجبت الزكاة فيه لأنه مال رجل واحد فأشبه الزرع في مكانين
الفصل الرابع : في وقت الوجوب وتجب الزكاة فيه حين يتناوله ويكمل نصابه ولا يعتبر له حول وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال اسحاق و ابن المنذر : لا شيء في المعدن حتى يحول عليه الحول لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ]
ولنا أنه مال مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حول كالزرع والثمار والركاز ولأن الحول انما يعتبر في غير هذا لتكميل النماء وهو يتكامل نماؤه دفعة واحدة فلا يعتبر له حول كالزروع والخبر مخصوص بالزرع والثمر فيخص محل النزاع بالقياس عليه اذا ثبت هذا فلا يجوز اخراج زكاته إلا بعد سبكه وتصفيته كعشر الحب فان أخرج ربع عشر ترابه قبل تصفيته وجب رده إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا والقول في قدر المقبوض قول الآخذ لأنه غارم فان صفاه الآخذ وكان قدر الزكاة أجزأ وإن زاد رد الزيادة إلا أن يسمح له المخرج وإن نقص فعلى المخرج وما أنفقه الآخذ على تصفيته فهو من ماله لا يرجع به على المالك ولا يحتسب المالك ما أنفقه على المعدن في استخراجه من المعدن ولا في تصفيته وقال أبو حنيفة : لا تلزمه المؤنة من حقه وشبهه بالغنيمة وبناه على أصله أن هذا ركاز فيه الخمس وقد مضى الكلام في ذلك وقد ذكرنا أو الواجب في هذا زكاة فلا يحتسب بمؤنة استخراجه فتصفيته كالحب وإن كان ذلك دينا عليه احتسب به كما يحتسب بما أنفق على الزرع

فصل : زكاة ما يستخرج من البحر
فصل : ولا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه في ظاهر قول الخرقي واختيار أبي بكر وروي نحو ذلك عن ابن عباس وبه قال عمر بن عبد العزيز و عطاء و مالك و الثوري و ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و الشافعي و أبو حنيفة و محمد و أبو ثور و أبو عبيد وعن أحمد رواية أخرى أن فيه الزكاة لأنه خارج من معدن فأشبه الخارج من معدن البر ويحكى عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ من العنبر الخمس وهو قول الحسن و الزهري وزاد الزهري في اللؤلؤ يخرج من البحر
ولنا أن ابن عباس قال : ليس في العنبر شيء انما هو شيء ألقاه البحر وعن جابر نحوه رواهما أبو عبيد ولأنه قد كان يخرج على عهد رسول الله عليه وسلم وخلفاؤه فلم يأت فيه سنه عنه ولا عن أحد من خلفائه من وجه يصح ولأن الأصل عدم الوجوب فيه ولا يصح قياسه على معدن البر لأن العنبر إنما يلقيه البحر فيوجد ملقى في البر على الأرض من غير تعب فأشبه المباحات المأخوذة من البر كالمن والزنجبيل وغيرهما وأما السمك فلا شيء فيه بحال في قول أهل العلم كافة إلا شيء يروى عن عمر بن عبد العزيز رواه أبو عبيد عنه وقال : ليس الناس على هذا ولا نعلم أحدا يعمل به وقد روي ذلك عن أحمد أيضا
والصحيح أن هذا لا شيء فيه لأنه صيد فلم يجب فيه زكاة كصيد البر ولأنه لا نص ولا إجماع على الوجوب فيه ولا يصح قياسه على ما فيه الزكاة فلا وجه لايجابها فيه

فصلان : ملك المعدن بملك الأرض وجواز بيع المعدن بجنسه
فصل : والمعادن الجامدة تملك بملك الأرض التي هي فيها لأنها جزء من أجزاء الأرض فهي كالتراب والأحجار النابتة بخلاف الركاز فانه ليس من أجزاء الأرض وانما هو مودع فيها وقد روى أبو عبيد باسناده عن عكرمة مولى بلال بن الحارث المزني قال : أقطع رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا أرض كذا من مكان كذا إلى كذا وما كان فيها من جبل أو معدن قال : فباع بنو بلال من عمر بن عبد العزيز أرضا فخرج فيها معدنان فقالا : انما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعدن وجاءوا بكتاب القطيعة التي قطعها رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبيهم في جريدة قال فجعل عمر يمسحها على عينه وقال لقيمه : أنظر ما استخرجت منها وما أنفقت عليها فقاصهم بالنفقة ورد عليهم الفضل فعلى هذا ما يجده في ملك أو في موات فهو أحق به وإن سبق اثنان إلى معدن في موات فالسابق أولى به ما دام يعمل فاذا تركه جاز لغيره العمل فيه وما يجده في مملوك يعرف مالكه فهو لمالك المكان فأما المعادن الجارية فهي مباحة على كل حال إلا أنه يكره له دخول ملك غيره إلا باذنه وقد روي أنها تملك بملك الأرض التي هي فيها لأنها من نمائها وتوابعها فكانت لمالك الأرض كفروع الشجر المملوك وثمرته
فصل : ويجوز بيع تراب المعدن والصاغة بغير جنسه ولا يجوز بجنسه إن كان مما يجري فيه الربا لأنه يؤدي إلى الربا والزكاة على البائع لأنها وجبت في يده كما لو باع الثمرة بعد بدو صلاحها وقد روى أبو عبيد في الأموال أن أبا الحارث المزني اشترى تراب معدن بمائة شاة متبع فاستخرج منه ثمن ألف شاة فقال له البائع رد علي البيع فقال لا أفعل فقال لآتين عليا فلآتين عليك يعني أسعى بك فأتى علي بن أبي طالب فقال : ان أبا الحارث أصاب معدنا فأتاه علي فقال : أين الركاز الذي أصبت فقال ما أصبت ركازا انما أصابه هذا فاشتريته منه بمائة متبع فقال له علي ما أرى الخمس الا عليك قال فخمس المائة شاة اذا ثبت هذا فالواجب عليه زكاة المعدن لا زكاة الثمن لأن الزكاة انما تعلقت بعين المعدن أو بقيمته إن لم يكن من جنس الأثمان فأشبه ما لو باع السائمة بعد حولها أو الزرع والثمرة بعد بدو صلاحها

فصل : زكاة أجرة الدار
فصل : ومن أجر داره فقبض كراها فلا زكاة عليه فيه حتى يحول عليه الحول وعن أحمد أنه يزكيه اذا استفاده والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] ولأنه مال مستفاد بعقد معاوضة فأشبه ثمن المبيع وكلام أحمد في الرواية الأخرى محمول على من أجر داره سنة وقبض أجرتها في آخرها فأوجب عليه زكاتها لأنه قد ملكها من أول الحول فصارت كسائر الديون اذا قبضها بعد حول زكاها حين يقبضها فانه قد صرح بذلك في بعض الروايات عنه فيحمل مطلق كلامه على مقيده

باب زكاة التجارة مسألة وفصول : تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة إذا حال عليه الحول وبلغ النصاب
تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة اذا حال عليها الحول روي ذلك عن عمر وابنه و ابن عباس وبه قال الفقهاء السبعة و الحسن و جابر بن زيد و ميمون بن مهران و طاوس و النخعي و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و إسحق وأصحاب الرأي وحكي عن مالك و داود أنه لا زكاة فيها لأن النبي صلى اللله عليه وسلم قال : [ عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ]
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع وروى الدارقطني [ عن أبي ذر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : في الابل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته ] قاله بالزاي ولا خلاف أنها لا تجب في عينه وثبت أنها في قيمته وعن أبي عمرو ابن حماس عن أبيه قال : أمرني عمر فقال : أد زكاة مالك ؟ فقلت مالي مال إلا جعاب وأدم فقال قومها ثم أد زكاتها رواه الامام أحمد و أبو عبيد وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعا وخبرهم المراد به زكاة العين لا زكاة القيمة بدليل ما ذكرنا على أن خبرهم عام وخبرنا خاص فيجب تقديمه
مسألة : قال : والعروض اذا كانت لتجارة قومها اذا حال عليها الحول وزكاها
العروض جمع عرض وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان والعقار وسائر المال فمن ملك عرضا للتجارة فحال عليه حول هو نصاب قومه في آخر الحول فما بلغ أخرج زكاته وهو ربع عشر قيمته ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اعتبار الحول وقد دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] اذا ثبت هذا فان الزكاة تجب فيه في كل حول وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحق و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال مالك لا يزكيه إلا لحول واحد إلا أن يكون مدبرا لأن الحول الثاني لم يكون المال عينا في أحد طرفيه فلم تجب فيه الزكاة كالحول الأول اذا لم يكن في أوله عينا
ولنا أنه مال تجب الزكاة فيه في الحول الأول لم ينقص عن النصاب ولم تتبدل صفته فوجبت زكاته في الحول الثاني كما لو نص في أوله ولا نسلم أنه اذا لم يكن في أوله عينا لا تجب الزكاة فيه واذا اشترى عرضا للتجارة تعرض للقنية جرى في حول الزكاة من حين اشتراه
فصل : ويخرج الزكاة من قيمة العروص دون عينها وهذا أحد قولي الشافعي وقال في آخر هو مخير بين الاخراج من قيمتها وبين الاخراج من عينها وهذا قول أبي حنيفة لأنها مال تجب فيه الزكاة فجاز إخراجها من عينه كسائر الأموال
ولنا أن النصاب معتبر بالقيمة فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال ولا نسلم أن الزكاة تجب في المال وانما وجبت في قيمته
فصل : ولا يصير العرض للتجارة إلا بشرطين أحدهما أن يملكه بفعله كالبيع والنكاح والخلع وقبول الهبة والوصية والغنيمة واكتساب المباحان لأن مالا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم ولا فرق بين أن يملكه بعوض أو بغير عوض ذكر ذلك أبو الخطاب و ابن عقيل لأنه ملكه بفعله أشبه الموروث والثاني أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة فان لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة وإن نواه بعد ذلك وإن ملكه بأرث وقصد أنه للتجارة لم يصر للتجارة لأن الأصل القنية والتجارة عارض فلم يصر اليها بمجرد النية كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم بدون الفعل وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية لقول سمرة أمرنا رسول الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله ولا أن يكون في مقابلة عوض بل متى نوى به التجارة صار للتجارة
مسألة : قال : ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها وقيمتها دون مائتي درهم فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول من يوم ساوت مائتي درهم
وجملة ذلك أنه يعتبر الحول في وجوب الزكاة في مال التجارة ولا ينعقد الحول حتى يبلغ نصابا فلو ملك سلعة قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول وهي كذلك ثم زادت قيمة النماء بها أو تغيرت الاسعار فبلغت نصابا أو باعها بنصاب أو ملك في أثناء الحول عرضا آخر أو أثمانا تم بها النصاب ابتدأ الحول من حينئذ فلا يحتسب بما مضى هذا قول الثوري وأهل العراق و الشافعي و إسحق و أبي عبيد و أبي ثور و ابن المنذر ولو ملك للتجارة نصابا فنقص عن النصاب في أثناء الحول ثم زاد حتى بلغ نصابا استأنف الحول عليه لكونه انقطع بنقصه في أثنائه وقال مالك ينعقد الحول على ما دون النصاب فاذا كان في آخره نصابا زكاه وقال أبو حنيفة يعتبر في طرفي الحول دون وسطه لأن التقويم يسبق في جميع الحول فعفي عنه إلا في آخره فصار الاعتبار به ولأنه يحتاج الى أن تعرف قيمته في كل وقت ليعلم أن قيمته فيه تبلغ نصابا وذلك يشق
ولنا أنه مال يعتبر له الحول والنصاب فوجب اعتبار كمال النصاب في جميع الحول كسائر الأموال التي يعتبر لها ذلك وقولهم يشق التقويم لا يصح فان غير المقارب للنصاب لا يحتاج الى تقويم لظهور معرفته والمقارب للنصاب إن سهل عليه التقويم وإلا فله الأداء والأخذ بالاحتياط كالمستفاد في اثناء الحول إن سهل عليه ضبط موافيت التملك وإلا فله تعجيل زكاته مع الأصل
فصل : واذا ملك نصبا للتجارة في أوقات متفرقة لم يضم بعضها الى بعض لما بينا من أن المستفاد لا يضم الى ما عنده في الحول وإن كان العرض الاول ليس بنصاب وكمل بالثاني نصابا فحولهما من حين ملك الثاني ونماؤهما تابع لهما ولا يضم الثالث اليهما بل ابتداء الحول من حين ملكه وتجب فيه الزكاة وإن كانت دون النصاب لأن قبله نصابا ؟ ولهذا يخرج عنه بالحصة ونماؤه تابع له
مسألة : قال : وتقوم السلع إذا حال الحول بالأحظ للمساكين من عين أو ورق ولا يعتبر ما اشتريت به
يعني اذا حال الحول على العروض وقيمتها بالفضة نصاب ولا تبلغ نصابا بالذهب قومناها بالفضة ليحصل للفقراء منها حظ ولو كانت قيمتها بالفضة دون ال نصاب وبالذهب تبلغ نصابا قومناها بالذهب لتجب الزكاة فيها ولا فرق بين أن يكون اشتراؤها بذهب أو فضة أو عروض وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : تقوم بما اشتراه من ذهب أو فضة لأن نصاب العروض مبني على ما اشتراه به فيجب أن تجب الزكاة فيه وتعتبر به كما لو لم يشتر به شيئا ولنا أن قيمته بلغت نصابا فتجب الزكاة فيه كما لو اشتراه بعرض وفي البلد نقدان مستعملان تبلغ قيمة العروض بأحدهما نصابا ولأن تقويمه لحظ المساكين فيعتبر ما لهم فيه الحظ كالأصل وأما اذا لم يشتر بالنقد شيئا فان الزكاة في عينه لا في قيمته بخلاف العرض إلا أن يكون النقد معدا للتجارة فينبغي أن تجب الزكاة فيه اذا بلغت قيمته بالنقد الآخر نصابا وإن لم تبلغ بعينه نصابا لأنه مال تجارة بلغت قيمته نصابا فوجبت زكاته كالعروض فأما اذا بلغت قيمة العروض نصابا بكل واحد من الثمنين قومه بما شاء منهما وأخرج ربع عشر قيمته من أي النقدين شاء لكن الاولى أن يخرج من النقد المستعمل في البلد لأنه أحظ للمساكين وإن كانا مستعملين أخرج من الغالب في الاستعمال لذلك فان تساويا أخرج من أيهما شاء واذا باع العروض بنقد وحال الحول عليه قوم التنقد دون العروض لأنه انما يقوم ما حال عليه الحول دون غيره
فصل : واذا اشترى عرضا للتجارة بنصاب من الأثمان أو بما قيمته نصاب من عروض التجارة بنى حول الثاني على الحول الاول لأن مال التجارة انما تتعلق الزكاة بقيمته وقيمته هي الأثمان نفسها وكما اذا كانت ظاهرة فخفيت فأشبه ما لو كان له نصاب فأفرضه لم ينقطع حوله بذلك وهكذا الحكم اذا باع العرض بنصاب أو بعرض قيمته نصاب لأن القيمة كانت خفية فظهرت أو بقيت على خفائها فأشبه ما لو كان له قرض فاستوفاه أو أقرضه انسانا آخر ولأن النماء في الغالب في التجارة انما يحصل بالتقليب ولو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب الذي وجبت فيه الزكاة لأجله يمنعها لأن الزكاة لاتجب إلا في مال نام وإن قصد بالأثمان غير التجارة لم ينقطع الحول أيضا وقال الشافعي : ينقطع قولا واحدا لأنه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع به كالسائمة
ولنا أنه من جنس القيمة التي تتعلق الزكاة بها فلم ينقطع الحول ببيعها به كما لو قصد به التجارة وفارق السائمة فانها من غير جنس القيمة فأما إن أبدل عرض التجارة بما تجب الزكاة في عينه كالسائمة ولم ينو به التجارة لم يبن حول أحدهما على الآخر لأنهما مختلفان وإن أبدله بعرض للقنية بطل الحول وان اشترى عرض التجارة بعرض القنية انعقد عليه الحول من حين ملكه إن كان نصابا لأنه اشتراه بما لا زكاة فيه فلم يمكن بناء الحول عليه وإن اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله لأنهما مختلفان وان اشتراه بما دون النصاب من الاثمان أو من عروض التجارة انعقد عليه الحول من حين تصير قيمته نصابا لأن مضي الحول على نصاب كامل شرط لوجوب الزكاة
فصل : واذا اشترى للتجارة نصابا من السائمة فحال الحول والسوم ونية التجارة موجودان زكاه زكاة التجارة وبهذا قال أبو حنيفة و الثوري وقال مالك و الشافعي في الجديد يزكيها زكاة السوم لأنها أقوى لانعقاد الاجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى
ولنا أن زكاة التجارة أحظ للمساكين لأنها تجب فيما زاد بالحساب ولأن الزائد عن النصاب قد وجد سبب وجوب زكاته فيجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصابا وإن سبق وقت وجوب زكاة السوم وقت وجوب زكاة التجارة مثل أن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم ثم صارت قيمتها في نصف الحول مائتي درهم فقال القاضي : يتأخر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة لأنه أنفع للفقراء وإلا يفضي التأخير الى سقوطها لأن الزكاة تجب فيها اذا تم حول التجارة ويحتمل أن تجب زكاة العين عند تمام حولها لوجود مقتضيها من غير معارض فاذا تم حول التجارة وجبت زكاة الزائد عن النصاب لوجود مقتضيها لأن هذا مال للتجارة وحال الحول عليه وهو نصاب ولا يمكن ايجاب الزكاتين بكمالهما لأنه يفضي الى ايجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد فلم يجز ذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تثني في الصدقة ] وفارق هذا زكاة التجارة وزكاة الفطر فانهما يجتمعان لأنهما بسببين فان زكاة الفطر تجب عن بدن الانسان المسلم طهرة له وزكاة التجارة تجب عن قيمته شكرا لنعمة الغنى ومواساة للفقراء فأما إن وجد نصاب السوم دون نصاب التجارة مثل أن يملك ثلاثين من البقر قيمتها مائة وخمسون درهما وحال الحول عليها كذلك فان زكاة العين تجب بغير خلاف لأنه لم يوجد لها معارض فوجبت كما لو لم تكن للتجارة

فصول : اجتماع زكاة الأرض والنحل والماشية وتنعقد الزكاة بمجرد النية
فصل : وان اشترى نخلا أو أرضا للتجارة فزرعت الأرض وأثمرت النخل فاتفق حولاهما بأن يكون بدو الصلاح في الثمرة واشتداد الحب عند تمام الحول وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردها نصابا للتجارة فانه يزكي الثمرة والحب زكاة العشر ويزكي الأصل زكاة القيمة وهذا قول أبي حنيفة و أبي ثور وقال القاضي وأصحابه : يزكي الجميع زكاة القيمة وذكر أن أحمد أومأ اليه لأنه مال تجارة فتجب فيه زكاة التجارة كالسائمة
ولنا أن زكاة العشر أحظ للفقراء فان العشر أحظ من ربع العشر فيجب تقديم ما فيه الحظ ولأن الزيادة على ربع العشر قد وجد سبب وجوبها فتجب وفارق السائمة المعدة للتجارة فان زكاة السوم أقل من زكاة التجارة
مسألة : قال : واذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء ثم نواها للتجارة فلا زكاة فيها حتى يبيعها ويستقبل بثمنها حولا
لا يختلف المذهب في أنه اذا نوى بعرض التجارة القنية أنه يصير للقنية وتسقط الزكاة منه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك في إحدى الروايتين عنه : لا يسقط حكم التجارة بمجرد النية كما لو نوى بالسائمة العلف
ولنا أن القنية الأصل ويكفي في الرد إلى الأصل مجرد النية كما لو نوى بالحلي التجارة أو نوى المسافر الاقامة ولأن نية التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض فاذا نوى القنية زالت نية التجارة ففات شرط الوجوب وفارق السائمة اذا نوى علفها لأن الشرط فيها الأسامة دون نيتها فلا ينتفي الوجوب إلا بانتفاء السوم واذا صار العرض للقنية بنيتها فنوى به التجارة لم يصر للتجارة بمجرد النية على ما أسلفناه وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي و الثوري وذهب ابن عقيل و أبو بكر إلى أنه يصير للتجارة بمجرد النية وحكوه رواية عن أحمد لقوله فيمن أخرجت أرضه خمسة أوسق فمكثت عنده سنين لا يريد بها التجارة فليس عليه زكاة وإن كان يريد التجارة فأعجب إلي أن يزكيه قال بعض أصحابنا : هذا على أصح الروايتين لأن نية القنية بمجردها كافية فكذلك نية التجارة بل أولى لأن الايجاب يغلب على الاسقاط احتياطا ولأنه أحظ للمساكين فاعتبر كالتقويم ولأن سمرة قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع وهذا داخل في عمومه ولأنه نوى به التجارة فوجبت فيه الزكاة كما لو نوى حال البيع
ولنا أن كل ما لا يثبت له الحكم بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كما لو نوى بالمعلوفة السوم ولأن القنية الأصل والتجارة فرع عليها فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية كالمقيم ينوي السفر وبالعكس من ذلك ما لو نوى القنية فانه يردها إلى الأصل فانصرف اليه بمجرد النية كما لو نوى المسافر الاقامة فكذلك اذا نوى بمال التجارة القنية انقطع حوله ثم اذا نوى به التجارة فلا شيء فيه حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا
فصل : فان كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الاسامة وقطع نية التجارة انقطع حول التجارة واستأنف حولا كذلك قال الثوري و أبو ثور وأصحاب الرأي : لأن حول التجارة انقطع بنية الاقتناء وحول السوم لا ينبني على حول التجارة والأشبه بالدليل أنها متى كانت سائمة من أول الحول وجبت الزكاة فيها عند تمامه وهذا يروى نحوه عن اسحاق لأن السوم سبب لوجوب الزكاة وجد في جميع الحول خاليا عن معارض فوجبت به الزكاة كما لو لم ينو التجارة أو كما لو كانت السائمة لا تبلغ نصابا بالقيمة

مسألة وفصول : زكاة الربح في التجارة
مسألة : قال : وإذا كان في ملكه نصاب للزكاة فاتجر فيه فنمى أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال الحول
وجملته أن حول النماء مبني على حول الأصل لأنه تابع له في الملك فتبعه في الحول كالسخال والنتاج وبهذا قال مالك و اسحاق و أبو يوسف وأما أبو حنيفة فانه بنى حول كل مستفاد على حول جنسه نماء كان أو غيره وقال الشافعي : إن نضت الفائدة قبل الحول لم يبن حولها على حول النصاب واستأنف لها حولا لقوله عليه السلام : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] ولأنها فائدة تامة لم تتولد مما عنده فلم يبن على حوله كما لو استفاد من غير الربح وإن اشترى سلعة بنصاب فزادت قيمتها عند رأس الحول فانه يضم الفائدة ويزكي عن الجميع بخلاف ما اذا باع السلعة قبل الحول بأكثر من نصاب فانه يزكي عند رأس الحول عن النصاب ويستأنف للزيادة حولا
ولنا أنه نماء جار في الحول تابع لأصله في الملك فكان مضموما اليه في الحول كالنتاج وكما لو لم ينض ولأنه ثمن عرض تجب زكاة بعضه ويضم إلى ذلك البعض قبل البيع فيضم اليه بعده كبعض النصاب ولأنه لو بقي عرضا زكى جميع القيمة فاذا نض كان أولى لأنه يصير متحققا ولأن هذا الربح كان تابعا للأصل في الحول كما لو لم ينض فبنضه لا يتغير حوله والحديث فيه مقال وهو مخصوص بالنتاج وبما لم ينض فنقيس عله
فصل : وإن اشترى للتجارة ما ليس بنصاب فنمى حتى صار نصابا انعقد عليه الحول من حين صار نصابا في قول أكثر أهل العلم وقال مالك اذا كانت له خمسة دنانير فاتجر فيها فحال عليها الحول وقد بلغت ما تجب فيه الزكاة يزكيها
ولنا أنه لم يحل الحول على نصاب فلم تجب فيه الزكاة كما لو نقص في آخره
فصل : واذا اشترى للتجارة شقصا بألف فحال عليه الحول وهو يساوي ألفين فعليه زكاة ألفين فان جاء الشفيع أخذه بألف لأن الشفيع انما يأخذ بالثمن لا بالقيمة والزكاة على المشتري لأنها وجبت وهو في ملكه ولو لم يأخذه الشفيع لكن وجد به عيبا فرده فانه يأخذ من البائع ألفا ولو انعكست المسألة فاشتراه بألفين وحال الحول وقيمته ألف فعليه زكاة ألف فيأخذه الشفيع إن أخذه ويرده بالعيب بألفين لأنهما الثمن الذي وقع البيع به
فصل : وإن دفع إلى رجل ألفا مضاربة على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صار ثلاثة آلاف فعلى رب المال زكاة ألفين لأن ربح التجارة حوله حول أصله وقال الشافعي في أحد قوليه : عليه زكاة الجميع لأن الأصل له والربح نماء ماله ولا يصح لأن حصة المضارب له وليست ملكا لرب المال بدليل أن للمضارب المطالبة بها ولو أراد رب المال دفع حصته اليه من غير هذا المال لم يلزمه قبوله ولا تجب على الانسان زكاة ملك غيره ولأن رب المال يقول : حصتك أيها العامل مترددة بين أن تسلم فتكون لك أو تتلف فلا تكون لي ولا لك فكيف يكون علي زكاة ما ليس لي بوجه ما وقوله : إنه نماء ماله قلنا لكنه لغيره فلم تجب عليه زكاة كما لو وهب نتاج سائمته لغيره اذا ثبت هذا فانه يخرج الزكاة من المال لأنه من مؤنته فكان منه كمؤنة حمله ويحسب من الربح لأنه وقاية لرأس المال
وأما العامل فليس عليه زكاة في حصته حتى يقتسما ويستأنف حولا من حينئذ نص عليه أحمد في رواية صالح وابن منصور فقال : فاذا احتسبا يزكي المضارب اذا حال الحول من حين احتسبه لأنه علم ماله في المال ولأنه اذا اتضع بعد ذلك كانت الوضيعة على رب المال يعني اذا اقتسما لأن القسمة في الغالب تكون عند المحاسبة ألا تراه يقول : ان اتضع بعد ذاك كانت الوضيعة على رب المال وانما يكون هذا بعد القسمة وقال أبو الخطاب : يحتسب حوله من حين ظهور الربح يعني اذا كمل نصابا إلا على قول من قال : إن الشركة تؤثر في غيرالماشية قال ولا يجب اخراج زكاته حتى يقبض المال لأن العامل يملك الربح بظهوره فاذا ملكه جرى في حول الزكاة ولأن من أصلنا أن في المال الضال والمغصوب والدين على مماطل الزكاة وإن كان رجوعه إلى ملك يده مظنونا كذا ههنا
ولنا أن ملك المضارب غير تام لأنه يعرض أن تنقص قيمة الأصل أو يخسر فيه وهذا وقاية له ولهذا منع من الاختصاص به والتصرف فيه بحق نفسه فلم يكن فيه زكاة كمال المكاتب يؤكد هذا أنه لو كان ملكا تاما لاختص بربحه فلو كان رأس المال عشرة فاتجر فيه فربح عشرين ثم أتجر فربح ثلاثين لكانت الخمسون التي ربحها بينهما نصفين ولو تم ملكه بمجرد ظهور الربح لملك من العشرين الأولى عشرة واختص بربحها وهي عشرة من الثلاثين وكانت العشرون الباقية بينهما نصفين فيملك المضارب ثلاثين ولرب المال ثلاثون كما لو اقتسما العشرين ثم خلطاها وفارق المغصوب والضال فان الملك فيه ثابت تام انما حيل بينه وبينه بخلاف مسألتنا ومن أوجب الزكاة على المضارب فانما يوجبها عليه اذا حال الحول من حين تبلغ حصته نصابا بمفردها أو بضمها إلى ما عنده من جنس المال أو من الأثمان إلا على الرواية التي تقول إن للشركة تأثيرا في غير السائمة وليس عليه اخراجها قبل القسمة كالدين لا يجب الاخراج منه قبل قبضه وإن أراد اخراجها منه قبل القسمة لم يجز لأن الربح وقاية لرأس المال ويحتمل أن يجوز لأنهما دخلا على حكم الإسلام ومن حكمه وجوب الزكاة واخراجها من المال
فصل : واذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في إخراج زكاته أو أذن رجلان غير شريكين كل واحد منهما للآخر في اخراج زكاته فأخرج كل واحد منهما زكاته وزكاة صاحبه معا في حال واحدة ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه لأن كل واحد منهما انعزل من طريق الحكم عن الوكالة لإخراج من عليه الزكاة زكاته بنفسه ويحتمل أن لا يضمن إذا لم يعلم باخراج صاحبه إذا قلنا ان الوكيل لا ينعزل قبل الحكم بعزل الموكل أو بموته ويحتمل أن لا يضمن وإن قلنا أنه ينعزل لأنه غره بتسليطه على الاخراج وأمره به ولم يعلمه باخراجه فكان خطر التغرير عليه كما لو غره بحرية أمة وهذا أحسن ان شاء الله تعالى وعلى هذا إن علم أحدهما دون الآخر فعلى العالم الضمان دون الآخر فأما إن أخرجها أحدهما قبل الآخر فعلى هذا الوجه لا ضمان على واحد منهما اذا لم يعلم وعلى الأول على الثاني الضمان دون الأول

باب زكاة الدين والصدقة مسألة وفصلان : زكاة الدين ومهر المرأة
الصدقة هي الصداق وجمعها صدقات قال الله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } وهي من جملة الديون وحكمها حكمها وانما أفردها بالذكر لاشتهارها باسم خاص
مسألة : قال : واذا كان معه مائتا درهما وعليه دين فلا زكاة عليه
وجملة ذلك أن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة وهي الأثمان وعروض التجارة وبه قال عطاء وسليمان بن يسار و ميمون بن مهران و الحسن و النخعي و الليث و مالك و الثوري و الأوزاعي و اسحق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال ربيعة و حماد بن أبي سليمان و الشافعي في جديد قوليه لا يمنع الزكاة لأنه حر مسلم ملك نصابا حولا فوجبت عليه الزكاة كمن لا دين عليه
ولنا ما روى أبو عبيد في الأموال : حدثنا ابراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم وفي رواية فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله قال ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكروه فدل على اتفاقهم عليه وروى أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه ] وهذا نص ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم ] فدل على أنها إنما تجب على الاغنياء ولا تدفع الا الى الفقراء وهذا ممن يحل له أخذ الزكاة فيكون فقيرا فلا تجب عليه الزكاة لأنها لا تجب إلا على الأغنياء للخبر ولقوله عليه السلام : [ لا صدقة إلا عن ظهر غنى ] ويخالف من لا دين له عليه فانه غني يملك نصابا يحقق هذا أن الزكاة انما وجبت مواساة للفقراء وشكرا لنعمة الغنى والمدين محتاج الى قضاء دينه كحاجة الفقير أو أشد وليس من الحكمة تعطيل حاجةالمالك لحاجة غيره ولا حصل له من الغنى ما يقتضي الشكر بالاخراج وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ]
فصل : فأما الاموال الظاهرة وهي السائمة والحبوب والثمار فروي عن أحمد أن الدين يمنع الزكاة أيضا فيها لما ذكرناه في الأموال الباطنة قال أحمد في رواية إسحق بن ابراهيم يبتدىء بالدين فيقضيه ثم ينظر ما بقي عنده بعد اخراج النفقة فيزكي ما بقي ولا يكون على أحد دينه أكثر من ماله صدقة في إبل أو بقر أو غنم أو زرع ولا زكاة وهذا قول عطاء و الحسن و سلميان و ميمون بن مهران و النخعي و الثوري و الليث و إسحق لعموم ما ذكرنا وروي أنه لا يمنع الزكاة فيها وهو قول مالك و الأوزاعي و الشافعي وروي عن أحمد أنه قال : قد اختلف ابن عمر و ابن عباس فقال ابن عمر يخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي وقال الآخر يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي واليه أذهب أن لا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي على ما بقي لأن المصدق اذا جاء فوجد ابلا أو بقرا أو غنما لم يسأل أي شيء على صاحبها من الدين وليس المال هكذا فعلى هذه الرواية لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للأنفاق عليها خاصة وهذا ظاهر قول الخرقي لأنه قال في الخراج يخرجه ثم يزكيه ما بقي جعله كالدين على الزرع وقال في الماشية المرهونة يؤدي منها اذا لم يكن له مال يؤدي عنها فأوجب الزكاة فيها مع الدين وقال أبو حنيفة : الدين الذي تتوجه فيه المطالبة يمنع في سائر الأموال إلا الزرع والثمار بناء منه على أن الواجب فيها ليس بصدقة والفرق بين الأموال الظاهرة والباطنة أو تعلق الزكاة بالظاهرة آكد لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها ولهذا يشرع ارسال من يأخذ صدقتها من أربابها وكان النبي صلى الله عليه و سلم يبعث السعاة فيأخذون الصدقة من أربابها وكذلك الخلفاء بعده وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يأت عنه أنهم استكرهوا أحدا على صدقة الصامت ولا طالبوه بها إلا أن يأتي بها طوعا ولأن السعاة يأخذون زكاة ما يجدون لا يسألون عما على صاحبها من الدين فدل على أنه لا يمنع زكاتها ولأن تعلق اطماع الفقراء بها أكثر والحاجة الى حفظها أوفر فتكون الزكاة فيها أوكد
فصل : وانما يمنع الدين الزكاة اذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو ما لا يستغني عنه مثل أن يكون له عشرون مثقالا وعليه مثقال أو أكثر أو أقل مما ينقص به النصاب اذا قضاه به ولا يجد له قضاء من غير النصاب فان كان له ثلاثون مثقالا وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين وان كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه وان كان عليه خمسة فعليه زكاة خمسة وعشرين ولو أن له مائة من الغنم وعليه ما يقابل ستين فعليه زكاة الأربعين فان كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه لأنه ينقص النصاب وان كان له مالان من جنسين وعليه دين جعله في مقابلة ما يقضي منه فلو كان له خمس من الابل ومائتا درهم فان كانت عليه سلما أو دية ونحو ذلك مما يقضى بالابل جعلت الدين في مقابلتها ووجبت عليه زكاة الدراهم وان كان أتلفها أو غصبها جعلت قيمتها في مقابلة الدراهم لأنها تقضى منها وان كانت قرضا خرج على الوجهين فيما يقضى منه فان كانت اذا جعلناها في مقابلة أحد المالين فضلت منها فضلة تنقص النصاب الآخر واذا جعلناها في مقابلة الآخر لم يفضل منها شيء كرجل له خمس من الابل ومائتا درهم وعليه ست من الابل قيمتها مائتا درهم فاذا جعلناها في مقابلة المائتين لم يفضل من الدين شيء ينقص نصاب السائمة واذا جعلناها في مقابلة الابل فضل منها بعير نقص نصاب الدراهم أو كانت بالعكس مثل أن يكون عليه مائتان وخمسون درهما وله من الابل خمس أو أكثر تساوي الدين أو تفضل عليه جعلنا الدين في مقابلة الابل هاهنا وفي مقابلة الدراهم في الصورة الأولى لأن له من المال ما يقضي به الدين سوى النصاب وكذلك لو كان عليه مائة درهم وله مائتا درهم وتسع من الابل فاذا جعلناها في مقابلة الابل لم ينقص نصابها لكون الأربع لزائدة عنه تساوي المائة و أكثر منها وان جعلناه في مقابلة الدراهم سقطت الزكاة منها فجعلناها في مقابلة الابل كما ذكرنا في التي قبلها ولأن ذلك أحظ للفقراء وذكر القاضي نحو هذا فانه قال : اذا كان النصابان زكويين جعلت الدين في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته وان كان من غير جنس الدين فان كان أحد المالين لا زكاة فيه والآخر فيه الزكاة كرجل عليه مائتا درهم وله مائتا درهم وعروض للقنية تساوي مائتين فقال القاضي : يجعل الدين في مقابلة العروض وهذا مذهب مالك و أبي عبيد قال أصحاب الشافعي : وهو مقتضى قوله لأنه مالك لمائتين زائدة عن مبلغ دينه فوجبت عليه زكاتها كما لو كان جميع ماله جنسا واحدا وظاهر كلام أحمد رحمه الله أنه يجعل الدين في مقابلة ما يقضى منه فانه قال في رجل عنده ألف وعليه ألف وله عروض بألف ان كانت العروض للتجارة زكاها وإن كانت لغير التجارة فليس عليه شيء وهذا مذهب أبي حنيفة ويحكى عن الليث بن سعد لأن الدين يقضى من جنسه عن التشاح فجعل الدين في مقابلته أولى كما لو كان النصابان زكويين ويحتمل أن يحمل كلام أحمد هاهنا على ما اذا كان العرض تتعلق به حاجته الأصلية ولم يكن فاضلا عن حاجته فلا يلزمه صرفه في وفاء الدين لأن الحاجة أهم ولذلك لم تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال ويكون قول القاضي محمولا على من كان العرض فاضلا عن حاجته وهذا أحسن لأنه في هذه الحال مالك لنصاب فاضل عن حاجته وقضاء دينه فلزمته زكاته كما لو لم يكن عليه دين فأما إن كان عنده نصابان زكويان وعليه دين من غير جنسهما ولا يقضى من أحدهما فانك تجعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته

فصل : زكاة دين الله كالكفارة والنذر
فصل : فأما دين الله كالكفارة والنذر ففيه وجهان : أحدهما يمنع الزكاة كدين الآدمي لأنه دين يجب قضاؤه فهو كدين الآدمي يدل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ دين الله أحق أن يقضى ] و الآخر لا يمنع لأن الزكاة آكد منه لتعلقها بالعين فهو كارش الجناية ويفارق دين الآدمي لتأكده وتوجه المطالبة به فان نذر الصدقة بمعين فقال لله علي أن أتصدق بهذه المائتي درهم اذا حال الحول فقال ابن عقيل يخرجها في النذر ولا زكاة عليه لأن النذر آكد لتعلقه بالعين والزكاة مختلف فيها ويحتمل أن تلزمه زكاتها وتجزئه الصدقة بها إلا أن ينوي الزكاة بقدرها ويكون ذلك صدقة تجزئه عن الزكاة لكون الزكاة صدقة وسائرها يكون صدقة لنذره وليس بزكاة وان نذر الصدقة ببعضها وكان ذلك البعض قدر الزكاة أو أكثر فعلى هذا الاحتمال يخرج المنذور وينوي الزكاة بقدرها منه وعلى قول ابن عقيل يحتمل أن تجب الزكاة عليه لأن النذر إنما تعلق بالبعض بعد وجود سبب الزكاة وتمام شرطه فلا يمنع الوجوب لكون المحل متسعا لهما جميعا وإن كان المنذور أقل من قدر الزكاة وجب قدر الزكاة ودخل النذر فيه في أحد الوجهين وفي الآخر يجب اخراجهما جميعا

فصلان : زكاة من عليه دين وله مال باطن وظاهر
فصل : اذا قلنا لا يمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة فحجر الحاكم عليه بعد وجوب الزكاة لم يملك اخراجها لأنه قد انقطع تصرفه في ماله وإن أقر بها بعد الحجر لم يقبل اقراره وكانت عليه في ذمته كدين الآدمي ويحتمل أن تسقط اذا حجر عليه قبل امكان أدائها كما لو تلف ماله فان أقر الغرماء بوجوب الزكاة عليه أو ثبت ببينة أو كان قد أقر بها قبل الحجر عليه وجب اخراجها من المال فان لم يخرجوها فعليهم إثمها
فصل : واذا جنى العبد المعد للتجارة جناية تعلق ارشها برقبته منع وجوب الزكاة فيه إن كان ينقص النصاب لأنه دين وإن لم ينقص النصاب منع الزكاة في قدر ما يقابل الأرش

مسألة : والدين على ضربين : معترف به جاحد أو معسر
مسألة : قال : واذا كان له دين على ملي فليس عليه زكاة حتى يقبضه ويؤدي لما مضى
وجملة ذلك أن الدين على ضربين أحدهما دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته إلا أنه لا يلزمه اخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبهذا قال الثوري و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال عثمان وابن عمر
Bهما و جابر و طاوس و النخعي و جابر بن زيد و الحسن و ميمون بن مهران و الزهري و قتادة و حماد بن أبي سليمان و الشافعي و اسحاق و أبو عبيد : عليه اخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه اخراج زكاته كالوديعة وقال عكرمة : ليس في الدين زكاة وروي ذلك عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما لأنه غير نام فلم تجب زكاته كعروض القنية
وروي عن سعيد بن المسيب و عطاء بن أبي رباح و عطاء الخراساني و أبي الزناد يزكيه اذا قبضه لسنة واحدة
ولنا أنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الاخراج قبل قبضه كما لو كان على معسر ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به وأما الوديعة فهي بمنزلة ما في يده لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده وانما يزكيه لما مضى لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به فلزمته زكاته كسائر أمواله
الضرب الثاني : أن يكون على معسر أو جاحد أو مماطل به فهذا هل تجب فيه الزكاة ؟ على روايتين احداهما لا تجب وهو قول قتادة و اسحاق و أبي ثور وأهل العراق لأنه غير مقدور على الانتفاع به أشبه مال المكاتب والرواية الثانية يزكيه اذا قبضه لما مضى وهو قول الثوري و أبي عبيد لما روي عن علي رضي الله عنه في الدين المظنون قال إن كان صادقا فليزكه اذا قبضه لما مضى وروي نحوه عن ابن عباس رواهما أبو عبيد ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء و للشافعي قولان كالروايتين وعن عمر بن عبد العزيز و الحسن و الليث و الأوزاعي و مالك يزكيه اذا قبضه لعام واحد
ولنا أن هذا المال في جميع الأحوال على حال واحد فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما
فصل : وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين الحال والمؤجل لأن البراءة تصح من المؤجل ولولا أنه مملوك لم تصح البراءة منه لكن يكون في حكم الدين على المعسر لأنه يمكن قبضه في الحال

فصل : زكاة أجرة الدار
فصل : ولو أجر داره سنتين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة جميعها اذا حال عليه الحول لأن ملك المكري عليه تام بدليل جواز التصرف فيها بأنواع التصرفات ولو كانت جارية كان له وطؤها وكونها بعرض الرجوع لانفساخ العقد لا يمنع وجوب الزكاة كالصداق قبل الدخول ثم إن كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها وإن كانت دينا فهي كالدين معجلا كان أو مؤجلا وقال مالك و أبو حنيفة : لا يزكيها حتى يقبضها ويحول عليه الحول بناء على أن الأجرة لا تستحق بالعقد وانما تستحق بانقضاء مدة الاجارة وهذا يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى فيمن قبض من أجر عقار نصابا يزكيه في الحال وقد ذكرناه في غير هذا الموضع وحملناه على أنه حال عليه الحول قبل قبضه

فصل : زكاة الثمن قبل قبض المبلغ
فصل : ولو اشترى شيئا بعشرين دينارا أو أسلم نصابا في شيء فحال الحول قبل أن يقبض المشتري المبيع أو بقبض المسلم فيه والعقد باق فعلى البائع والمسلم اليه زكاة الثمن لأن ملكه ثابت فيه فان انفسخ العقد لتلف المبيع أو تعذر المسلم فيه وجب رد الثمن وزكاته على البائع

مسألة وفصول : زكاة المغصوب والمسروق والمجحود والضال وحكم الأسير والمرتد
فصل : والغنيمة يملك الغانمون أربعة أخماسها بانقضاء الحرب فان كانت جنسا واحدا تجب فيه الزكاة كالأثمان والسائمة ونصيب كل واحد منهم منها نصاب فعليه زكاته اذا انقضى الحول ولا يلزمه اخراج زكاته قبل قبضه لما ذكرنا في الدين على المليء واذا كان دون النصاب فلا زكاة فيه إلا أن تكون سائمة أربعة أخماسها تبلغ النصاب فتكون خلطة ولا تضم إلى الخمس لأنه لا زكاه فيه فان كانت الغنيمة أجناسا كابل وبقر وغنم فلا زكاة على واحد منهم لأن للإمام أن يقسم بينهم قسمة بحكم فيعطي كل واحد منهم من أي أصناف المال شاء تم ملكه على شيء معين بخلاف الميراث
مسألة : قال : واذا غصب مالا زكاه اذا قبضه لما مضى في احدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى قال ليس هو كالدين الذي متى قبضه زكاه وأحب إلي أن يزكيه
قوله : اذا غصب مالا أي إذا غصب الرجل مالا فالمفعول الأول المرفوع مستتر في الفعل والمال هو المفعول الثاني فكذلك نصيبه وفي بعض النسخ واذا غصب ماله وكلاهما صحيح والحكم في المغصوب والمسروق والمجحود والضال واحد وفي جميعه روايتان احداهما لا زكاة فيه نقلها الأثرم و الميموني ومتى عاد صار كالمستفاد يستقبل به حولا وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي في قديم قوليه : لأنه مال خرج عن يده وتصرفه وصار ممنوعا منه فلم يلزمه زكاته كمال المكاتب والثانية عليه زكاته لأن ملكه عليه تام فلزمته زكاته كما لو نسي عند من أودعه أو كما لو أسر أو حبس وحيل بينه وبين ماله وعلى كلتا الروايتين لا يلزمه اخراج زكاته قبل قبضه وقال مالك : اذا قبضه زكاه لحول واحد لأنه كان في ابتداء الحول في يده ثم حصل بعد ذلك في يده فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد وليس هذا بصحيح لأن المانع من وجوب الزكاة اذا وجد في بعض الحول يمنع كنقص النصاب
فصل : وإن كان المغصوب سائمة معلوفة عند صاحبها وغاصبها فلا زكاة فيها لفقدان الشرط وإن كانت سائمة عندهما ففيها الزكاة على الرواية التي تقول بوجوبها في المغصوب وإن كانت معلوفة عند صاحبها سائمة عند غاصبها ففيها وجهان : أحدهما لا زكاة عليه لأن صاحبها لم يرض بأسامتها فلم تجب عليه الزكاة بفعل الغاصب كما لو رعت من غير أن يسيمها والثاني عليه الزكاة لأن السوم يوجب الزكاة من المالك فأوجبها من الغاصب كما لو كانت سائمة عندها وكما لو غصب بذرا فزرعه وجب العشر فيما خرج منه وإن كانت سائمة عند مالكها معلوفة عند غاصبها فلا زكاة فيها لفقدان الشرط وقال القاضي : فيه وجه آخر أن الزكاة تجب فيها لأن العلف محرم فلم يؤثر في الزكاة كما لو غصب أثمانا فصاعها حليا لم تسقط الزكاة عنها بصياغته قال أبو الحسن الآمدي : هذا هو الصحيح لأن العلف انما أسقط الزكاة لما فيه من المؤنة وههنا لا مؤنة عليه
ولنا أن السوم شرط لوجوب الزكاة ولم يوجد فلم تجب الزكاة كنقص النصاب والملك وقوله إن العلف محرم غير صحيح وانما المحرم الغصب وانما العلف تصرف منه في ماله باطعامها اياه ولا تحريم فيه ولهذا لو علفها عند مالكها لم يحرم عليه وما ذكره الآمدي من خفة المؤنة غير صحيح فان الخفة لا تعتبر بنفسها وانما تعتبر بمظنها وهي السوم ثم يبطل ما ذكراه بما اذا كانت معلوفة عندهما جميعا ويبطل ما ذكره القاضي بما اذا علفها مالكها علفا محرما أو أتلف شاة من النصاب فانه محرم وتسقط به الزكاة وأما اذا غصب ذهبا فصاغه حليا فلا يشبه ما اختلفنا فيه فان العلف فات به شرط الوجوب والصياغة لم يفت بها شيء وانما اختلف في كونها مسقطة بشرط كونها مباحة فاذا كانت محرمة لم يوجد شرط الاسقاط ولأن المالك لو علفها علفا محرما لسقطت الزكاة ولو صاغها صياغة محرمة لم تسقط فافترقا ولو غصب حليا مباحا فكسره أو ضربه دراهم أو دنانير وجبت فيه الزكاة لأن المسقط للزكاة زال فوجبت الزكاة ويحتمل أن لا تجب كما لو غصب معلوفة فأسامها ولو غصب عروضا فاتجر فيها لم تجب فيها الزكاة لأن نية التجارة شرط ولم توجد من المالك وسواء كانت للتجارة عند مالكها أو لم تكن لأن بقاء النية شرط ولم ينو التجارة بها عند الغاصب ويحتمل أن تجب الزكاة اذا كانت للتجارة عند مالكها واستدام النية لأنها لم تخرج عن ملكه بغصبها وإن نوى بها الغاصب القنية وكل موضع أوجبنا الزكاة فعلى الغاصب ضمانها لأنه نقص حصل في يده فوجب عليه ضمانه كتلفه
فصل : اذا ضلت واحدة من النصاب أو أكثر أو غصبت فنقص النصاب فالحكم فيه كما لو ضل جميعه أو غصب لكن إن قلنا بوجوب الزكاة فعليه الاخراج عن الموجود عنده واذا رجع الضال أو المغصوب أخرج عنه كما لو رجع جميعه
فصل : وإن أسر المالك لم تسقط عنه الزكاة سواء حيل بينه وبين ماله أو لم يحل لأن تصرفه في ماله نافذ يصح بيعه وهبته وتوكيله فيه
فصل : وإن ارتد قبل مضي الحول وحال الحول وهو مرتد فلا زكاة عليه نص عليه لأن الاسلام شرط لوجوب الزكاة فعدمه في بعض الحول يسقط الزكاة كالملك والنصاب وإن رجع إلى الاسلام قبل مضي الحول استأنف حولا لما ذكرنا قال أحمد : اذا أسلم المرتد وقد حال على ماله الحول فان المال له ولا يزكيه حتى يستأنف به الحول لأنه كان ممنوعا منه فأما إن ارتد بعد الحول لم تسقط الزكاة عنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تسقط لأن من شرطها النية فسقطت بالردة كالصلاة
ولنا أنه حق مال فلا يسقط بالردة كالدين وأما الصلاة فلا تسقط أيضا لكن لا يطالب بفعلها لأنها لا تصح منه ولا تدخلها النيابة فاذا عاد وجبت عليه والزكاة تدخلها النيابة ولا تسقط بالردة كالدين ويأخذها الامام من الممتنع وكذا ههنا يأخذها الامام من ماله كما يأخذها من المسلم الممتنع فان أسلم بعد أخذها لم يلزمه اداؤها لأنها سقطت عنه بأخذها كما تسقط بأخذها من المسلم الممتنع ويحتمل أن لا تسقط لأن الزكاة عبادة فلا تحصل من غير نية وأصل هذا ما لو أخذها الامام من المسلم الممتنع وقد ذكر في غير هذا وان أخذها غير الامام أو نائبه لم تسقط عنه لأنه لا ولاية له عليه فلا يقوم مقامه بخلافه نائب الامام وإن أداها في حال ردته لم تجزه لأنه كافر فلا تصح منه كالصلاة

مسألة : زكاة المال الملتقط
مسألة : قال : واللقطة اذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها فان جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها
ظاهر المذهب أن اللقطة تملك بمضي حول التعريف واختار أبو الخطاب أنه لا يملكها حتى يختار وهو مذهب الشافعي ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى ومتى ملكها استأنف حولا فاذا مضى وجبت عليه زكاتها وحكى القاضي في موضع أنه اذا ملكها وجب عليه مثلها إن كانت مثلية أو قيمتها إن لم تكن مثلية وهذا مذهب الشافعي ويذكر في موضعه ان شاء الله تعالى ومقتضى هذا أن لا تجب عليه زكاتها لأنه دين فمنع الزكاة كسائر الديون وقال ابن عقيل : يحتمل أن لا تجب الزكاة فيها لمعنى آخر وهو أن ملكه غير مستقر عليها ولصاحبها أخذها منه متى وجدها والمذهب ما ذكره الخرقي وما ذكره القاضي يفضي الى ثبوت معاوضة في حق من لا ولاية عليه بغير فعله ولا اختياره ويقتضي ذلك أن يمنع الدين الذي عليه الميراث والوصية كسائر الديون والأمر بخلافه وما ذكره ابن عقيل يبطل بما وهبه الأب لولده وبنصف الصداق فان لهما استرجاعه ولا يمنع وجوب الزكاة فأما ربها اذا جاء فأخذها فذكر الخرقي أنه يزكيها للحول الذي كان الملقط ممنوعا منها وهو حول التعريف وقد ذكرنا في الشال روايتين وهذا من جملته وعلى مقتضى قول الخرقي أن الملتقط لو لم يملكها مثل من لم يعرفها فانه لا زكاة على ملتقطها واذا جاء ربها زكاها للزمان كله وانما تجب عليه زكاتها اذا كانت ماشية بشرط كونها سائمة عند الملتقط فان علفها فلا زكاة عليه على ما ذكرنا في المغصوب

مسألة وفصلان : زكاة المهر الصداق
مسألة : قال : والمرأة اذا قبضت صداقها زكته لما مضى
وجملة ذلك أن الصداق في الذمة دين للمرأة حكمه حكم الديون على ما مضى إن كان على مليء به فالزكاة واجبة فيه اذا قبضته أدت لما مضى وإن كان على معسر أو جاحد فعلى الروايتين واختار الخرقي وجوب الزكاة فيه ولا فرق بين ما قبل الدخول أو بعده لأنه دين في الذمة فهو كثمن مبيعها فان سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول وأخذت النصف فعليها زكاة ما قبضته دون ما لم تقبضه لأنه دين لم تتعوض عنه ولم تقبضه فأشبه ما تعذر قبضه لفلس أو جحد وكذلك لو سقط كل الصداق قبل قبضه لانفساخ النكاح بأمر من جهتها فليس عليها زكاته لما ذكرنا وكذلك القول في كل دين يسقط قبل قبضه من غير اسقاط صاحبه أو يئس صاحبه من استيفائه والمال الضال اذا يئس منه فلا زكاة على صاحبه فان الزكاة مواساة فلا تلزم المواساة إلا مما حصل له وإن كان الصداق نصابا فحال عليه الحول ثم سقط نصفه وقبضت النصف فعليها زكاة النصف المقبوض لأن الزكاة وجبت فيه ثم سقطت من نصفه لمعنى اختص به فاختص السقوط به وإن مضى عليه حول قبل قبضه ثم قبضته كله زكته لذلك الحول وإن مضت عليه أحوال قبل قبضه ثم قبضته زكته لما مضى كله ما لم ينقص عن النصاب وقال أبو حنيفة : لا تجب عليها الزكاة ما لم تقبضه لأنه بدل عما ليس بمال فلا تجب الزكاة فيه قبل قبضه كدين الكتابة
ولنا أنه دين يستحق قبضه ويجبر المدين على ادائه فوجبت فيه الزكاة كثمن المبيع ويفارق دين الكتابة فانه لا يستحق قبضه وللمكاتب الامتناع من ادائه ولا يصح قياسهم عليه فانه عوض عن مال
فصل : فان قبضت صداقها قبل الدخول ومضى عليه حول فزكته ثم طلقها الزوج قبل الدخول رجع فيها بنصفه وكانت الزكاة من النصف الباقي لها وقال الشافعي في أحد أقواله : يرجع الزوج بنصف الموجود ونصف قيمة المخرج لأنه لو تلف الكل رجع عليها بنصف قيمته فكذلك اذا تلف البعض
ولنا قول الله تعالى : { فنصف ما فرضتم } ولأنه يمكنه الرجوع في العين فلم يكن له الرجوع إلى القيمة كما لو لم يتلف منه شيء ويخرج على هذا ما لو تلف كله فأنه ما أمكنه الرجوع في العين وإن طلقها بعد الحول قبل الاخراج لم يكن له الاخراج من النصاب لأن حق الزوج تعلق به على وجه الشركة والزكاة لم تتعلق به على وجه الشركة لكن تخرج الزكاة من غيره أو يقسمانه ثم تخرج الزكاة من حصتها فان طلقها قبل الحول ملك النصف مشاعا وكان حكم ذلك كما لو باع نصفه قبل الحول مشاعا وقد بينا حكمه
فصل : فان كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول ففيه روايتان
احداهما : عليها الزكاة لأنها تصرفت فيه أشبه ما لو قبضته
والرواية الثانية : زكاته على الزوج لأنه ملك ما ملك عليه فكأنه لم يزل ملكه عنه والاول أصح وما ذكرنا لهذه الرواية لا يصح لأن الزوج لم يملك شيئا وانما سقط الدين عنه ثم لو ملك في الحال لم يقتض هذا وجوب زكاة ما مضى ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما لما ذكرنا في الزوج والمرأة لم تقبض الدين فلم تلزمها زكاته كما لو سقط بغير اسقاطها وهذا اذا كان الدين مما تجب فيه الزكاة اذا قبضه فأما أن كان مما لا زكاة فيه فلا زكاة عليها بحال وكل دين على انسان أبرأه صاحبه منه بعد مضي الحول عليه فحكمه حكم الصداق فيما ذكرنا قال أحمد : اذا وهبت المرأة مهرها لزوجها وقد مضى له عشر سنين فان زكاته على المرأة لأن المال كان لها واذا وهب رجل لرجل مالا فحال الحول ثم ارتجعه الواهب فليس له أن يرتجعه فان ارتجعه فالزكاة على الذي كان عنده وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره فلم يعطه شيئا فلما كان بعد سنة قال : ليس عندي دراهم فأقلني فأقاله قال : عليه أن يزكي لأنه قد ملكه حولا

مسألة : زكاة المبيع وقت الخيار
مسألة : قال : والماشية اذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل بها البائع حولا سواء كان الخيار للبائع او للمشتري لأنه تجديد ملك
ظاهر المذهب أن البيع بشرط الخيار ينقل الملك إلى المشتري عقيبه ولا يقف على انقضاء الخيار سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما وعن أحمد أنه لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك وقال أبو حنيفة : لا ينتقل إن كان للبائع وإن كان للمشتري خرج عن البائع ولم يدخل في ملك المشتري وعن الشافعي ثلاثة أقوال : قولان كالروايتين وقول ثالث أنه مراعى فان فسخاه تبينا أنه لم ينتقل وإن أمضياه تبينا أنه انتقل
ولنا أنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كما لو لم يشترط الخيار فان كان المال زكائيا انقطع الحول ببيعه لزوال ملكه عنه فان استرده أو رد عليه استأنف حولا لأنه ملك متجدد حدث بعد زواله فوجب أن يستأنف له حولا كما لو كان البيع مطلقا من غير خيار وهكذا الحكم لو فسخا البيع في مدة المجلس بخياره لا يمنع نقل الملك أيضا فهو كخيار الشرط ولو مضى الحول في مدة الخيار ثم فسخا البيع كانت زكاته على المشتري لأنه ملكه وإن قلنا بالرواية الأخرى لم ينقطع الحول ببيعه لأن ملك البائع لم يزل عنه ولو حال الحول عليه في مدة الخيار كانت زكاته على البائع فان أخرجها من غيره فالبيع بحاله وإن أخرجها منه بطل البيع في المخرج وهل يبطل في الباقي على وجهين بناء على تفريق الصفقة وإن لم يخرجها حتى سلمه إلى المشتري وانقضت مدة الخيار لزم البيع فيه وكان عليه الاخراج من غيره كما لو باع ما وجبت الزكاة فيه ولو اشترى عبدا فهل هلال شوال ففطرته على المشتري وإن كان في مدة الخيار لأنه ملكه وعلى الرواية الأخرى هي على البائع إن كان في مدة الخيار لأنه ملكه ولأنه في مدة الخيار

باب صدقة الفطر
باب صدقة الفطر

صدقة الفطر فرض
قال ابن المنذر : أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن صدقة الفطر فرض وقال إسحاق هو كالإجماع من أهل العلم وزعم ابن عبد البر أن بعض المتأخرين من أصحاب مالك و داود يقولون هي سنة مؤكدة وسائر العلماء على أنه واجبة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين متفق عليه و للبخاري والصغير والكبير من المسلمين وعنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة وعن أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب متفق عليهما قال سعيد بن المسيب عمر بن عبد العزيز في قوله تعالى : { قد أفلح من تزكى } هو زكاة الفطر وأضيفت هذه الزكاة إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان وقال ابن قتيبة : وقيل لها فطرة لأن الفطرة الخلقة قال الله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } أي جبلته التي جبل الناس عليها وهذه يراد بها الصدقة عن البدن والنفس كما كانت الأولى صدقة عن المال وقال بعض أصحابنا : وهل تسمى فرضا مع القول بوجوبها على روايتين والصحيح أنها فرض لقول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر ولإجماع العلماء على أنها فرض ولأن الفرض إن كان الواجب فهي واجبة وإن كان الواجب المتأكد فهي متأكدة مجمع عليها

مسألة وفصلان : على من تجب زكاة الفطر ؟
مسألة : قال : وزكاة الفطر على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين
وجملته أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم مع الصغير والكبير والذكورية والانوثية في قول أهل العلم عامة وتجب على اليتيم ويخرج عنه وليه من ماله لا نعلم أحدا خالف في هذا إلا محمد بن الحسن قال : ليس في مال الصغير من المسلمين صدقة وقال الحسن و الشعبي : صدقة الفطر على من صام من الأحرار وعلى الرقيق وعموم قوله فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر على كل حر وعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين يقتضي وجوبها على اليتيم ولأنه مسلم فوجبت فطرته كما لو كان له أب
فصل : ولا تجب على كافر حرا كان أو عبدا ولا نعلم بينهم خلافا في الحر البالغ وقال امامنا و مالك و الشافعي و أبو ثور : لا تجب على العبد أيضا ولا على الصغير ويروى عن عمر بن عبد العزيز و عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير و النخعي و الثوري و اسحاق وأصحاب الرأي أن على السيد المسلم أن يخرج الفطرة عن عبده الذمي وقال أبو حنيفة : يخرج عن ابنه الصغير اذا ارتد
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أدوا عن كل حر وعبد صغير وكبير يهودي أو نصراني أو مجوسي نصف صاع من بر ] ولأن كل زكاة وجبت بسبب عبده المسلم وجبت بسبب عبده الكافر كزكاة التجارة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عمر : [ من المسلمين ] وروى أبو داود عن ابن عباس قال : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمه للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات اسناد حسن وحديثهم لا نعرفه ولم يذكره أصحاب الدواوين وجامعوا السنن وهذا قول ابن عباس يخالفه وهو راوي حديثهم وزكاة التجارة تجب عن القيمة ولذلك تجب في سائر الحيوانات وسائر الأموال وهذه طهرة للبدن ولهذا اختص بها الآدميون بخلاف زكاة التجارة
فصل : فان كان لكافر عبد مسلم وهل هلال شوال وهو في ملكه فحكي عن أحمد أن على الكافر اخراج صدقة الفطر عنه واختاره القاضي وقال ابن عقيل : يحتمل أن لا تجب وهذا قول أكثرهم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا صدقة على الذمي في عبده المسلم لقوله عليه السلام : [ من المسلمين ] ولأنه كافر فلا تجب عليه الفطرة كسائر الكفار لأن الفطرة زكاة فلا تجب على الكافر كزكاة المال ولنا أن العبد من أهل الطهرة فوجب أن تؤدى عنه الفطرة كما لو كان سيده مسلما وقوله : [ من المسلمين ] يحتمل أن يراد به المؤدى عنه بدليل أنه لو كان للمسلم عبد كافر لم يجب فطرته ولأنه ذكر في الحديث : [ كل عبد وصغير ] وهذا يدل على أنه أزاد المؤدى عنه لا المؤدي ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كالمذهبين

مسألتان وفصل : مقدار زكاة الفطر
مسألة : قال : صاعا بصاع النبي صلى الله عليه و سلم وهو خمسة أرطال وثلث
وجملته أن الواجب في صدقة الفطر صاع عن كل انسان لا يجزي أقل من ذلك من جميع أجناس المخرج وبه قال مالك و الشافعي و اسحاق وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري و الحسن و أبي العالية وروي عن عثمان بن عفان وابن الزبير ومعاوية أنه يجزي نصف صاع من البر خاصة وهو مذهب سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و مجاهذ وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي واختلفت الرواية عن علي و ابن عباس و الشعبي فروي صاع وروي نصف صاع وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان إحداهما صاع والأخرى نصف صاع واحتجوا بما روى ثعلبة بن صعير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ صاع من قمح بين كل اثنين ] رواه أبو داود
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث مناديا في فجاج مكة ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو أنثى حر أو عبد صغير أو كبير مدان من قمح أو سواها صاعا من طعام قال الترمذي : هذا حديث صحيح حسن غريب وقال سعيد حدثنا هشم عن عبد الخالق الشيباني قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول كانت الصدقة تدفع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر نصف صاع بر وقال هشيم : أخبرني سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : [ خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر صدقة الفطر وحض عليها وقال : نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير عن كل حر وعبد ذكر وأنثى ]
ولنا ما روى أبو سعيد الخدري قال : [ كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط ] فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوبة المدينة فتكلم فكان مما كلم الناس أني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد : فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم فرض صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس إلى نصف صاع من بر متفق عليهما ولأنه جنس يخرج في صدقة الفطر فكان قدره صاعا كسائر الأجناس وأحاديثهم لا تثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم قاله ابن المنذر وحديث ثعلبة تفرد به النعمان بن راشد قال البخاري : هويهم كثيرا وهو صدوق في الأصل وقال مهنا : ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر نصف صاع من بر فقال : ليس بصحيح انما هو مرسل يرويه معمر بن جريج عن الزهري مرسلا قلت من قبل من هذا ؟ قال : من قبل النعمان بن راشد ليس هو بقوي في الحديث وضعف حديث ابن أبي صعير وسألته عن ابن أبي صعير أمعروف هو قال من يعرف ابن أبي صعير ليس هو معروف وذكر أحمد وعلي بن المديني ابن أبي صعير فضعفاه جميعا وقال ابن عبد البر : ليس دون الزهري من يقوم به حجة ورواه أبو اسحاق الجوزجاني حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن النعمان عن الزهري عن ثعلبة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أدوا صدقة الفطر صاعا من قمح - أو قال - بر عن كل انسان صغير أو كبير ] وهذا حجة لنا واسناده حسن قال الجوزجاني : والنصف صاع ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم وروايته ليس تثبت ولأن فيما ذكرناه احتياطا للفرض ومعاضدة للقياس
فصل : وقد دللنا على أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي فيما مضى والأصل فيه الكيل وإنما قدره العلماء بالوزن ليحفظ وينقل وقد روى جماعة عن أحمد أنه قال : الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة وقال حنبل قال أحمد : أخذت الصاع من أبي النضر وقال أبو النضر : أخذته عن ابن أبي ذؤيب وقال : هذا صاع النبي صلى الله عليه و سلم الذي يعرف بالمدينة قال أبو عبد الله : فأخذنا العدس فعيرنا به وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به لأنه لا يتجافى عن موضعه فكلنا به ثم وزناه فاذا هو خمسة أرطال وثلث وقال هذا أصلح ما وقفنا عليه وما تبين لنا من صاع النبي صلى الله عليه و سلم واذا كان الصاع خمسة أرطال وثلثا من البر والعدس وهما من أثقل الحبوب فما عداهما من أجناس الفطرة أخف منهما فاذا أخرج منهما خمسة أرطال وثلثا فهي أكثر من صاع وقال محمد بن الحسن : إن أخرج خمسة أرطال وثلثا برا لم يجزه لأن البر يختلف فيكون فيه الثقيل والخفيف وقال الطحاوي : يخرج خمسة أرطال مما سواء كيله ووزنه وهو الزبيب والماش ومقتضى كلامه أنه اذا أخرج ثمانية أرطال مما هو أثقل منها لم يجزئه حتى يزيد شيئا يعلم أنه قد بلغ صاعا والاولى لمن أخرج من الثقيل بالوزن أن يحتاط فيزيد شيئا يعلم به أنه لمن أخرج صاعا بالرطل بالدمشقي الذي هو ستمائة درهم مد وسبع والسبع أوقية وخمسة أسباع أوقية وقدر ذلك بالدراهم ستمائة درهم ويجزىء اخراج رطل بالدمشقي من جميع الاجناس لأنه أكبر من الصاع وقد رأيت مدا ذكر لنا أنه مد النبي صلى الله عليه و سلم فقدر المد الدمشقي به فكان المد الدمشقي قريبا من خمسة أمداد
مسألة : قال : من كل حبة وثمرة تقتات
يعني عند عدم الأجناس المنصوص عليها يجزئه كل مقتات من الحبوب والثمار وظاهر هذا أنه لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن وقال أبو بكر : يعطي ما قام مقام الاجناس المنصوص عليها عند عدمها وقال ابن حامد : يجزئه عند عدمها الاخراج مما يقتاته كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والانعام ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار

فصل : وتجب زكاة الفطر على أهل البادية
مسألة : قال : وإن أعطى أهل البادية الاقط صاعا أجزأ اذا كان قوتهم
أكثر أهل العلم يوجبون صدقة الفطر على اهل البادية روي ذلك عن ابن الزبير وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن و مالك و الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي وقال عطاء و الزهري و ربيعة : لا صدقة عليهم
ولنا عموم الحديث ولأنها زكاة فوجبت عليهم كزكاة المال ولأنهم مسلمون فيجب عليهم صدقة الفطر كغيرهم اذا ثبت هذا فانه يجزىء أهل البادية إخراج الأقط اذا كان قوتهم وكذلك من لم يجد من الاصناف المنصوص عليها سواه فأما من وجد سواه فهل يجزىء ؟ على روايتين إحداهما يجزئه أيضا لحديث أبي سعيد الذي ذكرناه وفي بعض ألفاظه قال : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أخرجه النسائي والثانية لا يجزئه لأنه جنس لا تجب الزكاة فيه فلا يجزىء اخراجه لمن يقدر على غيره من الاجناس المنصوص عليها كاللحم ويحمل الحديث على من هو قوت له أو لم يقدر على غيره فان قدر على غيره مع كونه قوتا له فظاهر كلام الخرقي جواز إخراجه وإن قدر على غيره سواء كان من أهل البادية أو لم يكن لأن الحديث لم يفرق وقول أبي سعيد : كنا نخرج صاعا من أقط وهم من أهل الأمصار وانما خص أهل البادية بالذكر لأن الغالب أنه لا يقتاته غيرهم وقال أبو الخطاب : لا يجزىء إخراج الأقط مع القدرة على ما سواه في إحدى الروايتين وظاهر الحديث يدل على خلافة وذكر القاضي أنه اذا عدم الاقط وقلنا له اخراجه جاز اخراج اللبن لأنه أكمل من الاقط لأنه يجيء منه الاقط وغيره وحكاه أبو ثور عن الشافعي وقال الحسن : إن لم يكن بر ولا شعير أخرج صاعا من لبن وظاهر قول الخرقي يقتضي أنه لا يجزىء اللبن بحال لقوله : من كل حبة أو ثمرة تقتات وقد حملنا ذلك على حالة العدم ولا يصح ما ذكروه لأنه لو كان أكمل من الاقط لجاز اخراجه مع وجوده ولأن الاقط أكمل من اللبن من وجه لأنه بلغ حالة الادخار وهو جامد بخلاف اللبن لكن يكون حكم اللبن حكم اللحم يجزىء اخراجه عند عدم الأصناف المنصوص عليها على قول ابن حامد ومن وافقه وكذلك الجبن وما أشبهه

مسائل وفصول : أجناس الطعام التي تجزي في زكاة الفطر
مسألة : قال : واختيار أبي عبد الله إخراج التمر
وبهذا قال مالك قال ابن المنذر : واستحب مالك اخراج العجوة منه واختار الشافعي و أبو عبيد اخراج البر وقال بعض أصحاب الشافعي يحتمل أن يكون الشافعي قال ذلك لأن البر كان أغلى في وقته ومكانه لأن المستحب أن يخرج أغلاها ثمنا وأنفسها [ لقول النبي صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن أفضل الرقاب فقال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ] وإنما اختار أحمد إخراج التمر اقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم واتباعا له
وروى باسناده عن أبي مجلز قال : قلت لابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله قد أوسع والبر أفضل من التمر ] قال إن أصحابي سلكوا طريقا وأنا أحب أن أسلكه وظاهر هذا أن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر فأحب ابن عمر موافقتهم وسلوك طريقتهم وأحب أحمد أيضا الاقتداء بهم واتباعهم
وروى البخاري عن ابن عمر أنه قال : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به صاعا من بر وكان ابن عمر يخرج التمر فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرا ولأن التمر فيه قوة وحلاوة وهو أقرب تناولا وأقل كلفة فكان أولى
فصل : والأفضل بعد التمر البر وقال بعض أصحابنا : الأفضل بعده الزبيب لأنه أقرب تناولا وأقل كلفة فأشبه التمر ولنا أن البر أنفع في الاقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير وكذلك قال أبو مجلز لابن عمر : البر أفضل من التمر يعني أنفع وأكثر قيمة ولم ينكره ابن عمر وانما عدل عنه اتباعا لأصحابه وسلوكا لطريقتهم ولهذا عدل نصف صاع منه بصاع من غيره وقال معاوية : اني لأرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من التمر فأخد الناس به وتفضيل التمر انما كان لاتباع الصحابة ففيما عداه يبقى على مقتضى الدليل في تفضيل البر ويحتمل أن يكون الأفضل بعد التمر ما كان أعلى قيمة وأكثر نفعا
مسألة : قال : ومن قدر على التمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الاقط فأخرج غيره لم يجزه
ظاهر المذهب أنه لا يجوز له العدول عن هذه الأصناف مع القدرة عليها سواء كان المعدول اليه قوت بلده أو لم يكن وقال أبو بكر : يتوجه قول آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث صاعا من طعام والطعام قد يكون البر والشعير وما دخل في الكيل قال وكلا القولين محتمل وأقيسهما أنه لا يجوز غير الخمسة إلا أن يعدمها فيعطي ما قام مقامها وقال مالك : يخرج من غالب قوت البلد وقال الشافعي : أي قوت كان الأغلب على الرجل أدى الرجل زكاة الفطر منه واختلف أصحابه فمنهم من قال بقول مالك ومنهم من قال الاعتبار بغالب قوت المخرج ثم إن عدل عن الواجب إلى أعلى منه جاز وإن عدل إلى دونه ففيه قولان : أحدهما يجوز لقوله عليه السلام : [ اغنوهم عن الطلب ] والغنى يحصل بالقوت والثاني لا يجوز لأنه عدل عن الواجب إلى أدنى منه فلم يجزئه كما لو عدل عن الواجب في زكاة المال إلى أدنى منه
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم فرض صدقة الفطر أجناسا معدودة فلم يجز العدول عنها كما لو أخرج القيمة وذلك لأن ذكر الأجناس بعد ذكره الفرض تفسير للمفروض فما أضيف إلى المفسر يتعلق بالتفسير فتكون هذه الاجناس مفروضة فيتعين الاخراج منها ولأنه اذا أخرج غيرها عدل عن المنصوص عليه فلم يجز كاخراج القيمة وكما لو أخرج عن زكاة المال من غير جنسه والاغناء يحصل بالاخراج من المنصوص عليه فلا منافاة بين الخبرين لكونهما جميعا يدلان على وجوب الاغناء باداء أحد الاجناس المفروضة
فصل : والسلت نوع من الشعير فيجوز إخراجه لدخوله في المنصوص عليه وقد صرح بذكره في بعض ألفاظ حديث ابن عمر قال : كان الناس يخرجون صدقة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من سلت وعن أبي سعيد قال : لم نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من دقيق أو صاعا من أقط أو صاعا من سلت قال : ثم شك فيه سفيان بعد فقال دقيق أو سلت رواهما النسائي
فصل : ويجوز اخراج الدقيق نص عليه أحمد وكذلك السويق قال أحمد : وقد روي عن ابن سيرين سويق أو دقيق وقال مالك و الشافعي : لا يجزي اخراجهما لحديث ابن عمر ولأن منافعه نقصت فهو كالخبز
ولنا حديث أبي سعيد وقوله فيه : أو صاعا من دقيق ولأن الدقيق والسويق أجزاء الحب بحتا يمكن كيله وادخاره فجاز اخراجه كما قبل الطحن وذلك لأن الطحن انما فرق اجزاءه وكفى الفقير مؤنته فأشبه ما لو نزع نوى التمر ثم أخرجه ويفارق الخبز والهريسة والكبولا لأن مع أجزاء الحب فيها من غيره وقد خرج عن حال الادخار والكيل والمأمور به صاع وهو مكيل وحديث ابن عمر لم يقتض ما ذكروه ولم يعملوا به
فصل : ولا يجوز إخراج الخبز لأنه خرج عن الكيل والادخار ولا الهريسة والكبولا وأشباههما لذلك ولا الخل ولا الدبس لأنهما ليسا قوتا ولا يجوز أن يخرج حبا معيبا كالمسوس والمبلول ولا قديما تغير طعمه لقول الله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } فان كان القديم لم يتغير طعمه إلا أن الحديث أكثر قيمة منه جاز إخراجه لعدم العيب فيه والأفضل إخراج الأجود قال أحمد : كان ابن سيرين يحب أن ينقي الطعام وهو أحب إلي ليكون على الكمال ويسلم مما يخالطه من غيره فان كان المخالط له يأخذ حظا من المكيال وكان كثيرا بحيث يعد عيبا فيه لم يجزئه وإن لم يكثر جاز اخراجه اذا زاد على الصاع قدرا يزيد على ما فيه من غيره حتى يكون المخرج صاعا كاملا
فصل : ومن أي الأصناف المنصوص عليها أخرج جاز وإن لم يكن قوتا له وقال مالك : يخرج من غالب قوت البلد وذكرنا قول الشافعي
ولنا أن خبر الصدقة ورد بحرف التخيير بين هذه الأصناف فوجب التخيير فيه ولأنه عدل إلى منصوص عليه فجاز كما لو عدل الى الأعلى والغنى يحصل بدفع قوت من الأجناس ويدل على ما ذكرنا أنه خير بين التمر والزبيب والاقط قوتا لأهل المدينة فدل على أنه لا يعتبر أن يكون قوتا للمخرج

مسألة : ومن أعطى القيمة لم تجزئه
مسألة : قال : ومن أعطى القيمة لم تجزئه
قال أبو داود : قيل لأحمد وأنا أسمع أعطى دراهم - يعني في صدقة الفطر - قال : أخاف أن لا يجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال أبو طالب قال لي أحمد : لا يعطي قيمته قيل له قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة قال يدعون قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ويقولون قال فلان ؟ قال ابن عمر : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال الله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وقال قوم يردون السنن : قال فلان : قال فلان وظاهر مذهبه أنه لا يجزئه اخراج القيمة في شيء من الزكوات وبه قال مالك و الشافعي وقال الثوري و أبو حنيفة يجوز وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز و الحسن وقد روي عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفطرة وقال أبو داود : سئل أحمد عن رجل باع ثمرة نخله قال عشره على الذي باعه قيل له فيخرج ثمرا أو ثمنه قال إن شاء أخرج ثمرا وإن شاء أخرج من الثمن وهذا دليل على جواز اخراج القيم ووجهه قول معاذ لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم فانه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة وقال سعيد : حدثنا سفيان عن عمر وعن طاوس قال : لما قدم معاذ اليمن قال : ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فانه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة قال : وحدثنا جرير عن ليث عن عطاء قال : كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم ولأن المقصود دفع الحاجة ولا يختلف ذلك بعد اتحاد قدر المالية باختلاف صور الأموال
ولنا قول ابن عمر : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقة الفطر صاعا من تمر وصاعا من شعير فاذا عدل عن ذلك فقد ترك المفروض وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ في أربعين شاة شاة وفي مائتي درهم خمسة دراهم ] وهو وارد بيانا لمجمل قوله تعالى : { وآتوا الزكاة } فتكون الشاة المذكورة هي الزكاة المأمور بها والأمر يقتضي الوجوب ولأن النبي صلى الله عليه و سلم فرض الصدقة على هذا الوجه وأمر بها أن تؤدى ففي كتاب أبي بكر الذي كتبه في الصدقات أنه قال : هذه الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بها أن تؤدى وكان فيه : في خمس وعشرين من الابل بنت مخاض فان لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر وهذا يدل على أنه أراد عينها لتسميته إياها وقوله فان لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر ولو أراد المالية أو القيمة لم يجز لأن خمسا وعشرين لا تخلو عن مالية بنت مخاض وكذلك قوله فابن لبون ذكر فانه لو أراد المالية للزمه مالية بنت مخاض دون مالية ابن لبون وقد روى أبو داود و ابن ماجة باسنادهما عن [ معاذ أن النبي صلى الله عليه و سلم بعثه الى اليمن فقال : خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الابل والبقرة من البقر ] ولأن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكرا لنعمة المال والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل الى الفقير من كل نوع ما تندفع به حاجته ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به ولأن مخرج القيمة قد عدل عن المنصوص فلم يجزئه كما لو أخرج الرديء مكان الجيد حديث معاذ الذي رووه في الجزية بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بتفريق الصدقة في فقرائهم ولم يأمره بحملها الى المدينة - وفي حديثه هذا فانه أنفع للمهاجرين بالمدينة

مسائل وفصول : وجوب زكاة الفطر ووقت ادائها
مسألة : قال : ويخرجها اذا خرج الى المصلى
المستحب إخراج صدقة الفطر يوم الفطر قبل الصلاة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس الى الصلاة في حديث ابن عمر وفي حديث ابن عباس : [ من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ] فان أخرها عن الصلاة ترك الأفضل لما ذكرنا من السنة ولأن المقصود منها الاغناء عن الطواف والطلب في هذا اليوم فمتى أخرها لم يحصل إغناؤهم في جميعه لا سيما في وقت الصلاة ومال الى هذا القول عطاء و مالك وموسى بن وردان و إسحق وأصحاب الرأي وقال القاضي : اذا أخرجها في بقية اليوم لم يكن فعل مكروها لحصول الغناء بها في اليوم قال سعيد : حدثنا أبو معسر عن نافع عن ابن عمر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نخرج وذكر الحديث قال فكان يؤمر أن يخرج قبل أن يصلي فاذا انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم قسمه بينهم وقال : [ أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم ] وقد ذكرنا من الخبر والمعنى ما يقتضي الكراهة فان أخرها عن يوم العيد أثم ولزمه القضاء وحكي عن ابن سيرين و النخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد وروى محمد بن يحيى الكحال قال : قلت لأبي عبد الله فان أخرج الزكاة ولم يعطها قال نعم اذا أعدها لقوم وحكاه ابن المنذر عن أحمد واتباع السنة أولى
فصل : فأما وقت الوجوب فهو وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فانها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان فمن تزوج أو ملك عبدا أو ولد له ولد أو أسلم قبل غروب الشمس فعليه الفطرة وإن كان بعد الغروب لم تلزمه ولو كان حين الوجوب معسرا ثم أيسر في ليلته تلك أو في يومه لم يجب عليه شيء ولو كان في وقت الوجوب موسرا ثم أعسر لم تسقط عنه اعتبارا بحالة الوجوب ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر نص عليه أحمد : وبما ذكرنا في وقت الوجوب قال الثوري و إسحق و مالك في إحدى الروايتين عنه و الشافعي في أحد قوليه وقال الليث و أبو ثور وأصحاب الرأي تجب بطلوع الفجر يوم العيد وهو رواية عن مالك لأنها قربة تتعلق بالعيد فلم يتقدم وجوبها يوم العيد وهو رواية عن مالك كالأضحية
ولنا قول ابن عباس إن النبي صلى الله عليه و سلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ولأنها تضاف الى الفطر فكانت واجبة به كزكاة المال وذلك لأن الإضافة دليل الاختصاص والسبب أخص بحكمه من غيره والأضحية لا تعلق لها بطلوع الفجر ولا هي واجبة ولا تشبه ما نحن فيه فعلى هذا اذا غربت الشمس والعبد المبيع في مدة الخيار أو وهب له عبد فقبله ولم يقبضه أو اشتراه ولم يقبضه فالفطرة على المشتري والمتهب لأن الملك له والفطرة على المالك ولو أوصي له بعبد ومات الموصي قبل غروب الشمس فلم يقبل الموصى له حتى غابت فالفطرة عليه في أحد الوجهين والآخر على ورثة الموصي بناء على الوجهين في الموصى به هل ينتقل بالموت أو من حين القبول ؟ ولو مات فان كان موته بعد هلال شوال ففطرة العبد في تركته لأن الورثة انما قبلوه له وان كان موته قبل هلال شوال ففطرته على الورثة ولو أوصي لرجل برقبة عبد ولآخر بمنفعته فقبلا كانت الفطرة على مالك الرقبة لأن الفطرة تجب بالرقبة لا بالمنفعة ولهذا تجب على من لا نفع فيه ويحتمل أن يكون حكمها حكم نفقته وفيها ثلاثة أوجه أحدها أنها على مالك نفعه والثاني على مالك رقبته والثالث في كسبه
مسألة : قال : وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه
وجملته أنه يجوز تقديم الفطرة قبل العيد بيومين لا يجوز أكثر من ذلك وقال ابن عمر كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين وقال بعض أصحابنا : يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر كما يجوز تعجيل أذان الفجر والدفع من مزدلفة بعد نصف الليل وقال أبو حنيفة ويجوز تعجيلها من أول الحول لأنها زكاة فأشبهت زكاة المال وقال الشافعي : يجوز من أول شهر رمضان لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه فاذا وجد أحد السببين حاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب
ولنا ما روى الجوزجاني ثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا أبو معشر عن نافع عن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر به فيقسم قال يزيد أظن هذا يوم الفطر ويقول : أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم ] والأمر للوجوب ومتى قدمها بالزمان لكثير لم يحصل اغناؤهم بها يوم العيد وسبب وجوبها الفطر بدليل اضافتها اليه وزكاة المال سببها ملك النصاب والمقصود اغناء الفقير بها في الحول كله فجاز اخراجها في جميعه وهذه المقصود منها الاغناء في وقت مخصوص فلم يجز تقديمها قبل الوقت فأما تقديمها بيوم أو يومين فجائز لما روى البخاري باسناده عن ابن عمر قال : فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقة الفطر من رمضان - وقال في آخره - وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين وهذا اشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يخل بالمقصود منها فان الظاهر أنها تبقى أو بعضها إلى يوم العيد فيستغنى بها عن الطواف والطلب فيه ولأنها زكاة فجاز تعجيلها قبل وجوبها كزكاة المال والله أعلم
مسألة : قال : ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله اذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته
عيال الانسان من يعوله أي يمونه فتلزمه فطرتهم كما تلزمه مؤنتهم اذا وجد ما يؤدى عنهم لحديث ابن عمر أر رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض صدقة الفطر عن كل صغير وكبير حر وعبد ممن تمونون والذي يلزم الانسان نفقتهم وفطرتهم ثلاثة أصناف الزوجات والعبيد والاقارب فأما الزوجات فعليه فطرتهن وبهذا قال مالك و الشافعي و اسحاق وقال أبو حنيفة و الثوري و ابن المنذر : لا تجب عليه فطرة امرأته وعلى المرأة فطرة نفسها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صدقة الفطر على كل ذكر وأنثى ] ولأنها زكاة فوجبت عليها كزكاة مالها
ولنا الخبر ولأن النكاح سبب تجب به النفقة فوجبت به الفطرة كالملك والقرابة بخلاف زكاة المالك فانها لا تتحمل بالملك والقرابة فان كان لامرأته من يخدمها بأجرة فليس على الزوج فطرته لأن الواجب الأجر دون النفقة وإن كان لها نظرت فان كانت ممن لا يجب لها خادم فليس عليه نفقة خادمها ولا فطرته وإن كانت ممن يخدم مثلها فعلى الزوج أن يخدمها ثم هو مخير بين أن يشتري لها خادما أو يستأجر أو ينفق على خادمها فان اشترى لها خادما أو اختار الانفاق على خادمها فعليه فطرته وإن استأجر لها خادما فليس عليه نفقته ولا فطرته سواء شرط عليه مؤنته أو لم يشرط لأن المؤنة اذا كانت أجرة فهي من مال المستأجر وإن تبرع بالأنفاق على من لا تلزمه نفقته فحكمه حكم من تبرع بالانفاق على أجنبي وسنذكره إن شاء الله تعالى وإن نشزت المرأة في وقت الوجوب ففطرتها على نفسها دون زوجها لأن نفقتها لا تلزمه واختار أبو الخطاب أن عليه فطرتها لأن الزوجية ثابتة عليها فلزمته فطرتها كالمريضة التي لا تحتاج إلى نفقة والأول أصح لأن هذه ممن لا تلزمه مؤنته فلا تلزمه فطرته كالأجنبية وفارق المريضة لأن عدم الانفاق عليها لعدم الحاجة لا لخلل في المقتضي لها فلا يمنع ذلك من ثبوت تبعها بخلاف الناشز وكذلك كل امرأة لا يلزمه نفقتها كغير المدخول بها اذا لم تسلم اليه والصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها فانه لا تلزمه نفقتها ولا فطرتها لأنها ليست ممن يمون
فصل : وأما العبيد فان كانوا لغير التجارة فعلى سيدهم فطرتهم لا نعلم فيه خلافا وإن كانوا للتجارة فعليه أيضا فطرتهم وبهذا قال مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و اسحاق و ابن المنذر وقال عطاء و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي لا تلزمه فطرتهم لأنها زكاة ولا تجب في مال واحد زكاتان وقد وجبت فيهم زكاة التجارة فيمتنع وجوب الزكاة الأخرى كالسائمة اذا كانت للتجارة
ولنا عموم الأحاديث وقول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ زكاة الفطر على الحر والعبد ] وفي حديث عمرو بن شعيب : [ ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر أو انثى حر أو عبد صغير أو كبير ] ولأن نفقتهم واجبة فوجبت فطرتهم كعبيد القنية أو نقول مسلم تجب مؤنته فوجبت فطرته كالأصل وزكاة الفطرة تجب على البدن ولهذا تجب على الأحرار وزكاة التجارة تجب عن القيمة وهي المال بخلاف السوم والتجارة فانهما يجبان بسبب مال واحد متى كان عبيد التجارة في يد المضارب وجبت فطرتهم من مال المضاربة لأن مؤنتهم منها وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنها على رب المال
ولنا أن الفطرة تابعة للنفقة وهي من مال المضاربة فكذلك الفطرة

فصول : فطرة العبد والقريب الغائب والعبيد وأزواجهم
فصل : وتجب فطرة العبد الحاضر والغائب الذي تعلم حياته والآبق والصغير والكبير والمرهون والمغصوب قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن على المرء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر غير المكاتب والمغصوب والآبق وعبيد التجارة فأما الغائب فعليه فطرته اذا علم أنه حي سواء رجي رجعته أو أيس منها وسواء كان مطلقا أو محبوسا كالأسير وغيره قال ابن المنذر : أكثر أهل العلم يرون أن تؤدى زكاة الفطر عن الرقيق غائبهم وحاضرهم لأنه مالك لهم فوجبت فطرتهم عليه كالحاضرين وممن أوجب فطرة الآبق الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأوجبها الزهري اذا علم مكانه و الأوزاعي إن كان في دار الاسلام و مالك إن كانت غيبته قريبة ولم يوجبها عطاء و الثوري وأصحاب الرأي لأنه لا يلزمه الانفاق عليه فلا تجب فطرته كالمرأة الناشز
ولنا أنه مال له فوجبت زكاته في حال غيبته كمال التجارة ويحتمل أن لا يلزمه اخراج زكاته حتى يرجع إلى يده كزكاة الدين والمغصوب ذكره ابن عقيل ووجه القول الأول أن زكاة الفطر تجب تابعة للنفقة والنفقة تجب مع الغيبة بدليل أن من رد الآبق رجع بنفقته وأما من شك في حياته منهم وانقطعت أخباره لم تجب فطرته نص عليه في رواية صالح لأنه لا يعلم بقاء ملكه عليه ولو أعتقه في كفارته لم يجزئه فلم تجب فطرته كالميت فان مضت عليه سنون ثم علم حياته لزمه الاخراج لما مضى لأنه بان له وجود سبب الوجوب في الزمن الماضي فوجب عليه الاخراج لما مضى كما لو سمع بهلاك ماله الغائب ثم بان أنه كان سالما والحكم في القريب الغائب كالحكم في البعيد لأنهم ممن تجب فطرتهم مع الحضور فكذلك مع الغيبة كالعبيد ويحتمل أن لا تجب فطرتهم مع الغيبة لأنه لا يلزمه بعث نفقتهم اليهم ولا يرجعون بالنفقة الماضية
فصل : فأما عبيد عبيده فان قلنا ان العبد لا يملكهم بالتمليك فالفطرة على السيد لأنهم ملكه وهذا ظاهر كلام الخرقي وقول أبي الزناد و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وان قلنا يملك بالتمليك فقد قيل لا تجب فطرتهم على أحد لأن السيد لا يملكهم وملك العبد ناقص والصحيح وجوب فطرتهم لأن فطرتهم تتبع النفقة ونفقتهم واجبة فكذلك فطرتهم ولا يعتبر في وجوبها كمال الملك بدليل وجوبها على المكاتب عن نفسه وعبيده مع نقص ملكه
فصل : وأما زوجة العبد فذكر أصحابنا المتأخرون أن فطرتها على نفسها ان كانت حرة وعلى سيدها ان كانت أمة وقياس المذهب عندي وجوب فطرتها على سيد العبد لوجوب نفقتها عليه ألا ترى أنه تجب عليه فطرة خادم امرأته مع أنه لا يملكها لوجوب نفقتها وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أدوا صدقة الفطر عمن تمونون ] وهذه ممن يمونون وقد ذكر أصحابنا أنه لو تبرع بمؤنة شخص لزمته فطرته فمن تجب عليه أولى وهكذا لو زوج الابن أباه وكان ممن تجب عليه نفقته ونفقة امرأته فعليه فطرتهما والله أعلم

فصل : ومن تبرع بمؤنة أحد في شهر رمضان
فصل : وان تبرع بمؤنة انسان في شهر رمضان فأكثر أصحابنا يختارون وجوب الفطرة عليه وقد نص عليه أحمد في رواية أبي داود فيمن ضم الى نفسه يتيمة يؤدي عنها وذلك لقوله عليه السلام : [ أدو صدقة الفطر عمن تمونون ] وهذا ممن يمونون ولأنه شخص ينفق عليه فلزمته فطرته كعبده واختار أبو الخطاب لا تلزمه فطرته لأنه لا تلزمه مؤنته فلم تلزمه فطرته كما لو يمنه وهذا قول أكثر أهل العلم وهو الصحيح ان شاء الله وكلام أحمد في هذا محمول على الاستحباب لا على الايجاب والحديث محمول على من تلزمه مؤنته لا على حقيقة المؤنة بدليل أنه تلزمه فطرة الآبق ولم يمنه ولو ملك عبدا عند غروب الشمس أو تزوج أو ولد له ولد لزمته فطرتهم لوجوب مؤنتهم عليه وان لم يمنهم ولو باع عبده أو طلق امرأته أو ماتا أو مات ولده لم تلزمه فطرتهم وان مانهم ولأن قوله : [ ممن يمونون ] فعل مضارع فيقتضي الحال أو الاستقبال دون الماضي ومن مانه في رمضان انما وجدت مؤنته في الماضي فلا يدخل في الخبر ولو دخل فيه لاقتضى وجوب الفطرة على من مانه ليلة واحدة وليس في الخبر ما يقيده بالشهر ولا بغيره فالتقييد بمؤنة الشهر تحكم فعلى هذا القول تكون فطرة هذا المختلف فيه على نفسه كما لو لم يمنه وعلى قول أصحابنا المعتبر الانفاق في جميع الشهر وقال ابن عقيل : قياس مذهبنا أنه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته قياسا على من ملك عبدا عند غروب الشمس وإذا مانه جماعة في الشهر كله أو مانه إنسان بعض الشهر فعلى قياس قول ابن عقيل هذا تكون فطرته على من مانه آخر ليلة وعلى قول غيره يحتمل أن لا تجب فطرته على أحد ممن مانه لأن سبب الوجوب المؤنة في جميع الشهر ولم يوجد ويحتمل أن تجب على الجميع فطرة واحدة بالحصص لأنهم اشتركوا في سبب الوجوب فأشبه مال لو اشتركوا في ملك عبد

مسألة وفصلان : الغنى المشترط لوجوب زكاة الفطر
مسألة : قال : واذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته
وجملة ذلك أن صدقة الفطر واجبة على من قدر عليها ولا يعتبر في وجوبها نصاب وبهذا قال أبو هريرة وأبو العالية و الشعبي و عطاء و ابن سيرين و الزهري و مالك و ابن مبارك و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي : لا تجب الا على من يملك مائتي درهم أو ماقيمته نصاب فاضل عن مسكنه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا صدقة إلا عن ظهر غنى ] والفقير لا غنى له فلا تجب عليه ولأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه كمن لا يقدر عليها
ولنا ما روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أدوا صدقة الفطر صاعا من قمح - أو قال بر - عن كل انسان صغير أو كبير حر أو مملوك غني أو فقير ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى ] وفي رواية أبي داود : [ صاع من بر أو قمح عن كل اثنين ] ولأنه حق مال لا يزيد بزيادة المال فلا يعتبر وجوب النصاب فيه كالكفارة ولا يمتنع أن يؤخذ منه ويعطى لمن وجب عليه العشر والذي قاسوا عليه عاجز فلا يصح القياس عليه وحديثهم محمول على زكاة المال
فصل : وإذا لم يفضل إلا صاع أخرجه عن نفسه لقوله عليه السلام : [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] ولأن الفطرة تنبني على النفقة فكما يبدأ بنفسه في النفقة فكذلك في الفطرة فان فضل آخر أخرجه عن امرأته لأن نفقتها آكد فان نفقتها تجب على سبيل المعاوضة مع اليسار والاعسار ونفقة الاقارب صلة تجب مع اليسار دون الاعسار فان فضل آخر أخرجه عن رقيقه لوجوب نفقتهم في الاعسار وقال ابن عقيل : يحتمل تقديم الرقيق على الزوجة لأن فطرته متفق عليها وفطرتها مختلف فيها وان فضل آخر أخرجه عن ولده الصغير لأن نفقته منصوص عليها ومجمع عليها وفي الوالد والولد الكبير وجهان احدهما يقدم الولد لأنه كبعضه والثاني الوالد لأنه كبعض والده وتقدم فطرة الأم على فطرة الأب لأنها مقدمة في البر بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم للاعرابي لما سأله : من أبر ؟ قال : أمك قال ثم من قال : أمك قال ثم من ؟ قال : أمك قال ثم من قال : ثم أباك ] ولأنها ضعيفة عن الكسب ويحتمل تقديم فطرة الأب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت ومالك لأبيك ] ثم بالجد ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات في الميراث ويحتمل تقديم فطرة الولد على فطرة المرأة لما روى أبو هريرة قال : [ أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصدقة فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي دينار قال : تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال : تصدق به على ولدك قال عندي آخر قال : تصدق به على زوجتك قال عندي آخر قال : تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال أنت أبصر ] فقدم الولد في الصدقة عليه فكذلك في الصدقة عنه ولأن الولد كبعضه فيقدم كتقديم نفسه ولأنه اذا ضيع ولده لم يجد من ينفق عليه فيضيع والزوجة إذا لم ينفق عليها فرق بينهما وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم ولأن نفقة الزوجة على سبيل المعاوضة فكانت أضعف في استتباع الفطرة من النفقة الواجبة على سبيل الصلة لأن وجوب العوض المقدر لا يقتضي وجوب زيادة عليه يتصدق بها عمن له العوض ولهذا لم تجب فطرة الأخير المشروط له مؤنته بخلاف القرابة فانها كما اقتضت صلته بالانفاق عليه اقتضت صلته بتطهيره باخراج الفطرة عنه
فصل : فان لم يقضل الا بعض صاع فهل يلزمه اخراجه ؟ على روايتين
إحداهما : لا يلزمه اختارها ابن عقيل لأنها طهرة فلا تجب على من لا يملك جميعها كالكفارة
والثانية : يلزمه إخراجه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] ولأنها طهرة فوجب منها ما قدر عليه كالطهارة بالماء ولأن الجزء من الصاع يخرج عن العبد المشترك فجاز أن يخرج عن غيره كالصاع

فصلان : فطرة الزوجة ومن وجبت فطرته على غيره
فصل : فان أعسر بفطرة زوجته فعليها فطرة نفسها أو على سيدها ان كانت مملوكة لأنها تتحمل إذا كان ثم متحمل فاذا لم يكن عاد اليها كالنفقة ويحتمل أن لا يجب عليها شيء لأنها لم تجب على من وجد سبب الوجوب في حقه لعسرته فلم تجب على غيره كفطرة نفسه وتفارق النفقة فان وجوبها آكد لأنها مما لا بد منه وتجب على المعسر والعاجز ويرجع عليه بها عند يساره والفطرة بخلافها
فصل : ومن وجبت فطرته على غيره كالمرأة والنسيب الفقير إذا أخرج عن نفسه باذن من تجب عليه صح بغير خلاف نعلمه لأنه نائب عنه وان أخرج بغير أذنه ففيه وجهان
أحدهما : يجزئه لأنه أخرج فطرته فأجزأه كالتي وجبت عليه
والثاني : لا يجزئه لأنه أدى ما وجب على غيره بغير أذنه فلم يصح كما لو أدى عن غيره

مسائل وفصول : فروع على من تجب الفطرة وكيف ؟ !
فصل : ومن له دار يحتاج إليها لسكناها أو إلى أجرها لنفقته أو ثياب بذلة له أو لمن تلزمه مؤنته أو رقيق يحتاج الى خدمتهم هو أو من يمونه أو بهائم يحتاجون إلى ركوبها والانتفاع بها في حوائجهم الأصلية أو سائمة يحتاج إلى نمائها كذلك أو بضاعة يختل ربحها الذي يحتاج اليه باخراج الفطرة منها فلا فطرة عليه كذلك لأن هذا مما تتعلق به حاجته الأصلية فلم يلزمه بيعه كمؤنة نفسه ومن له كتب يحتاج اليها للنظر فيها والحفظ منها لا يلزمه بيعها والمرأة اذا كان لها حلي للبس أو لكراء يحتاج اليه لم يلزمها بيعه في الفطرة وما فضل من ذلك عن حوائجه الأصلية وأمكن بيعه وصرفه في الفطرة وجبت الفطرة به لأنه أمكن أداؤها من غير ضرر أصلي أشبه ما لو ملك من الطعام ما يؤديه فاضلا عن حاجته
مسألة : قال : وليس عليه في مكاتبه زكاة
وعلى المكاتب أن يخرج عن نفسه زكاة الفطر وممن قال لا تجب فطرة المكاتب على سيده أبو سلمة بن عبد الرحمن و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وأوجبها على السيد عطاء و مالك و ابن المنذبر لأنه عبد فأشبه سائر عبيده
ولنا قوله عليه السلام : [ ممن تمونون ] وهذا لا يمونه ولأنه لا تلزمه مؤنته فلم تلزمه فطرته كالأجنبي وبهذا فارق سائر عبيده اذا ثبت هذا فان على المكاتب فطرة نفسه وفطرة من تلزمه مؤنته كزوجته ورقيقه وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا تجب عليه لأنه ناقص الملك فلم تجب عليه الفطرة كالقن ولأنها زكاة فلم تجب عليه كزكاة المال
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم فرض صدقة الفطر على الحر والعبد والذكر والأنثى وهذا عبد ولا يخلو من كونه ذكرا أو أنثى ولأنه يلزمه نفقة نفسه فلزمته فطرتها كالحر الموسر ويفارق زكاة المال لأنها يعتبر لها الغنى والنصاب والحول ولا يحملها أحد عن غيره بخلاف الفطرة
فصل : وتلزم المكاتب فطرة من يمونه كالحر لدخولهم في عموم قوله عليه السلام : [ أدوا صدقة الفطر عمن تمونون ]
مسألة : قال : واذا ملك جماعة عبدا أخرج كل واحد منهم صاعا وعن أبي عبد الله رواية أخرى صاعا عن الجميع
وجملة ذلك أن فطرة العبد المشترك واجبة على مواليه وبهذا قال مالك و محمد بن سلمة وعبد الملك و الشافعي و محمد بن الحسن و أبو ثور وقال الحسن وعكرمة و الثوري و أبو حنيفة و أبو يوسف : لا فطرة على واحد منهم لأنه ليس عليه لأحد منهم ولاية تامة أشبه المكاتب
ولنا عموم الأحاديث ولأنه عبد مسلم مملوك لمن يقدر على الفطرة وهو من أهلها فلزمته لمملوك الواحد وفارق المكاتب فانه لا تلزم سيده مؤنته ولأن المكاتب يخرج عن نفسه زكاة الفطر بخلاف القن والولاية غير معتبرة في وجوب الفطرة بدليل عبد الصبي ثم ان ولايته للجميع فتكون فطرته عليهم واختلفت الرواية في قدر الواجب على كل واحد منهم ففي إحداهما على كل واحد صاع لأنها طهرة فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء ككفارة القتل والثانية على الجميع صاع واحد على كل واحد منهم بقدر ملكه فيه وهذا الظاهر عن أحمد قال فوران : رجع أحمد عن هذه المسألة وقال : يعطي كل واحد منهم نصف صاع يعني رجع عن إيجاب صاع كامل على كل واحد وهذا قول سائر من أوجب فطرته على سادته لأن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب صاعا على كل واحد وهذا عام في المشترك وغيره ولأن نفقته تقسم عليهم فكذلك فطرته التابعة لها ولأنه شخص واحد فلم تجب عنه صيعان كسائر الناس ولأنها طهرة فوجبت على سادته بالحصص كماء الغسل من الجنابة اذا احتيج اليه وبهذا ينتقض ما ذكرناه للرواية الأولى
فصل : ومن بعضه حر ففطرته عليه وعلى سيده وبهذا قال الشافعي : و أبو ثور وقال مالك على الحر بحصته وليس على العبد شيء
ولنا أنه عبد مسلم تلزم فطرته شخصين من أهل الفطرة فكانت فطرته عليهما كالمشترك ثم هل يلزم كل واحد منهما صاع أو بالحصص ينبني على ما ذكرنا في العبد المشترك فان كان أحدهما معسرا فلا شيء عليه وعلى الآخر بقدر الواجب عليه ولو كان بين العبد وبين السيد مهايأة أو كان المشتركون في العبد قد تهايؤا عليه لم تدخل الفطرة في المهايأة لأن المهايأة معاوضة كسب بكسب والفطرة حق لله تعالى فلا تدخل في ذلك كالصلاة
فصل : ولو ألحقت القافة ولدا برجلين أو أكثر فالحكم في فطرته كالحكم في العبد المشترك ولو أن شخصا حرا له قريبان فأكثر عليهم نفقته بينهم كانت فطرته عليهم كالعبد المشترك على ما ذكر فيه

مسألة وفصل : تعطى صدقة الفطر لمن يعطى صدقة المال الأصناف الثمانية
مسألة : قال : ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطى صدقة الأموال
انما كانت كذلك لأن صدقة الفطر زكاة فكان مصرفها مصرف سائر الزكاوات ولأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية ولا يجوز دفعها الى من لا يجوز دفع زكاة المال اليه ولا يجوز دفعها الى ذمي وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة يجوز وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمذاني أنهم كانوا يعطون منها الرهبان
ولنا أنها زكاة فلم يجز دفعها إلى غير المسلمين كزكاة المال ولا خلاف في أن زكاة المال لا يجوز دفعها إلى غير المسلمين قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن لا يجزىء أن يعطى من زكاة المال أحد من أهل الذمة
فصل : ويجوز أن يعطي أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله ولا يعطي منها غنيا ولا ذا قربى ولا أحدا ممن منع أخذ زكاة المال ويجوز صرفها في الأصناف الثمانية لأنها صدقة فأشبهت صدقة المال

فصل : رجوع زكاة الفطر الى من أخرجها
فصل : فان دفعها إلى مستحقها فأخرجها آخذها إلى دافعها أو جمعت الصدقة عند الامام ففرقها على أهل السهمان فعادت إلى إنسان صدقته فاختار القاضي جواز ذلك قال لأن أحمد قد نص فيمن له نصاب من الماشية والزرع أن الصدقة تؤخذ منه وترد عليه إذا لم يكن له قدر كفايته وهو مذهب الشافعي ولأن قبض الامام أو المستحق أزال ملك المخرج وعادت اليه بسبب آخر فجاز كما لو عادت بميراث وقال أبو بكر : مذهب أحمد أنه لا يحل له أخذها لأنها طهرة له فلم يجز له أخذها كشرائها ولأن عمر رضي الله عنه أراد أن يشتري الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تشترها ولا تعد في صدقتك فان العائد في صدقته كالعائد في قيئه ] فأما ان اشتراها لم يجز له ذلك للخبر فان ورثها فله أخذها لأنها رجعت اليه بغير فعل منه

مسألة : ويجوز أن يعطي الواحد صدقة الجماعة أو بالعكس
مسألة : قال : ويجوز أن يعطي الواحد ما يلزم الجماعة والجماعة ما يلزم الواحد
اعطاء الجماعة ما يلزم الواحد لا نعلم فيه خلافا لأنه صرف صدقته إلى مستحقها فبرىء منها كما لو دفعها الى واحد وأما اعطاء الواحد صدقة الجماعة فان الشافعي ومن وافقه أوجبوا تفرقة الصدقة على ستة أصناف ودفع حصة كل صنف الى ثلاثة منهم على ما ذكرناه قبل هذا وقد ذكرنا الدليل عليه ولأنها صدقة لغير معين فجاز صرفها الى واحد كالتطوع وبهذا قال مالك و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي

مسألة : زكاة الفطر على الجنين
مسألة : قال : ومن أخرج عن الجنين فحسن وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يخرج عن الجنين
المذهب أن الفطرة غير واجبة على الجنين وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : كل من تحفظ عنه من علماء الأمصار لا يوجبون على الرجل زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمه وعن أحمد رواية أخرى أنها تجب عليه لأنه آدمي تصح الوصية له وبه ويرث فيدخل في عموم الأخبار ويقاس على المولود
ولنا أنه جنين فلم تتعلق الزكاة به كأجنة البهائم ولأنه لم تثبت له أحكام الدنيا الا في الأرث والوصية بشرط أن يخرج حيا
اذا ثبت هذا فانه يستحب اخراجها عنه لأن عثمان كان يخرجها عنه ولأنها صدقة عمن لا تجب عليه فكانت مستحبة كسائر صدقات التطوع

مسألة : اخراج المدين لزكاة الفطر
مسألة : قال : ومن كان في يده ما يخرجه عن صدقة الفطر وعليه دين مثله لزمه أن يخرج الا أن يكون مطالبا بالدين فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه
انما لم يمنع الدين الفطرة لأنها آكد وجوبا بدليل وجوبها على الفقير وشمولها لكل مسلم قدر على اخراجها ووجوب تحملها عمن وجبت نفقته على غيره ولا تتعلق بقدر من المال فجرت مجرى النفقة ولأن زكاة المال تجب بالملك والدين يؤثر في الملك فأثر فيها وهذه تجب على البدن والدين لا يؤثر فيه وتسقط الفطرة عند المطالبة بالدين لوجوب ادائه عند المطالبة وتأكده بكونه حق آدمي معين لا يسقط بالإعسار وكونه أسبق سببا وأقدم وجوبا يأثم بتأخيره فانه يسقط غير الفطرة وان لم يطالب به لأن تأثير المطالبة إنما هو في إلزام الاداء وتحريم التأخير

فصول : من مات وعليه صدقة الفطر
فصل : وإن مات من وجبت عليه الفطرة قبل ادائها أخرجت من تركته فان كان عليه دين وله مال يفي بهما قضيا جميعا وإن لم يف بهما قسم بين الدين والصدقة بالحصص نص عليه أحمد في زكاة المال أن التركة تقسم بينهما وكذا ههنا فان كان عليه زكاة مال وصدقة فطر ودين فزكاة الفطر والمال كالشيء الواحد لاتحاد مصرفهما فيحاصان الدين وأصل هذا أن حق الله سبحانه وحق الآدمي اذا تعلقا بمحل واحد فكانا في الذمة أو كانا في العين تساويا في الاستيفاء

فصل : واذا مات المفلس وله عبيد ؟
فصل : واذا مات المفلس وله عبيد فهل شوال قبل قسمتهم بين الغرماء ففطرتهم على الورثة لأن الدين لا يمنع نقل التركة بل غايته أن يكون رهنا بالدين وفطرة الرهن على مالكه

فصل : ولو مات للمكلف احد ممن يعوله ؟
فصل : ولو مات عبيده أو من يمونه بعد وجوب الفطرة لم تسقط لأنها دين ثبت في ذمته بسبب عبده فلم تسقط بموته كما لو استدان العبد بأذنه دينا وجب في ذمته ولأن زكاة المال لا تسقط بتلفه فالفطرة أولى فان زكاة المال تتعلق بالعين في إحدى الروايتين وزكاة الفطر بخلافه

فصول في صدقة التطوع مسألة : صدقة التطوع مستحبة في كل الأوقات
فصل : وهي مستحبة في جميع الأوقات لقوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } وأمر بالصدقة في آيات كثيرة وحث عليها ورغب فيها وروى ابو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد الى الله الا الطيب فان الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ] متفق عليه
وصدقة السر أفضل من صدقة العلانية لقول الله تعالى : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم }
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ] - وذكر منهم رجلا - [ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ] متفق عليه
وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان صدقة السر تطفىء غضب الرب ] ويستحب الاكثار منها في أوقات الحاجات لقول الله تعالى : { أو إطعام في يوم ذي مسغبة } وفي شهر رمضان لأن الحسنات تضاعف فيه ولأن فيه اعانة على أداء الصوم المفروض ومن فطر صائما كان له مثل أجره
وتستحب الصدقة على ذي القرابة لقول الله تعالى : { يتيما ذا مقربة } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة ] وهذا حديث حسن
[ وسألت زينب امرأة عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه و سلم هل ينفعها أن تضع صدقتها في زوجها وبني أخ لها يتامى ؟ قال : نعم لها أجران : أجر القرابة وأجر الصدقة ] رواه النسائي
وتستحب الصدقة على من اشتدت حاجته لقول الله تعالى : { مسكينا ذا متربة }

فصل : والأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يعوله
فصل : والأولى أن يتصدق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ] متفق عليه وان تصدق بما ينقص عن كفاية من تلزمه مؤنته ولا كسب له أثم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون ] ولأن نفقة من يمونه واجبة والتطوع نافلة وتقديم النفل على الفرض غير جائز فان كان الرجل وحده أو كان لمن يمون كفايتهم فأراد الصدقة بجميع ماله وكان ذا مكسب أو كان واثقا من نفسه يحسن التوكل والصبر على الفقر والتعفف عن المسألة فحسن [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن أفضل الصدقة فقال : جهد من مقل الى فقير في السر ] وروي عن عمر رضي الله عنه قال : [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر ان سبقته يوما فجئته بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أبقيت لأهلك ؟ قلت : أبقيت لهم مثله فأتاه أبو بكر بكل ما عنده فقال له : ما أبقيت لأهلك ؟ قال الله ورسوله فقلت لا أسابقك الى شيء بعده أبدا ] فهذا كان فضيلة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقوة يقينه وكمال إيمانه وكان أيضا تاجرا ذا مكسب فانه قال حين ولي : قد علم الناس أن كسبي لم يكن ليعجز عن مؤنة عيالي أو كما قال رضي الله عنه : فان لم يوجد في المتصدق أحد هذين كره لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : [ كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم اذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال : مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فقال : مثل ذلك فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يأتي أحدكم بما يملك ويقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ] فقد نبه النبي صلى الله عليه و سلم على المعنى الذي كره من أجله الصدقة بجميع ماله وهو أن يستكف الناس أي يتعرض لهم للصدقة أي يأخذها ببطن كفه يقال تكفف واستكف إذا فعل ذلك وروى النسائي أن [ النبي صلى الله عليه و سلم أعطى رجلا ثوبين من الصدقة ثم حث على الصدقة فطرح الرجل أحد ثوبيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ألم تروا الى هذا دخل بهيئة بذة فأعطيته ثوبين ثم قلت تصدقوا فطرح أحد ثوبيه خذ ثوبك وانتهره ] ولأن الانسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج منه فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير كلا على الناس ويكره لمن لا صبر له على الاضافة أن ينقص نفسه من الكفاية التامة
والله أعلم

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصيام
الصيام في اللغة الإمساك : صام النهار إذا وقف سير الشمس قال الله تعالى إخبارا عن مريم : { إني نذرت للرحمن صوما } أي صمتا لأنه إمسك عن الكلام وقال الشاعر :
( خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما )
يعني بالصائمة الممسكة عن الصهيل والصوم في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوص في وقت مخصوص يأتي بيانه إن شاء الله تعالى وصوم رمضان واجب والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } إلى قوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بني الإسلام على خمس ] ذكر منكم صوم رمضان وعن طلحة بن عبيد الله [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم ثائر الرأس فقال : يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام ؟ قال : شهر رمضان قال هل علي غيره ؟ قال : لا إلا أن تطوع شيئا قال : فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم بشرائع الإسلام قال والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال النبي صلى الله عليه و سلم أفلح أن صدق أو دخل الجنة إن صدق ] متفق عليهما وأجمع على وجوب صيام شهر رمضان

حكم صوم رمضان ومشروعيته
فصل [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ] متفق عليه وروي عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ] فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة والمستحب مع ذلك أن يقول شهر رمضان كما قال الله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } واختلف في المعنى الذي لأجله سمي رمضان فروي أنس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إنما سمي رمضان لأنه يحرق الذنوب ] فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه وقيل هذا اسم موضوع لغير معنى كسائر الشهور وقيل غير ذلك
فصل : والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وروي معنى ذلك عن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم وروي عن علي رضي الله عنه أنه لما صلى الفجر قال : الآن حين تبين الخيط البيض من الخيط الأسود وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق لم يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وهذا قول الأعمش
ولنا قول الله تعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ] دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال : هذا قول جماعة علماء المسلمين

يوم الشك
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم
وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ويسلموا من الاختلاف وقد روي الترمذي عن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : احصوا الهلال شعبان لرمضان ] فإذا رأوه وجب عليهم الصيام اجماعا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم أو صوم يوم الخميس أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك إذا وافق صومه أو من صيام قبل ذلك بأيام فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه ] متفق عليه وقال عمار : من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه و سلم هذا حديث حسن صحيح وكره أهل العلم صوم يوم الشك واستقبال رمضان باليوم واليومين لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عنه وحكي عن القاسم بن محمد أنه سئل صيام آخر يوم من شعبان هل يكره ؟ قال : لا إلا أن يغمى الهلال واتباع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى فأما استقبال الشهر بأكثر من يومين فغير مكروه فإن مفهوم حديث أبي هريرة أنه غير مكروه لتخصيصه النهي باليوم واليومين وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا كان النصف من شعبان فامسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان ] قال الترمذي هذا حديث حسن الصحيح إلا أن أحمد قال : ليس هو بمحفوظ قال وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي فلم يصححه ولم يحدثني به وكان يتوقاه قال أحمد و العلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا لأنه خلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يصل شعبان برمضان ويحمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صيام الشهر كله فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر فلا تعارض بين الخبرين إذا وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحمدهما بصاحبه والله أعلم وفي كلام الخرقي فيه اختصار وتقديره طلبوا الهلال فإن رأوه صاموا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يصوموا فحذف بعض الكلام للعلم به اختصارا

ما يقول من رأى الهلال
فصل ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأى الهلال قال الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة الإسلام والتوفيق لما تحب وترضى ربي وربك الله ] رواه الاثرم

وإذا رأى الهلال أهل البلد لزم جميع البلاد الصوم
فصل : وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم قول الليث وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في إحداهما وإن كان بينهما بعد كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم وروي عن عكرمة أنه قال لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم وسالم وإسحاق لما روى كريب قال : قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ قلت رأيناه ليلة الجمعة فقال : أنت رأيته ليلة الجمعة ؟ قلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكم رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه مسلم أيضا
ولنا قول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقول النبي صلى الله عليه و سلم للأعرابي لما قال له : [ الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة ؟ قال : نعم ] وقوله للآخر لما قال له [ ماذا فرض الله علي من الصوم ؟ قال : شهر رمضان ] وأجمع المسلمون على وجوب شهر رمضان وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع ولأن البينة العادلة شهدت رؤية الهلال فيجب الصوم كما قو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم والأول وليس هو في حديث فإن قيل فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما ولم يروا الهلال أفطروا في أحد الوجهين قلنا الجواب عن هذا من وجهين : أحدهما أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادة فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وههنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه الثاني أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر

مسألة وإذا حال دون رؤيته حائل ففي صيام يوم الثلاثين من شعبان اختلاف
مسألة : قال : وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان
اختلف الرواية عن أحمد رحمه الله في هذا المسألة فروي عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر الشيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون ] قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وعن أحمد رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة و مالك و الشافعي ومن تبعهم لما روى أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ] رواه مسلم وقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صوم يوم الشك متفق عليه وهذا يوم شك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك
ولنا ما روي نافع عن ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ] قال نافع : كان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما بعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصحب صائما رواه أبو داود ومعنى اقدروا له أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق عليه قوله { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما وقد فسره ابن عمر بفعله وهو رواية وأعلم بمعناه فتجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسيره التفرق في خيرا المتابعين وروي عن عمر رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لرجل : هل صمت من سرر شعبان شيئا ؟ قال : لا ] وفي لفظ : [ أصمت من سرر هذا الشهر شيئا قال : لا قال فإذا أفطرت فصم يومين ] متفق عليه وسرر الشهر آخره ليال يستسر الهلال فلا ينظر ولأنه شك في أحد طرفي الشره لم يظهر فيه أنه من غير رمضان فوجب الصوم كالطرف الآخر قال علي وأبو هريرة وعائشة : لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أفطر يوما من رمضان ولأن الصوم يحتاج له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به فإنه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة : فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين وروايته أولى بالتقديم لامامته وإشهار عدالته وثقته وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر فاقدروا له ثلاثين مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه والنهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو بدليل ما ذكرناه وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر على ما ذكرنا من الخلاف فيه

نية الصيام وجوب النية في الصيام
مسألة : ولا يجزئه صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل
وجملته أنه لا يصح صوم إلا بنية إجماعا فرضا كان أو تطوعا لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة ثم إن كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا و مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين بينة من النهار [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة : من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم ] متفق عليه وكان صوما واجبا متعينا ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع
ولنا ما روى ابن جريج و عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له ] وفي لفظ ابن حزم [ من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ] أخرجه النسائي و أبو داود و الترمذي وروي الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له ] وقال إسناده كلهم ثقات وقال في حديث حفصة رفعة عبد الله بن أبي بكر عن الزهري وهو من الثقات الرفعاء ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فأما صوم عاشوراء فلم يثبت وجوبه فإن معاوية قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر ] متفق عليه فلو كان واجبا لم يبح فطره فإنما سمي الإمساك صياما تجوزا بدليل قوله : ومن كان أصبح مفطرا فيصم بقية يومه ولم يفرق بين المفطر بالأكل وغيره وقد روى البخاري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر رجلا أن أذن في الناس : إن من كان أكل فليصم بقية يومه ] وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي وإنما سماه صياما تجوزا ثم لو ثبت أنه صام فالفرق بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام فإنه تجزئه نيته أثناء النهار فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر إتمام صوم بقية يومه فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدما والفرق بين التطوع والفرض من وجهين : أحدهما أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء فليصم بقية يومه فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله والفرض يكون واجبا في جميع النهار ولا يكون صائما بغير النية والثاني أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له إنه قد يبدوا له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به
ولنا مفهوم قوله عليه السلام : [ لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ] من غير تفصيل ولأنه نوى من الليل فصح صومه كما لو نوى النصف الأخير ولم يفعل ما ينافي الصوم ولأن تخصيص النية بالنصف الأخير يفضي إلى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم والشارع إنما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عند فلا يختصها بمحل لا تندفع المشقة بتخصيصها به ولأن تخصيصها بالنصف الأخير لحكم من غير دليل ولا يصح اعتبار الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة لأنهما يجوزان بعد الفجر تجويزها فيه واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر والنية بخلافه فأما أن فسخ النية مثل أن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة لأنها زالت حكما وحقيقة

وإن نوى في النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية
فصل : وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل وقد روى ابن منصور عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل فلا بأس إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الأجزاء بنيته من النهار إلا أن القاضي قال : هذا محمول على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام : [ لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ] ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة ولا قريبا منها فلم يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد غد

وتجب النية لكل يوم وفي رواية نية واحدة لجميع الشهر
فصل : وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و ابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك و إسحاق لأنه نوي في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته
ولنا أنه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان

معنى النية
فصل : ومعنى النية القصد وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكمن له أصل يبني عليه مصل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتير فعزم أن يصوم غدا من رمضان لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد و ربيعة و مالك و ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و ابن المنذر وقال الثوري و الأوزاعي يصح إذا نواه من الليل لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أنه لم يجز النية بصومه من رمضان فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به فكان وجوده كعدمه [ قال النبي صلى الله عليه و سلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ] وفي رواية : [ لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه ] فأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بصومه بقوله : [ ولا تفطروا حتى تروه ] لكن إن قال : إن كان غدا من رمضان فأنا صائم وإن كان من شوال فأنا مفطر قال ابن عقيل : لا يصح صومه لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان

يجب تعيين النية في كل صوم واجب
فصل : ويجب تعيين النية في كل صوم واجب وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته أو نذره نص عليه أحمد في رواية الاثرم فإنه قال : قلت لأبي عبد الله أسير صام شهر رمضان في أرض الروم ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع ؟ قال : لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل أنه من رمضان وبهذا قال مالك و الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان فإن المروذي روى عن أحمد أنه قال يكون يوم الشك يوم غيم إذا اجتمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان وإن لم نعتقد أنه من رمضان ؟ قال : نعم قلت فقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الأعمال بالنيات ] أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان ؟ قال : لا إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري عن بعض أصحابنا أنه قال : ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض أصحابنا : ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي : وجدت هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم ذكره في شرحه وقال أبو حفص لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا وقع عن رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقيما لأنه فرض مستحق في زمن يبينه فلا يجب تعيين النية له كطواف الزيارة
ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أ طاف بنية الطواف مطلقا لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح وينعقد فاسدا بخلاف الصوم
فصل : ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فأنا صائم فرضا وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الأولى : لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما ويجزيه على الأخرى قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد وكان الاثنين أو ظن أن غدا الأحد فنواه وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت
فصل : وإذا عين النية عن صوم رمضان أو قضائه كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا وقال ابن حامد يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة

صحبة نية التطوع في كل وقت بالنهار
مسألة : قال : ومن نوى صيام التطوع من النهار ولم يكن طعم أجزأه
وجملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا أبي حنيفة والشافعي وروي ذلك عن أبي الدرداء و أبي مسعود و حذيفة و سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير و النخعي وأصحاب الرأي وقال مالك و داود : لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام : [ لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ] ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها وكذلك الصوم
ولنا ما روت [ عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي النبي صلى الله عليه وسلام ذات يوم فقال : هل عندكم من شيء ؟ قلنا : لا قال : فإني إذا صائم ] أخرجه مسلم و أبو داود و النسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء لأن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه يشترط القيام لنفلها ويجوز في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذا الصيام وحديثهم نخصه بحديثنا أصح من حديثهم فإنه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قال الميموني : سألت أحمد عنه فقال : أخبرك ما له عندي ذلك الإسناد إلا أنه ابن عمر و حفصة اسنادان جيدان والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفى عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة لهذه العلة
فصل : وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا الظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر ابن مسعود فإنه قال أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب وقال رجل لسعيد بن المسيب : إني لم آكل إلى الظهر أو إلى العصر أفأصوم بقية يومي ؟ قال : نعم واختار القاضي في المحرر أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة ولهذا تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لإدراكه معظمها ولو أدركه بعد الرفع لم يكن مدركا لها ولو أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لأنها تزيد بالتشهد ولو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها
ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله ولأن جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار وقت النية النفل إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد فإنه قال : من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه وإذا أجمع من الليل كان له يومه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب في الهداية : يحكم له بذلك من أول النهار وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقية فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله ولا يمنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقية كما لو نسي الصوم بعد نيته أو غفل عنه لأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها
ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] ولأن الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة ودعوى أن الصوم لا يتبعض دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عاشوراء : [ فيصم بقية يومه ] وأما إذا نسي النية بعد وجودها فإنه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكما ولا حقيقة ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه وأما إدراك الركعة والجماعة فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة وينوي أنه مأموم وليس هذا مستحيلا أما أن يكون ما صلى الإمام قبله من الركعات محسوبا له بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام وأما الصوم فإن النية شرط له أو ركن فيه فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره فإن فعل شيئا من ذلك يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه

صيام المغمى عليه
مسألة : قال : ومن نوى من الليل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر فلم يفق حتى غربت الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم
وجملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار فلم يفق في شيء منه لم يصح صومه في قول إمامنا و الشافعي وقال أبو حنيفة : يصح لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم
ولنا أن الصوم هو الإمساك مع النية [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي ] متفق عليه فأضاف ترك الطعام والشراب إليه فإذا كان مغمى عليه فلا يضاف الإمساك إليه فلم يجزئه ولأن النية أحد ركني الصوم فلا تجزئ وحدها كالإمساك وحده أما النوم عادة ولا يزيل الإحساس بالكلية ومتى نبه انتبه والإغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون إذا ثبت هذا فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء : أحدهما الإغماء وقد ذكرناه ومتى فسد الصوم به فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه لأن مدته لا تتطاول غالبا ولا تثبت الولاية على صاحبه فلم يزل التكليف به وقضاء العبادات كالنوم ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله في آخره وقال الشافعي في أحد قوليه : تعتبر الأفاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله
ولنا أن الإفاقة حصلت في جزء من النهار فأجزأ كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فإن النية قد حصلت من الليل فيستغني عن ذكرها في النهار كما لو نام أو غفل عن الصوم ولو كانت النية إنما تحصل بالإفاقة في النهار لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة لأنه لا يجزئ بنية من النهار
الثاني : النوم فلا يؤثر في الصوم سواء وجد في بعض النهار أو جميعه
الثالث : الجنون فحكمه حكم الإغماء إلا أنه إذا وجد في جميع النهار لم يجب قضاؤه وقال أبو حنيفة : متى أفاق المجنون في جزء من رمضان لزمه قضاء ما مضى منه لأنه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم وقال الشافعي : إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض
ولنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر فمنع إذا وجد في جميع النهار كالصبأ والكفر وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع من وجوبه وإن سلمناه فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمه كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة
ولنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم ويفارق الحيض فإن الحيض لا يمنع الوجوب وإنما تأخير الصوم ويحرم فعله ويوجب الغسل ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء فلا يصح قياس الجنون عليه

الصيام في السفر
مسألة : قال : وإذا سافر ما يقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره
وجملة ذلك أن للمسافر أن يفطر في رمضان وغيره بدلالة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وأما السنة ف [ قول النبي صلى الله عليه و سلم إن الله وضع عن المسافر الصوم ] رواه النسائي و الترمذي وقال حديث حسن في أخبار كثيرة سواه وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة وإنما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر وقد ذكرنا قدره في الصلاة ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال
أحدها : أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل خلافا في إباحة الفطر له
الثاني : أن يسافر في أثناء الشهر ليلا فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم وقال عبيدة السلماني وأبو مجلز وسويد بن غفلة : لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر لقول الله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وهذا قد شهده
ولنا قول الله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وروى ابن عباس قال : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس ] متفق عليه ولأنه مسافر فأبيع له الفطر كما لو سافر قبل الشهر والآية تناولت الأمر بالصوم لمن شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله
الثالث : أن يسافر في أثناء يوم من رمضان فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا وفي إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان : أحدهما له أن يفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال : ركبت مع أبي بصرة الغفاري سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة ثم قال اقترب فقلت ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فأكل رواه أبو داود ولأن السفر معنى لو جد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر والرواية الثانية لا يباح له فطر ذلك اليوم وهو قول مكحول والزهري ويحيى الأنصاري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيه غلب حكم الحضر كالصلاة والأول أصح للخبر ولأن الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم إتمامها بنيته بخلاف الصوم
إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يختلف البيوت وراء ظهره يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها وقال الحسن يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر : قول الحسن قول شاذ وليس الفطر لأحد في الحضر في نظر ولا أثر وقد روي عن الحسن خلافه وقد روى محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة ؟ فقال سنة ؟ فقال سنة ثم ركب قال الترمذي : هذا حديث حسن
ولنا قول الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وهذا شاهد ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك
فصل : وإن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر فله ذلك واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة لا يجوز له الفطر وقال مرة أخرى إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر وقال مالك : إن أفطر فعليه والكفارة لأنه أفطر في صوم رمضان فلزمه ذلك كما لو كان حاضرا
ولنا حديث ابن عباس وهو حديث صحيح متفق عليه وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأمطر بعضهم وصام بعضهم فبلغ أن ناسا صاموا فقال : أولئك العصاة رواه مسلم وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما إلا الجماع هل له أن يفطر به أم لا ؟ فإن أفطر بالجماع ففي الكفارة روايتان : الصحيح منهما أنه لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي
والثانية : يلزمه كفارة لأنه أفطر بجماع فلزمته كفارة كالحاضر
ولنا أنه صوم لا يجب المضي فيه فلم تجب الكفارة بالجماع فيه كالتطوع وفارق الحاضر الصحيح فإنه يجب عليه المضي في الصوم وإن كان مريضا يباح له الفطر فهو كالمسافر ولأنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعد حصول الفطر فأشبه ما لو أكل ثم جامع ومتى أفطر المسافر فله فعل جميع ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع وغيره لأن حرمتها بالصوم فتزول بزواله كما لو زال بمجيء الليل
فصل : وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء لأن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه لزمه أن يأتي بالأصل فإن نوى صوما غير رمضان لم يصح صومه لا عن رمضان ولا عما نواه هذا الصحيح في المذهب وهو قول أكثر العلماء وقال أبو حنيفة : يقع ما نواه إذا كان واجبا لأنه زمن أبيح له فطره فكان له صومه عن واجب عليه كغيره شهر رمضان
ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان كالمريض وبهذا ينتقض ما ذكروه وينقض أيضا بصوم التطوع فإنهم سلموه قال صالح : قيل لأبي من صام شهر رمضان وه ينوي به تطوعا يجزئه ؟ قال : أو يفعل هذا مسلم ؟

ما يفطر دون كفارة وما لا يفطر وما لا يفسد الصيام
مسألة : قال : ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو قبل فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فأنزل أي ذلك فعل عامدا وهو ذاكر لصومه فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صوما واجبا
في هذه المسألة فصول : فصل الأول إنه يفطر بالأكل والشرب بالإجماع وبدلالة الكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } مد الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما وأما السنة فـ [ قول النبي صلى الله عليه و سلم والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ] واجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به فأما مالا يتغذى به فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به وقال الحسن بن صالح : لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم ويقول ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب فما عداهما يبقى على أصل الإباحة ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافا
الفصل الثاني : إن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم وبه قال إسحاق و ابن المنذر و محمد بن إسحاق بن خزيمة وهو قول عطاء و عبد الرحمن بن مهدي وكان الحسن ومسروق و ابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة وحسين بن علي وعروة و سعيد بن جبير وقال مالك و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي يجوز للصائم أن يحتجم ولا يفطر لما روى البخاري عن ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم وهو صائم ] ولأنه دم خارج من البدن أشبه الفصد
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ أفطر الحاجم والمحجوم ] رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم أحد عشر نفسا قال أحمد حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب وإسناد حديث رافع إسناد جيد وقال : حديث ثوبان وشداد صحيحان وعن علي بن المديني أنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث شداد وثوبان وحديثهم منسوخ بحديثنا بدليل ما روى ابن عباس أنه قال : [ احتجم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالقاحة بقرن وناب وهو محرم صائم فوجد لذلك ضعيفا شديدا فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحتجم الصائم ] رواه إسحاق الجوزجاني في المترجم وعن الحكم قال : [ احتجم رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو صائم فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم ] وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم فإذا غابت الشمس احتجم بالليل كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه ويحتمل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم فأفطر ] كما [ روي عنه عليه السلام أنه قاء فأفطر ] فإن قيل فقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأي الحاجم والمحتجم يغتابان ] فقال ذلك : قلنا لم تثبت حصة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب العمل بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أننا قد ذكرناه الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف من الضعف فيبطل التعليل بما سواه أو يكون كل واحد منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر الصائم إجماعا فلا يصح حمل الحديث على ما يخالف الإجماع قال أحمد : لأن يكون الحديث كما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أفطر الحاجم والمحجوم ] أحب إلينا من أن يكون من الغيبة لأن من أراد أن يمتنع من الحجامة امتنع وهذا أشد من الناس أن يسلم من الغيبة ؟ فإن قيل : فإذا كانت علة النهي ضعف الصائم بها فلن يقتضي ذلك الفطر وإنما يقتضي الكراهة ومعنى قوله : [ أفطر الحاجم والمحجوم ] أي قربا من الفطر قلنا هذا تأويل يحتاج إلى دليل على أنه لا يصح ذلك في حق الحاجم فإنه لا ضعف فيه
الفصل الثالث : أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود أو من الأنف كالسعوط أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل وكذلك لو جرح نفسه أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه أو عاد فخرج منه وبهذا كله قال الشافعي : وقال مالك : لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقة ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره فيفطره كالواصل إلى الحلق والدماغ جوف والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن
فصل : فأما الكحل فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره وإلا لم يفطره نص عليه أحمد وقال ابن أبي موسى ما يجد طعمه كالذرور والصبر والفطور أفطر إن اكتحل باليسير من الاثمد غير المطيب كالميل ونحوه لم يفطر نص عليه أحمد وقال ابن عقيل : إن كان الكحل حادا فطره وإلا فلا ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطره لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه اكتحل في رمضان وهو صائم ] ولأن العين ليست منفذا فلم يفطر بالداخل منها كما لو دهن رأسه
ولنا أنه أوصل إلى حلقة ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأمطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه لم يصح قال الترمذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم في باب الكحل للصائم شيء ثم نحمله على أنه اكتحل بما لا يصل وقولهم ليست العين منفذا لا يصح فإنه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالاثمد فيتنخعه قال أحمد : حدثني إنسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل ما لو جرح نفسه جائفة فإنه يفطر
فصل : وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره لأنه يفطره لأنه يصل إلى جوفه من معدته أشبه إذا لم يجمعه وفيه وجه آخر أنه يفطر لأنه أمكنه من التحرز منه أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق والأول أصح فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وإن قصد ابتلاعه فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه إلى ثوبه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه أو بلع ريق غيره أفطر لأنه ابتلعه من غير فمه فأشبه ما لو بلغ غيره فإن قيل فقد [ روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها ] رواه أبو داود قلنا قد روي أنه قال هذا إسناد ليس بصحيح ويجوز أن يكون يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه ثم ابتلعه ولأنه لم يتحقق انفصال ما على لسانها في البلل إلى فمه فأشبه ما لو ترك حصاه مبلولة في فيه أو لو تمضمض بماء ثم مجه ولو ترك في فمه حصاة أو ردهما فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه نظرت فإن كان ما عليه من الريق كثيرا فابتلعه أفطر وإن كان يسيرا لم يفطر بابتلاع ريقه وقال بعض أصحابنا يفطر لابتلاعه ذلك البلل الذي كان على الجسم
ولنا أنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه فلا يفطره كالمضمضة والتسوك بالسواك الرطب والمبلول ويقوي ذلك حديث عائشة في مص لسانها ولو أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد فأدخله وابتلع ريقه لم يفطر
فصل : وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان : إحداهما يفطر قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول إذا تنخم ثم ازدرده فقد أفطر لأن النخامة من الرأس تنزل والريق من الفم ولو تنخع من جوفه ثم ازدراه أفطر وهذا مذهب الشافعي لأنه أمكن التحرز منها أشبه الدم ولأنها من غير الفم أشبه القيء والرواية الثانية لا يفطر قال في رواية المروذي ليس عليك إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم لأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج أشبه الريق
فصل : فإن سال فمه دما أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر وإن كان يسيرا لأن الفم في حكم الظاهر والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكن عفي عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فما عداه من يبقى على الأصل وإن ألقاه من فيه وبقي فمه نجسا أو تنجس فمه بشيء من خارج فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء وإلا فلا
فصل : ولا يفطر بالمضمضة بغير خلاف سواء كان في الطهارة أو غيرها وقد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أن عمر سأله عن القبلة للصائم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم قلت : لا بأس قال فمه ] ولأن الفم في حكم الظاهر لا يبطل الصوم بالواصل إليه كالأنف والعين وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فلا شيء عله وبه قال الأوزاعي و إسحاق و الشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك و أبو حنيفة يفطر لأنه أوصل الماء إلى جوفه ذاكرا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه
ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير إسراف ولا قصد ما لو طارت ذبابة إلى حلقه وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد أو بالغ في الاستنشاق فقد فعل مكروها لقول النبي صلى الله عليه و سلم للقيط بن صبرة : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما حديث صحيح ولأنه يتعرض بذلك لإيصال الماء إلى حلقه فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد : يعجبني أن يعيد الصوم وهل يفطر بذلك ؟ على وجهين : أحدهما يفطر لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المبالغة حفظا للصوم فدل ذلك على أنه يفطر به ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبه التعمد والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله فأما المضمضة لغير الطهارة فإن كانت لحاجة كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه فحكمه حكم المضمضة للطهارة وإن كان عابثا أو تمضمض من أجل العطش كره وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه قال : يرش على صدره أحب إلي فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء فيه عابثا أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه ولا بأس أن يصب الماء على رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر رواه أبو داود
فصل : ولا بأس أن يغتسل الصائم فإن عائشة وأم سلمة قالتا : نشهد على رسول الله إن كان ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم متفق عليه وروى أبو بكر بإسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان فأما الغوص في الماء فقال أحمد في الصائم يغتمس في الماء إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن و الشعبي أن ينغمس في الماء خوفا من أن يدخل في مسامعه فإن دخل في مسامعه فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه كما لو دخل إلى حلقة من المضمضة والاستنشاق والزائد على الثلاث والله أعلم
فصل : قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد : الصائم يمضغ العلك قال : لا قال أصحابنا : العلك ضربان : أحدهما ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه إلا إن لا يبلغ ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به كما لو تعمد أكله والثاني العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم وممن كرهه الشعبي و النخعي و محمد بن علي و قتادة و الشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش ورخصت عائشة عن مضغه وبه قال عطاء لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يضعها في فيه ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان : أحدهما يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه فالثاني لا يفطره لأنه لم ينزل منه شيء ومجرد الطعم لا يفطر بدليل أنه قد قيل من لطخ باطن قدمه بالحنطل وجد طعمه ولا يفطر بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق ويشاهد إذا تنخع قال أحمد : من وضع في فيه درهما أو دينارا وهو صائم ما لم يجد طعمه في حلقه فلا بأس به وما يجد طعمه فلا يعجبني وقال عبد الله سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط قال يعجبني أن يبزق
فصل : قال أحمد أحب إلي أن تجتنب ذوق الطعام فإن فعل لم يضره ولا بأس به قال ابن عباس : لا بأس أن يذوق الطعام والخل والشيء يريد شراءه والحسن كان يمضغ الجوز لأبن ابنه وهو صائم ورخص فيه إبراهيم قال ابن عقيل : يكره ن غير حاجة ولا بأس به من الحاجة فإن فعل فوجد طعمه في حلقه أفطر وإلا لم يفطر
فصل : قال أحمد : لا بأس بالسواك للصائم [ قال عامر بن ربيعة : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم ] قال الترمذي هذا حديث حسن وقال زياد بن حدير ما رأيت أحدا كان أدوم لسواك رطب وهو صائم من عمر بن الخطاب ولكنه عودا ذاوبا ولم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا واستحب أحمد وإسحاق السواك بالعشي قال أحمد : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الاذفر ] لتلك الرائحة لا يعجبني للصائم أن يستاك بالعشي واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة و الشعبي والحكم وإسحق ومالك في رواية لأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وروي عنه لا يكره وبه قال الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة وروي ذلك عن علي وابن عمر وعروة ومجاهد لما رويناه من حديث عمر وغيره من الصحابة
فصل : ومن أصبح بين أسنانه طعام لم يخل من حالين : أحدهما أن يكون يسيرا لا يمكنه لفظه فازدرده فإنه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه الريق قال ابن المنذر : أجمع على ذلك أهل العلم : الثاني أن يكون كثيرا يمكن لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ازدرده عامدا فسد صومه في قول أكثر أهل العلم وقال حنيفة : لا يفطر لأنه لا بد أن يبقى بين أسنانه شيء مما يأكله فلا يمكن التحرز منه فأشبه ما يجري به الريق
ولنا أنه بلغ طعاما يمكنه لفظه باختياره ذاكرا لصومه فأمطر به كما لو ابتدأ الأكل ويخالف ما يجري به الريق فإنه لا يمكن لفظه فإن قيل يمكنه قلنا لا يخرج جميع الريق ببصاقه وإن منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه
فصل : فإن قطر في احليله دهنا لم يفطر به سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يفطر لأنه أوصل الدهن إلى جوف في جسده فأفطر كما لو داوى الجائفة ولأن المني يخرج من الذكر فيفطره ومن أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه كالفم
ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ وإنما يخرج البول رشحا فالذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف فلا يفطره كالذي يتركه في فيه ولم يبتلعه
الفصل الرابع : إذا قيل فأمني أو أمذي ولا يخلو القبل من ثلاثة أحوال : أحدها أن لا ينزل فلا يفسد صومه بذلك لا نعلم فيه خلافا لما [ روت عائشة : أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لأربه ] رواه البخاري و مسلم ويروي بتحريك الراء وسكونها قال الخطابي : معناها واحد وهو حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين العضو وبالفتح الحاجة وروي [ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله : صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال : أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم قلت : لا بأس به قال فمه ] رواه أبو داود شبه كان بالمضمضة من حيث أنها من مقدمات الشهوة وإن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر وإن كان معها نزوله أفطر إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال هذا ريح ليس من هذا شيء
الحال الثاني : أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولأنه إنزال بمباشرة فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج
الحال الثالث : أن يمذي فيفطر عند إمامنا مالك وقال أبو حنيفة والشافعي لا يفطر وروي ذلك عن الحسن و الشعبي و الأوزاعي لأنه خارج لا يوجب الغسل أشبه البول
ولنا أنه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني وفارق البول بهذا واللمس لشهوة كالقبلة في هذا : إذا ثبت هذا فإن المقبل إذ كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة لأنها مفسدة لصومه فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك كره له التقبيل لأنه يعرضه صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد وقد روي عن عمر أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام فأعرض عني فقلت له مالي ؟ فقالت : إنك تقبل وأنت صائم ولأن العبادة إذا منعت في الوطء منعت القبلة كالإحرام ولا تحرم القبلة في هذه الحال لما [ روي أن رجلا قبل وهو صائم فأرسل امرأته فسألت النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرها النبي صلى الله عليه و سلم أنه يقبل وهو صائم فقال الرجل إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس مثلنا قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغضب النبي صلى الله عليه و سلم وقال : إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي ] رواه مسلم بمعناه ولأن افضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه ولا يثبت التحريم بالشك فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففيه روايتان : إحداهما لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لأربه وغير ذي الشهوة في معناه
وقد روي أبو هريرة [ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن المباشرة للصائم فرخص له فأتاه آخر فسأله فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب ] أخرجه أبو داود ولأنها مباشرة لغير شهوة فأشبهت لمس اليد لحاجة
والثانية : يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته وغيره كالإحرام فأما اللمس لغير شهوة كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام كلمس ثوبها
فصل : ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه به إلا أن ينزل فإن أنزل فسد صومه لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة فأما إن انزل لغير شهوة كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه لم يفسد صومه لأنه عن غير اختيار منه فأشبه ما لو دخل حلقه شيء وهو نائم ولو جامع في الليل فأنزل بعدما أصبح لم يفطر لأنه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه ما لو أكل شيئا في الليل فذرعه القيء في النهار
الفصل الخامس : إذا كرر النظر فأنزل ولتكرار النظر أيضا ثلاثة أحوال أحدها أن لا يقترن به إنزال فال يفسد الصوم بغير اختلاف
الثاني : أن يقترن به إنزال المني فيفسد الصوم في قول إمامنا وعطاء والحسن البصري ومالك والحسن بن صالح وقال جابر بن زيد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وابن المنذر لا يفسد لأنه إنزال عن غيره مباشرة أشبه الإنزال بالفكر ولنا أنه إنزال بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه فأفسد الصوم كالإنزال باللمس والفكر لا يمكن التحرز منه بخلاف تكرار النظر الثالث مذي بتكرار النظر فظاهر كلام أحمد أه لا يفطر به لأنه لا نص في الفطر به ولا يمكن قياسه على إنزال المني لمخالفته إياه في الإحكام فيبقى على الأصل فأما إن نظر فصرف بصره لم يفسد صومه سواء أنزل وقال مالك إن أنزل فسد صومه لأنه أنزل بالنظر أشبه ما لو كرره
ولنا أن النظرة الأولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه كالفكرة وعليه يخرج التكرار فإذا ثبت هذا فإن تكرار النظر مكروه لمن يحرك شهوته غير مكروه لمن لا يحرك شهوته كالقبلة ويحتمل أن لا يكره بحال لأن قضاءه إلى الإنزال المفطر بعيد جدا بخلاف القبلة فإن حصول المذي لها ليس ببعيد
فصل : فإن فكر فأنزل لم يفسد صومه وحكي عن أبي حفص البرمكي أنه يفسد واختاره ابن عقيل لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار بدليل تأثيم صاحبها في مساكنها في بدعة وكفر ومدح الله سبحانه الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ونهى النبي صلى الله عليه و سلم عن التفكر في ذات الله وأمر بالتفكر في الآية ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق ذلك بها كالاحتلام فأما أن خطر بقلبه صورة الفعل فأنزل لم يفسد صومه لأن الخاطر لا يمكن دفعه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ] ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النظر لأنه دونها في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال ويخالفهما في التحريم إذا تعلق ذلك بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجة فيبقى على الأصل
الفصل السادس : أن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد فأما ما حصل منه عن غير قصد كالغبار الذي يدخل حلقه من الطريق ونخل الدقيق والذبابة التي تدخل حلقه أو يرش عليه الماء فيدخل مسامعه أو أنفه أو حلقه أو يلقي في ماء فيصل إلى جوفه أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة أو يصب في حلقه أو أنفه شيء كرها أو تداوى مأمومته أو جائفته بغي اختياره أو يحجم كرها أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا فلا يفسد صومه لا نعلم فيه خلافا لأنه لا فعل له فلا يفطر كالاحتلام وأما إن اكره على شيء من ذلك بالوعيد ففعله فقال ابن عقيل : قال أصحابنا لا يفطر به أيضا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ويحتمل عند أن يفطر لأنه فعل المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض إليه لدفع المرض ومن يشرب لدفع العطش ويفارق الملجأ لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه ولذلك افترقا فيما لو أكره على قتل آدمي والقي عليه
الفصل السابع : أنه متى أفطر بشيء من ذلك فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافا لأن الصوم كان ثابتا في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده فبقي على ما كان عليه ولا كفارة في شيء مما ذكرناه في ظاهر المذهب وهو قول سعيد بن جبير و النخعي و ابن سيرين و حماد و الشافعي وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبله أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الإنزال بالجماع وعنه في المحتجم إن كان عالما بالنهي فعليه الكفارة وقال عطاء في المحتجم عليه الكفارة وقال مالك تجب الكفارة بكل ما كان هتكا للصوم إلا الردة لأنه إفطار في رمضان أشبه الجماع وحكي عن عطاء و الحسن و الزهري و الثوري و الأوزاعي و إسحاق أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع وبه قال أبو حنيفة : إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا كفارة عليه واحتجوا بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه فوجب عليه الكفارة كالجامع
ولنا أنه أفطر بغير جماع فلت توجب الكفارة كبلع الحصاة أو التراب أو كالردة عند مالك ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الجماع لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته ووجوب البدنة ولأنه في الغالب يفسد صومه اثنين بخلاف غيره
فصل : والواجب في القضاء عن كل يوم يوم في قول عامة الفقهاء وقال أحمد : قال إبراهيم و وكيع بصوم ثلاثة آلاف يوم وعجب أحمد من قولهما وقال سعيد بن المسيب : من أفطر يوما متعمدا يصوم شهرا وحكي عن ربيعة أنه قال : يحل مكان كل يوم اثنا عشر يوما لأن رمضان يجزئ عن جميع السنة هي اثنا عشر شهرا
ولنا قول الله تعالى : { فعدة من أيام أخر } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في قصة المجامع صم يوما مكانه ] رواه د أبو داود ولأن القضاء يكون على حسب الأداء بدليل سائر العبادات ولأن القضاء لا يختلف بالعذر وعدمه بدليل الصلاة والحج وما ذكروه تحكم لا دليل عليه والتقدير لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع وليس معهم واحد منهما وقول ربيعة يبطل بالمعذور وذكر لأحمد حديث أبي هريرة من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه ولو صام الدهر فقال ليس يصح هذا الحديث
مسألة : قال : وإن فعل ذلك ناسيا فهو على صومه ولا قضاء عليه
وجملته أن جميع ما ذكره الخرقي في هذه المسألة لا يفطر الصائم بفعله ناسيا وروي عن علي رضي الله عنه لا شيء على من أكل ناسيا وهو قول أبي هريرة وابن عمر و عطاء و طاوس وابن أبي ذئب و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و أبي حنيفة و إسحق وقال ربيعة و مالك : يفطر لأن ما لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدا لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية
ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ] متفق عليه وفي لفظ [ من أكل أو شرب ناسيا فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله ] ولأنها عبادات ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه كالصلاة والحج وأما النية فليس تركها فعلا ولأنها شرط والشروط لا تسقط بالسهو بخلاف المبطلات والجماع حكمه أغلظ ويمكن التحرز عنه
فصل : فإن فعل شيئا من ذلك وهو نائم لم يفسد صومه لأنه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر من الناسي وذكر أبو الخطاب أن من فعل من هذا شيئا جاهلا بتحريمه لم يفطر ولم أره عن غيره
وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ أفطر الحاجم والمحجوم ] في حق الرجلين اللذين رآهما يحك أحدهما صاحبه مع جهلهما بتحريمه يدل على أن الجهل لا يعذر به ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر كالجهل بالوقت في حق من يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع
مسألة : قال : ومن استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه
معنى تقيأ مستدعيا للقيء خروج من غير اختيار منه فمن استقاء فعليه القضاء لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه وهذا قول عامة أهل العلم قال الخطابي : لا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافا وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القيء لا يفطر وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ثلاث لا يفطرن الصائم : الحجامة والقيء والاحتلام ] ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج
ولنا ما روى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عامدا فليقض ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ورواه أبو داود وحديثهم غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف في الحديث قال الترمذي والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمني
فصل : وقليل القيء وكثيره سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد
والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم لأنه روى [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ولكن دسعة تملأ الفم ] ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم والثالثة نصف الفم لأنه ينقض الوضوء فأفطر به كالكثير والأولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا ولا فرق بين كون القيء طعاما أو مرارا أو بلغما أو دما أو غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث والمعنى والله تعالى أعلم بالصواب
مسألة : قال : ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم أنه يفسد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه وسواء كانت ردته باعتقاد ما يكفر به أو شكه فيما يكفر بالشك فيه أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئا أو غير مستهزئ قال الله تعالى { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وذلك لأن الصوم عبادة من شرطها النية فأبطها الردة كالصلاة والحج ولأنه عبادة محضة فنافاها الكفر كالصلاة
مسألة : قال : ومن نوى الإفطار فقد أفطر
هذا الظاهر من المذهب وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا : إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم أن الصوم يجزئ بينه من النهار وحكي عن ابن حامد أن الصوم لا يفسد بذلك لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منه كالحج
ولنا أنها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة ولأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه زالت حقيقة وحكما ففسد الصوم لزوال شرطه وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح القياس على الحج فإنه يصح بالنية المطلقة والمبهمة وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا
فصل : فأما صوم النافلة فإن نوى الفطر ثم لو ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لأن النية انقطعت ولم توجد نية غيرها فأشبه من لم ينو أصلا وإن عاد فنوى الصوم صح صومه كما لو أصبح غير ناو للصوم لأن نية الفطر إنما أبطلت الفرض لما فيه من قطع النية المشترطة في جميع النهار حكما وخلو بعض أجزاء النهار عنها والنفل مخالف للفرض في ذلك فلم تمنع صحته نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه ولأن نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده بخلاف الواجب فإنه لا يصح بنية من النهار وقد روي عن أحمد أنه قال إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر فلم يفطر حتى بدا له ثم قال : لا بل أثم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازما على الصوم يومه كله ولو كان تطوعا كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه وقد دل على صحته [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسأل أهله : هل من غداء ؟ فإن قالوا : لا قال : إني إذا صائم ]
فصل : وإن نوى أنه سيفطر ساعة أخرى فقال ابن عقيل : هو كنية الفطر في وقته وإن تردد في الفطر فعلى وجهين كما ذكرنا في الصلاة وإن نوى أنني إن وجدت طعاما أفطرت وإن لم أجد أتممت صومي خرج فيه وجها : أحدهما يفطر لأنه لم يبق جازما بنية الصوم وكذلك لا يصح ابتداء النية بمثل هذا : والثاني لا يفطر لأنه لم ينو الفطر بنية صحيحة فإن النية لا يصح تعليقها على شرط ولذلك لا ينعقد الصوم بمثل هذا النية

وجوب القضاء والكفارة في جماع صائم رمضان
مسألة : قال : ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج عامدا أو ساهيا فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دنه الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامدا وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك وهذه المسألة فيها مسائل أربع :
إحداها : أن من أفسد صوما واجبا بجماع فعليه القضاء سواء كان في رمضان أو غيره وهذا قول أكثر الفقهاء وقال الشافعي في أحد قوليه : من لزمته الكفارة لا قضاء عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء وحكي عن الأوزاعي أنه قال : إن كفر بالصيام فلا قضاء عليه لأنه صام شهرين متتابعين
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للمجامع وصم يوما مكانه ] رواه أبو داود بإسناده و ابن ماجة و الاثرم ولأنه أفسد يوما من رمضان فلزمه قضاؤه كما لو أفسده بالأكل أو أفسد صومه الواجب بالجماع فلزمه قضاؤه كغير رمضان
المسألة الثانية : إن الكفارة تلزم من جامع في الفرج في رمضان عامدا أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم وحكي عن الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير لا كفارة عليه لأن الصوم عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها فلا تجب في أدائها كالصلاة
ولنا ما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : [ بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل فقال يا رسول الله هلكت قال مالك ؟ قال وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا قال فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا قال فمكث النبي صلى الله عليه و سلم فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه و سلم بعرق فيه تمر - والعرق المكتل - فقال : أين السائل ؟ فقال أنا قال : خذ هذا فتصدق به فقال الرجل : على أفقر مني يا رسول الله ؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي صلى الله عليه و سلم حتى بدت أنيابه ثم قال : أطعمه أهلك ] متفق عليه ولا يجوز اعتبار الأداء في ذلك بالقضاء لأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به والقضاء محلة الذمة والصلاة لا يدخل في جبرانها المال بخلاف مسألتنا
المسألة الثالثة : أن الجماع دون الفرج إذا اقترن به الإنزال فيه عن أحمد روايتان : إحداهما عليه الكفارة وهذا قول مالك و عطاء و الحسن و ابن المبارك و اسحق لأنه فطر بجماع فأوجب الكفارة كالجماع في الفرج : والثانية لا كفارة فيه وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه فطر بغير جماع تام فأشبه القبلة ولأن الأصل عدم وجوب الكفارة ولا نص في وجوبها ولا إجماع ولا قياس ولا يصح القياس على الجماع في الفرج لأنه أبلغ بدليل أنه يوجبها من غير إنزال ويجب به الحد إذا كان محرما ويتعلق به اثنا عشر حكما ولأن العلة في الأصل الجماع بدون الإنزال والجماع ههنا غير موجب فلم يصح اعتباره به
المسألة الرابعة : أنه إذا جامع ناسيا فظاهر المذهب أنه كالعامد نص عليه أحمد وهو قول عطاء و ابن الماجشون وروى أبو داود عن أحمد أنه توقف عن الجواب وقال أجبن أن أقول فيه شيئا وإن أقول ليس عليه شيء قال سمعته غير مرة لا ينفذ له فيه قول ونقل أحمد بن القاسم عنه : كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره قال أبو الخطاب : هذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان وهو قول الحسن ومجاهد والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه معنى حرمه الصوم فإذا وجد منه مكرها أو ناسيا لم يفسده كالأكل وكان مالك و الأوزاعي و الليث يوجبون القضاء دون الكفارة لأن الكفارة لرفع الإثم وهو محطوط عن الناسي
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الذي قال وقعت على امرأتي بالكفارة ولم يسأله عن العمد ولو افترق الحال لسأل واستفصل ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم ولأن السؤال كالمعاد في الجواب فكأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من وقع على أهله في رمضان فليعتق رقبة فإن قيل ففي الحديث ما يدل على العمد وهو قوله : هلكت وروي احترقت قلنا يجوز أن يخبر عن هلكته لما يعتقده في الجماع ما النسيان من إفساد الصوم وخوفه من غير ذلك ولأن الصوم عبادة تحرم الوطء فاستوى فيها عمده وسهوه كالحج ولأن إفساد الصوم ووجوب الكفارة حكمان يتعلقان بالجماع لا تسقطها الشبهة فيها العمد والسهو كسائر أحكامه

وطء البهيمة وفيه وجهان
فصل : ولا فرق بين كون الفرج قبلا أو دبرا من ذكر أو أنثى وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه لا كفارة في الوطء في الدبر لأنه لا يحصل به الإحلال ولا الإحصان فلا يوجب الكفرة كالوطء جون الفرج
ولنا أنه أفسد الصوم بجماع في الفرج فأوجب الكفارة كالوطء وأما الوطء دون الفرج فلنا فيه منع وإن سلمنا فلأن الجماع دون الفرج لا يفسد الصوم بمجرده بخلاف الوطء في الدبر
فصل : فأما الوطء في فرج البهيمة فذكر القاضي أنه موجب للكفارة لأنه وطء في فرج موجب للغسل مفسد للصوم فأشبه وطء الآدمية وفي وجه آخر لا تجب به الكفارة وذكره أبو الخطاب لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه فإنه مخالف لوطء الآدمية في إيجاب الحد على إحدى الروايتين وفي كثير من أحكامه ولا فرق بين كون الموطوءة زوجة أو أجنبية أو كبيرة أو صغيرة لأنه إذا وجب بوطء الزوجة فبوطء الأجنبية أولى

صوم المرأة بالجماع أو السحاق ولو كرهة أو ناسية
فصل : ويفسد صوم المرأة بالجماع بغير خلاف نعلمه في المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل وهل يلزمه الكفارة ؟ على روايتين : إحداهما يلزمها وهو اختيار أبي بكر وقول مالك و أبي حنيفة و أبي ثور و ابن المنذر ولأنها هتكت صوم رمضان بالجماع فوجبت عليها الكفارة كالرجل الثانية لا كفارة عليها قال أبو داود : سئل أحمد من أتى أهله في رمضان أعليها كفارة ؟ قال : ما سمعنا أن على امرأة كفارة وهذا قول الحسن ول الشافعي قولان كالروايتين ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة ولم يأمر في المرأة بشيء مع علمه بوجود ذلك منها ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فكان على الرجل كالمهر
فصل : وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها رواية واحدة وعليها القضاء قال مهنا : سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها أعليها القضاء ؟ قال : نعم قلت وعليها الكفارة ؟ قال : لا وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي وعلى قياس ذلك إذا وطئها نائمة وقال مالك في النائمة عليها القضاء بلا كفارة والمكرهة عليها القضاء والكفارة وقال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت كقولنا وإن كان إلجاء لم تفطر وكذلك عن وطئها وهي نائمة
ويخرج من قول أحمد في رواية ابن القاسم : كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره أنه لا قضاء عليها إذا كانت ملجأة أو نائمة لأنها لم يوجد منها فعل فلم تفطر كما لو صب في حلقها ماء بغير اختيارها ووجه الأول أنه جماع من الفرج فأفسد الصوم كما لو أكرهت بالوعيد ولأن الصوم عبادة يفسدها الوطء ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج ويفارق الأكل فإنه يعذر فيه بالنسيان بخلاف الجماع
فصل : فإن تساحقت امرأتان فلم ينزلا فلا شيء عليهما وإن أنزلتا فسد صومهما وهل يكون حكمهما حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل أو لا يلزمهما كفارة بحال ؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجماع من المرأة هل يوجب الكفارة ؟ على روايتين وأصح الوجهين إنهما لا كفارة عليهما لأن ذلك ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص عليه فيبقى على الأصل وإن ساحق المجبوب فأنزل فحكمه حكم من جامع دون الفرج فأنزل
فصل : وإن جامعت المرأة ناسية للصوم فقال أبو الخطاب حكم النسيان حكم الإكراه لا كفارة عليها فيهما وعليها القضاء لأن الجماع يحصل به الفطر في حق الرجل مع النسيان فكذلك في حق المرأة ويحتمل أن لا يلزمها القضاء لأنه مفسد لا يوجب الكفارة فأشبه الأكل

حكم الجامع مكرها أو نائما
فصل : وإن أكره الرجل على الجماع فسد صومه لأنه إذا أفسد صوم المرأة فصم الرجل أولى وأما الكفارة فقال القاضي : عليه الكفارة لأن الإكراه على الوطء لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر إلا عن شهوة فكان كغير المكره وقال أبو الخطاب فيه روايتان : إحداهما لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي إلا عن شهوة فكان كغير المكره وقال أبو الخطاب فيه روايتان : إحداهما لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو ماحية للذنب ولا حاجة إليها مع الإكراه لعدم الإثم فيه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأن الشرع لم يرد بوجوب الكفارة فيه ولا يصح قياسه على ما ورد الشرع فيه لاختلافها في وجود العذر وعدمه فأما أن كان نائما مثل إن كان عضوه منتشرا في حال نومه فاستدخلته امرأته فقال ابن عقيل : لا قضاء عليه ولا كفارة وكذلك إن كان إلجاء مثل أن غلبته في حال يقظته على نفسه وهذا مذهب الشافعي لأنه معنى حرمه الصوم حصل بغير اختياره فلم يفطر به كما لو أطارت الريح إلى حلقه ذبابة وظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء لأنه قال في المرأة إذا غصبها رجل نفسها فجامعها عليها القضاء فالرجل أولى ولأن الصوم عبادة يفسدها الجماع فاستوى في ذلك حالة الاختيار والإكراه كالحج ولا يصح قياس الجماع على غيره في عدم الإفساد لتأكده بإيجاب الكفارة وإفساده للحج من بين سائر محظوراته وإيجاب الحد به إذا كان زنا

فصل لا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان
فصل : ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء وقال قتادة تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها فوجبت في قضائها كالحج
ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له بخلاف القضاء
فصل : وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار لم تسقط الكفارة وبه قال مالك و الليث و ابن الماجشون و إسحاق وقال أصحاب الرأي لا كفارة عليهم وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقا فلم يجب بالوطء فيه كفارة كصوم المسافر أو كما لو قامت البينة أنه من شوال
ولنا أنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها ولأنه أفسد صوما واجبا في رمضان بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر والوطء في صوم المسافر ممنوع وإن سلم فالوطء ثم لم يوجب أصلا لأنه وطء مباح في سفر أبيح الفطر فيه بخلاف مسألتنا وكذا إذا تبين أنه من شوال فإن الوطء غير موجب لأنا تبينا أن الوطء لم يصادف رمضان والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان

إذا طلع الفجر أو ظن أن الفجر لم يطلع وهو مجامع
فصل : إذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة يجب القضاء دون الكفارة لأن وطأه لم يصادف صوما صحيحا فلم يوجب الكفارة كما لو ترك النية وجامع ولنا أنه ترك صوم رمضان بجامع أثم به لحرمة الصوم فوجبت به الكفارة كما لو وطئ بعد طلوع الفجر وعكسه إذا لم ينو فإنه يتركه لترك النية لا الجماع
ولنا فيه منع أيضا وأما إن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر فقال ابن حامد والقاضي عليه الكفارة أيضا لأن النزع جماع يلتذ به فتعلق به ما يتعلق بالاستدامة كالإيلاج وقال أبو حفص لا قضاء عليه ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع كما لو حلف لا يدخل دارا وهو فيها فخرج منها كذلك ههنا وقال مالك يبطل صومه ولا كفارة عليه لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله في ترك الجماع فأشبه المكره وهذه المسألة تقرب من الاستحالة إذ لا يكاد يعلم أول طلوع الفجر على وجه يتعقبه النزع من غير أن يكون قبله شيء من الجماع فلا حاجة إلى فرضها والكلام فيها
فصل : ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع فتبين أنه كان قد طلع فعليه القضاء والكفارة وقال أصحاب الشافعي لا كفارة عليه ولو علم في أثناء الوطء فاستدام فلا كفارة عليه أيضا لأنه إذا لم يعلم لم يأثم فلا يجب به كفارة كوطء الناسي وإن علم فاستدام فقد حصل الوطء الذي يأثم به في غير صوم
ولنا حديثا المجامع إذ أمره النبي صلى الله عليه و سلم بالتكفير من غير تفريق ولا تفصيل ولأنه أفسد صوم رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة كما لو علم ووطء الناسي ممنوع ثم لا يحصل به الفطر على الرواية الأخرى بخلاف مسألتنا

كفارة الوطء في رمضان
مسألة : قال : والكفارة عتق رقبة فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا
المشهور من مذهب أبي عبد الله أن كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب يلزمه العتق إن أمكنه فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام فإن عجز انتقل إلى إطعام ستين مسكينا وهذا قول جمهور العلماء وبه يقول الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى أنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام وبأيها كفر أجزأه وهو رواية عن مالك لما روى و ابن جريج عن الزهري عن حمدي بن عبد الرحمن عن أبي هريرة [ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ] رواه مسلم وأو حرف تخيير ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين وروي عن مالك أنه قال : الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في شهر رمضان إطعام ستين مسكينا أو ذلك اليوم وليس التحرير والصيام من كفارة رمضان في شيء وهذا القول ليس بشيء لمخالفته الحديث الصحيح مع أنه ليس له أصل يعتمد عليه ولا شيء يستند إليه وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع وأما الدليل على وجوب الترتيب فالحديث الصحيح ورواه معمر ويونس والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر وعراك بن مالك وإسماعيل بن أمية ومحمد بن أبي عتيق وغيرهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للواقع على أهله : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال : لا ] وذكر سائر الحديث وهذا لفظ الترتيب والأخذ بهذا أولى من رواية مالك لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا سوى مالك و ابن جريج فيما علمنا واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه ولأن الترتيب زيادة والأخذ بالزيادة متعين ولأن حديثنا لفظ النبي صلى الله عليه و سلم وحديثهم لفظ الراوي ويحتمل أنه رواه بأو لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت على الترتيب ككفارة الظهار والقتل
فصل : فإذا عدم الرقبة انتقل إلى صيام شهرين متتابعين ولا نعلم خلافا في دخول الصيام في كفارة الوطء إلا شذوذ لا يعرج عليه المخالفة السنة الثابتة ولا خلاف بين من أوجبه أنه شرهان متتابعان للخبر أيضا فإن لم يشرع في الصيام حتى وجد الرقبة لزمه العتق لأن النبي صلى الله عليه و سلم سأل المواقع عما يقدر عليه حين أخبره بالعتق ولم يسأله عن ما كان يقدر عليه حال المواقعة هي حالة الوجوب ولأنه وجد المبدل قبل التلبس بالبدل فلزمه كما لو كان واجدا له حال الوجوب وإن شرع في الصوم قبل القدرة على الإعتاق ثم قدر عليه لم يلزمه الخروج إليه إلا أن يشاء العتق فيجزئه ويكون قد فعل الأولى وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه الخروج لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل فبطل حكم البدل كالتيمم يرى المال
ولنا أنه شرع في الكفارة الواجبة عليه فأجزأته كما لو استمر العجز إلى فراغها وفارق العتق التيمم لوجهين أحدهما أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يستره فإذا وجد الماء ظهر حكمه بخلاف الصوم فإنه يرفع الحكم الجماع بالكلية الثاني أن الصيام تطول مدته فيشتق إلزامه الجمع بينه وبين العتق بخلاف الوضوء والتيمم
مسألة : قال : فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في دخول الإطعام في كفارة الوطء في رمضان في الجملة وهو مذكور في الخبر والواجب فيه إطعام ستين مسكينا في قول عامتهم وهو في الخبر أيضا ولأنه إطعام في كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكان إطعام ستين مسكينا ككفارة الظهار واختلفوا في قدر ما يطعم كل مسكين فذهب أحمد إلى أن لكل مسكين مد بر وذلك خمسة عشر صاعا أو نصف صاع من تمر أو شعير فيكون الجميع ثلاثين صاعا وقال أبو حنيفة من البر لكل مسكين نصف صاع ومن غيره صاع لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث سلمة بن صخر [ فأطعم وسقا من تمر ] رواه أبو داود وقال أبو هريرة يطعم مدا من أي الأنواع شاء وبهذا قال عطاء و الأوزاعي و الشافعي لما روى أبو هريرة في حديث المجامع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بمكتل من تمر قدره خمسة عشر صاعا فقال : خذ هذا فأطعمه عنك ] رواه أبو داود
ولنا ما روى أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي زيد المدني قال : [ جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمظاهر أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر ] ولأن فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير بلا خلاف فكذا هذا والمد من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره بدليل حديثنا ولأن الأجزاء بمد منه قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وزيد ولا مخالف لهم في الصحابة وأما حديث سلمة بن صخر فقد اختلف فيه وحديث أصحاب الشافعي يجوز أن يكون الذي أتى به النبي صلى الله عليه و سلم قاصرا عن الواجب فاجتزئ به لعجز المكفر عما سواه
فصل : فإن أخرج من الدقيق أو السويق أجزأ لما ذكرناه فيما تقدم وإن غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه في أظهر الروايتين وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه قدر ما يجزئ في الدفع بمد أو نصف صاع وإذا أطعمهم لا يعلم أن كل واحد منهم استوفى الواجب له ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم بين قدر ما يطعمه كل مسكين بما ذكرنا من الأحاديث وهي مقيدة لمطلق الإطعام المذكور والمطلق يحمل على المقيد ولا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له ولأن الواجب تمليك المسكين طعامه والإطعام إباحة وليس بتمليك فعلى هذه الرواية أن افرد لكل مسكين قدر الواجب له فأطعمه إياه نظرت فإن قال له : هذا لك تتصرف فيه كيف شئت اجزأه لأنه قد ملكه إياه وإن لم يقل له شيئا احتمل أن يجزئه لأنه قد أطعمه ما يجب له فأشبه ما لو ملكه واحتمل أن لا يجزئه لأنه لم يملكه إياه والرواية الثانية يجزئه أن يجمع ستين مسكينا فيطعمهم قال أبو داود : سمعت أحمد يسأل عن امرأة أفطرت رمضانا ثم أدركها رمضان آخر ثم ماتت قال كم أفطرت ؟ قال : ثلاثين يوما قال فاجمع ثلاثين مسكينا وأطعهم وقال الله تعالى { فإطعام ستين مسكينا } وقال في كفارة اليمين { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهذا قد أطعمهم وروي عن أنس أنه أفطر في رمضان فجمع المساكين ووضع جفانا فأطعمهم ولأنه أطعم ستين مسكينا فاجزأه كما لو ملكه إياه فعلى هذه الرواية أن أطعمهم قدر الواجب لهم اجزأه وإن أطعمهم دون ذلك فأشبعهم فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه لأنه قد أطعمهم ويحتمل أن لا يجزئه لأنه لم يطعمهم ما وجب لهم
فصل : ويجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة من البر والشعير ودقيقها والتمر والزبيب وفي الاقط وجهان في الخبز روايتان وكذلك يخرج في السويق فإن كان قوته غير ذلك من الحبوب كالدخن والذرة والأرز ففيه وجهان : أحدهما لا يجزئ ذكره القاضي لأنه لا يجزئ في الفطرة والثاني يجزئ اختياره أبو الخطاب قول الله تعالى { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالإطعام مطلقا ولم يرد تقييده بشيء من الأجناس فوجب ابقاؤه على إطلاقه ولأنه أطعم المسكين من طعامه فأجزأه كما لو كان طعامه برا فأطعمه منه وهذا أظهر
فصل : وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين بدليل أن الإعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه و سلم التمر وأخبره بحاجته إليه قال : [ أطعمه أهلك ] ولم يأمره بكفارة أخرى وهذا قول [ الأوزاعي ] وقال الزهري : لا بد من التكفير وهذا خاص لذلك الإعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق ولم يسقطها عنه ولأنها واجبة فلم تسقط بالعجز عنها كسائر الكفارات وهذا رواية ثانية عن أحمد وهو قياس قول أبي حنيفة و الثوري و أبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل وقولهم إنه أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بعجزه فلم يسقطها قلنا قد اسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يصح القياس على سائر الكفارات لأنه أطرح للنص بالقياس والنص أولى والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهي حالة الوطء
مسألة : قال : وإن جامع فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة
وجملة ذلك أنه إذا جامع ثانيا قبل التكفير عن الأول لم يخل من أن يكون في يوم واحد أو في يومين فإن كان في يوم واحد فكفارة واحدة تجزئه بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان في يومين من رمضان ففيه وجهان : أحدهما تجزئه كفارة واحدة وهو ظاهر إطلاق الخرقي واختيار أبي بكر ومذهب الزهري و الأزواعي وأصحاب الرأي لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحد والثاني لا تجزئ واحدة ويلزمه كفارتان اختاره القاضي وبعض أصحابنا وهو قول مالك و الليث و الشافعي وابن المنذر وروي ذلك عن عطاء ومكحول لأن كل يوم عبادة منفردة فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين وكالحجتين
مسألة : قال : وإن كفر ثم جامع ثانية فكفارة ثانية
وجملته أنه إذا كفر ثم جامع ثانية لم يخل من أن يكون في يوم واحد أو في يومين فإن كان في يومين فعليه كفارة ثانية بغير خلاف نعلمه وإن كان في يوم واحد فعليه كفارة ثانية نص عليه أحمد وكذلك يخرج في كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وإن لم يكن صائما مثل من لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا ثم جامع فإنه يلزمه كفارة وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي لا شيء عليه بذلك الجماع لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلم يوجب شيئا كالجماع في الليل
ولنا أن الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيه فتكررت بتكرر الوطء إذا كان بعد التكفير كالحج ولأنه وطء محرم لحرمه رمضان فأوجب الكفارة كالأول وفاق الوطء في الليل فإنه غير محرم فإن قيل الوطء الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الإيجاب فلا يصح إلحاق غيره به قلنا : هو ملغى بمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام فإنه يلزمه الكفارة مع أنه لم يهتك الصوم

إمساك المفطر في رمضان بقية اليوم بلا عذر
فصل : إذا أصحب مفطرا يعتقد أه من شعبان فقامت البينة بالرؤية لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء إلا ما روي عن عطاء أنه قال يأكل بقية يومه قال بان عبد البر : لا نعلم أحدا قاله غير عطاء قول وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد ولا أعلم أحدا ذكرها غيره وأظن هذا غلط فإن أحمد قد نص على إيجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لأن حرمة اليوم لم تذهب فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الأكل ؟ ولا يصح قياس هذا على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لأن المسافر كان له الفطر ظاهرا وباطنا وهذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحا فأشبه من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع فإذا تقرر هذا فإن جامع فيه فعليه القضاء والكفارة كالذي أصبح لا ينوي الصيام أو أكل ثم جامع وإن كان جماعة قبل قيام البينة فحكمه حكم من جامع يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع على ما مضى فيه
فصل : وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو الناسي لنية الصوم ونحوهم يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافا إلا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه قياسا على قوله فيما إذا قامت البينة بالرؤية وهو قول شاذ لم يعرج عليه أهل العلم
فصل : فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا كالحائض والنفساء والمسافر والصبي والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء وأقام وبلع الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان
إحداهما : يلزمهم الإمساك في بقية اليوم وهو قول أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي و الحسن بن صالح و العنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك كقيام البينة بالرؤية
والثانية : لا يلزمهم الإمساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد وروي عن ابن مسعود أنه قال : من أكل أول النهار فليأكل آخره ولأنه أبيح له فر أول النهار ظاهرا وباطنا فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر فإذا جامع أحد هؤلاء بعد زوال عذره انبني على الروايتين في وجوب الإمساك فإن قلنا يلزمه الإمساك فحكمه حكم من قامت البينة بالرؤية في حقه إذا جامع وإن قلنا لا يلزمه الإمساك فلا شيء عليه فإن كان أحد الزوجين من أحد هؤلاء والآخر لا عذر له فلكل واحد حكم نفسه على ما مضى وإن كانا جميعا معذورين فحكمهما ما ذكرناه سواء اتفق عذرهما مثل أن يقدم من سفر أو يصحا من مرض أو اختلف مثل أن يقدم الزوج من سفر وتطهر المرأة من الحيض فيصيبها وقد روي عن جابر بن يزيد أنه قدم من سفر فوجد امرأته قد طهرت من حيض فأصابها فأما إن نوى الصوم في سفره أو مرضه أو صغره ثم زال عذره في أثناء النهار لم يجز له الفطر رواية واحدة وعليه الكفارة إن وطئ وقال بعض أصحاب الشافعي في المسافر خاصة وجهان :
أحدهما : له الفطر لأنه أبيح له افطر أول النهار ظاهرا وباطنا فكانت له استدامته كما لو قدم مفطرا وليس بصحيح فإن سبب الرخصة زال قبل الترخص فلم يكن له ذلك كما لو قدمت به السفينة قبل قصر الصلاة وكالمريض يبرأ والصبي يبلغ وهذا ينقض ما ذكروه ولو علم الصبي أنه يبلغ في أثناء النهار بالسن أو علم المسافر أنه يقدم لم يلزمها الصيام قبل زوال عذرهما لأن سبب الرخصة موجود فيثبت حكمها كما لو لم يعلما ذلك

وجوب القضاء على من أفطر برخصة ومن ظن أن الفجر لم يطلع أو الشمس لم تغب
فصل : ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء إذا أفطروا بغير خلاف لقول الله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } والتقدير فأفطر وقالت عائشة كما نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنؤمر بقضاء الصوم وإن أفاق المجون أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في أثناء النهار والصبي مفطر ففي وجوب القضاء روايتان
إحداهما : لا يلزمهم ذلك لأنهم لم يدركوا وقتا يمكنهم التلبيس بالعبادة فيه فأشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت والثانية يلزمهم القضاء لأنهم أدركوا بعض وقت العبادة فلزمهم القضاء كما لو أدركوا بعض وقت الصلاة ز
مسألة : قال : وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء
هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم وحكي عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق لا قضاء عليهم لما روى ويد بن وهب قال : كنت جالسا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان في زمن عمر بن الخطاب فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا ونحن نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة قال : فجعل الناس يقولون نقضي يوما مكانه فقال عمر والله لا نقضيه ما تجانفنا لإثم لم يقصد الأكل في الصوم فلم يلزمه القضاء كالناسي
ولنا أنه أكل مختارا ذاكرا للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان ولأنه يمكن التحرز منه فأشبه أكل العامد وفارق الناسي فإنه لا يمكن التحرز منه وأما الخبر فرواه الاثرم أن عمر قال من أكل فيقض يوما مكانه ورواه مالك في الموطأ أن عمر قال : الخطيب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته [ عن اسماء قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس ] قيل لهشام امروا بالقضاء قال : لا بد من قضاءأخرجه البخاري
فصل : وإن أكل شاكا في طلوع الفجر ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر نص عليه أحمد وهذا قول ابن عباس و عطاء و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم وقال مالك يجب القضاء لأن الوصل بقاء الصوم في ذمته فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكا في النهار والليل فلزمه القضاء كما لو أكل شاكا في غروب الشمس
ولنا قول الله تعالى { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } مد الأكل إلى غاية التبين وقد كان شاكا قبل التبين فلو لزمه القضاء لحرم عليه الأكل و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم كلثوم ] وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت
ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك من ما لم يعلم يقين زواله بخلاف غروب الشمس فإن الأصل بقاء النهار فبني عليه
فصل : وإن أكل شاكا في غروب الشمس ولم يتبين فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار وأن كان حين الأكل ظانا أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد ثم شك في الإصابة بعد صلاته

صيام الجنب والحائض التي ظهرت ليلا
مسألة : قال : ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر وهو على صومه
وجملته أن الجنب له أن يؤخر الغسل حتى يصبح ثم يغتسل ويتم صومه في قول عامة أهل العلم منهم علي و ابن مسعود و زيد و أبو الدرداء و أبو ذر و ابن عمر و ابن عباس وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي في أهل الحجاز وأبو حنيفة والثوري في أهل العراق والأوزاعي في أهل الشام والليث في أهل مصر وإسحاق وأبو عبيد في أهل الحديث وداد في أهل الظاهر وكان أبو هريرة يقول لا صوم له ويروي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم رجع عنه قال سعيد بن المسيب : رجع أبو هريرة عن فتياه وحكي عن الحسن وسالم بن عبد الله قالا : يتم صومه ويقضي وعن النخعي في رواية يقضي في الفرض دون التطوع وعن عروة و طاوس أن علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر وإن لم يعلم فهو صائم وحجتهم حديث أبي هريرة الذي رجع عنه
ولنا ما [ روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ذهبت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة فقالت : اشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كان ليصبح جنبا من جماع من غير احتلام ثم يصومه ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك ثم أتينا أبا هريرة فأخبرناه بذلك فقال هما أعلم بذلك إنما حدثنيه الفضل بن عباس ] متفق عليه قال الخطابي أحسن ما سمعت في خبر أبي هريرة أنه منسوخ لأن الجماع كان محرما على الصائم بعد النوم فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم وروت عائشة [ أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فقال له الرجل يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال : إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي ] رواه مالك في موطأه و مسلم في صحيحه
مسألة : قال : وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها من الليل فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر وتغتسل إذا أصبحت
وجملة ذلك إن الحكم في المرأة إذا انقطع حيضها من الليل كالحكم في الجنب سواء ويشترط أن ينقطع حيضها قبل طلوع الفجر لأنه إن وجد جزء منه في النهار أفسد الصوم ويشترط أن تنوي الصوم أيضا من الليل بعد انقطاعه لأنه لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل وقال الأوزاعي و الحسن بن حي وعبد الملك ابن الماجشون والعنبري تقضي فرطت في الاغتسال أو لم تفرط لأن حدث الحيض يمنع الصوم بخلاف الجنابة
ولنا أنه حدث يوجب الغسل فتأخير الغسل منه إلى أن يصبح لا يمنع صحة الصوم كالجنابة وما ذكروه لا يصح فإن من طهرت من الحيض ليست حائضا وإنما عليها حدث موجب للغسل فهي كالجنب فإن الجماع الموجب للغسل لو وجد في الصوم أفسده كالحيض وبقاء وجوب الغسل منه كبقاء وجوب الغسل من الحيض وقد استدل بعض أهل العلم بقول الله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فلما أباح المباشرة إلى تبين الفجر علم أن الغسل إنما يكون بعده

من يباح لهم الفطر الحامل والمرضع إذا خافتا
مسألة : قال : والحامل إذا خافت على جنينها والمرضع على ولدها أفطرتا وفقتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا
وجملة ذلك أن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما فلهما الفطر وعليهما القضاء فحسب لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافا لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وعليهما القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم وهذا يروي عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب الشافعي وقال الليث الكفارة على المرضع دون الحامل وهو إحدى الروايتين عن مالك لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها بخلاف الحامل ولأن الحامل متصل بالحامل فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها وقال عطاء والزهري والحسن و سعيد بن جبير و النخعي و أبو حنيفة لا كفارة عليهما لما روى أنس بن مالك رجل من بني كعب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم - أو الصيام - ] والله لقد قالهما رسول صلى الله عليه و سلم أحدهما أو كليهما رواه النسائي و الترمذي وقال هذا حديث حسن ولم يأمره بكفارة ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالفطر للمرض
ولنا قول الله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وهما داخلتان في عموم الآية قال ابن عباس : كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطروا ويطعما مكان كان يوم مسكينا والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرنا وأطعهما رواه أبو داود وروي ذلك عن ابن عمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة من طريق الخلقة فوجبت به الكفارة كالشيخ الهرم وخبرهم لم يتعرض للكفارة فكانت موقوفة على الدليل كالقضاء فإن الحديث لم يتعرض له والمريض أخف حالا من هاتين لأنه يفطر بسبب نفسه إذا ثبت هذا فإن الواجب في إطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير والخلاف فيه كالخلاف في إطعام المساكين في كارة الجماع إذا ثبت هذا فإن القضاء لازم لهما وقال ابن عمر وابن عباس لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما وليس فيها إلا الإطعام ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم ]
ولنا إنما يطيقان القضاء فلزمهما كالحائض والنفساء الآية أوجبت الإطعام ولم تتعرض للقضاء فأخذناه من دليل آخر والمراد بوضع الصوم وضعه في مدة عذرهما كما جاء في حديث عمر بن أمية [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله وضع عن المسافر الصوم ] ولا يشبهان الشيخ الهرم لأنه عاجز عن القضاء وهما يقدران عليه قال أحمد أذهب إلى حديث أبي هريرة يعني ولا أقول بقول ابن عباس وابن عمر منع القضاء

الشيخ الكبير والعجوز
مسألة : قال : إذا عجز عن الصوم لكبر أفطر وأطعم لكل يوم مسكينا
وجملة ذلك أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يجدهما الصوم ويضق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينا وهذا قول علي ابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير و طاوس و أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي وقال مالك لا يجب عليه شيء لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية كما لو تركه لمرض اتصل به الموت وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا الآية قول ابن عباس في تفسيرها نزلت رخصة للشيخ الكبير ولأن الأداء صوم واجب فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء وأما المريض إذا مات فلا يجب الإطعام لأن ذلك يؤدي إلى أن يجب على الميت ابتداء بخلاف ما إذا أمكنه الصوم فلم يفعل حتى مات لأن وجوب الإطعام يستند إلى حال الحياة والشيخ الهرم له ذمة صحيحة فإن كان عاجزا عن الإطعام أيضا فلا شيء عليه و { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }

المريض الذي لا يرجى برؤه
فصل : والمريض الذي لا يرجى برؤه يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا لأنه في معنى الشيخ قال أحمد رحمه الله فيمن به شهوة الجماع غالبة لا يملك نفسه ويخاف أن تنشق أنثياه أطعم أباح له الفطر لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض ومن يخاف على نفسه الهلاك لعطش أو نحوه وأوجب الإطعام بدلا عن الصيام وهذا محمول على من لا يرجوا إمكان القضاء فإن رجا ذلك فلا فدية عليه والواجب انتظار القضاء وفعله إذا قدر عليه لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وإنما يصار إلى الفدية عند اليأس من القضاء فإن أطعم مع يأسه ثم قدر على الصيام احتمل أن لا يلزمه لأن ذمته قد برئت بأداء الفدية التي كانت هي الواجبة عليه فلم يعد إلى الشغل بما برئت منه ولهذا قال الخرقي : فمن كان مريضا لا يرجى برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة أقام من يحج عنه ويعتمر وقد أجزأ عنه وإن عوفي واحتمل أن يلزمه القضاء لأن الطعام بدل بأس وقد تبينا ذهاب اليأس فأشبه من اعتدت بالشهور عند اليأس من الحيض ثم حاضت

الحائض والنفساء
مسألة : قال : وإذا حاضت المرأة أو نفست أفطرت وقضت فإن صامت لم يجزئها
أجمع أهل العلم على أن الحائض والنفساء لا يحل لهما الصوم وإنهما يفطران رمضان ويقضيان وإنهما إذا صامتا لم يجزئهما الصوم وقد قالت عائشة : كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة متفق عليه والأمر إنما هو للنبي صلى الله عليه و سلم وقال أبو سعيد : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : أليس إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك من نقصان دينها ] رواه البخاري والحائض والنفساء سواء لان دم النفاس هو دم الحيض وحكمه حكمه ومتى وجد الحيض في جزء فسد صوم ذلك اليوم سواء وجد في أوله أو في آخره ومتى نوت الحائض الصوم وأمسكت مع علمها بتحريم ذلك أتمت ولم يجزئها

من عليه صوم رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر
مسألة : قال : فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها لكل يوم مسكين
وجملة ذلك أن من مات وعليه صيام من رمضان لم يخل من حالين : أحدهما أن يموت قبل إمكان الصيام أما لضيق الوقت أو لعذر من مرض أو سفر أو عجز عن الصوم فهذا لا شيء عليه في قول أكثر من أهل العلم وحكي عن طاوس و قتادة إنهما قالا : يجب الإطعام عنه لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه فوجب الإطعام عنه كالشيخ الهرم إذا ترك الصيام لعجزه عنه
ولنا أنه حق لله تعالى وجب بالشرع مات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج ويفارق الشيخ الهرم فإنه يجوز ابتداء الوجوب عليه بخلاف الميت
الحال الثاني : أن يموت بعد إمكان القضاء فالواجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عائشة و ابن عباس وبه قال مالك و الليث و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و الخزرجي و ابن علية و أبو عبيد في الصحيح عنهم وقال أبو ثور : يصام عنه وهو قول الشافعي لما روت عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه ] متفق عليه وروي عن ابن عباس نحوه
ولنا ما روي ابن ماجة عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا ] قال الترمذي الصحيح عن ابن عمر موقوف وعن عائشة أيضا قالت : يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر يصوم شهرا وعليه صوم رمضان قال : أما رمضان فليطعم عنه وأما النذر فيصام عنه رواه الأثرم في السنن ولأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الوفاة كالصلاة فأما حديثهم فهو في النذر لأنه قد جاء مصرحا به في بعض ألفاظه كذلك رواه البخاري عن ابن عباس قال : [ قالت امرأة يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذرا فأقضيه عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي عنها ؟ قالت : نعم قال : فصومي عن أمك ] وقالت عائشة وابن عباس كقولنا وهما راويا حديثهم فدل على ما ذكرناه
فصل : فأما صوم النذر فيفعله الولي عنه وهذا قول ابن عباس والليث وأبي عبيد وأبي ثور وقال سائر من ذكرنا من الفقهاء يطعم عنه لما ذكرنا في صوم رمضان
ولنا الأحاديث الصحيحة التي رويناها قبل هذا وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق بالإتباع وفيها غنية عن كل قول والقول بين النذر وغيره أن النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها والنذر أخف حكما لكونه لم يجب بأصل الشرع وإنما أوجبه الناذر على نفسه إذا ثبت هذا فإن الصوم ليس بواجب على الولي لأن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت وإنما يتعلق بتركته إن كانت له تركة فإن لم يكن له تركه فلا شيء على وارثه لكن يستحب أن يقضي عنه لتفريغ ذمته وفك رهانه كذلك ههنا ولا يختص ذلك بالولي بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزأ لأنه تبرع فأشبه قضاء الدين عنه

وإن أخره لغير عذر
مسألة : قال : فإن لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر رمضان آخر صامته ثم قضت ما كان عليها ثم أطعمت لكل يوم مسكينا وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة إذا فرطا في القضاء
وجملة ذلك أن من عليه صوم من رمضان فله تأخيره ما لم يدخل رمضان آخر لما روت عائشة قالت كان يكون علي الصيام من شهر رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان متفق عليه ولا يجوز له تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر لأن عائشة رضي الله عنها لم تؤخره إلى ذلك ولو أمكنها لأخرته ولأن الصوم عبادة متكررة فلم يجز تأخير الأولى عن الثانية كالصلوات المفروضة فإن أخره عن رمضان آخر نظرنا فإن كان لعذر فليس عليه إلا القضاء إطعام مسكين لكل يوم وبهذا قال ابن عباس و ابن عمر وأبو هريرة ومجاهد و سعيد بن جبير و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وقال الحسن و النخعي وأبو حنيفة لا فدية عليه لأنه صوم واجب فلم يجب عليه في تأخيره كفارة كما لو أخر الأداء والنذر
ولنا ما روي عن ابن عمر و ابن عباس وأبي هريرة أنهم قالوا أطعم عن كل يوم مسكينا ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلافهم وروي مسندا من طريق ضعيف ولأن تأخير صوم رمضان عن وقته إذا لم يوجب القضاء أوجب الفدية كالشيخ الهرم
فصل : فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضانان أو أكثر لم يكن عليه أكثر من فدية مع القضاء لأن كثرة التأخير لا يزداد بها والواجب كما لو أخر الحج والواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله
فصل : فإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين واحد نص عليه أحمد فيما روى عنه أبو داود أن رجلا سأله عن امرأة أفطرت رمضان ثم أدركها رمضان آخر ثم ماتت قال : يطعم عنها قال له السائل كم أطعم ؟ قال : كم أفطرت ؟ قال ثلاثين يوما قال : اجمع ثلاثين مسكينا وأطعمهم مرة واحدة وأشبعهم قال : ما أطعمهم ؟ قال خبزا ولحما إن قدرت من أوسط طعامكم وذلك لأنه بإخراج كفارة واحدة أزال تفريطه بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال أبو الخطاب يطعم عنه لكل يوم فقيران لأن الموت بعد التفريط بالتأخير فصار كما لو مات من غير تفريط وقال أبو الخطاب يطعم عنه لكل يوم فقيران لأن الموت بعد التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة والتأخير بدون الموت يوجب كفارة فإذا اجتمعا وجبت كفارتان كما لو فرط في يومين

التطوع بالصوم لمن عليه فرض
فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في جواز التطوع بالصوم ممن لعيه صوم فرض فنقل عنه حنبل أنه قال : لا يجوز له أن يتطوع بالصوم وعليه صوم من الفرض حتى يقضيه يبدأ بالفرض وإن كان عليه نذر صامته يعني بعد الفرض وروى حنبل عن أحمد بإسناده عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من صام تطوعا وعليه من رمضان شيء لم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه ] ولأنه عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يصح التطوع بها قبل أداء فرضها كالحج وروي عن أحمد أنه يجوز له التطوع لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها كالصلاة يتطوع في أول وقتها وعليه يخرج الحج ولأن التطوع بالحج يمنع فعل واجبة المعين فأشبه صوم التطوع في رمضان بخلاف مسألتنا والحديث يرويه ابن لهيعة وفيه ضعيف وفي سياقه ما هو متروك فإنه قال في آخره ومن أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء لم يتقبل منه ويخرج في التطوع بالصلاة في حق من عليه القضاء مثل ما ذكرناه في الصوم

كراهة قضاء الصوم أيام عشر ذي الحجة
فصل : واختلفت الرواية في كراهة القضاء في عشر ذي الحجة فوري أنه لا يكره وهو قول سعيد بن المسيب و الشافعي و إسحاق لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستحب قضاء رمضان في العشر ولأنه أيام عبادة فلم يكره القضاء فيه كعشر المحرم
والثانية يكره القضاء فيه روي ذلك عن الحسن والزهري لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه كرهه و لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز و جل من هذا الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ] فاستحب إخلاءها للتطوع لينال فضيلتها ويجعل القضاء في غيرها وقال بعض أصحابنا هاتان الروايتان مبنيتان على الروايتين في إباحة التطوع قبل صوم الفرض وتحريمه فمن أباحه كره القضاء فيها ليوفرها على التطوع لينال فضيلته فيها مع القضاء ومن حرمه لم يكرهه فيه بل استحب فعليه فيها لئلا يخلو من العبادة بالكلية ويقوي عندي أن هاتين الروايتين فرع على إباحة التطوع قبل الفرض أما على رواية التحريم فيكون صومها تطوعا قبل الفرض محرما وذلك أبلغ من الكراهة والله أعلم

يباح الفطر للمريض مرضا شديدا ومن يخاف على نفسه المرض وشدة السبق
مسألة : قال : وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه فإن تحمل وصام كره له ذلك وأجزأه
أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه قيل لأحمد متى يفطر المريض ؟ قال : إذا لم يستطع قيل مثل الحمى قال وأي مرض أشد من الحمى ؟ وحكي عن بعض السلف أنه أباح الفطر بكل مرض حتى م وجع الاصبع والضرس لعموم الآية فيه ولان المسافر يباح له الفطر وإن لم يحتج إليه فكذلك المريض
ولنا أنه شاهد للشهر لا يؤذيه الصوم فلزمه كالصحيح والآية مخصوصة في المسافر والمريض جميعا بدليل أن المسافر لا يباح له الفطر في السفر القصير والفرق بين المسافر والمريض أن السفر اعتبرت فيه المظنة وهو السفر الطويل حيث لم يمكن اعتبار الحكمة بنفسها فإن قليل المشقة لا يبيح وكثيرها لا ضابط له في نفسه فاعتبرت بمظنتها وهو السفر الطويل فدار الحكم مع المظنة وجودا وعدما والمرض لا ضابط هل فإن الأمراض تختلف منها ما يضر صاحبه الصوم ومنها ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس وجرح في الإصبع والدمل والقرحة اليسيرة والجرب وأشباه ذلك فلم يصلح المرض ضابطا وأمكن اعتبار الحكمة وهو ما يخاف منه الضرر فوجب اعتباره فإذا ثبت هذا فإن تحمل المريض وصام مع هذا فقد فعل مكروها لما يتضمنه من الأضرار بنفسه وتركه تخفيف الله تعالى وقبول رخصته ويصح صومه ويجزئه لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة فإذا تحمله أجزأه كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة إذا حضرها والذي يباح له ترك القيام في الصلاة فإذا قام فيها
فصل : والصحيح أن الذي يخشى المرض بالصيام كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض وتطاوله فالخوف من تجدد المرض في معناه قال أحمد فيمن به شهوة غالبة للجماع يخاف أن تنشق أنثياه فله الفطر وقال الجارية تصوم إذا حاضت فإن جهدها الصوم فلتفطر ولتقض - يعني إذا حاضت وهي صغيرة لم تبلغ خمس عشرة سنة قال القاضي هذا إذا كانت تخاف المرض بالصيام أبيح لها الفطر وإلا فلا
فصل : ومن أبيح له الفطر لشدة شبقة أن أمكنه استدفاع الشهوة بغير جماع كالاستمناء بيده أو يد امرأته أو جارته لم يجز له الجماع لأنه فطر للضرورة فلم تبح له الزيادة على ما تندفع به الضرورة كأكل الميتة عند الضرورة وإن جامع فعليه الكفارة وكذلك إن أمكنه دفعها بما لا يفسد صوم غيره كوطء زوجته أو أمته الصغيرة أو الكتابية أو مباشرة الكبيرة المسلمة دون الفرج أو الاستمناء بيدها أو بيده لم يبح له إفساد صوم غيره لأن الضرورة إذا اندفعت لم يبح ما رواءها كالشبع من الميتة إذا اندفعت الضرورة بسد الرمق وإن لم تندفع الضرورة إلا بإفساد صوم غيره أبيح ذلك لأنه مما تدعو الضرورة إليه فأبيح كفطره وكالحامل والمرضع يفطران خوفا على ولديهما فإن كان له امرأتان حائض وطاهر شائمة ودعته الضرورة إلى وطء إحداهما احتمل وجهين : أحدهما وطء الصائمة أولى لأن الله تعالى نص على النهي عن وطء الحائض في كتابه ولأن وطأها فيه أذى لا يزول بالحاجة إلى وطء
والثاني : يتخير لأن وطء الصائمة يفسد صيامها فتتعارض المفسدتان فيتساويان

ويباح للمسافر
مسألة : قال : وكذلك المسافر
يعني أن المسافر يباح له الفطر فإن صام كره له ذلك وأجزأه وجواز للمسافر ثابت بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزأه ويروى عن أبي هريرة أنه لا يصح صوم المسافر قال أحمد : كان عمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر وقال بهذا قوم من أهل الظاهر لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ليس من البر الصوم في السفر ] متفق عليه ول [ أنه عليه السلام أفطر في السفر فلما بلغه أن قوما صاموا قال : أولئك هم العصاة ] وروى ابن ماجة بإسناده [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال الصائم في رمضان في السفر كالمفطر في الحضر ] وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول قال ابن عبد البر هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم والسنة ترده وحجتهم ما روي [ عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أصوم في السفر ؟ - وكان كثير الصيام - قال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ] وفي لفظ رواه النسائي [ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم أجد قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ قال : هي رخصة الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه ] و [ قال أنس : كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه و سلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم ] متفق عليه وكذلك روى أبو سعيد وأحاديثهم محمولة على تفصيل الفطر على الصيام
فصل : والأفضل عند إمامنا رحمه الله الفطر في السفر وهو مذهب ابن عمر وابن عباس و سعيد بن المسيب و الشعبي و الأوزاعي و إسحاق وقال أبو حنيفة و مالك الشافعي : الصوم أفضل لمن قوي عليه ويروى ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بما روي عن مسلمة بن المحبق [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه ] رواه أبو داود ولأن من خير بين الصوم والفطر كان الصوم أفضل كالتطوع وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة أفضل الأمرين أيسرهما لقول الله تعالى { يريد الله بكم اليسر } ولما روى أبو داود [ عن حمزة بن عمرو قال : قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه وأسافر عليه وأكريه وإنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة وأنا شاب وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون علي من أن أؤخر فيكون دينا علي أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أم أفطر ؟ قال : أي ذلك شئت يا حمزة ]
ولنا ما تقدم من الإخبار في الفصل الذي قبله وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر ] ولأن الفطر خروجا من الخلاف فكان أفضل كالقصر وقياسهم ينتقض بالمريض ويصوم الأيام المكروه صومها

ومن أفطر في رمضان وأراد قضاءه متفرقا جاز
مسألة : قال : وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ والمتتابع أحسن
هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وأبي هريرة و ابن محريز و أبي قلابة ومجاهد وأهل المدينة والحسن و سعيد بن المسيب و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وحكي وجوب التتابع عن علي و ابن عمر و النخعي والشعبي وقال داود : يجب ولا يشترط لما روى ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه ]
ولنا إطلاق قول الله تعالى { فعدة من أيام أخر } غير مقيد بالتتابع فإن قيل فقد روي عن عائشة سقطت اللفظة المحتج بها وأيضا قول الصحابة قال ابن عمر : إن سافر فإن شاء فرق وإن شاء تابع وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقال أبو عبيدة بن الجراح في قضاء رمضان : إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن تقطيع قضاء رمضان [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضيا دينه ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم ] ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق وخبرهم لم يثبت صحته قال أهل السنن لم يذكروه ولو صح حملناه على الاستحباب فإن المتتابع أحسن لما فيه من موافقة الخبر والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء والله أعلم

ومن دخل في صيام تطوع ثم قطعه فلا قضاء عليه
مسألة : قال : ومن دخل في صيام تطوع فخرج مه فلا قضاء عليه فإن قضاه فحسن
وجملة ذلك أن من دخل في صيام تطوع استحب له إتمامه ولم يجب فإن خرج منه فلا قضاء عليه روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين ثم أفطرا وقال ابن عمر : لا بأس به ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان وقال ابن عباس إذا صام الرجل تطوعا ثم شاء أن يقطعه وإذا دخل في صلاة تطوعا ثم شاء أن يقطعها قطعها وقال ابن مسعود متى أصبحت تريد الصوم فأنت على آخر النظرين إن شئت صمت وإن شئت أفطرت فهذا مذهب أحمد و الثوري و الشافعي و إسحاق وقد روى حنبل عن أحمد أجمع على صيام فأوجبه على نفسه فأفطر من غير عذر أعاد يوما مكان ذلك اليوم وهذا محمول على أنه استحب ذلك أو نذره ليكون موافقا لسائر الروايات عنه وقال النخعي وأبو حنيفة ومالك يلزم في الشروع فيه ولا يخرج منه إلا بعذر فإن خرج قضي وعن مالك لا قضاء عليه واحتج من أوجب القضاء بما [ روي عن عائشة أنها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لنا حبس فأفطرنا ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اقضيا يوما مكانه ] ولأنه عبادة تلزم بالنذر فلزمت بالشروع فيها كالحج والعمرة
ولنا ما روى مسلم و أبو داود و النسائي [ عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال هل عندكم شيء فقلت : لا قال : فإني صائم ثم مر بعد ذلك بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يجب الحيس قلت يا رسول الله إنه أهدي لنا حيس فخبأت له منه قال أدنيه أما أني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج منه ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها ] هذا لفظ رواية النسائي وهو أتم من غيره و [ روت أم هاني قالت دخلت علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتي بشراب فناولنيه فشربت ثم قلت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها : أكنت تقضين شيئا قال : لا قال : فلا يضرك إن كان تطوعا ] رواه سعيد وأبو داود والأثرم في لفظ [ قالت : قلت إني صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن المتطوع أمير نفسه فإن شئت فصومي وإن شئت فأفطري ] ولأن كل صوم لو أتمه كان متطوعا إذا خرج منه لم يجب قضاءه كما لو اعتقد أنه من رمضان فبان من شعبا أو من شوال فأما خبرهم فقال أبو داود : لا يثبت وقال الترمذي فيه مقال وضعفه الجوزجاني وغيره ثم هو محمول على الاستحباب إذا ثبت هذا فإنه يستحب له إمامه وإن خرج منه استحب قضاؤه للخروج من الخلاف وعملا بالخبر الذي رووه
فصل : وسائر النوافل من الأعمال حكمها حكم الصيام في أنها لا تلزم بالشروع ولا يجب قضاؤها إذا خرج منها إلا الحج والعمرة فإنهما يخالفان سائر العبادات في هذا لتأكد إحرامهما ولا يخرج منها بإفسادهما ولو اعتقد أنهما واجبان ولم يكونا واجبين لم يكن له الخروج منها وقد روي عن أحمد في الصلاة ما يدل على أنها تلزم بالشروع فإن الأثرم قال : قلت لأبي عبد الله الرجل يصبح صائما متطوعا أيكون بالخيار والرجل يدخل في الصلاة له أن يقطعها ؟ فقال الصلاة أشد أما الصلاة فلا يقطعها قيل له فإن قطعها قضاها ؟ قال إن قضاها فليس فيه اختلاف ومال أبو إسحاق الجوزجاني إلى هذا القول وقال الصلاة ذات إحرام وإحلال فلزمت بالشروع فيها كالحج وأكثر أصحابنا على أنها لا تلزم أيضا وهو قول ابن عباس لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي

  : أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي أدوات الأعراب تأليف ظاهر شوكت البياتي  الإهداء إلى صديقي الصدوق: طه هاشم الدليمي الذ...