4. مصاحف

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 15. و16. المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 مجلد 15. و16. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني  عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

15.

مجلد 15. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني  عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد
 فصل : حكم قتال الصبيان والنساء من أهل البغي
فصل : وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل البالغ الحر يقاتلون مقبلين ويتركون مدبرين لأن قتالهم للدفع ولو أراد أحد هؤلاء قتل انسان جاز دفعه وقتاله وان أتى على نفسه ولذلك قلنا في أهل الحرب إذا كان معهم النساء والصبيان يقاتلون قوتلوا وقتلوا

فصل : لا يقاتل أهل البغي بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق وغيرهما
فصل : ولا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غير ضرورة لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل وما يعم إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل فان دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم اتلافه جاز ذلك وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة اذا تحصن الخوارج : فاحتاج الامام الى رميهم بالمنجنيق فعل ذلك بهم ما كان لهم عسكر وما لم ينهزموا وان رماهم البغاة بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله

فصل : موقف الإمام من طائفتين من أهل البغي اقتتلوا
فصل : قال أبو بكر : وإذا اقتتلت طائفتان من اهل البغي فقدر الامام على قهرهما لم يعن واحدة منهما لانهما جميعا على الخطأ وان عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم إليه أقربهما الى الحق فان استويا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة إحداهما بل الإستعانة على الأخرى فإذا هزمها لم يقاتل من معه حتى يدعوهم الى الطاعة لأنهم قد حصلوا في أمانه وهذا مذهب الشافعي ولا يستعين على قتالهم بالكفار بحال ولا بمن يرى قتلهم مدبرين وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : لا بأس أن يستعين عليهم باهل الذمة والمستأمنين وصنف آخر منهم إذا كان أهل العدل هم الظاهرين على من يستعينون به
ولنا ان القصد كفهم وردهم الى الطاعة دون قتلهم وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فان كان يقدر على كفهم استعان بهم وإن لم يقدر لم يجز

فصل : حكم ما لو أظهر قوم رأي الخوارج
فصل : وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام فحكى القاضي عن أبي بكر انه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور أهل الفقه وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز فعلى هذا حكمهم في ضمان النفس والمال حكم المسلمين وان سبوا الامام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنهم ارتكبوا محرما لا حد فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون ؟ على وجهين وقال مالك في الاباضية وسائر أهل البدع يستتابون فان تابوا والا ضربت أعناقهم قال اسماعيل بن اسحاق : رأى مالك قتل الخوارج واهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق فان تابوا وإلا قتلوا على افسادهم لا على كفرهم وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله انهم يستتابون فان تابوا والا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد وحجتهم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ] وقوله عليه السلام : [ لئن ادركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] وقوله صلى الله عليه و سلم في الذي أنكر عليه وقال انها لقسمة ما أريد بها وجه الله لابي بكر : [ اذهب فاقتله ] ثم قال لعمر مثل ذلك فأمر بقتله قبل قتاله وهو الذي يخرج من ضئضىء هذا قوم يعني الخوارج وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف يعني لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فان النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سيماهم التسبيد ] يعني حلق رؤوسهم واحتج الأولون بفعل علي رضي الله عنه فانه روي عنه أنه كان يخطب يوما فقال رجل بباب المسجد لا حكم الا لله فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله تعالى ولا نمنعكم الفيء ما دامت ايديكم معنا ولا نبدأكم بقتال وروى أبو يحيى قال : صلى علي رضي الله عنه صلاة فناداه رجل من الخوارج : { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } فأجابه علي رضي الله عنه : { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } وكتب عدي بن أرطاة الى عمر بن عبد العزيز ان الخوارج يسبونك فكتب اليه سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وان شهروا السلاح فاشهرو عليهم وان ضربوا فاضربوا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فلأن لا يتعرض لغيرهم أولى وقد روي [ في خبر الخارجي الذي انكر عليه ان خالدا قال : يا رسول الله الا أضرب عنقه ؟ قال : لعله يصلي ؟ قال : رب مصل لا خير فيه قال : إني لم اومر أن انقب عن قلوب الناس ]

مسألة : إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز ذلك
مسألة : قال : فان آل ما دفعوا به الى نفوسهم فلا شيء على الدافع وان قتل الدافع فهو شهيد
وجملته أنه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز قتلهم ولا شيء على من قتلهم من إثم ولا ضمان ولا كفارة لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وأمر بمقاتلته وكذلك ما أتلفه اهل العدل على أهل البغي حال الحرب من المال لا ضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالاموال أولى فان قتل العادل كان شهيدا لانه قتل في قتال أمر الله تعالى به بقوله : { فقاتلوا التي تبغي } وهل يغسل ويصلي عليه ؟ فيه روايتان إحداهما لا يغسل ولا يصلى عليه لانه شهيد معركة امر بالقتال فيها فأشبه شهيد معركة الكفار والثانية يغسل وسصلى عليه وهو قول الاوزاعي و ابن المنذر ولان النبي صلى الله عليه و سلم امر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله واستثنى قتيل الكفار في المعركة ففي ما عداه يبقى على الاصل ولان شهيد معركة الكفار أجره أعظم وفضله اكثر وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه فان الشيء انما يقاس على مثله

فصل : حكم ما أتلفه أهل البغي قبل الحرب وبعده
فصل : وليس على أهل البغي أيضا ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يضمنون ذلك لقول أبي بكر لاهل الردة : تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالذي تلفت في غير حال الحرب
ولنا ما روى الزهري انه قال : كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما أتلفت على الاخرى كأهل العدل ولان تضمينهم يفضي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب فاما قول أبي بكر رضي الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فان عمر قال له أما أن يدوا قتلانا فلا فان قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى على ما أمر الله فوافقه أبو بكر ورجع الى قوله فصار أيضا إجماعا حجة لنا ولم ينقل أنه غرم أحدا شيئا من ذلك وقد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم فلم يغرم شيئا ثم لو وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم مثله ههنا فان أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ فكيف يصح الحاقهم بهم ؟ فأما ما أتلفه بعضهم على بعض في غير حال الحرب قبله أو بعده فعلى متلفه ضمانه وبهذا قال الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب أرسل اليهم علي أقيدونا من عبد الله بن خباب ولما قتل ابن ملجم عليا في غير المعركة أقيد به وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل أحدا من اهل العدل في غير المعركة ؟ فيه وجهان :
احدهما يتحتم لانه قتل باشهار السلاح والسعي في الارض بالفساد فيحتم قتله كقاطع الطريق والثاني لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه : ان شئت ان أعفو وان شئت استقدت فاما الخوارج فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على قاتل أحد منهم ولا ضمان عليه في ماله

مسألة : إذا دفع أهل البغي لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل لهم أسير
مسألة : قال : وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولم يقتل لهم أسير ولم يغنم لهم مال ولم تسب له ذرية
وجملته أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بإلقاء السلاح وإما بالهزيمة الى فئة او الى غير فئة واما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فانه يحرم قتلهم واتباع مدبرهم وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وإن كانت لهم فئة يلجؤون اليها جاز قتل مدبرهم واسيرهم والاجازة على جريحهم وان لم يكن لهم فئة لم يقتلوا لكن يضربون ضربا وجيعا ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا توبة ذكروا هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو هذا واختاره بعض اصحاب الشافعي لانه متى لم يقتلهم اجتمعوا ثم عادوا الى المحاربة ولنا ما وري عن علي رضي الله عنه انه قال يوم الجمل : لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا يفتح باب ومن أغلق بابا أو بابه فهو آمن ولا يتبع مدبر وقد روي نحو ذلك عن عمار وعن علي رضي الله عنه انه ودى قوما من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين وعن أبي امامة أنه قال : شهدت صفين وكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وقد ذكر القاضي في شرحه [ عن عبد الله بن مسعود ان النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا ابن ام عبد ما حكم من بغى على أمتي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم فقال : لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم ] ولأن المقصود دفعهم وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في الثاني كما لو لم تكن لهم فئة إذا ثبت هذا فان قتل انسان من منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوما لم يؤمر بقتله وفي القصاص وجهان :
أحدهما : يجب لأنه مكافىء معصوم والثاني لا يجب لأن في قتلهم اختلافا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص لأنه مما يندرىء بالشبهات وأما أسيرهم فان دخل في الطاعة خلي سبيله وان أبى ذلك وكان رجلا جلدا من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب خلي سبيله وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء والصبيان والشيوخ الفانين خلي سبيلهم ولم يحبسوا في أحد الوجهين وفي الآخر يحبسون لان فيه كسرا لقلوب البغاة وان أسر كل واحد من الفريقين أسارى من الفريق الآخر جاز فداء أسارى أهل العدل باسارى اهل البغي وإن قتل اهل البغي أسارى اهل العدل لم يجز لاهل العدل قتل أساراهم لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم وان أبى البغاة مفاداة الاسرى الذين معهم وحبسوهم احتمل أن يجوز لاهل العدل حبس من معهم ليتوصلوا إلى تخليص أساراهم بحبس من معهم ويحتمل أن لا يجوز حبسهم ويطلقون لان الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم

فصل : حكم غنيمة أموال أهل البغي وسبي ذريتهم
فصل : فأما غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين اهل العلم خلافا وقد ذكرنا حديث أبي أمامة و ابن مسعود ولأنهم معصومون وإنما أبيح من دمائهم واموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما عداه يبقى على أصل التحريم وقد روي أن عليا رضي الله عنه يوم الجمل قال : من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه وكان بعض أصحاب علي قد أخذ قدرا وهو يطبخ فيها فجاء صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى وكبه وأخذها وهذا من جملة ما نقم الخوارج من علي فانهم قالوا انه قاتل ولم يسب ولم يغنم فان حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم وإن حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم فقال لهم ابن عباس : أفتسبون أمكم ؟ يعني عائشة ام تستحلون منها ما تستحلون من غيرها ؟ فان قلتم ليست أمكم فقد كفرتم وإن قلتم إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم يعني بقوله انكم إن جحدتم انها أمكم فقد قال الله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } فإن لم تكن أما لهم لم يكونوا من المؤمنين ولأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم الا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة وما أخذ من كراعهم وسلحهم لم يرد اليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به وذكر القاضي أن أحمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب ولا يجوز في غير قتالهم هذا قول أبي حنيفة لأن هذه الحال يجوز فيها إتلاف نفوسهم وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب وقال الشافعي : لا يجوز ذلك إلا من ضرورة إليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه كغيره من أموالهم
وقال أبو الخطاب : في هذه المسألة وجهان كالمذهبين ومتى انقضت الحرب وجب رده اليهم كما ترد اليهم سائر أموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ] وروى أبو قيس أن عليا رضي الله عنه نادى من وجد ماله فليأخذه

مسألة وفصل : من قتل من البغاة غسل وكفن وصلي عليه ولا فرض في ذلك بين الخوارج وغيرهم
مسألة : قال : ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه
يعني من أهل البغي وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي : إن لم يكن لهم فئة صلي عليهم وان كانت لهم فئة لم يصل عليهم لانه يجوز قتلهم في هذه الحال فلم يصل عليهم كالكفار ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال لا إله إلا الله ] رواه الخلال في جامعه ولانهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى عليهم كما لو لم يكن لهم فئة وما ذكروه ينتقض بالزاني المحصن والمقتص منه والقاتل في المحاربة
فصل : لم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي وظاهر كلام أحمد رحمه الله انه لا يصلى على الخوارج فإنه قال : أهل البدع ان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تصلوا عليهم وقال أحمد : الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة بأقل من هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن تقاتل خيبر من ناحية من نواحيها فقاتل رجل من تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقيل انه كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها من يصلي عليه قال : [ أنا لا أشهده يشهده من شاء ]
وقال مالك : لا يصلى على الأباضية ولا القدرية وسائر أصحاب الأهواء ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم والاباضية صنف من الخوارج نسبوا إلى عبد الله بن اباض صاحب مقالتهم والازارقة أصحاب نافع بن الأزرق والنجدات أصحاب نجدة الحروري والبيهسية اصحاب بيهس والصفرية قيل انهم نسبوا إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء خرجوا بها وقال أبو بكر بن عياش : لا أصلي على الرافضي لانه زعم أن عمر كافر ولا على الحروري لانه يزعم أن عليا كافر وقال الفريابي : من شتم أبا بكر فهو كافر لا يصلى عليه
ووجه ترك الصلاة عليهم انهم يكفرون اهل الاسلام ولا يرون الصلاة عليهم فلا يصلى عليهم كالكفار من أهل الذمة وغيرهم ولانهم مرقوا من الدين فأشبهوا المرتدين

فصل : البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع فليسوا بفاسقين
فصل : والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين وانما هم يخطئون في تأويلهم والامام وأهل العدل مصيبون في قتالهم فهم جميعا كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام من شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلا وهذا قول الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافا فأما الخوارج وأهل البدع إذا خرجوا على الامام فلا تقبل شهادتهم لانهم فساق وقال ابو حنيفة : يفسقون بالبغي وخروجهم على الإمام ولكن تقبل شهادتهم لان فسقهم من جهة الدين فلا ترد به الشهادة وقد قبل شهادة الكفار بعضهم على بعض ويذكر في كتاب الشهادة إن شاء الله تعالى

فصل : قال القاضي : لا يكره للعادل قتل ذي رحمة الباغي
فصل : ذكر القاضي انه لا يكره للعادل قتل ذي رحمه الباغي لانه قتل بحق فأشبه إقامة الحد عليه وكرهت طائفة من أهل العلم القصد إلى ذلك وهو أصح إن شاء الله لقول الله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا } وقال الشافعي [ كف النبي صلى الله عليه و سلم أبا حذيفة وعتبة عن قتل أبيه ] وقال بعضهم : لا يحل ذلك لأن الله تعالى أمر بمصاحبته بالمعروف وليس هذا من المعروف فان قتله فهل يرثه ؟ على روايتين :
إحداهما : يرثه هذا قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لانه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل في الحج : والثانية : لا يرثه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام : [ ليس لقاتل شيء ] وأما الباغي إذا قتل العادل فلا يرثه وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : يرثه لأنه قتله بتأويل أشبه قتل العادل الباغي
ولنا انه قتله بغير حق فلم يرثه كالقاتل خطأ وفارق ما إذا قتله العادل لانه قتله بحق وقال قوم : إذا تعمد العادل قتل قريبه فقتله ابتداء لم يرثه وان قصد ضربه ليصير غير ممتنع فجرحه ومات من هذا الضرب ورثه لانه قتله بحق وهذا قول ابن المنذر وقال هو أقرب الاقاويل

مسألة : ما أخذه البغاة في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم
مسألة : قال : وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم
وجملته أن أهل البغي إذا غلبوا على بلد فجبوا الخراج و الزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه فاذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغي لم يطالبوا بشيء مما جبوه ولم يرجع به على من أخذ منه روي نحو هذا عن ابن عمر وسلمة بن الاكوع وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وسواء كان من الخوارج أو من غيرهم وقال أبو عبيد : على من أخذوا منه الزكاة الاعادة لانه اخذها ممن لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو أخذها آحاد الرعية
ولنا ان عليا لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه وكان ابن عمر إذا أتاه ساعي نجده الحروري دفع اليه زكاته وكذلك سلمة بن الاكوع ولان في ترك الاحتساب بها ضررا عظيما ومشقة كثيرة فانهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فلو لم يحتسب بما أخذوه أدى إلى ثنا الصدقات في تلك المدة كلها
فاذا ثبت هذا فاذا ذكر أرباب الصدقات انهم قد أخذوا صدقاتهم قبل قولهم بغير يمين قال احمد : لا يستحلف الناس على صدقاتهم وان ادعى اهل الذمة دفع جزيتهم لم تقبل بغير بينة لأنهم غير مأمونين ولان ما يجب عليهم عوض وليس بمواساة فلم يقبل قولهم كأجرة الدار ويحتمل أن يقبل قولهم إذا مضى الحول لان الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم فكان القول قولهم لان الظاهر معهم ولانه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شق عليهم إقامة البينة على كل عام فيؤدي ذلك إلى تغريمهم الجزية مرتين وان ادعى من عليه الخراج دفعه اليهم ففيه وجهان : أحدهما يقبل لانه حق على مسلم فقبل قوله فيه كالزكاة والثاني لا يقبل لانه عوض فأشبه الجزية وان كان من عليه الخراج ذميا فهو كالجزية لأنه عوض على غير مسلم فهو كالجزية ولأنه احد الخراجين فأشبه الجزية

مسألة : لا ينقض من حكم حاكم أهل البغي إلا ما ينقض من حكم غيره
مسألة : قال : ولا ينقض من حكم حاكمهم الا ما ينقض من حكم غيره
يعني إذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ من احكام اهل العدل ويرد منه ما يرد فان كان ممن يستحل دماء اهل العدل واموالهم لم يجز قضاؤه لانه ليس بعدل وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز قضاؤه بحال لان أهل البغي يفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء
ولنا انه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء فاذا ثبت هذا فانه إذا حكم بما لا يخالف اجماعا نفذ حكمه وإن خالف ذلك نقض حكمه فقاضي أهل البغي أولى وان حكم فسقوط الضمان عن اهل البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه لانه موضع اجتهاد وإن كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لانه مخالف للاجماع وإن حكم على اهل العدل بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للاجماع وان حكم بوجوب ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه وإن كتب قاضيهم الى قاضي اهل العدل جاز قبول كتابه لانه قاض ثابت القضايا نافذ الأحكام والاولى أن لا يقبله كسرا لقلوبهم وقال أصحاب الرأي : لا يقبله لأن قضاءه لا يجوز وقد سبق الكلام في هذا فأما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم يجز قضاؤه لأن أقل أحوالهم الفسق والفسق ينافي القضاء ويحتمل ان يصح قضاؤه وتنفذ أحكامه لأن هذا مما يتطاول وفي القضاء بفساد قضاياه وعقوده الانكحة وغيرها ضرر كثير فجاز دفعا للضرر كما لو أقام الحدود وأخذ الجزية والخراج والزكاة

فصل : حكم ما لو ارتكب أهل البغي ما يوجب الحد ثم قدر عليهم
فصل : وإن ارتكب أهل البغي في حال امتناعهم ما يوجب الحد ثم قدر عليهم أقيمت فيهم حدود الله تعالى ولا تسقط باختلاف الدار وبهذا قال مالك و الشافعي و ابن منذر وقال أبو حنيفة : إذا امتنعوا بدار لم يجب الحد على أحد منهم ولا على من عندهم من تاجر أو أسير لأنهم خارجون عن دار الإمام فأشبهوا من في دار الحرب
ولنا عموم الآيات والأخبار ولأن كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها تجب الحدود فيه عند وجود أسبابها كدار أهل العدل ولانه زان او سارق لا شبهة في زناه وسرقته فوجب عليه الحد كالذي في دار العدل وهكذا نقول فيمن أتى حدا في دار الحرب فانه يجب عليه لكن لا يقام إلا في دار الاسلام على ما ذكرناه في موضعه

فصل : حكم استعانة أهل البغي بالكفار
فصل : وإذا استعان اهل البغي بالكفار فلا يخلو من ثلاثة أصناف : أحدهم أهل الحرب فاذا استعانوا بهم أو آمنوهم أو عقدوا لهم ذمة لم يصح واحد منها لأن الامان من شرط صحته إلزام كفهم عن المسلمين وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح ولأهل العدل قتالهم كمن لم يؤمنوه سواء وحكم أسيرهم حكم أسير سائر اهل الحرب قبل الاستعانة بهم فأما اهل البغي فلا يجوز لهم قتلهم لانهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم
الصنف الثاني : المستأمنون فمتى استعانوا بهم فأعانوهم نقضوا عهدهم وصاروا كأهل الحرب لأنهم تركوا الشرط وهو كفهم عن المسلمين فان فعلوا ذلك مكرهين لم ينتفض عهدهم لأن لهم عذرا وإن ادعوا الاكراه لم يقبل قولهم إلا ببينة لأن الاصل عدمه
الصنف الثالث : أهل الذمة فاذا أعانوهم وقاتلوا معهم ففيهم وجهان ذكرهما أبو بكر : أحدهما ينتقض عهدهم لانهم قاتلوا اهل الحق فينتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتالهم والثاني لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون المحق من المبطل فيكون ذلك شبهة لهم و للشافعي قولان كالوجهين فان قلنا ينتقض عهدهم صاروا كأهل الحرب فيما ذكرنا وان قلنا لا ينتقض عهدهم فحكمهم حكم أهل البغي في قتل مقبلهم والكف عن أسيرهم ومدبرهم وجريحهم إلا أنهم يضمنون ما أتلفوا على أهل العدل حال القتال وغيره بخلاف أهل البغي فانهم لا يضمنون ما أتلفوا حال الحرب لانهم أتلفوه بتأويل سائغ وهؤلاء لا تأويل لهم ولأنه سقط الضمان عن المسلمين كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة وأهل الذمة لا حاجة بنا إلى ذلك فيهم وان أكرهم البغاة على معونتهم لم ينتقض عهدهم وان ادعوا ذلك قبل قولهم لأنهم تحت أيديهم وقدرتهم وإن قالوا ظننا أن من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته لم ينتقض عهدهم وإن فعل ذلك المستأمنون انتقض عهدهم والفرق بينهما أن أهل الذمة أقوى حكما لأن عهدهم مؤبد ولا يجوز نقضه لخوف الخيانة منهم ويلزم الامام الدفع عنهمم والمستأمنون بخلاف ذلك

فصل : حكم ما لو أتلف المرتدون مالا للمسلمين
فصل : وإذا ارتد قوم فأتلفوا مالا للمسلمين لزمهم ضمان ما أتلفوه سواء تحيزوا أو صاروا في منعة أو لم يصيروا ذكره أبو بكر قال القاضي وهو ظاهر كلام احمد وقال الشافعي : حكمهم حكم أهل البغي فيما أتلفوه من الأنفس والاموال لأن تضمينهم يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع الى الاسلام فأشبهوا أهل البغي ولنا ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لاهل الردة حين رجعوا تردون علينا ما أخذتم منا ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم وان تدوا قتلانا ولا ندي قتلاكم قالوا نعم يا خليفة رسول الله فقال عمر : كل ما قلت كما قلت الا أن يدوا ما قتل منا فلا لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا ولأنهم أتلفوه بغير تأويل فاشبهوا أهل الذمة فأما القتلى فحكمهم فيهم حكم أهل البغي لما ذكرنا من خبر أبي بكر وعمر ولان طليحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن الأسدي وثابت بن أثرم فلم يغرمهما وبنو حنيفة قتلوا من قتلوا من المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئا ويحتمل ان يحمل قول أحمد وكلامه في المال على وجوب رد ما في ايديهم دون ما أتلفوه وعلى من أتلف من غير أن يكون له منعة أو أتلف في غير الحرب وما أتلفوه حال الحرب فلا ضمان عليهم فيه لأنه إذا سقط ذلك عن أهل البغي كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة فلأن يسقط ذلك كيلا يؤدي الى التنفير عن الاسلام أولى ولأنهم إذا امتنعوا صاروا كفارا ممتنعين بدارهم فاشبهوا أهل الحرب ويحمل قول أبي بكر على ما بقي في ايديهم من المال فيكون مذهب أحمد ومذهب الشافعي في هذا سواء وهذا اعدل وأصح ان شاء الله تعالى فأما من لا منعة له فيضمن ما أتلف من نفس ومال كالواحد من المسلمين أوأهل الذمة لانه لا منعة له ولا يكثر ذلك منه فبقي المال والنفس بالنسبة إليه على عصمته ووجوب ضمانه والله اعلم

كتاب المرتد
المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر قال الله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ولم ينكر ذلك فكان إجماعا

مسألة وفصول : حكم ما لو ارتد عن الإسلام من الرجال أو النساء وكان بالغا عاقلا وحكم استتابته وقتله إن لم يتب وحكم الزنديق ومن تكررت ردته وأن قتل المرتد إلى الإمام حرا كان أو عبدا
مسألة : قال : ومن ارتد عن الاسلام من الرجال و النساء وكان بالغا عاقلا دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فان رجع وإلا قتل
الفصل الأول أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل روي ذلك عن أبي بكر وعلي بن رضي الله عنهما وبه قال الحسن و الزهري و النخعي و مكحول و حماد و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق
وروي عن علي و الحسن و قتادة أنها تسترق لا تقتل ولأن أبابكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا وقال أبوحنيفة : تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تقتلوا امرأة ] ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارىء كالصبي
ولنا قوله عليه السلام : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و أبو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه وروى الدارقطني [ ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت ] ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فيقتل كالرجل وأما نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية فانه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية ولذلك نهى الذين بعثهم الى ابن أبي حقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الأصلي الطارىء بدليل ان الرجل يقر عليه ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الطارىء بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وانما أسلم بعضهم والظاهران أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي
الفصل الثاني : ان الردة لا تصح إلا من عاقل فاما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون ومن زال عقله باغماء او نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير خلاف قال ابن المنذر : اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المجنون اذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو لم يؤاخذ به في اقراره ولا طلاقه ولا اعتاقه وأما السكران والصبي العاقل فنذكر حكمهما فيما بعد ان شاء الله
الفصل الثالث : أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وعطاء و النخعي و مالك و الثوري و الاوزاعي و اسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وروي عن أحمد رواية اخرى أنه لا تجب استتابته لكن تستحب وهذا القول الثاني للشافعي وهو قول عبيد بن عمير وطاوس ويروى ذلك عن الحسن لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] ولم يذكر استتابته
وروي أن معاذا قدم على ابي موسى فوجد عنده رجلا موثقا فقال ما هذا ؟ قال : رجل كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود قال : لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال : اجلس قال : لا اجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل متفق عليه ولم يذكر استتابته ولانه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي ولانه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن وقال عطاء : إن كان مسلما أصليا لم يستتب وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب
ولنا حديث ام مروان أن النبي صلى الله عليه و سلم امر ان يستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد القارىء عن أبيه انه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر : هل كان من معربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال : ما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه فقال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا فاطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم ارض إذا بلغني ولو لم تجب استتابته لما برىء من فعلهم ولانه أمكن استصلاحه فلم يجز اتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس واما الامر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل ما ذكرناه وأما حديث معاذ فانه قد جاء فيه وكان قد استتيب
ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ عليه وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو قريبا من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى فضرب عنقه رواهن أبوداود ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم وشيوخهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال مالك و اسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ان تاب في الحال وإلا قتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن المنذر لحديث أم مروان ومعاذ ولأنه مصر على كفره أشبه بعد الثلاث وقال الزهري : يدعى ثلث مرات فان أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي وقال النخعي : يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع وعن علي أنه استتاب رجلا شهرا
ولنا حديث عمر ولأن الردة انما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها وأولى ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها وانها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لقول عمر : هلا حسبتموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا ؟ ويكرر دعايته لعله يتعطف قلبه فيراجع دينه
الفصل الرابع : أنه إن لم يتب قتل لما قدمناه ذكره وهو قول عامة الفقهاء ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل ولا يحرق بالنار وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم خالد والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله ] يعني النار أخرجه البخاري و ابو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان الله كتب الاحسان على كل شيء فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة ]
الفصل الخامس : ان مفهوم كلام الخرقي أنه إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل أي كفر كامل وسواء كان زنديقا يستسر بالكفر أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي و العنبري ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال انه أولى على مذهب عبد الله
والرواية الاخرى : لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك و الليث و اسحاق وعن أبي حنيفة روايتبن كهاتين واخبار أبي بكر أنه لا تقبل توبة الزنديق لقول الله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } والزنديق لا تظهر منه علامة تبين رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرا للاسلام مسرا للكفر فاذا وقف على ذلك فاظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الاسلام وأما من تكررت ردته فقد قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فاذا هم يقرأون برجز مسيلمة فرجع الى ابن مسعود فذكر ذلك له فبعث اليهم فأتي بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم إلا رجل منهم يقال له ابن النواحة قال : قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }
وروي [ أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ساره به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا هو يستأذنه في قتل رجل من المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أليس يشهد أن إله إلا الله ؟ قال : بلى ولا شهادة له قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم وقد قال الله تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا } ]
وروي أن محش بن حمير كان في النفر الذين أنزل الله فيهم { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } فأتى النبي صلى الله عليه و سلم وتاب إلى الله تعالى فقبل الله توبته وهو الطائفة التي عنى الله تعالى بقوله : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } فهو الذي عفا الله عنه وسأل الله تعالى أن يقتل في سبيله ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كف عن المنافقين بما أظهروا من الشهادة مع إخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع استسرارهم بكفرهم وأما قتله ابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين أنه ما زال عما كان عليه من كفره ويحتمل أنه قتله لقول النبي صلى الله عليه و سلم له حين جاء رسولا لمسيلمة : [ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ] فقتله تحقيقا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد روي أنه قتله لذلك
وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تابت واقلع ظاهرا أم باطيا فلا خلاف فيه فان الله تعالى قال في المنافقين : { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما }
فصل : وقتل المرتد إلى الامام حرا كان أو عبدا وهذا قول عامة أهل العلم إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد فان لسيده قتله لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] ولأن حفصة قتلت جارية سحرتها ولأنه حق الله تعالى فملك السيد اقامته على عبده كجلد الزاني ولنا انه قتل لحق الله تعالى فكان الى الامام كرجم الزاني وكقتل الحر وأما قوله [ وأقيموا الحدود ] فلا يتناول القتل للردة فانه قتل لكفره لاحدا في حقه وأما خبر حفصة فان عثمان تغيظ عليها وشق ذلك عليه وأما الجلد في الزنا فانه تأديب وللسيد تأديب عبده بخلاف القتل فإن قتله غير الامام أساء ولا ضمان عليه لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك وعلى من فعل ذلك التعزيز لإساءته وافتياته

مسألة : حكم مال المرتد إذا قتل أو مات على ردته
مسألة : قال : وكان ماله فيئا بعد قضاء دينه
وجملته ان المرتد إذا قتل أو مات على ردته فانه يبدأ بقضاء دينه وارش جنايته ونفقة زوجته وقريبه لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها وأولى ما يوجد من ماله وما بقي من ماله فهو فيء يجعل في بيت المال وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه لورثته من المسلمين وعنه أنه لقرابته من أهل الدين الذي انتقل اليه وقد مضت هذه المسألة مستوفاة في الفرائض بما أغنى عن ذكرها ههنا

فصل : لا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم
فصل : ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم فعلى هذا ان قتل أو مات زال ملكه بموته وإن راجع الإسلام فملكه باق له وقال أبو بكر : يزول ملكه بردته وان راجع الاسلام عاد إليه تمليكا مستأنفا لأن عصمة نفسه وماله إنما تثبت لاسلامه فزوال إسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته فوجب أن يملكوا ماله بها وقال أصحاب أبي حنيفة : ماله موقوف إن أسلم تبينا بقاء ملكه وإن مات أو قتل على ردته تبينا زواله من حين ردته قال الشريف أبو جعفر : هذا ظاهر كلام أحمد وعن الشافعي ثلاثة أقوال كهذه الثلاثة
ولنا أنه سبب يبيح دمه فلم يزل ملكه كزنا المحصن والقتل لمن يكافئه عمدا وزوال العصمة لا يلزم منه زوال الملك بدليل الزاني المحصن والقاتل في المحاربة وأهل الحرب فان ملكهم ثابت مع عصمتهم ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه لكن يباح قتله لكل أحد من غير استتابة وأخذ ماله لمن قدر عليه لأنه صار حربيا حكمه حكم أهل الحرب وكذلك لو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة إمام المسلمين زالت عصمتهمم في أنفسهم وأموالهم لأن الكفار الاصليين لا عصمة لهم في دارهم فالمرتد أولى

فصل : يؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين
فصل : ويؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين وإن كان له اماء جعلن عند امرأة ثقة لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن وذكر القاضي انه يؤجر عقاره وعبيده واماؤه والاولى ان لا يفعل لأن مدة انتظاره قريبة ليس في انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه من أجلها فانه ربما راجع الاسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله باجارة الحاكم له وإن لحق بدار الحرب او تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم ما يرى الحظ فيه من بيع الحيوان الذي يحتاج الى النفقة وغيره واجارة ما يرى ابقاءه والمكاتب يؤدي الى الحاكم فاذا أدى عتق لأنه نائب عنه

فصل : تصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق وغيرها موقوف
فصل : وتصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوف إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحا وإن قتل أو مات على ردته كان باطلا وهذا قول أبي حنيفة وعلى قول أبي بكر تصرفه باطل لأن ملكه قد زال بردته وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في ( الآخر : إن تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الأقوال الثلاثة وإن تصرف بعد الحجر عليه لم يصح تصرفه كالسفيه
ولنا ان ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفا كتبرع المريض

فصل : إذا تزوج المرتد لم يصح تزوجه
فصل : وان تزوج لم يصح تزوجه لانه لا يقلا على النكاح وما منع الاقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة وان زوج لم يصح تزويجه لأن ولايته على موليته قد زالت بردته وان زوج أمته لم يصح لأن النكاح لا يكون موقوفا ولأن النكاح ولو كان في الأمة فلا بد من عقده من ولاية صحيحة بدليل ان المرأة لا يجوز ان تزوج أمتها وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له فانه أدنى حالا من الفاسق الكافر

فصل : إذا وجد من المرتد سبب يقتضي الملك ثبت الملك له
فصل : وإن وجد من المرتد سبب يقتضي الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب والشراء وإيجار نفسه إجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له لأنه أهل للملك وكذلك تثبت أملاكه ومن قال أن ملكه يزول لم يثبت له ملكا لأنه ليس بأهل للملك ولهذا زالت أملاكه الثابتة له فان راجع الاسلام احتمل أن لا يثبت له شيء أيضا لأن السبب لم يثبت حكمه واحتمل أن يثبت الملك له حينئذ لأن السبب موجود وإنما امتنع ثبوت حكمه لعدم أهليته فإذا وجدت تحقق الشرط فيثبت الملك حينئذ كما تعود اليه أملاكه التي زالت عنه عند عدم أهليته فعلى هذا إن مات أو قتل ثبت الملك لمن ينتقل اليه ملكه لأن هذا في معناه

فصل : إذا لحق المرتد بدار الحرب فحكمه كما لو بقي في دار الإسلام إلا أن ماله يصبح مباحا
فصل : وإن لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه كالحكم فيمن هو في دار الاسلام إلا أن ما كان معه من ماله يصير مباحا لمن قدر عليه كما أبيح دمه وأما أملاكه وماله الذي في دار الاسلام فملكه ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه وقال أبو حنيفة : يورث ماله كما لو مات لأنه قد صار في حكم الموتى بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه
ولنا أنه حي فلم يورث كالحربي الاصلي وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصلي وإنما حل ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فاشبه مال الحربي الذي في دار الحرب وأما الذي في دار الاسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار الاسلام أو عند مودعه

مسألة : أحكام تارك الصلاة وكفر من تركها جاحدا
مسألة : قال : ومن ترك الصلاة دعي اليها ثلاثة ايام فان صلى وإلا قتل جاحدا تركها أو غير جاحد
قد سبق شرح هذه المسألة في باب مفرد لها ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدا لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك فان كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الاسلام والناشىء بغير دار الاسلام أو بادية بعيدة عن الامصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها فان جحدها بعد ذلك كفر وأما إذا كان الجاحد لها ناشئا في الامصار بين أهل العلم فانه يكفر بمجرد جحدها وكذلك الحكم في مباني الاسلام كلها وهي الزكاة والصيام والحج لأنه مباني الاسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتهاوالاجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للاسلام يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته

فصل : حكم من اعتقد حل شيء مجمع على تحريمه
فصل : ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر لما ذكرنا في تارك الصلاة وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم وفعلهم لذلك متقربين به إلى الله تعالى
وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه متقربا بذلك ولا يكفر المادح له على هذا المتمني مثل فعله فان عمران بن حطان قال فيه يمدحه لقتل علي :
( يا ضربة من تقي ما أراد بها ... الا ليبلغ عند الله رضوانا )
( إني لاذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا )
وقد عرف من مذهب الخوارج كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا وقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها فأقام عليه الحد ولم يكفره وكذلك ابو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها مستدلين بقول اللله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فلم يكفروا وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم الحد فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك
وقد قال أحمد : من قال الخمر حلال فهو كافر يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا فأما إن أكل لحم خنزير أو ميتة أو شرب خمرا لم يحكم بردته بمجرد ذلك سواء فعله في دار الحرب أو دار الاسلام لأنه يجوز أن يكون فعله معتقدا تحريمه كما يفعل غير ذلك من المحرمات

مسألة : ذبيحة المرتد حرام وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب
مسألة : قال : وذبيحة المرتد حرام وان كانت ردته الى دين أهل الكتاب
هذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال إسحاق : ان تدين بدين اهل الكتاب حلت ذبيحته ويحكى ذلك عن الاوزاعي لأن عليا رضي الله عنه قال : من تولى قوما فهو منهم
ولنا أنه كافر لا يقر على دينه فلم تحل ذبيحته كالوثني ولأنه لا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم فانه لا يقر بالجزية ولا يسترق ولا يحل نكاح المرتدة وأما قول علي : فهو منهم فلم يرد به أنه منهم في جميع الاحكام بدليل ما ذكرنا ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح نسائهم مع توليتهم للنصارى ودخولهم في دينهم ومع إقرارهم بما صولحوا عليه فلأن لا يعتقد ذلك في المرتدين أولى إذا ثبت هذا فانه إذا ذبح حيوانا لغيره بغير اذنه ضمنه بقيمته حيا لأنه اتلفه عليه وحرمه وان ذبحه باذنه لم يضمنه لأنه أذن في إتلافه

مسألة : صحة إسلام الصبي إذا كان له عشر سنين
مسألة : قال : والصبي إذا كان له عشر سنين وعقل الاسلام فأسلم فهو مسلم
وجملته أن الصبي يصح إسلامه في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه و إسحاق وابن أبي شيبة وأبو أيوب وقال الشافعي و زفر : لا يصح اسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ] حديث حسن ولأنه قول تثبت به الأحكام فلم يصح من الصبي كالهبة ولأنه أحد من رفع القلم عنه فلم يصح اسلامه كالمجنون والنائم ولأنه ليس بمكلف أشبه الطفل
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ] وقوله : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله ] وقال عليه السلام : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا ] وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي ولأن الاسلام عبادة محضة فصحت من الصبي العاقل كالصلاة والحج ولأن الله تعالى دعا عباده الى دار السلام وجعل طريقها الاسلام وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الاليم فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله مع إجابته اليها وسلوكه طريقها ولا إلزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار وسد طريق النجاة عليه مع هربه منها ولأن ما ذكرناه اجماع فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا وقال :
( سبقتكم إلى الاسلام طرأ ... صبيا ما بلغت أوان حلم )
ولهذا قيل أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال وقال عروة : أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع النبي صلى االله عليه وسلم ابن الزبير لسبع أو ثمان سنين ولم يرد النبي صلى الله عليه و سلم على أحد اسلامه من صغير ولا كبير فأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاث ] فلا حجة لهم فيه فإن هذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذلك والإسلام يكتب له لا عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وان لم تجب عليه وكذلك غيرها من العبادات المحضة فإن قيل فإن الاسلام يوجب الزكاة عليه في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه ميراث قريبه الكافر ويفسخ نكاحه قلنا أما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء وتحصين المال والثواب وأما الميراث والنفقة فأمر متوهم وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم ان هذا الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء الدارين والخلود في الجحيم فينزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن فوت ما يأكله وكلفة تحريك فيه لما كان بقاؤه به لم يعد ضررا والضرر في مسألتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من ذلك بكثير
إذا ثبت هذا فان الخرقي اشترط لصحة إسلامه شرطين : أحدهما أن يكون له عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بضربه على الصلاة لعشر
والثاني : أن يعقل الاسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فان الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد الاسلام وانما كلامه لقلقة بلسانه لا يدل على شيء وأما اشتراط العشر فان أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى ما حصل لا حاجة الى زيادة عليه وروي عن أحمد إذا كان ابن سبع سبين فإسلامه إسلام لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مروهم بالصلاة لسبع ] فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدا لصحة اسلامهم
وقال ابن أبي شبيبة : إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل إسلامه إسلاما ولعله يقول أن عليا عليه السلام أسلم وهو ابن خمس سنين لأنه قد قيل أنه مات وهو ابن ثمان وخمسين فعلى هذا يكون إسلامه وهو ابن خمس لأن مدة النبي صلى اله عليه وسلم منذ بعث الى أن مات ثلاث وعشرون سنة وعاش علي بعد ذلك ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون فاذا ضممت اليها خمسا كانت ثمانيا وخمسين
وقال أبو أيوب : أجيز إسلام ابن ثلاث سنين من أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه وهذا لا يكاد يعقل الاسلام ولا يدري ما يقول ؟ ولا يثبت لقوله حكم فان وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الاسلام وعقله إياه صح منه كغيره والله أعلم

مسألة : إن رجع الصبي وقال : لم أدر ماقلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الإسلام
مسألة : قال : فان رجع وقال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الاسلام
وجملته ان الصبي إذا أسلم وحكمنا بصحة إسلامه لمعرفتنا بعقله بأدلته فرجع وقال لم أدر ما قلت لم يقبل قوله ولم يبطل إسلامه الأول وروي عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام قال أبو بكر : هذا قول محتمل لأن الصبي في مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقا قال : والعمل على الأول لأنه قد ثبت عقله للإسلام ومعرفته به بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله وتصرفاته وعرفنا جنون المجنون وعقل العاقل بما يصدر عنه من أفعاله وأقواله وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد دعواه وهكذا كل من تلفظ بالاسلام أو أخبر عن نفسه به ثم انكر معرفته بما قال لم يقبل إنكاره وكان مرتدا نص عليه أحمد في مواضع إذا ثبت هذا فانه إذا ارتد صحت ردته وبهذا قال أبو حنيفة وهو الظاهر من مذهب مالك وعند الشافعي لا يصح إسلامه ولا ردته وقد روي عن أحمد أنه يصح إسلامه ولا تصح ردته لقوله عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ] وهذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذنب ولا شيء ولو صحت ردته لكتبت عليه
وأما الاسلام فلا يكتب عليه إنما يكتب له ولأن الردة أمر يوجب القتل فلم يثبت حكمه في حق الصبي كالزنا ولأن الاسلام إنما صح منه لأنه تمحض مصلحة فأشبه الوصية والتدبير والردة تمحضت مضرة ومفسدة فلم تلزم صحتها منه فعلى هذا حكمه حكم من لم يرتد فاذا بلغ فان أصر على الكفر كان مرتدا حينئذ

مسألة : لا يقتل الصبي حتى يبلغ فإن ثبت على كفره قتل
مسألة : قال : ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام فان ثبت على كفره قتل
وجملته أن الصبي لا يقتل سواء قلنا بصحة ردته أو لم نقل لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة في سائر الحدود ولا يقتل قصاصا فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة حينئذ فيستتاب ثلاثا فان تاب وإلا قتل سواء قلنا إنه كان مرتدا قبل بلوغه أو لم نقل وسواء كان مسلما أصليا فارتد أو كان كافرا فأسلم صبيا ثم إرتد

مسألة : إذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجر عليهما ولا على أولادهما من كانوا قبل الردة رق
مسألة : قال : وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق
وجملته أن الرق لا يجري على المرتد سواء كان رجلا أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب أو أقام بدار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا لحقت المرتدة بدار الحرب جاز استرقاقها لأن أبا بكر سبى بني حنيفة واسترق نساءهم وأم محمد بن الحنفية من سبيهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] ولأنه لا يجوز إقراره على كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل ولم يثبت أن الذين سباهم أبو بكر كانوا أسلموا ولا ثبت لهم حكم الردة فان قيل فقد روي عن علي أن المرتدة تسبى قلنا هذا الحديث ضعيف ضعفه أحمد فأما أولاد المرتدين فان كانوا ولدوا قبل الردة فانهم محكوم باسلامهم تبعا لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الاسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم في الكفر فلا يجوز إسترقاقهم صغارا لأنهم مسلمون ولا كبارا لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم بعد كفرهم فهم مسلمون وإن كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق وأما من حدث بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه ولد بين أبوين كافرين ويجوز استرقاقه لأنه ليس بمرتد نص عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر ويحتمل أن لا يجوز استرقاقهم لأن آباءهم لا يجوز استرقاقهم ولأنهم لا يقرون بالجزية فلا يقرون بالاسترقاق وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : إن ولدوا في دار الاسلام لم يجز استرقاقهم وإن ولدوا في دار الحرب جاز استرقاقهم
ولنا أنهم لم يثبت لهم حكم الاسلام فجاز استرقاقهم كولد الحربيين بخلاف آبائهم فعلى هذا إذا وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب وإن كان في دار الاسلام لم يقر بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب لم يقر بها لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن فاما من كان حملا حين ردته فظاهر كلام الخرقي أنه كالحادث بعد كفره وعند الشافعي هو كالمولود لأنه موجود ولهذا يرث
ولنا أن أكثر الأحكام إنما تتعلق به بعد الوضع فكذلك هذا الحكم

مسألة : إذا امتنع المرتدان أو أولادهما من الإسلام يجوز قتلهم بعد استتابتهم ثلاثة أيام
مسألة : قال : ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الاسلام بعد البلوغ استتيب ثلاثا فان لم يتب قتل
قوله : الذين وصفت يعني الذين ولدوا قبل الردة فانهم محكوم باسلامهم فلا يسترقون ومتى قدر على الزوجين أو على أولادهما استتيب منهم من كان بالغا عاقلا فإن لم يتب قتل ومن كان غير بالغ انتظرنا بلوغه ثم استتبناه فان لم يتب قتل وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب

فصل : متى ارتد أهل بلد صاروا دار حرب
فصل : ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا دار حرب في اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم الحادثين بعد الردة وعلى الامام قتالهم فإن أبابكر الصديق رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة الصحابة ولأن الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم وإذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويتبع مدبرهم ويجاز على جريحهم وتغنم أموالهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تصير دار حرب حتى تجمع فيها ثلاثة أشياء : أن تكون متاخمة لدار الحرب لا شيء بينهما من دار الاسلام الثاني أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمن الثالث أن تجري فيها أحكامهم
ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو دار الكفرة الاصليين

فصل : إن قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص
فصل : وان قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص نص عليه أحمد والولي مخير بين قتله والعفو عنه فان اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله وإن كان القتل خطأ وجبت الدية في ماله لأنه لا عاقلة له قال القاضي : وتؤخذ منه الدية في ثلاث سنين لأنها دية الخطأ فان قتل أو مات أخذت من ماله في الحال لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له ويحتمل أن تجب الدية عليه حالة لأنها إنما أجلت في حق العاقلة تخفيفا عليهم لأنهم يحملون عن غيرهم على سبيل المواساة فأما الجاني فتجب عليه حالة لأنها بدل عن متلف فكانت حالة كسائر أبدال المتلفات

مسألة : من أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له
مسألة : قال : ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له
وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : إذا أسلم أبواه أو أحدهما وأدرك فأبى الإسلام أجبر عليه ولم يقتل وقال مالك : إن أسلم الأب تبعه أولاده وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن ولد الحربيين يتبع أباه دون أمه بدليل الموليين إذا كان لهما ولد كان ولاؤه لمولى أبيه دون مولى أمه ولو كان الأب عبدا او الأم مولاة فاعتق العبد لجر ولاء ولده الى مواليه ولأن الولد يشرف بشرف أبيه وينتسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه فوجب أن يتبع أباه في دينه أي دين كان وقال الثوري : إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه فأيهما اختاره كان على دينه ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه أن تسلم فخيره النبي صلى الله عليه و سلم بين أبيه وأمه
ولنا أن الولد يتبع أبويه في الدين فان اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية ولأن الاسلام يعلو ولا يعلى ويترجح الاسلام بأشياء منها أنه دين الله الذي رضيه لعباده وبعث به رسله دعاة لخلقه إليه ومنها أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق وأداء الجزية وفي الآخرة من سخط الله وعذابه ومنها أن الدار دار الاسلام يحكم باسلام لقيطها ومن لا يعرف حاله فيها وإذا كان محكوما باسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل كولد المسلمين ولأنه مسلم فاذا رجع عن اسلامه وجب قتله لقوله عليه السلام : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وبالقياس على غيره
ولنا على مالك أن الأم أحد الأبوين فيتبعها ولدها في الاسلام كالأب بل الأم أولى به لأنها أخص به لأنه مخلوق منها حقيقة وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في الرق والحرية والتدبير والكتابة ولأن سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون أبيه وهذا يعارض ما ذكره وأما تخيير الغلام فهو في الحضانة لا في الدين

مسألة : موت أحد الأبوين الكافرين والحكم بإسلام ولدهما
مسألة : قال : وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له الميراث وكان مسلما بموت من مات منهما
يعني إذا مات أحد أبوي الولد الكافرين صار الولد مسلما بموته وقسم له الميراث وأكثر الفقهاء على انه لا يحكم باسلامه بموتهما ولا موت أحدهما لأنه يثبت كفره تبعا ولم يوجد منه اسلام ولا ممن هو تابع له فوجب إبقاؤه على ما كان عليه ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الاسلام بموت أبيه مع انه لم يخل زمنهم عن موت بعض أهل الذمة عن يتيم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فاذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب ابقاؤه على الفطرة التي ولد عليها ولأن المسألة مفروضة فيمن مات أبوه في دار الاسلام وقضية الدار الحكم باسلام أهلها ولذلك حكمنا باسلام لقيطها وانما ثبت الكفر للطفل الذي له ابوان فاذا عدما أو أحدهما وجب ابقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها وانما قسم له الميراث لأن اسلامه انما ثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما فلم يتقدم الاسلام المانع من الميراث على استحقاقه ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما اذا قال سيد العبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكون الاسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث وهذا فيما اذا كان في دار الاسلام لأنه متى انقطعت تبعيته لأبويه أو أحدهما ثبت له حكم الدار فأما دار الحرب فلا نحكم باسلام ولد الكافرين فيها بموتهما ولا موت أحدهما لأن الدار لا يحكم باسلام أهلها وكذلك لم نحكم باسلام لقيطها

مسألة وفصول : الشهادة على رجل بالردة وإنكاره وحكم إقراره بالشهادتين
مسألة : قال : ومن شهد عليه بالردة فقال ما كفرت فان شهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أنه إذا شهد عليه بالردة من تثبت الردة بشهادته فانكر لم يقبل انكاره واستتيب فان تاب والا قتل وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أن إنكاره يكفي في الرجوع الى الاسلام ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو أقر بالكفر ثم أنكره قبل منه ولم يكلف الشهادتين كذا ههنا
ولنا ما روى الأثرم باسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي قد تنصر فاستتابه فابى أن يتوب فقتله وأتي برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا ليس لنا دين إلا الاسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال : أتدرون لم استتببت النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فانما قتلتهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة ولأنه قد ثبت كفره فلم يحكم باسلامه بدون الشهادتين كالكفر الأصلي ولأن انكاره تكذيب للبينة فلم تسمع كسائر الدعاوى فأما إذا أقر بالكفر ثم أنكر فيحتمل أن نقول فيه كمسألتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الحد وجب بقوله فضل رجوعه عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه عنه كالزنا لو ثبت بقوله فرجع كف عنه وان ثبت ببينة لم يقبل رجوعه
فصل : وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : ولا نعلم أحدا خالفهم إلا الحسن قال : لا يقبل في القتل الا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها الا أربعة قياسا على الزنا
ولنا أنها شهادة في غير الزنا فقبلت من عدلين كالشهادة على السرقة ولا يصح قياسه على الزنا فانه لم يعتبر فيه الأربعة لعلة القتل بدليل اعتبار ذلك في زنا البكر ولا قتل فيه وإنما العلة كونه زنا ولم يوجد ذلك في الردة ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنا يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة
الفصل الثاني : انه إذا ثبتت ردته بالبينة أو غيرها فشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن صحة ما شهد عليه به وخلي سبيله ولا يكلف الاقرار بما نسب اليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز و جل ] متفق عليه ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذلك إسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت اسلامه الى الكشف عن صحة ردته وكلام الخرقي محمول على من كفر بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد صلى الله عليه و سلم أو جحدهما معا فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالاقرار بما جحده ومن أقر برسالة محمد صلى الله عليه و سلم وانكر كونه مبعوثا إلى العالمين لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمدا رسول الله الى الخلق أجمعين أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الاسلام وان زعم ان محمدا رسول مبعوث بعد غير هذا لزمه الاقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده وان ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده وكذلك ان جحد نبيا أو آية من كتاب اله تعالى أو كتابا من كتبه أو ملكا من ملائكته الذين ثبت انهم ملائكة الله أو استباح محرما فلا بد في إسلامه من الاقرار بما جحده وأما الكافر بجحد الدين من أصله إذا شهد أن محمدا رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : يحكم باسلامه لأنه [ روي أن يهوديا قال : أشهد ان محمدا رسول الله ثم مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صلوا على صاحبكم ] ولأنه لا يقر برسالة محمد صلى الله عليه و سلم الا هو مقر بمن ارسله وبتوحيده لأنه صدق النبي صلى الله عليه و سلم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده
الثانية : أنه إن كان مقرا بالتوحيد كاليهود حكم باسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد ضم اليه الاقرار برسالة محمد صلى الله عليه و سلم فكمل إسلامه وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين لم يحكم باسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعا إن قال أشهد أن النبي رسول الله لم نحكم باسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبينا وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي : يحكم باسلامه بهذا وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنهما اسمان لشيء معلوم معروف وهو الشهادتان فاذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما [ وروى المقداد أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال : لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها ] وعن [ عمران بن حصين قال : أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل فأتوا به النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد اني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو كنت قلت وانت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ] رواهما مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد إن الاسلام ما هو عليه فان أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر
فصل : واذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام فقد صار مرتدا ويجبر على الإسلام نص عليه أحمد في رواية جماعة ونقل عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام لأنه يحتمل الصدق فلا يراق دمه بالشبهة والأولى أولى لأنه قد حكم باسلامه فيقتل اذا رجع كما لو طالت مدته
فصل : واذا صلى الكافر حكم بإسلامه سواء كان في دار الحرب أو دار الاسلام أو صلى جماعة أو فرادى وقال الشافعي : إن صلى في دار الحرب حكم باسلامه وإن صلى في دار الاسلام لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أنه صلى رياء وتقية
ولنا أن ما كان إسلاما في دار الحرب كان إسلاما في دار الاسلام كالشهادتين
ولأن الصلاة ركن يختص به الاسلام فحكم باسلامه به كالشهادتين واحتمال التقية والرياء يبطل بالشهادتين وسواء كان أصليا أو مرتدا وأما سائلا الاركان من الزكاة والصيام والحج فلا يحكم باسلامه به فان المشركين كانوا يحجون في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى منعهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا يحج بعد العام مشرك ] والزكاة صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلي ما يؤخذ من المسلمين ولم يصيروا بذلك مسلمين وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولأن الصيام ليس بفعل إنما هو امساك عن أفعال مخصوصة في وقت مخصوص وقد يتفق هذا من الكافر كاتفاقه من المسلم ولا عبرة بنية الصيام لأنها أمر باطن لا علم لنا به بخلاف الصلاة فانها أفعال تتميز عن أفعال الكفار ويختص بها أهل الاسلام ولا يثبت الاسلام حتى يأتي بصلاة يتميز بها عن صلاة الكفار من استقبال قبلتنا والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم ولا فرق بين الأصلي والمرتد في هذا لأن ما حصل به الاسلام في الأصلي حصل به في حق المرتد كالشهادتين فعلى هذا لو مات المرتد فأقام ورثته بينة أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث إلا أن يثبت أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من البدع التي ينتسب أهلها إلى الاسلام فانه لا يحكم باسلامه بصللاته لأنه يعتقد وجوب الصلاة ويفعلها مع كفرة فأشبه فعله غيرها والله أعلم

فصل : حكم ما إذا أكره الذمي أو المستأمن على الإسلام
فصل : واذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له حكم الاسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الاكراه عنه فان مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار وإن رجع الى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال محمد بن الحسن : يصير مسلما في الظاهر وإن رجع عنه قتل إذا امتنع عن الاسلام لعموم قوله عليه السلام : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] ولأنه أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي إذا أكره عليه
ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه والعتق وفارق الحربي والمرتد فانه يجوز قتلهما وإكراههما على الاسلام بأن يقول إن اسلمت وإلا قتلناك فمتى أسلم حكم باسلامه ظاهرا وإن مات قبل زوال الإكراه عنه فحكمه حكم المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتي به كما لو أكره المسلم على الصلاة فصلى وأما في الباطن فيما بينهم وبين ربهم فان من اعتقد الاسلام بقلبه وأسلم فيما بينه وبين الله تعالى فهو مسلم عند الله موعود بما وعد به من أسلم طائعا ومن لم يعتقد الاسلام بقلبه فهو باق على كفره لا حظ له في الاسلام سواء في هذا من يجوز إكراهه ومن لا يجوز إكراهه فان الاسلام لا يحصل بدون اعتقاده من العاقل بدليل أن المنافقين كانوا يظهرون الاسلام ويقومون بفرائضه ولم يكونوا مسلمين

فصل : من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا
فصل : ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي وقال محمد بن الحسن : هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون إن مات ولا يغسل ولا يصلى عليه وهو مسلم فيما بينه وبين الله لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار
ولنا قول الله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله } و [ روي أن عمارا أخذه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يبكي فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن عادوا فعد ] وروي أن الكفار كانوا يعذبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد ألا أجابهم إلا بلال فانه كان يقول أحد أحد وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوه عليه ] ولأنه قول أكره عليه بغيرحق فلم يثبت حكمه كما لو أكره على الاقرار وفارق على ما إذا أكره بحق فانه خير بين أمرين يلزمه أحدهما فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه فاذا ثبت أنه لم يكفر فمتى زال عنه الاكراه أمر باظهار إسلامه فان أظهره فهو باق على إسلامه وإن أظهر الكفر حكم أنه كفر من حين نطق به لأننا تبينا بذلك أنه كان منشرح الصدر بالكفر من حين نطق به مختارا له وإن قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوسا عند الكفار و مقيدا عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته لأن ذلك ظاهر في الاكراه وان شهدت أنه كان آمنا حال نطقه به حكم بردته فان ادعى ورثته رجوعه إلى الاسلام لم يقبل إلا ببينة لأن الاصل بقاؤه على ما هو عليه وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم الخنزير لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها وإن قال بعض ورثته أكله مستحلا له أو أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه لا يستحقه ويدفع الى مدعي إسلامه قدر ميراثه لأنه لا يدعي أكثر منه
ويدفع الباقي الى بيت المال لعدم من يستحقه فإن كان في الورثة صغير أو مجنون دفع إليه نصيبه ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة إليه

فصل : والأفضل لمن أكره على كلمة الكفر أن يصبر ولا يقولها
فصل : ومن أكره على كلمة الكفر فالافضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن كان الرجل ممن قبلكم ليحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فيوضع على شق رأسه ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه ] وجاء في تفسير قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } أن بعض ملوك الكفار أخذ قوما من المؤمنين فخد لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه نارا ثم قال : من لم يرجع عن دينه فالقوه في النار فجعلوا يلقونهم فيها حتى جاءت امرأة على كتفها صبي لها فتقاعست من أجل الصبي : يا أمه اصبري فانك على الحق فذكرهم الله تعالى في كتابه وروى الأثرم عن أبي عبد الله أنه سئل عن الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه اله أن يرتد ؟ فكرهه كراهة شديدة وقال : ما يشبه هذا عندي الذين انزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الاقامة على الكفر وترك دينهم وذلك لأن الذي يكره على كلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها وهذا المقيم بينهم يلتزم باجابتهم الى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات وإن كان امرأة تزوجوها واستولدوها أولادا كفارا وكذلك الرجل وظاهر حالهم المصير الى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيف

مسألة : حكم من ارتد وهو سكران
مسألة : قال : ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته فان مات في سكره مات كافرا
اختلفت الرواية عن أحمد في ردة السكران فروي عنه أنها تصح قال أبو الخطاب : وهو أظهر الروايتين عنه وهو مذهب الشافعي وعنه لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يتعلق بالاعتقاد والقصد والسكران لا يصح عقده ولا قصده فأشبه المعتوه ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم ولأنه غير مكلف فلم تصح ردته كالمجنون والدليل على أنه غير مكلف أن العقل شرط في التكليف وهو معدوم في حقه ولهذا لم تصح استتابته
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا في السكران : إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدود حد المفتري فأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره وأقاموا مظنتها مقامها ولأنه يصح طلاقه فصحت ردته كالصاحي وقولهم ليس بمكلف ممنوع فان الصلاة واجبة عليه وكذلك سائر أركان الإسلام ويأثم بفعل المحرمات وهذا معنى التكليف ولأن السكران لا يزول عقله بالكلية ولهذا يتقي المحذورات ويفرح بما يسره ويساء بما يضره ويزول سكره عن قرب من الزمان فأشبه الناعس بخلاف النائم والمجنون وأما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه ليكمل عقله ويفهم ما يقال له وتزال شبهته إن كان قد قال الكفر معتقدا له كما تؤخر استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه ويؤخر الصبي الى حين بلوغه وكمال عقله ولأن القتل جعل للزجر ولا يحصل الزجر في حال سكره وإن قتله قاتل في حال سكره لم يضمنه لأن عصمته زالت بردته وإن مات أو قتل لم يرثه ورثته ولا يقتله حتى يتم له ثلاثة أيام ابتداؤها من حين ارتد فان استمر سكره أكثر من ثلاث لم يقبل حتى يصحوا ثم يستتاب عقيب صحوه فان تاب وإلا قتل في الحال وإن أسلم في سكره صح إسلامه ثم يسأل بعد صحوه فإن ثبت على إسلامه فهو مسلم من حين أسلم لأن إسلامه صحيح وإن كفر فهو كافر من الآن لأن إسلامه صح وإنما يسأل استظهارا وإن مات بعد إسلامه في سكره مات مسلما

فصل : يصح إسلام السكران في سكره
فصل : ويصح إسلام السكران في سكره سواء كان كافرا أصليا أو مرتدا لأنه إذا صحت ردته مع أنها محض مضرة وقول باطل فلأن يصح اسلامه الذي هو قول حق ومحض مصلحة أولى فإن رجع عن إسلامه وقال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى مقالته وأجبر على الإسلام فإن أسلم وإلا قتل ويتخرج أن لا يصح إسلامه بناء على القول بان ردته لا تصح فان من لا تصح ردته لا يصح إسلامه كالطفل والمعتوه

فصل : لا تصح ردة المجنون ولا إسلامه
فصل : ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له وإن ارتد في صحته ثم جن لم يقتل في حال جنونه لأنه يقتل بالاصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالاصرار ولا يمكن استتابته ولو وجب عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وههنا يسقط برجوعه ولأن القصاص إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له فنظير مسألتنا أن يجن المستحق للقصاص فانه لا يستوفي حال جنونه

فصل : حكم من أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم
فصل : ومن أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي سواء لحق بدار الحرب في ردته أو لم يلحق بها وقال قتادة في مسلم أحدث حدثا ثم لحق بالروم ثم قدر عليه إن كان ارتد درىء عنه الحد وإن لم يكن ارتد أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة و الثوري إلا حقوق الناس لأن ردته أحبطت عمله فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن فعل ذلك في حال شركه ولأن الاسلام يجب ما قبله
ولنا أنه حق عليه فلم يسقط بردته كحقوق الآدميين وفارق ما فعله في شركه فإنه لم يثبت حكمه في حقه وأما قوله الاسلام : [ يجب ما قبله ] فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد ما قبل ردته أفضى إلى كون الردة التي هي أعظم الذنوب مكفرة للذنوب وإن من كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر ثم يسلم فتكفر ذنوبه وتسقط حدوده

فصل : حكم ما فعله المرتد في ردته
فصل : فأما ما فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال : سألته عن رجل ارتد عن الاسلام فقطع الطريق وقتل النفس ثم لحق بدار الحرب فأخذه المسلمون فقال : تقام فيه الحدود ويقتص منه وسألته عن رجل ارتد فلحق بدار الحرب فقتل بها مسلما ثم رجع تائبا وقد أسلم فأخذه وليه يكون عليه القصاص ؟ فقال : قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو مشرك وكذلك إن سرق وهو مشرك ثم توقف بعد ذلك وقال : لا أقول في هذا شيئا
وقال القاضي : ما أصاب في ردته من نفس أو مال أو جرح فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة أو لم يكن لأنه التزم حكم الإسلام باقراره فلم يسقط بجحده كما لا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده والصحيح ان ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في جماعة ممتنعة لا يضمنه لما ذكرناه في آخر الباب الذي قبل هذا وما فعله قبل هذا أخذ به إذا ما كان مما يتعلق به حق آدمي كالجناية على نفس أو مال لأنه في دار الاسلام فلزمه حكم جنايته كالذمي والمستأمن وأما ان ارتكب حدا خالصا لله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة فانه ان قتل بالردة سقط ما سوى القتل من الحدود لأنه متى اجتمع مع القتل حد اكتفي بالقتل وإن رجع إلى الإسلام أخذ بحد الزنا والسرقة لأنه من أهل دار الاسلام فأخذ بهما كالذمي والمستأمن وأما حد الخمر فيحتمل ان لا يجب عليه لأنه كافر فلا يقام عليه حد الخمر كسائر الكفار ويحتمل أن يجب لأنه أقر بحكم الاسلام قبل ردته وهذا من أحكامه فلم يسقط بجحده بعده والله أعلم

فصل : حكم من ادعى النبوة أو صدق مدعيها
فصل : ومن ادعى النبوة أو صدق من ادعاها فقد ارتد لأن مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه قومه صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابون كلهم يزعم انه رسول الله ]

فصل : حكم من سب الله تعالى
فصل : ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحا أو جادا وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه قال الله تعالى { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وينبغي أن لا يكتفي من الهازىء بذلك لمجرد الإسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك فإنه إذا لم يكتفي ممن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتوبة فممن سب الله تعالى أولى

فصل في السحر
وهو عقد ورقي وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له وله حقيقة فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض احدهما الى الآخر أو يحبب بين اثنين وهذا قول الشافعي وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل لان الله تعالى قال : { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } وقال اصحاب أبي حنيفة : إن كان شيئا يصل الى بدن المسحور كدخان ونحوه جاز ان يحصل منه ذلك فأما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل الى بدنه شيء فلا يجوز ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الانبياء عليهم السلام لأن ذلك يخرق العادات فاذا جاز من غير الانبياء بطلت معجزاتهم وأدلتهم
ولنا قول الله تعالى : { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد } يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن عليه ولولا أن السحر له حقيقة لما أمر الله تعالى بالاستعاذة منه وقال الله تعالى : { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } إلى قوله { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } و [ روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم سحر حتى أنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وأنه قال لها ذات يوم : اشعرت أن الله تعالى أفتاني فيما استفتيته ؟ أنه أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب قال : من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي اروان ] ذكره البخاري وغيره جف الطلعة وعاؤها والمشاطة الشعر الذي يخرج من شعر الرأس او غيره إذا مشط فقد أثبت لهم سحرا
وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متوترا لا يمكن جحده وروي من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه وأما إبطال المعجزات فلا يلزم من هذا لأنه لا يبلغ ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم أن ينتهي الى أن تسعى العصي والحبال
إذا ثبت هذا فان تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم قال أصحابنا : ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو اباحته وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فان حنبلا روى عنه قال : قال عمي في العراف والكاهن والساحر : أرى ان يستتاب من هذه الافاعيل كلها فإنه عندي في معنى المرتد فإن تاب و راجع يعني يخلى سبيله قلت له يقتل ؟ قال : لا يحبس لعله يرجع قلت له : لم لا تقتله ؟ قال : إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله وقوله في معنى المرتد يعني في الاستتابة
وقال اصحاب أبي حنيفة : إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر و قال الشافعي : إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس أو اعتقد حل السحر كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل المتواتر والاجماع عليه وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها ولأنه شيء يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم
ولنا قول الله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } إلى قوله { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي وما كفر سليمان أي وما كان ساحرا كفر بسحره وقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه فتكفر بذلك وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائسة أن امرأة جاءتها فجعلت تبكي بكاء شديدا وقالت : يا أم المؤمنين ان عجوزا ذهبت بي إلى هاروت وماروت فقلت : علماني السحر فقالا : اتقي الله ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فقلت : علماني السحر فقالا : اذهبي الى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت فرأيت كأن فارسا مقنعا في الحديد خرج مني حتى طار فغاب في السماء فرجعت إليهما فأخبرتهما فقالا : ذلك إيمانك فذكرت باقي القصة - إلى أن قالت - والله يا أم المؤمنين ما صنعت شيئا غير هذا ولا أصنعه ابدا فهل لي من توبة قالت عائشة : ورأيتها تبكي بكاء شديدا فطافت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم متوافرون تسألهم هل لها من توبة ؟ فما أفتاها أحد إلا أن ابن عباس قال لها : إن كان أحد من أبويك حيا فبريه وأكثري من عمل البر ما استطعت وقول عائشة قد خالفها فيه كثير من الصحابة وقال علي رضي الله عنه : الساحر كافر ويحتمل أن المدبرة تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها ويحتمل أنها سحرتها بمعنى أنها ذههبت الى ساحر سحر لها

فصل : بيان حد الساحر ومن قال بقتله
فصل : وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر وعثمان بن عفان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة و مالك ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابي المنذر ورواية عن أحمد قد ذكرناها فيما تقدم ووجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة ساحرتها ولو وجب قتلها لما حل بيعها ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ] ولم يصدر منه أحد الثلاثة فوجب أن لا يحل دمه
ولنا ماروى جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حد الساحر ضربه بالسيف ] قال ابن المنذر رواه اسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وروى سعيد و ابوداود في كتابيهما عن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الاحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم وهذا اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد ابن عقبة ولأنه كافر فيقتل للخبر الذي رووه

فصل : هل يستتاب الساحر ؟
فصل : وهل يستتاب الساحر فيه روايتان : احداهما لا يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة فانه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا وفي الحديث الذي رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الساحرة سألت أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وهم متوافرون هل لها من توبة فما أفتاها أحد ولأن السحر معنى في قلبه لا يزول بالتوبة فيشبه من لم يتب والرواية الثانية يستتاب فان تاب قبلت توبته لأنه ليس بأعظم من الشرك والمشرك يستتاب ومعرفته السحر لا تمنع قبول توبته فإن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم من أوليائه في ساعة ولأن الساحر لو كان كافرا فأسلم صح إسلامه وتوبته فاذا صحت التوبة منهما صحت من أحدهما كالكفر ولأن الكفر والقتل إنما هو بعمله بالسحر لا بعلمه بدليل الساحر إذا أسلم والعمل به يمكن التوبة منه وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده يمكن التوبة منه كالشرك وهاتان الروايتان في ثبوت حكم التوبة في الدنيا من سقوط القتل ونحوه فاما فيما بينه وبين الله تعالى وسقوط عقوبة الدار الآخرة عنه فيصح فإن الله تعالى لم يسد باب التوبة عن أحد من خلقه ومن تاب الى الله قبل توبته لا نعلم في هذا خلافا

فصل : السحر الذي ذكر هو السحر الذي يعد في العرف سحرا
فصل : والسحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحرا مثل فعل لبيد بن الأعصم حين سحر النبي صلى الله عليه و سلم في مشط ومشاطة وروينا في مغازي الأموي أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في احليل عمارة بن الوليد فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى امارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمسكه انسان فقال : خلني وإلا مت فلم يخله فمات من ساعته وبلغنا أن بعض الامراء أخذ ساحرة فجاء زوجها كأنه محترق فقال : قولوا لها تحل عني فقالت : ائتوني بخيوط وباب فجلست على الباب حين أتوها به وجعلت تعقد وطار بها الباب فلم يقدروا عليها فهذا وأمثاله مثل أن يعقد الرجل المتزوج فلا يطيق وطء زوجته هو السحر المختلف في حكم صاحبه فأما الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن ويأمرها فتطيعه فهذا لا يدخل في هذا الحكم ظاهرا وذكره القاضي وابو الخطاب في جملة السحرة وأما من يحل السحر فإن كان بشيء من القرآن أو شيء من الذكر والأقسام والكلام الذي لا بأس به فلا بأس به وإن كان بشيء من السحر فقد توقف أحمد عنه قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر فقال : قد رخص فيه بعض الناس قيل لابي عبد الله : انه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا فنفض يده كالمنكر وقال : ما أدري ما هذا قيل له : فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر فقال : ما أدري ما هذا
وروي عن محمد بن سيرين أنه سئل عن امرأة يعذبها السحرة فقال : رجل أخط خطا عليها واغرز السكين عند مجمع الخط واقرأ القرآن فقال محمد : ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدري ما الخط والسكين وروي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه فقال : إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقال أيضا : إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل فهذا من قولهم يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة ولانهم لا يسمون به وهو ما ينفع ولا يضر

فصل : حكم الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالأخبار
فصل : فأما الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالاخبار والعراف الذي يحدس ويتخرص فقد قال أحمد في رواية حنبل في العراف والساحر والكاهن : ارى ان يستتاب من هذه الافاعيل قيل له : يقتل ؟ قال : يحبس لعله يرجع قال : والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث لأن السحر شعبة من الكفر وقال : الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما وحديث عمر اقتلوا كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الاسلام وهذا يدل على ان كل واحد منهما فيه روايتان إحداهما أنه يقتل اذا لم يتب والثانية لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد اختلف فيه فهذا بدرء القتل عنه أولى

فصل : ساحر أهل الكتاب لا يقتل بسبب سحره
فصل : فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل لسحره إلا ان يقتل به وهو مما يقتل به غالبا فيقتل قصاصا وقال أبو حنيفة : يقتل لعموم ما تقدم من الاخبار ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي كالقتل
ولنا أن لبيد بن الاعصم سحر النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقتله ولأن الشرك أعظم من سحره ولا يقتل به والأخبار وردت في ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلي وقياسهم ينتقض باعتقاد الكفر والمتكلم به وينتقض بالزنا من المحصن فإنه لا يقتل به الذمي عندهم ويقتل به المسلم والله أعلم

كتاب الحدود
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام بدليل قول الله تعالى : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وقال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا }
وروى عبد الله بن مسعود قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك - قال : قلت ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك - قال : قلت ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ] أخرجه البخاري و مسلم وكان حد الزاني في صدر الاسلام الحبس للثيب والاذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر لقوله سبحانه : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما }
قال بعض أصحاب أهل العلم المراد بقوله : { من نسائكم } الثيب لأن قوله من نسائكم إضافة زوجية كقوله : { للذين يؤلون من نسائهم } ولا فائدة في إضافته ههنا نعلمها إلا اعتبار الثيوبة ولأنه قد ذكر عقوبتين احداهما أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والاخرى للأبكار كالرجم والجلد ثم نسخ هذا بما روى عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] رواه مسلم و أبو داود فان قيل : فكيف ينسخ القرآن بالسنة ؟ قلنا : قد ذهب بعض أصحابنا الى جوازه لأن الكل من عند الله وإن اختلفت طرقه ومن منع ذلك قال : ليس هذا نسخا إنما هو تفسير للقرآن وتبيين له لأن النسخ رفع حكم ظاهره الاطلاق فأما ما كان مشروطا بشرط وزال الشرط لا يكون نسخا وههنا شرط الله تعالى حبسهن الى أن يجعل لهن سبيلا فبينت السنة السبيل فكان بيانا لا نسخا ويمكن أن يقال ان نسخه حصل بالقرآن فان الجلد في كتاب الله والرجم كان فيه فنسخ رسمه وبقي حكمه

مسألة وفصول : وجوب الرجم على الزاني المحصن وثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وشروط الاحصان
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : واذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة جلدا ورجما حتى يموتا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى يرجمان ولا يجلدان
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا الا الخوارج فانهم قالوا : الجلد للبكر والثيب لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وقالوا لا يجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع واليقين لاخبار آحاد يجوز الكذب فيها ولأن هذا يفضي الى نسخ الكتاب بالسنة وهو غير جائز
ولنا أنه ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله وفعله في أخبار تشبه المتواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما سنذكره في أثناء الباب في مواضعه إن شاء الله تعالى وقد أنزله الله تعالى في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها ورجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا بعده فاخشى إن طال بالناس زمان ان يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى اذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأ بها : [ الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ] متفق عليه أما آية الجلد فنقول بها فان الزاني يجب جلده فان كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حين جلد شراحة ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله تعالى ثم رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لو قلنا إن الثيب لا يجلد لكان هذا تخصيصا للآية العامة وهذا سائغ بغير خلاف فان عمومات القرآن في الاثبات كلها مخصصة وقولهم إن هذا نسخ ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ثم لو كان نسخا لكان نسخا بالآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه وقد روينا أن رسل الخوارج جاءوا عمر عبد العزيز رحمه الله فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم وقالوا : ليس في كتاب الله إلا الجلد وقالوا الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون تالصلاة والصلاة أوكد فقال لهم عمر : وأنتم لا تأخذون إلا بما في كتاب الله ؟ قالوا : نعم قال : فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات وعدد أركانها وركعاتها ومواقيتها أين تجدونه في كتاب الله تعالى ؟ وأخبروني عما تجب الزكاة فيه ومقاديرها ونصبها ؟ فقالوا : انظرنا فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئا مما سألهم عنه في القرآن فقالوا لم نجده في القرآن قال : فكيف ذهبتم إليه ؟ قالوا : لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله وفعله المسلمون بعده فقال لهم : فكذلك الرجم وقضاء الصوم فان النبي صلى الله عليه و سلم رجم ورجم خلفاؤه بعده والمسلمون وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقضاء الصوم دون الصلاة وفعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه إذا ثبت هذا فمعنى الرجم أن يرمى بالحجارة وغيرها حتى يقتل بذلك قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت ولأن إطلاق الرجم يقتضي القتل به كقوله تعالى : { لتكونن من المرجومين } وقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهوديين اللذين زنيا وماعزا والغامدية حتى ماتوا
فصل : وإذا كان الزاني رجلا أقيم قائما ولم يوثق بشيء ولم يحفر له سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحفر لماعز قال أبو سعيد : [ لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجم ماعز خرجنا به الى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا ] رواه أبو داود ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه فوجب أن لا تثبت وإن كان امرأة فظاهر كلام احمد أنها لا يحفر لها أيضا وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف وذكر في المجرد أنه إن ثبت الحد بالاقرار لم يحفر لها وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر قال ابو الخطاب : وهذا أصح عندي وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر وبريدة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم امرأة فحفر لها الى التندوة ] رواه أبو داود ولأنه استر لها ولا حاجة الى تمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالاقرار فإنها تترك على حال لو أرادت الهرب تمكنت منه لأن رجوعها عن اقرارها مقبول
ولنا أن أكثر الاحاديث على ترك الحفر فان النبي صلى الله عليه و سلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز ولا لليهوديين والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ولا يقولون به فان التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها باقرارها ولا خلاف بيننا فيها فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فان ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف وقد روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين قال : فامر بها النبي صلى الله عليه و سلم فشدت عليها ثيايها ولأن ذلك استر لها
فصل : والسنة أن يدور الناس حول المرجوم فإن كان الزنا ثبت ببينة فالسنة ان يبدأ الشهود بالرجم وإن كان ثبت باقرار بدأ به الإمام أو الحاكم إن كان ثبت عنده ثم يرجم الناس بعده وروى سعيد باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال : الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه فان هرب منهم وكان الحد ثبت ببينة اتبعوه حتى يقتلوه وإن كان ثبت بإقرار تركوه لما [ روي أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال : هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ؟ ] رواه أبو داود ولأنه يحتمل الرجوع فيسقط عنه الحد فان قتله قاتل في هربه فلا شيء عليه لحديث ابن أنيس حين قتل ماعزا ولأنه قد ثبت زناه باقراره فلا يزول ذلك باحتمال الرجوع وان لم يقتل واتي به الامام فكان مقيما على اعترافه رجمه وإن رجع عنه تركه
الفصل الثاني : أنه يجلد ثم يرجم في إحدى الروايتين فعل ذلك علي رضي الله عنه وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب و أبو ذر ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره وبه قال الحسن و اسحاق و داود و ابن المنذر والرواية الثانية يرجم ولا يجلد روي عن عمر وعثمان أنهما رجما ولم يجلدا وروي عن ابن مسعود أنه قال : إذا اجتمع حدان لله تعالى فيهما القتل أحاط القتل بذلك وبهذا قال النخعي و الزهري و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي واختار هذا ابو اسحاق الجوزجاني و أبو بكر الأثرم ونصراه في سننهما [ لأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها ] و [ قال : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] متفق عليه ولم يأمره بجلدها وكان هذا آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجب تقديمه قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول : في حديث عبادة أنه اول حد نزل وان حديث ماعز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يجلده وعمر رجم ولم يجلد ونقل عنه اسماعيل بن سعيد نحو هذا ولأنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد كالردة ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه فالحد أولى
ووجه الرواية قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر فوجب الجمع بينهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه بقوله : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد صرح النبي صلى الله عليه و سلم بقوله في حديث عبادة : [ والثيب بالثيب الجلد والرجم ] وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله والأحاديث الباقية ليست صريحة فانه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح بدليل أن التغريب يجب بذكره في هذا الحديث وليس بمذكور في الآية ولأنه زان فيجلد كالبكر ولأنه قد شرع في حق البكر عقوبتان الجلد والتغريب فيشرع في حق المحصن أيضا عقوبتان الجلد والرجم فيكون الرجم مكان التغريب فعلى هذه الرواية يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم فان والى بينهما جاز لأن إتلافه مقصود فلا تضر الموالاة بينهما وإن جلده يوما ورجمه في آخر جاز فان عليا رضي الله عنه جلد شراحة يوم الخميس ثم رجمها يوم الجمعة ثم قال : جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
الفصل الثالث : ان الرجم لا يجب إلا على المحصن باجماع أهل العلم وفي حديث عمر : إن الرجم حق على من زنى وقد أحصن وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث ] ذكر منها [ أو زنى بعد إحصان ] وللاحصان شروط سبعة : أحدها : الوطء في القبل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الثيب بالثيب الجلد والرجم ] والثيابة تحصل بالوطء في القبل فوجب اعتباره ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي عن الوطء به إحصان سواء حصلت فيه خلوة أو وطء دون الفرج أو في الدبر أو لم يحصل شيء من ذلك لأن هذا لا تصير به المرأة ثيبا ولا تخرج به عن حد الأبكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام بمقتضى الخبر ولا بد ان يكون وطأ حصل به تغييب الحشفة في الفرج لأن ذلك حد الوطء الذي يتعلق به أحكام الوطء
الثاني : أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى إحصانا بدليل قول الله تعالى : { المحصنات من النساء } يعني المتزوجات ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطء الشبهة لا يصير به الواطىء محصنا ولا نعلم خلافا في أن التسري لا يحصل به الاحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا يثبت فيه أحكامه
الثالث : أن لا يكون النكاح صحيحا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و قتادة و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يحصل الاحصان بالوطء في نكاح فاسد وحكي ذلك عن الليث و الاوزاعي لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر والعدة وتحريم الربيبة وأم المرأة ولحاق الولد فكذلك في الاحصان
ولنا أنه وطء في غير ملك فلم يحصل به الإحصان كوطء الشبهة ولا نسلم ثبوت ما ذكروه من الأحكام وإنما ثبتت بالوطء فيه وهذه ثبتت في كل وطء وليست مختصة بالنكاح إلا أن النكاح ههنا صار شبهة فصار الوطء فيه كوطء الشبهة سواء الرابع الحرية وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا أبا ثور قال : العبد والامة هما محصنان يرجمان إذا زنيا إلا أن يكون إجماع يخالف ذلك وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة هو محصن يرجم إذا زنا وان كان تحته أمة لم يرجم وهذه أقوال تخالف النص والاجماع فان الله تعالى قال { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } والرجم لا ينتصف وإيجابه كله يخالف النص مع مخالفة الاجماع المنعقد قبله إلا أن يكون إذا عتقا بعد الاصابة فهذا فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى وقد وافق الأوزاعي على أن العبد إذا وطىء الأمة ثم عتقا لم يصيرا محصنين وهو قول الجمهور وزاد فقال في المملوكين اذا أعتقا وهما متزوجان ثم وطئها الزوج : لا يصيران محصنين بذلك الوطء وهو أيضا قول شاذ خالف أهل العلم به فان الوطء وجد منهما حال كمالهما فحصنهما كالصبيين إذا بلغا الشرط الخامس والسادس البلوغ والعقل فلو وطىء وهو صبي أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصنا هذا قول أكثر أهل العلم ومذهب الشافعي ومن أصحابه من قال يصير محصنا وكذلك العبد إذا وطىء في رقه ثم عتق يصير محصنا لأن هذا وطء يحصل به الاحلال للمطلق ثلاثا فحصل به الاحصان كالموجود حال الكمال
ولنا قوله عليه السلام : [ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] فاعتبر الثيوبة خاصة ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله وهو خلاف الاجماع ويفارق الإحصان الإحلال لأن اعتبار الوطء في حق المطلق يحتمل أن يكون عقوبة له بتحريمها عليه حتى يطأها غيره ولأن هذا مما تأباه الطباع ويشق على النفوس فاعتبره الشارع زجرا على الطلاق ثلاثا وهذا يستوي فيه العاقل والمجنون بخلاف الإحصان فإنه اعتبر لكمال النعمة في حقه فإن من كملت النعمة في حقه كانت جنايته أفحش وأحق بزيادة العقوبة والنعمة في العاقل البالغ أكمل والله أعلم
الشرط السابع : أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ونحوه قول عطاء و الحسن و ابن سيرين و النخعي و قتادة و الثوري و اسحاق قالوه في الرقيق وقال مالك : إذا كان أحدهما كاملا صار محصنا إلا الصبي إذا وطىء الكبيرة لم يحصنها ونحوه عن الأوزاعي واختلف عن الشافعي فقيل له قولان : أحدهما كقولنا والثاني أن الكامل يصير محصنا وهذا قول ابن المنذر لأنه حر بالغ عاقل وطىء في نكاح صحيح فصار محصنا كما لو كان الآخر مثله وقال بعضهم : إنما القولان في الصبي دون العبد فانه يصير محصنا قولا واحدا إذا كان كاملا
ولنا أنه وطء لم يحصن به أحد المتواطئين فلم يحصن الآخر كالتسري ولأنه متى كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء فلا يحصل به الاحصان كما لو كانا غير كاملين وبهذا فارق ما قاسوا عليه

فصل : لا يشترط الإسلام في الإحصان
فصل : ولا يشترط الإسلام في الإحصان وبهذا قال الزهري و الشافعي فعلى هذا يكون الذميان محصنين فإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين وعن أحمد رواية أخرى أن الذمية لا تحصن المسلم وقال عطاء و النخعي و الشعبي و مجاهد و الثوري : هو شرط في الاحصان فلا يكون الكافر محصنا ولاتحصن الذمية مسلما لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أشرك بالله فليس بمحصن ] ولأنه إحصان من شرطه الحرية فكان الإسلام شرطا فيه كإحصان القذف وقال مالك كقولهم : الا أن الذمية تحصن المسلم بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين وينبغي أن يكون ذلك قولا للشافعي ولنا ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال : [ جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له ان رجلا منهم وامرأة زنيا وذكر الحديث فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ] متفق عليه ولأن الجناية بالزنا استوت من المسلم والذمي فيجب أن يستويا في الحد وحديثهم لم يصح ولا نعرفه في مسند وقيل هو موقوف على ابن عمر ثم يتعين حمله على إحصان القذف جمعا بين الحديثين فإن راويهما واحد وحديثنا صريح في الرجم فيتعين حمل خبرهم على الإحصان الآخر
فان قالوا : إنما رجم النبي صلى الله عليه و سلم اليهوديين بحكم التوراة بدليل أنه راجعها فلما تبين له أن ذلك حكم الله عليهم أقامه فيهم وفيها أنزل الله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } قلنا إنما حكم عليهم بما أنزل الله اليه بدليل قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ولأنه لا يسوغ للنبي صلى الله عليه و سلم الحكم بغير شريعته ولو ساغ ذلك لساغ لغيره وإنما راجع التوراة لتعريفهم أن حكم التوراة موافق لما يحكم به عليهم وأنهم تاركون لشريعتهم مخالفون لحكمهم ثم هذا حجة لنا فان حكم الله في وجوب الرجم إن كان ثابتا في حقهم يجب أن يحكم به عليهم فقد ثبت وجود الإحصان فيهم فإنه لا معنى له سوى وجوب الرجم على من زنى منهم بعد وجود شروط الإحصان منه وان منعوا ثبوت الحكم في حقهم فلم حكم به النبي صلى الله عليه و سلم ؟ ولا يصح القياس على إحصان القذف لأن من شرطه العفة وليست شرطا ههنا

فصل : ارتداد المحصن لا يبطل إحصانه
فصل : ولو ارتد المحصن لم يبطل إحصانه فلو أسلم بعد ذلك كان محصنا وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يبطل لأن الاسلام عنده شرط في الإحصان وقد بينا أنه ليس بشرط ثم هذا داخل في عموم قوله عليه السلام : [ أو زنى بعد إحصان ] ولأنه زنى بعد الإحصان فكان حده الرجم كالذي لم يرتد فأما ان نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب بعد احصانه فسبي واسترق ثم أعتق احتمل أن لا يبطل إحصانه لأنه زنى بعد أحصانه فأشبه من ارتد واحتمل أن يبطل لأنه بطل بكونه رقيقا فلا يعود إلا بسبب جديد بخلاف من ارتد

فصل : حكم ما لو زنى وله زوجة له منها ولد فقال : ما وطئتها
فصل : وإذا زنى وله زوجة له منها ولد فقال : ما وطئتها لم يرجم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يرجم لأن الولد لا يكون إلا من وطء فقد حكم بالوطء ضرورة الحكم بالولد
ولنا أن الولد يلحق بامكان الوطء واحتماله والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطء فلا يلزم من ثبوت ما يكتفى فيه بالامكان وجود ما تعتبر فيه الحقيقة وهو أحق الناس بهذا فانه قال : لو تزوج امرأة في مجلس الحاكم ثم طلقها فيه فأتت بولد لحقه مع العلم بأنه لم يطأها في الزوجية فكيف يحكم بحقيقة الوطء مع تحقق انتفائه وهكذا لو كان لامرأة ولدمن زوج فأنكرت أن يكون وطئها لم يثبت إحصانها لذلك

فصل : حكم ما لو شهدت بينة الإحصان أنه دخل بزوجته
فصل : ولو شهدت بينة الإحصان أنه دخل بزوجته فقال أصحابنا : يثبت الإحصان به لأن المفهوم من لفظ الدخول كالمفهوم من لفظ المجامعة وقال محمد بن الحسن : لا يكتفى به حتى تقول جامعها أو باضعها أو نحوه لأن الدخول يطلق على الخلوة بها ولهذا تثبت بها أحكامه وهذا أصح القولين إن شاء الله تعالى فأما اذا قالت جامعها أو باضعها فلا نعلم خلافا في ثبوت الإحصان وهكذا ينبغي إذا قالت وطئها فان قالت باشرها أو مسها أو أصابها أو أتاها فينبغي أن لا يثبت به الإحصان لأن هذا يستعمل فيما دون الجماع في الفرج كثيرا فلا يثبت به الإحصان الذي يندرىء بالاحتمال

فصل : إذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصنا رجم
فصل : وإذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصنا رجم لما روى جابر : أن رجلا زنى بامرأة فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فرجم رواه أبو داود ولأنه إن وجب الجمع بينهما فقد أتى ببعض الواجب فيجب إتمامه وإن لم يجب الجمع بينهما تبين أنه لم يأت بالحد الواجب فيجب أن يأتي به

مسألة : لا خلاف في تغسيل الزانيين ودفنهما
مسألة : قال : ويغسلان ويكفنان ويصلى عليهما ويدفنان
لا خلاف في تغسيلهما ودفنهما وأكثر أهل العلم يرون الصلاة عليهما قال الإمام أحمد : [ سئل علي رضي الله عنه عن شراحة وكان رجمها فقال : اصنعوا بها كما تصنعون بموتاكم وصلى علي على شراحة ] وقال مالك : من قتله الامام في حد لا يصلى عليه [ لأن جابرا قال في حديث ماعز : فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : خيرا ولم يصل عليه ] متفق عليه
ولنا ما روى أبو داود بإسناده [ عن عمران بن حصين في حديث الجهنية فأمر بها النبي صلى الله عليه و سلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها فقال عمر : يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت ؟ فقال : والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها ؟ ] ورواه الترمذي وفيه : [ فرجمت وصلى عليها ] وقال : حديث حسن صحيح وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال لا إله إلا الله ] ولأنه مسلم لو مات قبل الحد صلي عليه فيصلى عليه بعده كالسارق وأما خبر ماعز فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحضره او اشتغل عنه بأمر أو غير ذلك فلا يعرض ما رويناه

مسألة : إذا زنى الحر البكر جلد مائة وغرب عاما
مسألة : قال : وإذا زنى الحر البكر جلد مائة وغرب عاما
يعني لم يحصن وإن كان ثيبا وقد ذكرنا الإحصان وشروطه ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصنا وقد جاء بيان ذلك في كتاب الله تعالى بقوله سبحانه : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم موافقة لما جاء به الكتاب ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وبه قال أبي وأبو داود وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم وإليه ذهب عطاء و طاوس و الثوري و ابن أبي ليلى و الشافعي و أسحاق و ابو ثور وقال مالك و الأوزاعي : يغرب الرجل دون المرأة لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم : لا يجوز التغريب بغير محرم لقول النبي خلى الله عليه وسلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم ] ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتضييع لها وإن غربت بمحرم أفضى الى تغريب من ليس بزان ونفي من لا ذنب له وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به كما لو زاد ذلك على الرجل والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم والعام يجوز تخصيصه لأنه يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه فإنه دل بمفهومه على أنه ليس على الزاني أكثر من العقوبة المذكورة فيه وإيجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك وفوات حكمته لأن الحد وجب زجرا عن الزنا وفي تغريبها إغراء به وتمكين منه مع أنه قد يخصص في حق الثيب باسقاط الجلد في قول الأكثرين فتخصيصه ههنا أولى وقال أبو حنيفة : و محمد بن الحسن : لا يجب التغريب لأن عليا رضي اله عنه قال : حسبهما من الفتنة أن ينفيا وعن ابن المسيب أن عمر غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر : لا أغرب مسلما بعد هذا أبدا ولأن الله تعالى أمر بالجلد دون التغريب فايجاب التغريب زيادة على النص
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ] و [ روى أبو هريرة وزيد بن خالد أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحدهما : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإنني افتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا : إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام والرجم على امرأة هذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز و جل على ابنك جلد مائة وتغريب عام وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي إمرأة الآخر فان اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها ] متفق عليه وفي الحديث أنه قال : سألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام وهذا يدل على أن هذا كان مشهورا عندهم من حكم الله تعالى وقضاء رسوله صلى الله عليه و سلم وقد قيل أن الذي قال له هذا هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولأن التغريب فعله الخلفاء الراشدون ولا نعرف لهم في الصحابة مخالفا فكان إجماعا ولأن الخبر يدل على عقوبتين في حق الثيب وكذلك في حق البكر وما رووه عن علي لا يثبت لضعف رواته وإرساله وقول عمر لا أغرب بعده مسلما فيحتمل أنه أراد تغريبه في الخمر الذي أصابت الفتنة ربيعة فيه وقول مالك يخالف عموم الخبر والقياس لأن ما كان حدا في الرجل يكون حدا في المرأة كسائر الحدود وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم والقياس على سائر الحدود لا يصح لأنه يستوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا الحد ويمكن قلب هذا القياس بأنه حد فلا تزاد فيها المرأة على ما على الرجل كسائر الحدود

ثلاثة فصول : حكم التغريب وكيفيته للرجل وللمرأة
فصل : ويغرب البكر الزاني حولا كاملا فإن عاد قبل مضي الحول أعيد تغريبه حتى يكمل الحول مسافرا ويبني على ما مضى ويغرب الرجل إلى مسافة القصر لأن ما دونها في حكم الحضر بدليل أنه لا يثبت في حقه أحكام المسافرين ولا يستبيح شيئا من رخصهم فأما المرأة فان خرج معها محرمها نفيت الى مسافة القصر وإن لم يخرج معها محرمها فقد نقل عن أحمد أنها تغرب الى مسافة القصر كالرجل وهذا مذهب الشافعي
وروي عن أحمد أنها تغرب إلى دون مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظونها ويحتمل كلام أحمد أن لا يشترط في التغريب مسافة القصر فانه قال في رواية الأثرم ينفى من عمله الى عمل غيره وقال أبو ثور و ابن المنذر : لو نفي الى قرية أخرى بينهما ميل أو أقل جاز وقال إسحاق : ويجوز أن ينفى من مصر الى مصر ونحوه قال ابن أبي ليلى لأن النفي ورد مطلقا غير مقيد فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم والقصر يسمى سفرا ويجوز فيه التيمم والنافلة على الراحلة ولا يحبس في البلد الذي نفي اليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك : يحبس
ولنا أنه زيادة لم يرد بها الشرع فلا تشرع كالزيادة على العام
فصل : وإذا زنى الغريب غرب إلى بلد غير وطنه وإن زنى في البلد الذي غرب إليه غرب منه إلى غير البلد الذي غرب منه لأن الأمر بالتغريب يتناوله حيث كان ولأنه قد أنس بالبلد الذي سكنه فيبعد عنه
فصل : ويخرج مع المرأة محرمها حتى يسكنها في موضع ثم إن شاء رجع إذا أمن عليها وإن شاء أقام معها حتى يكمل حولها وإن أبى الخروج معها بذلت له الأجرة قال أصحابنا : وتبذل من مالها لأن هذا من مؤنة سفرها ويحتمل أن لا يجب ذلك عليها لأن الواجب عليها التغرب بنفسها فلم يلزمها زيادة عليه كالرجل ولان هذا من مؤنة إقامة الحد فلم يلزمها كأجرة الجلاد فعلى هذا تبذل الأجرة من بيت المال وعلى قول أصحابنا : إن لم يكن لها مال بذلت من بيت المال فإن أبى محرمها الخروج معها لم يجبر وإن لم يكن لها محرم غربت مع نساء ثقات والقول في أجرة من يسافر معها منهن كالقول في أجرة المحرم فان أعوز فقد قال أحمد : تبقى بغير محرم وهو قول الشافعي لأنه لا سبيل إلى تأخيره فأشبه سفر الهجرة والحج إذا مات محرمها في الطريق ويحتمل أن يسقط النفي إذا لم يجد محرما كما يسقط سفر الحج إذا لم يكن لها محرم فإن تغريبها إغراء لها بالفجور وتعريض لها للفتنة وعموم الحديث مخصوص بعموم النهي عن سفرها بغير محرم

فصل : يجب أن يحضر الحد طائفة من المؤمنين
فصل : ويجب أن يحضر الحد طائفة من المؤمنين لقول الله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } قال أصحابنا : والطائفة واحد فما فوقه وهذا قول ابن عباس ومجاهد والظاهر أنهم أرادوا واحدا مع الذي يقيم الحد لأن الذي يقيم الحد حاصل ضرورة فيتعين صرف الأمر إلى غيره وقال عطاء و اسحاق : اثنان فان أراد به واحدا مع الذي يقيم الحد فهو مثل القول الأول وإن أرادا اثنين غيره فوجهه أن الطائفة اسم لما زاد على الواحد وأقله اثنان وقال الزهري : ثلاثة لأن الطائفة جماعة وأقل الجمع ثلاثة وقال مالك : أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا و للشافعي قولان كقول الزهري و مالك وقال ربيعة : خمسة وقال الحسن : عشرة وقال قتادة : نفر وإحتج أصحابنا بقول ابن عباس ولأن اسم الطائفة يقع على الواحد بدليل قول الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ثم قال : { فأصلحوا بين أخويكم } وقيل في قوله تعالى : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } أنه محسن بن حمير وحده ولا يجب أن يحضر الامام ولا الشهود وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : إن ثبت ببينة فعليها الحضور والبداءة بالرجم وإن ثبت باعتراف وجب على الإمام الحضور والبداءة بالرجم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الامام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس رواه سعيد باسناده ولأنه إذا لم تحضر البينة ولا الامام كان ذلك شبهة والحد يسقط بالشبهات
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضرهما والحد ثبت باعترافهما وقال : [ يا أنيس اذهب الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] ولم يحضرها ولأنه حد فلم يلزم أن يحضره الامام ولا البينة كسائر الحدود ولا نسلم أن تخلفهم عن الحضور ولا امتناعهم من البداءة بالرجم شبهة وأما قول علي رضي الله عنه فهو على سبيل الاستحباب والفضيلة قال أحمد : سنة الاعتراف أن يرجم الامام ثم الناس ولا نعلم خلافا في استحباب ذلك والأصل فيه قول علي رضي الله عنه [ وقد روي في حديث رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال : ارموا واتقوا الوجه ] أخرجه أبو داود

فصل : لا يقام الحد على حامل حتى تضع
فصل : ولا يقام الحد على حامل حتى تضع سواء كان الحمل من زنا أو غيره لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحامل لا ترجم حتى تضع وقد [ روى بريدة أن امرأة من بني غامد قالت يا رسول الله طهرني قال : وما ذاك ؟ قالت : انها حبلى من زنا قال : أنت ؟ قالت : نعم فقال لها : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال : فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قد وضعت الغامدية فقال : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه فقام رجل من الأنصار فقال : إلي إرضاعه يا نبي الله قال : فرجمها ] رواه مسلم و أبو داود وروي أن امرأة زنت في أيام عمر رضي الله عنه فهم عمر برجمها وهي حامل فقال له معاذ : إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها فقال : عجز النساء ان يلدن مثلك ولم يرجمها وعن علي مثله ولأن في إقامة الحد عليها في حال حملها إتلافا لمعصوم ولا سبيل إليه وسواء كان الحد رجما أو غيره لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب والقطع وربما سرى إلى نفس المضروب والمقطوع فيفوت الولد بفواته فاذا وضعت الولد فان كان الحد رجما لم ترجم حتى تسقيه اللبأ لأن الولد لا يعيش إلا به ثم إن كان له من يرضعه أو تكفل أحد برضاعه رجمت وإلا تركت حتى تفطمه لما ذكرنا من حديث الغامدية ولما روى أبو داود بإسناده عن بريدة أن [ امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : إني فجرت فوالله إني لحبلى فقال لها : ارجعي حتى تلدي فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقال : ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين فأمر بها فحفر لها وأمر بها فرجمت وأمر بها فصلي عليها ودفنت وإن لم يظهر حملها لم تؤخر لاحتمال أن تكون حملت من الزنا لأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم اليهودية والجهنية ولم يسأل عن استبرائهما وقال لأنيس : اذهب إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ولم يأمره بسؤالها عن استبرائها ] ورجم علي شراحة ولم يستبرئها وإن ادعت الحمل قبل قولها كما قبل النبي صلى الله عليه و سلم قول الغامدية وإن كان الحد جلدا فاذا وضعت الولد وانقطع النفاس وكانت قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد وإن كانت في نفاسها أو ضعيفة يخاف تلفها لم يقم عليها الحد حتى تطهر وتقوى وهذا قول الشافعي و أبي حنيفة وذكر القاضي أنه ظاهر كلام الخرقي وقال أبو بكر : يقام عليها الحد في الحال بسوط يؤمن معه التلف فان خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول يعني شمراخ النخل وأطراف الثياب لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بضرب المريض الذي زنا فقال : [ خذوا له مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ]
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : [ إن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم زنت فأمرني أن أجلدها فاذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أحسنت ؟ ] رواه مسلم و النسائي و أبو داود ولفظه [ قال فأتيته فقال : يا علي أفرغت ؟ فقلت أتيتها ودمها يسيل فقال : دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد ] وفي حديث أبي بكرة أن [ المرأة انطلقت فولدت غلاما فجاءت به النبي صلى الله عليه و سلم فقال لها : انطلقي فتطهري من الدم ] رواه أبو داود ولأنه لو توالى عليه حدان فاستوفى أحدهما لم يستوف الثاني حتى يبرأ من الاول ولأن في تأخيره إقامة الحد على الكمال من غير إتلاف فكان أولى

فصل : حكم إقامة الحد على المريض
فصل : والمريض على ضربين : أحدهما يرجى برؤه فقال أصحابنا : يقام عليه الحد ولا يؤخر كما قال أبو بكر في النفساء وهذا قول اسحاق و أبي ثور لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يؤخره وانتشر ذلك في الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعا ولأن الحد واجب فلا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة قال القاضي وظاهر قول الخرقي تأخيره لقوله فيمن يجب عليه الحد : وهو صحيح عاقل وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لحديث علي رضي الله عنه في التي هي حديثة عهد بنفاس وما ذكرناه من المعنى وأما حديث عمر في جلد قدامة فإنه يحتمل أنه كان مرضا خفيفا لا يمنع من إقامة الحد على الكمال ولهذا لم ينقل عنه أنه خفف عنه في السوط وإنما اختار له سوطا وسطا كالذي يضرب به الصحيح ثم إن فعل النبي صلى الله عليه و سلم يقدم على فعل عمر مع أنه اختيار علي وفعله وكذلك الحكم في تأخيره لأجل الحر والبرد المفرط
الضرب الثاني : المريض الذي لا يرجى برؤه فهذا لا يقام عليه في الحال ولا يؤخر بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير وشمراخ النخل فان خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة وبهذا قال الشافعي وأنكر مالك هذا وقال قد قال الله تعالى : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا جلدة واحدة
ولنا ما روى أبو امامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن [ رجلا منهم اشتكى حتى ضني فدخلت عليه امرأة فهش لها فوقع بها فسأل له رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة ] رواه أبو داود و النسائي وقال ابن المنذر في إسناده مقال ولأنه لا يخلو من أن يقام الحد على ما ذكرنا أو لا يقام أصلا أو يضرب ضربا كاملا لا يجوز تركه بالكلية لأنه يخالف الكتاب والسنة ولا يجوز جلده جلدا تاما لأنه يفضي إلى إتلافه فتعين ما ذكرناه وقولهم : هذا جلدة واحدة قلنا : يجوز أن يقام ذلك في حال العذر مقام مائة كما قال الله تعالى في حق أيوب : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } وهذا أولى من ترك حده بالكلية أو قتله بما لا يوجب القتل

مسألة : حد العبد والأمة إذا زنيا
مسألة : قال : وإذا زنا العبد والأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة ولم يغربا
وجملته أن حد العبد والأمة خمسون جلدة بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر الفقهاء منهم عمر وعلي و ابن مسعود و الحسن و النخعي و مالك و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و البتي و العنبري وقال ابن عباس و طاوس و أبو عبيد : إن كانا مزوجين فعليهما نصف الحد ولا حد على غيرهما لقول الله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فدليل خطابه أنه لا حد على غير المحصنات وقال داود : على الأمة نصف الحد إذا زنت بعدما زوجت وعلى العبد جلد مائة بكل حال وفي الأمة إذا لم تزوج روايتان :
إحداهما : لا حد عليها والأخرى تجلد مائة لأن قول الله تعالى : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ثم خرجت منه الأمة المحصنة بقوله : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فيبقى العبد والأمة التي لم تحصن على مقتضى العموم ويحتمل دليل الخطاب في الأمة أن لا حد عليها لقول ابن عباس وقال أبو ثور : اذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما نصف الحد وإن أحصنا فعليهما الرجم لعموم الاخبار فيه ولأنه حد لا يتبعض فوجب تكميله كالقطع في السرقة
أقسام : أحدها أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان : أحدها أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود و عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و مالك و حماد و أبي حنيفة وقال الشافعي : تستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا
ولنا قول ابن مسعود قال سعيد حدثنا حسان بن منصور حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال : إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك وقال ابراهيم : يكفيه القتل وحدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن ابراهيم و الشعبي و عطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال انتشرت في عهد الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكان إجماعا ولأنها حدود لله فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فإنه يكتفى بقتله ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة الى زجره لأنه لا فائدة فلا يشرع فيه ويفارق القصاص فان فيه غرض التشفي والانتقام ولا يقصد فيه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فانه اذا وجب ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة تحتمه وحق الآدمي يجب تقديمه
ولنا ما روى ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وسئل قالوا [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير ] متفق عليه قال ابن شهاب : وهذا نص في جلد الأمة إذا لم تحصن وهو حجة على ابن عباس وموافقيه و داود وجعل داود عليها مائة إذا لم تحصن وخمسين إذا كانت محصنة خلاف ما شرع الله تعالى فان الله تعالى ضاعف عقوبة المحصنة على غيرها فجعل الرجم على المحصنة والجلد على البكر و داود ضاعف عقوبة البكر على المحصنة واتباع شرع الله أولى وأما دليل الخطاب فقد روي عن ابن مسعود رحمه الله أنه قال : إحصانها إسلامها و أقراؤها بفتح الألف ثم دليل الخطاب إنما يكون دليلا إذا لم يكن للتخصيص بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم ومتى كانت له فائدة أخرى لم يكن دليلا مثل أن يخرج مخرج الغالب أو للتنبيه أو لمعنى من المعاني وقد قال الله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } ولم يختص التحريم باللاتي في حجوركم وقال : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وحرم حلائل الأبناء من الرضاع وأبناء الأبناء وقال : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وأبيح القصر بدون الخوف وأما العبد فلا فرق بينه وبين الأمة فالتنصيص على أحدهما يثبت حكمه في حق الآخر كما أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اعتق شركا له في عبد ] ثبت حكمه في حق الأمة ثم إن المنطوق أولى منه على كل حال وأما أبو ثور فخالف نص قوله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وعمل به فيما لم يتناوله النص وخرق الاجماع في إيجاب الرجم على المحصنات كما خرق داود الاجماع في تكميل الجلد على العبيد وتضعيف حد الابكار على المحصنات

فصل : لا تغريب على عبد ولا أمة
فصل : ولا تغريب على عبد ولا أمة وبهذا قال الحسن و حماد و مالك و اسحاق وقال الثوري و أبو ثور : يغرب نصف عام لقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وحد ابن عمر مملوكة له ونفاها الى فدك وعن الشافعي قولان كالمذهبين واحتج من أوجبه بعموم قوله عليه السلام : [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ]
ولنا الحديث المذكور في حجتنا ولم يذكر فيه تغريبا ولو كان واجبا لذكره لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته [ وحديث علي رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس أقيموا على ارقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : زنت فامرني أن اجلدها ] وذكر الحديث رواه أبو داود ولم يذكر أنه غربها وأما الآية فإنها حجة لنا لأن العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير فينصرف التصنيف إليه دون غيره بدليل أنه لم ينصرف إلى تصنيف الرجم ولأن التغريب في حق العبد عقوبة لسيده دونه فلم يجب في الزنا كالتغريم بيان ذلك أن العبد لا ضرر عليه في تغريبه لأنه غريب في موضعه ويترفه بتغريبه من الخدمة ويتضرر سيده بتفويت خدمته والخطر بخروجه من تحت يده والكلفة في حفظه والإنفاق عليه مع بعده عنه فيصير الحد مشروعا في حق غير الزاني والضرر على غير الجاني وما فعل ابن عمر ففي حق نفسه وإسقاط حقه وله فعل ذلك من غير زنا ولا جناية فلا يكون حجة في حق غيره

فصل : حد العبد إذا زنى ثم عتق
فصل : وإذا زنى العبد ثم عتق حد حد الرقيق لأنه إنما يقام عليه الحد الذي وجب عليه ولو زنى حر ذمي ثم لحق بدار الحرب ثم سبي واسترق حد حد الاحرار لانه وجب عليه وهو حر ولو كان أحد الزانيين رقيقا والآخر حرا فعلى كل واحد منهما حده ولو زنى بكر بثيب حد كل واحد منهما حده لأن كل واحد منهما إنما تلزمه عقوبة جنايته ولو زنى بعد العتق وقبل العلم به فعليه حد الاحرار لأنه زنى وهو حر وإن أقيم عليه حد الرقيق قبل العلم بحريته ثم علمت بعد تمم عليه حد الاحرار وإن عفا السيد عن عبده لم يسقط عنه الحد في قول عامة أهل العلم إلا الحسن قال : يصح عفوه وليس بصحيح لأنه حق لله تعالى فلا يسقط باسقاط سيده كالعبادات وكالحر إذا عفا عنه الامام

فصل : للسيد إقامة الحد على عبده القن بالجلد وشروط ذلك
فصل : وللسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقة القن في قول أكثر العلماء روي نحو ذلك عن علي و ابن مسعود و ابن عمر و أبي حميد و أبي أسيد الساعديين وفاطمة ابنة النبي صلى الله عليه و سلم وعلقمة والأسود و الزهري وهبيرة بن مريم وأبي ميسرة و مالك و الثوري و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر
وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الانصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا وعن الحسن بن محمد أن فاطمة حدت جارية لها زنت وعن ابراهيم أن علقمة والأسود كانا يقيمان الحدود على من زنى من خدم عشائرهم روى ذلك سعيد في سننه
وقال أصحاب الرأي : ليس له ذلك لأن الحدود الى السلطان ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي ولأن الحد لا يجب إلا ببينة أو إقرار ويعتبر لذلك شروط من عدالة الشهود ومجيئهم مجتمعين أو في مجلس واحد وذكر حقيقة الزنا وغير ذلك من الشروط التي تحتاج الى فقيه يعرفها ويعرف الخلاف فيها والصواب منها وكذلك الاقرار فينبغي أن يفوض ذلك الى الامام أو نائبه كحد الأحرار ولأنه حد هو حق لله تعالى فيفوض الى الإمام كالقتل والقطع
ولنا ما روى سعيد حدثنا سفيان عن أيوب بن أبي موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا زنت أمة أحدكم فتيقن زناها فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت فليجلدها ولا يثرب بها فإن عادت فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير ] وقال : حدثنا أبو الأحوص حدثنا عبد الأعلى عن أبي جميلة عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أقيموا الحدود على من ملكت أيمانكم ] رواه الدارقطني ولأن السيد يملك تأديب أمته وتزويجها فملك إقامة الحد عليها كالسلطان وفارق الصبي
إذا ثبت هذا فانما يملك إقامة الحد بشروط أربعة أحدها أن يكون جلدا كحد الزنا والشرب وحد القذف فأما القتل في الردة والقطع في السرقة فلا يملكها إلا الامام وهذا قول أكثر أهل العلم وفيهما وجه آخر أن السيد يملكها وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] وروي أن ابن عمر قطع عبدا سرق وكذلك عائشة وعن حفصة أنها قتلت أمة لها سحرتها ولأن ذلك حد أشبه الجلد وقال القاضي : كلام أحمد يقتضي أن في قطع السارق روايتين
ولنا أن الأصل تفويض الحد الى الامام لأنه حق لله تعالى فيفوض الى نائبه كما في حق الاحرار ولما ذكره أصحاب أبي حنيفة وإنما فوض الى السيد الجلد خاصة لأنه تأديب والسيد يملك تأديب عبده وضربه على الذنب وهذا من جنسه وإنما افترقا في أن هذا مقدر والتأديب غير مقدر وهذا لا أثر له في منع السيد منه بخلاف القطع والقتل فانهما اتلاف لجملته أو بعضه الصحيح ولا يملك السيد هذا من عبده ولا شيئا من جنسه والخبر الوارد في حد السيد عبده إنما جاء في الزنا خاصة وإنما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد وقوله : [ أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم ] إنما جاء في سياق الجلد في الزنا فان أول الحديث عن علي قال : [ أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأمة لهم فجرت فأرسلني إليها فقال : اجلدها الحد قال : فانطلقت فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمها فرجعت اليه فقال : أفرغت ؟ فقلت : وجدتها لم تجف من دمها قال : إذا جفت من دمها فاجلدها الحد وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه واما فعل حفصة فقد أنكره عثمان عليها وشق عليه وقوله أولى من قولها وما روي عن ابن عمر فلا نعلم ثبوته عنه الشرط الثاني أن يختص السيد بالمملوك فان كان مشتركا بين اثنين أو كانت الأمة مزوجة وكان المملوك مكاتبا أو بعضه حرا لم يملك السيد اقامة الحد عليه وقال مالك و الشافعي : يملك السيد إقامة الحد على الأمة المزوجة لعموم الخبر ولأنه مختص بملكها وإنما يملك الزوج بعض نفعها فأشبهت المستأجرة
ولنا ما روي عن ابن عمر أنه قال : إذا كانت الأمة ذات زوج رفعت الى السلطان وإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولم نعرف له مخالفا في عصره فكان إجماعا ولأأن نفعها مملوك لغيره مطلقا أشبهت المشتركة ولأن المشترك إنما منع من إقامة الحد عليه لأنه يقيمه في غير ملكه فان الجزء الحر أو المملوك لغيره ليس بمملوك له وهو يقيم الحد عليه وهذا يشبهه لأن محل الحد هو محل استمتاع الزوج وهو بدنها فلا يملكه والخبر مخصوص بالمشترك فنقيس عليه والمستأجرة إجارتها مؤقتة تنقضي ويحتمل أن نقول لا يملك إقامته عليها في حال إجارتها لأنه ربما أفضى الى تفويض حق المستأجر وكذلك الأمة المرهونة يخرج فيها وجهان
الشرط الثالث : أن يثبت الحد ببينة أو اعتراف فان ثبت باعتراف فللسيد إقامته إذا كان يعرف الاعتراف الذي يثبت به الحد وشروطه وان ثبت ببينة اعتبر أن يثبت عند الحاكم لأن البينة تحتاج الى البحث عن العدالة ومعرفة شروط سماعها ولفظها ولا يقوم بذلك إلا الحاكم وقال القاضي يعقوب : إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد بها كما يقيمه بالاقرار وهذا ظاهر نص الشافعي لأنها أحد ما يثبت به الحد فأشبهت الاقرار ولا يقيم السيد الحد بعلمه وهذا قول مالك لأنه لا يقيمه الامام بعلمه فالسيد أولى فان ولاية الامام للحد أقوى من ولاية السيد لكونها متفقا عليها وثابتة بالاجماع فاذا لم يثبت الحد في حقه بالعلم فههنا أولى وعن أحمد رواية أخرى أنه يقيمه بعلمه لأنه قد ثبت عنده فملك إقامته كما لو أقر به ويفارق الحاكم لأن الحاكم متهم ولا يملك إقامته وهذا بخلافه
الشرط الرابع : أن يكون السيد بالغا عاقلا عالما بالحدود وكيفية إقامتها لأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الولايات والجاهل بالحد لا يمكنه إقامته على الوجه الشرعي فلا يفوض إليه وفي الفاسق وجهان أحدهما لا يملكه لأن هذه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج والثاني يملكه لأن هذه ولاية استفادها بالملك فلم ينافها الفسق كبيع العبد وإن كان مكاتبا ففيه احتمالان أحدهما : لا يملكه لأنه ليس من أهل الولاية والثاني يملكه لأنه يستفاد بالملك فأشبه سائر تصرفاته وفي المرأة أيضا احتمالان : أحدهما لايملكه لأنها ليست من أهل الولايات والثاني تملكه لأن فاطمة جلدت أمة لها وعائشة قطعت أمة لها سرقت وحفصة قتلت أمة لها سحرتها ولأنها مالكة تامة الملك من أهل التصرفات أشبهت الرجل وفيه وجه ثالث أن الحد يفوض إلى وليها لأنه يزوج أمتها ومولاتها فملك إقامة الحد على مملوكتها

فصل : إذا فجر العبد بأمة ثم قتلها وجب عليه الحد
فصل : وان فجر بأمة ثم قتلها فعليه الحد وقيمتها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال أبو يوسف : إذا وجبت عليه قيمتها أسقطت الحد عنه لأنه يملكها بغرامته لها فيكون ذلك شبهة في سقوط الحد
ولنا أن الحد وجب عليه فلم يسقط بقتل المزني بها كما لو كانت حرة فغرم ديتها وقولهم انه يملكها غير صحيح لأنه إنما غرمها بعد قتلها ولم يبق محلا للملك ثم لو ثبت أنه ملكها فإنما ملكها بعد وجوب الحد فلم يسقط عنه الحد كما لو اشتراها ولو زنى بأمة ثم اشتراها لم يسقط عنه الحد مع ثبوت حقيقة الملك له فههنا أولى ولو زنى بأمة ثم غصبها فأبقت من يده ثم غرمها لم يسقط عنه الحد لأنه إذا لم يسقط بالملك المتفق عليه فبالمختلف فيه أولى

فصل : إذا زنى من نصفه حر ونصفه رقيق فلا رجم عليه
فصل : واذا زنى من نصفه حر ونصفه رقيق فلا رجم عليه لأنه لم تكمل الحرية فيه وعليه نصف حد الحر خمسون جلدة ونصف حد العبد خمس وعشرون فيكون عليه خمس وسبعون جلدة ويغرب نصف عام نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يغرب لأن حق السيد في جميع الزمان ونصيبه من العبد لا تغريب عليه فلا يلزمه ترك حقه في بعض الزمان بما لا يلزمه ولا تأخير حقه بالمهايأة من غير رضاه وإن قلنا بوجوب تغريبه فينبغي أن يكون زمن التغريب محسوبا على العبد من نصيبه الحر وللسيد نصف عام بدلا عنه وما زاد من الحرية أو نقص منها فبحساب ذلك فان كان فيها كسر مثل أن يكون ثلثه حرا فمقتضى ما ذكرناه أن يلزمه ثلثا جلد الحر وهو ست وستون جلدة وثلثان فينبغي أن يسقط الكسر لأن الحد متى دار بين الوجوب والإسقاط سقط والمدبر والمكاتب وأم الولد بمنزلة القن في الحد لأنه رقيق كله وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ]

مسألة : الزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر
مسألة : قال : والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر
لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطىء امرأة من قبلها حراما ولا شبهة له في وطئها أنه زان يجب عليه حد الزنا إذا كملت شروطه والوطء في الدبر مثله في كونه زنا لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له فيها ولا شبهة ملك فكان الزنا كالوطء في القبل ولأن الله تعالى قال : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الآية ثم بين النبي صلى الله عليه و سلم أنه قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والوطء في الدبر فاحشة بقوله تعالى في قوم لوط : { أتأتون الفاحشة ؟ } يعني الوطء في أدبار الرجال ويقال أول ما بدأ قوم لوط بوطء النساء في أدبارهن ثم صاروا إلى ذلك في الرجال

فصل : حكم من وطىء ميتة
فصل : وان وطىء ميتة ففيه وجهان : أحدهما عليه الحد وهو قول الأوزاعي لأنه وطء في فرج آدمية فأشبه وطء الحية ولأنه أعظم ذنبا وأكثر إثما لأنه انضم الى فاحشة هتك حرمة الميتة والثاني لا حد عليه وهو قول الحسن قال أبو بكر : وبهذا أقول لأن الوطء في الميتة كلا وطء لأنه عضو مستهلك ولأنها لا يشتهى مثلها وتعافها النفس فلا حاجة الى شرع الزجر عنها والحد إنما وجب زجرا وأما الصغيرة فان كانت ممن يمكن وطؤها فوطؤها زنا يوجب الحد لأنها كالكبيرة في ذلك وإن كانت ممن لا يصلح للوطء ففيها وجهان كالميتة قال القاضي : لا حد على من وطىء صغيرة لم تبلغ تسعا لأنها لا يشتهى مثلها فأشبه ما لو أدخل أصبعه في فرجها وكذلك لو استدخلت امرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرا لا حد عليها والصحيح أنه متى أمكن وطؤها وامكنت المرأة من أمكنه الوطؤ فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما فلا يجوز تحديد ذلك بتسع ولا عشر لأن التحديد إنما بكون بالتوقيف ولا توقيف في هذا وكون التسع وقتا لإمكان لاستمتاع غالبا لا يمنع وجوده قبله كما أن البلوغ يوجد في خمسة عشرة عاما غالبا ولم يمنع من وجوده قبله

فصل : حكم ما لو تزوج ذات محرمه
فصل : وان تزوج ذات محرمه فالنكاح باطل بالاجماع فان وطئها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم منهم الحسن و جابر بن زيد و مالك و الشافعي و أبو سيف و محمد و إسحاق و أبو أيوب و ابن أبي خيثمة وقال أبو حنيفة و الثوري : لا حد عليه لأنه وطء تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد كما لو اشترى اخته من الرضاع ثم وطئها وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذي هو سبب للاباحة فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد الذي يندرىء بالشبهات
ولنا أنه وطء في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطىء من أهل الحد عالم بالتحريم فيلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة والعقد ههنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت الى الزنا فلم تكن شبهة كما لو أكرهها وعاقبها ثم زنى بها ثم يبطل بالاستيلاء عليها فان الاستيلاء سبب للملك في المباحات وليس بشبهة وأما إذا اشترى اخته من الرضاع فلنا فيه منع وإن سلمنا فان الملك المقتضي للاباحة صحيح ثابت وإنما تخلفت الاباحة لمعارض بخلاف مسألتنا فان المبيح غير موجود لأن عقد النكاح باطل والملك به غير ثابت فالمقتضي معدوم فافترقا فأشبه ما لو اشترى خمرا فشربه أو غلاما فوطئه إذا ثبت هذا فاختلف في الحد فروي عن أحمد أنه يقبل على كل حال وبهذا قال جابر بن زيد و اسحاق و أبو أيوب و ابن خيثمة وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال : يقتل ويؤخذ ماله الى بيت المال
والرواية الثانية : حده حد الزاني وبه قال الحسن و مالك و الشافعي لعموم الآية والخبر ووجه الأولى ما [ روى البراء قال : لقيت عمي ومعه الراية فقلت : إلى أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله ] رواه أبو داود و الجوزجاني و ابن ماجة و الترمذي وقال : حديث حسن وسمى الجوزجاني عمه الحارث بن عمرو
وروى الجوزجاني و ابن ماجة باسنادهما عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من وقع على ذات محرم فاقتلوه ] ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال : احبسوه وسلوا من ههنا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسألوا عبد الله بن أبي مطرف فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من تخطى المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف ] وهذه الأحاديث أخص مما ورد في الزنا فتقدم والقول فيمن زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد

فصل : كل نكاح أجمع على بطلانه فهو زنا
فصل : وكل نكاح أجمع على بطلانه كنكاح خامسة أو متزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثا إذا وطىء فيه عالما بالتحريم فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا حد فيه لما ذكروه في الفصل الذي قبل هذا وقال النخعي : يجلد مائة ولا ينفى
ولنا ماذكرناه فيما مضى وروى أبو نصر المروذي باسناده عن عبيد بن نضيلة قال : رفع إلى عمر بن الخطاب إمرأة تزوجت في عدتها فقال : هل علمتما ؟ فقالا : لا قال : لو علمتما لرجمتكما فجلده أسواطا ثم فرق بينهما وروى أبو بكر باسناده عن خلاس قال : رفع إلى علي عليه السلام امرأة تزوجت ولها زوج كتمته فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة فإن لم يعلم تحريم ذلك فلا حد عليه لعذر الجهل ولذلك درأ عمر عنهما الحد لجهلهما

فصل : لا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه
فصل : ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل والنكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح الأخت في عدة اختها البائن ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن ونكاح المجوسية وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبه

فصل : لا يجب الحد بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره
فصل : ولا يجب الحد بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : يجب ولنا أنه فرج له ملك فلا يحد بوطئه كالمكاتبة والمرهونة

فصل : حكم ما لو اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما ووطئهما
فصل : وان اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما ووطئهما فذكر القاضي عن أصحابنا ان عليه الحد لأنه فرج لا يستباح بحال فوجب الحد بالوطء كفرج الغلام وقال بعض أصحابنا : لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي و الشافعي لأنه وطء في فرج مملوك له يملك المعاوضة عنه وأخذ صداقه فلم يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة فأما إن اشترى ذات محرمه من النسب ممن يعتق عليه ووطئها فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة

فصل : حكم ما إذا زفت إليه غير زوجته
فصل : فان زفت اليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه لا نعلم فيه خلافا وان لم يقل له هذه زوجتك أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته أو جاريته فوطئها أو دعا زوجته أو جاريته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها أو اشتبه عليه ذلك لعماه فلا حد عليه وبه قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أن عليه الحد لأنه وطىء في محل لا ملك له فيه
ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه فأشبه ما لو قيل له هذه زوجتك ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها فأما إن دعا محرمة عليه فأجابه غيرها فوظئها يظنها المدعوة فعليه الحد سواء كانت المدعوة ممن له فيها شبهة كالجارية المشتركة أو لم يكن لأنه لا يعذر بهذا فأشبه ما ولو قتل رجلا يظنه ابنه أو عبده فبان أجنبيا

فصل : لا حد على من لم يعلم تحريم الزنا
فصل : ولا حد على من لم يعلم تحريم الزنا قال عمر وعثمان وعلي : لا حد إلا على من علمه وبهذا قال عامة أهل العلم فان ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث العهد بالاسلام والناشىء ببادية قبل منه لأنه يجوز أن يكون صادقا وإن كان ممن لا يخفى عليه ذلك كالمسلم الناشىء بين المسلمين وأهل العلم لم يقبل لأن تحريم الزنا لا يخفى على من هو كذلك فقد علم كذبه وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله ولأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولأن مثل هذا يجهل كثيرا ويخفى على غير أهل العلم

فصل : حكم من وطىء جارية غيره
فان وطىء جارية غيره فهو زان سواء كان ياذنه أو غير إذنه لأن هذا مما لا يستباح بالبذل والإباحة وعليه الحد إلا في موضعين : أحدهما الأب إذا وطىء جارية ولده فانه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة و الأوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي وقال أبو ثور و ابن المنذر : عليه الحد إلا أن يمنع منه إجماع لأنه وطء في غير ملك أشبه وطء جارية أبيه
ولنا أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة والدليل على تمكن الشبهة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت ومالك لأبيك ] فأضاف مال ولده اليه وجعله له فاذا لم تثبت حقيقة الملك فلا أقل من جعله شبهة دارئة للحد الذي يندرىء بالشبهات ولأن القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك و الأوزاعي ومن وافقهما قد اشتهر قولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان ذلك إجماعا ولا حد على الجارية لأن الحد انتفى عن الواطىء لشبهة الملك فينتفي عن الموطوءة كوطء الجارية المشتركة ولان الملك من قبيل المتضايقات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته ولا يصح القياس على وطء جارية الاب لأنه لا ملك للولد فيها ولا شبهة ملك بخلاف مسألتنا وذكر ابن أبي موسى قولا في وطء جارية الأب والأم أنه لا يحد لأنه لا يقطع بسرقة ماله أشبه الاب والأول أصح وعليه عامة أهل العلم فيما علمناه
الموضع الثاني : إذا وطىء جارية امرأته بإذنها فانه يجلد مائة ولا يرجم ان كان ثيبا ولا يغرب ان كان بكرا وإن لم تكن أحلتها له فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الاجنبي وحكي عن النخعي أنه يعزز ولا حد عليه لأنه يملك امرأته فكانت له شبهة في مملوكتها وعن عمر وعلي و عطاء و قتادة و الشافعي و مالك أنه كوطء الاجنبية سواء أحلتها له أو لم تحلها لأنه لا شبهة له فيها فأشبه وطء جارية أخته ولأنه إباحة لوطء محرمة عليه فلم يكن شبهة كاباحة سائر الملاك
وعن ابن مسعود و الحسن إن كان استكرهها فعليه غرم مثلها وتعتق فان كانت طاوعته فعليه غرم مثلها ويملكها لأن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد رواه ابن عبد البر وقال : هذا حديث صحيح
ولنا ما روى أبو داود باسناده [ عن حبيب بن سالم أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال : لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كانت أحلتها لك جلدناك مائة وإن لم تكن أحلتها لك رجمناك بالحجارة فوجدوها أحلتها له فجلده مائة ] وإن علقت من هذا الوطء فهل يلحقه النسب ؟ على روايتين :
إحداهما : يلحق به لانه وطء لا يجب به الحد فلحق به النسب كوطء الجارية المشتركة والأخرى لا يلحق به لأنه وطء في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه الزنا المحض

فصل : لا حد على مكرهة في قول أهل العلم
فصل : ولا حد على مكرهة في قول عامة اهل العلم روي ذلك عن عمر و الزهري و قتادة و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فدرأ عنها الحد رواه الأثرم قال : وأتي عمر باماء من اماء الامارة استكرهن غلمان من غلمان الامارة فضرب الغلمان ولم يضرب الاماء
وروى سعيد باسناده عن طارق بن شهاب قال : أتي عمر بامرأة قد زنت فقالت : إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الاكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه نص عليه أحمد في راع جاءته امرأة قد عطشت فسألته أن يسقيها فقال لها أمكنيني من نفسك قال : هذه مضطرة وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة استسقت راعيا فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي ما ترى فيها ؟ قال : انها مضطرة فأعطاها عمر شيئا وتركها

فصل : حكم ما لو أكره الرجل فزنى
فصل : وإن أكره الرجل فزنى فقال أصحابنا : عليه الحد وبه قال محمد بن الحسن و أبو ثور لأن الوطء لا يكون الا بالانتشار والاكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الاكراه فيلزمه الحد كما لو أكره على غير الزنا فزنى وقال أبو حنيفة : إن أكرهه السلطان فلا حد عليه وإن أكرهه غيره حد إستحسانا وقال الشافعي و ابن المنذر : لا حد عليه لعموم الخبر ولأن الحدود تدرأ بالشبهات والاكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت امرأة يحققه ان الإكراه إذا كان بالتخويف أو يمنع ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه كالمرأة فاذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه وقولهم إن التخويف ينافي الانتشار لا يصح لأن التخويف بترك الفعل والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك وهذا أصح الأقوال إن شاء الله تعالى

مسألة : حكم من قام باللواط
مسألة : قال : ومن تلوط قتل بكرا كان أو ثيبا في إحدى الروايتين و الأخرى حكمه حكم الزاني
أجمع أهل العلم على تحريم اللواط وقد ذمه الله تعالى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الله تعالى : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط ] واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في حده فروي عنه أن حده الرجم بكرا كان او ثيبا وهذا قول علي وابن عباس وجابر بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وابي حبيب وربيعة و مالك و اسحاق وأحد قولي الشافعي و قتادة و الاوزاعي و أبو يوسف و محمد بن الحسن و أبو ثور وهو المشهور من قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اتى الرجل الرجل فهما زانيان ] ولانه إيلاج فرج آدمي في فرج آدمي لا ملك له فيه ولا شبهة ملك فكان زنا كالايلاج في فرج المرأة إذا ثبت كونه زنا دخل في عموم الآية والاخبار فيه ولأنه فاحشة فكان زنا كالفاحشة بين الرجل والمرأة وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق اللوطي وهو قول ابن الزبير لما روى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فكتب الى أبي بكر فاستشار أبو بكر رضي الله عنه الصحابة فيه فكان علي أشدهم قولا فيه فقال : ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل الله بها أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه وقال الحكم و أبو حنيفة : لا حد عليه لأنه ليس بمحل الوطء أشبه غير الفرج
ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] رواه أبو داود وفي لفظ [ فاجموا الأعلى والاسفل ] ولأنه إجماع لاصحابة رضي الله عنهم فانهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته واحتج أحمد رأي الله عنه يقول على عليه السلام وأنه كان يرى رجمه ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم وقول من اسقط الحد عنه يخالف النص والاجماع وقياس الفرج على غيره لا يصح لما بينهما من الفرق إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكون في مملوك له أو أجنبي ولا حد فيه لأن الذكر ليس بمحل لوطء الذكر فلا يؤثر ملكه له ولو وطىء زوجته أو مملوكته في دبرها كان محرما ولا حد فيه لان المرأة محل للوطء في الجملة وقد ذهب بعض العلماء الى حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد بخلاف التلوط

فصل : حكم المساحقة
فصل : وان تدالكت امرأتان فهما زانيتان ملعونتان لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ] ولا حد عليهما لانه لا يتضمن إيلاجا فأشبه المباشرة دون الفرج وعليهما التعزير لأنه زنا لا حد فيه فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع ولو باشر الرجل المرأة فاستمتع بها فيما دون الفرج فلا حد عليه لما [ روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله اني لقيت امرأة فأصبت منها كل شيء إلا الجماع فانزل الله تعالى : { أقم الصلاة } الآية فقال الرجل : ألي هذه الآية ؟ فقال : لمن عمل بها من امتي ] رواه النسائي ولو وجد رجل مع امرأة يقبل كل واحد منهما صاحبه ولم يعلم هل وطئها أو لا فلا حد عليهما فان قالا نحن زوجان واتفقا على ذلك فالقول قولهما وبه قال الحكم و حماد و الشافعي وأصحاب الرأي وان شهد عليهما بالزنا فقالا نحن زوجان فعليهما الحد إن لم تكن بينة بالنكاح وبه قال أبو ثور و ابن المنذر لأن الشهادة بالزنا تنفي كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما ويحتمل أن يسقط الحد إذا لم نعلم كونها أجنبية منه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة كما لو شهد عليه بالسرقة فادعى أن المسروق ملكه

مسألة : إتيان البهائم وحكمه والحد فيه
مسألة : قال : ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه وقتلت البهيمة
اختلفت الرواية عن أحمد في الذي يأتي البهيمة فروي عنه أنه يعزر ولا حد عليه روي ذلك عن ابن عباس و عطاء و الشعبي و النخعي و الحكم و مالك و الثوري وأصحاب الرأي و اسحاق وهو قول للشافعي والرواية الثانية حكمه حكم اللائط سواء وقال الحسن : حده حد الزاني وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن يقتل هو والبهيمة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ] رواه أبو داود ووجه الرواية الأولى أنه لم يصح فيه نص ولا يمكن قياسه على الوطء في فرج الآدمي لأنه لا حرمة لها وليس بمقصود يحتاج في الزجر عنه الى الحد فان النفوس تعافه وعامتها تنفر منه فبقي على الأصل في انتفاء الحد والحديث يرويه عمرو بن أبي عمرو ولم يثبته أحمد وقال الطحاوي : هو ضعيف ومذهب ابن عباس خلافه وهو الذي روي عنه قال أبو داود هذا يضعف الحديث عنه قال اسماعيل بن سعيد : سألت احمد عن الرجل يأتي البهيمة فوقف عندها ولم يثبت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجوز أن يثبت بحديث فيه هذه الشبهة والضعف وقول الخرقي أدب وأحسن أدبه يعني يعزر ويبالغ في تعزيره لأنه وطء في فرج محرم لا شبهة له فيه لم يوجب الحد فأوجب التعزير كوطء الميتة

فصل : يجب قتل البهيمة المأتية
فصل : ويجب قتل البهيمة وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وأحد قولي الشافعي وسواء كانت مملوكة له أو لغيره مأكولة أو غير مأكولة قال أبو بكر : الاختيار قتلها وإن تركت فلا بأس وقال الطحاوي : إن كانت مأكولة ذبحت وإلا لم تقتل وهذا قول ثان للشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ] ولم يفرق بين كونها مأكولة أو غير مأكولة ولا بين ملكه وملك غيره فان قيل الحديث ضعيف ولم يعملوا به في قتل الفاعل الجاني ففي حق حيوان لا جناية منه أولى قلنا إنما يعمل به في قتل الفاعل على إحدى الروايتين لوجهين : أحدهما أنه حد والحدود تدرأ بالشبهات وهذا اتلاف مال فلا تؤثر الشبهة فيه والثاني أنه اتلاف آدمي وهو أعظم المخلوقات حرمة فلم يجز التهجم على إتلافه إلا بدليل في غاية القوة ولا يلزم مثل هذا في إتلاف مال ولا حيوان سواه إذا ثبت هذا فان الحيوان إن كان للفاعل ذهب هدرا وإن كان لغيره فعلى الفاعل غرامته لأن سبب إتلافه فيضمنه كما لو نصب له شبكة فتلف بها ثم إن كانت مأكولة فهل يباح أكلها على وجهين و للشافعي أيضا في ذلك وجهان :
أحدهما : يحل أكلها لقول الله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ولأنه حيوان من جنس يجوزأكله ذبحه من هو من اهل الذكاة فحل أكله كما لو لم يفعل به هذا الفعل ولكن يكره اكله لشبهة التحريم
والوجه الثاني : لا يحل أكلها لما روي عن ابن عباس أنه قيل له : ما شأن البهيمة ؟ قال : ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أكلها وقد فعل بها ذلك الفعل ولأنه حيوان يجب قتله لحق الله تعالى فلم يجز أكله كسائر المقتولات واختلف في علة قتلها فقيل إنما قتلت لئلا يعير فاعلها ويذكر برؤيتها
وقد روى ابن بطة باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة قالوا يا رسول الله ما بال البهيمة ؟ قال : لا يقال هذه وهذه ] قيل : لئلا تلد خلقا مشوها وقيل : لئلا تؤكل وإليه أشار ابن عباس في تعليله ولا يجب قتلها حتى يثبت هذا العمل بها ببينة فأما إن أقر الفاعل فان كانت البهيمة له ثبت باقراره وإن كانت لغيره لم يجز قتلها بقوله لأنه إقرار على ملك غيره فلم يقبل كما لو أقر بها لغير مالكها وهل يثبت هذا بشاهدين عدلين واقرار مرتين او يعتبر فيه ما يعتبر في الزنا ؟ على وجهين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى

مسألة وفصول : يجب الحد على الزاني إذا أقر به أربع مرات في مجلس واحد أو جلسات وما يعتبر في صحة الإقرار
مسألة : قال : والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات
وجملته أن الحد لا يجب إلا باحد شيئين إقرار أو بينة فان ثبت باقرار اعتبر إقرار أربع مرات وبهذا قال الحكم و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي وقال الحسن و حماد و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يحد باقرار مرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] واعتراف مرة اعتراف وقد أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وإنما اعترفت مرة وقال عمر : إن الرجم حق واجب على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأأنه حق فيثبت باعتراف مرة كسائر الحقوق
ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبك جنون ؟ قال : لا قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارجموه ] متفق عليه ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه : [ حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ؟ قال : بفلانة ] رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة
وروى أبو برزة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه و سلم : إن أقررت اربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه و سلم : وهذا يدل من وجهين : أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ
الثاني : أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه و سلم لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي يثبت به كان أربعا
فصل : وسواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الزاني يردد أربع مرات ؟ قال : نعم على حديث ماعز هو أحوط قلت له : في مجلس واحد في مجالس شتى ؟ قال : اما الاحاديث فليست تدل إلا على مجلس واحد إلا ذاك الشيخ بشير بن مهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وذاك عندي منكر الحديث وقال أبو حنيفة : لا يثبت إلا بأربع إقرارات في أربعة مجالس لأن ماعزا أقر في أربعة مجالس
ولنا أن الحديث الصحيح إنما يدل على أنه أقر اربعا في مجلس واحد وقد ذكرنا الحديث ولانه إحدى حجتي الزنا فاكتفي به في مجلس واحد كالبينة
فصل : يعتبر في صحة الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة لأن الزنا يعبر عما ليس بموجب للحد وقد روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لماعز : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال : لا قال : أفنكتها لا يكني ؟ قال : نعم قال : فعند ذلك أمر برجمه ] رواه بخاري وفي رواية عن أبي هريرة قال : [ أفنكتها ؟ - قال : نعم قال - حتى غاب ذاك منك في ذاك منها ؟ قال : نعم قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال : نعم قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا ] وذكر الحديث رواه أبو داود

فصل : إذا أقر أنه زنى بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها
فصل : فإن أقر أنه زنى بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا حد عليه لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه
ولنا ما روى أبو داود باسناده [ عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ] ولأن انتفاء ثبوته في حقها لا يبطل إقراره كما لو سكتت أو كما لو لم يسأل ولأن عموم الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه وهو قول عمر إذا كان الحبل أو الاعتراف وقولهم اننا صدقناها في انكارها لا يصح فاننا لم نحكم بصدقها وانتفاءه الحد إنما كان لعدم المقتضى وهو الإقرار أو البينة لا لوجود التصديق بدليل ما لو سكتت أو لم تكمل البينة إذا ثبت هذا فإن الحر والعبد والبكر والثيب في الإقرار سواء لأنه أحد حجتي الزنا فاستوى فيه الكل كالبينة

مسألة من شروط وجوب الحد : الصحة والبلوغ والعقل
مسألة : قال : وهو بالغ صحيح عاقل
أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الاقرار لأن الصبي والمجنون قد رفع القلم عنهما ولا حكم لكلامهما وقد روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن وفي حديث ابن عباس في قصة ماعز [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل قومه : أمجنون هو ؟ قالوا : ليس به بأس ] وروي أن [ النبي صلى الله عليه و سلم قال له حين أقر عنده : أبك جنون ] وقد روى أبو داود باسناده قال : أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسا فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ما شأن هذه ؟ قالوا : مجنونة آل فلان زنت فأمر بها عمر أن ترجم فقال : ارجعوا بها ثم أتاه فقال : يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة ؟ عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل قال : بلى ! قال : فما بال هذه ؟ قال : لا شيء قال : فأرسلها فأرسلها قال : فجعل عمر يكبر

فصل : حكم المجنون إذا زنى
فصل : فان كان يجن مرة ويفيق أخرى فأقر في إفاقته أنه زنى وهو مفيق أو قامت عليه بينة أنه زنى في إفاقته فعليه الحد لا نعلم في هذا خلافا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأن الزنا الموجب للحد وجد منه في حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه وإقراره وجد في حال اعتبار كلامه فان أقر في إفاقته ولم يضفه إلى حال أو شهدت عليه البينة بالزنا ولم تضفه إلى حال إفاقته لم يجب الحد لأنه يحتمل أنه وجد في حال جنونه فلم يجب الحد مع الاحتمال وقد روى أبو داود في حديث المجنونة التي اتى بها عمر أن عليا قال : إن هذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها أتاها في بلائها فقال عمر : لا أدري فقال علي : وأنا لا أدري

فصل : النائم مرفوع عنه القلم
فصل : والنائم مرفوع عنه القلم فلو زنى بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه الزنا حال نومه فلا حد عليه لأن القلم مرفوع عنه ولو أقر في حال نومه لم يلتفت إلى اقراره لأن كلامه ليس بمعتبر ولا يدل على صحة مدلوله فاما السكران ونحوه فعليه حد الزنا والسرقة والشرب والقذف إن فعل ذلك في سكره لأن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عليه حد الفرية كون السكر مظنة لها ولأنه تسبب الى هذه المحرمات بسبب لا يعذر فيه فأشبه من لا عذر له ويحتمل أن لا يجب الحد لأنه غير عاقل فيكون ذلك شبهة في درء ما يندرىء بالشبهات ولأن طلاقه لا يقع في رواية فأشبه النائم والأول اولى لأن إسقاط الحد عنه يفضي الى ان من أراد فعل هذه المحرمات شرب الخمر وفعل ما أحب فلا يلزمه شيء ولأن السكر مظنة لفعل المحارم وسبب إليه فقد تسبب إلى فعلها حال صحوه فأما ان أقر بالزنا وهو سكران لم يعتبر اقراره لأنه لا يدري ما يقول ؟ ولا يدل قوله على صحة خبره فأشبه قول النائم والمجنون وقد روى بريدة أن [ النبي صلى الله عليه و سلم استنكه ماعزا ] رواه ابو داود وانما فعل ذلك ليعلم هل هو سكران او لا ؟ ولو كان السكران مقبول الاقرار لما احتيج الى تعرف براءته منه

فصل : حكم المريض الزاني هل يحد ؟
فصل : فأما قوله وهو صحيح ففسره القاضي بالصحيح من المرض يعني أن الحد لا يجب عليه في مرضه وإن وجب فإنه إنما يقام عليه الحد بما يؤمن به تلفه فإن خيف ضرر عليه ضرب ضربة واحدة بضغث فيه مائة شمراخ أو عود صغير ويحتمل أنه أراد الصحيح الذي يتصور منه الوطء فلو أقر بالزنا من لا يتصور منه كالمجنون فلا حد عليه لأننا نتيقن أنه لا يتصور منه الزنا الموجب للحد ولو قامت به بينة فهي كاذبة وعليها الحد نص عليه أحمد وإن أقر الخصي أو العنين فعليه الحد وبهذا قال الشافعي و أبو ثور واصحاب الرأي لأنه يتصور منه ذلك فقبل اقراره به كالشيخ الكبير

فصل : حكم إقرار الأخرس
فصل : و أما الأخرس فان لم تفهم إشارته فلا يتصور منه إقرار وإن فهمت إشارته فقال القاضي : عليه الحد وهو قول الشافعي و ابن القاسم صاحب مالك و أبي ثور و ابن المنذر لان من صح اقراره بغير الزنا صح إقراره به كالناطق وقال أصحاب ابي حنيفة : لا يحد باقرار ولا بينة لأن الاشارة تحتمل ما فهم منها وغيره فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها ولا يعرف كونها شبهة ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد باقراره لانه غير صحيح ولأن الحد لا يجب مع الشبهة والاشارة لا تنتفي معها الشبهات فأما البينة فيجب عليه بها الحد لأن قوله معها غير معتبر

فصل : ولا يصح إقراره المكره
فصل : ولا يصح الاقرار من المكره فلو ضرب الرجل ليقر بالزنا لم يجب عليه الحد ولم يثبت عليه الزنا ولا نعلم من أهل العلم خلافا في أن إقرار المكره لا يجب به حد وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته رواه سعيد وقال ابن شهاب في رجل اعترف بعد جلده ليس عليه حد ولأن الاقرار إنما ثبت به المقر به لوجود الداعي الى الصدق وانتفاء التهمة عنه فان العاقل لا يتهم بقصد الاضرار بنفسه ومع الإكراه يغلب على الظن أنه قصد باقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل

فصل : حكم ما لو أقر بأنه وطىء امرأة وادعى أنها امرأته
فصل : فان أقر أنه وطىء امرأة وادعى أنها امرأته وأنكرت المرأة أن يكون زوجها نظرنا فان لم تقر المرأة بوطئه إياها فلا حد عليه لأنه لم يقر بالزنا ولا مهر لها لأنها لا تدعيه وإن اعترفت بوطئه إياها وأقرت بأنه زنى بها مطاوعة فلا مهر عليه أيضا ولا حد على واحد منهما إلا أن يقر أربع مرات لأن الحد لا يجب بدون أربع مرات وإن ادعت أنه أكرهها عليه أو اشتبه عليها فعليه المهر لأنه أقر بسببه فقد روى مهنا عن أحمد أنه سأله عن رجل وطىء امرأة وزعم أنها زوجته وأنكرت هي أن يكون زوجها واقرت بالوطء قال : فهذه قد أقرت على نفسها بالزنا ولكن يدرأ عنه الحد بقوله إنها امرأته ولا مهر عليه ويدرأ عنها الحد حتى تعترف مرارا قال أحمد : وأهل المدينة يرون عليها الحد يذهبون لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] وقد تقدم الجواب عن قولهم

مسألة : من شرط إقامة الحد بالإقرار البقاء البقاء عليه حتى يتم الحد
مسألة : قال : ولا ينزع عن اقراره حتى يتم عليه الحد
وجملته ان من شرط إقامة الحد بالأقرار البقاء عليه إلى تمام الحد فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه وبهذا قال عطاء و يحيى بن يعمر و الزهري و حماد و مالك و الثوري و الشافعي و اسحاق و ابو حنيفة و أبو يوسف وقال الحسن و سعيد بن جبير و ابن أبي ليلى : يقام عليه الحد ولا يترك لأن ماعزا هرب فقتلوه ولم يتركوه وروي أنه قال : ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فان قومي هم غروني من نفسي واخبروني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير قاتلي : فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه أخرجه أبو داود ولو قبل رجوعه للزمتهم ديته ولأنه حق وجب باقراره فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق وحكي عن الأوزاعي أنه إن رجع حد للفرية على نفسه وإن رجع عن السرقة والشرب ضرب دون الحد
ولنا ان ماعزا هرب فذكر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] قال ابن عبد البر : ثبت من حديث أبي هريرة و جابر و نعيم بن هزال و نصر بن داهر وغيرهم أن ماعزا لما هرب فقال لهم : ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه وعن بريدة قال : [ كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال : لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما عند الرابعة ] رواه أبو داود ولأن رجوعه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولأن الاقرار إحدى بينتي الحد فيسقط بالرجوع عنه كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد وفارق سائر الحقوق فانها لا تدرأ بالشبهات وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه لأنه ليس بصريح في الرجوع إذا ثبت هذا فانه إذا هرب لم يتبع لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ هلا تركتموه ؟ ] وإن لم يترك وقتل لم يضمن لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يضمن ماعزا من قتله ولأن هربه ليس بصريح في رجوعه وإن قال : ردوني إلى الحاكم وجب رده ولم يجز إتمام الحد فإن أتم فلا ضمان على من أتمه لما ذكرنا في هربه وإن رجع عن إقراره وقال : كذبت في إقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه فإن قتله قاتل بعد ذلك وجب ضمانه لأنه قد زال إقراره بالرجوع عنه فصار كمن لم يقر ولا قصاص على قاتله لأن أهل العلم اختلفوا في صحة رجوعه فكان اختلافهم شبهة دارئة للقصاص ولأن صحة الإقرار مما يخفى فيكون ذلك عذرا مانعا من وجوب القصاص

مسألة : شروط شهود الزنا
مسألة : قال : أو يشهد عليه أربعة رجال من المسلمين أحرار عدول يصفون الزنا
ذكر الخرقي في شروط الزنا سبعة شروط :
أحدها أن يكونوا أربعة وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم لقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وقال تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } [ وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي باربعة شهداء ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : نعم ] رواه مالك في الموطأ و أبو داود في سننه
الشرط الثاني : أن يكونوا رجالا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافا إلا شيئا يروى عن عطاء و حماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو شذوذ لا يعول عليه لأن لفظ الاربعة اسم لعدد المذكورين ويقتضي أن يكتفي فيه بأربعة ولا خلاف في أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم وإن أقل ما يجزىء خمسة وهذا خلاف النص ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن قال الله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } والحدود تدرأ بالشبهات
الشرط الثالث : الحرية فلا تقبل فيه شهادة العبيد ولا نعلم في هذا خلافا إلا رواية حكيت عن أحمد أن شهادتهم تقبل وهو قول أبي ثور لعموم النصوص فيه ولأنه عدل ذكر مسلم فتقبل شهادته كالحر
ولنا أنه مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد لأنه يندرىء بالشبهات
الشرط الرابع : العدالة ولا خلاف في اشتراطها فان العدالة تشترط في سائر الشهادات فههنا مع مزيد الاحتياط أولى فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقا
الخامس : أن يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي لأن أهل الذمة كفار لا تتحقق العدالة فيهم ولا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية فلا تقبل شهادتهم كعبدة الأوثان
الشرط السادس : أن يصفوا الزنا فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشاد في البئر وهذا قول معاوية بن أبي سفيان و الزهري و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي [ لما روي في قصة ماعز أنه لما أقر عند النبي صلى الله عليه و سلم بالزنا فقال : أنكتها ؟ فقال : نعم فقال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاد في البئر ؟ قال نعم ] وإذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى
وروى أبو داود باسناده عن جابر قال : [ جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فنشدهما : كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال : فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ قالا : ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي صلى الله عليه و سلم برجمهما ] ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه قال بعض أهل العلم : يجوز للشهود ان ينظروا الى ذلك منهما لاقامة الشهادة عليهما ليحصل الردع بالحد فان شهدوا أنهم رأوا ذكره قد غيبه في فرجها كفى والتشبيه تأكيد وأما تعيينهم المزني بها أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة ومكان الزنا فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها ويعتبر ذكر المكان لئلا تكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ولهذا [ سأل النبي صلى الله عليه و سلم ماعزا فقال : إنك أقررت أربعا فبمن ؟ ] وقال ابن حامد : لا يحتاج إلى ذكر هذين لأنه لا يعتبر ذكرهما في الاقرار ولم يأت ذكرهما في الحديث الصحيح وليس في حديث الشهادة في رجم اليهوديين ذكر المكان ولأن ما لا يشترط فيه ذكر الزمان لا يشترط فيه ذكر المكان كالنكاح ويبطل ما ذكره بالزمان الشرط السابع : مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد ذكره الخرقي فقال : وإن جاء أربعة متفرقين والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي و البتي و ابن المنذر : لا يشترط ذلك لقول الله تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } ولم يذكر المجلس وقال تعالى : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } ولأن كل شهادة مقبولة إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات
ولنا أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم وبهذا فارق سائر الشهادات
وأما الآية فانها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا ولأن قوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا لا يجوز أن يكون مطلقا لأنه يمنع من جواز جلدهم لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به فيكون تناقضا وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد بالمجلس لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة ولهذا ثبت فيه خيار المجلس واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا فانه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد قبل شهادتهم وقال مالك و أبو حنيفة : إن جاءوا متفرقين فهم قذفة لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم فلم تقبل شهادتهم كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد
ولنا قصة المغيرة فان الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم وإنما حدوا لعدم كمالها وفي حديثه أن أبا بكرة قال : أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه ؟ قال عمر : أي والذي نفسي بيده ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا مجتمعين ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد لأن من شهد بالزنا ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد لقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }

فصل : إذا لم تكمل شهود الزنا فعليهم الحدود
فصل : وإذا لم تكمل شهود الزنا فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذكر أبو الخطاب فيهم روايتين وحكي عن الشافعي فيهم قولان : أحدهما لا حد عليهم لأنهم شهود فلم يجب عليهم الحد كما لو كانوا أربعة أحدهم فاسق
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة ولأنه إجماع الصحابة فان عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد
وروى صالح في مسائله باسناده عن أبي عثمان النهدي قال : جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ثم جاؤ آخر فشهد فاستكبر ذلك عمر ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر : ما عندك يا سلح العقاب ؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان : والله لقد كدت يغشى علي فقال : يا أمير المؤمنين رأيت أمرا قبيحا فقال : الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قال : فأمر بأولئك النفر فجلدوا
وفي رواية ان عمر لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي زياد فقال عمر : أرى شابا حسنا وأرجو أن لا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أمير رأيت أستا تنبو ونفسا يعلو ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك ؟ فقال عمر : الله أكبر وأمر بالثلاثة فضربوا وقول عمر يا سلح العقاب معناه أنه يشبه سلح العقاب الذي يحرق كل شيء أصابه كذلك هذا توقع العقوبة بأحد الفريقين لا محالة إن كملت شهادته حد المشهود عليه وإن لم تكمل حد أصحابه فان قيل : فقد خالفهم أبو بكرة وأصحابه الذين شهدوا قلنا لم يخالفوا في وجوب الحد عليهم إنما خالفوهم في صحة ما شهدوا به ولأنه رام بالزنا لم يأت بأربعة شهداء فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد

فصل : حكم ما إذا كمل شهود الزنا غير مرضيين
فصل : وإن كملوا أربعة غير مرضيين أو واحد منهم كالعبيد والفساق والعميان ففيهم ثلاث روايات : إحداهن عليهم الحد وهو قول مالك قال القاضي : هذا الصحيح لأنها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو كانوا ثلاثة والثانية : لا حد عليهم وهو قول الحسن و الشعبي و أبي حنيفة و محمد لأن هؤلاء قد جازوا بأربعة شهداء فدخلوا في عموم الآية لأن عددهم قد كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم فأشبه ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم ولا فسقهم
الثالثة : إن كانوا عميانا أو بعضهم جلدوا وإن كانوا عبيدا أو فساقا فلا حد عليهم وهو قول الثوري و إسحاق لأن العميان معلوم كذبهم لأنهم شهدوا بما لم يروه يقينا والآخرون يجوز صدقهم وقد كمل عددهم فأشبهوا مستوري الحال وقال أصحاب الشافعي : إن كان رد الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى والرق والفسق الظاهر ففيهم قولان وإن كان لمعنى خفي فلا حد عليهم لأن ما يخفى يخفى على الشهود فلا يكون ذلك تفريطا منهم بخلاف ما يظهر وإن شهد ثلاثة رجال وامرأتان حد الجميع لأن شهادة النساء في هذا الباب كعدمها وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وهذا يقوي رواية إيجاب الحد على الأولين وينبه على إيجاب الحد فيما إذا كانوا عميانا أو أحدهم لأن المرأتين يحتمل صدقهما وهما من أهل الشهادة في الجملة والأعمى كاذب يقينا وليس من أهل الشهادة على الأفعال فوجوب الحد عليهم وعلى من معهم أولى

فصل : حكم ما لو رجع شهزودالزنا عن الشهادة أو بعضهم
فصل : وان رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين وهو قول أبي حنيفة والثانية يحد الثلاثة دون الراجع وهذا اختيار أبي بكر و ابن حامد لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد ولأن في درأ الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة الشهود عليه وفي ايجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت تلك المصلحة وتتحقق المفسدة فناسب ذلك نفي الحد عنه وقال الشافعي : يحد الراجع دون الثلاثة لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد كما لو لم يرجع
ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة وقولهم وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم وبالراجع وحده فان الحد وجب ثم سقط ووجب الحد عليهم بسقوطه ولأن الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه وإسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه وإحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى

فصول : أحكام مختلفة في الشهادة في الزنا وفي الشهود
فصل : وإذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما أو اختلفوا في اليوم فالجميع قذفه وعليهم الحد وبهذا قال مالك و الشافعي واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم وبه قال النخعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنهم كملوا أربعة
ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنا واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما فأما المشهود عليه فلا حد عليه في قولهم جميعا وقال أبو بكر : عليه الحد وحكى قولا لأحمد وهذا بعيد فإنه لم يثبت زنا واحد بشهادة أربعة فلم يجب الحد ولأن جميع ما يعتبر له البينة يعتبر كمالها في حق واحد فالموجب للحد أولى لأنه مما يحتاط له ويندرىء بالشبهات وقد قال أبو بكر : انه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء وشهد اثنان انه زنى بسوداء فهم قذقة ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله
فصل : وان شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى وكانت الزاويتين متباعدتين فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل ولأنهم اختلفوا في المكان فأشبه ما لو اختلفوا في البيتين وعلى قول أبي حنيفة تكمل الشهادة سواء تقاربت الزاويتان أو تباعدتا
ولنا أنهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين فانه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا فإن قيل : فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين فلم أوجدتم الحد مع الاحتمال والحد يدرأ بالشبهات ؟ قلنا : ليس هذا بشبهة بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد فان هذا يحتمل فيه والحد واجب والقول في الزمان كالقول في هذا وإنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ومتى تقاربا كملت شهادتهم والله أعلم
فصل : وإن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز كملت شهادتهم وقال الشافعي : لا تكمل لتنافي الشهادتين
ولنا أنه لا تنافي بينهما فانه يمكن أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين واحدا وتركا ذكر الآخر ويمكن أن يكون عليه قميص أبيض وعليها قميص أحمر وإذا أمكن التصديق لم يجز التكذيب
فصل : وإن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة فلا حد عليها إجماعا فان الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد وفي الرجل وجهان :
أحدهما : لا حد عليه وهو قول أبي بكر و القاضي وأكثر الاصحاب وقول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن البينة لم تكمل على فعل واحد فان فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين وذلك يمنع قبول الشهادة أو بكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر الا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما مكرهة في الآخر وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها ولم تكمل البينة عليها فلا تقبل شهادتهما على غيرها
والوجه الثاني : يجب الحد عليه اختاره أبو الخطاب وهو قول أبو يوسف ومحمد ووجه ثان للشافعي لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه واختلافهما إنما هو فعلها لا فعله فلا يمنع كمال الشهادة عليه وفي الشهود ثلاثة أوجه : أحدها لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم والثاني عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم والثالث يجب الحد على شاهدي المطاعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا ولم تكمل شهادتهم عليها ولا يجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهم على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة
فصل : وإذا تمت الشهادة بالزنا فصدقهم المشهود عليه بالزنا لم يسقط الحد وقال أبو حنيفة : يسقط لأن شرط صحة البينة الإنكار وما كمل الاقرار
ولنا قول الله تعالى : { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } وبين النبي صلى الله عليه و سلم السبيل بالحد فتجب إقامته ولأن البينة تمت عليه فوجب الحد كما لو لم يعترف ولأن البينة إحدى حجتي الزنا فلم يبطل بوجود الحجة الأخرى أو بعضها كالاقرار يحققه أن وجود الإقرار يؤكد البينة ويوافقها ولا ينافيها فلا يقدح فيها كتزكية الشهود والثناء عليهم ولا نسلم اشتراط الإنكار وإنما يكتفي بالإقرار في غير الحد إذا وجد بكماله وههنا لم يكمل فلم يجز الاكتفاء به ووجب سماع البينة والعمل بها وعلى هذا لو أقر مرة أو دون الأربع لم يمنع ذلك سماع البينة عليه ولو تمت البينة عليه وأقر على نفسه إقرارا تاما ثم رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه وقوله يقتضي خلاف ذلك
فصل : وإن شهد شاهدان واعترف هو مرتين لم تكمل البينة ولم يجب الحد لا نعلم في هذا خلافا بين من اعتبر إقرار أربع مرات وهو قول أصحاب الرأي لأن إحدى الحجتين لم تكمل ولا تلفق إحداهما بالاخرى كاقرار بعض مرة
فصل : وإن كملت البينة ثم مات الشهود أو غابوا جاز الحكم بها وإقامة الحد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز الحكم لجواز أن يكونوا رجعوا وهذه شبهة تدرأ الحد
ولنا أن كل شهادة جاز الحكم بها مع حضور الشهود جاز مع غيبتهم كسائر الشهادات واحتمال رجوعهم ليس بشبهة كما لو حكم بشهادتهم
فصل : وإن شهدوا بزنا قديم أو أقر به وجب الحد وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الثوري و إسحاق و أبو ثور وقال أبو حنيفة : لا أقبل بينة على زنا قديم وأحده بالاقرار به وهذا قول ابن حامد وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد لما روي عن عمر أنه قال : أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فإنما هم شهود ضغن ولأن تأخيره للشهادة إلى هذا الوقت يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد
ولنا عموم الآية وأنه حق يثبت على الفور فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق ولاحديث رواه الحسن مرسلا ومراسيل الحسن ليست بالقوية والتأخير يجوز أن يكون لعذر أو غيبة والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب حد أصلا
فصل : وتجوز الشهادة بالحد من غير مدع لا نعلم فيه اختلافا ونص عليه أحمد واحتد بقضية أبي بكرة حين شهد هو وأصحابة على المغيرة من غير تقدم دعوى وشهد الجارود وصاحبه على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى ولأن الحد حق لله تعالى فلم تفتقر الشهادة به إلى تقدم دعوى كالعبادات يبينه أن الدعوى في سائر الحقوق إنما تكون من المستحق وهذا لا حق فيه لأحد من الآدميين فيدعيه فلو وقعت الشهادة على الدعوى لامتنعت اقامتها اذا ثبت هذا فان من عنده شهادة على حد فالمستحب أن لا يقيمها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ستر عورة مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة ] وتجوز إقامتها لقول اله تعالى : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ولأن الذين شهدوا بالحد في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم تنكر عليهم شهادتهم به ويستحب للإمام وغيره التعريض بالوقوف عن الشهادة بدليل قول عمر لزياد : إني لأرى رجلا أرجو أن لا يفضح الله على يديه رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولان تركها أفضل فلم يكن بأس بدلالته على الفضل وقد روي أن رجلا سأل عقبة بن عامر إن لي جيرانا يشربون الخمر أفأرفعهم إلى السلطان ؟ فقال عقبة بن عامر : إني سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول : [ من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة ]
فصل : وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا على الشهود وبهذا قال الشعبي و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك : عليها الحد لأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود فلا تسقط بشهادتهن
ولنا ان البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهرا لأن الزنا لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها واذا انتفى الزنا لم يجب الحد كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عدتهم مع احتمال صدقهم فانه يحتمل أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درأ الحد عنهم غير موجب له عليها فان الحد لا يجب بالشبهات ويجب أن يكتفي بشهادة امرأة واحدة لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال فأما إن شهدت بأنها رتقاء أو ثبت ان الرجل المشهود عليه مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لأنه يتيقن كذبهم في شهادتهم بأمر لا يعلمه كثير من الناس فوجب عليهم الحد
فصل : إذا شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة وشهد أربعة آخرون على الشهود أنهم هم الزناة بها لم يجب الحد على أحد منهم وهذا قول أبي حنيفة لأن الأولين قد جرحهم الآخرون بشهادتهم عليهم والآخرون تتطرق إليهم التهمة واختار أبو الخطاب وجوب الحد على الشهود الاولين لأن شهادة الآخرين صحيحة فيجب الحكم بها وهذا قول أبي يوسف وذكر أبو الخطاب في صدر المسألة كلاما معناه لا يحد أحد منهم حد الزنا وهل يحد الاولون حد القذف ؟ على وجهين بناء على القاذف إذا جاء مجيء الشاهد هل يحد ؟ على روايتين
فصل : وكل زنا أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له بقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ويدخل فيه اللواط ووطء المرأة في دبرها لأنه زنا وعند أبي حنيفة يثبت شاهدين بشاهدين بناء على أصله في أنه لا يوجب حدا وقد بينا وجوب الحد به ويخص هذا بأن الوطء في الدبر فاحشة بدليل قوله تعالى : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } وقال الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } فاذا وطئت في الدبر دخلت في عموم الآية ووطء البهيمة إن قلنا بوجوب الحد به لم يثبت إلا بشهود أربعة وإن قلنا لا يوجب إلا التعزير ففيه وجهان :
أحدهما : يثبت بشاهدين لأنه لا يوجب الحد فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق
والثاني : لا يثبت إلا بأربعة وهو قول القاضي لأنه فاحشة ولأنه إيلاج في فرج فأشبه الزنا وعلى قياس هذا كل وطء لا يوجب الحد ويوجب التعزير كوطء الأمة المشتركة وأمته المزوجة فان لم يكن وطأ كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين وجها واحدا لأنه ليس بوطء فأشبه سائر الحقوق

فصل : لا يقيم الإمام الحد بعلمه
فصل : ولا يقيم الإمام الحد بعلمه روي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبه قال مالك وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر له إقامته بعلمه وهو قول أبي ثور لأنه إذا جازت له إقامته بالبينة والاعتراف الذي لا يفيد إلا الظن فبما يفيد العلم أولى
ولنا قول الله تعالى : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال تعالى : { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } وقال عمر : أوكان الحبل او الاعتراف ولأنه لا يجوز له أن يتكلم به ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفا يلزمه حد القذف فلم تجز إقامة الحد به كقول غيره ولأنه إذا حرم النطق به فالعمل به أولى فأما السيد إذا علم من عبده أو جاريته ما يوجب الحد عليه فهل له إقامته عليه ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يملك إقامته عليه لما ذكرنا في الامام ولأن الامام إذا لم يملك إقامته بعلمه مع قوة ولايته والاتفاق على تفويض الحد إليه فغيره أولى
الثاني : يملك ذلك لأن السيد يملك تأديب عبده بعلمه وهذا يجري مجرى التأديب ولأن السيد أخص بعبده وأتم ولاية عليه وأشفق من الإمام على سائر الناس

فصل : إذا أحبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد لها لم يلزمها الحد بذلك
فصل : وإذا أحبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم يلزمها الحد بذلك وتسأل فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنا لم تحد وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وقال مالك : عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة إلا أن تظهر أمارات الاكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه : والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف
وروي أن عثمان أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فامر بها عثمان أن ترجم فقال علي : ليس لك عليها سبيل قال الله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وهذا يدل على انه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو من هذا
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس : إن الزنا زناءان : زنا سر وزنا علانية ؟ فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الامام أول من يرمي وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر لهم في عصرهم مخالف فيكون إجماعا
ولنا أنه يحتمل أنه من وطء أكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات وقد قيل ان المرأة تحمل من غير وطء بان يدخل ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك وأما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد حدثنا خلف بن خليفة حدثنا هاشم أن امراة رفعت إلى عمر بن الخطاب ليس لها زوج وقد حملت فسألها عمر فقالت : إني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرا عنها الحد
وروى البراء بن صبرة عن عمر أنه أتي بامرأة حامل فادعت أنها أكرهت فقال : خل سبيلها وكتب إلى أمراء الاجناد ان لا يقتل أحد إلا بإذنه وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا : إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل
وروى الدار قطني باسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر أنهم قالوا : إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققة ههنا

فصل : حكم الزنا بالمرأة المستأجرة
فصل : واذا استأجر امراة لعمل شىء فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك أو زنى بامرأة ثم تزوجها أو اشتراها فعليهما الحد وبه قال أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : لا حد عليهما في هذه المواضع لأن ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد ولا يحد بوطء امرأة هو مالك لها
ولنا عموم الآية والاخبار ووجود المعنى المقتضي لوجوب الحد وقولهم ان ملكه منفعتها شبهة ليس بصحيح فإنه إذالم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له ومطاوعتها إياه فلأن لا يسقط بملكه نفع محل آخر أولى وما وجب الحد عليه بوطء مملوكته وإنما وجب بوطء أجنبية فتغير حالها لا يسقطه كما لو ماتت

فصل : إذا وطىء امرأة له عليها القصاص وجب عليه الحد
فصل : وإذا وطىء امرأة له عليها القصاص وجب عليه الحد لأنه حق له عليها فلا يسقط الحد عنه كالدين

مسألة : حكم رجوع المقر بالزنا عن إقراره
مسألة : قال : ولو رجم باقرار فرجع قبل أن يقتل كف عنه وكذلك إن رجع بعد أن جلد وقبل كمال الحد خلي
قد تقدم شرح هذه المسألة وذكرنا أن المقر بالحد متى رجع عن إقراره ترك وكذلك ان أتى بما يدل على الرجوع مثل الهرب لم يطلب لأن ماعزا لما هرب قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هلا تركتموه ؟ ] ولأن من قبل رجوعه قبل الشروع في الحد قبل بعد الشروع فيه كالبينة

فصل : يستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالاقرار التعريض له بالرجوع
فصل : ويستحب للامام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار التعريض له بالرجوع إذا تم والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أعرض عن ماعز حين أقر عنده ثم جاءه من الناحية الأخرى فاعرض عنه حتى تمم إقراره أربعا ثم قال : [ لعلك قبلت لعلك لمست ] وروي أنه قال للذي أقر بالسرقة : [ ما إخالك فعلت ] رواه سعيد عن سفيان عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال : حدثنا هشيم عن الحكم بن عتيبة عن يزيد بن أبي كبشة عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سوداء سرقت فقال لها : أسرقت ؟ قولي : لا فقالت : لا فخلى سبيلها ولا بأس أن يعرض بعض الحاضرين له بالرجوع او بأن لا يقر
وروينا عن الأحنف أنه كان جالسا عند معاوية فأتي بسارق فقال له معاوية : أسرقت ؟ فقال له بعض الشرطة : اصدق الامير فقال الاحنف : الصدق في كل المواطن معجزة فعرض له بترك الاقرار وروي عن بعض السلف أنه قال : لا يقطع ظريف يعني به أنه إذا قامت عليه بينة ادعى شبهة تدفع عنه القطع فلا يقطع ويكره لمن علم حاله ان يحثه على الاقرار لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لهزال وقد كان قال لماعز : بادر الى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل فيك قرآن : [ ألا سترته بثوبك كان خيرا لك ؟ ] رواه سعيد وروى باسناده أيضا عن سعيد ابن المسيب قال : جاء ماعز بن مالك إلى عمر بن الخطاب فقال له أنه أصاب فاحشة فقال له : أخبرت بهذا احدا قبلي قال : لا قال : فاستتر بستر الله وتب إلى الله فان الناس يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير فتب إلى الله ولا تخبر به احدا فانطلق إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال عمر فلم تقره نفسه حتى اتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك

مسألة : من زنى مرارا ولم يحد فحد واحد
مسألة : قال : ومن زنى مرارا ولم يحد فحد واحد
وجملته أن ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر إذا تكرر قبل إقامة الحد أجزأ حد واحد بغير خلاف علمناه قال ابن المنذر : أجمع على كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم عطاء و الزهري و مالك و أبو حنيفة و أحمد و اسحاق و أبو ثور و أبو يوسف وهو مذهب ة الشافعي وإن أقيم عليه الحد ثم حدثت منه جناية أخرى ففيها حدها لا نعلم فيه خلافا وحكاه ابن المنذر عمن يحفظ عنه وقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأمة تزني قبل أن تحصن قال : [ إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ] ولأن تداخل الحدود إنما يكون مع اجتماعها وهذا الحد الثاني وجب بعد سقوط الأول باستيفائه وإن كانت الحدود من أجناس مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر أقيمت كلها إلا أن يكون فيها قتل فإن كان فيها قتل اكتفي به لأنه لا حاجة معه الى الزجر بغيره وقد قال ابن مسعود : ما كانت حدود فيها قتل إلا أحاط القتل بذلك كله وإن لم يكن فيها قتل استوفيت كلها وبدئ بالأخف فالأخف فيبدأ بالجلد ثم بالقطع ويقدم الأخف في الجلد على الأثقل فيبدأ في الجلد بحد الشرب ثم بحد القذف إن قلنا انه حق لله تعالى ثم بحد الزنا وإن قلنا ان حد القذف حق لآدمي قدمناه ثم بحد الشرب ثم بحد الزنا

مسألة : إذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بحكم الله تعالى علينا
مسألة : قال : وإذا تحاكم الينا أهل الذمة حكمنا عليهم بحكم الله تعالى علينا
وجملة ذلك أنه إذا تحاكم إلينا أهل الذمة أو استعدى بعضهم على بعض فالحاكم مخير بين إحضارهم والحكم بينهم وبين تركهم سواء كانوا من أهل دين واحد أو من أهل أديان هذا المنصوص عن أحمد وهو قول النخعي وأحد قولي الشافعي وحكى أبو خطاب عن أحمد رواية أخرى أنه يجب الحكم بينهم وهذا القول الثاني للشافعي واختيار المزني لقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولأنه يلزمه دفع من قصد واحدا منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين
ولنا قول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فخيره بين الأمرين ولا خلاف في أن هذه الآية نزلت فيمن وادعه رسول الله صلى الله عليه و سلم من يهود المدينة ولأنهما كافران فلا يجب الحكم بينهما كالمعاهدين والآية التي احتجوا بها محمولة على من اختار الحكم بينهم لقوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } جمعا بين الآيتين فانه لا يصار الى النسخ مع امكان الجمع فإذا ثبت هذا فإنه إذا حكم بينهم لم يجز له الحكم إلا بحكم الاسلام للآيتين ولأنه لا يجوز له الحكم إلا بالقسط كما في حق المسلمين ومتى حكم بينهما ألزمهما حكمه ومن امتنع منهما أجبره على قبول حكمه وأخذه به لأنه إنما دخل في العهد بشرط التزام أحكام الإسلام قال أحمد : لا يبحث عن أمرهم ولا يسأل عن أمرهم إلا أن يأتوا هم فان ارتفعوا الينا أقمنا عليهم الحد على ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم وقال أيضا : حكمنا يلزمهم وحكمنا جائز على جميع الملل ولا يدعوهما الحاكم فان جاءوا حكمنا بحكمنا إذا ثبت هذا فانه إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرما يوجب عقوبة مما هو محرم عليهم في دينهم كالزنا والسرقة والقذف والقتل فعليه إقامة حده عليه فإن كان زنا جلد إن كان بكرا وغرب عاما وإن كان محصنا رجم لما روى ابن عمر أن [ النبي صلى الله عليه و سلم أتى بيهوديين فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما ] وعن ابن عمر [ أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فاذا فيها آية رجم فقالوا : صدق يا محمد فيها آية رجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ] متفق عليه وروى أنس أن [ يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين ] متفق عليه وان كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يحد لأنه لا يعتقد تحريمه فلم يلزمه عقوبته كالكفر وإن تظاهر به عزر لأنه أظهر منكرا في دار الاسلام فعزر عليه كالمسلم

فصل : حكم ما لو تحاكم مسلم وذمي
فصل : وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه

مسألة : إذا قذف بالغ حرا مسلما أو حرة مسلمة جلد الحد ثمانين
مسألة : قال : وإذا قذف بالغ حرا مسلما أو حرة مسلمة جلد الحد ثمانين
القذف هو الرمي بالزنا وهو محرم باجماع الأمة والاصل في تحريمه الكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } وقال سبحانه : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هن يا رسول الله قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ] متفق عليه والمحصنات ههنا العفائف والمحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان : أحدها هذا والثاني بمعنى المزوجات كقوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات } وقوله تعالى : { محصنات غير مسافحات } والثالث بمعنى الحرائر كقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } وقوله سبحانه : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وقوله : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } والرابع بمعنى الاسلام كقوله { فإذا أحصن } قال ابن مسعود احصانها اسلامها وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن اذا كان مكلفا وشرائط الإحصان الذي يجب الحد بقذف صاحبه خمسة : العقل والحرية والاسلام والعفة عن الزنا وأن يكون كبيرا يجامع مثله وبه يقول جماعة العلماء قديما وحديثا سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالوا : اذا قذف ذمية ولها ولد مسلم يحد والأول أولى لأن من لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة واختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط البلوغ فروي عنه أنه شرط وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل ولأن زنا الصبي لا يوجد حدا فلا يجب الحد بالقذف به كزنا المجنون
والثانية : لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير وهذا قول مالك و اسحاق فعلى هذه الرواية لا بد أن يكون كبيرا يجامع مثله وأدناه أن يكون للغلام عشر وللجارية تسع

فصل : يجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب الخ
فصل : ويجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب والمريض المدنف والرتقاء والقرناء وقال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي : لا حد على قاذف مجبوب قال ابن المنذر : وكذلك الرتقاء وقال الحسن : لا حد على قاذف الخصي لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف والحد إنما يجب لنفي العار
ولنا عموم قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } والرتقاء داخلة في عموم هذا ولأنه قاذف لمحصن فيلزمه الحد كقاذف القادر على الوطء ولأن امكان الوطء أمر خفي لا يعلمه كثير من الناس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحد فيجب كقذف المريض

فصل : يجب الحد على القاذف في غير دار الإسلام
فصل : ويجب الحد على القاذف في غير دار الإسلام وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : لا حد عليه لأنه في دار لا حد على أهلها
ولنا عموم قوله تعالى : { والذين يرمون } الآية ولأنه مسلم مكلف قذف محصنا فأشبه من في دار الاسلام

فصل : حد القذف ثمانون جلدة إذا كان القاذف حرا
فصل : وقدر الحد ثمانون إذا كان القاذف حرا للآية والاجماع رجلا كان أو امرأة ويشترط أن يكون بالغا عاقلا غير مكره لأن هذه مشترطة لكل حد

مسألة : إذا طالب المقذوف ولم يكن للقاذف بينة وشروط إقامة الحد على القاذف
مسألة : قال : إذا طالب المقذوف ولم يكن للقاذف بينة
وجملته أن يعتبر لإقامة الحد بعد تمام القذف بشروطه شرطان :
أحدهما : مطالبة المقذوف لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه الثاني أن يأتي ببينة لقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } فيشترط في جلدهم عدم البينة وكذلك يشترط عدم الإقرار من المقذوف لأنه في معنى البينة فان كان القاذف زوجا اعتبر شرط ثالث وهو امتناعه من اللعان ولا نعلم خلافا في هذا كله وتعتبر استدامة الطلب إلى اقامة الحد فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال الحسن واصحاب الرأي : لا يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود
ولنا أنه حق لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص وفارق سائر الحدود فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد ولأنهم قالوا : تصح دعواه ويستحلف فيه ويحكم الحاكم فيه بعلمه ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف فدل على أنه حق لآدمي

فصل : إذا قذف من لم يبلغ لم يقم عليه الحد حتى يبلغ المقذوف
فصل : وإذا قلنا بوجوب الحد بقذف من لم يبلغ لم تجز إقامته حتى يبلغ ويطالب به بعد بلوغه لأن مطالبته قبل البلوغ لا توجب الحد لعدم اعتبار كلامه وليس لوليه المطالبة عنه لأنه حق شرع للتشفي فلم يقم غيره مقامه في استيفائه كالقصاص فإذا بلغ وطالب أقيم عليه حينئذ ولو قذف غائبا لم يقم عليه الحد حتى يقدم ويطالب إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته ويحتمل أن لا تجوز إقامته في غيبته بحال لأنه يحتمل أن يعفو بعد المطالبة فيكون ذلك شبهة في درأ الحد لكونه يندرىء بالشبهات ولو قذف عاقلا فجن بعد قذفه وقبل طلبه لم تجز إقامته حتى يفيق ويطلب وكذلك إن أغمي عليه فان كان قد طالب به قبل جنونه وإغمائه جازت اقامته كما لو وكل في استيفاء القصاص ثم جن أو أغمي عليه قبل استيفائه

مسألة : حد العبد والأمة في القذف
مسألة : قال : وإن كان القاذف عبدا أو أمة جلد أربعين بأدون من السوط الذي يجلد به الحر
أجمع أهل العلم على وجوب الحد على العبد إذا قذف الحر المحصن لأنه داخل في عموم الآية وحده اربعون في قول أكثر أهل العلم روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال : أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين وروى خلاس أن عليا قال في عبد قذف حرا : نصف الجلد وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عبدا قذف حرا ثمانين وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز ولعلهم ذهبوا الى عموم الآية والصحيح الأول للاجماع المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا وهو يخص عموم الآية وقد عيب على أبي بكر بن عمرو بن حزم جلده العبد ثمانين وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : ما رأينا أحدا قبله جلد العبد ثمانين وقال سعيد : حدثنا ابن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في فرية ثمانين فأنكر ذلك من حضره من الناس وغيرهم من الفقهاء فقال لي عبد الله بن عامر بن ربيعة : إني رأيت والله عمر بن الخطاب ما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية فوق أربعين إذا ثبت أنه أربعون فانه يكون بأدون من السوط الذي يجلد به الحر لأنه لما خفف في قدره خفف في سوطه كما أن الحدود في أنفسها كما قل منها كان سوطه أخف فالجلد في الشرب أخف منه في القذف وفي القذف أخف منه في الزنا ويحتمل أن يساوي العبد الحر في السوط لأنه على النصف ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة في السوط

فصل : إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحد
فصل : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء و الحسن و الشافعي و اسحاق وأصحاب الرأي وقال عمر بن عبد العزيز و مالك و أبو ثور و ابن المنذر : عليه الحد لعموم الآية ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنا
ولنا أنه عقوبة تجب حقا لآدمي فلا يجب للولد على الوالد كالقصاص أو نقول أنه حق لا يستوفى إلا بالمطالبة باستيفائه فأشبه القصاص ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص ولأن الابوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد كالرق والكفر وهذا يخص عموم الآية وما ذكروه ينتقض بالسرقة فان الأب لا يقطع بسرقة مال ابنه والفرق بين القذف والزنا أن حد الزنا خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه وحد القذف حق لآدمي فلا يثبت للابن على أبيه كالقصاص وعلى أنه زنا بجارية ابنه لم يجب عليه حد إذا ثبت هذا فإنه لو قذف أم ابنه وهي أجنبية منه فماتت قبل استيفائه لم يكن لابنه المطالبة بالحد لأن ما منع ثبوته ابتداء أسقطه طارئا كالقصاص وإن كان لها ابن آخر من غيره كان له استيفاؤه إذا ماتت بعد المطالبة به لأن الحد يملك بعض الورثة استيفاءه كله بخلاف القصاص وأما قذف سائر الأقارب فيوجب الحد على القاذف في قولهم جميعا

مسألة وفصول : حكم القذف بعمل قوم لوط
مسألة : قال : واذا قال له : يا لوطي سئل عما اراد فان قال : أردت انك من قوم لوط فلا شيء عليه وإن قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط فهو كمن قذف بالزنا
في هذه المسألة فصلان :
الفصل الأول : أن من قذف رجلا بعمل قوم لوط إما فاعلا وإما مفعولا فعليه حد القذف وبه قال الحسن و النخعي و الزهري و مالك و أبو يوسف و محمد بن الحسن و أبو ثور وقال عطاء و قتادة و أبو حنيفة : لا حد عليه لأنه قذف بما لا يوجب الحد عنده وعندنا هو موجب للحد وقد بيناه فيما مضى وكذلك لو قذف امرأة أنها وطئت في دبرها أو قذف رجلا بوطء امرأة في دبرها فعليه الحد عندنا وعند أبي حنيفة لا حد عليه ومبنى الخلاف ههنا على الخلاف في وجوب حد الزنا على فاعل ذلك وقد تقدم الكلام فيه فأما إن قذفه بإتيان بهيمة انبنى ذلك على وجوب الحد على فاعله فمن أوجب الحد على فاعله أوجب حد القذف على القاذف به ومن لا فلا وكل ما لا يجب الحد بفعله لا يجب الحد على القاذف به كما لو قذف إنسانا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطء بالشبهة أو قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطء مستكرهة لم يجب الحد على القاذف ولأنه رماه بما لا يوجب الحد فأشبه ما لو قذفه باللمس والنظر وكذلك لو قال : يا كافر يا فاسق يا سارق يا منافق يا فاجر يا خبيث يا أعور يا أقطع يا أعمى ابن الزمن الاعمى الأعرج فلا حد في ذلك كله لأنه قذف بما لا يوجب الحد فلم يوجب الحد كما لو قال : يا كاذب يا نمام ولا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم ولكنه يعزر لسب الناس واذاهم فأشبه ما لو قذف من لا يوجب قذفه الحد
الفصل الثاني : أنه إذا قال : أردت أنك من قوم لوط فاختلفت الرواية عن أحمد فروى عنه جماعة أنه يجب عليه الحد بقوله : يا لوطي ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهذا اختيار أبي بكر ونحوه قال الزهري و مالك والرواية الثانية أنه لا حد عليه نقلها المروذي ونحو هذا قال الحسن و النخعي قال الحسن : إذا قال نويت أن دينه دين لوط فلا حد عليه وإن قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط فعليه الحد ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد فلم يجب عليه حد كما لو فسره به متصلا بكلامه وروي عن أحمد رواية ثالثة أنه إذا كان في غضب قال : إنه لأهل أن يقام عليها لحد لأن قرينة الغضب تدل على إرادة القذف بخلاف حال الرضا والصحيح في المذهب الرواية الأولى لأن هذه الكلمة لا يفهم منها إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فيه كقوله : يا زاني ولأن قوم لوط لم يبق منهم أحد فلا يحتمل أن ينسب إليهم
فصل : وإن قال : أردت أنك على دين لوط أو أنك تحب الصبيان أو تقبلهم أو تنظر إليهم أو أنك تتخلق بأخلاق قوم لوط في أنديتهم غير إتيان الفاحشة أو أنك تنهى عن الفاحشة كنهي لوط عنها أو نحو ذلك خرج في هذا كله وجهان بناء على الروايتين المنصوصتين في المسألة لأن هذا في معناه

مسألة : حكم ما لو قال : يا معفوج
مسألة : قال : وكذلك من قال يا معفوج
المنصوص عن أحمد فيمن قال : يا معفوج أن عليه الحد وكلام الخرقي يقتضي أنه يرجع إلى تفسيره فإن فسره بغير الفاحشة مثل أن قال : أردت يا مفلوج أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا فلا حد عليه لأنه فسره بما لا حد فيه وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها

فصل : إنما يجب الحد على القاذف بلفظ صريح
فصل : وكلام الخرقي يقتضي أن لا يجب الحد على القاذف إلا بلفظ صريح لا يحتمل غير القذف وهو أن يقول : يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع فأما ما عداه من الالفاظ فيرجع فيه إلى تفسيره لما ذكرنا في هاتين المسألتين فلو قال لرجل : يا مخنث أو لامرأة : يا قحبة وفسره بما ليس بقذف مثل أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث والتشبه بالنساء وبالقحبة أنها تستعد لذلك فلا حد عليه وكذلك إذا قال : يا فاجرة يا خبيثة
وحكى أبو الخطاب في هذا رواية أخرى أنه قذف صريح ويجب به الحد والصحيح الأول قال أحمد في رواية حنبل : لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف والشتيمة قال ابن المنذر : الحد على من نصب الحد نصبا ولأنه قول غير الزنا فلم يكن صريحا في القذف كقوله : يا فاسق وإن فسر شيئا من ذلك بالزنا فلا شك في كونه قذفا

فصل : أحكام التعريض بالقذف
فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف مثل أن يقول لمن يخاصمه : ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنا يا حلال ابن الحلال أو يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية فروى عنه حنبل لا حد عليه وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر وبه قال عطاء وعمرو بن دينار و قتادة و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر لما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفيه فلم يلزمه بذلك حد ولا غيره وقد فرق الله تعالى بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض في العدة وحرم التصريح فكذلك في القذف ولأن كل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا كقوله : يا فاسق
وروى الأثرم وغيره عن أحمد أن عليه الحد وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال إسحاق لأن عمر حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ولا أمي بزانية فقالوا : قد مدح اباه وأمه فقال عمر : قد عرض بصاحبه فجلده الحد وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض
وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلا قال لآخر : يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض له بكمر الرجال ولأن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف فلا شك أنه لا يجوز قذفا
وذكر أبو الخطاب من صور التعريض أن يقول لزوجة آخر : قد فضحته وغطيت رأسه وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه ونكست رأسه وذكر في جميع ذلك روايتين وذكر أبو بكر عبد العزيز أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض

فصل : السباب والشتم الذي يوجب التعزير
فصل : وإن قال لرجل : يا ديوث يا كشحان فقال أحمد يعزر قال ابراهيم الحربي : الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته وقال ثعلب القرطبان : الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته وقال : القرنان والكشحان لم أرهما في كلام العرب ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث أو قريبا منه فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث لأنه بما لا حد فيه
وقال خالد بن يزيد عن أبيه في الرجل يقول للرجل : يا قرنان إذا كان له أخوات أو بنات في الاسلام ضرب الحد يعني أنه قاذف لهن
وقال خالد عن أبيه : القرنان عند العامة من له بنات والكشحان من له أخوات يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن الوقواد عند العامة السمسار في الزنا والقذف بذلك كله يوجب التعزير لأنه قذف بما لا يوجب الحد

فصل : إذا نفى رجلا عن أبيه فعليه الحد
فصل : وإذا نفى رجلا عن أبيه فعليه الحد نص عليه أحمد وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا قال ابراهيم النخعي و اسحاق وبه قال أبو حنيفة و الثوري و حماد : إذا نفاه عن أبيه وكانت أمة مسلمة وإن كانت ذمية أو رقيقة فلا حد عليه لأن القذف لها ووجه الأول ما روى الاشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول : [ لا أوتى برجل يقول ان كنانة ليست من قريش إلا جلدته ] وعن ابن مسعود أنه قال : لا جلد إلا في اثنين : رجل قذف محصنة أو نفى رجلا عن أبيه وهذا لا يقوله إلا توقيفا فأما إن نفاه عن أمه فلا حد عليه لأنه لم يقذف أحدا بالزنا وكذلك إن قال : إن لم تفعل كذا فلست بابن فلان فلا حد فيه لأن القذف لا يتعلق بالشرط والقياس يقتضي أن لا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا فأشبه ما لو قال للأعجمي : إنك عربي ولو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد فيه وعليه التعزير نص عليه لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه والأول أصح وبه قال مالك و الشافعي : لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه اليه ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف

فصل : حكم ما إذا قذف رجل رجلا فقال آخر : صدقت
فصل : وإذا قذف رجل رجلا فقال آخر : صدقت فالمصدق قاذف أيضا في أحد الوجهين لأن تصديقه ينصرف الى ما قاله بدليل ما لو قال : لي عليك ألف فقال : صدقت كان اقرارا بها ولو قال : أعطني ثوبي هذا فقال : صدقت كان إقرارا وفيه وجه آخر لا يكون قاذفا وهو قول زفر لأنه يحتمل أن يريد بتصديقه في غير القذف ولو قال : أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفا سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا كذبه الآخر وبه قال عطاء و مالك ونحوه عن الزهري لأنه أخبر بزناه
ولنا أنه إنما أخبر أنه قد قذف فلم يكن قذفا كما لو شهد على رجل أنه قد قذف رجلا

فصل : القذف بصيغة أفعل التفضيل
فصل : وإن قال : أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس فهو قاذف له وهل يكون قاذفا للثاني ؟ فيه وجهان : أحدهما يكون قاذفا له اختاره القاضي لأنه أضاف الزنا إليهما وجعل أحدهما فيه أبلغ من الآخر فإن لفظة أفعل للتفضيل فيقتضي اشتراك المذكورين في أصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه كقوله أجود من حاتم والثاني يكون قاذفا للمخاطب خاصة لأن لفظة افعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } وقال تعالى : { فأي الفريقين أحق بالأمن } وقال للوط : { بناتي هن أطهر لكم } أي من أدبار الرجال ولا طهارة فيهم وقال الشافعي وأصحاب الرأي : ليس بقذف للأول ولا للثاني الا أن يريد به القذف
ولنا أن موضوع اللفظ يقتضي ما ذكرناه فحمل عليه كما لو قال : انت زان

فصل : حكم من قال : زنأت مهموزا
فصل : وإن قال : زنأت مهموزا فقال أبو بكر وأبو الخطاب : هو قذف لأن عامة الناس لا يفهمون من ذلك إلا القذف فكان قذفا كما لو قال : زنيت وقال ابن حامد : إن كان عاميا فهو قذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العربية لم يكن قذفا لأن معناه في العربية طلعت فالظاهر أنه يريد موضوعه ولأصحاب الشافعي في كونه قذفا وجهان وإن قال : زنأت في الجبل فالحكم فيه كما لو قال : زنأت ولم يقل في الجبل وقال الشافعي ومحمد بن الحسن : ليس بقذف قال الشافعي : ويستحلف على ذلك
ولنا أنه إذا كان عاميا لا يعرف موضوعه في اللغة تعين مراده في القذف ولم يفهم منه سواه فوجب أن يكون قذفا كما لو فسره بالقذف أو لحن لحنا غير هذا

فصل : حكم من قال لرجل : يا زانية أو لامرأة : يا زاني
فصل : فإن قال لرجل : يا زانية أو لامرأة يا زاني فهو صريح في قذفهما اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به وهو قول أبي حنيفة لأنه يحتمل أن يريد بقوله : يا زانية أي يا علامة في الزنا كما يقال للعالم : علامة ولكثير الرواية راوية ولكثير الحفظ حفظة
ولنا أن ما كان قذفا لاحد الجنسين كان قذفا للآخر كقوله : زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعا ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة اليهما بلفظ الزنا وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها وكذلك لو قال للمرأة يا شخصا زانيا أو للرجل يا نسمة زانية كان قاذفا وقولهم : إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فان ما كان اسما للفعل اذا دخلته الهاء كانت للمبالغة كقولهم : حفظة للمبالغة في الحفظ وراوية للمبالغة في الرواية وكذلك همزة ولمزة وصرعة ولأن كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح

فصل : حكم من قال لرجل : زنيت بفلانة
فصل : وإذا قال لرجل : زنيت بفلانة كان قاذفا لها وقد نقل عن أبي عبد الله أنه سئل عن رجل قال لرجل يا ناكح أمه ما عليه ؟ قال إن كانت أمه حية فعليه الحد للرجل ولامه حد وقال مهنا : سألت أبا عبد الله إذا قال الرجل لرجل : يا زاني ابن الزاني قال : عليه حدان قلت : أبلغك في هذا شئ قال : مكحول قال فيه حدان وإن أقر إنسان أنه زنى بامرأة فهو قاذف لها سواء ألزمه حد الزنا باقراره أو لم يلزمه وبهذا قال ابن المنذر و أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يلزمه حد القذف لأنه يتصور منه الزنا بها من غير زناها لاحتمال أن تكون مكرهة أو موطوءة بشبهة
ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات فجلده مائة وكان بكرا ثم سأله البينة على المرأة : فقالت : كذب والله يا رسول الله فجلده حد الفرية ثمانين والاحتمال الذي ذكره لا ينفي الحد بدليل ما لو قال : يا نائك أمه فإنه يلزمه الحد مع احتمال أن يكون فعل ذلك بشبهة وقد روي عن أبي هريرة أنه جلد رجل قال لرجل ذلك ويتخرج لنا مثل قول أبي حنبيفة بناء على ما إذا قال لامرأته : يا زانية فقالت : بك زنيت فان أصحابنا قالوا : لا حد عليها في قولها : بك زنيت لاحتمال وجود الزنا به مع كونه واطئا بشبهة ولا يجب الحد عليه لتصديقها إياه وقال الشافعي : عليه الحد دونها وليس هذا باقرار صحيح
ولنا أنها صدقته فلم يلزمه حد كما لو قالت : صدقت ولو قال : يا زانية قالت : أنت أزنى مني فقال أبو بكر : هي كالتي قبلها في
سقوط الحد عنه ويلزمها لها ههنا حد القذف بخلاف التي قبلها لأنها أضافت إليه الزنا وفي التي قبلها اضافته الى نفسها

مسالة : من قذف رجلا فلم يقم الحد حتى زنى المقذوف لم يزل الحد عن القاذف
مسألة : قال : ومن قذف رجلا فلم يقم الحد حتى زنى المقذوف لم يزل الحد عن القاذف
وبهذا قال الثوري و أبو ثور و المزني و داود وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا حد عليه لأن الشروط تعتبر استدامتها إلى حالة إقامة الحد بدليل أنه لو ارتد أو جن لم يقم الحد ولأن وجود الزنا منه يقوي قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه فأشبه الشهادة إذا طرأ الفسق بعد أدائها قبل الحكم بها
ولنا أن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب كما لو زنى بأمة ثم اشتراها أو سرق عينا فنقصت قيمتها أو ملكها وكما لو جن المقذوف بعد المطالبة وقولهم : إن الشروط تعتبر استدامتها لا يصح فان الشروط للوحوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب وقد وجب الحد بدليل أنه ملك المطالبة ويبطل بالأصول التي قسنا عليها وأما إذا جن من وجب له الحد فلا يسقط الحد وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة به فأشبه ما لو غاب من له الحد وان ارتد من له الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه وأملاكه تزول أو تكون موقوفة وفارق الشهادة فان العدالة شرط للحكم بها فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها بخلاف مسألتنا فإن العفة شرط للوجوب فلا تعتبر إلا الى حين الوجوب

فصل : حكم ما إذا وجب الحد على ذمي أو مرتد فالتحق بدار الحرب ثم عاد
فصل : ولو وجب الحد على ذمي أو مرتد فلحق بدار الحرب ثم عاد لم يسقط عنه وقال أبو حنيفة : يسقط ولنا أنه حد وجب فلم يسقط بدخول دار الحرب كما لو كان مسلما دخل بأمان

مسألة : حكم من قذف عبدا أو مشركا أو مسلما له دون عشر سنين
مسألة : قال : ومن قذف مشركا أو عبدا أو مسلما له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون التسع سنين أدب ولم يحد
قد ذكرنا أن الاسلام والحرية وادراك سن يجامع مثله في مثله شروط لوجوب الحد على قاذفه فإذا انتفى أحدها لم يجب الحد على قاذفه ولكن يجب تأديبه ردعا له عن أعراض المعصومين وكفا له عن أذاهم وحد الصبي الذي لم يجب الحد بقذفه أن يبلغ الغلام عشرا والجارية تسعا في إحدى الروايتين وقد سبق ذكر ذلك

فصل : حكم ما إذا اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف : كنت صغيرا حين قذفتك وقال المقذوف : كنت كبيرا
فصل : فان اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف : كنت صغيرا حين قذفتك وقال المقذوف : كنت كبيرا فذكر القاضي أن القول قول القاذف لأن الأصل الصغر وبراءة الذمة من الحد فإن أقام القاذف بينة أنه قذفه صغيرا وأقام المقذوف بينة أنه قذفه كبيرا وكانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخين مختلفين فهما قذفان موجب أحدهما التعزير والثاني الحد وإن بينتا تاريخا واحدا وقالت احداهما : وهو صغير وقالت الأخرى وهو كبير تعارضتا وسقطتا وكذلك لو كان تاريخ بينة المقذوف قبل تاريخ بينة القاذف

فصل : حكم من قذف من كان مشركا
مسألة : قال : ومن قذف من كان مشركا وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله وحد القاذف اذا طالب المقذوف وكذلك من كان عبدا
إنما كان كذلك لأنه قذفه في حال كونه مسلما محصنا وذلك بمقتضى وجوب لاحد عليه لعموم الآية ووجود المعنى فاذا ادعى ما يسقط الحد عنه لم يقبل منه كما لو قذف كبيرا ثم قال : أردت أنه زنى وهو صغير فأما إن قال له : زنيت في شركك فلا حد عليه وبه قال الزهري و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى وعن مالك أنه يحد وبه قال الثوري لأن القذف وجد في حال كونه محصنا
ولنا أنه أضاف القذف الى حال ناقصة أشبه ما لو قذفه في حال الشرك ولأنه قذفه بما لا يوجب الحد على المقذوف فأشبه ما لو قذفه بالوطء دون الفرج وهكذا الحكم لو قذف من كان رقيقا فقال : زنيت فيء حال رقك أو قال : زنيت وأنت طفل وإن قال : زنيت وأنت صبي أو صغير وسئل عن الصغر فان فسره بصغر لا يجامع في مثله فهي كالتي قبلها وإن فسره بصغر يجامع في مثله فعليه الحد في إحدى الروايتين وان قال : زنيت إذ كنت مشركا أو إذ كنت رقيقا فقال المقذوف : ما كنت مشركا ولا رقيقا نظرنا فإن ثبت أنه كان مشركا أو رقيقا فهي كالتي قبلها وإن ثبت أنه لم يكن رقيقا كذلك وجب الحد على القاذف وإن لم يثبت واحد منهما ففيه روايتان :
إحداهما : يجب الحد لأن الأصل عدم الشرك والرق ولأن الأصل الحرية واسلام أهل دار الاسلام والثانية القول قول القاذف لأن الأصل براءة ذمة القاذف وإن قال : زنيت وأنت مشرك فقال المقذوف : أردت قذفي بالزنا والشرك معا وقال القاذف : بل أردت قذفك بالزنا إذ كنت مشركا فالقول قول القاذف اختاره أبو الخطاب وهو قول بعض الشافعية لأن الخلاف في بينته وهو أعلم بها وقوله : وأنت مشرك مبتدا وخبر وهو حال لقوله : زنيت كقول الله تعالى : { إلا استمعوه وهم يلعبون } وقال القاضي : يجب الحد وهو قول بعض الشافعية لأن قوله : زنيت خطاب في الحال فالظاهر أنه أراد زناه في الحال وهكذا إن قال : زنيت وأنت عبد وإن قذف مجهولا وادعى أنه رقيق أو مشرك فقال المقذوف : بل أنا حر مسلم فالقول قوله وقال أبو بكر : القول قول القاذف في الرق لأن الأصل براءة ذمته من الحد وهو يدرأ بالشبهات وما ادعاه محتمل فيكون شبهة وعن الشافعي كالوجهين
ولنا ان الأصل الحرية وهو الظاهر فلم يلتفت الى ما خالفه كما لو فسر صريح القذف بما يحيله وكما لو ادعى أنه مشرك فان قيل الإسلام يثبت بقوله : أنا مسلم : بخلاف الحرية قلنا : إنما يثبت الاسلام بقوله في المستقبل وأما الماضي فلا يثبت بما جاء بعده فلا يثبت كونه مسلما حال القذف بقوله في حال النزاع فاستويا

مسألة : يحد من قذف الملاعنة
مسألة : قال : ويحد من قذف الملاعنة
نص أحمد على هذا وهو قول ابن عمر وابن عباس و الحسن و الشعبي و طاوس و مجاهد و مالك و الشافعي وجمهور الفقهاء ولا نعلم فيه خلافا وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في الملاعنة أن لا ترمى ولا يرمى ولدها فعليه الحد رواه أبو داود ولأن حصانتها لم تسقط باللعان ولا يبت الزنا به ولذلك لم يلزمها به حد ومن قذف ابن الملاعنة فقال : هو ولد زنا فعليه الحد للخبر والمعنى وكذلك إن قال : هو من الذي رميت به فأما إن قال : ليس هو ابن فلان يعني الملاعن واراد أنه منفي عنه شرعا فلا حد عليه لأنه صادق

فصل : إن ثبت زناه فلا حد على قاذفه لأنه صادق
فصل : فأما إن ثبت زناه ببينة أو إقرار أو حد بالزنا فلا حد على قاذفه لأنه صادق ولأن احصان المقذوف قد زال بالزنا ولو قال لمن زنى في شركه أو لمن كان مجوسيا تزوج بذات محرمه بعد أن أسلم : يا زاني فلا حد عليه إذا فسره بذلك وقال مالك : عليه الحد لأنه قذف مسلما لم يثبت زناه في اسلامه
ولنا أنه قذف من ثبت زناه أشبه ما لو ثبت زناه في الاسلام ولأنه صادق والذي يقتضيه كلام الخرقي وجوب الحد عليه لقوله ومن قذف من كان مشركا وقال أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت الى قوله وحد

مسألة : إذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأمة حية
مسألة : قال : وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأم في الحياة
وإن قذفت أمة وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرا مسلما أما اذا قذفت وهي في الحياة فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها فلا يطالب به غيرها ولا يقوم غيرها مقامها سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص وتعتبر حصانتها لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد وأما إن قذفت وهي ميتة فان لولدها المطالبة لأنه قدح في نسبه ولأنه بقذف امه ينسبه الى أنه من زنا ولا يستحق ذلك بطريق الارث ولذلك تعتبر الحصانة فيه ولا تعتبر الحصانة في أمه لأن القذف له وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال وهو قول أصحاب الرأي لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة فأشبه قذف المجنون وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة وينقسم بانقسام الميراث وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه لأنه ليس بمحصن فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف محصنا حيا ولا ميتا لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه بعد موته أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في الملاعنة : [ ومن رمى ولدها فعليه الحد ] يعني من رماه بأنه ولد زنا وإذا وجب بقذف ابن الملاعنة بذلك فبقذف غيره أولى ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين أو كانا ميتين والحد إنما وجب للولد لأن الحد لا يورث عندهم فأما ان قذفت أمه بعد موتها وهو مشرك أو عبد فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك وأبواه حران مسلمان فعليه الحد وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد لست لأبيك فعليه الحد وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر احصانها دون احصانه لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ولأن معنى هذا أن أمك زنت فاتت بك من الزنا فإذا كان من الزنا منسوبا اليها كانت هي المقذوفة دون ولدها
ولنا ما ذكرناه ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد لأن الكافر لا يرث المسلم والعبد لا يرث المسلم والعبد لا يرث الحر ولأنهم لا يوجبون الحد بقذف ميتة بحال فيثبت أن القذف له فيعتبر احصانه دون احصانها والله أعلم

فصل : حكم المطالبة بحد قذف الجدة
فصل : وإن قذفت جدته فقياس قول الخرقي أنه كقذف أمه إن كانت حية فالحق لها ويعتبر احصانها وليس لغيرها المطالبة عنها وإن كانت ميتة فله المطالبة إذا كان محصنا لأن ذلك قدح في نسبه فأما إن قذف أباه أو جده أو أحدا من أقاربه غير أمهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه في ظاهر كلام الخرقي لأنه إنما أوجب بقذف أمه حقا له لنفي نسبه لاحقا للميت ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر إحصان الولد ومتى كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلم يجب الحد وهذا قول أبي بكر وأصحاب الرأي وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة به وينقسم انقسام الميراث لأنه قذف محصنا فيجب الحد على قاذفه كالحي
ولنا أنه قذف من لا يتصور منه المطالبة فلم يجب الحد بقذفه كالمجنون او نقول قذف من لا يجب الحد له فلم يجب كقذف غير المحصن وفارق قذف الحي فان الحد يجب له

مسألة : من قذف أم النبي قتل مسلما كان أو كافرا
مسألة : قال : ومن قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلما كان أو كافرا
يعني أن حده القتل ولا تقبل توبته نص عليه أحمد وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أن توبته تقبل وبه قال أبو حنيفة و الشافعي مسلما كان أو كافرا لأن هذا منه ردة والمرتد يستتاب وتصح توبته ولنا أن هذا حد قذف فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه و سلم ولأأنه لو قبلت توبته وسقط حده لكان أخف حكما من قذف آحاد الناس لأن قذف غيره لا يسقط بالتوبة ولا بد من إقامته واختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا كان القاذف كافرا فأسلم فروي أنه لا يسقط باسلامه لأنه حد قذف فلم يسقط بالاسلام كقذف غيره وروي أنه يسقط لأنه لو سب الله تعالى في كفره ثم أسلم سقط عنه القتل فسب نبيه أولى ولأن الاسلام يجب ما قبله والخلاف في سقوط القتل عنه فأما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة فإن الله تعالى يقبل التوبة من الذنوب كلها والحكم في قذف النبي صلى الله عليه و سلم كالحكم في قذف أمه لأن قذف أمه إنما أوجب القتل لكونه قذفا للنبي صلى الله عليه و سلم وقدحا في نسبه

فصل : قذف النبي وقذف أمه ردة عن الإسلام
فصل : وقذف النبي صلى الله عليه و سلم وقذف أمه ردة عن الاسلام وخروج عن الملة وكذلك سبه بغير القذف إلا ان سبه بغير القذف يسقط بالاسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالاسلام فسب النبي صلى الله عليه و سلم أولى وقد جاء في الأثر : [ إن الله تعالى يقول : شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ] لا خلاف في أن إسلام النصراني القائل لهذا القول يمحو ذنبه

مسألة : قذف الجماعة بكلمة واحدة فيه حد واحد
مسألة : قال : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد اذا طالبوا أو واحد منهم
وبهذا قال طاوس و الشعبي و الزهري و النخعي و قتادة و حماد و مالك و الثوري و أبو حنيفة وصاحباه و ابن أبي ليلى و اسحاق وقال الحسن و و أبو ثور و ابن المنذر لكل واحد حد كامل وعن أحمد مثل ذلك و للشافعي قولان كالروايتين ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ولأن الحد إنما وجب بادخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفى به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا مفردا فان كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في آخر ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر فإذا ثبت هذا فانهم ان طلبوه جملة حد لهم وإن طلبه واحد أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفى وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها تزويجها إذا قام به واحد سقط عن الباقين وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه لأن المعرة عنه لم تزل بعفو صاحبه وليس للعافي الطلب به لأنه قد أسقط حقه منه
وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى : أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد وكذلك إن طلبوه واحدا بعدواحد إلا أنه إن لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد وإن طلبه واحد فأقيم له ثم طلبه آخر أقيم له وكذلك جميعهم وهذا قول عروة لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع استيفاؤه بجميعهم وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ولا إسقاطهم

فصل : حكم من قذف الجماعة بكلمات
فصل : وان قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد وبهذا قال عطاء و الشعبي و قتادة و ابن أبي ليلى و أبو حنيفة و الشافعي وقال حماد و مالك : لا يجب إلا حد واحد لأنها جناية توجب حدا فاذا تكررت كفى حد واحد كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء أو شرب أنواعا من المسكر
ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص وفارق ما قاسوا عليه فانه حق لله تعالى

فصل : حكم من قال لرجل : يا ابن الزانيين
فصل : وإذا قال لرجل : يا ابن الزانيين فهو قاذف لهما بكلمة واحدة فإن كانا ميتين ثبت الحق لولدهما ولم يجب إلا حد واحد وجها واحدا وإن قال : يا زاني ابن الزاني فهو قذف لهما بكلمتين فإن كان أبوه حيا فلكل واحد منهما حد وان كان ميتا فالظاهر في المذهب أنه لا يجب الحد بقذفه وإن قال : يا زاني ابن الزانية وكانت أمه في الحياة فلكل واحد حد وان كانت ميتة فالقذفان جميعا له وإن قال : زنيت بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة وكذلك إذا قال : يا ناكح أمه ويخرج فيه الروايات الثلاث والله أعلم

فصل : حكم ما لو قذف رجلا مرات
فصل : وان قذف رجلا مرات فلم يحد فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت فان قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه في قول عامة أهل العلم وحكي عن ابن القاسم أنه أوجب حدا ثانيا وهذا يخالف اجماع الصحابة فان أبا بكر لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا حدا ثانيا فروى الأثرم عن ظبيان بن عمارة قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال : شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة وجاء زياد فقال : ما عندك ؟ فلم يثبت فأمر بهم فجلدوا وقال : شهود زور فقال أبو بكرة : أليس ترضى أن أتاك رجل عدل يشهد برجمه ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده فقال أبو بكرة : وأنا أشهد أنه زان فأراد أن يعيد عليه الجلد فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الجلد أوجبت عليه الرجم وفي حديث آخر فلا يعاد في فرية جلد مرتين
قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله قول علي : إن جلدته فاجم صاحبك قال : كأنه جعل شهادته شهادة رجلين قال أبو عبد الله : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال : يقول اذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر فأما إن حد له ثم قذفه بزنا ثان نظرت فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة الى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان :
إحداهما : يحد أيضا لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ولأن سائر أشباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للاول ثبت للثاني حكمه كالزنا والسرقة وايرهما من الاسباب والثانية لا يحد لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقبه كما لو قذفها بالزنا الأول

فصل : من قال : من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل
فصل : وإذا قال : من رماني فهو ابن زانية فرماه رجل فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم وكذلك إن اختلف رجلان في شيء فقال احدهما : الكاذب هو ابن الزانية فلا حد عليه نص عليه أحمد لأنه لم يعين أحدا بالقذف وكذلك ما أشبه هذا ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنا كلهم لم يكن عليه حد لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه

فصل : حكم من ادعى على رجل أنه قذفه فأنكر
فصل : وان ادعى على رجل أنه قذفه فأنكر لم يستحلف وبه قال الشعبي و حماد و الثوري وأصحاب الرأي وعن أحمد رحمه الله أنه يستحلف حكاها ابن المنذر وهو قول الزهري و مالك ؟ و الشافعي و اسحاق و أبي ثور و ابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق لآدمي فيستحلف فيه كالدين ووجه الأولى أنه حد فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة فان نكل عن اليمين لم يقم عليه الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يقضى فيه بالنكول كسائر الحدود

مسألة : حكم من أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم
مسألة : قال : ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ الى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد
وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ثم لجأ اليه لم يستوف منه فيه وهذا قول ابن عباس و عطاء وعبيد بن عمير و الزهري و مجاهد و اسحاق و الشعبي و أبي حنيفة وأصحابه وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما لا يستوفى من الملتجىء الى الحرم فيه والثانية يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة لأن المروي عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عن القتل بقوله عليه السلام : [ فلا يسفك فيها دم ] وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي وهي ظاهر المذهب قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته حتى يخرج منه وإن هتك حرمة الحرم بالجناية فيه هتكت حرمته بإقامة الحد عليه فيه وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني وقطع السارق واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بجزية ولا دم ] وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل ابن حنظل وهو متعلق باستار الكعبة حديث حسن صحيح ولأنه حيوان أبيح دمه لعصيانه فأشبه الكلب العقور
ولنا قول الله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } يعني الحرم بدليل قوله : { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } والخبر أريد به الأمر لأنه لو أريد به الخبر لأفضى الى وقوع الخبر خلاف المخبر وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يحل لإمرىء مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرة فان احد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت الى حرمتها فلا يسفك فيها دم ] متفق عليهما فالحجة فيه من وجهين : أحدهما أنه حرم سفك الدم بها على الاطلاق وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم يختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا والثاني قوله : [ إنما حلت لي ساعةمن نهار ثم عادت حرمتها ] ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير دم الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به فيه بقوله : [ فان احد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ] وهذا يدفع ما احتجوا به من قتل بن حنظل فانه من رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي منع الناس أن يقتدوا به فيها وبين أنها له على الخصوص وما رووه من الحديث فهو من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حين روى له أبو شريح هذا الحديث وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن يتبع وأما جلد الزاني وقطع السارق والأمر بالقصاص فانما هو مطلق في الأمكنة والأزمنة فانه يتناول مكانا غير معين ضرورة أنه لا بد من مكان فيمكن إقامته في مكان غير الحرم ثم لو كان عموما فإن ما رويناه خاص يخص به مع أنه قد خص مما ذكروه الحامل والمريض المرجو برؤه فتأخر الحد عنه وتأخر قتل الحامل فجاز أن يخص أيضا بما ذكرناه والقياس على الكلب العقور غير صحيح فإن ذلك طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله فأما الأذى فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات فان الحرم يعصمها إذا ثبت هذا فإنه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك فإذا خرج استوفي حق الله منه وهو قول جميع من ذكرناه وإنما كان كذلك لأنه لو أطعم وأوي لتمكن من الإقامة دائما فيضيع الحق الذي عليه وإذا منع من ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله تعالى وليس علينا إطعامه كما أن الصيد لا يصاد في الحرم وليس علينا القيام به قال ابن عباس رحمه الله : من أصاب حدا ثم لجأ إلى الحرم فأنه لا يجالس ولا يبايع ولا يؤوى ويأتيه من يطلبه فيقول : أي فلان اتق الله فإذا خرج من الحرم أقيم عليه الحد رواه الأثرم فإن قتل من له عليه القصاص في الحرم وأقام حدا بجلد أو قتل أو قطع طرف أساء ولا شيء عليه لأنه استوفى حقه في حال لم يكن له استيفاؤه فيه فأشبه ما لو اقتص في شدة الحر أو برد مفرط

مسألة : حكم من قتل في الحرم أو أتى فيه حدا
مسألة : قال : ومن قتل أو أتى حدا في الحرم أقيم عليه في الحرم
وجملته ان من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حدا أو قصاصا فإنه يقام عليه حدها لا نعلم فيه خلافا وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس أنه قال : من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء وقد أمر الله تعالى بقتال من قاتل في الحرم فقال تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } فأباح قتلهم عند فتالهم في الحرم ولأن أهل الحرم يحتاجون الى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الحد في الحرم لتعطلت حدود الله تعالى في حقهم وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الإخلال بها ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض الحرم لتحريم ذمته وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجىء إليها بجناية صدرت منه في غيرها

فصل : حكم حرم المدينة
فصل : فأما حرم مدينة النبي صلى الله عليه و سلم فلا يمنع إقامة حد ولا قصاص لأن النص إنما ورد في حرم الله تعالى وحرم المدينة دونه في الحرمة فلا يصح قياسه عليه وكذلك سائر البقاع لا تمنع من استيفاء حق ولا إقامة حد لأن أمر الله تعالى باستيفاء الحقوق وإقامة الحد مطلق في الأمكنة والأزمنة خرج منها الحرم لمعنى لا يكفي في غيره لأنه محل الإنساك وقبلة المسلمين وفيه بيت الله المحجوج وأول بيت وضع للناس ومقام ابراهيم وآيات بينات فلا يلتحق به سواه ولا يقاس عليه ما ليس في معناه والله أعلم

باب القطع في السرقة
والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وأما السنة فروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ] متفق عليهما في اخبار سوى هذين نذكرها إن شاء الله تعالى في مواضعها وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة

مسألة : إذا سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو قيمة ثلاثة دراهم وأخرجه من الحرز قطع وشروط القطع السبعة
مسألة : قال : أبو القاسم رحمه الله : وإذا سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو قيمة ثلاثة دراهم طعاما كان أو غيره وأخرجه من الحرز قطع
وجملته أن القطع لا يجب إلا بشروط سبعة :
أحدها : السرقة ومعنى السرقة أخذ المال على وجه الخفية والاستتار ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك فان اختطف أو اختلس لم يكن سارقا ولا قطع عليه عند أحد علمناه غير إياس بن معاوية قال : أقطع المختلس لأنه يستخفي بأخذه فيكون سارقا وأهل الفقه والفتوى من علماء الامصار على خلافه وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس على الخائن ولا المختلس قطع ] وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس على المنتهب قطع ] رواهما أبو داود وقال : لم يسمعهما ابن جريح من أبي الزبير ولأن الواجب قطع السارق وهذا غير سارق ولأن الاختلاس نوع من الخطف والنهب وإنما يستخفي في ابتداء اختلاسه بخلاف السارق
واختلفت الرواية عن أحمد في جاحد العارية فعنه عليه القطع وهو قول إسحاق لما [ روي عن عائشة أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الا أراك تكلمني في حد من حدود الله تعالى ؟ ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و سلم لقطعت يدها قالت : فقطع يدها ] قال أحمد لا أعرف شيئا يدفعه متفق عليه وعنه لا قطع عليه وهو قول الخرقي و أبي اسحاق بن شاقلا و أبي الخطاب وسائر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع على الخائن ] ولأن الواجب قطع السارق والجاحد غير سارق وإنما هو خائن فأشبه جاحد الوديعة والمرأة التي كانت تستعير المتاع إنما قطعت لسرقتها لا بجحدها ألا ترى قوله : [ إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه - وقوله - والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ] وفي بعض ألفاظ رواية هذه القصة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت وذكرت القصة رواه البخاري وفي حديث أنها سرقت قطيفة فروى الأثرم باسناده عن مسعود بن الاسود قال : [ لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش فجئنا الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا : نحن نفديها باربعين اوقية قال : تطهر خير لها فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أتينا أسامة فقلنا : كلم لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الحديث ] نحو سياق عائشة وهذ ظاهر في أن القصة واحدة وأنها سرقت فقطعت بسرقتها وإنما عرفتها عائشة بجحدها للعارية لكونها مشهورة بذلك ولا يلزم أن يكون ذلك سببا كما لو عرفتها بصفة من صفاتها فيما ذكرنا جمع بين الأحاديث وموافقة لظاهر الأحاديث والقياس وفقهاء الأمصار فيكون أولى فأما جاحد الوديعة وغيرها من الأمانات فلا نعلم أحدا يقول بوجوب القطع عليه
الشرط الثاني : أن يكون المسروق نصابا ولا قطع في القليل في قول الفقهاء كلهم إلا الحسن و داود و ابن بنت الشافعي والخوارج قالوا : يقطع في القليل والكثير لعموم الآية ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده ] متفق عليه ولأنه سارق من حرز فتقطع يده كسارق الكثير
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] متفق عليه وإجماع الصحابة على ما سنذكره وهذا يخص عموم الآية والحبل يحتمل أن يساوي ذلك وكذلك البيضة يحتمل أن يراد بها بيضة السلاح وهي تساوي ذلك
واختلفت الرواية عن أحمد في قدر النصاب الذي يجب القطع بسرقته فروى عنه أبو اسحاق الجوزجاني أنه ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما وهذا قول مالك و إسحاق
وروى عنه الأثرم أنه إن سرق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع فعلى هذا يقوم غير الأثمان بأدنى الأمرين من ربع دينار أو ثلاثة دراهم وعنه أن الأصل الورق ويقوم الذهب به فان نقص ربع دينار عن ثلاثة دراهم لم يقطع سارقه وهذا يحكىة عن الليث و أبي ثور وقالت عائشة : لا قطع الا في ربع دينار فصاعدا وروي هذا عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] وقال عثمان البتي : تقطع اليد في درهم فما فوقه وعن أبي هريرة و أبي سعيد أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا وعن عمر أن الخمس لا تقطع إلا في الخمس وبه قال سليمان بن يسار و ابن أبي ليلى وابن شبرمة وروي ذلك عن الحسن وقال أنس : قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم رواه الجوزجاني باسناده وقال عطاء و أبو حنيفة وأصحابه لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم لما روى الحجاج بن أرطأة عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قطع إلا في عشرة دراهم ] وروى ابن عباس قال : [ قطع رسول الله صلى الله عليه و سلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم ] وعن النخعي : لا تقطع اليد إلا في أربعين درهما
ولنا ما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ] متفق عليه قال ابن عبد البر : هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يحتلف أهل العلم في ذلك وحديث أبي حنيفة الأول يرويه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف والذي يرويه عن الحجاج ضعيف أيضا والحديث الثاني لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه فان من أوجب القطع بثلاثة دراهم أوجبه بعشرة ويدل هذا الحديث على أن العرض يقوم بالدراهم لأن المجن قوم بها ولأن ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات وقد روى أنس أن سارقا سرق مجنا ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم أو ما يساوي ثلاثة دراهم فقطعه أبو بكر وأتي عثمان برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فاقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع

فصل : حكم ما إذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص
فصل : وإذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص ففيه القطع وإن كان فيه غش أو تبر يحتاج إلى تصفية لم يجب القطع حتى يبلغ ما فيه من الذهب ربع دينار لأن السبك ينقصه وإن سرق ربع دينار قراضة أو تبرا خالصا أو حليا ففيه القطع نص عليه أحمد في رواية الجوزجاني قال : قلت له : كيف يسرق ربع دينار ؟ فقال : قطعة ذهب أو خاتما أو حليا وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي وذكر القاضي في وجوب القطع احتمالين : أحدهما لا قطع عليه وهو قول بعض أصحال الشافعي لأن الدينار اسم للمضروب
ولنا أ ذلك ربع دينار لأنه يقال دينار قراضة ومكسر أو دينار خالص ولأنه لا يمكنه سرقة ربع دينار مفرد في الغالب إلا مكسورا وقد أوجب عليه القطع بذلك ولأنه حق لله تعالى تعلق بالمضروب فتعلق بما ليس بمضروب كالزكاة والخلاف فيما اذا سرق من المكسور والتبر ما لا يساوي ربع دينار صحيح فإن بلغ ذلك ففيه القطع والدينار هو المثقال من مثاقيل الناس اليوم وهو الذي كل سبعة منها عشرة دراهم وهو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقبله ولم يتغير وإنما كانت الدراهم مختلفة فجمعت وجعلت كل عشرة منها سبعة مثاقيل فهي التي يتعلق القطع بثلاثة منها إذا كانت خالصة مضروبة كانت أو غير مضروبة على ما ذكرناه في الذهب وعند أبي حنيفة أن النصاب إنما يتعلق بالمضروب منها وقد ذكر ما دل عليه ويحتمل ما قاله في الدراهم لأن إطلاقها يتناول الصحاح المضروبة بخلاف ربع الدينار على أننا قد ذكرنا فيها احتمالا متقدما فههنا أولى وما قوم من غيرهما بهما فلا قطع فيه حتى يبلغ ثلاثة دراهم صحاحا لأن اطلاقها ينصرف الى المضروب دون المكسر
الشرط الثالث : أن يكون المسروق مالا فان سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيرا كان أو كبيرا وبهذا قال الشافعي و الثوري و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال الحسن و الشعبي و مالك و اسحاق : يقطع بسرقة الحر الصغير لأنه غير مميز أشبه العبد وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد
ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم إذا ثبت هذا فانه إن كان عليه حلي أو ثياب تبلغ نصابا لم يقطع وبه قال أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي وذكر أبو الخطاب وجها آخر أنه يقطع وبه قال أبو يوسف و ابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه سرق نصابا من الحلي فوجب فيه القطع كما لو سرقه منفردا
ولنا أنه تابع لما لا قطع في سرقته أشبه ثياب الكبير ولأن يد الصبي على ما عليه بدليل أن ما يوجد مع اللقيط يكون له وهكذا لو كان الكبير نائما على متاع فسرقه ومتاعه لم يقطع لأن يده عليه

فصل : حكم ما لو سرق عبدا صغيرا
فصل : وإن سرق عبدا صغيرا فعليه القطع في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم الحسن و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو حنيفة و محمد والصغير الذي يقطع بسرقته هو الذي لا يميز فإن كان كبيرا لم يقطع سارقه إلا أن يكون نائما أو مجنونا أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره في الطاعة فيقطع سارقه وقال أبو يوسف : لا يقطع سارق العبد وإن كان صغيرا لأن من لا يقطع بسرقته كبيرا لا يقطع بسرقته صغيرا كالحر
ولنا أنه سرق مالا مملوكا فيمته نصابا فوجب القطع عليه كسائر الحيوانات وفارق الحر فإنه ليس بمال ولا مملوك وفارق الكبير لأن الكبير لا يسرق وإنما يخدع بشيء إلا أن يكون في حال زوال عقله بنوم أو جنون فتصح سرقته ويقطع سارقه فإن كان المسروق في حال نومه أو جنونه أم ولد ففي قطع سارقها وجهان :
أحدهما : لا يقطع لأنها لا يحل بيعها ولا نقل الملك فيها فأشبهت الحرة
والثاني : يقطع لأنها مملوكة ن تضمن بالقيمة فأشبهت القن وحكم المدبر حكم القن لأنه يجوز بيعه ويضمن بقيمته فأما المكاتب فلا يقطع سارقه لأن ملك سيده ليس بتام عليه لكونه لا يملك منافعه ولا استخدامه ولا أخذ ارش الجناية عليه ولو جنى السيد عليه لزمه له الارش ولو استوفى منافعه كرها لزمه عوضها ولو حبسه لزمه أجرة مثله مدة حبسه أو إنظاره مقدار مدة حبسه ولا يجب القطع لأجل ملك المكاتب في نفسه لأن الإنسان لا يملك نفسه فأشبه الحر وإن سرق من مال المكاتب شيئا فعليه القظع لأن ملك المكاتب ثابت في مال نفسه إلا أن يكون السارق سيده فلا قطع عليه لأن له في ماله حقا وشبهة تدرأ الحد ولذلك لو وطئ جاريته لم يحد

فصل : حكم ما لو سرق ماء أو كلأ أو ملحا
فصل : وإن سرق ماء فلا قطع فيه قاله أبو بكر و لأبو اسحاق بن شاقلا لأنه مما لا يتمول عادة ولا أعلم في هذا خلافا وإن سرق كلأ او ملحا فقال أبو بكر : لا قطع فيه لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه فأشبه الماء
وقال أبو اسحاق بن شاقلا : فيه القطع لأنه يتمول عادة فأشبه التبن والشعير وأما الثلج فقال القاضي : هو كالماء لأنه ماء جامد فأشبه الجليد والأشبه أنه كالملح لانه يتمول عادة فهو كالملح المنعقد من الماء وأما التراب فان كان مما تقل الرغبات فيه كالذي يعد للتطيين والبناء فلا تقطع فيه لانه لا يتمول وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الأرمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسل به أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين :
احدهما : لا قطع فيه لأنه من جنس لا يتمول أشبه الماء
والثاني : فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل الى البلدان للتجارة فيه فأشبه العود الهندي ولا يقطع بسرقة السرجين لأنه إن كان نجسا فلا قيمة له وإن كان طاهرا فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات فيه فاشبه التراب الذي للبناء وما عمل من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لانه يتمول عادة

فصل : حكم ما لا سرق أموالا غير الواردة في المسلألة والفصول السابقة
فصل : وما عدا هذا من الأموال ففيه القطع سواء كان طعاما أو ثيابا أو حيوانا أو أحجارا أو قصبا أو صيدا أو نورة أو جصا أو زرنيخا أو توابل أو فخارا أو زجاجا أو غيره وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة : لا قطع على سارقالطعام الرطب الذي يتسارع اليه الفساد كالفواكه والطبائخ لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع في ثمر ولا كثر ] رواه أبو داود ولأن هذا معرض للهلاك أشبه ما لم يحرز ولا قطع فيما كان أصله مباحا في دار الإسلام كالصيود والخشب إلا في الساج والابنوس والصندل والقنا والمعمول من الخشب فانه يقطع به وما عدا هذا لا يقطع به لأنه يوجد كثيرا مباحا في دار اللاسلام فأشبه التراب ولا قطع في القرون ولإن كانت معمولة لأن الصنعة لا تكون غالبة عليها بل القيمة لها بخلاف معمول الخشب ولا قطع عنده في التوابل والنورة والجص والزرنيخ والملح والحجارة واللبن والفخار والزجاج وقال الثوري : ما يفسد في يومه كالثريد واللحم لا قطع فيه
ولنا عموم قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الثمر المعلق فذكر الحديث ثم قال : ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ] رواه أبو داود وغيره وروي أن عثمان رضي الله عنه أتي برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فأقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع رواه سعيد ولأن هذا مال يتمول في العادة ويرغب فيه فيقطع سارقه إذا اجتمعت الشروط كالمجفف ولأن ما وجب القطع في معموله وجب فيه قبل العمل كالذهب والفضة وحديثهم أراد به الثمر المعلق بدليل حديثنا فانه مفسر له وتشبيهه بغير المحرز لا يصح لأن غير المحرز مضيع وهذا محفوظ ولهذا افترق سائر الأموال بالحرز وعدمه وقولهم : يوجد مباحا في دار الاسلام ينتقض بالذهب والفضة والحديد والنحاس وسائر المعادن والتراب قد سبق القول فيه

فصل : حكم ما لو سرق مصحفا أو كتابا فيه علم
فصل : فان سرق مصحفا فقال أبو بكر و القاضي : لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه واختار أبو الخطاب وجوب قطعه وقال : هو ظاهر كلام أحمد فإنه سئل عمن سرق كتابا فيه علم لينظر فيه فقال : كل ما بلغت قيمته ثلاثة دراهم فيه القطع وهذا قول مالك و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لعموم الآية في كل سارق ولأنه متقوم تبلغ قيمته نصابا فوجب القطع بسرقته ككتب الفقه ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب القطع بسرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية فإن كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصابا خرج فيه وجهان عند من لم ير القطع بسرقة المصحف : أحدهما لا يقطع وهذا قياس قول أبي إسحاق بن شاقلا ومذهب أبي حنيفة لأن الحلى تابعة لما لا يقطع بسرقته أشبهت ثياب الحر والثاني يقطع وهو قول القاضي لأنه سرق نصابا من الحلي فوجب قطعه كما لو سرقه منفردا وأصل هذين الوجهين من سرق صبيا عليه حلي

فصل : حكم ما لو سرق عينا موقوفة
فصل : وإن سرق عينا موقوفة وجب القطع عليه لأنها مملوكة للموقوف عليه ويحتمل أن لا يقطع بناء على الوجه الذي يقول : إن الموقوف لا يملكه الموقوف عليه
الشرط الرابع : أن يسرق من حرز ويخرجه منه وهذا قول أكثر أهل العلم وهذا مذهب عطاء و الشعبي و أبي الاسود الدؤلي وعمر بن عبد العزيز و الزهري وعمرو بن دينار و الثوري و مالك و الشافعي و أصحاب الرأي ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم إلا قولا حكي عن عائشة و الحسن و النخعي فيمن جمع المتاع ولم يخرج من الحرز عليه القطع وعن الحسن مثل قول الجماعة وحكي عن داود انه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه
قال ابن المنذر : وليس فيه خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه فهو كالاجماع والاجماع حجة على من خالفه وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الثمار فقال : ما أخذ في غير اكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه وما كان في الخزائن ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ] رواه أبو داود و ابن ماجة وغيرهما وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب إذا ثبت اعتبار الحرز والحرز ما عد حرزا في العرف فانه لم ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى أهل العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فيرجع إليه كما رجعنا اليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك
إذا ثبت هذا فان من حرز الذهب والفضة والجواهر الصناديق تحت الاغلاق والاقفال الوثيقة في العمران وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران أو يكون فيها حافظ فيكون حرزا وإن كانت نفتوحة وان لم تكن مغلقة ولا فيها حافظ فليست بحرز وإن كانت فيها خزائن مغلقة فالخزائن حرز لما فيها وما خرج عنها فليس بمحرز وقد روي عن أحمد في البيت الذي ليس عليه غلق يسرق منه أراه : سارقا وهذا محمول على أن أهله فيه فأما البيوت التي في البساتين أو الطرق أو الصحراء فان لم يكن فيها أحد فليست حرزا سواء كانت مغلقة أو مفتوحة لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران وانصرف عنه لا يعد حافظا له وإن أغلق عليه وان كان فيها أهلها أو حافظ فهي حرز سواء كانت مغلقة أو مفتوحة وإذا كان لابسا للثوب أو متوسدا له نائما أو مستيقظا أو مفترشا له أو متكئا عليه في أي موضع كان من البلد أو برية فهو محرز بدليل أن رداء صفوان سرق وهو متوسد له فقطع النبي صلى الله عليه و سلم سارقه وإن تدحرج عن الثوب زال الحرز إن كان نائما وإن كان الثوب بين يديه أو غيره من المتاع كبز البزازين وقماش الباعة وخبز الخبازين بحيث يشاهده وينظر اليه فهو محرز وإن نام أو كان غائبا عن موضع مشاهدته فليس بمحرز وان جعل المتاع في الغرائر وعلم عليها ومعها حافظ يشاهدها فهي محرزة وإلا فلا

فصول : في سرقات مختلفة وأحكامها
فصل : والخيمة والخركاه إن نصبت وكان فيها أحد نائما أو منتبها فهي محرزة وما فيها لأنها هكذا تحرز في العادة وان لم يكن فيها أحد ولا عندها حافظ فلا قطع على سارقها وممن أوجب القطع في السرقة من الفسطاط الثوري و الشافعي و اسحاق وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا : يقطع السارق من الفسطاط دون سارق الفسطاط ولنا أنه محرز بما جرت به العادة أشبه ما فيه
فصل : وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوها بالشرائح من القصب أو الخشب إذا كان في السوق حارس وحرز الخشب والحطب والقصب في الحظائر وتعبئة بعضه على بعض وتقليده بقيد بحيث يعسر أخذ شيء منه على ما جرت به العادة إلا أن يكون في فندق مغلق عليه فيكون محرزا وإن لم يقيد
فصل : والإبل على ثلاثة أضرب : باركة وراعية وسائرة فأما الباركة فإن كان معها حافظ لها وهي معقولة فهي محرزة وإن لم تكن معقولة وكان الحافظ ناظرا إليها أو مستيقظا بحيث يراها فهي محرزة وإن كان نائما أو مشغولا عنها فليست محرزة لأن العادة أن الرعاة إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم ولأن حل المعقولة ينبه النائم والمشتغل وإن كان لم يكن معها أحد فهي غير محرزة سواء كانت معقولة أو لم تكن وأما الراعية فحرزها بنظر الراعي إليها فما غاب عن نظره أو نام عنه فليس بمحرز لأن الراعية إنما تحرز بالراعي ونظره وأما السائرة فان كان معها من يسوقها فحرزها نظره إليها سواء كانت مقطرة أو غير مقطرة وما كان منها بحيث لا يراه فليس بمحرز وإن كان معها قائد فحرزها ان يكثر الالتفات اليها والمراعاة لها ويكون بحيث يراها إذا التفت وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يحرز القائد إلا التي زمامها بيده لأنه يوليها ظهره ولا يراها إلا نادرا فيمكن أخذها من حيث لا يشعر
ولنا أن العادة في حفظ الابل المقطرة بمراعاتها بالالتفات وامساك زمام الاول فكان ذلك حرزا لها كالتي زمامها في يده فان سرق من احمال الجمال السائرة المحرزة متاعا قيمته نصاب قطع وكذلك إن سرق الجمل وإن سرق الجمل بما عليه وصاحبه نائم عليه لم يقطع لأنه في يد صاحبه وان لم يكن صاحبه نائما عليه قطع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأن ما في الجمل محرز به فاذا أخذ جميعه لم يهتك حرز المتاع فصار كما لو سرق أجزاء الحرز
ولنا ان الجمل محرز بصاحبه ولهذا لو لم يكن محرزا فقد سرقه من حرز مثله فاشبه ما لو سرق المتاع ولا نسلم أن سرقة الحرز من حرزه لا توجب القطع فانه لو سرق الصندوق بما فيه من بيت هو محرز فيه وجب قطعه وهذا التفصيل في الابل التي في الصحراء فأما التي في البيوت والمكان المحصن على الوجه الذي ذكرناه في الثياب فهي محرزة والحكم في سائر المواشي كالحكم في الابل على ما ذكرناه من التفصيل فيها
فصل : وإذا سرق من الحمام ولا حافظ فيه فلا قطع عليه في قول عامتهم وإن كان ثم حافظ فقال أحمد : ليس على سارق الحمام قطع وقال في رواية ابن منصور : لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع قاعد مثل ما صنع بصفوان وهذا قول أبي حنيفة لأنه مأذون للناس في دخوله فجرى مجرى سرقة الضيف من البيت المأذون له في دخوله ولأن دخول الناس إليه يكثر فلا يتمكن الحافظ من حفظ ما فيه قال القاضي : وفيه رواية أخرى أنه يجب القطع إذا كان فيه حافظ وهو قول مالك و الشافعي و اسحاق و أبي ثور و ابن المنذر لأنه متاع له حافظ فيجب قطع سارقه كما لو كان في بيت والاول أصح وهذا يفارق ما في البيت من الوجهين الذين ذكرناهما فاما ان كان صاحب الثياب قاعدا عليها أو متوسدا لها أو جالسا وهي بين يديه يحفظها قطع سارقها بكل حال كما قطع سارق رداء صفوان من المسجد وهو متوسد له وكذلك إن كان نائب صاحب الثياب إما الحمامي وإما غيره حافظا لها على هذا الوجه قطع سارقها لانها محرزة وإن لم تكن كذلك فقال القاضي : إن نزع الداخل ثيابه على ما جرت به العادة ولم يستحفظها لأحد فلا قطع على سارقها ولا غرم على الحمامي لانه غير مودع فيضمن ولا هي محرزة فيقطع سارقها وإن استحفظها الحمامي فهو مودع يلزمه مراعاتها بالنظر والحفظ فان تشاغل عنها أو ترك النظر اليها فسرقت فعليه الغرم لتفريطه ولا قطع على السارق لأنه لم يسرق من حرز وان تعاهدها الحمامي بالحفظ والنظر فسرقت فلا غرم عليه لعدم تفريطه وعلى السارق القطع لانها محرزة وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب احمد انه لا قطع عليه في هذه الصورة لما تقدم قال ابن المنذر : قال أحمد : أرجو أن لا قطع عليه لأنه مأذون للناس في دخوله ولو استحفظ رجل آخر متاعه في المسجد فسرق فان كان قد فرط في مراعاته ونظره اليه فعليه الغرم إذا كان التزم حفظه واجابه الى ما سأله وإن لم يجبه لكن سكت لم يلزمه غرم لانه ما قبل الاستيداع ولا قبض المتاع ولا قطع على السارق في الموضعين لأنه غير محرز وان حفظ المتاع بنظره اليه وقربه منه فسرق فلا ظلم عليه وعلى السارق القطع لانه سرق من حرز ويفارق المتاع في الحمام فان الحفظ فيه غير ممكن لأن الناس يضع بعضهم ثيابه عند ثياب بعض ويشتبه على الحمامي صاحب الثياب فلا يمكنه منع أخذها لعدم علمه بمالكها
فصل : وحرز حائط الدار كونه مبنيا فيها اذا كانت في العمران أو كانت في الصحراء وفيها حافظ فان أخذ من أجزاء الحائط أو خشبه نصابا في هذه الحال وجب قطعه لأن الحائط حرز لغيره فيكون حرزا لنفسه وان هدم الحائط ولم يأخذه فلا قطع عليه فيه كما لو أتلف المتاع في الحرز ولم يسرقه فإن كانت الدار بحيث لا تكون حرزا لما فيها كدار في الصحراء لا حافظ فيها فلا قطع على من أخذ من حائطها شيئا لأنها إذا لم تكن حرزا لما فيها فلنفسها أولى وأما باب الدار فان كان منصوبا في مكانه فهو محرز سواء كان مغلقا أو مفتوحا لأنه هكذا يحفظ وعلى سارقه القطع إذا كانت الدار محرزة بما ذكرناه وأما أبواب الخزائن في الدار فان كان باب الدار مغلقا فهي محرزة سواء كانت مفتوحة أو مغلقة وإن كان مفتوحا لم تكن محرزا إلا أن تكون مغلقة أو يكون في الدار حافظ والفرق بين باب الدار وباب الخزانة أن أبواب الخزائن تحرز بباب الدار وباب الدار لا يحرز إلا بنصبه ولا يحرز بغيره وأما حلقة الباب فان كانت مسمورة فهي محرزة وإلا فلا لأنها تحرز بتسميرها
فصل : وان سرق باب مسجد منصوبا أو باب الكعبة المنصوب أو سرق من سقفه شيئا أو تأزيره ففيه وجهان :
أحدهما : عليه القطع وهو مذهب الشافعي وأبو القاسم صاحب مالك و أبي ثور و ابن المنذر لأنه سرق نصابا محرزا بحرز مثله لا شبهة له فيه فلزمه القطع كباب بيت الآدمي
والثاني : لا قطع عليه وهو قول أصحاب الرأي لانه لا مالك له من المخلوقين فلا يقطع فيه كحصر المسجد وقناديله فانه لا يقطع بسرقة ذلك وجها واحدا لكونه مما ينتفع به فيكون له فيه شبهة فلم يقطع به كالسرقة من بيت المال وقال أحمد : لا يقطع بسرقة ستارة الكعبة الخارجة منها وقال القاصي : هذا محمول على ما ليست بمخيطة لأنها إنما تحرز بخياطتها وقال أبو حنيفة : لا قطع فيها بحال لما ذكرنا في الباب
فصل : واذا أجر داره ثم سرق منها مال المستأجر فعليه القطع وبهذا قال الشافعي و أبو حنيفة وقال صاحباه : لا قطع عليه لأن المنفعة بحدث في ملك الآجر ثم تنتقل إلى المستأجر
ولنا أنه هتك حرزا وسرق منه نصابا لا شبهة له فوجب القطع كما لو سرق من ملك المستأجر وما قالاه لا نسلمه ولو استعار دارا فنقبها المعير وسرق مال المستعير منها قطع أيضا وبهذا قال الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأن المنفعة ملك له فما هتك حرز غيره ولأن له الرجوع متى شاء وهذا يكون رجوعا
ولنا ما تقدم في التي قبلها ولا يصح ما ذكره لأن هذا قد صار حرزا لمال غيره لا يجوز له الدخول اليه وإنما يجوز له الرجوع في العارية والمطالبة برده اليه
فصل : وان غصب بيتا فأحرزه فيه ماله فسرقه منه أجنبي أو المغصوب منه فلا قطع عليه لأنه لا حكم بحرزه إذا كان متعديا به ظالما فيه
فصل : واذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئا نظرت فان سرقه من الموضع الذي انزله فيه أو موضعه لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه لم يسرق من حرزه وإن سرق من موضع محرز دونه نظرت فان كان منعه قراه فسرق بقدره فلا قطع عليه أيضا وإن لم يمنعه قراه فعليه القطع وقد روي عن أحمد أنه لا قطع على الضيف وهو محمول على احدى الحالتين الاوليين وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه بحال لأن المضيف بسطه في بيته وماله فأشبه ابنه
ولنا أنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فلزمه القطع كالاجنبي وقوله انه بسطه فيه لا يصح فانه احرز عنه هذا المال ولم يبسطه فيه وتبسطه في غيره لا يوجب تبسطه فيه كما لو تصدق على مسكين بصدقة أو أهدى الى صديقه هدية فانه لا يسقط عنه القطع بالسرقة من غير ما تصدق به عليه أو أهدى اليه
فصل : وإذا أحرز المضارب مال المضاربة أو الوديعة أو العارية أو المال الذي وكل فيه فسرقه أجنبي فعليه القطع لا نعلم فيه مخالفا لأنه ينوب مناب المالك في حفظ المال وإحرازه ويده كيده وان غصب عينا وأحرزها أو سرقها وأحرزها فسرقها سارق فلا قطع عليه وقال مالك : عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه و للشافعي قولان كالمذهبين وقال أبو حنيفة كقولنا في السارق وكقولهم في الغاصب
ولنا أنه لم يسرق المال من مالكه ولا ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو وجده ضائعا فأخذه وفارق السارق من المالك أو نائبه فانه أزال يده وسرق من من حرزه
فصل : وان سرق نصابا أو غصبه فأحرزه فجاء المالك فهتك الحرز وأخذ ماله فلا قطع عليه عند أحد سواء أخذه سرقة أو غيرها لأنه أخذ ماله ففيه وجهان :
أحدهما : لا قطع فيه لأن له شبهة في هتك الحرز وأخذ ماله فصار كالسارق من غير حرز ولأن له شبهة في أخذ قدر ماله لذهاب بعض العلماء إلى جواز أخذ الانسان قدر دينه من مال من هو عليه
والثاني : عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرزه لا شبهة له فيه وإنما يجوز له أخذ قدر ماله إذا عجز عن أخذ ماله وهذا أمكنه أخذ ماله فلم يجز له أخذ غيره وكذلك الحكم إذا أخذ ماله وأخذ من غيره نصابا متميزا عن ماله فان كان مختلطا بماله غير متميز منه فلا قطع عليه لأنه أخذ ماله الذي له أخذه وحصل غيره مأخوذا ضرورة أخذه فيجب أن لا يقطع فيه ولأن له في أخذه شبهة والحد يدرأ بالشبهات فأما إن سرق منه مالا آخر من غير الحرز الذي فيه ماله أو كان له دين على إنسان فسرق من ماله قدر دينه من حرزه نظرت فإن كان الغاصب أو الغريم باذلا لما عليه غير ممتنع من أدائه أو قدر المالك على أخذ ماله فتركه وسرق مال الغاصب أو الغريم فعليه القطع لأنه لا شبهة له فيه وإن عجز عن استيفاء دينه أو أرش جنايته فسرق قدر دينه أو حقه فلا قطع عليه وقال القاضي : عليه القطع بناء على أصلنا في أنه ليس له أخذ قدر دينه
ولنا أن هذا مختلف في حله فلم يجب الحد به كما لو وطىء في نكاح مختلف في صحته وتحريم الأخذ لا يمنع الشبهة الناشئة عن الاختلاف والحدود تدرأ بالشبهات فان سرق أكثر من دينه فهو كالمغصوب منه إذا سرق أكثر من ماله على ما مضى
فصل : ولا بد من إخراج المتاع من الحرز لما قدمنا من الإجماع على اشتراطه فمتى أخرجه من الحرز وجب عليه القطع سواء حمله إلى منزله أو تركه خارجا من الحرز وسواء أخرجه لأن حمله أو رمى به إلى خارج الحرز أو شد فيه حبلا ثم خرج فمده به أو شده على بهيمة ثم ساقها به حتى أخرجها أو تركه في نهر جار فخرج به ففي هذا كله يجب القطع لأنه هو المخرج له إما بنفسه وإما بآلته فوجب عليه القطع كما لو حمله فأخرجه وسواء دخل الحرز فأخرجه أو نقبه ثم أدخل اليه يده أو عصا لها شجنة فاجتذبه بها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه إلا أن يكون البيت صغيرا لا يمكنه دخوله لأنه لم يهتك الحرز بما أمكنه فأشبه المختلس
ولنا أنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وهو من أهل القطع فوجب عليه كما لو كان البيت ضيقا ويخالف المختلس فإنه لم يهتك الحرز وان رمى المتاع فأطارته الريح فأخرجته فعليه القطع لأنه متى كان ابتداء الفعل منه لم يؤثر فعل الريح كما لو رمى صيدا فأعانت الريح السهم حتى قتل الصيد حل ولو رمى الجمار فأعانتها الريح حتى وقعت في المرمى احتسب به وصار هذا كما لو ترك المتاع في الماء فجرى به فأخرجه ولو أمر صبيا لا يميز فأخرج المتاع وجب عليه القطع لأنه آلة له فأما إن ترك المتاع على دابة فخرجت بنفسها من غير سوقها أو ترك المتاع في ماء راكد فانفتح فخرج المتاع أو على حائط في الدار فأطارته الريح ففي ذلك وجهان :
أحدهما : عليه القطع لأن فعله سبب خروجه فأشبه ما لو ساق البهيمة أو فتح الماء وحلق الثوب في الهواء والثاني لا قطع عليه لأن الماء لم يكن آلة للاخراج وإنما خرج المتاع بسبب حادث من غير فعله والبهيمة لها اختيار لنفسها
فصل : وإذا أخرج المتاع من بيت في الدار أو الخان إلى الصحن فان كان باب البيت مغلقا ففتحه أو نقبه فقد أخرج المتاع من الحرز وإن لم يكن مغلقا فما أخرجه من الحرز وقد قال أحمد : إذا أخرج المتاع من البيت إلى الدار يقطع وهو محمول على الصورة الأولى
فصل : قال أحمد : الطرار سرا يقطع وإن اختلس لم يقطع ومعنى الطرار الذي يسرق من جيب الرجل أو كمه أو صفنه وسواء بط ما أخذ منه المسروق أو قطع الصفن فأخذه أو أدخل يده في الجيب فأخذ ما فيه فان عليه القطع وروي عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل وكمه لا قطع عليه فيكون في ذلك روايتان
فصل : وإذا دخل السارق حرزا فاحتلب لبنا من ماشية وأخرجه فعليه القطع وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأنه من الاشياء الرطبة وقد مضى الكلام معه في هذا وان شربه في الحرز أو شرب منه ما ينقص النصاب فلا قطع عليه لأنه لم يخرج من الحرز نصابا وإن ذبح الشاة في الحرز أو شق الثوب ثم أخرجهما وقيمتهما بعد الشق والذبح نصاب فعليه القطع وبه قال الشافعي و قال أبو حنيفة : لا قطع عليه في الشاة لأن اللحم لا يقطع عنده بسرقته والثوب إن شق أكثره فلا قطع فيه لأن صاحبه مخير بين أن يضمنه قيمة جميعه فيكون قد أخرجه وهو ملك له وقد تقدم الكلام معه في هذه الأصول وإن دخل الحرز فابتلع جوهرة وخرج فلم تخرج فلا قطع عليه لأنه اتلفها في الحرز وان خرجت ففيه وجهان :
أحدهما : يجب لأنه اخرجها في وعائها فأشبه إخراجها في كمه والثاني لا يجب لأنه ضمنها بالبلع فكان إتلافا لها ولأنه ملجأ الى إخراجها لأنه لا يمكنه الخروج بدونها وإن تطيب في الحرز بطيب وخرج ولم يبقى عليه من الطيب ما إذا جمع كان نصابا فلا قطع عليه لأن ما لا يجتمع قد أتلفه باستعماله فأشبه ما لو أكل الطعام وان كان يبلغ نصابا فعليه القطع لأنه أخرج نصابا وذكر فيه وجه آخر فيما إذا كان ما تطيب به يبلغ نصابا فعليه القطع وان نقص ما يجتمع عن النصاب لأنه أخرج نصابا والأول أولى وإن جر خشبة فألقاها بعد أن أخرج بعضها من الحرز فلا قطع عليه سواء خرج منها ما يساوي نصابا أو لم يكن لأن بعضها لا ينفرد عن بعض وكذلك لو أمسك الغاصب طرف عمامته والطرف الآخر في يد مالكها لم يضمنها وكذلك إذا سرق ثوبا أو عمامة فأخرج بعضهما
فصل : وإذا نقب الحرز ثم دخل فأخرج ما دون النصاب ثم دخل فأخرج ما يتم به النصاب نظرت فان كان في وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة مفردة لا تبلغ نصابا وكذلك إن كانا في ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة وإن تقاربا وجب قطعه لأنها سرقة واحدة وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى
الشرط الخامس والسادس والسابع : كون السارق مكلفا وثبتت السرقة ويطالب بها المالك بالمعروف وتنتفي الشبهات ويذكر ذلك في مواضعه

مسألة : حكم ما لو كان المسروق ثمرا أو كثرا
مسألة : قال : إلا أن يكون المسروق ثمرا أو كثرا فلا قطع فيه
يعني به الثمر في البستان قبل ادخاله الحرز فهذا لا قطع في عند أكثر الفقهاء كذلك الكثر المأخوذ من النخل وهو جمار النخل روي هذا القول عن ابن عمر وبه قال عطاء و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : إن كان من ثمر أو بستان محرز ففيه القطع وبه قال ابن المنذر : إن لم يصح خبر رافع قال : ولا أحسبه ثابتا واحتجا بظاهر الآية وبقياسه على سائر المحرزات
ولنا ما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قطع في ثمر أو كثر ] أخرجه أبو داود و ابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : [ من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ] وهذا يخص عموم الآية ولأن البستان ليس بحرز لغير الثمر فلا يكون حرزا له كما لو لم يكن محوطا فأما إن كانت نخلة أو شجرة في دار محرزة فسرق منه ا نصابا ففيه القطع لأنه سرق من حرز والله أعلم

فصل : حكم السرقة من الثمر المعلق
فصل : وإن سرق من الثمر المعلق فعليه غرامة مثليه وبه قال اسحاق للخبر المذكور وقال أحمد : لا أعلم سببا يدفعه وقال أكثر الفقهاء : لا يجب فيه أكثر من مثله قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر بأنه كان حين كانت العقوبة في الأموال ثم نسخ ذلك
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم وهو حجة لا تجوز مخالفته إلا بمعارضة مثله أو أقوى منه وهذا الذي اعتذر به هذا القائل دعوى للفسخ بالاحتمال من غير دليل عليه وهو فاسد بالاجماع ثم هو فاسد من وجه آخر لقوله : ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع فقد بين وجوب القطع مع ايجاب غرامة مثليه وهذا يبطل ما قاله وقد احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين انتحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها وروى الأثرم الحديثين في سننه قال أصحابنا : وفي الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة مثلا قيمتها للحديث وهو ما جاء في حديث عمرو بن شعيب [ أن السائل قال : الشاة الحريسة منهن يا نبي الله ؟ قال : ثمنها ومثله معه والفكاك وما كان في المراح ففيه القطع إذا كان ما يأخذ من ذلك ثمن المجن ] وهذا لفط رواية ابن ماجة وما عدا هذين لا يغرم بأكثر من قيمته أو مثله إن كان مثليا هذا قول أصحابنا وغيرهم إلا أبا بكر فإنه ذهب إلى إيجاب غرامة المسروق من غير حرز بمثليه قياسا على الثمر المعلق و حريسة الحبل واستدلا بحديث حاطب
ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله والمتقوم بقيمته بدليل المتلف والمغصوب والمنتهب والمختلس وسائر ما تجب غرامته خولف في هذين الموضعين للأثر ففيما عداه يبقى على الأصل

مسألة في ابتداء قطع السارق
مسألة : قال : وابتداء قطع السارق أن تقطع يده اليمنى من مفصل الكف ويحسم فان عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت
لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وفي قراءة بن مسعود : ( فاقطعوا أيمانهما ) وهذا إن كان قراءة وإلا فهو تفسير وقد روي عن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا : إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع ولا مخالف لهما في الصحابة ولأن البطش بها أقوى فكانت البداية بها أردع ولأنها آلة السرقة فناسب عقوبته باعدام آلتها وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى وبذلك قال الجماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه : { فاقطعوا أيديهما } ولأنها آلة السرقة والبطش فكانت العقوبة بقطعها أولى وروي ذلك عن ربيعة و داود وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الامصار من أهل الفقه والأثر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في السارق : [ إذا سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] ولأنه في المحاربة الموجبة قطع عضوين إنما تقطع يده ورجله ولا تقطع يداه فنقول : جناية أوجبت قطع عضوين فكانا رجلا ويدا كالمحاربة ولأن قطع يديه يفوت منفعة الجنس فلا تبقى له يد يأكل بها ولا يتوضأ ولا يستطيب ولا يدفع عن نفسه فيصير كالهالك فكان قطع الرجل الذي لا يشتمل على هذه المفسدة أولى وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما بدليل أنه لا تقطع اليدان في المرة الأولى وفي قراءة عبد الله ( فاقطعوا أيمانهما ) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن المثنى إذا أضيف الى المثنى ذكر بلفظ الجمع كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } وإذا ثبت هذا فانه تقطع رجله اليسرى لقول الله تعالى : { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ولأن قطع اليسرى أرفق به لأنه يمكنه المشي على خشبة ولو قطعت رجله اليمنى لم يمكنه المشي بحال وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه يقطع من نصف القدم من معقد الشراك ويدع له عقبا يمشي عليها وهو قول أبي ثور
ولنا أنه أحد العضوين المقطوعين في السرقة فيقطع من المفصل كاليد وإذا قطع حسم وهو أن يغلى الزيت فاذا قطع غمس عضوه في الزيت لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم فيموت وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسارق سرق شمله فقال : [ اقطعوه واحسموه ] وهو حديث فيه مقال قاله ابن المنذر وممن استحب ذلك الشافعي و أبو ثور وغيرهما من أهل العلم ويكون الزيت من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به القاطع وذلك يقتضي أن يكون من بيت المال فإن لم يحسم فذكر القاضي أنه لا شيء عليه لأن عليه القطع لا مداواة المحدود ويستحب للمقطوع حسم نفسه فان لم يفعل لم يأثم لأنه ترك التداوي في المرض وهذا مذهب الشافعي

فصل : يقطع السارق بأسهل ما يمكن
فصل : ويقطع السارق بأسهل ما يمكن فيجلس ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه وتشد يده بحبل وتجر حتى يبين مفصل الكف من مفصل الذراع ثم يوضع بينهما سكين حاد ويدق فوقهما بقوة ليقطع في مرة واحدة أو توضع السكين على المفصل وتمدى مدة واحدة وان علم قطع أوحى من هذا قطع به

فصل : يسن تعليق اليد في عنقه
فصل : ويسن تعليق اليد في عنقه لما روى فضالة بن عبيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه ] رواه أبو داود و ابن ماجة : وفعل ذلك علي رضي الله عنه ولأن فيه ردعا وزجرا

فصل : لا يقطع في شدة حر أو برد
فصل : ولا تقطع في شدة حر أو برد لأن الزمان ربما أعان على قتله والغرض الزجر دون القتل ولا تقطع حامل حال حملها ولا بعد وضعها حتى ينقضي نفاسها لئلا يفضي إلى تلفها وتلف ولده ولا يقطع مريض في مرضه لئلا يأتي على نفسه ولو سرق فقطعت يده ثم سرق قبل اندمال يده لم يقطع ثانيا حتى يندمل القطع الأول وكذلك لو قطعت رجله قصاصا لم تقطع اليد في السرقة حتى تبرأ الرجل فإن قيل : أليس لو وجب عليه قصاص في اليد الأخرى لقطعت قبل الاندمال والمحارب بقطع يده ورجله دفعة واحدة وقد قلتم في المريض الذي وجب عليه الحد لا ينتظر برؤه فلم خالفتم ذلك ههنا ؟ قلنا : القصاص حق آدمي يخاف فوته وهو مبني على الضيق لحاجته اليه ولأن القصاص قد يجب في يد ويجب في يدين وأكثر في حالة واحدة فلهذا جاز أن نوالي بين قصاصين ونخالف لأن كل معصية لها حد مقدر لا تجوز الزيادة عليه فإذا والى بين حدين صار كالزيادة على الحد فلم يجز وأما قطاع الطريق فان قطع اليد والرجل حد واحد بخلاف ما نحن فيه وأما تأخير الحد للمريض ففيه منع وإن سلمنا فان الجلد يمكن تخفيفه فيأتي به في المرض على وجه يؤمن معه التلف والقطع لا يمكن تخفيفه

فصل : إذا سرق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميعها
فصل : وإذا سرق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميعها وتداخلت حدودها لأنه حد من حدود الله تعالى فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا وذكر القاضي فيما اذا سرق من جماعة وجاءوا متفرقين رواية أخرى أنها لا تتداخل ولعله يقيس ذلك على حد القذف والصحيح أنها تتداخل لأن القطع خالص حق الله تعالى فتتداخل كحد الزنا والشرب وفارق حد القذف فإنه حق لآدمي ولهذا يتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقط بالعفو عنه فأما إن سرق فقطع ثم سرق ثانيا قطع ثانيا سواء سرق من الذي سرق منه أولا أو من غيره وسواء سرق تلك العين التي قطع بها أو غيرها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا قطع بسرقة عين مرة لم يقطع بسرقتها مرة ثانية إلا أن يكون قد قطع بسرقة غزل ثم سرقه منسوجا أو قطع بسرقة رطب ثم سرقه تمرا واحتج بأن هذا يتعلق استيفاؤه بمطالبة آدمي فإذا تكرر سببه في العين الواحدة لم يتكرر كحد القذف
ولنا أنه حد يجب بفعل في عين فتكرره في عين واحدة كتكرره في الأعيان كالزنا وما ذكره يبطل بالغزل إذا نسج والرطب اذا أتمر ولا نسلم حد القذف فانه متى قذفه بغير ذلك الزنا حد وإن قذفه بذلك الزنا عقيب حده لم يحد لأن الغرض إظهار كذبه وقد ظهر وههنا الغرض ردعه عن السرقة ولم يرتدع بالاول فيردع بالثاني كالمودع إذا سرق عينا أخرى

فصل : حكم من سرق ولا يمنى له
فصل : ومن سرق ولا يمنى له قطعت رجله اليسرى كما يقطع في السرقة الثانية وإن كانت يمناه شلاء ففيها روايتان :
إحداهما : تقطع رجله اليسرى لأن الشلاء لا نفع فيها ولا جمال فأشبهت كفا لا أصابع عليه قال إبراهيم الحربي عن أحمد فيمن سرق ويمناه جافة : تقطع رجله
والرواية الثانية : أنه يسأل أهل الخبرة فإن قالوا : إنها إذا قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها قطعت لأنه أمكن قطع يمينه فوجب كما لو كانت صحيحة وإن قالوا : لا يرقأ دمها لم تقطع لأنه يخاف تلفه وقطعت رجله وهذا مذهب الشافعي وإن كانت أصابع اليمنى كلها ذاهبة ففيها وجهان :
أحدهما : لا تقطع وتقطع الرجل لأن الكف لا تجب فيه دية اليد فأشبه الذراع
والثاني : تقطع لأن الراحة بعض ما يقطع في السرقة فاذا كان موجودا قطع كما لو ذهب الخنصر أو البنصر وإن ذهب بعض الأصابع نظرنا فإن ذهب الخنصر والبنصر أو ذهبت واحدة سواهما قطعت لأن معظم نفعها باق وإن لم يبق إلا واحدة فهي كالتي ذهب جميع أصابعها وإن بقي اثنتان فهل تلحق بالصحيحة أو بما قطع جميع أصابعها ؟ على وجهين والأولى قطعها لأن نفعها لم يذهب بالكلية

فصل : حكم من سرق وله يمنى فقطعت في قصاص الخ
فصل : ومن سرق وله يمنى فقطعت في قصاص أو ذهبت بأكلة أو تعدى عليه متعد فقطعها سقط القطع ولا شيء على العادي إلا الأدب وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال قتادة : يقتص من القاطع وتقطع رجل السارق وهذا غير صحيح فان يد السارق ذهبت والقاطع قطع عضوا غير معصوم وإن قطعها قاطع بعد السرقة وقبل ثبوت السرقة والحكم بالقطع ثم ثبت ذلك فكذلك ولو شهد بالسرقة فحبسه الحاكم ليعدل الشهود فقطعه قاطع ثم عدلوا فكذلك وإن لم يعدلوا وجب القصاص على القاطع وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : لا قصاص عليه لأن صدقهم محتمل فيكون ذلك شبهة
ولنا أنه قطع طرفا ممن يكافئه عمدا بغير حق فلزمه القطع كما لو قطعه قبل إقامة البينة

فصل : من سرق فقطع الجذاذ يساره بدلا من يمينه أجزأت
فصل : وإن سرق فقطع الجذاذ يساره بدلا عن يمينه أجزأت ولا شيء على القاطع إلا الأدب وبهذا قال قتادة و الشعبي وأصحاب الرأي وذلك لأن قطع يمنى السارق يفضي الى تفويت منفعة الجنس وقطع يديه بسرقة واحدة فلا يشرع وإذا انتفى قطع يمينه حصل قطع يساره مجزئا عن القطع الواجب فلا يجب على فاعله قصاص وقال أصحابنا : في وجوب قطع يمين السارق وجهان و للشافعي فيما إذا لم يعلم القاطع كونها يسارا أو ظن أن قطعها يجزىء قولان :
أحدهما : لا تقطع يمين السارق كيلا تقطع يداه بسرقة واحدة
والثاني : تقطع كما لو قطعت يسراه قصاصا فأما القاطع فاتفق أصحابنا و الشافعي على أنه إن قطعها عن غير اختيار من السارق أو كان السارق أخرجها دهشة أو ظنا منه أنها تجزىء وقطعها القاطع عالما بأنها يسراه وأنها لا تجزىء فعليه القصاص وإن لم يعلم أنها يسراه أو ظن أنها مجزئة فعليه ديتها وإن كان السارق أخرجها مختارا عالما بالأمرين فلا شيء على القاطع لأنه أذن في قطعها فأشبه غير السارق والمختار عندنا ما ذكرناه والله أعلم

مسألة : لا يقطع غير يد ورجل وإن عاد يحبس
مسألة : قال : فان عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل
يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله لم يقطع منه شيء آخر وحبس وبهذا قال علي رضي الله عنه و الحسن و الشعبي و النخعي و الزهري و حماد و الثوري وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس
وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل وهذا قول قتادة و مالك و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ويقتل في الخامسة لأن جابرا قال : [ جيء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بسارق فقال : اقتلوه فقالوا : يا رسول الله إنما سرق فقال : اقطعوه قال : فقطع ثم جيء به الثانية فقال : اقتلوه قالوا : يا رسول الله إنما سرق فقال : اقطعوه فقطع ثم جيء به الثالثة فقال : اقتلوه فقالوا : يا رسول الله إنما سرق قال : اقطعوه قال : ثم أتي به الرابعة فقال : اقتلوه قالوا : يا رسول الله أنما سرق قال : اقطعوه ثم أتي به الخامسة قال : اقتلوه قال : فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ] رواه أبو داود
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في السارق : [ وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] ولأن اليسار تقطع قودا فجاز قطعها في السرقة كاليمنى ولأنه فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ]
ولنا ما روى سعيد حدثنا أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال : حضرت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لأصحابه : ما ترون في هذا ؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين قال : قتلته إذا وما عليه القتل بأي شيء يأكل الطعام ؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة ؟ بأي شيء يغتسل من جنابته ؟ بأي شيء يقوم على حاجته ؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه فاستشار أصحابه فقالوا مثل قولهم الأول وقال لهم مثل ما قال أول مرة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله
وروي عنه أنه قال : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها ولأن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثانية لأنها آلة البطش كاليمنى وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها لأن ذلك بمنزلة الإهلاك فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ولا يغتسل ولا يستنجي ولا يحترز من نجاسة ولا يزيلها عنه ولا يدفع عن نفسه ولا يأكل ولا يبطش وهذه المفسدة حاصلة بقطعها في المرة الثالثة فوجب أن يمنع قطعها كما منعه في المرة الثانية وأما حديث جابر ففي حق شخص استحق القتل بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به في أول مرة وفي كل مرة وفعل ذلك في الخامسة ورواه النسائي وقال : حديث منكر
وأما الحديث الآخر وفعل أبي بكر وعمر فقد عارضه قول علي وقد روي عن عمر أنه رجع إلى قول علي فروى سعيد : حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عابد قال : أتي عمر برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فأمر أن تقطع رجله فقال علي : إنما قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } الآية وقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها إما أن تعزره وإما أن تستودعه السجن فاستودعه السجن

فصل : حكم ما لو سرق من يده اليسرى مقطوعة
فصل : وان سرق من يده اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع أو كانت يداه صحيحتين فقطعت اليسرى أو شلت قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى وتقطع على الثانية وإن قطع يسراه قاطع متعمدا فعليه القصاص لأنه قطع طرفا معصوما وان قطعه غير متعمد فعليه ديته ولا تقطع يمين السارق وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وفي قطع رجل السارق وجهان أصحهما لا يجب لأنه لم يجب بالسرقة وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجله كما لو كان المقطوع يمينه
والثاني : تقطع رجله لأنه تعذر قطع يمينه فتقطع رجله كما لو كانت اليسرى مقطوعة حال السرقة وإن كانت يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصا يذهب بمعظم نفعها مثل أن يذهب منها الابهام أو الوسطى أو السبابة احتمل أن يكون كقطعها وينتقل الى رجله وهذا قول أصحاب الرأي واحتمل أن تقطع يمناه لأن له يدا ينتفع بها أشبه ما لو قطعت خنصرها وإن كانت يداه صحيحتين و رجله اليمنى شلاء أو مقطوعة فلا أعلم فيها قولا لأصحابنا ويحتمل وجهين : أحدهما تقطع يمينه وهو مذهب الشافعي لأنه سارق له يمنى فقطعت عملا بالكتاب والسنة ولأنه سارق له يدان فتقطع يمناه كما لو كانت المقطوعة رجله اليسرى
والثاني : لا يقطع منه شيء وهو قول أصحاب الرأي لأن قطع يمناه يذهب بمنفعة المشي من الرجلين فأما إن كانت رجله اليسرى شلاء ويداه صحيحتان قطعت يده اليمنى لأنه لا يخشى تعدي ضرر القطع إلى غير المقطوع وعلى قياس هذه المسألة لو سرق ويده اليسرى مقطوعة أو شلاء لم يقطع منه شيء لذلك وأنكر هذا ابن المنذر وقال : أصحاب الرأي بقولهم هذا خالفوا كتاب الله بغير حجة

مسألة : الحر والحرة والعبد والعبدة سواء في حد السرقة
مسألة : قال : والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء
أما الحر والحرة فلا خلاف فيهما وقد نص الله تعالى على الذكر والأنثى بقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأنهما استويا في سائر الحدود فكذلك في هذا وقد قطع النبي صلى الله عليه و سلم سارق رداء صفوان وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة
فأما العبد والأمة فإن جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على أنهما يجب قطعهما بالسرقة إلا ما حكي عن ابن عباس أنه قال : لا قطع عليهما لأنه حد لا يمكن تنصيفه فلم يجب في حقهما كالرجم ولأنه حد فلا يساوي العبد فيه الحر كسائر الحدود
ولنا عموم الآية وروى الأثرم أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها فأمر كثير ابن الصلت أن تقطع أيديهم ثم قال عمر : والله اني لأراك تجيعهم ولكن لأغرمنك غرما يشق عليك ثم قال للمزني : كم ثمن ناقتك ؟ قال : أربعمائة درهم قال عمر : اعطه ثمانمائة درهم
وروى القاسم بن محمد عن أبيه أن عبدا أقر بالسرقة عند علي فقطعه وفي رواية قال : كان عبدا يعني الذي قطعه علي رواه الامام أحمد بإسناده وهذه قصص تنتشر ولم تنكر فتكون إجماعا وقولهم لا يمكن تنصيفه قلنا : ولا يمكن تعطيله فيجب تكميله وقياسهم نقلبه عليهم فنقول : حد فلا يتعطل في حق العبد والأمة كسائر الحدود وفارق الرجم فإن حد الزاني لا يتعطل بتعطيله بخلاف القطع فان حد السرقة يتعطل بتعطيله

فصل : يقطع الآبق بسرقته وغيره
فصل : ويقطع الآبق بسرقته وغيره روي ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و الشافعي وقال مروان وسعيد بن العاصي و أبو حنيفة : لا يقطع لأن قطعه قضاء على سيده ولا يقضى على الغائب
ولنا عموم الكتاب والسنة وأنه مكلف سرق نصابا من حرز مثله فيقطع كغير الآبق وقولهم إنه قضاء على سيده لا يسلم فإنه لا يعتبر فيه إقرار السيد ولا يضر إنكاره وإنما يعتبر ذلك من العبد ثم القضاء على الغائب بالبينة جائز على ما عرف في موضعه

فصل : حكم ما لو أقر العبد بسرقة مال يده فأنكر ذلك سيده
فصل : وإن أقر العبد بسرقة مال في يده فأنكر ذلك سيده وقال : هذا مال فالمال لسيده ويقطع العبد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأنه لم تثبت سرقته للمال فلم يجب قطعه كما لو أنكره المسروق منه ولأنه إذا لم يقبل إقراره في المال ففي الحد الذي يندرئ بالشبهات أولى ولنا أنه أقر بالسرقة وصدقه المسروق منه فقطع كالحر ويحتمل أن لا يجب القطع لأن الحد يدرأ بالشبهات وكون المال محكوما به لسيده شبهة

فصل : يقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي ويقطع الذمي بسرقة مالهما
فصل : ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي ويقطع الذمي بسرقة مالهما وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا فأما الحربي إذا دخل الينا مستأمنا فسرق فإنه يقطع أيضا وقال ابن حامد : لا يقطع وهو قول أبي حنيفة و محمد لأنه حد لله تعالى فلا يقام عليه كحد الزنا وقد نص أحمد على أنه لا يقام عليه حد الزنا و للشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه حد يطالب به فوجب عليه كحد القذف يحققه أن القطع يجب صيانة للاموال وحد القذف يجب صيانة للاعراض فإذا وجب في حقه أحدهما وجب الآخر فأما حد الزنا فلم يجب لأنه يجب به قتله لنقضه العهد ولا يجب مع القتل حد سواه
إذا ثبت هذا فإن المسلم يقطع بسرقة ماله وعند أبي حنيفة لا يجب ولنا أنه سرق مالا معصوما من حرز مثله فوجب قطعه كسارق مال الذمي ويقطع المرتد إذا سرق لأن أحكام الاسلام جارية عليه

مسألة : يقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها
مسألة : قال : ويقطع السارق وان وهبت له السرقة بعد إخراجها
وجملته أن السارق إذا ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غيرهما من أسباب الملك لم يخل من أن يملكها قبل رفعه إلى الحاكم والمطالبة بها عنده أو بعد ذلك فان ملكها قبله لم يجب القطع لأن من شرطه المطالبة بالمسروق وبعد ملكه له لا تصح المطالبة وإن ملكها بعده لم يسقط القطع وبهذا قال مالك و الشافعي و إسحاق وقال أصحاب الرأي : يسقط لأنها صارت ملكه فلا يقطع في عين هي ملكه كما لو مكلها قبل المطالبة بها ولأن المطالبة شرط والشروط يعتبر دوامها ولم يبق لهذه العين مطالب
ولنا ما روى الزهري عن ابن صفوان عن أبيه [ أنه نام في المسجد وتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه الى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر به النبي صلى الله عليه و سلم أن يقطع فقال صفوان : يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ] رواه ابن ماجة و الجوزجاني وفي لفظ [ قال : فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال فهلا كان قبل أن تأتيني به ؟ ] رواه الأثرم و أبو داود فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه اليه لدرأ القطع وبعده لا يسقطه وقولهم أن المطالبة شرط قلنا : هي شرط الحكم لا شرط القطع بدليل أنه لو استرد العين لم يسقط القطع وقد زالت المطالبة

فصل : حكم ما لو أقر المسروق أن المسروق كان للسارق ملكا
فصل : وإن أقر المسروق منه أن المسروق كان ملكا للسارق أو قامت به بينة أو أن له فيه شبهة أو أن المالك أذن له في أخذها أو أنه سبلها لم يقطع
لأننا تبينا أنه لم يجب بخلاف ما لو وهبه إياها فإن ذلك لا يمنع كون الحد واجبا وإن أقر له بالعين سقط القطع أيضا لأن إقراره يدل على تقدم ملكه لها فيحتمل أن تكون له حال أخذها والمنصوص عن أحمد أن القطع لا يسقط لأنه ملك تجدد سببه بعد وجوب القطع أشبه الهبة ولأن ذلك حيلة على إسقاط القطع بعد وجوبه فلم يسقط بها كالهبة

مسألة : حكم ما لو أخرج السرقة وقيمتها ثلاثة دراهم فنقصت قبل القطع
مسألة : قال : ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع
وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يسقط القطع لأن النصاب شرط فتعتبر استدامته
ولنا قول الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأنه نقص حدث في العين فلم يمنع القطع كما لو حدث باستعماله والنصاب شرط لوجوب القطع فلا تعتبر استدامته كالحرز وما ذكره يبطل بالحرز فانه لو زال الحرز أو ملكه لم يسقط عنه القطع وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ فأما إن نقص النصاب قبل الإخراج لم يجب القطع لعدم الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله وإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها ؟ لم يجب القطع لأن الوجوب لا يثبت مع الشك في شرطه ولأن الأصل عدمه

مسألة : إذا كانت السرقة باقية ردت لصاحبها وإلا فله قيمتها
مسألة : قال : وإذا قطع فان كانت السرقة باقية ردت إلى مالكها وإن كانت تالفة فعليه قيمتها سواء كان موسرا أو معسرا
لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية فأما إن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسرا كان أو معسرا وهذا قول الحسن و النخعي و حماد و البتي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وقال الثوري و أبو حنيفة : لا يجتمع الغرم والقطع إن غرمها قبل القطع سقط القطع وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم
وقال عطاء و ابن سيرين و الشعبي و مكحول : لا غرم على السارق إذا قطع ووافقهم مالك في المعسر ووافقنا في الموسر قال أبو حنيفة في رجل سرق مرات ثم قطع : يغرم الكل إلا الأخيرة وقال أبو يوسف : لا يغرم شيئا لأنه قطع بالكل فلا يغرم شيئا منه كالسرقة الأخيرة واحتج بما روي عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه ] ولأن التضمين يقتضي التمليك والملك يمنع القطع فلا يجمع بينهما
ولنا أنها عين يجب ضمانها بالرد لو كانت باقية فيجب ضمانها إذا كانت تالفة كما لو لم يقطع ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم يرويه سعد ابن ابراهيم عن منصور وسعد بن ابراهيم مجهول قاله ابن المنذر وقال ابن عبد البر : الحديث ليس بالقوي ويحتمل أنه أراد ليس عليه أجرة القاطع وما ذكروه فهو بناء على أصولهم ولا نسلمها لهم

فصل : حكم ما إذا فعل بالعين فعلا نقصها به
فصل : واذا فعل في العين فعلا نقصها به كقطع الثوب ونحوه وجب رده ورد نقصه ووجب القطع وقال أبو حنيفة : إن كان نقصا لا يقطع حق المغصوب منه إذا فعله الغاصب رد العين ولا ضمان عليه وإن كان يقطع حق الملك كقطع الثوب وخياطته فلا ضمان عليه ويسقط حق المسروق منه من العين وإن كان زيادة في العين كصبغة أحمر أو أصفر فلا ترد العين ولا يحل له التصرف فيها وقال أبو يوسف و محمد : ترد العين وبنى هذا على أصله في أن الغرم يسقط عنه القطع وأما إذا صبغه فقال : لا يرده لأنه لو رده لكان شريكا فيه بصبغة ولا يجوز أن يقطع فيما هو شريك فيه وهذا ليس بصحيح لأن صبغه كان قبل القطع فلو كان شريكا بالصبغ لسقط القطع وإن كان يصير شريكا بالرد فالشركة الطارئة بعد القطع لا تؤثر كما لو اشترى نصفه من مالكه بعد القطع وقد سلم أبو حنيفة أنه لو سرق فضة فضربها دراهم قطع ولزمه ردها وقال صاحباه : لا يقطع ويسقط حق صاحبها منها بضربها وهذا شيء بيناه على أصولهما في أن تغيير اسمها يزيل ملك صاحبها وأن ملك السارق لها يسقط القطع عنه وهو غير مسلم لهما

مسألة : حكم ما لو أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم
مسألة : قال : وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع
روي عن ابن الزبير أنه قطع نباشا وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز و قتادة و الشعبي و النخعي و حماد و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة و الثوري : لا قطع عليه لأن القبر ليس بحرز لأن الحرز ما يوضع فيه المتاع للحفظ والكفن لا يوضع في القبر لذلك ولأنه ليس بحرز لغيره فلا يكون حرزا له ولأن الكفن لا مالك له لأنه لا يخلو إما أن يكون ملكا للميت أو لوارثه وليس ملكا لواحد منهما لأن الميت لا يملك شيئا ولم يبق أهلا للملك والوارث إنما ملك ما فضل عن حاجة الميت ولأنه لا يجب القطع إلا بمطالبة المالك أو نائبه ولم يوجد ذلك
ولنا قول الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وهذا سارق فإن عائشة رضي الله عنها قالت : سارق أمواتنا كسارق أحيائنا وما ذكروه لا يصح فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر دون غيره ويكتفى به في حرزه ألا ترى أنه لا يترك الميت في غير القبر من غير أن يحفظ كفنه ويترك في القبر وينصرف عنه وقولهم انه لا مالك له ممنوع بل هو مملوك للميت لأنه كان مالكا له في حياته ولا يزول ملكه إلا عما لا حاجة به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة كقيام ولي الصبي في الطلب بماله إذا ثبت هذا فلا بد من إخراج الكفن من القبر لأنه الحرز فإن أخرجه من اللحد ووضعه في القبر فلا قطع فيه لأنه لم يخرجه من الحرز فأشبه ما لو نقل المتاع في البيت من جانب إلى جانب فإن النبي صلى الله عليه و سلم سمى القبر بيتا

فصل : الكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا
فصل : والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا فان كفن الرجل في أكثر من ثلاث لفائف أو المرأة في أكثر من خمس فسرق الزائد عن ذلك أو تركه في تابوت فسرق التابوت او ترك معه طيبا مجموعا أو ذهبا أو فضة أو جواهر لم يقطع بأخذ شيء من ذلك لأنه ليس بكفن مشروع فتركه فيه سفه وتضييع فلا يكون محرزا ولا يقطع سارقه

فصل : هل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة ؟
فصل : وهل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة ؟ يحتمل وجهين : أحدهما يفتقر إلى المطالبة كسائر المسروقات فعلى هذا المطالب الورثة لأنهم يقومون مقام الميت في حقوقه وهذا من حقوقه
والثاني : لا يفتقر إلى طلب لأن الطلب في السرقة من الاحياء شرع لئلا يكون المسروق مملوكا للسارق وقد يئس من ذلك ههنا

مسألة : لا يقطع في محرم ولا آلة لهو
مسألة : قال : ولا يقطع في محرم ولا آلة لهو
يعني لا يقطع في سرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء سرقه من مسلم أو ذمي وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن عطاء أن سارق خمر الذمي يقطع وإن كان مسلما لأنه مال لهم أشبه ما لو سرق دراهمهم
ولنا أنها عين محرمة فلا يقطع بسرقتها كالخنزير ولأن ما لا يقطع بسرقته من مال مسلم لا يقطع بسرقته من الذمي كالميتة والدم وما ذكروه ينتقض بالخنزير ولا اعتبار به قان الاعتبار بحكم الإسلام وهو يجري عليهم دون أحكامهم وهكذا الخلاف معه في الصليب إذا بلغت قيمته مع تأليفه نصابا وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيه وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا وبهذا قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي : إن كانت قيمته بعد زوال تأليفه نصابا ففيه القطع وإلا فلا لأنه سرق ما قيمته نصاب لا شبهة له فيه من حرز مثله وهو من أهل القطع فوجب قطعه كما لو كان ذهبا مكسورا
ولنا أنه آلة للمعصية بالاجماع فلم يقطع بسرقته كالخمر ولأن له حقا في أخذها لكسرها فكان ذلك شبهة مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابا فلا قطع فيه أيضا في قياس قول أبي بكر لأنه متصل بما لا قطع فيه فأشبه الخشب والاوتار وقال القاضي : فيه القطع وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرزه فأشبه المنفرد

فصل : حكم ما لو سرق صليبا من ذهب أو فضة
فصل : وإن سرق صليبا من ذهب أو فضة يبلغ نصابا متصلا فقال القاضي : لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب : يقطع سارقه وهو مذهب الشافعي ووجه المذهبين ما تقدم والفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها أن التي قبلها له كسره بحيث لا تبقى له قيمة تبلغ نصابا وههنا لو كسر الذهب والفضة كل وجه لم تنقص قيمته عن النصاب ولأن الذهب والفضة جوهرهما غالب على الصنعة المحرمة فكانت الصناعة فيها مغمورة بالنسبة إلى قيمة جوهرهما وغيرهما بخلافهما فتكون الصناعة غالبة عليه فيكون بائعا للصناعة المحرمة فأشبه الإناء ولو سرق إناء من ذهب أو فضة قيمته نصاب إذا كان متكسرا فعليه القطع لأنه غير مجمع على تحريمه وقيمته بدون الصناعة المختلف فيها نصاب وإن سرق إناء معدا لحمل الخمر ووضعه فيه ففيه القطع لأن الإناء لا تحريم فيه وإنما يحرم عليه بنيته وقصده فأشبه ما لو سرق سكينا معدة لذبح خنازير أو سيفا يعده لقطع الطريق وإن سرق إناء فيه خمر يبلغ نصابا فقال أبو الخطاب : يقطع وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وقال غيره من أصحابنا : لا يقطع لأنه تبع لما لا قطع فيه فأشبه ما لو سرق مشتركا بينه وبين غيره قال أبو إسحاق بن شاقلا : ولو سرق إداوة أو إناء فيه ماء فلا قطع فيه كذلك ولو سرق منديلا في طرفه دينار مشدود فعلم به فعليه القطع وإن لم يعلم به فلا قطع فيه فإنه لم يقصد سرقته فأشبه ما لو تعلق بثوبه وقال الشافعي : يقطع لأنه سرق نصابا فأشبه ما لو سرق ما لم يعلم أن قيمته نصاب والفرق بينهما أنه علم بالمسروق ههنا وقصد سرقته بخلاف الدينار فإنه لم يرده ولم يقصد أخذه فلا يؤاخذ به بإيجاب الحد عليه

مسألة : لا يقطع الوالد فيما أخذ من مال ولده
مسألة : قال : ولا يقطع الوالد فيما أخذ من مال ولده لأنه أخذ ما له أخذه ولا الوالدة فيما أخذت من مال ولدها ولا العبد فيما سرق من مال سيده
وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قبل الأب والام وهذا قول عامة أهل العلم منهم مالك و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي وقال أبو ثور و ابن المنذر : القطع على كل سارق بظاهر الكتاب إلا أن يجمعوا على شيء فيستثنى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت ومالك لأبيك ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ] وفي لفظ : [ فكلوا من كسب أولادكم ] ولا يجوز قطع الانسان بأخذ ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأخذه ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه و سلم مالا له مضافا إليه ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وأعظم الشبهات أخذ الرجل من مال جعله الشرع له وأمره بأخذه وأكله وأما العبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا ووافقهم أبو ثور فيه وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية
ولنا ما روى السائب بن يزيد قال : شهدت عمر بن الخطاب وقد جاءه عبد الله بن عمرو بن الحضرمي بغلام له فقال : إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر : ما سرق ؟ قال : سرق مرآة امرأتي ثمنها ستون درهما فقال : ارسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم ولكنه لو سرق من غيره قطع وفي لفظ قال : مالكم سرق بعضه بعضا لا قطع عليه رواه سعيد وعن ابن مسعود أن رجلا جاءه فقال : عبد لي سرق قباء لعبد لي آخر فقال : لا قطع مالك سرق مالك وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد فتكون إجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأن هذا إجماع من أهل العلم لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم في عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول واحد من التابعين

فصول : متفرقات في القطع
فصل : والمدبر وأم الولد والمكاتب كالقن في هذا وبه قال الثوري و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا يقطع سيد المكاتب بسرقة ماله لأنه عبد ما بقي عليه درهم وكل ما لم يقطع الإنسان بسرقة ماله لا يقطع عبده بسرقة ماله كآبائه وأولاده وغيرهم كل على أصله وقال أبو ثور : يقطع بسرقة مال من عدا سيده ونحوه قول مالك و ابن المنذر
ولنا حديث عمر رضي الله عنه ولأن مالهم ينزل منزلة ماله في قطعه فكذلك في قطع عبده
فصل : ولا يقطع الابن وإن سفل بسرقة مال والده وإن علا وبه قال الحسن و الشافعي و إسحاق و الثوري و أصحاب الرأي وظاهر قول الخرقي أنه يقطع لأنه لم يذكره في من لا قطع عليه وهو قول مالك و أبي ثور و ابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه يحد بالزنا بجاريته ويقاد بقتله فيقطع بسرقة ماله كالاجنبي ووجه الاول : أن بينهما قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه فلم يقطع بسرقة ماله كالأب ولأن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفظا له فلا يجوز إتلافه حفظا للمال وأما الزنا بجاريته فيجب به الحد لأنه لا شبهة له فيها بخلاف المال
فصل : فأما سائر الأقارب كالأخوة والأخوات ومن عداهم فيقطع بسرقة مالهم ويقطعون بسرقة ماله وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقطع بالسرقة من ذي رحم لأنها قرابة تمنع النكاح وتبيح النظر وتوجب النفقة أشبه قرابة الولادة
ولنا أنها قرابة لا تمنع الشهادة فلا تمنع القطع كقرابة غيره وفارق قرابة الولادة بهذا
فصل : وان سرق أحد الزوجين من مال الآخر فإن كان مما ليس محرزا عنه فلا قطع فيه وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا قطع عليه وهي اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لقول عمر رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي حين قال له : إن غلامي سرق مرآة امرأتي أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى ولأن كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب ولا تقبل شهادته له ويتبسط في مال الآخر عادة فأشبه الوالد والولد
والثانية : يقطع وهو مذهب مالك و أبي ثور و ابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية ولأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه أشبه الأجنبي و للشافعي كالروايتين وقول ثالث ان الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة لأنه لا حق له فيه ولا تقطع بسرقة ماله لأن لها النفقة فيه
فصل : ولا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلما ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وله قال الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي وأصحاب الرأي وقال حماد و مالك و ابن المنذر : يقطع لاهر الكتاب
ولنا ما روى ابن ماجة باسناده عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس فدفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقطعه وقال : مال الله سرق بعضه بعضا ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وسأل ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال : أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق وقال سعيد : حدثنا هشيم : أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول : ليس على من سرق من بيت المال قطع ولأن له في المال حقا فيكون شبهة تمنع وجوب القطع كما لو سرق من مال له فيه شركة ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لم يقطع لذلك وإن لم يكن من الغانمين ولا أحدا من هؤلاء الذين ذكرنا فسرق منها قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له في الخمس حقا وإن أخرج الخمس فسرق من الأربة الأخماس قطع وإن سرق من الخمس لم يقطع وان قسم الخمس خمسة أقسام فسرق من خمس الله تعالى ورسوله لم يقطع وإن سرق من غيره قطع إلا أن يكون من أهل ذلك الخمس
فصل : وإن سرق من الوقف او من غلته أو من الموقوف عليهم مثل أن يكون مسكينا سرق من وقف المساكين أو من قوم معينين عليهم وقف فلا قطع عليه لأنه شريك وإن كان من غيرهم قطع لأنه لا حق له فيه فإن قيل : فقد قلتم : لا يقطع بالسرقة من بيت المال من غير تفريق بين غني وفقير فلم فرقتم ههنا ؟ قلنا : لأن للغني في بيت المال حقا ولهذا قال عمر رضي الله عنه : ما من أحد إلا وله في هذا المال حق بخلاف وقف المساكين فإنه لا حق للغني فيه
فصل : قال أحمد : لا قطع في المجاعة يعني أن المحتاج إذا سرق ما يأكله فلا قطع عليه لأنه كالمضطر وروى الجوزجاني عن عمر أنه قال : لا قطع في عام سنة وقال : سألت أحمد عنه فقلت : تقول به ؟ قال : أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة وعن الأوزاعي مثل ذلك وهذا محمول على من لا يجد ما يشتريه أو لا يجد ما يشتري به فإن له شبهة في أخذ ما يأكله أو ما يشتري به ما يأكله وقد روي عن عمر رضي الله عنه أن غلمان حاطب بن أبي بلتعة انتحروا ناقة للمزني فأمر عمر بقطعهم ثم قال لحاطب : إني أراك تجيعهم فدرأ عنهم القطع لما ظنه يجيعهم فأما الواجد لما يأكله أو الواجد لما يشتري به وما يشتريه فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالي ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ولا قطع على المرأة إذا منعها الزوج قدر كفايتها أو كفاية ولدها فأخذت من ماله سواء أخذت قدر ذلك أو أكثر منه لأنها تستحق قدر ذلك فالزائد يكون مشتركا بما يستحق أخذه ولا على الضيف إذا منع قراه فأخذ أيضا من مال المضيف لذلك

مسألة : لا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين
مسألة : قال : ولا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين
وجملة ذلك أن القطع إنما يجب بأحد أمرين : بينة أو إقرار لا غير فأما البينة فيشترط فيها أن يكونا رجلين مسلمين حرين عدلين سواء كان السارق مسلما أو ذميا وقد ذكرنا ذلك في الشهادة في الزنا بما أغنى عن إعادته ههنا ويشترط أن يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان : نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ويصفا الحرز وإن كان المسروق منه غائبا فحضر وكيله وطالب بالسرقة احتاج الشاهدان أن يرفعا في نسبه فيقولان : من حرز فلان بن فلان بن فلان بحيث يتميز من غيره فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب القطع في قول عامتهم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان ووصفا ما يوجب القطع وإذا وجب القطع بشهادتهما لم يسقط بغيبتهما ولا موتهما على ما مضى في الشهادة بالزنا وإذا شهدا بسرقة ما لغائب فإن كان له وكيل حاضر فطالب به قطع السارق وإلا فلا

فصل : حكم ما لو اختلف الشاهدان
فصل : وإذا اختلف الشاهدان في الوقت أوالمكان أو المسروق فشهد أحدهما أنه سرق يوم الخميس والآخر أنه سرق يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه سرق من هذا البيت وشهد الآخر أنه سرق من هذا البيت أو قال أحدهما : سرق ثورا وقال الآخر : سرق بقرة أو قال : سرق ثورا وقال الآخر : سرق حمارا لم يقطع في قولهم جميعا وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وإن قال أحدهما : سرق ثوبا أبيض وقال الآخر : أسود أو قال أحدهما : سرق هرويا فقال الآخر : مرويا لم يقطع أيضا وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر لأنهما لم يتفقا على الشهادة بشيء واحد فأشبه ما لو اختلفا في الذكورية والأنوثية وقال أبو الخطاب : يقطع وهو قول أبي حنيفة وأصحاب الرأي لأن الاختلاف لم يرجع الى نفس الشهادة ويحتمل أن أحدهما غلب على ظنه أنه هروي والآخر أنه مروي أو كان الثوب فيه سواد وبياض قال ابن المنذر : اللون أقرب الى الظهور من الذكورية والأنوثية فاذا كان اختلافهما فيما يخفى يبطل شهادتهما ففيما يظهر أولى ويحتمل أن أحدهما ظن المسروق ذكرا وظنه الآخر أنثى فقد أوجب هذا رد شهادتهما فكذلك ههنا الثاني الاعتراف فيشترط فيه أن يعترف مرتين روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى و أبو يوسف وزفر وابن شبرمة وقال عطاء و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و محمد بن الحسن : يقطع باعتراف مرة لأنه حق يثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن أبي أمية المخزومي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بلص قد اعترف فقال له : وما أخالك سرقت قال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ] ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره وروى سعيد عن هشيم وسفيان وأبي الأحوص وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : شهدت عليا وأتاه رجل فأقر بالسرقة فرده وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت عنه وقال غير هؤلاء : فطرده ثم عاد بعد ذلك فأقر فقال له علي : شهدت على نفسك مرتين فأمر به فقطع وفي لفظ : قد أقررت على نفسك مرتين ومثل هذا يشتهر فلم ينكر ولأنه يتضمن إتلافا في حد فكان من شرطه التكرار كحد الزنا ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة وقياسهم ينتقض بحد الزنا عند من اعتبر التكرار ويفارق حد الآدمي لأن حقه مبني على الشح والتضييق ولا يقبل رجوعه عنه بخلاف مسألتنا

فصل : يعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة
فصل : ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب والحرز واخراجه منه

فصل : والحر والعبد في هذا سواء
فصل : والحر والعبد في هذا سواء نص عليه أحمد وذلك لعموم النص فيهما ولما روى الأعمش عن القاسم عن أبيه أن عليا قطع عبدا أقر عنده بالسرقة وفي رواية قال : كان عبدا يعني الذي قطعه علي ويعتبر أن يقر مرتين وروى مهنا عن أحمد : إذا أقر العبد أربع مرات انه سرق قطع وظاهر هذا أنه اعتبر إقراره أربع مرات ليكون على النصف من الحر والأول أصح لخبر علي ولأنه إقرار بحد فاستوى في عدده والحر والعبد كسائر الحدود

مسألة : لا ينزع عن إقراره حتى يقطع
مسألة : قال : ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع
هذا قول أكثر الفقهاء وقال ابن أبي ليلى و داود : لا يقبل رجوعه لأنه لو أقر لآدمي بقصاص أو حق لم يقبل رجوعه عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم للسارق : [ ما أخالك سرقت ] عرض له ليرجع ولأنه حد لله تعالى ثبت بالاعتراف فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعه عنه شبهة لاحتمال أن يكون كذب على نفسه في اعترافه ولأنه أحد حجتي القطع فيبطل بالرجوع عنه كالشهادة ولأن حجة القطع زالت قبل استيفائه فسقط كما لو رجع الشهود وفارق حق الآدمي فانه مبني على الشح والضيق ولو رجع الشهود عن الشهادة بعد الحكم لم يبطل برجوعهم ولم يمنع استيفاءها
إذا ثبت هذا فإنه إذا رجع قبل القطع سقط القطع ولم يسقط غرم المسروق لأنه حق آدمي ولو أقر مرة واحدة لزمه غرامة المسروق دون القطع وإن كان رجوعه وقد قطع بعض المفصل لم يتممه إن كان يرجى برؤه لكونه قطع قليلا وإن قطع الأكثر فالمقطوع بالخيار إن شاء تركه وان شاء قطعه ليستريح من تعليق كفه ولا يلزم القاطع قطعه لأن قطعه تداو وليس بحد

فصل : قال أحمد : لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره
فصل : قال أحمد : لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره وهذا قول عامة الفقهاء روي عن عمر أنه أتي برجل فسأله : أسرقت ؟ قل : لا فقال : لا فتركه وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي هريرة وابن مسعود وأبي الدرداء وبه قال إسحاق و أبو ثور وقد روينا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للسارق : [ ما إخالك سرقت ] وقال لماعز : [ لعلك قبلت أو لمست ] وعن علي رضي الله عنه أن رجلا أقر عنده بالسرقة فانتهره وروي أنه طرده وروي أنه رده ولا بأس بالشفاعة في السارق ما لم يبلغ الامام فإنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وجب ]
وقال الزبير بن العوام في الشفاعة في الحد : يفعل ذلك دون السلطان فإذا بلغ الامام فلا أعفاه الله إن أعفاه وممن رأى ذلك الزبير وعمار و ابن عباس و سعيد بن جبير و الزهري و الأوزاعي وقال مالك : إن لم يعرف بشر فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الامام وأما من عرف بشر وفساد فلا أحب أن يشفع له أحد ولكن يترك حتى يقام الحد عليه واجمعوا على أنه إذا بلغ الامام لم تجز الشفاعة فيه لأن ذلك إسقاط حق وجب لله تعالى وقد غضب النبي صلى الله عليه و سلم حين شفع أسامة في المخزومية التي سرقت وقال : [ أتشفع في حد من حدود الله ؟ ] وقال ابن عمر : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه

مسألة : حكم ما لو اشترك جماعة بسرقة قيمتها ثلاثة دراهم
مسألة : قال : وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا
وبهذا قال مالك و أبو ثور وقال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق : لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا لأن كل واحد لم يسرق نصابا فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد بدون النصاب وهذا القول أحب إلي لأن القطع ههنا لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب والاحتياط باسقاطه أولى من الاحتياط بايجابه لأنه مما يدرأ بالشبهات
واحتج أصحابنا بأن النصاب أحد شرطي القطع فإذا اشترك الجماعة فيه كانوا كالواحد قياسا على هتك الحرز ولأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلا يشترك الجماعة في حمله وبين أن يخرج كل واحد منه جزءا ونص أحمد على هذا وقال مالك : إن انفرد كل واحد بجزء منه لم يقطع واحد منهم كما لو انفرد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منها لم يجب القصاص
ولنا أنهم اشتركوا في هتك الحرز و إخراج النصاب فلزمهم القطع كما لو كان ثقيلا فحملوه وفارق القصاص فإنه تعتمد المماثلة ولا توجد المماثلة إلا أن توجد أفعالهم في جميع أجزاء اليد وفي مسألتنا القصد الزجر من غير اعتبار مماثلة والحاجة إلى الزجر عن إخراج المال وسواء دخلا الحرز معا أو دخل أحدهما فأخرج بعض النصاب ثم دخل الآخر فأخرج باقيه لأنهما اشتركا في عتك الحرز وإخراج النصاب فلزمهما القطع كما لو حملاه معا

فصل : حكم ما لو كان أحد الشريكين لا قطع عليه
فصل : فان كان احد الشريكين ممن لا قطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد الوجهين كما لو شاركه في قطع يد ابنه والثاني لا يقطع وهو أصح لأن سرقتهما جميعا صارت علة لقطعهما وسرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع لأنه أخذ ما له أخذه بخلاف قطع يد ابنه فإن الفعل تمحض عدوانا وإنما سقط القصاص لفضيلة الأب لا لمعنى في فعله وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه فوجب أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطىء وإن أخرج كل واحد منهما نصابا وجب القطع على شريك الأب لأنه انفرد بما يوجب القطع وإن أخرج الأب نصابا وشريكه دون النصاب ففيه الوجهان وإن اعترف اثنان بسرقة نصاب ثم رجع احدهما فالقطع على الآخر لأنه اختص بالاسقاط فيختص بالسقوط ويحتمل أن يسقط عن شريكهـ لأن السبب السرقة منهما وقد اختل أحد جزءأيها وكذلك لو أقر بمشاركة آخر في سرقة نصاب ولم يقر الآخر ففي القطع وجهان

فصل : حكم ما لو دخل اثنان دارا أحدهما في سفلها الخ
فصل : قال أحمد في رجلين دخلا دارا أحدهما في سفلها جمع المتاع وشده بحبل والآخر في علوها مد الحبل فرمى به وراء الدار : فالقطع عليهما لأنهما اشتركا في إخراجه وإن دخلا جميعا فأخرج أحدهما المتاع وحده فقال أصحابنا : القطع عليهما وبه قال أبو حنيفة وصاحباه إذا أخرج نصابين وقال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : القطع على المخرج وحده لأنه هو السارق وإن أخرج أحدهما دون النصاب والآخر أكثر من نصاب فتما نصابين فعند أصحابنا و أبي حنيفة وصاحبيه يجب القطع عليهما وعند الشافعي وموافقيه لا قطع على من لم يخرج نصابا فإن أخرج أحدهما نصابا والآخر دون النصاب فعند أصحابنا عليهم القطع وعند الشافعي القطع على مخرج النصاب وحده وعند أبي حنيفة لا قطع على واحد منهما لأن المخرج لم يبلغ نصبا بعدد السارقين وقد ذكرنا وجه ما قلنا فيما تقدم وإن نقبا حرزا ودخل أحدهما فقرب المتاع من النقب وأدخل الخارج يده فأخرجه فقال أصحابنا : قياس قول أحمد أن القطع عليهما وقال الشافعي : القطع على الخارج لأنه مخرج المتاع وقال أبو حنيفة : لا قطع على واحد منهما
ولنا أنهما اشتركان في هتك الحرز وإخراج المتاع فلزمهما القطع كما لو حملاه معا فأخرجاه وإن وضعه في النقب فمد الآخر يده فأخذه فالقطع عليهما ونقل عن الشافعي في هذه المسألة قولان كالمذهبين في الصورة التي قبلها

فصل : حكم ما لو نقب أحدهما وأخرج الآخر المتاع
فصل : وإن نقب أحدهما وحده ودخل الآخر وحده فأخرج المتاع فلا قطع على واحد منهما لأن الأول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز وإنما سرق من حرز هتكه غيره فأشبه ما لو نقب رجل وانصرف وجاء آخر فصادف الحرز مهتوكا فسرق منه وإن نقب رجل وأمر غيره فأخرج المتاع فلا قطع أيضا على واحد منهما وإن كان المأمور صبيا مميزا لأن المميز له اختيار فلا يكون آلة للآمر كما لو أمره بقتل إنسان فقتله وإن كان غير مميز وجب القطع على الآمر لأنه آلته وإن اشترك رجلان في النقب ودخل أحدهما فأخرج المتاع وحده أو أخذه وناوله للآخر خارجا من الحرز أو رمى به إلى خارج الحرز فأخذه الآخر فالقطع على الداخل وحده لأنه مخرج المتاع وحده مع المشاركة في النقب وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة لا قطع عليهما لأن الداخل لم ينفصل عن الحرز ويده على السرقة فلم يلزمه القطع كما لو أتلفه داخل الحرز
ولنا أن المسروق خرج من الحرز ويده عليه فوجب عليه القطع كما لو خرج به ويخالف إذا أتلفه فإنه لم يخرجه من الحرز

مسألة : لا يقطع السارق حتى يأتي مالك المسروق يدعيه
مسألة : قال : ولا يقطع وإن اعترف أو قامت بينة حتى يأتي مالك المسروق يدعيه
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال أبو بكر : يقطع ولا يفتقر الى دعوى ولا مطالبة وهذا قول مالك و أبي ثور و ابن المنذر لعموم الآية لأن موجب القطع ثبت فوجب من غير مطالبة كحد الزنا
ولنا أن المال يباح بالبذل والاباحة فيحتمل أن مالكه أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة وعلى هذا يخرج الزنا فانه لا يباح بالإباحة ولأن القطع أوسع في الإسقاط ألا ترى أنه إذا سرق مال ابنه لم يقطع ؟ ولو زنى بجاريته حد ولأن القطع شرع لصيانة مال ادمي فله به تعلق فلم يستوف من غير حضور مطالب به والزنا حق لله تعالى محض فلم يفتقر إلى طلب به إذا ثبت هذا فان وكيل المالك يقوم مقامه في الطلب وقال القاضي : إذا أقر بسرقة مال غائب حبس حتى يحضر الغائب لأنه يحتمل أن يكون قد أباحه ولو أقر بحق مطلق لغائب لم يحبس لأنه لا حق عليه لغير الغائب ولم يأمر بحبسه فلم يحبس وفي مسألتنا تعلق به حق الله تعالى وحق الآدمي فحبس لما عليه من حق الله تعالى فإن كانت العين في يده أخذها الحاكم وحفظها للغائب وإن لم يكن في يده شيء فإذا جاء الغائب كان الخصم فيها

فصل : حكم ما لو أقر السارق فقال المالك : لم تسرق مني ولكن غصبتني
فصل : ولو أقر بسرقة من رجل فقال المالك : لم تسرق مني ولكن غصبتني أو كان لي قبلك وديعة فجحدتني لم يقطع لأن إقراره لم يوافق دعوى المدعي وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن أقر أنه سرق نصابا من رجلين فصدقه أحدهما دون الآخر أو قال الآخر : بل غصبتنيه أو جحدتنيه لم يقطع وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور : إذا قال الآخر : غصبتنيه أو جحدتنيه قطع
ولنا أنه لم يوافق على سرقة نصاب فلم يقطع كالتي قبلها وإن وافقاه جميعا قطع وإن حضر أحدهما فطالب ولم يحضر الآخر لم يقطع لأن ما حصلت المطالبة به لا يوجب القطع بمفرده وإن أقر أنه سرق من رجل شيئا فقال الرجل : قد فقدته من مالي فينبغي أن يقطع لما روي عن عبد الرحمن بن ثعلبة الانصاري عن أبيه [ أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إليهم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسل فقطعت يده قال ثعلبة : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك أردت أن تدخلي جسدي النار ] أخرجه ابن ماجة

فصل : حكم ما لو ثبتت سرقته ببينة عادلة فأنكر
فصل : ومن ثبتت سرقته ببينة عادلة فأنكر لم يلتفت إلى إنكاره وإن قال : أحلفوه لي أني سرقت منه لم يحلف لأن السرقة قد ثبتت بالبينة وفي إحلافه عليها قدح في الشهادة وإن قال : الذي أخذته ملك لي كان لي عنده وديعة أو رهنا أو ابتعته منه أو وهبه لي أو أذن لي في أخذه أو غصبه مني أو من أبي أو بعضه لي فالقول قول المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له فان حلف سقطت دعوى السارق ولا قطع عليه لأنه يحتمل ما قال ولهذا أحلفنا المسروق منه وإن نكل قضينا عليه بنكوله وهذه إحدى الروايتين وهو منصوص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطع لأن سقوط القطع بدعواه يؤدي الى أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر وعنه رواية ثالثة أنه إن كان معروفا بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه وإلا سقط عنه القطع والأول أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات وإفضاؤه إلى سقوط القطع لا يمتنع اعتباره كما أن الشرع اعتبر في شهادة الزنا شروطا لا يقع معها إقامة حد ببينة أبدا على أنه لا يفضي اليه لازما فإن الغالب من السراق أنهم لا يعلمون هذا ولا يهتدون إليه وإنما يختص بعلم هذا الفقهاء الذين لا يسرقون غالبا وإن لم يحلف المسروق منه قضي عليه وسقط الحد وجها واحدا

باب قطاع الطرق
الأصل في حكمهم قول الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وبه يقول مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن ابن عمر أنه قال : نزلت هذه الآية في المرتدين وحكي ذلك عن الحسن و عطاء و عبد الكريم لأن سبب نزولها قصة العرنيين وكانوا ارتدوا عن الاسلام وقتلوا الرعاة فاستاقوا ابل الصدقة فبعث النبي صلى الله عليه و سلم من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة حتى ماتوا قال أنس : فأنزل الله تعالى في ذلك : { إنما جزاء الذين يحاربون الله } الآية أخرجه أبو داود و النسائي ولأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين
ولنا قول الله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله }

مسألة : المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة
مسألة : قال : المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة
وجملته أن المحاربين الذي تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد تعتبر لهم شروط ثلاثة :
أحدها : أن يكون ذلك في الصحراء فإن كان ذلك منهم في القرى والامصار فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال ابو حنيفة و الثوري و إسحاق لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه وقال كثير من أصحابنا : هو قاطع حيث كان وبه قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و أبو يوسف و أبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى
وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا أدركهم الغوث فليس هؤلاء بقطاع طريق لانهم في موضع يلحقهم الغوث عادة وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة منفردة بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون لأنهم لا يلحقهم الغوث فأشبه قطاع الطريق في الصحراء
الشرط الثاني : أن يكون معهم سلاح فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين لانهم لا يمنعون من يقصدهم ولا نعلم في هذا خلافا فان عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي و أبو ثور وقال ابو حنيفة : ليسوا محاربين لأنه لا سلاح معهم
ولنا أن ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحديد
الشرط الثالث : أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا فأما إن أخذوه مختفين فهم سراق وان اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم وكذلك ان خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق

مسألة : حكم من قتل من المحاربين
مسألة : قال : فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وان عفا صاحب المال وصلب حتى يشتهر ودفع الى أهله ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا وخلي
روينا نحو هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة و مجلز و حماد و الليث و الشافعي و إسحاق وعن أحمد أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع لأن كل واحد من الجنايتين توجب حدا منفردا فاذا اجتمعا وجب حدهما معا كما لو زنى وسرق وذهبت طائفة إلى أن الامام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي لأن أو تقتضي التخيير كقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وهذا قول سعيد بن المسيب و عطاء و مجاهد و الحسن و الضحاك و النخعي و ابي الزناد و أبي ثور و داود وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن ( أو ) فصاحبه بالخيار وقال اصحاب الرأي : إن قتل قتل وإن أخذ المال قطع وان قتل وأخذ المال فالامام مخير بين قتله وصلبه وبين قتله وقطعه وبين أن يجمع له ذلك كله لأنه قد وجد منه ما يوجب القتل والقطع فكان للامام فعلهما كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق وقال مالك : إذا قطع الطريق فرآه الامام جلدا ذا رأي قتله وان كان جلدا لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ] فأما ( أو ) فقد قال ابن عباس مثل قولنا فأما أن يكون توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجة يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداءة بالأخف ككفارة اليمين وما أريد به الترتيب بدىء فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة الظهار والقتل ويدل عليه أيضا أن العقوبات تختلف باختلاف الاجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق وقد سووا بينهم مع اختلاف جناياتهم وهذا يرد على مالك فانه إنما اعتبر الجلد والرأي دون الجنايات وهو مخالف للأصول التي ذكرناها
وأما قول أبي حنيفة فلا يصح لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى لن يخير الامام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال ولأن الحدود لله تعالى إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن
وقد روي عن ابن عباس قال : [ وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بردة الاسلمي فجاء ناس يريدون الاسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ] وقيل أنه رواه أبو داود وهذا كالمسند وهو نص فإذا ثبت هذا فان قاطع الطريق لا يخلو من أحوال خمس :
الاولى : إذا قتل وأخذ المال فانه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب وقتله متحتم لا يدخله عفو أجمع على هذا كل أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم روي عن عمر وبه قال سليمان ابن موسى و الزهري و مالك و الشافعي و أصحاب الرأي ولأنه حد من حدود الله تعالى فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول ؟ فيه روايتان : إحداهما : لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمي والأب بالابن لأن هذا القتل حد لله تعالى فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة
والثانية : تعتبر المكافأة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقتل مسلم بكافر ] والحد فيه انحتامه بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه سقط الانحتام ولم يسقط القصاص فعلى هذه الرواية إذا قتل مسلم ذميا أو الحر عبدا أو أخذ ماله قطعت يده ورجله من خلاف لأخذه المال وغرم دية الذمي وقيمة العبد وإن قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال وإن قتله لغير ذلك مثل أن يقصد قتله لعداوة بينهما فالواجب قصاص غير متحتم وإذا قتل صلب لقول الله تعالى : { أو يصلبوا } والكلام فيه في ثلاثة أمور :
أحدها : في وقته ووقته بعد القتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي و مالك و الليث و أبو حنيفة و أبو يوسف : يصلب حيا ثم يقتل مصلوبا يطعن بالحربة لأن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في الحياة كسائر الأجزية ولأن الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه فلا يجوز
ولنا أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع كان قتلا بالسيف ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله كتب الاحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتل ] وأحسن القتل هو القتل بالسيف وفي صلبه حيا تعذيب له وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تعذيب الحيوان وقولهم انه جزاء على المحاربة قلنا : لو شرع لردعه لسقط بقتله كما يسقط سائر الحدود مع القتل وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر أمره وهذا يحصل بصلبه بعد قتله وقولهم : يمنع تكفينه ودفنه قلنا : هذا لا زم لهم لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا
الثاني : في قدره ولا توقيت فيه إلا قدر ما يشتهر أمره قال أبو بكر : لم يوقت أحمد في الصلب فأقول : يصلب قدر ما يقع عليه الاسم والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة لأن المقصود يحصل به وقال الشافعي : يصلب ثلاثا وهو مذهب أبي حنيفة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره ونتنه وأذى المسلمين برائحته ونظره ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه فلا يجوز بغير دليل
الثالث : في وجوبه وهذا واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره وقال أصحاب الرأي : إن شاء الامام صلب وإن شاء لم يصلب
ولنا حديث ابن عباس أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب ولأنه شرع حدا فلم يتخير بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود إذا ثبت هذا فانه اشتهر أنزل ودفع إلى أهله فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن

فصل : إن مات قبل قتله لم يصلب
فصل : وإن مات قبل قتله لم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد فات الحد بموته فيسقط ما هو من تتمته وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل كما لو قتل بمحدد لأنهما سواء في وجوب القصاص بهما وان قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير فظاهر كلام الخرقي أنهم يقتلون أيضا لأنهم دخلوا في العموم
الحال الثاني : قتلوا ولم يأخذوا المال فانهم يقتلون ولا يصلبون وعن أحمد رواية أخرى أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كالذين أخذوا المال والأولى أصح لأن الخبر المروي فيهم قال فيه : [ ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ] ولم يذكر صلبا ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ ولو شرع الصلب ههنا لاستويا والحكم في تحتم القتل وكونه حدا ههنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال

فصل : حكم ما لو جرح المحارب جرحا في مثله قصاص
فصل : وإذا جرح المحارب جرحا في مثله قصاص فهل يتحتم فيه القصاص ؟ على روايتين :
إحداهما : لا يتحتم لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح فان الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب والقطع والنفي فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل فانه حد فتحتم كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص
والثانية : يتحتم لأن الجراح تابعة للقتل فيثبت فيها مثل حكمه ولأنه نوع قود أشبه القود في النفس والأولى أولى وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فليس فيه إلا الدية وإن جرح إنسانا وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة وقال أبو حنيفة : تسقط الجراح لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سوى القتل
ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص في الجراح حد وإنما هو قصاص متمحض فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة وإن سلمنا أنه حد فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وكقطع اليد والرجل
الحال الثالث : أخذ المال ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وهذا معنى قوله سبحانه : { من خلاف } وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمنى السارق ثم قطعنا رجله اليسرى لتتحقق المخالفة وليكون أرفق به في إمكان مشيه ولا ينتظر اندمال اليد في قطع الرجل بل يقطعان معا يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحتين فأما إن كان معدوم اليد والرجل إما لكونه قد قطع في قطع طريق أو سرقه أو قصاص أو لمرض فمقتضى كلام الخرقي سقوط القطع عنه سواء كانت اليد اليمنى والرجل اليسرى أو بالعكس لأن قطع زيادة على ذلك يذهب بمنفعة الجنس إما منفعة البطش أو المشي أو كليهما وهذا مذهب أبي حنيفة وعلى الرواية التي تستوفي أعضاء السارق الأربعة يقطع ما بقي من أعضائه فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك وجها واحدا وهو مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه وجد في محل الحد ما يستوفى فاكتفي باستيفائه كما لو كانت اليد ناقصة بخلاف التي قبلها وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب أن قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع وكان حكمه حكم المعدوم وإن قالوا : لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان ذكرناهما في قطع السارق
الحال الرابع : إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا
الحال الخامس : إذا تابوا قبل القدرة عليهم ويأتي ذكر حكمهما إن شاء الله تعالى

مسألة : لا يقطع من المحاربين إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله
مسألة : ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال مالك و أبو ثور : للامام أن يحكم عليه حكم المحارب لأنه محارب لله ولرسوله ساع في الارض بالفساد فيدخل في عموم الآية ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع إلا في ربع دينار ] ولم يفصل ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانحتام كذلك ههنا تتغلظ بقطع الرجل معها ولا تتغلظ بما دون النصاب وأما الحرز فهو معتبر فانهم لو أخذوا مالا مضيعا لا حافظ له لم يجب القطع وان أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا على قياس قولنا في السرقة وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ويشترط أيضا أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق

مسألة : نفي المحاربين تشريدهم وعدم تركهم يأوون في بلد
مسألة : قال : ونفيهم أن يشردوا فلا يتركوا يأوون في بلد
وجملته أن المحاربين اذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا فإنهم ينفون من الأرض لقول الله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } ويروى عن ابن عباس ان النفي يكون في هذه الحالة وهو قول النخعي و قتادة و عطاء الخراساني والنفي هو تشريدهم عن الامصار والبلدان فلا يتركون يأوون بلدا ويروى نحو هذا عن الحسن و الزهري وعن ابن عباس أنه ينفى من بلده الى بلد غيره كنفي الزاني وبه قال طائفة من أهل العلم قال أبو الزناد : كان منفى الناس الى باضع من أرض الحبشة وذلك أقصى تهامة اليمن وقال مالك : يحبس في البلد الذي ينفى إليه كقوله في الزاني وقال أبو حنيفة : نفيه حبسه حتى يحدث توبة ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال : في هذه الحال يعزرهم الامام وأن رأى أن يحبسهم حبسهم وقيل عنه : النفي طلب الامام لهم ليقيم فيهم حدود الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس وقال ابن شريح : يحبسهم في غير بلدهم وهذا مثل قول مالك وهذا أولى لأن تشريدهم إخراج لهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق ويؤذون به الناس فكان حبسهم أولى وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى معناها أن نفيهم طلب الامام لهم فاذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم
ولنا ظاهر الآية فان النفي الطرد والابعاد والحبس امساك وهما يتنافيان فأما نفيهم إلى غير مكان معين فلقوله سبحانه : { أو ينفوا من الأرض } وهذا يتناول نفيه من جميعها وما ذكروه يبطل بنفي الزاني فإنه ينفى الى مكان يحتمل أن يوجد منه الزنا فيه ولم يذكر أصحابنا قدر مدة نفيهم فيحتمل أن تتقدر مدته بما تظهر فيه توبتهم وتحسن سيرتهم ويحتمل أن ينفوا عاما كنفي الزاني

مسألة : حكم ما أن تابوا قبل أن يقدر عليهم
مسألة : قال : فان تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال إلا أن يعفى لهم عنها
لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي و أبو ثور والاصل في هذا قول الله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه فأما إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود لقول الله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين قبل القدرة فمن عداهم يبقى على قضية العموم ولأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه ولأن في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبا في توبته والرجوع عن محاربته وإفساده فناسب ذلك الإسقاط عنه وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة

فصل : حكم ما لو فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص بالمحاربة
فصل : وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فتسقط بالتوبة كحد المحاربة الا حد القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة ويحتمل أن لا تسقط لأنها لا تختص المحاربة فكانت في حقه كهي في حق غيره وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره

فصل : حكم من تاب من عليه حد من غير المحاربين
فصل : وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان :
إحداهما : يسقط عنه لقول الله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } وذكر حد السارق ثم قال : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ] ومن لا ذنب له لا حد عليه وقال في ماعز لما أخبر بهربه : [ هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب
والرواية الثانية : لا يسقط وهو قول مالك و أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا عام في التائبين وغيرهم وقال تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير باقامة الحد وقدسمى رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلهم توبة فقال في حق المرأة : [ لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ] وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني وقد أقام رسول الله صلى الله عليه سلم الحد عليهم ولأن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل ولأنه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه
والثاني : يعتبر اصلاح العمل لقول الله تعالى : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } وقال : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه } فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة وقال بعض أصحاب الشافعي : مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز

فصل : حكم الردء من القطاع حكم المباشر
فصل : وحكم الردء من القطاع حكم المباشر وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : ليس على الردء إلا التعزير لأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود
ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل جميعهم وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين كل واحد منهم

فصل : حكم ما إذا وجد فيهم صبي أو مجنون الخ
فصل : وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : يسقط الحد عن جميعهم ويصير القتل للاولياء إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع
ولنا أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطء امرأة وما ذكروه لا أصل له فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وان باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما ودية قتيلهما على عاقلتهما ولا شيء على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى وإن كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة

فصل : حكم وجود المرأة في المحاربين
فصل : وإن كان فيهم امرأة ثبت في حقها حكم المحاربة فمتى قتلت وأخذت المال فحدها حد قطاع الطريق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب عليها الحد ولا على من معها لأنها ليست من أهل المحاربة كالرجل فأشبهت الصبي والمجنون ولنا أنها تحد في السرقة فيلزمها حكم المحاربة كالرجل وتخالف الصبي والمجنون ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود فلزمها هذا الحد كالرجل إذا ثبت هذا فإنها ان باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها لأنهم ردء لها وان فعل ذلك غيرها ثبت حكمه في حقها لأنها ردء له كالرجل سواء وإن قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المحاربين المسلمين ذمي فهل ينتقض عهدهم بذلك ؟ فيه روايتان فان قلنا ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال وإن قلنا لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين

فصل : حكم ما لو أخذ المحاربون المال
فصل : وإذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى فإن كانت الأموال موجودة ردت الى مالكها وإن كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على آخذها وهذا مذهب الشافعي ومقتضى قول أصحاب الرأي : انها ان كانت تالفة لم يلزمها غرامتها كقولهم في المسروق إذا قطع السارق ووجه المذهبين ما تقدم في السرقة ويجب الضمان على الآخذ دون الردء لأن وجود الضمان ليس بحد فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب ولو تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان لاختص بذلك بالمباشر دون الردء لذلك ولو وجب الضمان في السرقة لتعلق بالمباشر دون الردء لما ذكرنا والله أعلم

فصل : حكم ما إذا اجتمعت الحدود
فصل : إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام : اقسام الأول : أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان :
أحدهما : أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود و عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و حماد و مالك و أبي حنيفة وقال الشافعي : يستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا
ولنا قول ابن مسعود قال سعيد : حدثنا حسان بن علي حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال : إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك وقال ابراهيم : يكفيه القتل
وقال : حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن ابراهيم و الشعبي و عطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال انتشرت في عصر الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكانت إجماعا ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فانه يكتفى بقتله ولا يقطع ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة إلى زجره ولا فائدة فيه فلا يشرع ويفارق القصاص فان فيه غرض التشفي والانتقام ولا يقصد منه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة في تحريمه وحق الآدمي يجب تقديمه
النوع الثاني : أن لا يكون فيها قتل فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه ويبدأ بالأخف فالأخف فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا ثم حد للزنا ثم قطع للسرقة وإن أخذ المال في المحاربة قطع لذلك ويدخل في القطع للسرقة ولأن محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن ثم يحد للشرب
ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه في السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقديم على سبيل الاستحباب ولو بدأ بغيره جاز ووقع الموقع ولا يوالى بين هذه الحدود لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل متى برأ من حد أقيم الذي يليه
القسم الثاني : الحدود الخالصة للآدمي وهو القصاص وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ بأخفها فيحد للقذف ثم يقطع ثم يقتل لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم وهذا قول الأوزاعي و الشافعي وقال أبو حنيفة : يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود وقياسا على الحدود الخالصة لله تعالى
ولنا أن ما دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كذنوبهم وفارق حق الله تعالى فانه مبني على المسامحة
القسم الثالث : أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين وهذه ثلاثة أنواع : أحدهما : أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وعن مالك أن حدي الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين
ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم استواءهما فان حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون وإن سلم استواؤهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزنا لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الاكثر وفارق القتلين والقطعين لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني وهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف لأنه اجتمع فيه معنيان : خفته وكونه حقا لآدمي شحيح إلا إذا قلنا حد الشرب أربعون فإنه يبدأ به لخفته ثم بحد القذف وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا اتلاف فيه ثم بالقطع هكذا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب : يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي متمحض فإذا برأ حد للقذف إذا قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده
النوع الثاني : أن تجتمع حدود لله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل فان حدود الله تعالى تدخل في القتل سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة أو لحق آدمي كالقصاص لما قدمناه وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت الحقوق كلها متوالية لأنه لا بد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر باستيفائه الثاني برأه من الاول لوجهين : أحدهما أن الموالاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص فيفوت حق الآدمي والثاني أن العفو جائز فتأخيره يحتمل أن يعفو الولي فيحيا بخلاف القتل حقا لله سبحانه
النوع الثالث : أن يتفق الحقان في محل واحد ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا فان كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا وما هو حق لآدمي كالقصاص قدم القصاص لتأكد حق الآدمي وإن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص بدىء بأسبقهما لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا فيقدم أسبقهما فإن سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب الى الدية وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته لتعذر استيفاء القتل من القاتل ولو كان القصاص سابقا فعفى ولي المقتول استوفي للمحاربة سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي وأما القطع فاذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه سواء تقدم سببه أو تأخر وإن عفا ولي الجناية استوفي الحد فاذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر برؤه فإذا برأ قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في المحاربة حد محض وليس بقصاص والقتل فيها يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية ولو فات القطع لم يجب له بدل إوإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده قصاصا فإن رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى ؟ نظرنا فان كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله كما لو ذهبت بعدوان أو بمرض وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل أن وجب عليه القصاص في يساره بعد وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة ؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه إن قلنا تقطع ثم قطعت ههنا وإلا فلا وإن سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لأسبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا وهل تقطع يسرى يديه للسرقة ؟ على الروايتين فإن قلنا تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة لأنهما حدان وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة ؟ على وجهين

فصل : حكم ما لو سرق وقتل في المحاربة
فصل : وإن سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حيثما ولم يصلب ولم تقطع يده لأنهما حدان فيهما قتل فدخل ما دون القتل فيه ولم يصلب لان الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع القتل ولم يوجد وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه فاذا اجتمعا تداخلا وإن قتل في المحاربة جماعة قتل بالاول حتما وللباقين ديات أوليائهم لأن قتله استحق قتل الاول وتحتم بحيث لا يسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات

فصل : حكم ما لو شهد رجلان أن فلانا قطع عليهما الطريق وعلى فلان
فصل : إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان وأخذ متاعهم لم تقبل شهادتهما لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما وإن قالا : نشهد ان هذا قطع الطريق على فلان وأخذ متاعه قبلت شهادتهما ولم يسألهما الحاكم : هل قطع عليكما معه أم لا ؟ لأنه لا يسألهما ما لم يدع عليهما وإن عاد المشهود له فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق وأخذ متاعهما لم تقبل شهادته لانه صار عدوا له بقطعه الطريق عليه وإن شهد شاهدان أن هؤلاء عرضوا لنا في الطريق وقطعوها على فلان قبلت شهادتهما لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه

كتاب الأشربة
الخمر محرم بالكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] رواه أبو داود والامام أحمد وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ] رواه أبو داود وثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم تحريم الخمر باخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر وأجمعت الأمة على تحريمه وإنما حكي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهيل أنهم قالوا : هي حلال لقول الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية وتحريم الخمر وأقاموا عليهم الحد لشربهم إياها فرجعوا الى ذلك فانعقد الاجماع فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه و سلم لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب وإلا قتل
وروى الجوزجاني باسناده عن ابن عباس : أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر : ما حملك على ذلك ؟ فقال : ان الله عز و جل يقول : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } وإني من المهاجرين الاولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم : أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس : أجبه فقال : إنما أنزلها الله تعالى عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل : { إنما الخمر والميسر و الأنصاب } حجة على الناس ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلدوه ثمانين فجلده عمر ثمانين جلدة
وروى الواقدي أن عمر قال له : اخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك وروى الخلال باسناده عن محارب بن دثار أن أناسا شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان : شربتم الخمر ؟ قالوا : نعم بقول الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب فكتب اليه : إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن إتاك ليلا فلا تنظر بهم نهارا حتى تبعث بهم إلي لئلا يقتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر فشاور فيهم الناس فقال لعلي : ما ترى ؟ فقال : أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فان زعموا أنها حلال فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وان زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله عز و جل بحد ما يفتري بعضنا على بعض فحدهم عمر ثمانين ثمانين إذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وما عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى

مسألة وفصول : من شرب مسكرا جلد ثمانين وأحكام ذلك
مسألة : قال : ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة إذا شربها وهو مختار لشربها وهو يعلم أن كثيرها يسكر
الكلام في هذه المسألة في فصول :
الفصل الأول : أن كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه وروي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء و طاوس و مجاهد و القاسم و قتادة وعمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد و إسحاق وقال أبو حنيفة في عصير العنب : إذا طبخ فذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعا كان أو مطبوخا كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وطبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب ]
ولنا ما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أسكر كثيره وقليله حرام ] رواهما أبو داود و الأثرم وغيرهما وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل مسكر حرام - قال - وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ] رواه أبو داود وغيره وقال عمر رضي الله عنه : نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه ولأنه مسكر أشبه عصير العنب فأما حديثهم فقال أحمد : ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد بن مسعر عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال : والمسكر من كل شراب وقال ابن المنذر : جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة فضعفها كلها ولين عللها وقد قيل إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع انه يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل مسكر حرام ]
الفصل الثاني : أنه يجب الحد على من شرب قليلا من المسكر أو كثيرا ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ في سائرها فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز و قتادة و الأوزاعي و مالك و الشافعي وقالت طائفة : لا يحد إلا أن يسكر منهم أبو وائل و النخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : من شربه معتقدا تحريمه حد ومن شربه متأولا فلا حد عليه لأنه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من شرب الخمر فاجلدوه ] رواه أبو داود وغيره وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر والاختلاف فيه لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل ما لو اعتقد تحريمها وبهذا فارق النكاح بلا ولي ونحوه من المختلف فيه وقد حد عمر قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين :
أحدهما : أن فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه الثاني أن السنة عن النبي صلى الله عليه و سلم قد استفاضت بتحريم هذا المختلف فيه فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات قال أحمد بن القاسم : سمعت أبا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي صلى الله عليه و سلم في بعضها : [ كل مسكر خمر ] وبعضها : [ كل مسكر حرام ]
فصل : وان ثرد بالخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقته فعليه الحد لأن عين الخمر موجودة وكذلك إن لت به سويقا فأكله وإن عجن به دقيقا ثم خبزه فأكله لم يحد لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم يصل إلى حلقه فأشبه ما لو داوى به جرحه وإن استعط به فعليه الحد لأنه أوصله الى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة وحكي عن أحمد أن على من احتقن به لأنه أوصله إلى جوفه والأول أولى لما ذكرناه والله أعلم
الفصل الثالث : في قدر الحد وفيه روايتان : إحداهما أنه ثمانون وبهذا قال مالك و الثوري و أبو حنيفة ومن تبعهم لاجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف : اجعله كأخف الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام وروي أن عليا قال في المشورة : إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري روى ذلك الجوزجاني و الدارقطني وغيرهما
والرواية الثانية : أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال : جلد النبي صلى الله عليه و سلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وعن أنس قال : [ أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك ثم أتي به عمر فاستسار الناس في الحدود فقال ابن عوف : أقل الحدود ثمانون فضربه عمر ] متفق عليه وفعل النبي صلى الله عليه و سلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فتحمل الزيادة عن عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذ رآه الإمام
الفصل الرابع : ان الحد إنما يلزم من شربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه لا اثم سواء أكره بالوعيد والضرب أو الجىء إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فان النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وكذلك المضطر اليها لدفع غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها فان الله تعالى قال في آية التحريم : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وإن شربها لعطش نظرنا فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكاباحتها لدفع الغصة وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة انه أسره الروم فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة أيام فلم يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته فقال : والله لقد كان الله أحله لي فاني مضطر ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الاسلام وإن شربها صرفا أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش أو شربها للتداوي لم يبح له ذلك وعليه الحد وقال أبو حنيفة : يباح شربها لهما و للشافعية وجهان كالمذهبين ووجه ثالث يباح شربها للتداوي دون العطش لأنها حال ضرورة فأبيحت فيها لدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه
ولنا ما روى الامام أحمد باسناده [ عن طارق بن سويد أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء ] وباسناده عن مخارق أن [ النبي صلى الله عليه و سلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذا في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال : ما هذا ؟ فقالت : فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال : إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء ] ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير ولأن الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوي بها فيما لا تصلح له
الفصل الخامس : أن الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيره يسكر فأما غيره فلا حد عليه لأنه غير عالم بتحريمها ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها فأشبه من زفت إليه غير زوجته وهذا قول عامة أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد عليه أيضا لأن عمر وعثمان قالا : لا حد إلا على من علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر وإذا ادعى الجهل بتحريمها نظرنا فإن كان ناشئا ببلد الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله فلا تقبل دعواه فيه وإن كان حديث عهد باسلام أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه لأنه يحتمل ما قاله
فصل : ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين : الإقرار أو البينة ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف واذا رجع عن إقراره قبل رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة
وحكي عن أبي حنيفة : لا حد عليه إلا أن توجد رائحة ولا يصح لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود
فصل : ولا يجب الحد بوجود رائحة من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر
وروي عن عمر أنه قال : إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا فقال عمر : إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار والأول أولى لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فانه يكون منه كرائحة الخمر وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد لاذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فانه لم يحده بوجود الرائحة ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر والله أعلم
فصل : وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد : لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها او لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد ههنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها
وقد روى سعيد : حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال : لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال : أشهد أني رأيته يتقيؤها فقال عمر : من قاءها فقد شربها فضربه الحد
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال : شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان : انه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي : أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه راواه مسلم وفي رواية له فقال عثمان : لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو يسكر منها حتى يشربها
فصل : وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فانه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] فلهذا احتاج الشاهدان الى تفسيره وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج الى بيانه ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا اعتبره عمر في الشهادةعلى قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا

مسألة : إذا مات في جلده فليس على أحد ضمانه
مسألة : قال : فان مات في جلده فالحق قتله يعني ليس على أحد ضمانه
وهذا قول مالك وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي : إن لم يزد على الأربعين وإن زاد على الأربعين فمات فعليه الضمان لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه وفي قدر الضمان قولان : أحدهما نصف الدية لأنه تلف من فعلين : مضمون وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان والثاني تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسنه لنا
ولنا أنه حد وجب لله فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود وما زاد على الأربعين قد ذكرنا أنه من الحد وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب فهو بمنزلة الحد وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال : جلد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين وأبو بكر أربعين وثبت الحد بالإجماع فلم تبق فيه شبهة

فصل : فروع في ضمان ما حصل بزيادة الحد
فصل : ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في سائر الحدود أنه إذا أتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة أنه لا يضمن من تلف بها وذلك لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله فلا يؤاخذ به ولأنه نائب عن الله تعالى فكان التلف منسوبا إلى الله تعالى وإن زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف نعلمه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو ضربه في غير الحد قال أبو بكر : وفي قدر الضمان قولان : أحدهما كمال الدية لأنه قتل حصل من جهة الله وعدوان الضارب فكان الضمان على العادي كما لو ضرب مريضا سوطا فمات به ولأنه تلف بعدوان وغيره فأشبه ما لو ألقى على سفينة موقرة حجرا فغرقها والثاني عليه نصف الضمان لأنه تلف بفعلين مضمون وغير مضمون فكان الواجب نصف الدية كما لو جرح نفسه أو جرحه غيره فمات وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر : يجب من الدية بقسط ما تعدى به تقسط الدية على الأسواط كلها وسواء زاد خطأ أو عمدا لأن الضمان يجب في الخطأ والعمد ثم ينظر فإن كان الجلاد زاده من عند نفسه بغير أمر فالضمان على عاقلته لأن العدوان منه وكذلك إن قال الامام له : اضرب ماشئت فالضمان على عاقلته وإن كان له من يعد عليه فزاد في العدد ولم يخبره فالضمان على من يعد سواء تعمد ذلك أو أخطأ في العدد لأن الخطأ منه وإن أمره الإمام بالزيادة على الحد فزاد فقال القاضي : الضمان على االامام وقياس المذهب أنه إن اعتقد وجوب طاعة الامام وجهل تحريم الزيادة فالضمان على الامام وان كان عالما بذلك فالضمان عليه كما لو أمره الامام بقتل رجل ظلما فقتله وكل موضع قلنا يضمن الامام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال ؟ فيه روايتان :
إحداهما : هو في بيت المال لأن خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم قال القاضي : هذا أصح والثانية هو على عاقلته لأنها وجبت بخطئه فكانت على عاقلته كما لو رمى صيدا فقتل آدميا ويحتمل أن تكون الروايتان إنما هما فيما إذا وقعت الزيادة منه خطأ أما إذا تعمدها فهذا ظلم قصده فلا وجه لتعلق ضمانه ببيت المال بحال كما لو تعمد جلد من لا حد عليه وأما الكفارة التي تلزم الإمام فلا يحملها عنه غيره لأنها عبادة فلا تتعلق بغير من وجد منه سببها ولأنها كفارة لفعله فلا تحصل إلا بتحمله إياها ولهذا لا يدخلها التحمل بحال

فصل : لا يقام الحد على السكران حتى يصحو
فصل : ولا يقام الحد على السكران حتى يصحو روي هذا عن عمر بن عبد العزيز و الشعبي وبه قال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي لأن المقصود الزجر والتنكيل وحصوله باقامة الحد عليه في صحوه أتم فينبغي أن يؤخر اليه

فصل : حد السكر الذي يحصل به فسق شارب النبيذ
فصل : وحد السكر الذي يحصل به فسق شارب النبيذ ويختلف معه في وقوع طلاقه ويمنع صحة الصلاة منه هو الذي يجعله يخلط في كلامه ما لم يكن قبل الشرب ويغيره عن حال صحوه ويغلب على عقله ولا يميز بين ثوبه وثوب غيره عند اختلاطهما ولا بين نعله ونعل غيره ونحو هذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد و أبو ثور وزعم أبو حنيفة أن السكران هو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الرجل من المرأة
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدموا رجلا منهم في الصلاة فصلى بهم وترك في قراءته ما غير المعنى وقد كانوا قاموا إلى الصلاة عالمين بها وعرفوا امامهم وقدموه ليؤمهم وقصد إمامتهم والقراءة لهم وقصدوا الائتمام به وعرفوا أركان الصلاة فأتوا بها ودلت الآية على أنه ما لم يعلم ما يقول فهو سكران وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسكران فقال : ما شربت ؟ فقال : ما شربت إلا الخليطين ] وأتي بآخر سكران فقال : ألا أبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أني ما سرقت ولا زنيت فهؤلاء قد عرفوا رسول الله صلى الله عليه و سلم واعتذروا اليه وهم سكارى و [ في حديث حمزة عم النبي صلى الله عليه و سلم حين غنته قينة وهو سكران
( ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء )
وكان علي أناخ شارفين له بفناء البيت الذي فيه حمزة فقام اليها فبقر بطونها واجتث أسنمتها فذهب علي فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا حمزة محمرة عيناه فلامه النبي صلى الله عليه و سلم فنظر إليه وإلى زيد بن حارثة فقال : وهل أنتما الا عبيد لأبي ؟ ] فانصرف عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد فهم ما قالت القينة في غنائها وعرف الشارفين وهو في غاية سكره ولأن المجنون الذاهب العقل بالكلية يعرف السماء من الأرض والرجل من المرأة مع ذهاب عقله ورفع القلم عنه

مسائل : بيان الضرب في سلئر الحدود
مسألة قال : ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما بسوط لا خلق ولا جديد ولا يمد ولا يربط ويتقى وجهه
وقوله في سائر الحدود يعني جميع الحدود التي فيها الضرب وفي هذه المسألة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى أن الرجل يضرب قائما وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يضرب جالسا رواه حنبل عن أحمد لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد فأشبه المرأة
ولنا قول علي رضي الله عنه : لكل موضع في الجسد حظ يعني في الحد الا الوجه والفرج وقال للجلاد : اضرب واوجع واتق الرأس والوجه ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب وقوله : ان الله لم يأمر بالقيام قلنا : ولم يأمر بالجلوس ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر ولا يصح قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها ويخشى هتكها إذا ثبت هذا فان الضرب يفرق على جميع جسده ليأخذ كل عضو منه حصته ويكثر منه في مواضع اللحم كالأليتين والفخذين ويتقي المقاتل وهي الرأس والوجه والفرج من الرجل والمرأة جميعا وقال مالك : يضرب الظهر وما يقاربه وقال أبو يوسف : يضرب الرأس أيضا لأن عليا لم يستثنه
ولنا على مالك قول علي ولأن ما عدا الأعضاء الثلاثة ليس بمقتل فأشبهت الظهر وعلى أبي يوسف أن الرأس مقتل فأشبه الوجه ولأنه ربما ضربه في رأسه فذهب بسمعه وبصره وعقله أو قتله والمقصود أدبه لا قتله وقولهم : لم يستثنه علي ممنوع فقد ذكرنا عنه أنه قال : اتق الرأس والوجه ولو لم يذكره صريحا فقد ذكره دلالة لأنه في معنى ما استثناه فيقاس عليه
المسألة الثانية : أنه لا يمد ولا يربط ولا نعلم عنهم في هذا خلافا قال ابن مسعود : ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع عنه ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت عنه لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب قال أحمد : لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب وقال مالك : يجرد لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه
ولنا قول ابن مسعود : ولم يعلم عن أحد من الصحابة خلافه والله تعالى لم يأمر بتجريده انما أمر بجلده ومن جلد فوق الثوب فقد جلد
المسألة الثالثة : ان الضرب بالسوط ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا في غير حد الخمر فأما حد الخمر فقال بعضهم : يقام بالايدي والنعال وأطراف الثياب وذكر بعض أصحابنا أن للامام فعل ذلك إذا رآه لما [ روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي برجل قد شرب فقال : اضربوه قال : فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه ] رواه أبو داود
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا شرب الخمر فاجلدوه ] والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط ولأنه أمر بجلده كما أمر الله تعالى بجلد الزاني فكان بالسوط مثله والخلفاء الراشدون ضربوا بالسياط وكذلك غيرهم فكان إجماعا فأما حديث أبي هريرة فكان في بدء الأمر ثم جلد النبي صلى الله عليه و سلم واستقرت الأمور فقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم جلد أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وجلد على الوليد بن عقبة أربعين وفي حديث جلد قدامة حين شرب أن عمر قال : ائتوني بسوط فجاءه أسلم مولاه بسوط دقيق صغير فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم : أنا احدثك إنك ذكرت قرابته لأهلك ائتي بسوط غير هذا فأتاه به تاما فأمر عمر بقدامة فجلد إذا ثبت هذا فان السوط يكون وسطا لا جديدا فيجرح ولا خلقا فيقل ألمه لما [ روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بالزنا فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوط فاتي بسوط مكسور فقال : فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال بين هذين ] رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ضرب من ضربين وسوط من سوطين وهكذا الضرب يكون وسطا لا شديد فيقتل ولا ضعيف فلا يردع ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحطه فلا يؤلم قال أحمد : لا يبدي أبطه في شيء من الحدود يعني لا يبالغ في رفع يده فان المقصود أدبه لا قتله

مسألتان وفصل : بيان حد المرأة والعبد
مسألة : قال : وتضرب المرأة جالسة وتمسك يداها لئلا تنكشف
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و مالك وقال ابن أبي ليلى و أبو يوسف : تحد قائمة كما تلاعن
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : تضرب المرأة جالسة والرجل قائما ولأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي الى كشف العورة وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شيء من عورتها عند الضرب
فصل : أشد الضرب في الحد ضرب الزاني ثم حد القذف ثم حد الشرب ثم التعزير وقال مالك : كلها واحد لأن الله أمر بجلد الزاني والقاذف أمرا واحدا ومقصود جميعها واحد وهو الزجر فيجب تساويها في الصفة وعن أبي حنيفة التعزير أشدها ثم حد الزاني ثم حد الشرب ثم حد القذف
ولنا أن الله تعالى خص الزاني بمزيد تأكيد بقوله سبحانه : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فاقتضى ذلك مزيد تأكيد فيه ولا يمكن ذلك في العدد فتعين جعله في الصفة ولأن ما دونه أخف منه عددا فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية بينهما أو زيادة القليل على ألم الكثير
مسألة : قال : ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر هذا على الرواية التي تقول : إن حد الحر في الشرب ثمانون فحد العبد والأمة نصفها أربعون وعلى الرواية الأخرى حدهما عشرون نصف حد الحر بدون سوط الحر لأنه لما خفف عنه في عدده خفف عنه في صفته كالتعزير مع الحد ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لأنه إنما يتحقق التنصيف إذا كان السوط مثل السوط أما إذا كانا في نصفا في عدده وأخف منه في سوطه كان أقل من النصف والله تعالى قد أوجب النصف بقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب }

فصل : لا تقام الحدود في المساجد
فصل : ولا تقام الحدود في المساجد وبهذا قال عكرمة و الشعبي و أبو حنيفة و مالك و الشافعي و إسحاق وكان ابن أبي ليلى يرى إقامته في المسجد
ولنا ما روى حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يستقاد في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تقام فيه الحدود وروي عن عمر أنه أتي برجل فقال : اخرجاه من المسجد فاضرباه وعن علي أنه أتي بسارق فقال : يا قنبر أخرجه من المسجد فاقطع يده ولأن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى ولا نأمن أن يحدث من المحدود حدث فينجسه ويؤذيه وقد أمر الله تعالى بتطهيره فقال : { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود }

مسألتان وفصول : العصير إذا أتت عليه ثلاثة ايام فقد حرم وكذلك النبيذ ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها ويكره الخليطان
مسألة : قال : والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلى قبل ذلك فيحرم
أما إذا غلي كغليان القدر وقذف بزبده فلا خلاف في تحريمه وان أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل فقال أصحابنا : هو حرام وقال أحمد : اشربه ثلاثا ما لم يغل فاذا أتى عليه أكثر من ثلاثة أيام فلا تشربه وأكثر أهل العلم يقولون : هو مباح ما لم يغل ويسكر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا ] رواه أبو داود ولأن علة تحريمه الشدة المطربة وإنما ذلك في المسكر خاصة
ولنا ما روى أبو داود باسناده [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد الى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق ] وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل ] وقال ابن عمر : اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل : وفي كم يأخذه شيطانه ؟ قال : في ثلاث ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالبا وهي خفية تحتاج الى ضابط فجاء جعل الثلاث ضابطا لها ويحتمل أن يكون شربه فيما زاد على الثلاثة إذا لم يغل مكروها غير محرم فان أحمد لم يصرح بتحريمه وقال في موضع : اكرهه وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يشربه بعد ثلاث وقال أبو خطاب : عندي كلام أحمد في ذلك محمول على عصير الغالب أنه يتخمر في ثلاثة أيام
مسألة : قال : وكذلك النبيذ
يعني أن النبيذ مباح ما لم يغل أو تأت عليه ثلاثة أيام والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل أو تأتي عليه ثلاثة ايام لما روينا عن ابن عباس و [ قال أبو هريرة : علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال : اضرب بهذا الحائط فان هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ] رواه أبو داود ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكرا وكل مسكر حرام
فصل : والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم لأن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير وكل مسكر فهو حرام نجس لما ذكرنا
فصل : وما طبخ من العصير والنبيذ قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس ورب الخرنوب وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لأن التحريم إنما ثبت في المسكر ففيما عداه يبقى على أصل الإباحة وما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو أقل أو أكثر قال أبو داود : سألت أحمد عن شرب الطلا إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه قال : لا بأس به قيل لأحمد : انهم يقولون انه يسكر قال : لا يسكر ولو كان يسكر ما أحله عمر
فصل : ولا بأس بالفقاع وبه قال اسحاق و ابن المنذر ولا أعلم فيه خلافا لأنه لا يسكر وإذا ترك يفسد بخلاف الخمر والاشياء على الاباحة ما لم يرد بتحريمها حجة
فصل : ويجوز الانتباذ في الاوعية كلها وعن أحمد أنه كره الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الانتباذ فيها والدباء هو اليقطين والحنتم الجرار والنقير الخشب والمزفت الذي يطلى بالزفت والصحيح الأول لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن الأشربة أن لا تشربوا إلا في ظروف الادم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا ] رواه مسلم وهذا دليل نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ
فصل : ويكره الخليطان وهو أن ينبذ في الماء شيئان لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الخليطين وقال أحمد : الخليطان حرام وقال في الرجل ينقع الزبيب والتمر الهندي والعناب ونحوه ينقعه غدوة ويشربه عشية للدواء : أكرهه لأنه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه على المكان وقد روى أبو داود باسناده عن رسول الله عليه وسلم أنه نهى أن ينبذ البسر والرطب جميعا ونهى أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا وفي رواية : [ وانتبذ كل واحد على حدة ] وعن أبي قتادة قال : نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينبذ كل واحد منهما على حدة متفق عليه قال القاضي : يعني أحمد بقوله : هو حرام إذا اشتد وأسكر وإذا لم يسكر لم يحرم وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعال وإنما نهى النبي صلى الله عليه و سلم لعلة اسراعه الى السكر المحرم فإذا لم يوجد لم يثبت التحريم كما أنه عليه السلام نهى عن الانتباذ في الاوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم بالشرب فيها ما لم توجد حقيقة الاسكار فقد دل على صحة هذا ما [ روي عن عائشة قالت : كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليها الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية فيشربه غدوة ] رواه ابن ماجة و أبو داود فلما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الاسكار فيها لم يكره فلو كان مكروها لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه و سلم له فعلى هذا لا يكره ما كان في المدة اليسيرة ويكره ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى الإسكار ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضي عليه ثلاثة أيام

مسألة : حكم الخمرة إذا صارت خلا
مسألة : قال : والخمرة اذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها وان قلب الله عينها فصارت خلا فهي حلال
روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحوه قول مالك وقال الشافعي : إن ألقي فيها شيء يفسدها كالملح فهي على تحريمها وإن نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي إباحتها قولان وقال أبو حنيفة : تطهر في الحالين لأن علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها يحققه أن التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدمي كتطهير الثوب والبدن والأرض ونحو هذا قول عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي وذكره أبو خطاب وجها في مذهبنا فقال : وان خللت لم تطهر وقيل تطهر
ولنا ما روى أبو سعيد قال : [ كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله انه ليتيم قال : أهريقوه ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنتخذ الخمر خلا ؟ قال : لا ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح رواه مسلم
[ وعن أبي طلحة انه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال : أهرقها قال : أفلا أخللها ؟ قال : لا ] رواه ابو داود وهذا نهي يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها بل أرشدهم اليه سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم ولأنه إجماع في الصحابة فروي أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال : لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو تولى افسادها ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لافسادها فعند ذلك يقع النهي رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر فأما إذا انقلبت بنفسها فانها تطهر وتحل في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل أنهم اصطبغوا بخل خمر منهم علي و أبو الدرداء وابن عمر وعائشة ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شيء من أخبارهم انهم اتخذوه خلا ولا أنه انقلب بنفسه لكن قد بينه عمر بقوله : لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله يتولى افسادها ولأنها إذا انقلبت بنفسها فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت كالماء إذا زال تغيره بمكثه وإذا ألقي فيها شيء تنجس بها ثم إذا انقلبت بقي ما ألقي فيها نجسا فنجسها وحرمها فأما إن نقلها من موضع الى آخر فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئا فان لم يكن قصد تخليلها حلت بذلك لأنها تخللت بفعل الله تعالى فيها وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطهر لأنه لا فرق بينهما إلا القصد فلا يقتضي تحريمها ويحتمل أن لا تطهر لأنها خللت فلم تطهر كما لو ألقي فيها شيء

مسألة : حكم الشرب في آنية الذهب والفضة
مسألة : قال : والشرب في آنية الذهب والفضة حرام
هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن معاوية بن قرة أنه قال : لا بأس بالشرب من قدح فضة وحكي عن الشافعي قول انه مكروه غير محرم لأن النهي لما فيه من التشبه بالأعاجم فلا يقتضي التحريم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ] وقال : [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ] أخرجهما البخاري ومقتضى نهيه التحريم وقد توعد عليه بنار جهنم فان معنى قوله : [ تجرجر في بطنه نار جهنم ] أي هذا سبب لنار جهنم لقول الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } فلم يبق في تحريمه إشكال
وقد روي ان حذيفة استسقى فأتاه دهقان بإناء من فضة فرماه به فلو أصابه لكسر منه شيئا ثم قال : إنما رميته به لأنني نهيته عنه وذكر هذا الخبر وهذا يدل على أنه فهم التحريم من نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استحل عقوبته لمخالفته اياه

فصل : يحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة
فصل : ويحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة واستصناعها لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور والمزمار ويستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث ولأن علة تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذا معنى يشمل الفريقين وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى التزين للازواج فتختص الإباحة به دون غيره ؟ فان قيل : لو كانت العلة ما ذكرتم لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان قلنا : تلك لا يعرفها الفقراء فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الاغنياء لها لعدم معرفتهم بها ولأن قلتها في نفسها تمنع اتخاذها فيستغني بذلك عن تحريمها بخلاف الأثمان

حكم الفضة والذهب على القدح والسيف
مسألة : قال : إن كان قدح عليه ضبة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس
وجملة ذلك أن الضبة من الفضة تباح بثلاثة شروط : أحدها أن تكون يسيرة الثاني أن تكون من الفضة فأما الذهب فلا يباح وقليله وكثيره حرام وروي عن أبي بكر أنه رخص في يسير الذهب
الثالث : أن يكون للحاجة أعني أنه جعلها لمصلحة وانتفاع مثل أن تجعل على شق أو صدع وإن قام غيرها مقامها وقال القاضي : ليس هذا بشرط ويجوز اليسير من غير حاجة إذا لم يباشر بالاستعمال وانما كره أحمد الحلقة ونحوها لأنها تباشر بالاستعمال وممن رخص في ضبة الفضة سعيد بن جبير وميسرة وزاذان و طاوس و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي و إسحاق وقال : قد وضع عمر بن عبد العزيز فاه بين ضبتين وكان ابن عمر لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة منها وكره الشرب في الإناء المفضض علي بن الحسين و عطاء وسالم والمطلب بن عبد الله بن حنطب ونهت عائشة أن يضبب الآنية أو يحلقها بالفضة ونحو ذلك قول الحسن و ابن سيرين ولعل هؤلاء كرهوا ما قصد به الزينة أو كان كثيرا أو يستعمل فيكون قولهم وقول الأولين واحدا ولا يكون في المسألة خلاف فأما اليسير كتشعيب القدح ونحوه فلا بأس [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان له قدح فيه سلسلة من فضة شعب بها ] رواه البخاري بمعناه ولأن ذلك يسير من الفضة فأشبه الخاتم وكره أحمد أن يباشر موضع الضبة بالاستعمال فلا يشرب من موضع الضبة لأنه يصير كالشارب من إناء فضة وكره الحلقة من فضة لأن القدح يرفع بها فيباشرها بالاستعمال وكذلك ما أشبهه
فصل : ولا بأس بقبيعة السيف من فضة لما [ روى أنس قال : كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم فضة ] رواه الأثرم و أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن وقال هشام بن عروة : وكان سيف الزبير محلى بالفضة أنا رأيته ولا بأس من الخاتم من الفضة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان له خاتم من فضة ثم لبسه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى سقط منه في بئر أريس وصح ذلك عنهم وقال سعيد : البس الخاتم وأخبر أني أفتيتك بذلك فقد روى أبو ريحانة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كره عشر خلال وفيها الخاتم إلا لذي سلطان قال أحمد : إنما هذا يرويه أهل الشام وحدث أحمد بحديث أبي ريحانة فلما بلغ الخاتم تبسم المتعجب ثم قال أهل الشام وإنما قال أحمد ذلك لأن الأحاديث قد صحت عن النبي صلى الله عليه و سلم واستفاضت بإباحته وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم من العلماء فإذا جاء حديث شاذ يخالف ذلك لم يعرج عليه وإن صح ذلك حمل على التنزيه
فصل : : قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله الحلية لحمائل السيف ؟ فسهل فيها وقال : قد روي سيف محلى ولأنه من حلية السيف فأشبه القبيعة ولذلك يخرج في حلية الدرع والمغفر والخوذة والخف والران ولأنه في معناه وقيل لأبي عبد الله : حلقة المرآة فضة ورأس المكحلة فضة وما أشبه هذا قال : كل شيء يستعمل مثل حلقة المرآة فأنا أكرهه لأنه يستعمله فإن المرآة ترفع بحلقتها ثم قال : إنما هذا تأويل تأولته أنا
فصل : ولا يباح شيء من ذلك إذا كان ذهبا إلا أنه قد روي أنه تباح قبيعة السيف قال أحمد : قد روي أنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب وروى الترمذي باسناده عن مزيدة العصري قال : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة ] وقال : هذا حديث غريب ولا يباح الذهب في غير هذا إلا لضرورة كأنف الذهب وما ربط به أسنانه إذا تحركت وقال أبو بكر : يباح يسير الذهب قياسا له على الفضة لكونه أحد الثمنين فأشبه الآخر وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع

مسألة وفصول : لا يبلغ بالتعزير الحد وأنواع التعزير وفصول في التعزير وفصول فيما لا يضمن
مسألة : قال : ولا يبلغ بالتعزير الحد
التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها كوطء الشريك الجارية المشتركة أو امته المزوجة أو جارية ابنه أو وطء امرأته في دبرها أو حيضها أو وطء أجنبية دون الفرج أو سرقة ما دون النصاب أو من غير حرز أو النهب أو الغصب أو الاختلاس أو الجناية على انسان بما لا يوجب حدا ولا قصاصا ولا دية أو شتمه بما ليس بقذف ونحو ذلك يسمى تعزيرا لأنه منع من الجناية والأصل في التعزير المنع ومنه التعزير بمعنى النصرة لأنه منع لعدوه من أذاه واختلف عن أحمد في قدره فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص احمد على هذا في مواضع وبه قال إسحاق لما روى أبو بردة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط الا في حد من حدود الله تعالى ] متفق عليه
والرواية الثانية : لا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا لأنها حد العبد في الخمر والقذف وهذا قول أبي حنيفة وان قلنا : ان حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حق العبد وأربعين في حد الحر وهذا مذهب الشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة وثلاثين سوطا وقال ابن أبي ليلى و أبو يوسف : أدنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين ويحتمل كلام أحمد و الخرقي أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها وروي عن أحمد ما يدل على هذا فعلى هذا ما كان سببه الوطء جاز أن يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود لما روي عن النعمان بن بشير في الذي وطىء جارية امرأته باذنها يجلد مائة وهذا تعزير لأنه في حق المحصن وحده انما هو الرجم وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد الا سوطا واحدا رواه الأثرم واحتج به أحمد قال القاضي : هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للاثر إلا في وطء جارية امرأته لحديث النعمان وفي الجارية المشتركة لحديث عمر وما عداهما يبقى على العموم لحديث ابي بردة وهذا قول حسن واذا ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدرا لأنه لو تقدر لكان حدا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه الى اجتهاد الامام فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص وقال مالك : يجوز أن يزاد التعزير على الحد اذا رأى الامام لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه فكلم فيه فضربه مائة أخرى فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه وروى احمد باسناده أن عليا أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين الحد وعشرين سوطا لفطره في رمضان وروي أن أبا الأسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه فقال ابو الاسود : أعجلتموه المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى سبيله
ولنا حديث أبي بردة وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ] ولأن العقوبة على قدر الاجرام والمعصية والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها وما قالوه يؤدي إلى أن من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز أن يزاد على حده فما دونه أولى فأما حديث معن فيحتمل أنه كانت له ذنوب كثيرة فأدب على جميعها أو تكرر منه الأخذ أو كان ذنبه مشتملا على جنايات أحدها تزويره والثاني أخذه لمال بيت المال بغير حقه والثالث فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا وأما حديث النجاشي فإن عليا ضربه الحد لشربه ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا وقد ذهب أحمد إلى هذا وروي أن من شرب الخمر في رمضان يحد ثم يعزر لجنايته من وجهين والذي يدل على صحة ما ذكرناه ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى أن لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا
فصل : والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ؟ ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به ولأن الواجب أدب والتأديب لا يكون بالاتلاف
فصل : والتعزير فيما شرع به التعزير واجب إذا رآه الامام وبه قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : ليس بواجب [ لأن رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها فقال : أصليت معنا ؟ قال : نعم فتلا عليه : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ] [ وقال في الأنصار : اقبلوا من محسنكم وتجاوزوا عن مسيئكم ] [ وقال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم في حكم حكم به للزبير : أن كان ابن عمتك فغضب النبي صلى الله عليه و سلم ولم يعزره على مقالته وقال له الرجل : ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فلم يعزره ] ولنا ان ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطء جارية امرأته أو جارية امرأته أو جارية مشتركة فيجب امتثال الأمر فيه وما لم يكن منصوصا عليه اذا رأى الامام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب للأنه زجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد
فصل : واذا مات من التعزير لم يجب ضمانه وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : يضمنه لقول علي : ليس أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئا ان الحق قتله إلا حد الخمر فان رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسنه لنا واشار على عمر بضمان التي اجهضت جنينها حين ارسل اليها
ولنا أنها عقوبة مشروعة للردع والزجر فلم يضمن من تلف بها كالحد وأما قول علي في دية من قتله حد الخمر فقد خالفه غيره من الصحابة فلم يوجبوا شيئا به ولم يعمل به الشافعي ولا غيره من الفقهاء فكيف يحتد به مع ترك الجميع له ؟ وأما قوله في الجنين فلا حجة لهم فيه فان الجنين الذي تلف لا جناية منه ولا تعزير عليه فكيف يسقط ضمانه ؟ ولو أن الامام حد حاملا فأتلف جنينها ضمنه مع أن الحد متفق عليه بيننا على انه لا يجب ضمان المحدود اذا تلف به
فصل : وليس على الزوج ضمان الزوجة اذا تلفت من التأديب المشروع في النشوز ولا على المعلم اذا أدب صبيه الأدب المشروع وبه قال مالك وقال الشافعي و أبو حنيفة : يضمن ووجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها قال الخلال : اذا ضرب المعلم ثلاثا كما قال التابعون وفقهاء الأمصار وكان ذلك ثلاثا فليس بضامن وإن ضربه ضربا شديدا مثله لا يكون أدبا للصبي ضمن لأنه قد تعدى في الضرب قال القاضي : وكذلك يجيء على قياس قول أصحابنا اذا ضرب الأب أو الجد الصبي تأديبا فهلك أو الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديبا فلا ضمان عليهم كالمعلم
فصل : وإن قطع طرفا من انسان فيه أكلة أو سلعة باذنه وهو كبير عاقل فلا ضمان عليه وإن قطعه مكرها فالقطع وسرايته مضمون بالقصاص سواء كان القاطع اماما أو غيره لأن هذه الجراحة تؤدي إلى التلف والأكلة إن كان بقاؤها مخوفا فقطعها مخوف وإن كان من قطعت منه صبيا أو مجنونا وقطعها أجنبي فعليه القصاص لأنه لا ولاية له عليه وإن قطعها وليه وهو الأب أو وصيه أو الحاكم أو أمينه المتولي عليه فلا ضمان عليه لأنه قصد مصلحته وله النظر في مصالحه فكان فعليه مأمورا به فلم يضمن ما تلف به كما لو ختنه فمات والسلعة غدة بين اللحم والجلد تظهر في البدن كالجوزة وتكون في الرأس والبدن وهي بكسر السين والسلعة بفتح السين الشجة
فصل : واذا ختن الولي الصبي في وقت معتدل في الحر والبرد لم يلزمه ضمان إن تلف به لأنه فعل مأمور به في الشرع فلم يضمن ما تلف به كالقطع في السرقة وإن كان رجلا أو امرأة لم يختتنا فأمر السلطان بهما فختنا فان كان مما زعم الاطباء انه يتلف بالختان أو الغالب تلفه به فعليه الضمان لانه ليس له ذلك فيهما وإن كان الأغلب السلامة فلا ضمان عليه اذا كان في زمن معتدل ليس بمفرط الحر والبرد وبهذا قال الشافعي وزعم أبو حنيفة و مالك أنه ليس بواجب لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الختان سنة في الرجال ومكرمة في النساء ]
ولنا أنه قطع عضو صحيح من البدن يتألم بقطعه فلم يقطع الا واجبا كاليد والرجل ولأنه يجوز كشف العورة من أجله ولو لم يكن واجبا ما جاز ارتكاب المحرم من أجله فأما الخبر فقد قيل هو ضعيف وعلى ان الواجب يسمى سنة فان السنة ما رسم ليحتذى ولا يجب إلا بعد البلوغ فان لم يفعله وإلا أجبره الحاكم عليه
فصل : اذا أمر السلطان انسانا بالصعود في سور أو نزول في بئر أو نحوه فعطب به فقال القاضي وأصحاب الشافعي : على السلطان ضمانه لأن عليه طاعة إمامه فإذا أفضت طاعته الى الهلاك فكأنه ألجأه اليه ولو كان الآمر غير الامام لم يضمن لأن طاعته غير لازمة فلم يلجئه اليه وإن امره السلطان بالمضي في حاجة فعثر فهلك لم يضمنه لأن المشي ليس بسبب للهلاك في الأعم الأغلب بخلاف ما ذكرناه أولا فعلى هذا إن كان أمره الموجب للضمان لمصلحة المسلمين فالضمان في بيت المال وإن كان لمصلحة نفسه فالضمان عليه أو على عاقلته إن كان مما تحمله عاقلته وإن أقام الامام الحد في شدة حر أو برد أو ألزم انسانا الختان في ذلك فهل يضمن ما تلف يحتمل وجهين

مسألة : إذا حمل عليه جمل صائل فضربه فقتله فيس عليه ضمان
مسألة : قال : واذا حمل عليه جمل صائل فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه فضربه فقتله فلا ضمان عليه
وجملته أن الإنسان إذا صالت عليه بهيمة فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعا وليس عليه ضمانها إذا كانت لغيره وبهذا قال مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه ضمانها لأنه أتلف مال غيره لإحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره إذا أكله وكذلك قالوا في غير المكلف من الآدميين كالصبي والمجنون يجوز قتله ويضمنه لأنه يملك لاإباحة نفسه ولذلك لو ارتد لم يقتل
ولنا أنه قتله بالدفع الجائز فلم يضمنه كالعبد ولأنه حيوان جاز اتلافه فلم يضمنه كالآدمي المكلف ولأنه قتله لدفع شره فأشبه العبد وذلك لأنه إذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل لنفسه فأشبه ما لو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها وفارق المضطر فان الطعام لم يلجئه الى اتلافه ولم يصدر منه ما يزيل عصمته ولهذا لو قتل المحرم صيدا لصياله لم يضمنه ولو قتله لاضطراره اليه ضمنه ولو قتل المكلف لصياله لم يضمنه ولو قتله ليأكله في المخمصة وجب القصاص وغير المكلف كالمكلف في هذا وقولهم : لا يملك اباحة نفسه قلنا : والمكلف لا يملك اباحة دمه ولو قال : أبحت دمي لم يبح على أنه إذا صال فقد ابيح دمه بفعله فيجب ان يسقط ضمانه كالمكلف

مسألة : حكم ما لو دخل منزله بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فضربه
مسألة : قال : واذا دخل منزله بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يضربه بأسهل ما يخرجه به فان علم يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة فان آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه وان قتل صاحب الدار كان شهيدا
وجملته أن الرجل إذا دخل منزل غيره بغير اذنه فلصاحب الدار أمره بالخروج من منزله سواء كان معه سلاح أو لم يكن لأنه متعد بدخول ملك غيره فكان بصاحب الدار مطالبته بترك التعدي كما لو غصب منه شيئا فان خرج بالامر لم يكن له ضربه لأن المقصود اخراجه وقد روي عن ابن عمر أنه رأى لصا فأصلت عليه السيف قال : فلو تركناه لقتله وجاء رجل الى الحسن فقال : لص دخل بيتي ومعه حديدة أقتله ؟ قال : نعم بأي قتلة بدرت أن تقتله
ولنا أنه أمكن ازالة العدوان بغير القتل فلم يجز القتل كما لو غصب منه شيئا فأمكن أخذه بغير القتل وفعل ابن عمر يحمل على قصد الترهيب لا على قصد ايقاع الفعل فان لم يخرج بالأمر فله ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به لأن المقصود دفعه فاذا اندفع بقليل فلا حاجة الى أكثر منه فان علم أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا وإن ذهب موليا لم يكن له قتله ولا اتباعه كأهل البغي وإن ضربه ضربة عطلته لم يكن له أن يثني عليه لأنه كفي شره وإن ضربه فقطع يمينه فولى مدبرا فضربه فقطع رجله فقطع الرجل مضمون عليه بالقصاص أو الدية لأنه في حال لا يجوز له ضربه وقطع اليد غير مضمون فان مات من سراية القطع فعليه نصف الدية كما لو مات من جراحة اثنين وإن عاد اليه بعد قطع رجله فقطع يده الأخرى فاليدان غير مضمونتين وإن مات فعليه ثلث الدية كما لو مات من جراحة ثلاثة أنفس فقياس المذهب أن يضمن نصف الدية لأن الجرحين قطع رجل واحد فكان حكمهما واحدا كما لو جرح رجل رجلا مائة جرح وجرحه آخر جرحا واحدا ومات كانت ديته بينهما نصفين ولا تقسم الدية على عدد الجراحات كذا ههنا فأما إن لم يمكنه دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله أو يقطع طرفه وما أتلف منه فهو هدر لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي ولأنه اضطر صاحب الدار إلى قتله فصار كالقاتل لنفسه وإن قتل صاحب الدار فهو شهيد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد ] رواه الخلال بإسناده ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل إذا قتله الباغي

فصل : حكم من عرض لإنسان يريد ماله أو نفسه
فصل : وكل من عرض لإنسان يريد ماله أو نفسه فحكمه ما ذكرنا فيمن دخل منزله في دفعهم بأسهل ما يمكن دفعهم به فإن كان بينه وبينهم نهر كبير أو خندق أو حصن لا يقدرون على اقتحامه فليس له رميهم وإن لم يمكن إلا بقتالهم فله قتالهم وقتلهم قال أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك : قاتلهم تمنع نفسك ومالك وقال عطاء في المحرم يلقى اللصوص قال : يقاتلهم أشد القتال وقال ابن سيرين : ما أعلم احدا ترك قتال الحرورية واللصوص تأثما إلا أن يجبن وقال الصلت بن طريف : قلت للحسن : اني احرج في هذه الوجوه أخوف شيء عندي : يلقاني اللصوص يعرضون لي في مالي فان كففت يدي ذهبوا بمالي وان قاتلت اللص ففيه ما قد علمت ؟ قال : أي بني من عرض لك في مالك فان قتلته فالى النار وان قتلك فشهيد ونحو ذلك عن أنس و الشعبي و النخعي وقال أحمد في امرأة أرادها رجل على نفسها فقتلته لتحصن نفسها فقال : إذا علمت أنه لا يريد إلا نفسها فقتلته لتدفع عن نفسها فلا شيء عليها وذكر حديثا يرويه الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير أن رجلا أضاف ناسا من هذيل فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر : والله لا يودى أبدا ولأنه إذا جاز الدفع عن ماله الذي يجوز بذله واباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى : إذا ثبت هذا فانه يجب عليها أن تدفع عن نفسها إن أمكنها ذلك لأن التمكين منها محرم وفي ترك الدفع نوع تمكين فأما من اريدت نفسه أو ماله فلا يجب عليه الدفع لقول النبي صلى الله عليه و سلم في الفتنة : [ اجلس في بيتك فان خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك ] وفي لفظ : [ فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ] ولأن عثمان ترك القتال مع إمكانه مع إرادتهم نفسه فان قيل : فقد قلتم في المضطر إذا وجد ما يدفع به الضرورة لزمه الأكل منه في أحد الوجهين فلم لم تقولوا ذلك ههنا ؟ قلنا : لأن الأكل يحيي به نفسه من غير تفويت نفس غيره وههنا في إحياء نفسه فوات نفس غيره فلم يجب عليه فأما ان أمكنه الهرب فهل يلزمه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمه لأنه أمكنه الدفع عن نفسه من غير ضرر يلحق غيره فلزمه كالأكل في المخمصة
والثاني : لا يلزمه لأنه دفع عن نفسه فلم يلزمه كالدفع بالقتال

فصل : إذا صال على إنسان صائل يريد ماله أو نفسه ظلما
فصل : وإذا صال على إنسان صائل يريد ماله أو نفسه ظلما أو يريد امرأة ليزني بها فلغير المصول عليه معونته في الدفع ولو عرض اللصوص لقافلة جاز لغير أهل القافلة الدفع عنهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] وفي حديث : [ إن المؤمنين يتعاونون على الفتان ] ولأنه لولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم لأن قطاع الطريق إذا انفردوا بأخذ مال إنسان لم يعنه غيره فانهم يأخذون أموال الكل واحدا واحدا وكذلك غيرهم

فصل : كم وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه
فصل : وإذا وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه ولا دية لما روي أن عمر رضي عنه بينما هو يتغذى يوما إذا أقبل رجل يعدو ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم فجاء حتى قعد مع عمر فجعل يأكل وأقبل جماعة من الناس فقالوا : يا أمير المومنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر : ما يقول هؤلاء ؟ قال : ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فان كان بينهما أحد فقد قتله فقال لهم عمر : ما يقول ؟ قالوا : ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر : إن عادوا فعد رواه هشيم عن مغيرة عن ابراهيم أخرجه سعيد وإذا كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها وان كانت مكرهة فعليه القصاص وإذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته فانكر وليه فالقول قول الولي لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته فاذا مع امرأته رجل فقتلها وقتله قال علي : ان جاء بأربعة شهداء وإلا فليعط برمته ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يسقط حكم القتل بمجرد الدعوى واختلفت الرواية في البينة فروي أنها أربعة شهداء لخبر علي ولما روى أبو هريرة [ أن سعدا قال : يا رسول الله أرأيت ان وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي باربعة شهداء ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : نعم ] وروي أنه يكفي شاهدان لأن البينة تشهد على وجوده على المرأة وهذا يثبت بشاهدين وإنما الذي يحتاج إلى الأربعة الزنا وهذا لا يحتاج إلى إثبات الزنا فان قيل : فحديث عمر في الذي وجد مع امرأته رجلا ليس فيه بينة وكذلك روي أن رجلا من المسلمين خرج غازيا وأوصى بأهله رجلا فبلغ الرجل أن يهوديا يختلف الى امرأته فكمن له حتى جاء فجعل ينشد :
( وأشعث غره الاسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام )
( أبيت على ترائبها ويضحى ... على جرداء لاحقة الحزام )
( كأن مواضع الرتلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام )
فقام اليه فقتله فرفع ذلك الى عمر فأهدر دمه ولم يطالب فالجواب ان ذلك ثبت عنده باقرار الولي وإن لم تكن بينة فادعى علم الولي بذلك فالقول قول الولي مع يمينه

فصل : حكم ما لو قتل رجل رجلا وادعى أنه هجم على منزله
فصل : ولو قتل رجل رجلا وادعى انه قد هجم منزلي فلم يمكنني دفعه الا بالقتل لم يقبل قوله الا ببينة وعليه القود سواء كان المقتول يعرف بسرقة أو عيارة أو لا يعرف بذلك فان شهدت البينة أنهم رأوا هذا مقبلا الى هذا بالسلاح المشهور فضربه هذا فقد هدر دمه وإن شهدا أنهم رأوه داخلا داره ولم يذكروا سلاحا أو ذكروا سلاحا غير مشهور لم يسقط القود بذلك لأنه قد يدخل لحاجة ومجرد الدخول المشهود به لا يوجب إهدار دمه وإن تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما اني جرحته دفعا عن نفسي حلف كل واحد منهما على ابطال دعوى صاحبه وعليه ضمان ما جرحه لأن كل واحد منهما مدع على الآخر ما ينكره والأصل عدمه

فصل : حكم ما لو عض رجل يد رجل آخر
فصل : ولو عض رجل يدآخر فله جذبها من فيه فان جذبها فوقعت ثنايا العاض فلا ضمان فيها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وروى سعيد عن هشيم عن محمد بن عبد الله أن رجلا عض رجلا فانتزع يده من فيه فسقط بعض أسنان العاض فاختصما الى شريح فقال شريح : انزع يدك من في السبع وأبطل أسنانه وحكي عن مالك و ابن أبي ليلى : عليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في السن خمس من الابل ]
ولنا ما روى يعلى بن أمية قال : [ كان لي أجير فقاتل انسانا فعض أحدهما يد الآخر قال : فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع احدى ثنيتيه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأهدر ثنيته فحسبت أنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم أفيدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ؟ ] متفق عليه ولأنه عضو تلف ضرورة دفع شر صاحبه فلم يضمن كما لو صال عليه فلم يمكنه دفعه إلا بقطع عضوه وحديثهم يدل على دية السن إذا قلعت ظلما وهذه لم تقلع ظلما وسواء كان المعضوض ظالما أو مظلوما لأن العض محرم إلا أن يكون العض مباحا مثل أن يمسكه في موضع يتضرر بامساكه أو يعض يده ونحو ذلك مما لا يقدر على التخلص من ضرره إلا بعضه فيعضه فما سقط من أسنانه ضمنه لأنه عاد والعض مباح ولذلك لو عض أحدهما يد الآخر ولم يمكن المعضوض تخليص يده إلا بعضه فله عضه ويضمن الظالم منها ما تلف من المظلوم وما تلف من الظالم هدر وكذلك الحكم فيما إذا عضه في غير يده أو عمل به عملا غير العض أفضى الى تلف شيء من الفاعل لم يضمنه وقد روى محمد بن عبد الله أن غلاما أخذ قمعا من أقماع الزياتين فأدخله بين فخذي رجل ونفخ فيه فذعر الرجل من ذلك وخبط برجله فوقع على الغلام فكسر بعض أسنانه فاختصموا إلى شريح فقال شريح : لا أعقل الكلب الهرار قال القاضي : يخلص المعضوض يده بأسهل ما يمكن فان أمكنه فك لحييه بيده الأخرى فعل وإن لم يمكنه لكمه في فكه فان لم يمكنه جذب يده من فيه فان لم يخلص فله أن يعصر خصيتيه فان لم يمكنه فله أن يبعج بطنه وان أتى على نفسه والصحيح أن هذا الترتيب عير معتمد وله أن يجذب يده من فيه أولا لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل ولأنه لا يلزم ترك يده في فم العاض حتى يتحيل بهذه الأشياء المذكورة ولأن جذب يده مجرد تخليص ليده وما حصل من سقوط الأسنان حصل ضرورة التخليص الجائز ولكم فكه جناية غير التخليص وربما تضمنت التخليص وربما أتلفت الأسنان التي لم يحصل العض بها وكانت البداءة بجذب يده أولى وينبغي أنه متى أمكنه جذب يده فعدل الى لكم فكه فأتلف سنا ضمنه لإمكان التخلص بما هو أولى منه

فصول : حكم من اطلع في بيت إنسان فرماه بحصاة
فصل : ومن اطلع في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يضمنها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يضمنها لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فمجرد النظر أولى
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ] و [ عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حجر من باب النبي صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو علمت أنك تنظرني لطمت أو لطعنت بها في عينك ] متفق عليهما ويفارق ما قاسوا عليه لأن من دخل المنزل يعلم به فيستتر منه بخلاف الناظر من ثقب فانه يرى من غير علم به ثم الخبر أولى من القياس وظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر في هذا أنه لا يمكنه دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر وقال ابن حامد : يدفعه بأسهل ما يمكنه دفعه به فيقول له أولا : انصرف فان لم يفعل أشار اليه يوهمه أنه يحذفه فان لم ينصرف فله حذفه حينئذ واتباع السنة أولى
فصل : فأما ان ترك الاطلاع ومضى لم يجز رميه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف ولأنه ترك الجناية فأشبه من عض ثم ترك العض لم يجز قلع أسنانه وسواء كان المطلع منه صغيرا كثقب أو شق أو واسعا كثقب كبير وذكر بعض اصحابنا أن الباب المفتوح كذلك والأولى أنه لا يجوز حذف من نظر من باب مفتوح لأن التفريط من تارك الباب مفتوحا والظاهر أن من ترك بابه مفتوحا أنه يستتر لعلمه أن الناس ينظرون منه ويعلم بالناظر فيه والواقف عليه فلم يجز رميه كداخل الدار وان اطلع فرماه صاحب الدار فقال المطلع : ما تعمدت الاطلاع لم يضمنه على ظاهر كلام أحمد لأن الاطلاع قد وجد والرامي لا يعلم ما في قلبه وعلى قول ابن حامد يضمنه لأنه لم يدفعه بما هو أسهل وكذلك لو قال : لم أر شيئا حين اطلعت وان كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا يرى شيئا ولو كان إنسان عريانا في طريق لم يكن له رمي من نظر إليه لأنه المفرط وإن كان المطلع في الدار من محارم النساء اللائي فيها فقال بعض أصحابنا : ليس لصاحب الدار رميه إلا أن يكن متجردات فيصرن كالأجانب وظاهر الخبر أن لصاحب الدار رميه سواء كان فيها نساء أو لم يكن لأنه لم يذكر أنه كان في الدار التي اطلع فيها على النبي صلى الله عليه و سلم نساء وقوله : [ لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ] عام في الدار التي فيها نساء و غيرها
فصل : وليس لصاحب الدار رمي الناظر بما يقتله ابتداء فإن رماه بحجر يقتله أو حديدة ثقيلة ضمنه بالقصاص لأنه إنما له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها دون ما يتعدى إلى غيرها فإن لم يندفع المطلع برميه بالشيء اليسير جاز رميه بأكثر منه حتى يأتي ذلك على نفسه وسواء كان الناظر في الطريق أو ملك نفسه أو غير ذلك

مسألة : وفصل : ما أفسدت البهائم في الليل فهو مضمون على أهلها
مسألة : قال : وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها وما أفسدت من ذلك نهارا لم يضمنوه
يعني إذا لم تكن يد أحد عليها فان كان صاحبها معها أو غيره فعلى من يده عليها ضمان ما أتلفته من نفس أو مال ونذكر ذلك في المسألة التي تلي هذه وإن لم تكن يد أحد عليها فعلى مالكها ضمان ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار وهذا قول مالك و الشافعي وأكثر فقهاء الحجاز فقال الليث : يضمن مالكها ما أفسدته ليلا ونهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته كالعبد إذا جنى وقال أبو حنيفة : لا ضمان عليه بحال لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجماء جرحها جبار ] يعني هدرا ولأنها أفسدت وليست يده عليها فلم يلزمه الضمان كما لو كان نهارا أو كما لو أتلفت غير الزرع
ولنا ما روى مالك عن الزهري [ عن حزام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن على أهل الاموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم ] قال ابن عبد البر : ان كان هذا مرسلا فهو مشهور حدث به الأئمة الثقات وتلقاه فقهاء الحجاء بالقبول ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون الليل فاذا ذهبت ليلا كان التفريط من أهلها لتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ وان أتلفت نهارا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم وقد فرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى على كل انسان بالحفظ في وقت عادته وأما غير الزرع فلا يضمن لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة فلا يحتاج إلى حفظها بخلاف الزرع
فصل : قال بعض أصحابنا : إنما يضمن مالكها ما أتلفته ليلا إذا كان التفريط منه بارسالها ليلا أو ارسلها نهارا ولم يضمنها ليلا أو ضمنها بحيث يمكنها الخروج أما إذا ضمنها فأخرجها غيره بغير إذنه أو فتح عليها بابها فالضمان على مخرجها أو فاتح بابها لأنه متلف قال القاضي : هذه المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي أما القرى العامرة التي لا مرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق وطرف زرع فليس لصاحبها ارسالها بغير حافظ عن الزرع فان فعله فعليه الضمان لتفريطه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي

فصل : حكم ما لو أتلفت البهيمة غير الزرع
فصل : وإن أتلفت البهيمة غير الزرع لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلا كان أو نهارا ما لم تكن يده عليها وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلا بالضمان على صاحبها وقرأ شريح : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهارا لأنه مفرط بارسالها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجماء جرحها جبار ] متفق عليه أي هدر وأما الآية فان النفش هو الرعي بالليل فكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعا بالرعي وتدعوها نفسها الى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غيره عليه

فصل : حكم من اقتنى كلبا عقورا فأطلقهة فعقر إنسانا أو دابة
فصل : ومن اقتنى كلبا عقورا فأطلقه فعقر انسانا أو دابة ليلا أو نهارا أو خرق ثوب انسان فعلى صاحبه ضمان ما أتلفه لأنه مفرط باقتنائه إلا أن يدخل إنسان داره بغير إذنه فلا ضمان فيه لأنه معتد بالدخول متسبب بعدوانه الى عقر الكلب له وان دخل باذن المالك فعليه ضمانه لأنه تسبب الى إتلافه وإن أتلف الكلب بغير العقر مثل ان ولغ في اناء انسان أو بال لم يضمنه مقتنيه لأن هذا لا يختص به الكلب العقور قال القاضي : وان اقتنى سنورا يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه كما يضمن ما أتلفه الكلب العقور ولا فرق بين الليل والنهار وان لم يكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته كالكلب إذا لم يكن عقورا ولو ان الكلب العقور أو السنور حصل عند انسان من غير اقتنائه ولا اختياره فافسد لم يضمنه لأنه لم يحصل الاتلاف بسببه

فصل : خكممن اقتنى حماما وغيره من الطير فألقه نهارا فلقط حبا
فصل : وان اقتنى حماما أو غيره من الطير فأرسله نهارا فلقط حبا لم يضمنه لأنه كالبهيمة والعادة إرساله

فصول ومسائل : في جناية الدواب
مسألة : قال : وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال وكذلك إن قادها أو ساقها
وهذا قول شريح و أبي حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا ضمان عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجماء جرحها جبار ] ولأنه جناية بهيمة فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرجل جبار ] رواه سعيد باسناده عن هزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه و سلم وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وتخصيص الرجل بكونه جبارا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يد له عليها وحديثه محمول على من لا يد له عليها
مسألة : قال : وما جنت برجلها فلا ضمان عليه
وبهذا قال ابو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح و الشافعي لأنه من جناية بهيمة يده عليها فيضمنها كجناية يده
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرجل جبار ] ولأنه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها بلجامها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك ضمن جناية رجلها لأنه السبب في جنايتها فكان ضمانها عليه ولو كان السبب في جنايتها غيره مثل أن نخسها أو نفرها فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها أو سائقها أو قائدها لأن ذلك هو السبب في جنايتها
فصل : فان كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها القادر على كفها إلا أن يكون الأول منهما صغيرا أو مريضا أو نحوهما ويكون الثاني المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه وإن كان مع الدابة قائد ووسائق فالضمان عليهما لأن كل واحد لو انفرد ضمن فاذا اجتمعا ضمنا وان كان معهما أو مع أحدهما راكب ففيه وجهان : أحدهما الضمان عليهم جميعا لذلك والثاني على الراكب لأنه أقوى يدا وتصرفا ويحتمل أن يكون على القائد لأنه لا حكم للراكب مع القائد
فصل : والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته لأنه في حكم القائد فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أن لا تضمن جنايته إلا أن يكون له سائق لان الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية ولو كان مع الدابة ولدها لم تضمن جنايته لأنه لا يمكنه حفظه
فصل وان وقفت الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم لانه متعد بوقفها فيه وان كان الطريق واسعا ففيه روايتان :
إحداهما : يضمن وهو مذهب الشافعي لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة وكذلك لو ترك في الطريق طينا فزلق به إنسان ضمنه
والثانية : لا يضمن لأنه متعد بوقفها في الطريق الواسع فلم يضمن كما لو وقفها في موات وفارق الطين لأنه متعد بتركه في الطريق
مسألة : قال : واذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر
وجملته أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ماتلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين ويهذا قال أبو حنيفة وصاحباه و اسحاق وقال مالك و الشافعي : على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان منقسما عليهما كما لو جرح إنسان حقه وجرحه غيره فمات منهما
ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا وان كانت إحداهما أكثر من الاخرى فلصاحبها الزيادة وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وان نقصت فعليه نقصها
فصل : فان كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف
مسألة : قال : وان كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف
نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه وان مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته وان انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما وان كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لان التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به انسان
مسألة : قال : وان تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر
روي هذا عن علي رضي الله عنه والخلاف ههنا في الضمان كالخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص ههنا في الضمان لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد منهما وان اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة أو يكون الضمان على المتصا دمين تقاصا ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمدا أو خطأ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ولا فرق بين البصيرين والاعميين والبصير والاعمى فان كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين فان أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتها في الجنين وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنينين بغرة إذا سقطا ميتين وعتق رقبتين وان اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين
فصل : وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلفه وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي فان هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ثم انتقلت إلى قيمة العبد ووجبت قيمة العبد في تركة الحر فيتقاصان فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة لأنها لا متعلق لها وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني وفي مال الحر عتق رقبة ولا شيء على العبد لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته وإن مات العبد وحده فقيمته في ذمة الحر لأن العاقلة لا تحمل العبد وإن مات الحر وحده تعلقت ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت وإن قتله أجنبي فعليه قيمته ويتحول ما كان متعلقا برقبته الى قيمته لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه

مسألة وفصول : في جنايات السفن
مسألة : قال : وإذا وقعت السفينة المنحدرة على المصاعدة فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة المصاعدة أو ارش ما نقصت إن أخرجت إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها
وجملته أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلوا من حالين : أحدهما أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف أو كانت إحداهما منحدرة والاخرى مصاعدة فنبدأ بما اذا كانت احداهما منحدرة والاخرى مصاعدة لانها مسألة الكتاب ولا يخلو من حالين :
أحدهما : أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعدلها الى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما فعلى المنحدر ضمان المصاعدة لأنها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سببا لغرقها فتنزل المنحدرة بمنزلة السائر والمصاعدة بمنزلة الواقف وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد لأنه المفرط وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
الحال الثاني : أن يكونا متساويتين فان كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كما قلنا في الفارسين يصطدمان وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما و للشافعي في حال عدم التفريط قولان : أحدهما عليهما الضمان لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما
ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتزاز من ذلك فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة ويخالف الفرسين فانه ممكن ضبطهما والاحتزاز من طردهما وإن كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده فإن اختلفا في تفريط القيم فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع وعند الشافعي أنهما إذا كان مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه كقوله الفارسين على ما مضى
فصل : فان كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص ههنا لان من يجب له غير من يجب عليه وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كان حرين وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين وقيمة العبيد في أموالهما وإن كان القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتهما فإن تلفا جيعا سقط الضمان وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد أخر فلا ضمان لأن الهلاك بأمر غير مستطاع
فصل : وان كانت احدى السفينتين قائمة والاخرى سائرة فلا ضمان على الواقفة وعلى السائرة ضمان الواقفة ان كان مفرطا ولا ضمان عليه ان لم يفرط على ما قدمنا
فصل : وان خيف على السفينة الغرق فألقى بعض الركبان متاعه لتخف وتسلم من الغرق لم يضمنه أحد لأنه أتلف متاع نفسه باختياره لصلاحه وصلاح غيره وإن ألقى متاع غيره بغير أمره ضمنه وحده وإن قال لغيره : ألق متاعك فقبل منه لم يضمنه له لأنه لم يلتزم ضمانه وإن قال : ألقه وأنا ضامن له أو وعلي قيمته لزمه ضمانه له لأنه أتلف ماله بعوض لمصلحة فوجب له العوض على من التزمه كما لو قال : أعتق عبدك وعلي ثمنه وإن قال : ألقه وعلي وعلي ركبان السفينة ضمانه فألقاه : ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه ضمان نفسه وهذا نص الشافعي وهو الذي ذكره أبو بكر لأنه التزم ضمانه جميعه فلزمه ما التزمه وقال القاضي : ان كان ضمان اشتراك مثل أن يقول : نحن نضمن لك أو قال : على كل واحد منا ضمان قسطه أو ربع متاعك لم يلزمه إلا ما يخصه من الضمان وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنه لم يضمن إلا حصته وانما اخبر عن الباقين بالضمان فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان وإن التزم ضمان الجميع وأخبر عن كل واحد منهم بمثل ذلك لزمه ضمان الكل وإن قال : ألقه على أن اضمنه لك أنا وركبان السفينة فقد أذنوا لي في ذلك فألقاه ثم أنكروا الإذن فهو ضامن لجميعه وإن قال : ألقي متاعي وتضمنه لي ؟ فقال : نعم فألقاه ضمنه له وإن قال : ألق متاعك وعلي ضمان نصفه وعلى أخي ضمان ما بقي فألقاه فعليه ضمان النصف وحده ولا شيء على الآخر لأنه لم يضمن
فصل : وإذا خرق سفينة فغرقت بما فيها وكان عمدا وهو مما يغرقها غالبا ويهلك من فيها لكونهم في اللجة أو لعدم معرفتهم بالسباحة فعليه القصاص ان قتل من يجب القصاص بقتله وعليه ضمان السفينة بما فيها من مال ونفس وإن كان خطأ فعليه ضمان العبيد ودية الاحرار على عاقلته وإن كان عمد خطأ مثل أن يأخذ السفينة ليصلح موضعا فقلع لوحا أو يصلح مسمارا فنقب موضعا فهذا عمد الخطأ وذكره القاضي وهو مذهب الشافعي والصحيح أن هذا خطأ محض لأنه قصد فعلا مباحا فأفضى الى التلف لما لم يرده فأشبه ما لو رمى صيدا فأصاب آدميا ولكن إن قصد قلع اللوح في موضع الغالب أنه لا يتلفها فأتلفها فهو عمد الخطأ وفيه ما فيه والله أعلم

كتاب الجهاد
روى أبو هريرة رضي الله عليه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة ] متفق عليه ولمسلم : [ مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ] وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ] رواه البخاري

مسألة : الجهاد فرض على الكفاية
مسألة : قال : والجهاد فرض على الكفاية اذا قام به قوم سقط عن الباقين
معنى فرض الكفاية الذي إن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الاعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له وفرض الاعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره والجهاد من فروض الاعيان لقول الله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } ثم قال : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } وقوله سبحانه : { كتب عليكم القتال } وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ]
ولنا قول الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم وقال الله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا } ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث السرايا ويقيم وهو وسائر أصحابه فأما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس : نسخها قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } رواه الأثرم و أبو داود ويحتمل أن أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى غزوة تبوك وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه و سلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وإذا استنفرتم فانفروا ] متفق عليه ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم

فصل : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع
فصل : ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع :
احدها : إذا التقا الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } وقوله : { واصبروا إن الله مع الصابرين } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله }
الثاني : إذا نزل الكفر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم
الثالث : إذا استنفر الامام قوما لزمهم النفي معه لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية والتي بعدها وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا استنفرتم فانفروا ]

فصل : يشترط لوجود الجهاد سبعة شروط
فصل : ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط : الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة فأما الاسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع ولأن الكافر غير مأمون في الجهاد والمجنون لا يؤتى منه الجهاد والصبي ضعيف البنية [ وقد روى ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة ] متفق عليه وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج وأما الذكورية فتشترط [ لما روت عائشة قالت : قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ فقال : جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ] ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكرا فلا يجب مع الشك في شرطه وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وهو شرط لقول الله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد فأما العمى فمعروف وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب كالزمانة ونحوها وأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لأنه ممكن منه فشابه الأعور وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما اليسير منه الذي لا يمنع إمكان الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب لأنه لا يتعذر معه الجهاد فهو كالعور وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } ولأن الجهاد لا يمكن الا بآله فيعتبر القدرة عليها فإن كان الجهاد على مسافة لا تقصر فيها الصلاة اشترط أن يكون واجدا للزاد ونفقة عائلته في مدة غيبته وسلاح يقاتل به ولا تعتبر الراحلة لأنه سفر قريب وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون }

فصل : وأقل ما يفعل مرة في كل عام
فصل : وأقل ما يفعل مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فيجب في كل عام مرة إلا من عذر مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة أو يكون ينتظر المدد يستعين به أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أو ليس فيها علف أو ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الاسلام فيطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة فان النبي صلى الله عليه و سلم قد صالح قريشا عشر سنين وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة وإن دعت الحاجة الى القتال في عام اكثر من مرة وجب ذلك لأنه فرض كفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه

مسألة : لا شيء بعد الفرائض أفضل من الجهاد
مسألة : قال : قال أبو عبد الله : لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد
روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه قال الأثرم : قال أحمد : لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر العدو فجعل يبكي ويقول : ما من أعمال البر أفضل منه وقال عنه غيره : ليس يعدل لقاء العدو شيء ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه ؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم وقد [ روى ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لمواقيتها قلت : ثم أي ؟ قال : ثم بر الوالدين قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الأعمال أفضل ؟ أو أي الأعمال خير ؟ قال : ايمان بالله ورسوله قيل : ثم أي شيء ؟ قال : الجهاد سنام العمل قيل : ثم أي ؟ قال : حج مبرور ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وروى أبو سعيد الخدري قال : [ قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ] متفق عليه وعن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أخبركم بخير الناس ؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى الخلال باسناه عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده ما بين السماء والارض من عمل افضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ] ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم قويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله وأجره

مسألة : غزو البحر أفضل من غزو البر
مسألة : قال : وغزو البحر أفضل من غزو البر
وجملته أن الغزو في البحر مشروع وفضله كثير [ قال أنس بن مالك : نام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الاسرة - او - مثل الملوك على الاسرة ] متفق عليه قال ابن عبد البر : أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة أرضعته أخت لهما ثالثة ولم نر هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينام في بيتها وينظر الى شعرها ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب وروى أبو داود باسناده [ عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين ] وروى ابن ماجة قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وان الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين ] ولأن البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره

فصل : قتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم
فصل : وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وكان ابن مبارك يأتي من مرو لغزو الروم فقيل له في ذلك فقال : إن هؤلاء يقاتلون على دين [ وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأم خلاد : ان ابنك له أجر شهيدين قالت : ولم ذاك يا رسول الله ؟ قال : لأنه قتله أهل الكتاب ] رواه أبو داود

مسألة : يغزى مع كل بر وفاجر
مسألة : قال : ويغزى مع كل بر وفاجر
يعني مع كل إمام قال ابو عبد الله وسئل عن الرجل يقول : انا لا أغزو ويأخذه ولد العباس إنما يوفر الفيء عليهم فقال : سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبون جهال فيقال : أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو ؟ أليس كان قد ذهب الاسلام ؟ ما كانت تصنع الروم وقد روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الجهاد واجب عليكم مع كل امير برا كان او فاجرا ] وباسناده عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال والإيمان بالأقدار ] ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور كلمة الكفر وفيه فساد عظيم قال الله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }

فصل : ويغزى مع من له شفقة وحيطة على المسلمين
فصل : قال أحمد : لا يعجبني أن يخرج مع الامام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فان كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ]

فصل : لا يستصحب الأمير معه مخذلا
فصل : ولا يستصحب الامير معه مخذلا وهو الذي يثبط الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج اليه والقتال والجهاد مثل أن يقول : الحر أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا ولا مرجفا وهو الذي يقول : قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد و صبر ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار واطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد لقول الله تعالى : { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } ولأن هؤلاء مضرة على المسلمين فيلزمه منعهم وإن خرج معه أحد هؤلاء لم يسهم له ولم يرضخ وإن أظهر عون المسلمين لأنه يحتمل ان يكون أظهره نفاقا وقد ظهر دليله فيكون مجرد ضرر فلا يستحق مما غنموا شيئا وإن كان الأمير أحد هؤلاء لم يستحب الخروج معه لأنه إذا منع خروجه تبعا فمتبوعا أولى ولأنه لا تؤمن المضرة على من صحبه

مسألة : يقاتل كل قوم من يليهم من العدو
مسألة : قال : ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو
الأصل في هذا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } ولأن الأقرب أكثر ضررا وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراءه والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه قيل لأحمد : يحكون عن ابن المبارك أنه قيل له : تركت قتال العدو عندك وجئت الى ههنا ؟ قال : هؤلاء أهل الكتاب فقال أبو عبد الله : ما أدري ما هذا القول ؟ يترك العدو عنده ويجيء إلى ههنا أفيكون هذا ؟ أو يستقيم هذا ؟ وقد قال الله تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } لو أن أهل خراسان كلهم عملوا على هذا لم يجاهد الترك أحد وهذا والله أعلم إنما فعله ابن المبارك لكونه متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان وأجناد المسلمين والمتبرع له ترك الجهاد بالكلية فكان له أن يجاهد حيث شاء ومع من شاء
إذا ثبت هذا فان كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو لمصلحة في البداية به لقربه وامكان الفرصة منه أو لكون الأقرب مهادنا أو يمنع من قتاله مانع فلا بأس بالبداية بالأبعد لكونه موضع حاجة

فصل : أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده
فصل : وأمر الجهاد موكول إلى الامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك وينبغي أن يبتدىء بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون من بازائهم من المشركين ويأمر بعمل حصونهم وحفر خنادقهم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية أميرا يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة العدو ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين وانما يبدأ بذلك لأنه لا يأمن عليها من المشركين ويغزو كل قوم من يليهم إلا أن يكون في بعض الجهات من لا يفي به من يليه فينقل إليه قوما من آخرين ويتقدم إلى من يؤمره أن لا يحمل المسلمين على مهلكة ولا يأمرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فإن فعل ذلك فقد أساء ويستغفر الله تعالى وليس عليه عقل ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لأنه فعل ذلك باختياره ومعرفته فان عدم الامام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع قال القاضي : ويؤخر قسمة الاماء حتى يظهر إمام احتياطا للفروج فان بعث الامام جيشا وأمر عليهم أميرا فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في جيش مؤتة لما قتل امراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالدا يومئذ ( سيف الله )

فصل : قال عمر : وفروا الأظفار في أرض العدو فإنه سلاح
فصل : قال أحمد : قال عمر : وفروا الظفار في أرض العدو فانه سلاح قال أحمد : يحتاج إليها في أرض العدو ألا ترى أنه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشيء فاذا لم يكن له أظفار لم يستطع وقال عن الحكم بن عمرو : أمرنا رسول الله صلى الله عليه سلم أن لا نحفي الأظفار في الجهاد فان القوة الاظفار

فصل : يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه
فصل : قال أحمد : يشيع الرجل اذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك ولم يتلقه
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبو بكر رضي الله عنه يمشي فقال له يزيد : يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن انزل أنا فأمشي معك قال : لا أركب ولا تنزل انني احتسب خطاي هذه في سبيل الله وشيع أبو عبد الله ابا الحارث الصائغ ونعلاه في يديه وذهب الى فعل أبي بكر : أراد ان تغبر قدماه في سبيل الله وقال عن عوف بن مالك الخثعمي عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ] قال أحمد : ليس للخثعمي صحبة وهو قديم

مسألة : تمام الرباط أربعون يوما
مسألة : قال : وتمام الرباط أربعون يوما
معنى الرباط الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم وأصل الرباط من رباط الخيل لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه فسمي المقام بالثغر رباطا وإن لم يكن فيه خيل وفضله عظيم وأجره كبير قال أحمد ليس يعدل الجهاد عندي والرباط شيء والرباط دفع عن المسلمين وعن حريمهم وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو فالرباط أصل الجهاد وفرعه والجهاد أفضل منه للعناء والتعب والمشقة
وقد روي في فضل الرباط أخبار منها ما روى سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فان مات جرى عليه عمله الذي يعمل واجري عليه رزقه وأمن الفتان ] رواه مسلم
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فانه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال على المنبر : إني كنت كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن احدثكموه ليختار امرؤ منكم لنفسه سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل ] رواه أبو داود و الأثرم وغيرهما إذا ثبت هذا فان الرباط يقل ويكثر فكل مدة أقامها بنية الرباط فهو رباط قل أو كثر ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رباط يوم - ورباط ليلة ] قال أحمد : يوم رباط وليلة رباط وساعة رباط وقال عن أبي هريرة : ومن رابط يوما في سبيل الله كتب به أجر الصائم القائم ومن زاد زاده الله وروى سعيد بن منصور باسناده عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة : رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين : مسجد الحرام أو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن رابط اربعين يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط اربعون يوما روي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وقد ذكرنا خبر أبي هريرة وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تمام الرباط اربعون يوما ] وروي عن نافع عن ابن عمر أنه قدم على عمر بن أبي الخطاب من الرباط فقال له : كم رابطت ؟ قال ثلاثين يوما قال : عزمت عليك الا رجعت حتى تتمها أربعين يوما وان رابط أكثر فله أجره كما قال أبو هريرة ومن زاد زاده الله

فصل : أفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا
فصل : وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لأنهم احوج ومقامه به أنفع قال أحمد : أفضل الرباط أشدهم كلبا وقيل لأبي عبد الله : فأين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله ؟ قال : كل مدينة معقل للمسلمين مثل دمشق وقال : أرض الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع إليه الناس إذا غلبت الروم قيل لأبي عبد الله : فهذه الأحاديث التي جاءت : [ ان لم تكفل لي بالشام ] ونحو هذا قال : ما أكثر ما جاء فيه وقيل له : إن هذا في الثغور فأنكره وقال : أرض القدس أين هي : ولا يزال أهل اغرب ظاهرين هم أهل الشام ففسر أحمد الغرب في هذا الحديث بالشام وهو حديث صحيح رواه مسلم وإنما فسره بذلك لأن الشام يسمى مغربا لأنه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقا ولهذا قيل : ولأهل المشرق ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحا به : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام ]
وفي الحديث عن مالك بن مخامر عن معاذ بن جبل قال : وهم بالشام رواه البخاري في صحيحه وفي خبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تزال طائفة بدمشق ظاهرين ] أخرجه البخاري في التاريخ وقد رويت في الشام أخبار كثيرة منها [ حديث عبد الله بن حوالة الازدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن فقلت : خر لي يا رسول الله قال : عليك بالشام فانها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق باليمن ويشق من غدره فان الله تكفل لي بالشام وأهله ] رواه أبو داود بمعناه وكان أبو إدريس إذا روى هذا الخبر قال : ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه
وروي عن الأوزاعي قال : أتيت بالمدينة فسألت من بها من العلماء ؟ فقيل : محمد بن المنكدر ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت : والله لأبدأن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ بيدي وقال : من أي اخواننا أنت ؟ قلت : من أهل الشام قال : من أيهم ؟ قلت : من أهل دمشق قال : حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يكون للمسلمين ثلاث معاقل : فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية دمشق ومعقلهم من الدجال بيت المقدس ومعقلهم من يأجوج و مأجوج طور سيناء ] رواه أبو نعيم في الحلية وفي خبر آخر عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ان فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ] أخرجه أبو داود وروى سعيد بن منصور في سننه باسناده عن أبي النضر [ أن عوف بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أوصني قال : عليك بجبل الخمر قال : وما جبل الخمر ؟ قال : ارض المحشر ] وباسناده [ عن عطاء الخراساني بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : رحم الله أهل المقبرة ثلاث مرات فسئل عن ذلك فقال : تلك مقبرة تكون بعسقلان فكان عطاء يرابط بها كل عام أربعين يوما حتى مات ] وروى الدار قطني في كتابه المخرج على الصحيحين باسناده عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على مقبرة فقيل له : يا رسول الله أي مقبرة هي ؟ قال : مقبرة بأرض العدو ويقال لها عسقلان يفتتحها ناس من أمتي يبعث الله منها سبعين الف شهيد فيشفع الرجل في مثل ربيعة ومضر ولكل عروس وعروس الجنة عسقلان ] وباسناده عن ابن عباس رضي الله عنه [ أن رجلا اتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : اني أريد أن أغزو ؟ فقال : عليك بالشام وأهله ثم الزم من الشام عسقلان فانها إذا دارت الرحى في أمتي كان أهلها في راحة وعافية ]

فصل : يكره نقل النساء والذرية إلى الثغور المخوفة
فصل : ومذهب أبي عبد الله كراهة نقل النساء والذرية الى الثغور المخوفة وهو قول الحسن و الأوزاعي لما روى يزيد بن عبد الله قال : قال عمر : لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر رواه الأثرم باسناده ولأن الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها واستيلاؤهم على الذرية والنساء قيل لأبي عبد الله : فتخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الاثم ؟ قال : كيف لا أخاف الاثم وهو يعرض ذريته للمشركين ؟ وقال : كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال الى الشام قبل اليوم فأنا أنهى عنه الآن لأن الأمر قد اقترب وقال : لا بد لهؤلاء القوم من يوم قيل : فذلك في آخر الزمان قال : فهذا في آخر الزمان قيل : [ فالنبي صلى الله عليه و سلم كان يقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال : هذا للواحدة ليس الذرية ] وهذا من كلام أحمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحب لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلا بد لهم من السكنى بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص الثغور المخوفة بدليل أنه اختار سكنى دمشق ونحوها مع كونها ثغرا لأن الغالب سلامتها وسلامة أهلها

فصل : يستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم كلها
فصل : يستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم كلها ليكون أجمع لهم واذا حضر النفير صادفهم مجتمعين فيبلغ الخبر جميعهم وان جاء خبر يحتاجون الى سماعه أو أمر يراد إعلامهم به يعلمونه ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم قال أحمد : إن كانوا متفرقين يرى الجاسوس قلتهم قال : وبلغني عن الأوزاعي أنه قال في المساجد التي بالثغر : لو أن لي عليها ولاية لسمرت أبوابها ولم يقل لخربتها حتى تكون صلاتهم في موضع واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد

فصل : في الحرس في سبيل الله فضل كبير
فصل : وفي الحرس في سبيل الله فضل كبير قال ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله حارس الحرس ] و [ عن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فاطنبوا السير حتى كان عشية قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله قال : فاركب فركب فرسا له وجاء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم الى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : هل أحسستم فارسلكم الليلة ؟ قالوا : لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاته وسلم قال : أبشروا قد جاءكم فارسكم فاذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل نزلت الليلة ؟ قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها ] رواه أبو داود وعن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف قيام ليلها وصيام نهارها ] رواه ابن سنجر

مسألة : إذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما
مسألة : قال : وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا باذنهما
روي نحو هذا عن عمر وعثمان وبه قال مالك و الأوزاعي و الثوري و الشافعي وسائر أهل العلم وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أجاهد ؟ فقال : ألك أبوان ؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد ] وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح [ وفي رواية فقال : جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ] وعن أبي سعيد [ أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لك باليمن أحد ؟ قال : نعم أبواي قال : أذنا لك ؟ قال : لا قال : فارجع فاستأذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ] رواهن أبو داود ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم فأما إن كان أبواه غير مسلمين فلا اذن لهما وبذلك قال الشافعي وقال الثوري : لا يغزو إلا باذنهما لعموم الأخبار
ولنا أن أصحاب رسول الله صى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما منهم أبو بكر الصديق وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر وأبوه رئيس المشركين يومئذ قتل ببدر وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى : { لا تجد قوما } الآية وعموم الأخبار مخصص بما رويناه فأما إن كان أبواه رقيقين فعموم كلام الخرقي يقتضي وجوب استئذانهما لعموم الأخبار ولأنهما أبوان مسلمان فأشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر اذنهما لأنه لا ولاية لهما وإن كانا مجنونين فلا إذن لهما لأنه لا يمكن استئذانهما

مسألة : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما
مسألة : قال : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها
يعني إذا وجب عليه الجهاد لم يعتبر إذن والديه لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب مثل الحج والصلاة في الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب قال الأوزاعي : لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ولأن الله تعالى قال : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولم يشترط إذن الوالدين

فصل : إذا خرج للجهاد تطوعا بإذنهما فمعناه منه بعد سيره فعليه الرجوع
فصل : وإن خرج في جهاد تطوع بإذنهما فمعناه منه بعد سيره وقبل وجوبه فعليه الرجوع لأنه معنى لو وجد بالابتداء منع فاذا وجد في أثنائه منع كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع أو يحدث له عذر من مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه فان أمكنه الاقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش فاذا حضر الصف تعين عليه بحضوره ولم يبق لهما إذن وإن كان رجوعهما عن الإذن بعد تعين الجهاد عليه لم يؤثر رجوعهما شيئا وإن كانا كافرين فأسلما ومنعاه كان ذلك كمنعهما بعد اذنهما سواء وحكم الغريم يأذن في الجهاد ثم يمنع منه حكم الوالد على ما فصلناه فأما إن حدث للانسان في نفسه عذر من مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف سواء التقى الزحفان أو لم يلتقيا لأنه لا يمكنه القتال ولا فائدة في مقامه

فصل : إذا أذن له والداه بالغزو وشرطا عليه ألا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما
فصل : وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما كذلك قال الأوزاعي و ابن المنذر لأنه صار واجبا عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك

فصل : من عليه دين لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه
فصل : ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا باذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين
ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن [ رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ان قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عن خطاياي ؟ قال : نعم إلا الدين فان جبريل قال لي ذلك ] رواه مسلم وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لأنه تعلق بعينه فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغزيرا بتفويت الحق وإن ترك وفاء أو أقام كفيلا فله الغزو بغير إذن نص عليه أحمد فيمن ترك وفاء لأن [ عبد الله بن حرام أبا جابر بن عبد الله خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي ولم يذمه النبي صلى الله عليه ويلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه قال : ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه وقال لابنه جابر : أشعرت أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا ]

مسألة : يقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون
مسألة : قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون لأن الدعوة قد بلغتهم ويدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا
أما قوله في أهل الكتاب والمجوس : لا يدعون قبل القتال فهو على عمومه لأن الدعوة قد انتشرت وعمت فلم يبق منهم من لم تبلغه الدعوة إلا نادر بعيد وأما قوله : يدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا فليس بعام فان من بلغته الدعوة منهم لا يدعون وإن وجد منهم من لم تبلغه الدعوة دعي قبل القتال وكذلك إن وجد من أهل الكتاب من لم تبلغه الدعوة دعوا قبل القتال
قال أحمد : إن الدعوة قد بلغت وانتشرت ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة وذلك لما روى بريدة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته وبمن معه من المسلمين وقال : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك اليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الاسلام فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان هم ابوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان ابوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ] رواه أبو داود و مسلم وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الاسلام فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة فاستغني بذلك عن الدعاء عند القتال قال أحمد : كان النبي صلى الله عليه و سلم يدعو الى الاسلام قبل أن يحارب حتى أظهر الله الدين وعلا الاسلام ولا أعرف اليوم أحدا يدعى قد بلغت الدعوة كل أحد فالروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم وإنما كانت الدعوة في أول الاسلام وإن دعا فلا بأس وقد روى ابن عمر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون وإبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة وسبى الذرية ] متفق عليه وعن الصعب بن جثامة قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال : هم منهم ] متفق عليه [ وقال سلمة بن الأكوع : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فغزونا من المشركين فبيتناهم ] رواه أبو داود ويحتمل أن يحمل الأمر بالدعوة في حديث بريدة على الاستحباب فانها مستحبة في كل حال وقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عليا حين اعطاه الراية يوم خيبر وبعثه إلى قتالهم أن يدعوهم وهم ممن بلغتهم الدعوة ] رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة الاسدي حين تنبأ فلم يرجع فأظهره الله عليه ودعا سلمان أهل فارس فإذا ثبت هذا فان كان المدعو من أهل الكتاب أومجوسا دعاهم الى الاسلام فان أبوا دعاهم إلى اعطاء الجزية فان أبوا قاتلهم وإن كانوا من غيرهم دعاهم إلى الاسلام فان أبوا قاتلهم ومن قتل قبل الدعاء لم يضمن لأنه لا إيمان له ولا أمان فلم يضمن كنساء من بلغته الدعوة وصبيانهم

مسألة : يقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
مسألة : قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا
وجملته أن الكفار ثلاثة أقسام : قسم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن اتخذ التوراة والانجيل كتابا كالسامرة والفرنج ونحوهم فهؤلاء تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم إذا بذلوها لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقسم لهم شبهة كتاب وهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم واقرارهم بها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذين القسمين وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب وهم من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان ومن عبد ما استحسن وسائر الكفار فلا تقبل منهم الجزية ولا يقبل منهم سوى الاسلام هذا ظاهر 9المذهب وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق فيقرون ببذل الجزية كالمجوس وحكي عن مالك أنها تقبل من جميع الكفار إلا كفار قريش لحديث بريدة في المسألة قبل هذه وهو عام ولأنهم كفار فأشبهوا المجوس
ولنا عموم قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ] خص منهما أهل الكتاب بقوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } والمجوس بقوله : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] فمن عداها يبقى على مقتضى العموم ولأن الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في أخذ الجزية من المجوس ولم يأخذ عمر منهم الجزية حتى روى له عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] وثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر وهذا يدل على أنهم لم يقبلوا الجزية ممن سواهم فانهم إذا توقفوا فيمن له شبهة كتاب ففيمن لا شبهة له أولى ثم أخذ الجزية منهم للخبر المختص بهم فيدل على أنهم لم يأخذوها من غيرهم ولأن قول ي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] يدل على اختصاص أهل الكتاب ببذل الجزية إذ لو كان عاما في جميع الكفار لم يختص أهل الكتاب بإضافتها إليهم ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بالله وجميع كتبه ورسله ولم تكن لهم شبهة فلم يقروا ببذل الجزية كقريش وعبدة الأوثان من العرب ولأن تغليظ الكفر له أثر في تحتم القتل وكونه لا يقر بالجزية بدليل المرتد وأما المجوس فإن لهم شبهة كتاب والشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يبنى على الاحتياط فحرمت دماؤهم ولم يثبت حل نسائهم وذبائحهم لأن الحل لا يثبت بالشبهة ولأن الشبهة لما اقتضت تحريم دمائهم اقتضت تحريم ذبائحهم ونسائهم ليثبت التحريم في المواضع كلها تغليبا له على الإباحة ولا نسلم أنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق

مسألة : إذا جاء العدو وجب على الناس أن ينفروا المقل والمكثر
مسألة : قال : وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا المقل منهم والمكثر ولا يخرجوا إلى العدو إلا باذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه فلا يمكنهم أن يستأذنوه
قولهم المقل منهم والمكثر يعني به والله أعلم الغني والفقير أي مقل من المال ومكثر منه ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو اليهم ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال وذلك لقول الله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا استنفرتم فانفروا ] وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الاحزاب فقال تعالى : { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } ولأنهم إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع فلم يجز لاحد التخلف عنه فاذا ثبت هذا فانهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير لأن أمر الحرب موكول اليه وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم فينبغي أن يرجع الى رأيه لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم فلا يجب استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج اليهم لتعين الفساد في تركهم لذلك [ لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه و سلم فصادفهم سلمة بن الاكوع خارجا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : خير رجالتنا سلمة بن الاكوع وأعطاه سهم فارس وراجل ]

فصل : حكم ما لو غضب على رجل فقال له : أحرد عليك أن تصحبني فنادى بالنفير
فصل : وسئل أحمد عن الامام إذا غضب على الرجل فقال : احرج عليك أن لا تصحبني فنادى بالنفير يكون إذنا له ؟ قال : لا إنما قصد له وحده فلا يصحبه حتى يأذن له قال : وإذا نودي بالصلاة والنفير فان كان العدو بالبعد إنما جاءهم طليعة للعدو صلوا ونفروا اليهم واذا استغاثوا بهم وقد ورد العدو أغاثوا ونصروا وصلوا على ظهور دوابهم ويؤمون والغياث عندي أفضل من صلاة الجماعة والطالب والمطلوب في هذا الموضع يصلي على ظهر دابته وهو يسير أفضل إن شاء الله تعالى وإذا سمع النفير وقد أقيمت الصلاة يصلي ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جنب يعني غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب قال : ولا يقطع الصلاة إذا كان فيها وإذا جاء النفير والامام يخطب يوم الجمعة لا ترى أن ينفروا ؟ قال : ولا تنفروا الخيل إلا على حقيقة ولا تنفر على الغلام إذا أبق إذا أنفروهم فلا يكون هلاك الناس بسبب غلام وإذا نادى الامام : الصلاة جامعة لأمر يحدث فيشاور فيه لم يتخلف عنه أحد إلا من عذر

مسألة : لا يدخل مع المسلمين إلى أرض العدو من النساء إلا الطاعنة في السن
مسألة : قال : ولا يدخل مع المسلمين من النساء الى ارض العدو إلا الطاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم
وجملته انه يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن وقد [ روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا منه الغضب فقال : مع من خرجتن ؟ فقلنا : يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال : قمن حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال فقلت لها : يا جدة ما كان ذلك ؟ قالت : تمرا ] قيل للأوزاعي : هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف ؟ قال : لا إلا بالجواري فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من الخبر وكانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغزوان مع النبي صلى الله عليه و سلم فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى
وقال أنس : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح فان قيل : فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يخرج معه من تقع عليها القرعة من نسائه وخرج بعائشة مرات قيل : تلك امرأة واحدة يأخذها لحاجته إليها ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا

فصل : ينبغي للأمير الرفق بجيشه
فصل : ينبغي للأمير أن يرفق بجيشه ويسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم وإن دعت الحاجة إلى الجد في السير جاز له فان النبي صلى الله عليه و سلم جد في السير جدا شديدا حين بلغه قول عبد الله بن أبي : ليخرجن الأعز منها الأذل ليشتغل الناس عن الخوض فيه وإن عمر جد في السير حين استصرخ على صفية امرأته ولا يميل الأمير مع موافقيه في المذهب والنسب على مخالفيه فيهما لئلا يكسر قلوبهم فيخذلونه عند حاجته إليهم ويكثر المشاورة لذوي الرأي من أصحابه فإن الله تعالى قال : { وشاورهم في الأمر } ويتخير المنازل لأصحابه وإذا وجد رجل رجلا قد أصيبت فرسه ومع الآخر فضل استحب له حمله ولم يجب نص عليه أحمد فإن خاف تلفه فقال القاضي : يجب بذل فضل مركوبه ليحيى به صاحبه كما يلزمه بذل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدوه

فصل : حكم الرجلين يشتريان فرسا يغزوان عليه
فصل : وسئل أحمد عن الرجلين : يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه يركب هذا عقبة وهذا عقبة ما سمعت فيه بشيء وأرجو أن لا يكون به بأس قيل له : أيما أحب اليك ؟ يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق ؟ قال : يرافق هذا أرفق يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره فلا بأس بالنهد قد تناهد الصالحون كان الحسن إذا سافر ألقى معهم ويزيد أيظا بعدما يلقي ومعنى النهد أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئا من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعا وكان الحسن البصري يدفع إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سرا بمثل ذلك يدفعه اليه
وقال أحمد : ما أرى أن يغزو ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ] رواه أبو داود و الأثرم

مسألة : إذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز علجا
مسألة : قال : وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز علجا ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا باذنه
يعني لا يخرج من العسكر لتعلف وهو تحصيل العلف للدواب ولا لاحتطاب ولا غيره إلا بإذن الأمير لقول الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ولأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم فاذا خرج خارج بغير اذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو فيأخذوه أو طليعة لهم أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك وإذا كان بإذن الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم وأما المبارزة فيجوز بإذن الامير في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فانه لم يعرفها وكرهها
ولنا أن حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر باذن النبي صلى الله عليه و سلم وبارز علي عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق فقتله وبارز مرحبا يوم حنين وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارزه قبل ذلك عامر بن الأكوع فاستشهد وبارز البراء بن مالك مرزبان الذارة فقتله وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا وروي عنه أنه قال : قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة سوى من شاركت فيه وبارز شبر بن علقمة اسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنفله إياه سعد ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يبارزون في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وبعده ولم ينكره منكر فكان ذلك إجماعا وكان ابو ذر يقسم أن قوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وقال أبو قتادة : بارزت رجلا يوم حنين فقتلته إذا ثبت هذا فانه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن وبه قال الثوري و إسحاق ورخص فيها مالك و الشافعي و ابن المنذر لخبر أبي قتادة فانه لم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك اكثر من حكينا عنهم المبارزة لم يعلم منهم استئذان
ولنا أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان العدو ومتى برز الانسان إلى من لا يطيقه كان معرضا نفسه للهلاك فيكسر قلوب المسلمين فينبغي أن يفوض ذلك الى الامام ليختار للمبارزة من يرضاه لها فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب المشركين فان قيل : فقد انحتم له أن ينغمس في الكفار وهو سبب لقتله قلنا : إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره فان ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكفار وإن قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفر ولا مقاومة فافترقا وأما مبارزة أبي قتادة فغير لازمة فانها كانت بعد التحام الحرب رأى رجلا يريد أن يقتل مسلما فضربه أبو قتادة فالتفت إلى إبي قتادة فضمه ضمة كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها بل المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو الى المبارزة فهذا هو الذي يعتبر به إذن الامام لأن عين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما وأيهما غلب سر اصحابه وكسر قلوب اعداائه بخلاف غيره إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم ثلاثة أقسام : مستحبة ومباحة ومكروهة اما المستحبة فاذا خرج علج يطلب البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الامير لأن فيه ردا عن المسلمين وإظهارا لقوتهم والمباح أن يبتدىء الرجل الشجاع بطلبها فيباح ولا يستحب لانه لا حاجة إليها ولا يأمن أن يغلب فيكسر قلوب المسلمين إلا أنه لما كان شجاعا واثقا من نفسه أبيح له لأنه بحكم الظاهر غالب والمكروه أن يبرز الضعيف المنة الذي لا يثق من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا

فصل : إذا خرج كافر يطلب البراز جاز رميه وقتله
فصل : وإذا خرج كافر يطلب البراز جاز رميه وقتله لأنه مشرك لا عهد له ولا أمان له فابيح قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك مجرى الشرط وإذا خرج إليه أحد يبارزه بشرط أن لا يعينه عليه سواه وجب الوفاء بشرطه لأن المؤمنين عند شروطهم فان انهزم المسلم تاركا للقتال أو مثخنا بجراحته جاز لكل أحد قتاله لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله وإن كان المسلم شرط عليه أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه وفى له بالشرط إلا أن يترك قتاله أو أثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يجيز عليه فيجوز أن يحولوا بينه وبينه فان قاتلهم قاتلوه لأنه إذا منعهم إنقاذه فقد نقض أمانه وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم أيضا ويقاتلون من أعان عليه ولا يقاتلونه لأنه ليس بصنع من جهته فان كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم صار ناقضا لأمانه وجاز لهم قتله وذكر الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم وإن أثخن بالجراح قيل له : فخاف المسلمون على صاحبهم ؟ قال : وإن لأن المبارزة إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا بينهما وخلوا سبيل العلج قال : فان أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم
ولنا أن حمزة وعليا أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شبيبة بن ربيعة حين اثخن عبيدة

فصل : تجوز الخدعة في الحرب
فصل : وتجوز الخدعة في الحرب للمبارزة وغيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحرب خدعة ] وهو حديث حسن صحيح
وروي أن عمرو بن عبد ود بارز عليا كرم الله وجهه فلما أقبل عليه قال علي : ما برزت لأقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو : خدعتني فقال علي : الحرب خدعة

فصل : إذا غزوا في البحر فأراد رجل الإقامة بالساحل استأذن الوالي
فصل : قال أحمد : إذا غزوا في البحر فأراد رجل أن يقيم بالساحل يستأذن الوالي الذي هو على جميع المراكب ولا يجزئه أن يستأذن الوالي الذي في مركبه

مسألة : من أعطي شيئا يستعين به في غزاته فيما فضل فهو له
مسألة : قال : ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له فان لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو
وجملته أن من أعطي شيئا من المال يستعين به في الغزو لم يخل اما أن يعطى لغزوة بعينها أو في الغزو مطلقا فإن أعطي لغزوة بعينها فما فضل بعد الغزو فهو له هذا قول عطاء و مجاهد وسعيد بن المسيب وكان ابن عمر إذا أعطى شيئا في الغزو يقول لصاحبه : إذا بلغت وادي القرى فشأنك به ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الاجازة فكان الفاضل له كما لو وصى أن يحج عنه فلان حجة بألف وإن أعطاه شيئا لينفقه في سبيل الله أو في الغزو مطلقا ففضل منه فضل أنفقه في غزاة اخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه انفاق الجميع فيها كما لو وصى أن يحج عنه بألف

فصل : من أعطي شيئا ليستعين به لا يترك لأهله منه شيئا لأنه ليس ملكه
فصل : ومن أعطي شيئا ليستعين به في الغزو فقال أحمد : لا يترك لأهله منه شيئا لأنه ليس يملكه إلا أن يصير إلى رأس مغزاة فيكون كهيئة ماله فيبعث إلى عياله منه ولا يتصرف فيه قبل الخروج لئلا يتخلف عن الغزو فلا يكون مستحقا لما أنفقه إلا أن يشتري منه سرحا أو آلة الغزو فان قصد إعطاءه لمن يغزو به فقال أحمد : لا يتخذ منه سفرة فيها طعام فيطعم منها أحدا لأنه إنما أعطيها لينفقها في جهة مخصوصة وهي الجهاد

مسألة : إذا حمل الرجل على دابة فهي له حين الرجوع من الغزو
مسألة : قال : وإذا حمل الرجل على دابة فاذا رجع من الغزو فهي له إلا أن يقول هي حبيس فلا يجوز أن تباع إلا أن تصير في حال لا تصلح فيه للغزو فتباع وتجعل في حبيس آخر وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله إذ كان في مكان لا ينتفع به جاز أن يباع ويجعل في مكان ينتفع به وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها
قوله حمل الرجل على دابة يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزى عليها ملكها كما يملك النفقة المدفوعة اليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبها أو حبيسا فتكون حبيسا بحاله قال عمر رضي الله عنه : [ حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننته بائعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فان العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ] متفق عليه وهذا يدل على أنه ملكه لولا ذلك ما باعه ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على أنه أقامه للبيع بعد غزوه عليه وذكر أحمد نحوا من هذا الكلام وسئل : متى يطيب له الفرس ؟ قال : إذا غزا عليه قيل له : فان العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس في الطلب الى خمس فراسخ ثم رجع ؟ قال : لا حتى يكون غزا قيل له : فحديث ابن عمر إذا بلغت وادي القرى فشأنك به قال ابن عمر : كان يصنع ذلك في ماله ورأى أنه يستحقه إذا غزا عليه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب والقاسم ويحيى الأنصاري و مالك و الليث و الثوري ونحوه عن الأوزاعي قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا يقول أن يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله إلا أن يقول له : شأنك به ما أردت
ولنا حديث عمر ليس فيه ما اشترط مالك فأما إذا قال : هي حبيس فلا يجوز بيعها وقد سبق شرح هذه المسألة في باب الوقف ويأتي شرح حكم الأضحية في بابها إن شاء الله

فصل : لا تركب دواب السبيل في حاجة غير الغزو
فصل : قال أحمد : لا يركب دواب السبيل في حاجة ويركبها ويستعملها في سبيل الله ولا يركب في الأمصار والقرى ولا بأس أن يركبها ويعلفها وأكره سباق الرمك على الفرس الحبيس وسهم الفرس الحبيس لمن غزا عليه ولا يباع الفرس الحبيس إلا من علة إذا عطب يصير للطحن ويصير ثمنه في مثله أو ينفق ثمنه على الدواب الحبيس وإذا أراد أن يشتري فرسا ليحمل عليه فقال أحمد : يستحب شراؤها من غير الثغر ليكون توسعة على أهل الثغر في الجلب

مسألة : من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب
مسألة : قال : وإذا سبى الامام فهو مخير إن رأى قتلهم وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض وان رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم وإن رأى فادى بهم وان رأى استرقهم أي ذلك رأى فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل
وجملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب : أحدها النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النساء والولدان ] متفق عليه وكان عليه السلام يسترقهم إذا سباهم
الثاني : الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيخير الامام فيهم بين أربعة أشياء : القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم
الثالث : الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية فيتخير الامام فيهم بين ثلاثة أشياء : القتل أو المن و المفاداة ولا يجوز استرقاقهم وعن أحمد جواز استرقاقهم وهو مذهب الشافعي وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور : وعن مالك كمذهبنا وعنه : لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للامام فعل ما فيه المصلحة وحكي عن الحسن و عطاء وسعيد بن جبير كراهة قتل الأسرى وقالوا : لو من عليه أو فاداه كما صنع بأسارى بدر ولأن الله تعالى قال : { فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء } فخير بين هذين بعد الأسر لا غير وقال أصحاب الرأي : إن ساء ضرب أعناقهم وإن شاء استرقهم لا غير ولا يجوز من ولا فداء لأن الله تعالى قال : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } بعد قوله : { فإما منا بعد وإما فداء } وكان عمر بن عبد العزيز وعياض بن عقبة يقتلان الأسارى
ولنا على جواز المن والفداء قول الله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ وأن النبي صلى الله عليه و سلم من على ثمامة بن أثال وأبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر : لو كان مطعم بن عدي حياثم سألني في هؤلاء النتنى لأطللقتهم له ] وفادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا كل رجل منهم باربعمائة وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين وأما قتل فلأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا وقتل أبا عزة يوم أحد وهذه قصص عمت واشتهرت وفعلها النبي صلى الله عليه و سلم مرات وهو دليل على جوازها ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى فان منهم من له قوة ونكاية في المسلمين وبقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم والدفع عنهم فالمن عليه أصلح ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض ذلك إليه وقوله تعالى : { اقتلوا المشركين } عام لا ينسخ به الخاص بل ينزل على ما عدا المخصوص ولهذا لم يحرموا استرقاقه فأما عبدة الأوثان ففي استرقاقهم روايتان : إحداهما لا يجوز وهو مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في أخذ الجزية
ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يقر بالاسترقاق كالمرتد وقد ذكرنا الدليل عليه إذا ثبت هذا فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعينت عليه ولم يجز العدول عنها ومتى تردد فيها فالقتل أولى قال مجاهد في أميرين : أحدهما يقتل الأسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك : وقال إسحاق : الاثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع به في الكثير

فصول : في الأسرى وحكمهم
فصل : وان أسلم الاسير صار رقيقا في الحال وزال التخيير وصار حكمه حكم النساء وبه قال الشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يسقط القتل ويتخير بين الخصال الثلاث لما روي [ أن أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم أسروا رجلا من بني عقيل فمر به النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد علام أخذت وأخذت سابقة الحاج فقال : أخذت بجريرة حلفائك من ثقيف فقد أسرت رجلين من أصحابي فمضى النبي صلى الله عليه و سلم فناداه : يا محمد يا محمد فقال له : ما شأنك فقال : إني مسلم فقال : لوقلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح وفادى به النبي صلى الله عليه و سلم الرجلين ] رواه مسلم ولأنه سقط القتل بإسلامه فبقي باقي الخصال على ما كانت عليه
ولنا أنه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة والحديث لا ينافي رقه فقد يفادى بالمرأة وهي رقيق كما [ روى سلمة بن الاكوع أنه غزا مع ابي بكر فنفله امرأة فوهبها للنبي صلى الله عليه و سلم فبعث بها إلى أهل مكة وفي ايديهم أسارى ففداهم بتلك المرأة ] إلا أنه لا يفادى به ولا يمن عليه إلا باذن الغانمين لأنه صار مالا لهم ويحتمل أن يجوز المن عليه لأنه كان يجوز المن عليه مع كفره فمع إسلامه أولى لكون الاسلام حسنة يقتضي إكرامه والانعام عليه لا منع ذلك في حقه ولا يجوز رده إلى الكفار إلا أن يكون له ما يمنعه من المشركين من عشيرة أو نحوها وإنما جاز فداؤه لأنه يتخلص به من الرق فأما إن أسلم قبل أسره حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك لانه لم يحصل في أيدي الغانمين بعد
فصل : فإن سأل الأسارى من أهل الكتاب تخليتهم على إعطاء الجزية لم يجز ذلك في نسائهم وذراريهم لأنهم صاروا غنيمة بالسبي وأما الرجال فيجوز ذلك فيهم ولا يزول التخيير الثابت فيهم وقال أصحاب الشافعي : يحرم قتلهم كما لو أسلموا
ولنا أنه بدل لا تلزم الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان
فصل : وإذا أسر العبد صار رقيقا للمسلمين لأنه مال لهم استولي عليه فكان للغانمين كالبهيمة وان رأى الامام قتله لضرر في بقائه جاز قتله لأن مثل هذا لا قيمة له فهو كالمرتد وأما من يحرم قتلهم غير النساء والصبيان كالشيخ والزمن والاعمى والراهب فلا يحل سبيهم لأن قتلهم حرام ولا نفع في اقتنائهم
فصل : ذكر أبو بكر أن الكافر إذا كان مولى مسلم لم يجز استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت ولاء المسلم المعصوم وعلى قوله لا يسترق ولده أيضا إذا كان عليه ولاء لذلك وإن كان معتقه ذميا جاز استرقاقه لأن سيده يجوز استرقاقه فاسترقاق مولاه أولى وهذا مذهب الشافعي وظاهر كلام الخرقي جواز استرقاقه لأنه يجوز قتله وهو من اهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره ولأن سبب جواز الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في استرقاقه ولأنه إن كان المسبي امرأة أو صبيا لم يجز فيه سوى الاسترقاق فيتعين ذلك فيه وما ذكره يبطل بالقتل فانه يفوت الولاء وهو جائز فيه وكذلك من عليه ولاء لذمي يجوز استرقاقه وقولهم ان سيده يجوز استرقاقه غير صحيح فان الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا

مسألة : سبيل من استرق منهم وما أخذ منهم سبيل الغنيمة
مسألة : قال : وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة
يعني من صار منهم رقيقا بضرب الرق عليه أو فودي بمال فهو كسائر الغنيمة يخمس ثم يقسم أربعة أخماسه بين الغانمين لا نعلم في هذا خلافا فان النبي صلى الله عليه و سلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأن مال غنمه المسلمون فأشبه الخيل والسلاح فان قيل : فالأسر لم يكن للغانمين فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله ؟ قلنا : إنما يفعل الإمام في الاسترقاق ما يرى فيه المصلحة لأنه لم يصر مالا فاذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لأنهم أسروه وقهروه وهذا لا يمنع ألا ترى أن من عليه الدين إذا قتل قتلا يوجب القصاص كان لورثته الخيار فإذا اختاروا الدية تعلق حق الغرماء بها

مسألة : حكم الأسرى من أهل الكتاب والمجوس وحكم غيرهم
مسألة : قال : وإنما يكون له استرقاقهم إذا كانوا من أهل الكتاب أو مجوسا فأما ما سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من بالغي رجالهم إلا الاسلام أو السيف أو الفداء
قد ذكرنا فيما تقدم أن غير أهل الكتاب لا يجوز استرقاق رجالهم في إحدى الروايتين

فصل : النساء والصبيان يصيرون رقيقا بالسبي
فصل : فأما النساء والصبيان فيصيرون رقيقا بالسبي ومنع أحمد من فداء النساء بالمال لأن في بقائهن تعريضا لهن للاسلام لبقائهن عند المسلمين وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق سلامه فاحتمل تفويت غرضية الاسلام من أجله ولا يلزم من ذلك احتمال فواتها لتحصيل المال فأما الصبيان فقال أحمد : لا يفادى بهم وذلك لأن الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى المشركين وكذلك المرأة إذا أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار بفداء ولا غيره لقول الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ولأن في ردها إليهم تعريضا لها للرجوع عن الاسلام واستحلال ما لا يحل منها وان كان الصبي غير محكوم باسلامه كالذي سبي مع أبويه لم يجز فداؤه بمال وهل يجوز فداؤه بمسلم ؟ يحتمل وجهين

فصل : لا يجوز بيع شيئ من رقيق المسلمين لكافر
فصل : ولم يجوز أحمد بيع شيء من رقيق المسلمين لكافر سواء كان الرقيق مسلما أو كافرا وهذا قول الحسن قال أحمد : ليس لأهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون شيئا قال : وكتب عمر بن الخطاب ينهى عن أمراء الأمصار هكذا حكى أهل الشام وليس له إسناد وجوز أبو حنيفة و الشافعي ذلك لأنه لا يمنع من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم
ولنا قول عمر ولم ينكر فيكون إجماعا ولأن فيه تفويتا للاسلام الذي يظهر وجوده فانه إذا بقي رقيقا للمسلمين الظاهر اسلامه فيفوت ذلك ببيعه لكافر بخلاف ما إذا كان رقيقا لكافر في ابتدائه فانه لم يثبت له هذه الغرضية والدوام يخالف الابتداء لقوته

فصل : من أسر أسيرا لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام
فصل : ومن أسر أسيرا لم يكن له قتله حتى يأتي به الأمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الإمام وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فانه قال : لا يقتل أسير إلا أن يشاء الوالي فمفهومه أن له قتل أسيره بغير إذن الوالي لأن له أن يقتله ابتداء فكان له قتله دواما كما لو هرب منه أو قاتله فان امتنع الأسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب وغيره فان لم يمكنه إكراهه فله قتله وان خافه أو خاف هربه فله قتله أيضا وان امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض فله قتله أيضا وتوقف أحمد عن قتله والصحيح أنه يقتله كما يذفف على جريحهم ولأن تركه حيا ضرر على المسلمين وتقوية للكفار فتعين القتل كحالة الابتداء إذا أمكنه قتله وكجريحهم إذا لم يأسره فأما أسير غيره فلا يجوز له قتله إلا أن يصير إلى حال يجوز قتله لمن أسره وقد روى يحيى بن أبي كثير أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يتعاطين أحدكم اسير صاحبه إذا أخذه فيقتله ] رواه سعيد فان قتل أسيره أو أسير غيره قبل ذلك أساء ولم يلزمه ضمانه وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي : إن قتله قبل أن يأتي به الامام لم يضمنه وإن قتله بعد ذلك غرم ثمنه لأنه أتلف من الغنيمة ما له قيمة فضمنه كما لو قتل امرأة
ولنا أن عبد الرحمن بن عوف أسر أمية بن خلف وابنه عليا يوم بدر فرآهما بلال فاستصرخ الأنصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئا ولأنه أتلف ما ليس بمال فلم يغرمه كما لو أتلفه قبل أن يأتي به الامام ولأنه أتلف ما لا قيمة له قبل أن يأتي به الامام فلم يغرمه كما لو أتلف كلبا فأما إن قتل امرأة أو صبيا غرمه لأنه صار رقيقا بنفس السبي

فصل : من أسر فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة
فصل : ومن أسر فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي امرا الظاهر خلافه يتعلق به اسقاط حق يتعلق برقبته فان شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي : لا تقبل إلا شهادة عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال
ولنا [ ما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر : لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى أو يضرب عنقه فقال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فاني سمعته يذكر الاسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إلا سهيل بن بيضاء فقبل شهادة عبد الله وحده ]

مسألة : ينفل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم
مسألة : قال : وينفل الامام ومن استخلفه الامام كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في بدأته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس
النفل زيادة تزاد على سهم الغازي ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض وقول الله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } كأنه سأل الله ولدا فأعطاه ما سأل وزاده ولدا لولد والمراد بالبداية ههنا ابتداء دخول الحرب والرجعة رجوعه عنها و النفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : هذا الذي ذكره الخرقي وهو أن الامام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيا بعث بين يديه سرية تغير على العدو ويجعل لهم الربع بعد الخمس فما قدمت به السرية من شيء أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي وذلك خمس آخر ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه فاذا قفل بعث سرية تغير وجعل لهم ثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه ثم اعطى السرية ثلث ما بقي ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه وبهذا قال حبيب بن مسلمة و الحسن و الأوزاعي وجماعة ويروى عن عمرو بن شعيب أنه قال : لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولعله يحتج بقوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } فخصه بها وكان سعيد بن المسيب و مالك يقولان : لا نفل إلا من الخمس وقال الشافعي : يخرج من خمس الخمس لما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا ] متفق عليه ولو أعطاهم من أربعة الاخماس التي هي لهم لم يكن نفلا وكان من سهامهم
ولنا ما [ روى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة ] وفي لفظ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل ] رواهما أبو داود وعن عبادة ابن الصامت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل في البداءة الربع وفي القفول الثلث ] رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب وفي لفظ قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع وينفلهم إذا قفلوا الثلت ] رواه الخلال بإسناده وروى الأثرم بإسناده عن جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له عمر : هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء ؟ وذكره ابن المنذر أيضا عن عمر وقال ابراهيم النخعي : ينفل السرية الثلث والربع يضريهم بذلك فأما قول عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين قال : لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر له حديث حبيب بن مسلمة : شغلك أكل الزبيب بالطائف وما ثبت للنبي صلى الله عليه و سلم ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل فأما حديث ابن عمر فهو حجة عليهم فان بعيرا على اثني عشر يكون جزءا من ثلاثة عشر وخمس الخمس جزء من خمسة وعشرين وجزء من ثلاثة عشر أكثر فلا يتصور أخذ الشيء من أقل منه يحققه أن الاثني عشر إذا كانت أربعة أخماس والبعير منها ثلث الخمس فكيف يتصور أخذ ثلث الخمس من خمس الخمس ؟ فهذا محال فتعين أن يكون ذلك من غيره أو أن النفل كان للسرية دون سائر الجيش على أن ما رويناه صريح في الحكم فلا يعارض بشيء مستنبط يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه إذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد أنهم إنما يستحقون هذا النفل بالشرط السابق فان لم يكن شرطه لهم فلا فانه قيل له : أليس قد نفل رسول الله صلى الله عليه و سلم في البداءة الربع وفي الرجوع الثلث ؟ قال : نعم ذاك إذا نفل وتقدم القول فيه فعلى هذا إن رأى الامام أن ينفلهم شيئا فله ذلك وإن رأى أن ينفلهم دون الثلث والربع فله ذلك لأنه إذا جاز أن لا يجعل لهم شيئا جاز أن يجعل لهم يسيرا ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث نص عليه أحمد وهو قول مكحول و الأوزاعي والجمهور من العلماء وقال الشافعي : لا حد للنفل بل هو موكول إلى اجتهاد الامام لأن النبي صلى الله عليه و سلم نفل مرة الثلث وأخرى الربع وفي حديث ابن عمر نفل نصف السدس فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الامام فينبغي أن يكون موكولا إلى اجتهاده
ولنا أن نفل النبي صلى الله عليه و سلم انتهى إلى الثلث فينبغي أن لا يتجاوزه وما ذكره الشافعي يدل على أنه ليس لاقل النفل حد وأنه يجوز أن ينفل أقل من الثلث والربع ونحن نقول به على أن هذا القول مع قوله ان النفل من خمس الخمس تناقض فان شرط لهم الامام زيادة على الثلث ردوا اليه وقال الأوزاعي : لا ينبغي أن يشرط النصف فان زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك من الخمس وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل لمشقتها فان الجيش في البداءة ردء للسرية تابع لها والعدو خائف وربما كان غارا وفي الرجعة لا ردء للسرية لأن الجيش منصرف عنهم والعدو مستيقظ كلب قال أحمد : في البداءة إذا كان ذاهبا الربع وفي القفلة إذا كان في الرجوع الثلث لأنهم يشتاقون إلى أهليهم فهذا أكبر
القسم الثاني : أن ينفل الامام بعض الجيش لعنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش قال أحمد في الرجل يأمره الامير يكون طليعة أو عنده يدفع اليه رأسا من السبي أودابة قال : إذا كان رجل له عناء ويقاتل في سبيل الله فلا بأس بذلك ذلك أنفع لهم يحرض هو وغيره يقاتلون ويغنمون وقال : إذا نفذ الامام صبيحة المغار الخيل فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشيء فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاءوا بشيء دون هؤلاء وظاهر هذا أن له إعطاء من هذه حاله من غير شرط وحجة هذا حديث سلمة بن الاكوع أنه قال : [ أغار عبد الرحمن بن عيينة على ابل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعتهم فذكر الحديث فأعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم سهم الفارس والراجل ] رواه مسلم و أبو داود وعنه أن [ النبي أمر أبا بكر قال : فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله صلى الله عليه و سلم فوهبتها له ] رواه مسلم بمعناه
القسم الثالث : أن يقول الامير : من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا فهذا جائز في قول أكثر اهل العلم منهم الثوري قال أحمد : إذا قال من جاء بعشر دواب أو بقر أو غنم فله واحد فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لهم ومن جاء بشيء أعطاه بقدره قيل له : إذا قال من جاء بعلج فله كذا وكذا فجاء بعلج يطيب له ما يعطى ؟ قال : نعم وكره مالك هذا القسم ولم يره وقال : قتالهم على هذا الوجه انما هو للدنيا وقال هو وأصحابه : لا نفل إلا بعد احراز الغنيمة قال مالك : ولم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] إلا بعد أن برد القتال
ولنا ما تقدم من حديث حبيب وعبادة وما شرطه عمر لجويبر بن عبد الله وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] ولأن فيه مصلحة وتحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب وما ذكروه يبطل بهذه المسائل وقاله أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل السلب للقاتل بعد أن برد القتال قلنا : قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات بعد قوله فهو بالنسبة اليها كالمشروط في أول الغزاة قال القاضي : ولا يجوز هذا إلا إذا كان فيه مصلحة المسلمين وإن لم يكن فيه فائدة لم يجز لأنه إنما يخرج على وجه المصلحة فاعتبرت الحاجة فيه كأجرة الحمال والحافظ إذا ثبت هذا فان النفل لا يختص بنوع من المال وذكر الخلال أنه نفل في الدراهم والدنانير وهو قول الأوزاعي لأن القاتل لا يستحق شيئا منها فكذلك غيره
ولنا حديث حبيب بن مسلمة وعبادة وجرير فان النبي صلى الله عليه و سلم جعل لهم الثلث والربع وهو عام في كل ما غنموه ولأنه نوع مال فجاز النفل فيه كسائر الأموال وأما القاتل فإنما نفل السلب وليست الدراهم والدنانير من السلب فلم يستحق غير ما جعل له

فصل : لا يختص النفل بنوع من المال
فصل : نقل ابو داود عن أحمد أنه قال له : من رجع الى الساقة فله دينار والرجل يعمل في سياقة الغنم قال : لم يزل اهل الشام يفعلون هذا وقد يكون في رجوعهم إلى الساقة وسياقة الغنم منفعة قيل له : فان أغار على قرية فنزل فيها والسبي والدواب والخرثي معهم في القرية ويمنع الناس من جمعه الكسل لا يخافون عليه العدو فيقول الامام : من جاء بعشرة أثواب فله ثوب ولم جاء بعشرة رؤوس رأس ؟ قال : أرجو أن لايكون به بأس فان قال : من جاء بعدل من دقيق الروم فله دينار يريده لطعام السبي ما ترى في أخذ الدينار ؟ فلم ير به بأسا قيل : فالامام يخرج السرية وقد نفلهم جميعا فلما كان يوم المغار نادى من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن جاء بكذا فله كذا فيذهب الناس فيطلبون فما ترى في هذا النفل ؟ قال : نعم ما لم يستغرق الثلث غير مرة سمعته يقول ذلك

فصل : يجوز للإمام أو نائبه بذل جعل لمن يدل على مصلحة للمسلمين
فصل : ويجوز للامام ونائبه أن يبذلا جعلا لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين مثل طريق سهل أو ماء في مفازة أو قلعة يفتحها أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغرة يدخل منها لا نعلم في هذا خلافا لأنه جعل في مصلحة فجاز كأجرة الدليل وقد استأجر النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر في الهجرة من دلهم على الطريق ويستحق الجعل بفعل ما جعل له الجعل فيه سواء كان مسلما أو كافرا من الجيش أو من غيره فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوما لأنها جعالة بعوض من مال معلوم فوجب أن يكون معلوما كالجعالة في رد الآبق وإن كان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا جهالة لم تمنع التسليم ولا تفضي إلى التنازع لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموه وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو الحاجة إليه والجعالة إنما تجوز بحسب الحاجة فإن جعل له جارية معينة إن دله على قلعة يفتحها مثل أن جعل له بنت رجل عينه من أهل القلعة لم يستحق شيئا حتى يفتح القلعة لأن جعالة شئ منه اقتضت اشتراط فتحها فإذا فتحت القلعة عنوة سلمت إليه إلا أن تكون قد أسلمت قبل الفتح فإنها عصمت نفسها بإسلامها فتعذر دفعها إليه فتدفع إليه قيمتها فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده إليهم فجاء نساء مسلمات منعه الله من ردهن ولو كان الجعل رجلا من أهل القلعة فأسلم قبل الفتح عصم أيضا نفسه ولم يجز دفعه وكان لصاحب الجعل قيمته وإن كان إسلام الجارية أو الرجل بعد أسرهم سلما إليه إن كان مسلما وإن كان كافرا فله قيمتها لأن الكافر لا يبتدئ الملك على مسلم وإن ماتا قبل الفتح أو بعده فلا شئ له لأنه علق حقه بشئ معين وقد تلف بغير تفريط فسقط حقه كالوديعة وفارق ما إذا أسلما فإن تسليمهما ممكن لكن منع الشرع منه وإن كان الفتح صلحا فاستثنى الإمام الجارية والرجل وسلمهما صح وإن وقع الصلح مطلقا طلب الجعل من صاحب القلعة وبذلت له قيمتها فإن سلما إلى الإمام سلمهما إلى صاحبهما وإن أبى عرض على مشترطهما قيمتها فإن أخذها أعطيها وتم الصلح وإن أبى فقال القاضي : يفسح الصلح لأنه حق قد تعذر إمضاء الصلح لأن صاحب الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينه وبين الصلح ونحو هذا مذهب الشافعي ولصاحب القلعة أن يحصنها مثلما كانت من غير زيادة ويحتمل أن يمضي الصلح وتدفع إلى صاحب الجعل قيمته لأنه تعذر دفعه إليه مع بقائه فدفعت إليه قيمته كما لو أسلم الجعل قبل الفتح أو أسلم بعده وصاحب الجعل كافر وقولهم : إن حق صاحب الجعل سابق قلنا : إلا أن المفسدة في فسخ الظلم أعظم لأن ضرره يعود على الجيش كله وربما عاد على غيره من المسلمين في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ويبقى ضررها على المسلمين ولا يجوز تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد فإن ضرر صاحب الجعل إنما هو في فوات عين الجعل وتفاوت ما بين عين الشئ وقيمته يسير سيما وهو في حق شخص واحد ومراعاة حق المسلمين أجمعين بدفع الضرر الكثير عنهم أولى من دفع الضرر اليسير عن واحد منهم أو من غيرهم ولهذا قلنا فيمن وجد ماله قبل قسمه فهو أحق به فإن وجده بعد قسمته لم يأخذه إلا بثمنه لئلا يؤدي إلى الضرر بنقص القيمة أو حرمان من وقع ذلك في سهمه

فصل : النفل من أربعة أخماس الغنيمة
فصل : قال أحمد : والنفل من أربعة أخماس الغنيمة هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام منهم رجاء بن حيوة و عبادة بن نسي و عدي بن عدي و مكحول و القاسم بن عبد الرحمن و يزيد بن أبي مالك و يحيى بن جابر و الأوزاعي وبه قال إسحاق و أبو عبيد وقال أبو عبيد : والناس اليوم على هذا قال أحمد : وكان سعيد بن المسيب و مالك بن أنس يقولان : لا نفل إلا من الخمس فكيف خفي عليهما هذا مع علمهما ؟
وقال النخعي وطائفة : إن شاء الامام نفلهم قبل الخمس وإن شاء بعده وقال أبو ثور : وإنما النفل قبل الخمس واحتج من ذهب إلى هذا بحديث ابن عمر الذي أوردناه
ولنا ما روى معن بن يزيد السلمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نفل إلا بعد الخمس ] رواه أبو داود و ابن عبد البر وهذا صريح وحديث حبيب بن مسلمة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس ] وحديث جرير حين قال له عمر : ولك الثلث بعد الخمس ولان النبي صلى الله عليه و سلم نفل الثلث ولا يتصور اخراجه من الخمس ولان الله تعالى قال : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } يقتضي أن يكون الخمس خارجا من الغنيمة كلها وأما حديث ابن عمر فقد رواه شعيب عن نافع [ عن ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في جيش قبل نجد وابتعث سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا ] فهذا يمكن أن يكون نفلهم من أربعة أخماس الغنيمة دون بقية الجيش كما ينفل السرايا ويتعين حمل الخبر على هذا لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلا وكان قد قسم لهم أكثر من أربعة الاخماس وهو خلاف الآية والأخبار

فصل : كلام أحمد في أن النفل من أربعة أخماس عام لعموم الخبر فيه
فصل : وكلام احمد في أن النفل من أربعة الاخماس عام لعموم الخبر فيه ويحتمل أن يحمل على القسمين الأولين من النفل فأما القسم الثالث وهو أن يقول من جاء بشيء فله كذا أو من جاء بعشرة رؤؤس فله رأس منها فيحتمل أن يستحق ذلك من الغنيمة كلها لأنه ينزل بمنزلة الجعل فأشبه السلب فانه غير مخموس ويحتمل في القسم الثاني وهو زيادة بعض الغانمين على سهمه لغنائه أن يكون من خمس الخمس المعد للمصالح لأن عطية هذا من المصالح والمذهب المنصوص عليه الأول لأن عطية سلمة بن الاكوع سهم الفارس زيادة على سهمه إنما كانت من أربعة الاخماس والله أعلم

مسألة : يرد من نفل على من معه في السرية
مسألة : قال : ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه
هذا في الصورة التي ذكرها الخرقي وهي القسم الاول من أقسام النفل وهو إذا بعث سرية ونفلها الثلث أو الربع فدفع النفل الى بعضهم وخصه به أو جاء بعضهم بشيء فنفله ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله شارك من نفل من لم ينفل نص عليه أحمد لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء ولأنهم استحقوا النفل على وجه الاشاعة بينهم بالشرط السابق فلم يختص به واحد منهم كالغنيمة فأما في القسمين الآخرين اللذين لم يذكرهما الخرقي مثل أن يخص بعض الجيش بنفل لغنائه أو يجعله له كقوله : من جاء بعشرة رؤوس فله رأس فجاء واحد بعشرة دون الجيش فإن من نفل يختص بنفله دون غيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما خص من قتل بسلب قتيله اختص به ولما خص سلمة بن الأكوع بسهم الفارس والراجل اختص به وكذلك اختص بالمرأة التي نفلها إياه أبو بكر دون الناس ولأن هذا جعل تحريضا على القتال وحثا على فعل ما يحتاج المسلمون إليه ليحمل فاعله كلفة فعله رغبة فيما جعل له فلو لم يختص به فاعله ما خاطر أحد بنفسه في فعله ولا حصلت مصلحة النفل فوجب أن يختص الفاعل لذلك بنفله كثواب الآخرة

مسألتان وفصول : حكم ما إذا قتل واحد منا واحدا منهم مقبلا على القتال وحكم سلب القتلى
مسألة : قال : ومن قتل منا أحدا منهم مقبلا على القتال فله سلبه غير مخموس قال ذلك الإمام أو لم يقل
في هذه المسألة فصول ستة :
الفصل الأول : أن القاتل يمتحق السلب في الجملة ولا نعلم فيه خلافا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل كافرا فله سلبه ] رواه الجماعة عن النبي صلى الله عليه و سلم منهم انس وسمرة بن جندب وغيرهما روى [ أبو قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام خيبر فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله عليه وسلم : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال : فقمت فقلت : من يشهد لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لك يا أبا قتادة ؟ فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فارضة منه فقال أبو بكر الصديق : لاها الله إذا تعمد إلى اسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صدق فأسلمه اليه قال : فأعطانيه ] متفق عليه و [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين : من قتل قتيلا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا فأخذ اسلابهم ] رواه أبو داود
الفصل الثاني : أن السلب لكل قاتل يستحق السهم أو الرضخ كالعبد والمرأة والصبي والمشرك وروي عن ابن عمر أن العبد إذا بارز باذن مولاه فقتل لم يستحق السلب ويرضخ له منه و للشافعي فيمن لا سهم له قولان : أحدهما لا يستحق السلب لأن السهم آكد منه للاجماع عليه فاذا لم يستحقه فالسلب أولى
ولنا عموم الخبر وأنه قاتل من أهل الغنيمة فاستحق السلب كذا السهم ولأن الأمير لو جعل جعلا لمن صنع شيئا فيه نفع للمسلمين لاستحقه فاعله من هؤلاء فالذي جعله النبي صلى الله عليه و سلم أولى وفارق السهم لأنه علق على المظنة ولهذا يستحق بالحضور ويستوي فيه الفاعل وغيره والسلب مستحق بحقيقة الفعل وقد وجد منه ذلك فاستحقه كالمجعول له جعلا على فعل إذا فعله فان كان القاتل ممن لا يستحق سهما ولا رضخا كالمرجف والمخذل والمعين على المسلمين لم يستحق السلب وان قتل وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس من أهل الجهاد وان بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب لأنه عاص وكذلك كل عاص مثل من دخل بغير إذن الأمير
وعن أحمد فيمن دخل بغير إذن أنه يؤخذ منه الخمس وباقيه له جعله كالغنيمة ويخرج في العبد المبارز بغير إذن سيده مثله ويحتمل أن يكون سلب قتيل العبد له على كل حال لأن ما كان له فهو لسيده ففي حرمانه السلب حرمان سيده ولا معصية منه
الفصل الثالث : أن السلب للقاتل في كل حال إلا أن ينهزم العدو وبه قال الشافعي و ابو ثور و داود و ابن المنذر وقال مسروق : إذا التقى الزحفان فلا سلب له إنما النفل قبل وبعد ونحوه قول نافع كذلك قال الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم : السلب للقاتل ما لم تمتد الصفوف بعضها إلى بعض فاذا كان كذلك فلا سلب لأحد
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] ولأن أبا قتادة إنما قتل الذي أخذ سلبه في حال التقاء الزحفين ألا تراه يقول : فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين وكذلك قول أنس : فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ اسلابهم وكان ذلك بعد التقاء الزحفين لأن هوازن لقوا المسلمين فجأة فألحموا الحرب قبل أن تتقدمها مبارزة
وروى سعيد : حدثنا اسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه [ عن عوف بن مالك قال : غزونا إلى طرف الشام فأمر علينا خالد بن الوليد فانضم إلينا رجل من امداد حمير فقضي لنا أنا لقينا عدونا فقاتلونا قتالا شديدا وفي القوم رجل من الروم على فرس له أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف مثل ذلك فجعل يحمل على القوم ويغري بهم فلم يزل المددي يحتل لذلك الرومي حتى مر به فاستقفاه فضرب عرقوب فرسه بالسيف ثم وقع فاتبعه ضربا بالسيف حتى قتله فلما فتح الله الفتح أقبل بسلب القتيل وقد شهد له الناس أنه قاتله فأعطاه خالد بعض سلبه وأمسك سائره فلما قدم المدينة استعدى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا خالدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منعك يا خالد أن تدفع إلى هذا سلب قتيله ؟ قال : استكثرته له قال : فادفعه اليه ] وذكر الحديث ورواه أبو داود
الفصل الرابع : أنه انما يستحق السلب بشروط أربعة :
أحدها : أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم فأما إن قتل امرأة أو صبيا أو شيخا فانيا او ضعيفا مهينا ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافا وإن كان أحد هؤلاء يقاتل استحق قاتله سلبه لأنه يجوز قتله ومن قتل أسيرا له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك
الثاني : ان يكون المقتول فيه منفعة غير مثخن بالجراح فان كان مثخنا بالجراح فليس لقاتله شيء من سلبه وبهذا قال مكحول و جرير بن عثمان و الشافعي لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ولم يعط ابن مسعود شيئا وإن قطع يدي رجل ورجليه وقتله آخر فالسلب للقاطع دون القاتل لأن القاطع هو الذي كفى المسلمين شره وان قطع يديه أو رجليه وقتله الآخر فالسلب للقاطع في أحد الوجهين لأنه عطله فأشبه الذي قتله والثاني سلبه في الغنيمة لأنه إن كانت رجلاه سالمتين فانه يعدو ويكثر وان كانت يداه سالمتين فانه يقاتل بهما فلم يكف القاطع شره كله ولا يستحق القاتل سلبه لأنه مثخن بالجراح وان قطع يده ورجله من خلاف فكذلك وان قطع احدى يديه واحدى رجليه ثم قتله آخر فسلبه غنيمة ويحتمل أنه للقاتل لأنه قاتل لمن لم يكف المسلمين شره وإن عانق رجل رجلا فقتله آخر فالسلب للقاتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي : هو للمعانق
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] ولأنه كفى المسلمين شره فأشبه ما لو لم يعانقه الآخر وكذلك لو كان الكافر مقبلا على رجل يقاتله فجاء آخر من ورائه فضربه فقتله فسلبه لقاتله بدليل قصة قتيل أبي قتادة
الثالث : أن يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول قال أحمد : لا يكون السلب إلا للقاتل وان أسر رجلا لم يستحق سلبه سواء قتله الامام أو لم يقتله وقال مكحول : لا يكون السلب إلا لمن أسر علجا أو قتله قال القاضي : إذا أسر رجلا فقتله الامام صبرا فسلبه لمن أسره لأن الأسر أصعب من القتل فاذا استحق سلبه بالقتل كان تنبيها على استحقاقه بالاسر قال : وان استبقاه الامام كان له فداؤه أو رقبته وسلبه لأنه كفى المسلمين شره
ولنا أن المسلمين أسروا اسرى يوم بدر فقتل النبي صلى الله عليه و سلم عقبة والنضر بن الحارث واستبقى سائرهم فلم يعط من أسرهم أسلابهم ولا فداءهم وكان فداؤهم غنيمة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل السلب للقاتل وليس الآسر بقاتل ولأن الامام مخير في الأسرى ولو كان لمن أسره كان أمره اليه دون الامام
الرابع : أن يغرر بنفسه في قتله فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له قال أحمد : السلب للقاتل إنما هو في المبارزة لا يكون في الهزيمة وإن حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه فالسلب في الغنيمة لأنهم لم يغرروا بأنفسهم في قتله وإن اشترك في قتله اثنان فظاهر كلام أحمد أن سلبه غنيمة فإنه قال في رواية حرب : له السلب إذا انفرد بقتله
وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنهما يشتركان في سلبه لقوله : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] وهذا يتناول الواحد والجماعة ولأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في السلب
ولنا أن السلب إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين فلم يستحق به السلب كما لو قتله جماعة ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم شرك بين اثنين في سلب فان اشترك اثنان في ضربه وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر فالسلب له [ لأن أبا جهل ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء وأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ] وإن انهزم الكفار كلهم فأدرك انسان منهزما منهم فقتله فلا سلب له لأنه لم يغرر في قتله وإن كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله انسان فسلبه لقاتله لأن الحرب فر وكر [ وقد قتل سلمة بن الاكوع طليعة للكفار وهو منهزم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من قتله ؟ قالوا : سلمة ابن الاكوع قال : له سلبه أجمع ] وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور و أبو داود و ابن المنذر : السلب لكل قاتل لعموم الخبر واحتجاجا بحديث سلمة هذا
ولنا أن ابن مسعود ذفف على أبي جهل فلم يعطه النبي صلى الله عليه و سلم سلبه وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث صبرا ولم يعط سلبهما من قتلهما وقتل بني قريظة صبرا فلم يعط من قتلهم اسلابهم وانما أعطى السلب من قتل مبارزا أو كفى المسلمين شره وغرر في قتله والمنهزم بعد انقضاء الحرب قد كفى المسلمين شر نفسه ولم يغرر قاله بنفسه في قتله فلن يستحق سلبه كالاسير وأما الذي قتله سلمة فكان متحيزا إلى فئة وكذلك من قتل حال قيام الحرب فإنه كان منهزما فهو متحيء إلى فئة وراجع إلى القتال فأشبه الكار فان القتال فر وكر إذا ثبت هذا فانه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة باذن الامير لأن كل من قضي له بالسلب في عصر النبي صلى الله عليه و سلم ليس فيهم من نقل إلينا أنه أذن له في المبارزة مع أن عموم الخبر يقتضي استحقاق السلب لكل قاتل إلا من خصه الدليل
الفصل الخامس : ان السلب لا يخمس روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وبه قال الشافعي و ابن المنذر و ابن جرير وقال ابن عباس : يخمس وبه قال الأوزاعي و مكحول لعموم قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }
وقال إسحاق : إن استكثر الامام السلب خمسه وذلك اليه لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزارة بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال : إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه فكان أول سلب خمس في الاسلام سلب البراء رواه سعيد في السنن وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا
ولنا ما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب ] رواه أبو داود وعموم الأخبار التي ذكرناها وخبر عمر حجة لنا فانه قال : إنا لا نخمس السلب وقول الراوي : كان أول سلب خمس في الاسلام يعني أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا واتباع ذلك أولى قال الجوزجاني لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه و سلم شيء إلا اتباعه ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ذكرناه يصلح أن يخصص به عموم الآية وإذا ثبت هذا فإن السلب من أصل الغنيمة وقال مالك : يحتسب من خمس الخمس
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل مطلقا ولم ينقل عنه أنه احتسب به من خمس الخمس ولأنه لو احتسب به من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك ولأن سببه لا يفتقر إلأى اجتهاد الامام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الفارس والراجل
الفصل السادس : أن القاتل يستحق السلب قال ذلك الامام أو لم يقل وبه قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وقال أبو حنيفة و الثوري : لا يستحقه إلا أن يشرطه الامام له وقال مالك : لا يستحقه إلا أن يقول الامام ذلك ولم ير أن يقول الامام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل وجعلوا السلب ههنا من جملة الأنفال
وقد روي عن أحمد مثل قولهم وهو اختيار أبي بكر واحتجوا بما [ روى عوف بن مالك أن مدديا اتبعهم فقتل علجا فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا تعطه يا خالد ] رواه سعيد و أبو داود وأنا اختصرته ورويا باسنادهما عن شبر بن علقمة قال : بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه فأتيت به سعدا فخطب سعد أصحابه وقال : إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفا وإنا قد نفلناه إياه ولو كان حقا له لم يحتج إلى نفله ولأن عمر أخذ الخمس من سلب البراء ولو كان حقا له لم يجز أن يأخذ منه شيئا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم دفع سلب أبي قتادة إليه من غير بينة ولا يمين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] وهذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه و سلم المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك فان عوف بن مالك احتج على خالد حين أخذ سلب المددي فقال له عوف : أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى وقول عمر : إنا كنا لا نخمس السلب يدل على أن هذه قضية عامة في كل غزوة وحكم مستمر لكل قاتل وإنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم خالدا أن لا يرد على المددي عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالدا بين يديه وقوله : قد أنجزت لك ما ذكرت لك من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما خبر شبر فانما انفذ له سعد ما قضى له به رسول الله صلى الله عليه و سلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل لأنه زيادة على سهمه
وأما قتادة فان خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى البينة ولأن السلب مأخوذ من الغنيمة بغير تقدير الامام واجتهاده فلم يفتقر إلى شرطه كالسهم إذا ثبت هذا فان أحمد قال : لا يعجبني أن يأخذ السلب الا باذن الامام وهو قول الأوزاعي وقال ابن المنذر و الشافعي : له أخذه بغير اذن لأنه استحقه بجعل النبي صلى الله عليه و سلم له ذلك ولا يأمن إن أظهره عليه أن لا يعطاه ووجه قول أحمد أنه فعل مجتهد فيه فلم ينفذ أمره فيه إلا باذن الامام كأخذ سهمه ويحتمل أن يكون هذا من أحمد على سبيل الاستحباب ليخرج من الخلاف لا على سبيل الايجاب فعلى هذا إن أخذه بغير اذن ترك الفضيلة وله ما أخذه

مسألة : الدابة وما عليها من آلتها من السلب
مسألة : قال : والدابة وما عليها من آلتها من السلب إذا قتل وهو عليها وكذلك ما عليه من السلاح والثياب وإن كثر فان كان معه مال لم يكن من السلب وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : أن الدابة ليست من السلب
وجملته أن السلب ما كان القتيل لابسا له من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية ونحو ذلك لأن المفهوم من السلب اللباس وكذلك السلاح من السيف والرمح والسكين واللت ونحوه لأنه يستعين به في قتاله فهو أولى مفي الأخذ من اللباس وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه ولذلك استحق بها زيادة السهمان بخلاف السلاح فأما المال الذي معه في كمرانه وخريطته فليس بسلب لأنه ليس من الملبوس ولا مما يستعين به في الحرب وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه من ماله ليس من سلبه وبهذا قال الأوزاعي و مكحول و الشافعي إلا أن الشافعي قال : ما لا يحتاج اليه في الحرب كالتاج والسوار والطوق والهميان الذي للنفقة ليس من السلب في أحد القولين لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه المال الذي في خريطته
ولنا أن في حديث البراء أنه بارز مرزبان الزارة فقتله فبلغ سواراه ومنطقته ثلاثين الفا فخمسه عمر ودفعه اليه
وفي حديث عمرو بن معد يكرب أنه حمل على اسوار فطعنه فدق صلبه وصرعه فنزل إليه فقطع يده وأخذ سوارين كانتا عليه ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة فسلم ذلك له ولأنه ملبوس له فأشبه ثيابه ولأنه داخل في اسم السلب فأشبه الثياب والمنطقة ويدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فله سلبه ] واختلفت الرواية عن أحمد في الدابة فنقل عنه أنها ليست من السلب وهو اختيار أبي بكر لأن السلب ما كان على يديه والدابة ليست كذلك فلا يدخل في الخبر قال : وذكر عبد الله حديث عمرو بن معدي يكرب فأخذ سواريه ومنطقته ولم يذكر فرسه
ولنا ما روى عوف بن مالك قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله للمسلمين بعث اليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب قال عوف : فأتيته : فقلت له : يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى رواه الأثرم
وفي حديث شبر بن علقمة أنه أخذ فرسه كذلك قال أحمد : هو فيه ولأن الفرس يستعان بها في الحرب فأشبهت السلاح وما ذكروه يبطل بالرمح والقوس واللت فانها من السلب وليست ملبوسة إذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتجفيفها وحلية إن كانت عليها وجميع آلتها من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما يكون من السلب إذا كان راكبا عليها وإن كانت في منزلة أو مع غيره أو منفلتة لم تكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه وإن كان راكبا عليها فصرعه عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب وهكذا قول الأوزاعي وإن كان ممسكا بعنانها غير راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان :
إحداهما : من السلب وهو قول الشافعي لأنه متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه أو رمحه في يده
والثانية : ليست من السلب وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال لأنه ليس براكب عليها فأشبه ما لو كانت مع غلامه وإن كان على فرس وفي يده جنيبة لم تكن الجنيبة من السلب لأنه لا يمكنه ركوبهما معا

فصل : لا تقبل دعوى القتل إلا ببينة
فصل : ولا تقبل دعوى القتل إلا ببينة وقال الأوزاعي : يعطى السلب إذا قال : أنا قتلته ولا يسأل بينة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل قول أبي قتادة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ] متفق عليه وأما أبو قتادة فان خصمه أقر له فاكتفي باقراره قال أحمد : ولا يقبل إلا شاهدان وقالت طائفة من أهل الحديث : يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتبر البينة واطلاقها ينصرف إلى شاهدين ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان كقتل العمد

فصل : يجوز سلب القتلى وتركهم عراة
فصل : ويجوز سلب القتلى وتركهم عراة وهذا قول الأوزاعي وكرهه الثوري و ابن المنذر لما فيه من كشف عوراتهم
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في قتيل سلمة بن الأكوع : له سلبه أجمع ] وقال : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] وهذا يتناول جميعه

مسألة : من أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه
مسألة : قال : ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه
وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا وبهذا قال الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابن القاسم وأكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له في القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي ولأنه مجلوب من دار الكفر فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ] رواه البخاري وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال : جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحصرنا موضعا فرأينا انا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم رواه سعيد ولأنه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا اذن له في القتال فانه يصح أمانه وبالمرأة فان أمانها يصح في قولهم جميعا قالت عائشة : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز [ وعن أم هانىء أنها قالت : يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وان ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء إنما يجير على المسلمين أدناهم ] رواهما سعيد وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم

فصل : يصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره
فصل : ويصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره لدخوله في عموم الخبر ولأنه مسلم مكلف مختار فأشبه غير الأسير وكذلك أمان الأجير والتاجر في دار الحرب وبهذا قال الشافعي وقال الثوري : لا يصح امان أحد منهم
ولنا عموم الحديث والقياس على غيرهم فأما الصبي المميز فقال ابن حامد : فيه روايتان :
إحداهما : لا يصح أمانه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون
والرواية الثانية : يصح أمانه وهو قول مالك وقال أبو بكر : يصح أمانه رواية واحدة وحمل رواية المنع على غير المميز واحتج بعموم الحديث ولأنه مسلم مميز فصح أمانه كالبالغ وفارق المجنون فانه لا قول له أصلا

فصلان : لا يصح أمان كافر وإن كان ذميا ويصح للإمام أمان الكفار والأسرى
فصل : ولا يصح أمان كافر وان كان ذميا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ] فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم ولأنه متهم على الاسلام وأهله فأشبه الحربي ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأن كلامه غير معتبر ولا يثبت به حكم ولا يصح أمان زائل العقل بنوم أو سكر أو اغماء لذلك ولأنه لا يعرف المصلحة من غيرها فأشبه المجنون ولا يصح من مكره لأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار
فصل : ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم لأن ولايته عامة على المسلمين ويصح أمان الأمير لمن أقيم بازائه من المشركين فأما في حق غيرهم فهو كآحاد المسلمين لأن ولايته على قتال أولئك دون غيرهم ويصح أمان آحاد المسلمين للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن الذي ذكرنا حديثه ولا يصح أمانه لأهل بلدة ورستاق وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام
فصل : ويصح أمان الامام للاسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه بالهرمزان أسيرا قال : لا بأس عليك ثم أراد قتله فقال له أنس : قد أمنته فلا سبيل لك عليه وشهد الزبير بذلك فعدوه أمانا رواه سعيد ولأن للامام المن عليه والأمان دون ذلك فأما آحاد الرعية فليس له ذلك وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أن يصح أمانه لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره فأجاز النبي صلى الله عليه و سلم أمانها وحكي هذا عن الأوزاعي
ولنا أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام فلم يجز الافتيات عليه فيما يمنعه ذلك كقتله وحديث زينب في أمانها إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه و سلم

فصل : إذا شهد للأسير اثنان أو أكثر أنهم أمنوه قبل
فصل : واذا شهد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين أنهم أمنوه قبل إذا كانوا بصفة الشهود وقال الشافعي : لا تقبل شهادتهم لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم
ولنا أنهم عدول من المسلمين غير متهمين شهدوا بأمانه فوجب أن يقبل كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه وما ذكروه لا يصح فان النبي صلى الله عليه و سلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن الحارث وإن شهد واحد : إني أمنته فقال القاضي : قياس قول أحمد أنه يقبل كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت حكمت لفلان على فلان بحق قبل قوله وعلى قول أبي خطاب : يصح أمانه فقبل خبره به كالحاكم في حال ولايته وهذا قول الأوزاعي ويحتمل أن لا يقبل لأنه ليس له أن يؤمنه في الحال فلم يقبل إقراره به كما لو أقر بحق على غيره وهذا قول الشافعي و أبي عبيدة

فصل : حكم ما لو جاء المسلم بمشرك ادعى أنه أسره الخ
فصل : إذا جاء المسلم بمشرك ادعى أنه أسره وادعى الكافر أنه أمنه ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : القول قول المسلم لأن الأصل معه فان الأصل اباحة دم الحربي وعدم الأمان
والثانية : القول قول الأسير لأنه يحتمل صدقه وحقن دمه فيكون هذا شبهة تمنع من قتله وهذا اختيار أبي بكر والثالثة يرجع إلى قول من ظاهر الحال يدل على صدقه فان كان الكافر ذا قوة معه سلاحه فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه فلا يلتفت إلى قوله وقال أصحاب الشافعي : لا يقبل قوله وإن صدقه المسلم لأنه لا يقدر على أمانه فلا يقبل إقراره به
ولنا أنه كافر لم يثبت أسره ولا نازعه فيه منازع فقبل قوله في الأمان كالرسول

فصل : حكم من طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شعائر الإسلام
فصل : ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الإسلام وجب أن يعطاه ثم يرد إلى مأمنه لا نعلم في هذا خلافا وبه قال قتادة و مكحول و الأوزاعي و الشافعي وكتب عمر بن عبد العزيز بذلك إلى الناس وذلك لقول الله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } قال الأوزاعي : هي إلى يوم القيامة ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسولا مسيلمة قال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ] ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فاننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ويجوز عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقا ومقيدا بمدة سواء كانت طويلة أو قصيرة بخلاف الهدنة فانها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقا تركا للجهاد وهذا بخلافه قال القاضي : ويجوز أن يقيموا مدة الهدنة بغير جزية قال أبو بكر : وهذا ظاهر كلام أحمد لأنه قيل له : قال الأوزاعي : لا يترك المشرك في دار الاسلام إلا أن يسلم أو يؤدي فقال أحمد : إذا أمنته فهو على ما أمنته وظاهر هذا أنه خالف قول الأوزاعي
وقال أبو الخطاب : عندي أنه لا يجوز أن يقيم سنة بغير جزية وهذا قول الأوزاعي و الشافعي لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ووجه الأول أن هذا كافر أبيح له الإقامة في دار الاسلام من غير التزام جزية فلم تلزمه جزية كالنساء والصبيان ولأن الرسول لو كان ممن لا يجوز أخذ الجزية منه يستوي في حقه السنة فما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين فاذا جازت له الإقامة في أحدهما جازت في الأخرى قياسا لها عليها وقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فانه يجوز له الاقامة من غير التزام لها ولأن الآية تخصصت بما دون الحول فتقيس على المحل المخصوص

فصل : حكم ما لو دخل حربي دار الإسلام بأمان
فصل : وإذا دخل حربي دار الاسلام بأمان فأودع ماله مسلما أو ذميا أو أقرضهما إياه ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا فان دخل تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الاسلام فهو على أمانة في نفسه وماله لأنه لم يخرج بذلك عن نية الاقامة بدار الاسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك وان دخل مستوطنا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله لأنه بدخوله دار الاسلام بأمان ثبت الأمان لماله الذي معه فاذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل بنفسه فيخص البطلان به فان قتل فانما يثبت الأمان لماله تبعا فاذا بطل في المتبوع بطل في التبع قلنا : بل يثبت له الأمان لمعنى وجد فيه وهو ادخاله معه وهذا يقتضي ثبوت الأمان له وان لم يثبت في نفسه بدليل ما لو بعثه مع مضارب له أو وكيل فانه يثبت الأمان ولم يثبت الأمان في نفسه ولم يوجد فيه ههنا ما يقتضي الأمان فيه فبقي على ما كان عليه ولو أخذه معه الى دار الحرب لنقد الأمان فيه كما ينتقد في نفسه لوجود المبطل منهما فاذا ثبت هذا فان صاحبه ان طلبه بعث إليه وإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو غيرهما صح تصرفه وإن مات في دار الحرب انتقل الى وارثه ولم يبطل الأمان فيه وقال أبو حنيفة : يبطل فيه وهو قول الشافعي لأنه قد صار لوارثه ولم يعقد فيه أمانا فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله
ولنا أن الأمان حق له لازم متعلق بالمال فاذا انتقل إلى الوارث انتقل لحقه كسائر الحقوق من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولأنه مال له أمان فينتقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه كالمال الذي مع مضاربه وإن لم يكن له وارث صار فيئا لبيت المال فان كان له وارث في دار الاسلام فقال القاضي : لا يرثه لاختلاف الدارين والأولى أن يرثه لأن ملتهما واحدة فيرثه كالمسلمين وإن مات المستأمن في دار الاسلام فهو كما لو مات في دار الحرب سواء لأن المستأمن حربي تجري عليه أحكامهم وان رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي : يكون ماله موقوفا حتى يعلم آخر أمره بموت أو غيره فان مات كان فيئا لأن الرقيق لا يورث وان عتق كان له وان لم يسترق ولكن من عليه الامام أو فاداه فما له له وان قتله فما له لورثته وان لم يسب ولكن دخل دار الاسلام بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله وسبيه لأن ثبوت الأمان لماله لا يثبت الأمان له كما لو كان ماله وديعة بدار الاسلام وهو مقيم بدار الحرب

فصل : حكم ما إذا سرق المستأمن في دار الإسلام أو قتل أو غصب
فصل : واذا سرق المستأمن في دار الاسلام أو قتل أو غصب ثم عاد الى وطنه في دار الحرب ثم خرج مستأمنا مرة ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الأول وان اشترى عبدا مسلما فخرج به الى دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لأنه لم يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلا ويرد بائعه الثمن الى الحربي لأنه حصل في أمان فان كان العبد تالفا فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل

فصل : حكم ما لو دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذميا
فصل : واذا دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذميا في دارنا ثم أرادت الرجوع لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة : تمنع
ولنا أنه عقد لا يلزم الرجل المقام به فلا يلزم المرأة كعقد الإجارة

مسألة : حكم من طلب الأمان ليفتح الحصن
مسألة : قال : ومن طلب الأمان ليفتح الحصن فقبل فقال كل واحد منهم : أنا المعطى لم يقتل واحد منهم
وجملته أن المسلمين إذا حصروا حصنا فناداهم رجل : آمنوني أفتح لكم الحصن جاز أن يعطوه أمانا فإن زياد بن لبيد لما حصر النجير قال الأشعث بن قيس : أعطوني الأمان لعشرة أفتح لكم الحصن ففعلوا : فان أشكل الذي أعطي الأمان وادعاه كل واحد من أهل الحصن فان عرف صاحب الأمان عمل على ذلك وإن لم يعرف لم يجز قتل واحد منهم لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فحرم الكل كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة أو أخته بأجنبيات أو اشتبه زان محصن برجال معصومين وبهذا قال الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وفي استرقاقهم وجهان :
أحدهما : يحرم وذكر القاضي أن أحمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في القتل فان استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم
والثاني : يقرع بينهم فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ويسترق الباقون قاله أبو بكر لأن الحق لواحد منهم غير معلوم فيقرع بينهم كما لو اعتق عبدا من عبيده وأشكل ويخالف القتل فانه اراقة دم تندرىء بالشبهات بخلاف الرق ولهذا يمنع القتل في النساء والصبيان دون الاسترقاق وقال الأوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه أشرف علينا ثم أشكل فادعى كل واحد منهم أنه الذي أسلم : يسعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته وقياس مذهبنا أن فيها وجهين كالتي قبلها

فصل : حكم ما إذا قال الرجل : كف عني حتى أدلك على كذا
فصل : قال أحمد : إذا قال الرجل : كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوم ليدلهم فامتنع من الدلالة فلهم ضرب عنقه لأن أمانه بشرط ولم يوجد وقال أحمد إذا لقي علجا فطلب منه الأمان فلا يؤمنه لأنه يخاف شره وان كانوا سرية فلهم أمانه يعني أن السرية لا يخافون من غدر العلج قتلهم بخلاف الواحد وإن لقيت السرية أعلاجا فادعوا أنهم جاءوا مستأمنين فان كان معهم سلاح لم يقبل قولهم لأن حملهم السلاح يدل على محاربتهم وان لم يكن معهم سلاح قبل قولهم لأنه يدل على صدقهم

فصل : حكم ما إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان
فصل : إذا دخل حربي دار الاسلام بغير أمان نظرت فان كان معه متاع يبيعه في دار الاسلام وقد جرت العادة بدخولهم إلينا تجارا بغير أمان لم يعرض لهم وقال أحمد : إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شيء وان لم تكن معه تجارة فقال : جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الامام مخيرا فيه ونحو هذا قال الأوزاعي و الشافعي وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في المركب إلينا فهو لمن أخذه في احدى الروايتين والأخرى يكون فيئا

مسألة : حكم من دخل أرضهم من الغزاة فارسا فنفق فرسه
مسألة : قال : ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارسا فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة فله سهم راجل ومن دخل راجلا فأحرزت الغنيمة وهو فارس فله سهم الفارس
وجملة ذلك أن الاعتبار في استحقاق السهم بحالة الإحراز فان أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل وان أحرزت وهو فارس فله سهم الفارس سواء دخل فارسا أو راجلا قال أحمد : أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان راجلا فراجل لأن عمر قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة وبهذا قال الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ونحوه قال ابن عمر وقال أبو حنيفة : الاعتبار بدخول دار الحرب فان دخل فارسا فله سهم فارس وان نفق فرسه قبل القتال وان دخل راجلا فله سهم الراجل وان استفاد فرسا فقاتل عليه
وعنه رواية أخرى كقولنا قال أحمد : كان سليمان بن موسى يعرضهم إذا أدربوا الفارس فارس والراجل راجل لأنه دخل في الحرب بنية القتال فلا يتغير سهمه بذهاب دابته أو حصول دابة له كما لو كان بعد القتال
ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حال القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي والأصل في هذا أن حالة استحقاق السهم حالة تقتضي الحرب بدليل قول عمر : الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل ذلك فان الأموال في أيدي أصحابها ولا ندري هل يظفر بهم أولا ؟ ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئا ولو وجد مدد في تلك الحال أو انفلت أسير فلحق بالمسلمين أو أسلم كافر فقاتلوا استحفوا السهم فدل على أن الاعتبار بحالة الإحراز فوجب اعتباره دون غيره

مسألة : الغنيمة تقسم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه
مسألة : قال : ويعطى ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه
أكثر أهل العلم على أن الغنيمة تقسم للفارس منها ثلاثة أسهم : سهم له وسهمان لفرسه وللراجل سهم قال ابن المنذر : هذا مذهب عمر بن عبد العزيز و الحسن و ابن سيرين و حسين بن ثابت وعوام علماء الاسلام في القديم والحديث منهم مالك ومن تبعه من أهل المدينة و الثوري ومن وافقه من أهل العراق والليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : للفرس سهم واحد لما روى مجمع بن حارثة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس سهمين واعطى الراجل سهما ] رواه أبو داود ولأنه حيوان ذو سهم فلم يزد على سهم كالآدمي
ولنا ما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أقسام : سهمان لفرسه وسهم له ] متفق عليه وعن أبي رهم وأخيه أنهما كانا فارسين يوم خيبر فأعطيا ستة أسهم : أربعة أسهم لفرسيهما وسهمين لهما رواه سعيد ين منصور وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى الفارس ثلاثة أسهم وأعطى الراجل سهما ]
وقال خالد : الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أسهم هكذا للفرس سهمين ولصاحبه سهما وللراجل سهما وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن : [ أما بعد فان سهمان الخيل مما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم : سهمين للفرس وسهما للراجل ولعمري لقد كان حديثا ما أشعر أن أحدا من المسلمين هم بانتقاض ذلك فمن هم بانتقاض ذلك فعاقبه والسلام عليك ] رواهما سعيد و الأثرم وهذا يدل على ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا وأنه أجمع عليه فلا يعول على ما خالفه فأما حديث مجمع فيحتمل أنه أراد : أعطى الفارس سهمين لفرسه وأعطى الراجل سهما يعني صاحبه فيكون ثلاثة أسهم على أن حديث ابن عمر أصح منه وقد وافقه حديث أبي رهم وأخيه و ابن عباس وهؤلاء أحفظ وأعلم وابن عمر وأبو رهم وأخوه ممن شهدوا وأخذوا السهمان وأخبروا عن أنفسهم أنهم أعطوا ذلك فلا يعارض ذلك بخبر شاذ تعين غلطه أو حمله على ما يخالف ظاهره وقياس الفرس على الآدمي غير صحيح لأن أثرها في الحرب أكثر وكلفتها أعظم فينبغي أن يكون سهمها أكثر

مسألة : إذا كان فرس الفارس هجينا أعطي سهم له وسهم لفرسه
مسألة : قال : الا أن يكون فرسه هجينا فيعطى سهما له وسهما لفرسه
الهجين الذي أبوه عربي وأمه برذونة والمقرف الذي أبوه برذون وأمه عربية
قالت هند بنت النعمان بن بشير :
( وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تحللها بغل )
( فان ولدت مهرا كريما فبالحري ... وان يك أقراف فما أنجب الفحل )
وأراد الخرقي بالهجين ههنا ما عدا العربي والله أعلم وقد حكي عن أحمد أنه قال : الهجين البرذون واختلفت الرواية عنه في سهمانها فقال الخلال : تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر و الخرقي وهو قول الحسن قال الخلال : وروى عنه ثلاثة منقطعون أنه يسهم للبرذون مثل سهم العربي واختاره الخلال وبه قال عمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و الثوري لأن الله تعالى قال : { والخيل والبغال } وهذه من الخيل ولأن الرواة رووا أن النبي صلى الله عليه و سلم أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وهذا عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي
وحكى أبو بكر عن أحمد رحمه الله رواية ثالثة أن البراذين إن أدركت إدراك العراب أسهم لها مثل الفرس العربي وإلا فلا وهذا قول ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وأبي أيوب و الجوزجاني لأنها من الخيل وقد عملت عمل العراب فأعطيت بهما كالعربي
وحكى القاضي رواية رابعة أنه لا يسهم لها وهو مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه حيوان لا يعمل عمل الخيل العراب فأشبه البغال ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها لما روى الجوزجاني باسناده عن أبي موسى أنهى كتب إلى عمر بن الخطاب : إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكنا فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها ؟ فكتب إليه : تلك البراذين فما قارب العتاق منها فاجعل له سهما واحدا وألغ ما سوى ذلك
ولنا ما روى سعيد عن أبي الأقمر قال : أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن ضحى الغد وعلى الخيل رجل من همذان يقال له المنذر بن أبي حميضة فقال : لا أجعل الذي أدرك من يومه مثل الذي لم يدرك ففضل الخيل فقال عمر : هبلت الوادعي أمه أمضوها على ما قال ولم يعرف عن الصحابة خلاف هذا القول
وروى مكحول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما ] رواه سعيد أيضا ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل فيكون سهمه أرجح كتفاصيل من يرضخ له وأما قولهم : انه من الخيل قلنا : والخيل في نفسها تتفاضل سهمانها وأما قولهم ان النبي صلى الله عليه و سلم قسم للفرس سهمين من غير تفريق قلنا : هذه قضية في عين لا عموم لها فيحتمل أنه لم يكن فيها برذون وهو الظاهر فانها من خيل العرب ولا براذين فيها ودل على صحة هذا أنهم لما وجدوا البراذين بالعراق أشكل عليهم أمرها وان عمر فرض لها سهما واحدا وأمضى ما قال المنذر بن أبي حميضة في تفضيل العراب عليها ولو كان النبي صلى الله عليه و سلم سوى بينهما لم يخف ذلك على عمر ولا خالفه ولو خالفه لم يسكت الصحابة عن انكاره عليه سيما وابنه هو راوي الخبر فكيف يخفى ذلك عليه ؟ ويحتمل أنه فضل العراب أيضا فلم يذكره الراوي لغلبة العراب وقلة البراذين ويدل على صحة هذا التأويل خبر مكحول الذي رويناه وقياسها على الآدمي لا يصح لأن العربي منهم لا أثر له في الحرب زيادة على غيره بخلاف العربي من الخيل على غيره والله أعلم

مسألة : لا يسهم لأكثر من فرسين
مسألة : قال : ولا يسهم لأكثر من فرسين
يعني إذا كان مع الرجل خيل أسهم لفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم ولم يزد على ذلك وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها فلم يسهم لما زاد عليها كالزائد عن الفرسين
ولنا ما روى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس وعن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهي جنائب رواهما سعيد في سننه ولأن به إلى الثاني حاجة فان إدامة ركوب واحد تضعفه وتمنع القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث فانه مستغنى عنه

مسألة : من غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان
مسألة : قال : ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان
نص أحمد على هذا وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع امكان الغزو على فرس وعن أحمد أنه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره وحكي نحو هذا عن الحسن لأن الله تعالى قال : { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس يحققه أن تجويز المسابقة بعوض إنما ابيحت في ثلاثة أشياء دون غيرها لأنها آلات الجهاد فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها تحريضا على رياضتها وتعلم الاتقان فيها ولا يزاد على سهم البرذون لأنه دونه
ولا يسهم له إلا أن يشهد الوقعة عليه ويكون مما يمكن القتال عليه فأما هذه الابل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئا لأنها لا تكر ولا تفر فراكبها أدنى حال من الراجل واختار أبو الخطاب أنه لا يسهم له بحال وهو قول أكثر الفقهاء قال ابن المنذر : أجمع كل من احفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل كذلك قال الحسن و مكحول و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل بل هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها ولو أسهم لها لنقل وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه و سلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر فلم يسهم كالبغل والحمار

فصل : ما عدا الخيل والإبل لا يسهم له
فصل : وما عدا الخيل والابل من البغال والحمير والفيلة وغيرها لا يسهم لها بغير خلاف وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسهم لها ولا أحد من خلفائه ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر

فصل : ينبغي للإمام أن يتعاهد الخيل عند دخول الحرب
فصل : وينبغي للامام أن يتعاهد الخيل عند دخول الحرب فلا يدخل إلا شديدا ولا يدخلها حطما ولا ضعيفا ولا ضرعا ولا أعجف زارحا فان شهد أحد الوقعة على واحد من هذه لم يسهم له وبه قال مالك وقال الشافعي : يسهم له كما يسهم للمريض
ولنا أنه لا ينتفع به فلم يسهم له كالرجل المخذل والمرجف ولأنه حيوان يتعين منع دخوله فلم يسهم له كالمرجف وأما المريض الذي لا يتمكن من القتال فان خرج بمرضه عن كونه من أهل الجهاد كالزمن والأشل والمفلوج فلا سهم له لأنه لم يبق من أهل الجهاد وإن لم يخرج بمرضه عن ذلك كالمحموم ومن به الصداع فانه يسهم له لأنه من أهل الجهاد ويعين برأيه وتكثيره ودعائه

مسألة : من مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه
مسألة : قال : ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه
وجملته أن الغازي إذا مات أو قتل نظرت فان كان قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها وسواء مات حال القتال أو قبله وإن مات بعد ذلك فسهمه لورثته وقال أبو حنيفة : إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الاسلام أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له لأن ملك المسلمين لا يتم عليها إلا بذلك وقال الأوزاعي : إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل الله قبل أو بعد أسهم له وقال الشافعي و أبو ثور : إن حضر القتال أسهم له سواء مات قبل حيازة الغنيمة أو بعدها وإن لم يحضر فلا سهم له ونحوه قال مالك و الليث
ولنا أنه إذا مات قبل حيازتها فقد مات قبل ملكها وثبوت اليد عليها فلم يستحق شيئا وان مات بعدها فقد مات بعد الاستيلاء عليها في حال لو قسمت صحت قسمتها وكان له سهمه منها فيجب أن يستحق سهمه فيها كما لو مات بعد إحرازها في دار الاسلام وإذا ثبت أنه يستحقه فيكون لورثته كسائر أملاكه وحقوقه

مسألة : يعطى الراجل سهما
مسألة : قال : ويعطى الراجل سهما
لا خلاف في أن للراجل سهما وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أعطى الراجل سهما فيما تقدم من الأخبار ولأن الراجل يحتاج إلى أقل مما يحتاج إليه الفارس وغناؤه دون غنائه اقتضى ذلك أن يكون سهمه دون سهمه

فصل : كل ذلك سواء كانت الغنيمة من فتح حصن أو مدينة أو من جيش
فصل : وسواء كانت الغنيمة من فتح حصن أو من مدينة أو من جيش وبهذا قال الشافعي وقال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي عن اسهام الخيل من غنائم الحصون فقال : كانت الولاة من قبل عمر بن عبد العزيز : الوليد وسليمان لا يسهمون الخيل من الحصون ويجعلون الناس كلهم رجالة حتى ولي عمر بن عبد العزيز فأنكر ذلك وأمر باسهامها من فتح الحصون والمدائن ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم غنائم خيبر : للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وهو حصون ولأن الخيل ربما احتيج اليها بأن ينزل أهل الحصن فيقاتلوا خارجا منه ويلزم صاحبه مؤنة له فيقسم له كما لو كان في غير حصن

مسألة : يرضخ للمرأة والعبد
مسألة : قال : ويرضخ للمرأة والعبد
معناه أنهم يعطون شيئا من الغنيمة دون السهم ولا يسهم لهم سهم كامل ولا تقدير لما يعطونه بل ذلك إلى اجتهاد الامام فان رأى التسوية بينهم سوى بينهم وإن رأى التفضيل فضل
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب و مالك و الثوري و الليث و الشافعي و إسحاق وروي ذلك عن ابن عباس وقال أبو ثور : يسهم للعبد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز و الحسن و النخعي لما روي عن الأسود بن يزيد أنه شهد فتح القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم ولأن حرمة العبيد في الدين كحرمة الحر وفيه من الغناء مثل مل فيه فوجب أن يسهم له كالحر وحكي عن الأوزاعي : ليس للعبد سهم ولا رضخ إلا أن يجيئوا بغنيمة أو يكون لهم غناء فيرضخ لهم قال : ويسهم للمرأة لما روى جرير بن زياد عن جدته أنها حضرت فتح خيبر قالت : فأسهم لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أسهم للرجال وأسهم أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه وقال أبو بكر بن أبي مريم : أسهمن النساء يوم اليرموك وروى سعيد بإ سناده عن ابن شبل أن النبي صلى الله عليه و سلم ضرب لسهلة بنت عاصم يوم حنين بسهم فقال رجل من القوم : أعطيت سهلة مثل سهمي
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن رواه مسلم وروى سعيد بن يزيد بن هارون أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من المغنم شئ ؟ قال : يجذيان وليس لهما شئ وفي رواية قال : ليس لهما سهم وقد يرضخ لهما وعن عمير مولى أبي اللحم قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبر بأني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع رواه أبوداود واحتج به أحمد ولأنهما ليسا من أهل القتال فلم يسهم لهما كالصبي [ قالت عائشة : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال : نعم جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة ]
وقال عمر بن أبي ربيعة :
( كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول )
ولان المرأة ضعيفة يستولي عليها الخور فلا تصلح للقتال ولهذا لم تقتل إذا كانت حربية فأما ما روي في إسهام النساء فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل أن في حديث حشرج أنه جعل لهن نصيبا تمرا ولو كان سهما ما اختص التمر ولأن خيبر قسمت على أهل الحديبية نفر معدودين في غير حديثها ولم يذكرن منهم ويحتمل أنه أسهم لهن مثل سهام الرجال من التمر خاصة أو من المتاع دون الأرض وأما حديث سهلة فان في الحديث أنها ولدت فأعطاها النبي صلى الله عليه و سلم لها ولولدها فبلغ رضخهما سهم رجل ولذلك عجب الرجل الذي قال : أعطيت سهلة مثل سهمي ولو كان هذا مشهورا من فعل النبي صلى الله عليه و سلم ما عجب منه

فصل : المدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد
فصل : والمدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد فان عتق منهم قبل انقضاء الحرب أسهم لهم وكذلك إن قتل سيد المدبر قبل تقضي الحرب وهو يخرج من الثلث عتق وأسهم له وأما من بعضه حر فقال أبو بكر : يرضخ له بقدر ما فيه من الرق ويسهم له بقدر ما فيه من الحرية فاذا كان نصفه حرا أعطي نصف سهم ورضخ له نصف الرضخ لأن هذا مما يمكن تبعيضه يقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق والميراث وظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له لأنه ليس من أهل وجوب القتال فأشبه الرقيق

فصل : الخنثى المشكل يرضخ له
فصل : والخنثى المشكل يرضخ له لأنه لم يثبت أنه رجل يقسم له ولأنه ليس من أهل وجوب الجهاد فأشبه المرأة ويحتمل أن يقسم له نصف سهم ونصف الرضخ كالميراث فان انكشف حاله فتبين أنه رجل أتم له سهم رجل سواء انكشف قبل تقضي الحرب أو بعده أو قبل القسمة أو بعدها لأننا تبينا أنه كان مستحقا للسهم وانه أعطي دون حقه فأشبه ما لو أعطي بعض الرجال دون حقه غلطا

فصل : الصبي يرضخ له ولا يسهم له
فصل : والصبي يرضخ ولا يسهم له وبه قال الثوري و الليث و أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وعن القاسم وسالم في الصبي : يغزو به ليس له شيء وقال مالك : يسهم له إذا قاتل وأطاق ذلك ومثله قد بلغ القتال لأنه حر ذكر مقاتل فيسهم له كالرجل وقال الأوزاعي : يسهم له وقال : أسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم للصبيان بخيبر وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب
وروى الجوزجاني باسناده عن الوضين بن عطاء قال : حدثتني جدتي قالت : كنت مع حبيب بن مسلمة وكان يسهم لأمهات الاولاد لما في بطونهن
ولنا ما روي عن سعيد بن المسيب قال : كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة
وروى الجوزجاني باسناده أن تميم بن قرع المهدي كان في الجيش الذين فتحوا الاسكندرية في المرة الآخرة قال : فلم يقسم لي عمرو من الفيء شيئا وقال : غلام لم يحتلم حتى كاد يكون بين قومي وبين أناس من قريش من ذلك ثائرة فقال بعض القوم : فيكم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسألوهم فسألوا أبا نضرة الغفاري وعقبة بن عامر فقالا : انظروا فان كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إلي بعض القوم فاذا أنا قد أنبتت فقسم لي قال الجوزجاني : هذا من مشاهير حديث مصر وجيده ولأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالعبد ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم لصبي بل كان لا يجيزهم في القتال فان ابن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وانا ابن خمس عشرة فأجازني وما ذكروه يحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل ما ذكرناه

فصل : حكم ما اذا انفرد بالغنيمة من لا يسهم له
فصل : فان انفرد بالغنيمة من لا يسهم له مثل عبيد دخلوا دار الحرب فغنموا أو صبيان أو عبيد وصبيان أخذ خمسه وما بقي لهم ويحتمل أن يقسم بينهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأنهم تساووا فأشبهوا الرجال الأحرار ويحتمل أن يقسم بينهم على ما يراه الامام من المفاضلة لأنهم لا تجب التسوية بينهم مع غيرهم فلا تجب مع الانفراد قياسا لاحدى الحالتين على الأخرى وإن كان فيهم رجل حر أعطي سهما وفضل عليهم بقدر ما يفضل الاحرار على العبيد والصبيان في غير هذا الموضع ويقسم الباقي بين من بقي على ما يراه الامام من التفضيل لأن فيهم من له سهم بخلاف التي قبلها

مسألأة : يسهم للكافر إذا غزا معنا
مسألة : قال : ويسهم للكافر إذا غزا معنا
اختلفت الرواية في الكافر يغزو مع الامام باذنه فروي عن أحمد أنه يسهم له كالمسلم وبهذا قال الأوزاعي و الزهري و الثوري و إسحاق قال الجوزجاني : هذا مذهب أهل الثغور وأهل العلم بالصوائف والبعوث وعن أحمد لايسهم له وهو مذهب مالك و الشافعي و أبي حنيفة لأنه من غير أهل الجهاد فلم يسهم له كالعبد ولكن يرضخ له كالعبد
ولنا ما روى الزهري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم ] رواه سعيد في سننه وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم خيبر وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة ولأن الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق وبهذا فارق العبد فان نقصه في دنياه وأحكامه وإن غزا بغير اذن الامام فلا سهم له لأنه غير مأمون على الدين فهو كالمرجف وشر منه وإن غزا جماعة من الكفار وحدهم فغنموا فيحتمل أن تكون غنيمتهم لهم لا خمس فيها لأن هذا اكتساب مباح لم يؤخذ على وجه الجهاد فكان لهم لا خمس فيه كالاحتشاش والاحتطاب ويحتمل أن يؤخذ خمسه والباقي لهم لأنه غنيمة قوم من أهل دار الاسلام فأشبه غنيمة المسلمين

فصل : حكم الاستعانة بمشرك
فصل : ولا يستعان بمشرك وبهذا قال ابن المنذر و الجوزجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فان كان غير مأمون عليهم لم تجزئه الاستعانة به لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى
ووجه الأول ما روت عائشة قالت : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبر أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جراءة ونجدة فسر المسلمون به فقال : يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك فقال له رسول الله عليه وسلم : أتؤمن بالله ورسوله قال : لا قال : فارجع فلن أستعين بمشرك قالت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتؤمن بالله ورسوله قال : نعم قال : فانطلق ] متفق عليه ورواه الجوزجاني وروى الامام أحمد باسناده [ عن عبد الرحمن بن حبيب قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا : إنا لنستحيي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم قال : فأسلمتما ؟ قلنا : لا قال : فانا لا نستعين بالمشركين على المشركين قال : فأسلمنا وشهدنا معه ] ولأنه غير مأمون على المسلمين فأشبه المخذل والمرجف قال ابن المنذر : والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت

فصلان : تفصيل في الرضخ
فصل : ولا يبلغ بالرضخ للفارس سهم فارس ولا للراجل سهم راجل كما لا يبلغ بالتعزير الحد ويفعل الإمام بين أهل الرضخ ما يرى فيفضل العبد المقاتل وذا البأس على من ليس مثله ويفضل المرأة المقاتلة والتي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتنفع على غيرها فان قيل : هلا سويتم بينهم كما سويتم بين أهل السهمان ؟ قلنا : السهم منصوص عليه غير موكول إلى اجتهاد الإمام فلم يختلف كالحد ودية الحر والرضخ غير مقدر بل هو مجتهد فيه مردود إلى اجتهاد الإمام فاختلف كالتعزير وقيمة العبد
فصل : وفي الرضخ وجهان : أحدهما من أصل الغنيمة لأنه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة فأشبه أجرة النقالين والحافظين لها والثاني هو من أربعة الأخماس لأنه استحق بحضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين و للشافعي قولان كهذين

فصل : أول ما يبدأ في قسمة الغنائم بالأسلوب
فصل : أول ما يبدأ في قسمة الغنائم بالاسلاب فيدفعها الى أهلها لأن صاحبها معين ثم بمؤنة الغنيمة من أجرة النقال والحمال والحافظ والمخزن ثم بالرضخ على أحد الوجهين وفي الآخر بالخمس ثم بالأنفال من أربعة الأخماس ثم يقسم بقية أربعة الأخماس بين الغانمين وإنما قدمنا قسمة أربعة الأخماس على قسمة الخمس لستة معان : أحدها أن أهلها حاضرون وأهل الخمس غائبون الثاني أن رجوع الغانمين الى أوطانهم يقف على قسمة الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم فكان الاشتغال بقسم نصيبهم ليعودوا إلى أوطانهم أولى الثالث أن الغنيمة حصلت بتحصيل الغانمين وتبعهم فصاروا بمنزلة من استحقها بعوض وأهل الخمس بخلافه فكان أهل الغنيمة أولى الرابع أنه إذا قسم الغنيمة بين الغانمين أخذ كل انسان نصيبه فحمله واهتم به وكفى الامام مؤنته والخمس إذا قسم ليس له من يكفي الامام مؤنته فلا تحصل الفائدة بقسمته بل كان يحمله مجتمعا فصار يحمله متفرقا فكان تأخير قسمته أولى الخامس أن الخمس لا يمكن قسمه بين أهله كلهم لأنه يحتاج الى معرفتهم وعددهم ولا يمكن ذلك مع غيبتهم السادس أن الغانمين ينتفعون بسهامهم ويتمكنون من التصرف فيها لحضورهم بخلاف أهل الخمس

مسألأة : حكم ما اذا غزا العبد على فرس لسيده
مسألة : قال : وإذا غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس فكان لسيده ويرضخ للعبد
أما الرضخ للعبد فكما تقدم وأما الفرس التي تحته فيستحق مالكها سهمها فان كان معه فرسان أو أكثر أسهم لفرسين ويرضخ للعبد نص على هذا أحمد وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كان تحت مخذل
ولنا أنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فاستحق السهم كما لو كان السيد راكبه إذا ثبت هذا فان سهم الفرس ورضخ العبد لسيده لأنه مالكه ومالك فرسه وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه وفارق فرس المخذل لأن الفرس له فاذا لم يستحق بحضوره فلأن لا يستحق بحضور فرسه أولى

فصل : حكم ما إذا غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر
فصل : وان غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر إذا قلنا : لا يستحق إلا الرضخ لم يسهم للفرس في ظاهر قول أصحابنا لأنهم قالوا : لا يبلغ بالرضخ للفارس سهم فارس وظاهر هذا أنه يرضخ له ولفرسه ما لا يبلغ سهم الفارس ولأن سهم الفرس له فاذا لم يستحق السهم بحضوره فبفرسه أولى بخلاف العبد فان الفرس لغيره

فصل : حكم ما إذا غزا المخذل على فرس
فصل : وإذا غزا المرجف أو المخذل على فرس فلا شيء له ولا للفرس لما ذكرنا وان غزا العبد بغير اذن سيده لم يرضخ له لأنه عاص بغزوه فهو كالمخذل أو المرجف وان غزا الرجل بغير إذن والديه أو بغير اذن غريمه استحق السهم لأن الجهاد يتعين عليه بحضور الصف فلا يبقى عاصيا فيه بخلاف العبد

فصل : حكم من استعار فرسا ليغزو عليه
فصل : ومن استعار فرسا ليغزو عليه ففعل فسهم الفرس للمستعير وبهذا قال الشافعي لأنه يتمكن من الغزو عليه باذن صحيح شرعي فأشبه ما لو استأجره وعن أحمد رواية أخرى أن سهم الفرس لمالكه لأنه من نمائه فأشبه ولده وبهذا قال بعض الحنفية وقال بعضهم : لا سهم للفرس لأن مالكه لم يستحق سهما فلم يستحق للفرس شيئا كالمخذل والمرجف والأول أصح لأنه فرس قاتل عليه من يستحق سهما وهو مالك لنفعه فاستحق سهم الفرس كالمستأجر ولأن سهم الفرس مستحق بمنفعته وهي للمستعير باذن المالك فيها وفارق النماء والولد فانه غير مأذون له فيه فأما ان استعاره لغير الغزو ثم غزا عليه فهو كالفرس المغصوب على ما سنذكره

فصل : حكم من غصب فرسا ليغزو عليه
فصل : فان غصب فرسا فقاتل عليه فسهم الفارس لمالكه نص عليه أحمد وقال بعض الحنفية : لا يسهم للفرس وهو وجه لأصحاب الشافعي وقال بعضهم : سهم الفرس للغاصب وعليه اجرته لمالكه لأنه آلة فكان الحاصل بها لمستعملها كله كما لو غصب منجلا فاحتش بها أو سيفا فقاتل به
ولنا أنه فرس قاتل عليه من يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه وإذا ثبت أن له سهما كان لمالكه لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما وما كان للفرس كان لمالكه وفارق ما يحتش به فانه لا شيء له ولأن السهم مستحق بنفع الفرس ونفعه لمالكه فوجب أن يكون ما يستحق به له والحمد لله

فصلان : حكم من استأجر فرسا ليغزو عليه وتفصيل ذلك
فصل : ومن استأجر فرسا ليغزو عليه فغزا عليه فسهم الفرس له لا نعلم فيه خلافا لأنه مستحق لنفعه استحقاقا لازما فكان سهمه له كمالكه
فصل : فان كان المستأجر والمستعير ممن لا سهم له اما لكونه لا شيء كالمرجف والمخذل أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه على ما ذكرنا وان غصب فرسا فقاتل عليه احتمل أن يكون حكمه حكم فرسه لأن الفرس يتبع الفارس في حكمه فيتبعه إذا كان مغصوبا قياسا على فرسه واحتمل أن يكون سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه والنقص فيه فيختص المنع به وبما هو تابع له وفرسه تابعة له لأن ما كان لها فهو له والفرس ههنا لغيره وسهمها لماكها فلا ينقص سهمها بنقص سهمه كما لو قاتل العبد على فرس لسيده ولو قاتل العبد بغير إذن سيده على فرس لسيده خرج فيه الوجهان اللذان ذكرناهما فيما إذا غصب فرسا فقاتل عليه لأنه ههنا بمنزلة المغصوب

فصل : لا يجوز تفضيل بعض الغانمين على بعض في القسم
فصل : ولا يجوز تفضيل بعض الغانمين على بعض في القسم إلا أن ينفل بعضهم من الغنيمة نفلا على ما ذكرنا في الأنفال فأما غير ذلك فلا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وسوى بينهم ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فتجب التسوية كسائر الشركاء

فصل : إذا قال الإمام : من أخذ شيئا فهو له جاز
فصل : وان قال الامام : من أخذ شيئا فهو له جاز في إحدى الروايتين وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي قال أحمد في السرية تخرج فيقول الوالي : من جاء بشيء فهو له ومن لم يجىء بشيء فلا شيء له : الأنفال إلى الامام ما فعل من شيء جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في بدر : [ من أخذ شيئا فهو له ] ولأن على هذا غزوا ورضوا به
والرواية الثانية : لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقسم الغنائم والخلفاء بعده ولأن ذلك يفضي الى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم فلا يجوز ولأن الاغتنام سبب لاستحقاقهم لها على سبيل التساوي فلا يزول ذلك بقول الامام كسائر الاكتساب وأما قضية بدر فانها منسوخة فانهم اختلفوا فيها فانزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول }

مسألة وفصلان : الغنيمة لمن حضر الواقعة وحكم الأسير والمدد في ذلك
مسألة : قال : وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مددا أو هرب من أسر حظ
وجملة ذلك أن الغنيمة لمن حضر الموقعة فمن تجدد بعد ذلك من مدد يلحق بالمسلمين أو أسير ينفلت من الكفار فيلحق بجيش المسلمين أو كافر يسلم فلا حق لهم فيها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة في المدد : إن لحقهم قبل القسمة أو احرازها بدار الاسلام شاركهم لأن تمام ملكها بتمام الاستيلاء وهو الاحراز الى دار الاسلام أو قسمتها فمن جاء قبل ذلك فقد أدركها قبل ملكها فاستحل منها كما لو جاء في أثناء الحرب وان مات أحد من العسكر قبل ذلك فلا شيء له لما ذكرنا وقد روى الشعبي ان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد : أسهم لمن أتاك قبل أن تتفقأ قتلى فارس
ولنا ما روى أبو هريرة [ أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر بعد أن فتحها فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله : اجلس يا ابان ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه أبو داود عن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر : ان الغنيمة لمن شهد الوقعة رواه سعيد في سننه وروي نحوه عن عثمان في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد تقضي الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة أو بعد إحرازها إلى دار الاسلام ولأن سبب ملكها الاستيلاء عليها وقد حصل قبل مجيء المدد وقولهم ان ملكها باحرازها إلى دار الاسلام ممنوع بل هو بالاستيلاء وقد استولى عليها الجيش قبل المدد وحديث الشعبي مرسل يرويه المجالد وقد تكلم فيه ثم هم لا يعلمون به ولا نحن فقد حصل الاجماع منا على خلافه فكيف يحتج به ؟
فصل : وحكم الأسير يهرب إلى المسلمين حكم المدد سواء قاتل أو لم يقاتل وقال أبو حنيفة : لا يسهم له إلا أن يقاتل لأنه لم يأت للقتال بخلاف المدد
ولنا أن من استحق إذا قاتل استحق وإن لم يقاتل كالمدد وسائر من حضر الوقعة
فصل : وإن لحقهم المدد بعد تقضي الحرب وقبل حيازة الغنيمة أو جاءهم أسير فظاهر كلام الخرقي أنه يشاركهم لأنه جاء قبل إحرازها قال القاضي : تملك الغنيمة بانقضاء الحرب قبل حيازتها فعلى هذا لا يسهم لهم وإن حازوا الغنيمة ثم جاءهم قوم من الكفار يقاتلونهم فادركهم المدد فقاتلوا معهم فقد نص أحمد على أنه لا شيء للمدد فانه قال : اذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدو وجاء المسلمين مدد فقاتلوا العدو معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شيء لهم في الغنيمة لأنهم إنما قاتلوا عن أصحابهم ولم يقاتلوا عن الغنيمة لأن الغنيمة قد صارت في أيديهم وحووها قيل له : فان أهل المصيصة غنموا ثم استنقذ منهم العدو فجاء أهل طرسوس فقاتلوا معهم حتى استنقذوه فقال : أحب إلي أن يصطلحوا أما في الصورة الأولى فإن الأولين قد احرزوا الغنيمة وملكوها بحيازتهم فكانت لهم دون من قاتل معهم وأما في الصورة الثانية فانما حصلت الغنيمة بقتال الذين استنقذوها في المرة الثانية فينبغي أن يشتركوا فيها لأن الاحراز الأول قد زال بأخذ الكفار لها ويحتمل أن الأولين قد ملكوها بالحيازة الأولى ولم يزل ملكهم بأخذ الكفار لها منهم فلهذا أحب أن يصطلحوا عليها

مسألة : حكم من بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الغنيمة
مسألة : قال : ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الغنيمة أسهم له
هذا مثل الرسول والدليل والطليعة والجاسوس وأشباههم يبعثون لمصلحة الجيش فانهم يشاركون الجيش وبهذا قال أبو بكر بن أبي مريم وراشد بن سعد وعطية بن قيس قالوا : [ وقد تخلف عثمان يوم بدر فأجرى له رسول الله صلى الله عليه و سلم سهما من الغنيمة ] ويروى عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام يعني يوم بدر فقال : إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له فضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه ولم يضرب لأحد غاب غيره ] رواه أبو داود وعن ابن عمر قال : [ إنما تغيب عثمان عن بدر لأنه كانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ] رواه البخاري ولأنه في مصلحتهم فاستحق سهما من غنيمتهم كالسرية مع الجيش والجيش مع السرية

فصل : حكم القوم خلفهم الأمير في بلاد العدو
فصل : وسئل أحمد عن قوم خلفهم الأمير في بلاد العدو وغزا وغنم ولم يمر بهم فرجعوا هل يسهم لهم ؟ قال : نعم يسهم لهم لأن الأمير خلفهم قيل له : فان نادى الأمير : من كان ضعيفا فليتخلف فتخلف قوم فصاروا إلى لؤلؤة وفيها المسلمون فأقاموا حتى فصلوا فقال : إذا كانوا قد التجؤوا إلى مأمن لهم لم يسهم لهم ولو تخلفوا وأقاموا في موضع خرف أسهم لهم وقال في قوم خلفهم الأمير وأغار في جلد الخيل فقال : إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع أسهم لهم وان رجعوا حتى صاروا إلى مأمنهم فلا شيء لهم قيل له : فان اعتل رجل أو اعتلت دابته وقد أدرب فقال له الأمير : أقم أسهم لك أو انصرف إلى أهلك أسهم لك فكرهه وقال : هذا ينصرف إلى أهله فكيف يسهم له ؟

فصل : يجوز قسم الغنائم في دار الحرب
فصل : يجوز قسم الغنائم في دار الحرب وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر و أبوثور وقال أصحاب الرأي : لا تنقسم إلا في دار الاسلام لأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء التام ولا يحصل إلا باحرازها في دار الاسلام وان قسمت أساء قاسمها وجازت قسمته لأنها مسألة مجتهد فيها فاذا حكم الامام فيها بما يوافق قول بعض المجتهدين نفذ حكمه
ولنا ما روى أبو إسحاق الفزاري قال : قلت للأوزاعي : هل قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من الغنائم بالمدينة ؟ قال : لا أعلمه إنما كان الناس يتبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم ولم يعقل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه وقسمه من قبل أن يقفل من ذلك غزوة بني المصطلق وهوازن وخيبر ولأن كل دار صحت القسمة فيها جازت كدار الاسلام ولأن الملك ثبت فيها بالقهر والاستيلاء فصحت قسمتها كما لو أحرزت بدار الاسلام والدليل على ثبوت الملك فيها أمور ثلاثة :
أحدها : ان سبب الملك الاستيلاء التام وقد وجد فاننا أثبتنا أيدينا عليها حقيقة وقهرناهم ونفيناهم عنها والاستيلاء يدل على حاجة المستولي فيثبت الملك كما في المباحات
الثاني : ان ملك الكفار قد زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في الغنيمة ولا يصح تصرفهم فيها ولم يزل ملكهم إلى غير مالك إذ ليست في هذه الحال مباحة علم أن ملكهم زال إلى الغانمين
الثالث : أنه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا وهذا يدل على زوال ملك الكافر وثبوت الملك لمن قهره وبهذا يحصل الجواب عما ذكروه

مسألة : لا يفرق بين الوالد وولده ولا بين الوالدة وولدها في من سبي
مسألة : قال : وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده ولا بين الوالدة وولدها
أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز هذا قول مالك في أهل المدينة و الأوزاعي في أهل الشام و الليث في أهل مصر و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي فيه والأصل فيه ما روى أبو أيوب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توله والدة عن ولدها ] قال أحمد : لا يفرق بين الأم وولدها وان رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من الاضرار بالولد ولأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها بعد ذلك فتندم لا يجوز التفريق بين الأب وولده وهذا قول أصحاب الرأي ومذهب الشافعي وقال بعض أصحابه : يجوز وهو قول مالك و الليث لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه ولأنه نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الأم أشفق منه
ولنا أنه أحد الأبوين فأشبه الأم ولا نسلم أنه ليس من أهل الحضانة وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كون الولد كبيرا بالغا أو طفلا وهذا إحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد بدون إذنهما
والرواية الثانية : يختص تحريم التفريق بالصغير وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن عبد العزيز و مالك و الأوزاعي و الليث و أبو ثور وهو قول الشافعي لأن سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه و سلم فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أهديت اليه مارية واختها سيرين فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت ولأن الأحرار يتفرقون بعد الكبر فان المرأة تزوج ابنتها فالعبيد أولى وبما ذكرناه يتخصص عموم حديث النهي واختلفوا في حد الكبر الذي يجوز معه التفريق فروي عن أحمد : يجوز التفريق بينهما إذا بلغ الولد وهو قول سعيد بن عبد العزيز وأصحاب الرأي وقول الشافعي وقال مالك : إذا أثغر وقال الأوزاعي و الليث : إذا استغنى عن أمه ونفع نفسه وقال الشافعي في أحد قوليه : إذا صار ابن سبع سنين أو ثمان سنين وقال أبو ثور : إذا كان يلبس وحده ويتوضأ وحده لأنه إذا كان كذلك يستغني عن أمه وكذلك خير الغلام بين أمه وأبيه إذا صار كذلك ولأنه جاز التفريق بينهما بتخييره فجاز ببيعه وقسمته
ولنا ما روي عن عبادة بن الصامت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يفرق بين الوالدة وولدها فقيل : إلى متى ؟ قال : حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية ] ولأن ما دون البلوغ مولى عليه فأشبه الطفل

فصل : وإذا فرق بينهما فالبيع فاسد
فصل : وان فرق بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يصح البيع لأن النهي لمعنى في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء
ولنا ما روى أبو داود في سننه باسناده عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين الأم وولدها فنههاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ورد البيع والأصل ممنوع ولا يصح ما ذكروه فانه نهى عنه لما يلحق المبيع من الضرر فهو لمعنى فيه

مسألة : والجد في ذلك كالأب والجدة فيه كالأم
مسألة : قال : والجد في ذلك كالأب والجدة فيه كالأم
وجملة ذلك أن الجد والجدة في تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالأبوين لأن الجد أب والجدة أم ولذلك يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم لأن للجميع ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض

مسألة : ولا يفرق بين أخوين ولا أختين
مسألة : قال : ولا يفرق بين أخوين ولا أختين
وجملته أنه يحرم التفريق بين الاخوة في القسمة والبيع وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك و الليث و الشافعي و ابن المنذر : يجوز لأنها قرابة لا تمنع قبول الشهادة فلم يحرم التفريق كقرابة ابن العم
ولنا ما [ روي عن علي رضي الله عنه قال : وهب لي رسول الله صلى الله عيه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما فعل غلامك ؟ فأخبرته فقال : رده رده ] رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع لأنه ذو رحم محرم فلم يجز التفريق بينهما كالولد والوالد

فصل : ويجوز التفريق بين سائر الأقارب
فصل : ويجوز التفريق بين سائر الأقارب في ظاهر كلام الخرقي وقال غيره من أصحابنا : لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة مع ابن اختها لما ذكرنا من القياس
ولنا أن الأصل حل البيع والتفريق ولا يصح القياس على الإخوة لأنهم أقرب ولذلك يحجبون غيرهم عن الميراث فيبقى فيمن عداهم على مقتضى الأصل فأما من ليس بينهما رحم محرم فلا يمنع من التفريق بينهم عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع القياس على المنصوص وكذلك يجوز التفريق بين الأم من الرضاع وولدها والأخت وأختها لذلك ولأن قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على صاحبه ولا نفقة ولا ميراثا فلم تمنع التفريق كالصدقة

فصل : حكم ما إذا كان في المغنم من لا يجوز التفريق بينهم
فصل : وإذا كان في المغنم من لا يجوز التفريق بينهم وكان قدرهم حصة واحد من الغانمين دفعوا الى واحد وإن كان فيهم فضل فرضي برد قيمة الفضل جاز وإن لم يكن ذلك بيعوا جملة وقسم ثمنهم أو يجعلوا في الخمس ويجوز التفريق بينهم في العتق والفداء لأن العتق لا تفرقة فيه في المكان والفداء تخليص فهو كالعتق

مسألة : حكم من اشترى منهم وهم مجتمعون فتبين أن لا نسب بينهم
مسألة : قال : ومن اشترى منهم وهم مجتمعون فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه التفريق
وجملته أن من اشترى من المغنم اثنين أو أكثر وحسبوا عليه بنصيبه بناء على أنهم أقارب يحرم التفريق بينهم فبان أنه لا نسب بينهم وجب عليه رد الفضل الذي فيهم على المغنم لأن قيمتهم تزيد بذلك فان اشترى اثنين بناء على أن إحداهما أم الأخرى لا يحل له الجمع بينهما في الوطء ولا بيع إحداهما دون الأخرى فكانت قيمتهما قليلة لذلك فإن بان أن إحداهما أجنبية من الأخرى أبيح له وطؤهما وبيع احداهما فتكثر قيمتهما فيجب رد الفضل كما لو اشتراهما فوجد معهما حليا أو ذهبا فتكثر قيمتهما وكما لو أخذ دراهم فبانت أكثر مما حسب عليه

مسألة : حكم من سبي من الأطفال
مسألة : قال : ومن سبي من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم ومن سبي مع أبويه فهو على دينهما
وجملته أنه أذا سبي من لم يبلغ من أولاد الكفار صار رقيقا ولا يخلو من ثلاثة أحوال : أحدها أن يسبى منفردا عن أبويه فهذا يصير مسلما إجماعا لأن الدين إنما يثبت له تبعا وقد انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما واخراجه عن دارهما ومصيره الى دار الاسلام تبعا لسابيه المسلم فكان تابعا له في دينه
الثاني : أن يسبى مع أحد أبويه فانه يحكم باسلامه أيضا وبهذا قال الأوزاعي و قال أبو حنيفة و الشافعي : يكون تابعا لأبيه في الكفر لأنه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم باسلامه كما لو سبي معهما وقال مالك : إن سبي مع أبيه يتبعه لأن الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وإن سبي مع أمه فهو مسلم لأنه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ] فمفهومه أنه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت باحدهما ولأنه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع أحد أبويه قياسا على ما لو اسلم أحد الأبوين يحققه أن كل شخص غلب حكم اسلامه منفردا غلب مع أحد الأبوين كالمسلم من الأبوين
الثالث : أن يسبى مع أبويه فانه يكون على دينهما وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال الأوزاعي : يكون مسلما لان السابي أحق به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع ميراثهما منه وميراثه منهما فكان أولى به منهما
ولنا قوله عليه السلام : [ فأبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه ] وهما معه وملك السابي له لا يمنع اتباعه لأبويه بدليل ما لو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين

فصل : حكم سبي المتزوج من الكفار
فصل : وإذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يسبى الزوجان معا فلا يفسخ نكاحهما لقوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } والمحصنات المزوجات : { إلا ما ملكت أيمانكم } بالسبي قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في سبي أوطاس وقال ابن عباس : إلا ذوات الأزواج من المسبيات ولأنه استولى على محل حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها
ولنا أن الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق والآية نزلت في سبايا أوطاس وكانوا اخذوا النساء دون ازواجهن وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في دار الاسلام فيخص منه محل النزاع بالقياس عليه
الحال الثاني : أن تسبى المراة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه وقد روى أبو سعيد الخدري قال : اصبنا سبايا يوم اوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن إلا أن أبا خنيفة قال : إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح
ولنا أن السبب المقتضي للفسخ وجد فانفسح النكاح كما لو سبي بعد شهر
الحال الثالث : سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لانه لا نص فيه ولا القياس يقتضيه وقد سبى النبي صلى الله عليه و سلم سبعين من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضا فلم يحكم عليهم بفسخ أنكحتهم ولأننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح فيما اذا سبيا معا مع الاستيلاء على محل حقه فلأن لا ينفسخ نكاحه مع عدم الاستيلاء اولى
وقال أبو الخطاب : إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق وبه قال أبو حنيفة ولأن الزوجين افترقت بهما الدار وطرأ الملك على احدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها وقال الشافعي : إن سبي واسترق انفسخ نكاحه وإن من عليه أو فودي ينفسخ
ولنا ما ذكرناه وان السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزله عن زوجته كما لم يزله عن أمته

فصل : لم يفرق في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان
فصل : ولم يفرق أصحابنا في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان وينبغي أن يفرق بينهما فانهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة منفردا بها ولا زوج معه لها فتحل له لقوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وذكر الأوزاعي أن الزوجين إذا سبيا فهما على النكاح في المقاسم فان اشتراهما رجل فله ان يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح
ولنا أن تجدد الملك في الزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين اذا ثبت هذا فانه لا يحرم التفريق بين الزوجين في القسمة والبيع لأن الشرع لم يرد بذلك

فصل : حكم ما لو أسلم الحربي في دار الحرب
فصل : اذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن ماله ودمه واولاده الصغار من السبي وان دخل دار الاسلام فأسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم وبه قال مالك و الشافعي و الأوزاعي وقال أبو حنيفة : ما كان في يديه من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له وما كان من أمواله بدار الحرب جاز سبيهم لأنه لم يثبت إسلامهم باسلامه لاختلاف الدارين بينهم ولهذا اذا سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما ويتبع سابيه في الاسلام وما كان من أرض أو دار فهو فيء وكذلك زوجته اذا كانت كافرة وما في بطنها فيء
ولنا أن أولاده أولاد مسلم فوجب أن يتبعوه في دار الاسلام كما لو كانوا معه في الدار ولأن ماله مال مسلم فلا يجوز اغتنامه كما لو كان في دار الإسلام وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده وما ذكره أبو حنيفة لا يلزم فإننا نجعله تبعا للسابي لأننا لا نعلم بقاء أبويه فأما أولاده الكبار فلا يعصمهم لأنهم لا يتبعونه ولا يعصم زوجته لذلك فإن سبيت صارت رقيقا ولم يفسخ نكاحه برقها ولكن يكون حكمها في النكاح وفسخه حكم ما لو لم تسب على ما مر في نكاح أهل الشرك فإن كانت حاملا من زوجها لم يجز استرقاق الحمل وكان حرا مسلما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يحكم برقه مع أمه لأن ما سرى إليه العتق سرى إليه الرق كسائر أعضائها
ولنا أنه محكوم بحريته وإسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل ويخالف الاعضاء لأنها لا تنفرد بحكم عن الأصل

فصل : حكم ما إذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار
فصل : وإذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار أو دخل مسلم فابتاع عقارا أو مالا فظهر المسلمون على ماله وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يغنم العقار وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم واحتج بأنها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها كما لو كانت لحربي ولنا أنه مال مسلم فأشبه ما لو كاتب في دار الاسلام

فصل : حكم ما إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون
فصل : إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر لأن المنافع ملك المسلم فان قيل : فلم أجزتم استرقاق الكافرة الحربية إذا كان زوجها قد أسلم وفي استرقاقها ابطال حق زوجها ؟ قلنا : يجوز استرقاقها لأنها كافرة ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن زوجة مسلم فلا يبطل نكاحه بل هو باق ولأن منفعة النكاح لا تجري مجرى الأموال بدليل أنها لا تضمن باليد ولا يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الاجارة

فصل : حكم ما لو أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج إلينا
فصل : اذا أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج الينا فهو حر وان أسر سيده وأولاده وأخذ ماله وخرج الينا فهو حر والمال له والسبي رقيقه وان أسلم وأقام بدار الحرب فهو على رقه وان أسلمت أم ولد الحربي وخرجت الينا عتقت واستبرأت نفسها وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : وقال به كل من نحفظ عنه من أهل العلم إلا أن أبا حنيفة قال في أم الولد : تزوج إن شاءت من غير استبراء وأهل العلم على خلافه لأنها أم ولد عتقت فلم يجز أن تتزوج بغير استبراء كما لو كانت لذمي
وروى سعيد بن منصور : حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحكم عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم ] وعن أبي سعيد الأعسم قال : [ قضى رسول صلى الله عليه و سلم في العبد وسيده قضيتين قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فان خرج سيده بعد لم يرد عليه وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رده على سيده ] رواه سعيد ايضا وعن الشعبي [ عن رجل من ثقيف قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدا لنا اتى رسول الله وهو محاصر ثقيفا فأسلم فأبى أن يرده علينا وقال : هو طليق الله ثم طليق رسوله فلم يرده علينا ] =

 

16.

مجلد 16. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني  عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

  مسألة : حكم ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين فأدركه صاحبه قبل قسمه
مسألة : قال : وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به
فان أدركه مقسوما فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم في إحدى الروايتين والرواية الأخرى إذا قسم فلا حق له فيه بحال يعني إذا أخذ الكفار أموال المسلمين ثم قهرهم المسلمون فاخذوها منهم فإن علم صاحبها قبل قسمتها ردت إليه بغير شيء في قوله عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه و عطاء و النخعي و سلمان بن ربيعة و الليث و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري ك لا يرد إليه وهو للجيش ونحوه عن عمرو بن دينار لأن الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة كسائر أموالهم
ولنا ما روى ابن عمر ان غلاما له أبق الى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم الى ابن عمر ولم يقسم وعنه قال ذهب فرس له فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي الله صلى الله عليه و سلم رواهما ابو داود وعن جابر بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد قال : من وجد ماله بعينه فهو أحق به مالم يقسم رواه سعيد و الأثرم فأما ما أدركه بعد أن قسم ففيه روايتان :
إحداهما : أن صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على من أخذه وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن وهذا قول أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي و مالك لما روى ابن عباس رضي الله عنه [ أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك وان أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة ] ولأنه إنما أخذه له بغير شيء كيلا يفضي الى حرمان آخذه من الغنيمة أو يضيع الثمن على المشتري وحقهما ينجبر بالثمن فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع إلا أن المحكي عن مالك و أبي حنيفة أنه يأخذه بالقيمة ويروى عن مجاهد مثله
والرواية الثانية عن أحمد أنه قسم فلا حق له فيه بحال نص عليه في رواية أبي داود وغيره وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة و عطاء و النخعي و الليث قال أحمد : أما قول من قال : هو أحق بالقيمة فهو قول ضعيف عن مجاهد وقال الشافعي يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها ويعطي مشتريه ثمنه من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحق أخذه بغير شيء كما قبل القسمة ويعطي من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان آخذه حقه من الغنيمة وجعل من سهم المصالح لأن هذا منها وهذا قول ابن المنذر
ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى السائب : أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل له إليه وقال سلمان بن ربيعة : إذا قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد في سننه ولأنه اجماع قال أحمد : إنما قال الناس فيها قولين : إذا قسم فلا شيء له وقال قوم : إذا قسم فهو له بالثمن فأما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك فلم يقله أحد ومتى ما انقسم أهل العصر على قولين في حكم لم يجز احداث قول ثالث لأنه يخالف الاجماع فلم يجز المصير إليه وقد روى أصحابنا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من أدرك ماله قبل أن يقسم فهو له وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء ] والمعمول على ما ذكرنا من الاجماع وقولهم : لم يزل ملك صاحبه عنه غير مسلم

فصل : حكم ما لو أخذ مال المسلم أحد الرعية بهبة أو سرقة فعرفه
فصل : وإن أخذه أحد الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شيء فصاحبه أحق به بغير شيء وقال أبو حنيفة : لا يأخذه إلا بالقيمة لأنه صار ملكا لواحد بعينه فأشبه ما لو قسم
ولنا ما [ روي أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه و سلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل قالت : فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت ان نجاني الله عليها أن أنحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فاذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذها فقلت : يا رسول الله اني نذرت أن أنحرها فقال : بئس ما جازيتها لا نذر في معصية وفي رواية : لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ] رواه أحمد و مسلم ولأنه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحق به كما لو أدركه في الغنيمة قبل قسمه فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه لما روى سعيد : حدثنا عثمان بن مطر الشيباني : حدثنا أبو حريز عن الشعبي قال : أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب ورقيقا ومتاعا ثم ان السائب بن الأقرع عامل عمر غزاهم ففتح ماه فكتب إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب اليه عمر : ان المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يخذله فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فانه يرد عليهم رؤوس أموالهم فان الحر لا يباع ولا يشترى وقال القاضي : ما حصل في يده بهبة أو سرقة أو شراء فهو كما لو وجده صاحبه بعد القسمة هل يكون صاحبه أحق به بالقيمة ؟ على روايتين والأولى ما ذكرناه وان علم الامام بمال المسلم قبل قسمه فقسمه وجب رده وكان صاحبه أحق به بغير شيء لأن قسمته كانت باطلة من أصلها

فصل : حكم ما لو غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة المسلمين
فصل : وان غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة المسلمين فلم يعلم صاحبه فهو غنيمة قال أحمد في مراكب تجيء من مصر يقطع عليها الروم فيأخذونها ثم يأخذها المسلمون منهم : إن عرف صاحبها فلا يؤكل منها وهذا يدل على أنه إذا لم يعرف صاحبها جاز الأكل منها ونحو هذا قول الثوري و الأوزاعي قالا في المصحف يحصل في الغنائم : يباع وقال الشافعي : يوقف حتى يجيء صاحبه وان وجد شيء موسوم عليه حبس في سبيل الله رد كما كان نص عليه أحمد وبه قال الأوزاعي و الشافعي وقال الثوري : يقسم ما لم يأت صاحبه
ولنا أن هذا قد عرف مصرفه وهو الحبس فهو بمنزلة ما لو عرف صاحبه قيل لأحمد : فالجواميس تدرك وقد ساقها العدو للمسلمين وقد ردت يؤكل منها ؟ قال : إذا عرف لمن هي فلا يؤكل منها قيل لأحمد : فما حاز العدو للمسلمين فأصابه المسلمون أعليهم أن يقفوه حتى يتبين صاحبه ؟ قال : إذا عرف فقيل هو لفلان وكان صاحبه بالقرب قيل له : أصيب غلام في بلاد الروم قال : أنا لفلان رجل قال : إذا عرف الرجل لم يقسم ماله ورد على صاحبه قيل له : أصبنا مركبا في بلاد الروم فيها النواتية قالوا : هذا لفلان وهذا لفلان ؟ قال : هذا قد عرف صاحبه لا يقسم

فصل : يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر
فصل : قال القاضي : يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر وهو قول مالك و أبي حنيفة وقال أبو الخطاب : لا يملكونها وهو قول الشافعي قال : وهو ظاهر كلام أحمد حيث قال : إن أدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإنما منعه أخذه بعد قسمه لأن قسمة الامام له تجري مجرى الحكم ومتى صادف الحكم امرا مجتهدا فيه نفذ حكمه
وحكي عن أحمد في ذلك روايتان : واحتج من قال : لا يملكونها بحديث ناقة النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولأن من لا يملك رقبة غيره بالقهر لم يملك ماله به كالمسلم مع المسلم ووجه الأول : أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكافر مال المسلم كالبيع فأما الناقة فإنما أخذها النبي صلى الله عليه و سلم لأنه أدركها غير مقسومة ولا مشتراة على هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دار الكفر وهو قول مالك وذكر القاضي أنهم إنما يملكونها بالحيازة إلى دارهم وهو قول أبي حنيفة وحكي في ذلك عن أحمد روايتان ووجه الأول أن الاستيلاء سبب للملك فيثبت قبل الحيازة إلى الدار كاستيلاء المسلمين على مال الكفار ولأن ما كان سببا للملك أثبته حيث وجد كالهبة والبيع وفائدة الخلاف في ثبوت الملك وعدمه أن من أثبت الملك للكفار في أموال المسلمين أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها والتصرف فيها ما لم يعلموا صاحبها وأن الكافر إذا أسلم وهي في يده فهو أحق بها ومن لم يثبت الملك اقتضى مذهبه عكس ذلك والله أعلم

فصل : حكم ما إذا أسلم الكافر الحربي ودخل إلينا بأمان
فصل : ولا أعلم خلافا في أن الكافر الحربي إذا أسلم أو دخل الينا بأمان بعد أن استولى على مال مسلم فأتلفه إنه لا يلزمه ضمانه وإن أسلم وهو في يده فهو له بغير خلاف في المذهب لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم على شيء فهو له ] وإن كان أخذه من المستولى عليه بهبة أو سرقة أو شراء فكذلك لأنه استولى عليه في حال كفره فأشبه ما استولى عليه بقهره للمسلم وعن أحمد أن صاحبه يكون أحق به بالقيمة وإن استولى على جارية مسلم فاستولدها ثم أسلم فهي له وهي أم ولد له نص عليه أحمد لأنها مال فأشبهت سائر الأموال وإن غنمها المسلمون وأولادها قبل إسلام سابيها فعلم صاحبها ردت إليه وكان أولادها غنيمة لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها

فصل : إذا استولوا على حر لم يملكوه سواء كان مسلما أو ذميا
فصل : وان استولوا على حر لم يملكوه سواء كان مسلما أو ذميا
لا أعلم في هذا خلافا لأنه لا يضمن بالقيمة ولا تثبت عليه يد بحال وكل ما يضمن بالقيمة يملكونه بالقهر كالعروض والعبد القن والمدبر والمكاتب وأم الولد وقال أبوحنيفة : لا يملكون المكاتب وأم الولد لأنهما لا يجوز نقل الملك فيهما فهما كالحر
ولنا أنهما يضمنان بالقيمة فيملكونهما كالعبد القن ويحتمل أن يملكوا المكاتب دون أم الولد لأن أم الولد لا يجوز نقل الملك فيها ولا يثبت فيها لغير سيدها وفائدة الخلاف أن من قال بثبوت الملك فيهما قال : متى قسما أو اشتراهما انسان لم يكن لسيدهما أخذهما إلا بالثمن قال الزهري في أم الولد : يأخذها سيدها بقيمة عدل وقال مالك : يفديها الامام فان لم يفعل يأخذها سيدها بقيمة عدل ولا يدعها يستحل فرجها من لا تحل له ومن قال : لا يثبت الملك فيهما ردا إلى ما كانا عليه على كل حال كالحر وان اشتراهما انسان فالحكم فيهما كالحكم في الحر إذا اشتراه

فصل : حكم ما إذا أبق عبد المسلم إلى دار الحرب الخ
فصل : إذا ابق عبد المسلم الى دار الحرب فأخذوه ملكوه كالمال وهذا قول مالك و أبي يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا يملكونه وعن أحمد مثل ذلك لأنه إذا صار في دار الحرب زالت يد مولاه عنه وصار في يد نفسه فلم يملك كالحر
ولنا أنه مال لو أخذوه من دار الاسلام ملكوه فاذا أخذوه من دار الحرب ملكوه كالبهيمة

مسألأة : حكم ما إذا أخذ شيئا من دار الحرب له قيمة
مسألة : قال : ومن قطع من مواتهم حجرا أو عودا أو صار حوتا أو ظبيا رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به
يعني إذا أخذ شيئا له قيمة من دار الحرب فالمسلمون شركاؤه فيه وبه قال أبو حنيفة و الثوري وقال الشافعي : ينفرد آخذه بملكه لأنه لو أخذه من دار الاسلام ملكه فاذا أخذه من دار الحرب ملكه كالشيء التافه وهذا قول مكحول و الأوزاعي ونقل ذلك عن القاسم و سالم
ولنا أنه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين فكان غنيمة كالمطعومات وفارق ما أخذوه من دار الاسلام لأنه لا يحتاج إلى الجيش في أخذه فأما إن احتاج إلى أكله والانتفاع به فله ذلك ولا يرده لأنه لو وجد طعاما مملوكا للكفار كان له أكله إذا احتاج فما أخذ من الصيود والمباحات أولى

فصل : حكم ما إذا أخذ من بيوتهم ما لا قيمة له في أرضهم
فصل : وإن أخذ من بيوتهم أو خارجا منها ما لا قيمة له في أرضهم كالمسن والاقلام والاحجار والأدوية فله أخذه وهو أحق به وان صارت له قيمة بنقله أو معالحته نص أحمد على نحو هذا وبه قال مكحول و الأوزاعي و الشافعي وقال الثوري : إذا جاء به إلى دار الاسلام دفعه في المقسم وان عالجه فصار له ثمن أعطي بقدر عمله فيه وبقيته في المقسم
ولنا أن القيمة إنما صارت له بعمله أو بنقله فلم تكن غنيمة كما لو لم تصر له قيمة

فصل : حكم ما إذا ترك صاحب المقسم شيئا من الغنيمة وقال : من أخذ شيئا فهو له
فصل : وان ترك صاحب المقسم شيئا من الغنيمة عجزا عن حمله فقال : من أخذ شيئا فهو له فمن حمل شيئا فهو له نص عليه أحمد وسئل عن قوم غنموا غنائم كثيرة فيبقى خرثي المتاع مما لا يباع ولا يشترى فيدعه الوالي بمنزلة العقار والفخار وما أشبه ذلك أيأخذه الانسان لنفسه ؟ قال : نعم إذا ترك ولم يشتر ونحو هذا قول مالك ونقل عنه أبو طالب في المتاع لا يقدرون على حمله إذا حمله رجل : يقسم وهذا قول ابراهيم قال الخلال : روى أبو طالب هذه في ثلاثة مواضع في موضع منها وافق أصحابه وفي موضع خالفهم قال : ولا شك أن أبا عبد الله قال هذا أولا ثم تبين له بعد ذلك أن للامام أن يبيحه وأن يحرمه وأن لهم أن يأخذوه إذا تركه الامام إذا لم يجد من يحمله لأنه إذا لم يجد من يحمله ولم يقدر على حمله بمنزلة ما لا قيمة له فصار كالذي ذكرناه في الفصل قبل هذا

فصل : حكم ما لو وجد في دار الحرب ركازا
فصل : وإن وجد في أرضهم ركازا فان كان في موضع يقدر عليه بنفسه فهو كما لو وجده في دار الاسلام : فيه الخمس وباقيه له وإن قدر عليه بجماعة المسلمين فهو غنيمة ونحو هذا قول مالك و الأوزاعي و الليث وقال الشافعي : إن وجده في مواتهم فهو كما لو وجده في دار الاسلام
ولنا ما روى عاصم بن كليب عن أبي الجويرية الحرمي قال : أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها دنانير في امراة معاوية وعلينا معن بن يزيد السلمي فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل ماأعطى رجلا منهم ثم قال : لولا اني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نفل إلا بعد خمس ] لأعطيتك ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت أخرجه أبو داود ولأنه مال مشرك ظهر عليه بقوة جيش المسلمين فكان غنيمة كأموالهم الظاهرة

فصل : حكم الدابة تخرج من بلاد الروم
فصل : سئل أحمد عن الدابة تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم يضلون عن الطريق فيدخلون القرية من قرى المسلمين فيأخذونهم فقال : يكونون لأهل القرية كلهم يتقاسمونهم وسئل عن قوم يكونون في حصن أو رباط فيخرج منهم قوم إلى قتالهم فيصيبون دوابا أو سلاحا فقال أبو عبد الله تكون بين أهل الرباط وأهل الحضرة من القرية وسئل عن مركب بعث به ملك الروم فيه رجاله فطرحته الريح إلى طرطوس فخرج إليه أهل طرطوس فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال فقال : هذا فيء المسلمين مما افاه الله عليهم وقال الزهري هو لمن غنمه وفيه الخمس فقال أبو الخطاب : من ضل الطريق منهم أو حملته الريح إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين لأنه متاع أخذه أحد المسلمين بغير قوة مسلم فكان له كالحطب والرواية الثانية يكون فيئا

فصل : حكم من وجد في دارهم لقطة
فصل : ومن وجد في دارهم لقطة فان كانت من متاع المسلمين فهي لقطة يعرفها سنة ثم يملكها وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة وان احتمل الأمرين عرفها حولا ثم جعلها في الغنيمة نص عليه أحمد ويعرفها في بلد المسلمين لأنها تحتمل الأمرين فغلب فيها حكم مال المسلمين في التعريف وحكم مال أهل الحرب في كونها غنيمة احتياطا

مسألة : حكم من تعلف فوق ما يحتاج إليه
مسألة قال : ومن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رده على المسلمين فان باعه رد ثمنه في المقسم
أجمع أهل العلم إلا من شذ منهم على أن للغزاة إذا دخلوا أرض الحرب أن يأكلوا مما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم من أعلافهم منهم سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و الشعبي و القاسم و سالم و الثوري و الأوزاعي و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري : لا يؤخذ إلا بإذن الامام وقال سليمان بن موسى : لا يترك إلا أن ينهى عنه الامام فيتقي نهيه
ولنا ما روى عبد الله بن أبي أوفى قال : أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف رواه سعيد و أبو داود [ وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر : إنا أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك فكتب إليه : دع الناس يعلفون ويأكلون فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين ] رواه سعيد [ وقد روى عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت : والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك فاستحييت منه ] متفق عليه ولأن الحاجة تدعو إلى هذا وفي المنع منه مضرة بالجيش وبدوابهم فانه يعسر عليهم نقل الطعام والعلف من دار الاسلام ولا يجدون بدار الحرب ما يشترونه ولو وجدوه لم يجدوا ثمنه ولا يمكن قسمة ما يأخذه الواحد منهم ولو قسم لم يحصل للواحد منهم شيء ينتفع به ولا يدفع به حاجته فأباح الله تعالى لهم ذلك فمن أخذ من الطعام شيئا مما يقتات أو يصلح به القوت من الأدم وغيره أو العلف لدابته فهو أحق به سواء كان له ما يستغني به عنه أو لم يكن له ويكون أحق بما يأخذه من غيره فان فضل منه ما لا حاجة به إليه رده على المسلمين لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه وإن أعطاه أحد من أهل الجيش اليه جاز له أخذه وصار أحق به من غيره وان باع شيئا من الطعام أو العلف رد ثمنه في الغنيمة لما ذكرنا من حديث عمر وروي مثله عن فضالة بن عبيد وبه قال سليمان بن موسى و الثوري و الشافعي وكره القاسم و سالم و مالك بيعه قال القاضي : لا يخلو إما أن يبيعه من غاز أو غيره فان باعه لغيره فالبيع باطل لأنه بيع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة فيجب رد المبيع ونقض البيع فان تعذر رده رد قيمته أو ثمنه إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم
وعلى هذا الوجه كلام الخرقي وإن باعه لغاز لم يحل إلا أن يبدله بطعام أو علف مما له الانتفاع به أو بغيره فان باعه بمثله فليس هذا بيعا في الحقيقة إنما سلم إليه مباحا وأخذ مثله مباحا ولكل واحد منهما الانتفاع بما أخذه وصار أحق به لثبوت يده عليه فعلى هذا لو باع صاعا بصاعين وافترقا قبل القبض جاز لأنه ليس ببيع وإن باعه به نسيئة أو أقرضه إياه فأخذه فهو أحق به ولا يلزمه إيفاؤه فإن وفاه أو رده إليه عادت اليد إليه وان باعه بغير الطعام والعلف فالبيع أيضا غير صحيح ويصير المشتري أحق به لثبوت يده عليه ولا ثمن عليه وإن أخذ منه وجب رده إليه

فصل : حكم ما لو وجد دهنا في أرض العدو
فصل : وإن وجد دهنا فهو كسائر الطعام لما ذكرنا من حديث ابن مغفل ولأنه طعام فأشبه البر والشعير وإن كان غير مأكول فاحتاج أن يدهن به أو يدهن دابته فظاهر كلام أحمد جوازه إذا كان من حاجة
قال أحمد في زيت الروم : إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس فأما التزين فلا يعجبني وقال الشافعي : ليس له دهن دابته من جرب ولا يوقحها إلا بالقيمة لأن ذلك لا تعم الحاجة إليه ويحتمل كلام أحمد مثل هذا لأن هذا ليس بطعام ولا علف
ووجه الأول أن هذا مما لا يحتاج إليه لاصلاح نفسه ودابته أشبه الطعام والعلف وله أكل ما يتداوى به وشرب الشراب من الجلاب والسكنجبين وغيرهما عند الحاجة إليه لأنه من الطعام وقال أصحاب الشافعي : ليس له تناوله لأنه ليس من القوت ولا يصلح به القوت ولأنه لا يباح مع عدم الحاجة إليه فلا يباح مع وجودها كغير الطعام
ولنا أنه طعام احتيج إليه أشبه الفواكه وما ذكروه يبطل بالفاكهة وإنما اعتبرنا الحاجة ههنا لأن هذا لا يتناول في العادة إلا عند الحاجة إليه

فصل : قال أحمد لا يجوز للغازي المسلم أن يغسل ثوبه بالصابون قبل القسم
فصل : قال أحمد : ولا يغسل ثوبه بالصابون لأن ذلك ليس بطعام ولا علف ويراد للتحسين والزينة فلا يكون في معناهما ولو كان مع الغازي فهد أو كلب الصيد لم يكن له إطعامه من الغنيمة فان أطعمها غرم قيمة ما أطعمها لأن هذا يراد للتفرج والزينة وليس مما يحتاج إليه في الغزو بخلاف الدواب

فصل : لا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من المغنم
فصل : ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من المغنم لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ] رواه سعيد

فصول : حكم ما لو أخذوا من الكفار جوارح أو جلودا أو علفا
فصل : ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ النعل والجرب منها ولا الخيوط والحبال وبهذا قال ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير واسماعيل بن عياش و الشافعي ورخص في اتخاذ الجرب من جلود الغنم سليمان بن موسى ورخص مالك في الابرة والحبل يتخذ من الشعر والنعل والخف يتخذ من جلود البقر
ولنا ما روى قيس بن أبي حازم [ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكنة من شعر من المغنم فقال يا رسول الله إنا لنعمل الشعر فهبها لي ؟ قال : نصيبي منها لك ] رواه سعيد
وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أدوا الخيط والمخيط فان الغلول نار وشنار يوم القيامة ] ولأن ذلك من الغنيمة لا تدعو الى أخذه حاجة عامة فلم يجز أخذه كالثياب
فصل : فأما كتبهم فان كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة وإن كانت مما لا ينتفع به ككتاب التوراة والانجيل فأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله غسل وهو غنيمة وإلا فلا ولا يجوز بيعها
فصل : وإن أخذوا من الكفار جوارح للصيد كالفهود والبزاة فهي غنيمة تقسم وإن كانت كلابا لم يجز بيعها وإن لم يردها أحد من الغانمين جاز إرسالها أو إعطاؤها غير الغانمين وإن رغب فيها بعض الغانمين دون بعض دفعت إليه ولم تحسب عليه لأنها لا قيمة لها وإن رغب فيها الجميع أو جماعة كثيرة فأمكن قسمها يكون عددا من غير تقويم وإن تعذر ذلك أو تنازعوا في الجيد منها فطلبه كل واحد منهم أقرع بينهم فيها وإن وجدوا خنازير قتلوها لأنها مؤذية ولا نفع فيها وأن وجدوا خمرا أراقوه وإن كان في ظروفه نفع للمسلمين أخذوها وإن لم يكن فيها نفع كسروها لئلا يعودوا الى استعمالها
فصل : وللغازي أن يعلف دوابه ويطعم رقيقه مما يجوز له الأكل منه سواء كانوا للقنية أو للتجارة قال أبو داود : قلت لأبي عبد الله : يشتري الرجل السبي في بلاد الروم يطعمهم من طعام الروم ؟ قال : نعم يطعمهم
وروى عنه ابنه عبد الله قال : سألت أبي عن الرجل يدخل بلاد الروم ومعه الجارية والدابة للتجارة إن أطعمهما يعني الجارية وعلف الدابة ؟ قال : لا يعجبني ذلك فان لم تكن للتجارة فلم ير به بأسا فظاهر هذا أنه لا يجوز إطعام ما كان للتجارة لأنه ليس مما يستعين به على الغزو وقال الخلال : رجع أحمد عن هذه الرواية وروى عنه جماعة بعد هذا أنه لا بأس به وذلك لأن الحاجة داعية إليه فأشبه ما لا يراد به التجارة

مسألة : يشارك الجيش سرايا فيما غنمت وتشاركه فيما غنم
مسألة : قال : ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم
وجملته أن الجيش إذا فصل غازيا فخرجت منه سرية أو أكثر فأيهما غنم شاركه الآخر في قول عامة أهل العلم منهم مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و حماد و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال النخعي : إن شاء الامام خمس ما تأتي به السرية وأن شاء نفلهم إياه كلهم
وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فاشرك بينها وبين الجيش قال ابن المنذر : وروينا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ويرد سراياهم على قعدهم ] وفي تنفيل النبي صلى الله عليه و سلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك لأنهم لو اختصوا بما غنموه لما كان ثلثه نفلا ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهم ردء لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش وان أقام الأمير ببلد الاسلام وبعث سرية أو جيشا فما غنمت السرية فهو له وحدها لأنه إنما يشترك المجاهدون والمقيم في بلد الاسلام ليس بمجاهد وان نفذ من بلد الاسلام جيشين أو سريتين فكل واحدة تنفرد بما غنمته لأن كل واحدة منهما انفردت بالغزو فانفردت بالغنيمة بخلاف ما إذا فصل الجيش فدخل بجملته بلاد الكفار فان جميعهم اشتركوا في الجهاد فاشتركوا في الغنيمة

مسألة : حكم ما يفضل من الطعام معهم حين يدخلون البلد
مسألة : قال : ومن فضل معه من الطعام فأدخله البلد طرحه في مقسم تلك الغزاة في احدى الروايتين
والأخرى يباح له أكله إذا كان يسيرا أما الكثير فيجب رده بغير خلاف نعلمه لأن ما كان مباحا له في دار الحرب فإذا أخذه على وجه يفضل منه كثير إلى دار الإسلام فقد أخذ ما لا يحتاج إليه فيلزمه رده لأن الأصل تحريمه لكونه مشتركا بين الغانمين كسائر المال وإنما أبيح منه ما دعت الحاجة إليه فما زاد على أصل التحريم ولهذا لم يبح له بيعه وأما اليسير ففيه روايتان :
إحداهما : يجب رده أيضا وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة و ابن المنذر وأحد قولي الشافعي و أبي ثور لما ذكرنا في الكثير ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أدوا الخيط والمخيط ] ولأنه من الغنيمة ولم يقسم فلم يبح في دار الاسلام كالكثير أو كما لو أخذه في دار الاسلام
والثانية : يباح وهو قول مكحول وخالد بم معدان و عطاء الخراساني و مالك و الأوزاعي قال أحمد : أهل الشام يتساهلون في هذا وقد [ روى القاسم بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنا نأكل الجزور في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملأة ] رواه سعيد و أبو داود وعن عبد الله بن يسار السلمي قال : دخلت على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقدم إلي تميرا من تمير الروم فقلت : لقد سبقت الناس بهذا قال : ليس هذا من العام هذا من العام الأول رواه الأثرم في سننه وقال الأوزاعي : أدركت الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم الى بعض لا ينكره امام ولا عامل ولا جماعة وهذا نفل للاجماع ولأنه أبيح إمساكه عن القسمة فأبيح في دار الاسلام كمباحات دار الحرب التي لا قيمة لها فيها ويفارق الكثير فانه لا يجوز امساكه عن القسمة ولأن اليسير تجري المسامحة فيه ونفعه قليل بخلاف الكثير

مسألة وفصل : حكم ما إذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو
مسألة : قال : وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو لزم الأسير أن يؤدي الى المشتري ما اشتراه
لا يخلو هذا من حالين : أحدهما أن يشتريه بإذنه فهذا يلزمه أن يؤدي إلى المشتري ما أداه فيه بغير خلاف نعلمه إذا وزن باذنه لأنه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر كالوكيل
والثاني : أن يشتريه بغير اذنه فيلزم الأسير الثمن أيضا عند أحمد وبه قال الحسن و النخعي و الزهري و مالك و الأوزاعي وقال الثوري و الشافعي و ابن المنذر : لا يلزمه لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم يأذن له فأشبه ما لو عمر داره وقال الليث : إن كان الأسير موسرا كقولنا وإن كان معسرا أدى ذلك من بيت المال
ولنا ما روى سعيد حدثنا عثمان بن مطر حدثنا أبو حريز عن الشعبي قال : أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب عمر : أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا يشترى فحكم للتجار برؤوس أموالهم ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتلخص من حكم الكفار ويخرج من تحت أيديهم فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه
فصل : فان اختلفا في قدر ما اشتراه به فالقول قول الأسير وهو قول الشافعي إذا أذن له وقال الأوزاعي : القول قول المشتري لأنهما اختلفا في فعله وهو أعلم بفعله
ولنا أن الأسير منكر للزيادة والقول قول المنكر ولأن الأصل براءة ذمته من هذه الزيادة فيترجح قوله بالأصل

مسألة : حكم ما لو سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية
مسألة : قال : وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية ثم قدر عليهم ردوا الى ما كانوا عليه ولم يسترقوا وما أخذه العدو منهم من مال أو رقيق رد اليهم إذا علم به قبل أن يقسم ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين
وجملة ذلك أن أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا فسبوهم وأخذوا أموالهم ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم ولم يجز استرقاقهم في قول عامة أهل العلم منهم : الشعبي و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق ولا نعلم لهم مخالفا وذلك لأن ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب نقضها وحكم أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا فمتى علم صاحبها قبل قسمها وجب ردها إليه وإن علم بعد القسمة فعلى روايتين : إحداهما لا حق له فيه والثانية هو له بثمنه لأن أموالهم معصومة كأموال المسلمين وأما فداؤهم فظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم سواء كانوا في معونتنا أو لم يكونوا وهذا قول عمر بن عبد العزيز و الليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا القتال من ورائهم والقيام دونهم فاذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه اتلاف شيء فاذا أتلفه غرمه وقال القاضي : 'نما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الامام في قتاله فسبوا وجب عليه فداؤهم لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد ومتى وجب فداؤهم فانه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم لأن حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دين الحق بخلاف أهل الذمة

فصل : يجب فداء الأسرى المسلمين إذا أمكن
فصل : ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن وبهذا قال عمر بن عبد العزيز و مالك و إسحاق ويروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي : على من فكاك الأسير ؟ قال : على الأرض التي يقاتل عليها وثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني ] وروى سعيد باسناده عن حبان بن حبلة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ان على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم وأن يفكوا عانيهم بالمعروف وفادى النبي صلى الله عليه و سلم رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل وفادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع رجلين

مسألة : إذا جاز الأمير المغانم ووكل من يحفظها لم يجز أن يؤكل منها
مسألة : قال : واذا حاز الأمير المغانم ووكل من يحفظها لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون
وجملة ذلك أن المغانم إذا جمعت وفيها طعام أو علف لم يجز لأحد أخذه إلا لضرورة لأننا إنما أبحنا أخذه قبل جمعه لأنه لم يثبت فيه ملك المسلمين بعد فأشبه المباحات من الحطب والحشيش فاذا حيزت المغانم ثبت ملك المسلمين فيها فخرجت عن حيز المباحات وصارت كسائر أملاكهم فلم يجز الأكل منها إلا لضرورة وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه فحينئذ يجوز لأن حفظ نفوسهم ودوابهم أهم وسواء حيزت في دار الحرب أو في دار الاسلام وقال القاضي : ما كانت دار الحرب جاز الأكل منها وان حيزت لأن دار الحرب مظنة الحاجة لعسر نقل الميرة إليها بخلاف دار الاسلام وكلام الخرقي عام في الموضعين والمعنى يقتضيه فان ما ثبتت عليه أيدي المسلمين وتحقق ملكهم له لا ينبغي أن يؤخذ إلا برضاهم كسائر أملاكهم ولأن حيازته في دار الحرب تثبت الملك فيه بدليل جواز قسمته وثبوت أحكام الملك فيه بخلاف ما قبل الحيازة فان الملك لم يثبت فيه بعد

مسألة : حكم ما بيع من المغنم من بلاد الروم فغلب عليه العدو
مسألة : قال : ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم فغلب عليه العدو ولم يكن عليه شيء من الثمن وان كان قد أخذ منه الثمن رد إليه
وجملته أن الأمير إذا باع من المغنم شيئا قبل قسمه لمصلحة صح بيعه فان عاد الكفار فغلبوا على المبيع فأخذوه من المشتري في دار الحرب نظرنا فان كان لتفريط من المشتري مثل ان خرج به من المعسكر ونحو ذلك فضمانه عليه لأن ذهابه حصل بتفريطه فكان من ضمانه كما لو أتلفه وان حصل بغير تفريط ففيه روايتان :
إحداهما : ينفسخ البيع ويكون من ضمان أهل الغنيمة فان كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه وان كان أخذ منه رد إليه لأن القبض لم يكمل لكون المال في دار الحرب غير محرز وكونه على خطر من العدو فأشبه التمر المبيع على رؤوس الشجر إذا تلف قبل الجذاذ
والثانية : هو من ضمان المشتري وعليه ثمنه وهذا أكثر الروايات عن أحمد واختاره الخلال وأبو بكر صاحبه وهو مذهب الشافعي لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه فكان ضمانه عليه كما لو أحرز إلى دار الاسلام ولأن أخذ العدو له تلف فلم يضمنه البائع كسائر أنواع التلف ولأن نماءه للمشتري فكان ضمانه عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ]

فصل : إذا قسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه التصرف فيه
فصل : وإذا قسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه التصرف فيه بالبيع وغيره فان باع بعضهم بعضا شيئا منها فغلب عليه العدو ففي ضمان البائع له وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وإن اشتراه مشتر من المشتري فكذلك فاذا قلنا هو من ضمان البائع رجع الثاني على البائع الأول بما رجع به عليه

فصل : حكم شراء الجارية من المغنم ومعها الحلي
فصل : قال أحمد في الرجل يشتري الجارية من المغنم معها الحلي في عنقها والثياب : يرد ذلك في المغنم إلا شيئا تلبسه من قميص ومقنعة وإزار وهذا قول حكيم بن حزام و مكحول ويزيد بن أبي مالك والمتوكل و إسحاق و ابن المنذر ويشبه قول الشافعي واحتج إسحاق بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع ] وقال الشعبي : يجعليه في بيت المال وكان مالك يرخص في اليسير كالقرطين وأشباههما ولا يرى ذلك في الكثير ويمكن أن يفصل القول في هذا فيقال : ما كان عليها ظاهرا مرئيا يشاهده البائع والمشتري كالقرط والخاتم والقلادة فهو للمشتري لأن الظاهر أن البائع إنما باعها بما عليها والمشتري اشتراها بذلك فيدخل في البيع كثياب البذلة وحلية السيف وما خفي فلم يعلم به البائع رده لأن البيع وقع عليها بدونه فلم يدخل في البيع كجارية أخرى

فصل : لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا
فصل : قال أحمد : لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا لأنه يحابي ولأن عمر رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء وقال انه يحابي احتج به أحمد ولأنه هو البائع أو وكيله فكأنه يشتري من نفسه أو وكيل نفسه قال أبو داود : قيل لأبي عبد الله : إذا قوم أصحاب المغانم شيئا معروفا فقالوا في جلود الماعز بكذا والخرفان بكذا يحتاج إليه يأخذه بتلك القيمة ولا يأتي المغانم فرخص فيه وذلك لأنه يشق الاستئذان فيه فسومح فيه كما سومح في دخول الحمام وركوب سفينة الملاح من غير تقدير أجر

مسألة : إذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار
مسألة : قال : وإذ حورب العدو لم يحرقوا بالنار
أما العدو إذا قدر عليه فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافا وقد [ روى حمزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره على سرية فقال : خرجت فيها فقال : إن أخذتم فلانا فاحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال : إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فانه لا يعذب بالنار إلا رب النار ] رواه أبو داود و سعيد وروى أحاديث سواه في هذا المعنى
وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو حديث حمزة فأما رميهم قبل أخذهم بالنار فان أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها لأنهم في معنى المقدور عليه وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم وبه قال الثوري و الأوزاعي و الشافعي
وروى سعيد باسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان أن جنادة بن أمية الأزدي وعبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحرين ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار يحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء قال عبد الله بن قيس : لم يزل أمر المسلمين على ذلك

فصل : حكم فتح البثوق على العدو لإغراقهم
فصل : وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم ليغرقهم ان قدر عليهم بغيره لم يجز
إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم اتلافهم قصدا وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك ويجوز نصب المنجنيق عليهم وظاهر كلام أحمد جوازه مع الحاجة وعدمها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وممن رأى ذلك الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نصب المنجنيق على أهل الطائف وعن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على أهل الاسكندرية ولأن القتال به معتاد فأشبه الرمي بالسهام

فصل : يجوز تبييت الكفار
فصل : ويجوز تبييت الكفار وهو كسبهم ليلا وقتلهم وهم غارون قال أحمد : لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات ؟ قال : ولا نعلم أحدا كره بيات العدو وقرأ عليه سفيان عن الزهري عن عبد الله عن ابن عباس [ عن الصعب بن جثامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن الديار من المشركين نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريرهم فقال : هم منهم ] فقال : اسناد جيد فان قيل : فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والذرية قلنا : هذا محمول على التعمد لقتلهم قال أحمد أما أن يتعمد قتلهم فلا قال : وحديث الصعب بعد نهيه عن قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث الى ابن أبي الحقيق وعلى أن الجمع بينهما ممكن يحمل النهي على التعمد والاباحة على ما عداه

فصول : متفرقات في كيفية محاربة العدو
فصل : قال الأوزاعي : إذا كان في المطمورة العدو فعلمت انك تقدر عليهم بغير النار فأحب إلي أن يكف عن النار وإن لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأسا وان كان معهم ذرية قد كان المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل الشام أعلم بهذا
فصل : وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه و سلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب
فصل : ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا لما روى سعيد : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : [ لما حاصر رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال : ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها ] ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لأن ذلك من ضرورة رميها وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم أو تحرضهم على القتال لأنها في حكم المقاتل وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع من قتله منهم
فصل : وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فان رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وان دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الأوزاعي و الليث : لا يجوز رميهم لقول الله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون } الآية قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق وقال الأوزاعي : كيف يرمون من لا يرونه ؟ إنما يرمون أطفال المسلمين وقال القاضي و الشافعي : يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا إن قتل مسلما فعليه الكفارة وفي الدية على عاقلته روايتان :
إحداهما : يجب لأنه قتل مؤمنا خطأ فيدخل في عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله }
والثانية : لا دية له لأنه قتل في دار الحرب برمي مباح فيدخل في عموم قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ولم يذكر دية وقال أبو حنيفة : لا دية له ولا كفارة فيه لأنه رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم يوجب شيئا كرمي من أبيح دمه
ولنا الآية المذكورة وأنه قتل معصوما بالإيمان والقاتل من أهل الضمان فأشبه ما لو لم يتترس به

مسألة : لا يجوز تغريق النحل وتحريقه
مسألة : قال : ولا يغرقوا النحل
وجملته أن تغريق النحل وتحريقه لا يجوز في قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي و الليث و الشافعي وقيل لمالك : أتحرق بيوت نحلهم ؟ قال : أما النحل فلا أدري ما هو ؟ ومقتضى مذهب أبي حنيفة إباحته لأن فيه غيظا لهم وإضعافا فأشبه قتل بهائمهم حال قتالهم
ولنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال ليزيد بن أبي سفيان وهو يوصيه حين بعثه أميرا على القتال بالشام : ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه وروي عن ابن مسعود أنه قدم عليه ابن أخيه من غزاة غزاها فقال : لعلك حرقت حرثا ؟ قال : نعم قال : لعلك غرقت نحلا ؟ قال : نعم قال : لعلك قتلت صبيا ؟ قال : نعم قال : ليكن غزوك كفافا أخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النحلة ونهى أن يقتل شيء من الدواب صبرا ولأنه إفساد فيدخل في عموم قوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } ولأنه حيوان ذو روح فلم يجز قتله لغيظ المشركين كنسائهم وصبيانهم وأما أخذ العسل وأكله فمباح لأنه من الطعام المباح

مسألة : لا يجوز عقر شاة ولا دابة إلا للأكل
مسألة : قال : ولا يعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه
أما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا أخذهم لها أو لم نخف وبهذا قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة و مالك : يجوز لأن فيه غيظا لهم واضعافا لقوتهم فأشبه قتلها حال قتالهم
ولنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد حين بعثه أميرا : يا يزيد لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شجرا مثمرا ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبرا ولأنه حيوان ذو حرمة فأشبه النساء والصبيان وأما حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين كيف أمكن بخلاف حالهم إذا قدر عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة إذا لم يتعمد قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم وقتل بهائمهم يتوصل به الى قتلهم وهزيمتهم وقد ذكرنا حديث المددي الذي عقر بالرومي فرسه وروي ان حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم أحد فرمت به فخلصه ابن شعوب وليس في هذا خلاف

فصلان : ما يجوز ذبحه للأكل في الحرب وما لا يجوز
فصل : فأما عقرها للأكل فان كانت الحاجة داعية إليه ولا بد منه فمباح بغير خلاف لأن الحاجة تبيح مال المعصوم فمال الكافر أولى وإن لم تكن الحاجة داعية إليه نظرنا فان كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام وسائر الطير والصيد فحكمه حكم الطعام في قول الجميع لأنه لا يراد لغير الأكل وتقل قيمته فأشبه الطعام وإن كان مما يحتاج اليه في القتال كالخيل لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعا وإن كان غير ذلك كالغنم والبقر لم يبح في قول الخرقي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحته لأن هذا الحيوان مثل الطعام في باب الأكل ولاقوت فكان مثله في إباحته
وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس له الانتفاع بجلده لأنه إنما أبيح له ما يأكله دون غيره قال عبد الرحمن بن معاذ بن جبل : كلوا لحم الشاة وردو إهابها الى المغنم ولأن هذا حيوان مأكول فابيح أكله كالطير
ووجه قول الخرقي ما روى سعيد : حدثنا أبو الأحوص [ عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال : أصبنا غنما للعدو فانتهبنا فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقدور وهي تغلي فأمر بها فأكفئت ثم قال لهم : ان النهبة لا تحل ] ولأن الحيوانات تكثر قيمتها وتشح أنفس الغانمين بها ويمكن حملها إلى دار الاسلام بخلاف الطير والطعام لكن إن أذن الامير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال : كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الامام : ألا من أراد أن يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول إنا لا نستطيع سياقنها رواه سعيد وكذلك إن قسمها لما [ لما روى معاذ قال : غزونا مع النبي صلى الله عليه و سلم خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه و سلم وجعل بقيتها في المغنم ] رواه أبو داود
وقال سعيد : حدثنا اسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبيد أن رجلا نحر جزورا بأرض الروم فلما بردت قال : يا أيها الناس خذوا من لحم هذه الجزور فقد أذنا لكم فقال مكحول : يا غساني ألا تأتينا من لحم هذه الجزور ؟ فقال الغساني : يا أبا عبد الله أما ترى عليها من النهي ؟ قال مكحول : لا نهي في المأذون فيه
فصل : ولم يفرق أصحابنا بين جميع البهائم في هذه المسألة ويقوى عندي أن ما عجز المسلمون عن سياقته وأخذه إن كان مما يستعين به الكفار في القتال كالخيل جاز عقره واتلافه لأنه مما يحرم إيصاله إلى الكفار بالبيع فتركه لهم بغير عوض أولى بالتحريم وإن كان مما يصلح للأكل فللمسلمين ذبحه والأكل منه مع الحاجة وعدمها وما عدا هذين القسمين لا يجوز إتلافه لأنه مجرد إفساد وإتلاف وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة

مسألة : الحكم في قطع شجر الأعداء وتحريق زروعهم
مسألة : قال : ولا يقطع شجرهم ولا يحرق زرعهم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلادنا فيفعل ذلك بهم لينتهوا
وجملته أن الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تدعو الحاجة إلى إتلافه كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم أو يسترون به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق أو ستارة منجنيق أو غيره أو يكونون يفعلون ذلك بنا فيفعل بهم ذلك لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه
الثاني : ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفتهم أو يستظلون به أو يأكلون من ثمره أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا فاذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه من الاضرار بالمسلمين
الثالث : ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز لحديث أبي بكر ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولأن فيه اتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان وبهذا قال الأوزاعي و الليث و أبو ثور
والرواية الثانية : يجوز وبهذا قال مالك و الشافعي و اسحاق و ابن المنذر قال اسحاق : التحريق سنة إذا كان انكى في العدو لقول الله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين }
و [ روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير وقطع ] وهو البويرة فانزل الله تعالى : { ما قطعتم من لينة } ولها يقول حسان :
( وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير )
متفق عليه وعن الزهري قال : [ فحدثني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عهد اليه فقال : أغر علي أبناء صباحا وحرق ] رواه أبو داود قيل لأبي سهر : أنبا قال : نحن أعلم هي ببنا فلسطين والصحيح أنها أبناء كما جاءت الرواية وهي قرية من أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي قتل فيها أبوه فأما ببنا فهي من أرض فلسطين ولم يكن أسامة ليصل إليها ولا يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالاغارة عليها لبعدها والخطر بالمصير اليها لتوسطها في البلاد وبعدها من طرف الشام فما كان النبي صلى الله عليه و سلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ الرواية وفساد المعنى ؟

مسألة : لا يجوز التزوج في أرض العدو إلا أن تغلب الشهوة
مسألة : قال : ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة ويعزل عنها ولا يتزوج منهم ومن اشترى منهم جارية فلم يطأها في الفرج وهو في أرضهم
يعني والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان فأما إن كان في جيش المسلمين فمباح له أن يتزوج وقد روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم زوج أبا بكر أسماء ابنة عميس وهم تحت الرايات ] أخرجه سعيد ولأن الكفار لا يد لهم عليه فأشبه في دار الاسلام
وأما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج ما دام أسيرا لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه مع صحة نكاحهما وهذا قول الزهري فانه قال : لا يحل للأسير أن يتزوج ما كان في أيدي العدو وكره الحسن أن يتزوج ما دام في أرض المشركين لأن الأسير إذا ولد له ولد كان رقيقا لهم ولا يأمن أن يطأ امرأته غيره منهم وسئل أحمد عن أسير اشتريت معه امرأته أيطؤها ؟ فقال : كيف يطؤها فلعل غيره منهم يطؤها قال الأثرم : وقلت له : ولعلها تعلق بولد فيكون معهم قال : وهذا ايضا وأما الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه فهو الذي أراد الخرقي إن شاء الله تعالى فلا ينبغي له التزوج لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد فيستولي عليه الكفار وربما نشأ بينهم فيصير على دينهم فان غلبت عليه الشهوة ابيح له نكاح مسلمة لأنها حال ضرورة ويعزل عنها كيلا تأتي بولد ولا يتزوج منهم لأن امرأته إذا كانت منهم غلبته على ولدها فيتبعها على دينها وقال القاضي في قول الخرقي : هذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الله تعالى قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } ولأن الأصل الحل فلا يحرم بالشك والتوهم وانما كرهنا له التزوج منهم مخافة أن يغلبوا على ولده فيسترقوه ويعلموه الكفر ففي تزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم وازدادت الكراهة إذا تزوج منهم لأن الظاهر أن امرأته تغلبه على ولدها فتكفره كما أن حكم الاسلام تغليب الاسلام فيما إذا اسلم أحد الأبوين أو تزوج المسلم ذمية وإذا اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج في أرضهم مخافة ان يغلبوه على ولدها فيسترقوه ويكفروه

فصل في الهجرة
( فصل في الهجرة )

فصل : تعريف الهجرة
وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الاسلام قال الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } الآيات وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءا ناراهما ] رواه أبو داود ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره اذا أوقدت في آي واخبار سوى هذين كثيرة وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم وقال قوم : قد انقطعت الهجرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا هجرة بعد الفتح ] وقال : [ قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ]
[ وروي أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له : لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل : إنه لا دين لمن لم يهاجر قال : ارجع أبا وهب الى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ] روى ذلك كله سعيد
ولنا ما روى معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ] رواه أبو داود وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد ] رواه سعيد وغيره مع اطلاق الآيات والاخبار الدالة عليها وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان وأما الاحاديث الأول فأراد بها : لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح وقوله لصفوان : إن الهجرة قد انقطعت يعني من مكة لأن الهجرة : الخروج من بلد الكفار فاذا فتح لم يبق بلد الكفار فلا تبقى منه هجرة وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة وإنما الهجرة إليه إذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة اضرب :
أحدها : من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه اظهار دينه ولا تمكنه اقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب به فهو واجب
الثاني : من لا هجرة عليه وهو من يعجز عنها إما لمرض أو اكراه على الاقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها
الثالث : من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من اظهار دينه واقامته في دار الكفر فتستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم فيتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم مقيما مع إسلامه و [ روينا أن نعيم النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له : أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك واكفنا ما كنت تكفينا وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : قومك كانوا خيرا لك من قومي لي قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك فقال : يا رسول الله بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله ] أو نحو هذا القول

مسألة : حكم من دخل إلى أرض العدو بأمان
مسألة : قال : من دخل إلى ارض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم ولم يعاملهم بالربا
أما تحريم الربا في دار الحرب فقد ذكرناه في الربا مع إن قول الله تعالى : { وحرم الربا } وسائر الآيات والاخبار الدالة على تحريم الربا عامة تتناول الربا في كل مكان وزمان وأما خيانتهم فمحرمة لانهم إنما اعطوه الامان مشروطا بتركه خيانتهم وامنه إياهم من نفسه وان لم يكن ذلك مذكورافي اللفظ فهو معلوم في المعنى ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا لعهده فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم لأنه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون عند شروطهم ] فان خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئا وجب عليه رد ما أخذ الى اربابه فان جاء أربابه إلى دار الاسلام بأمان أو ايمان رده عليهم وإلا بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه حرم عليه أخذه ولزمه رد ما أخذ كما لو أخذه من مال مسلم

مسألة : حكم ما لو كان لأهل الذمة عهد مع المسلمين فنقضوه
مسألة : قال : ومن كان له مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم ولم تسب ذراريهم ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه
وجملة ذلك أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد أو أخذ رجل الامان لنفسه وذريته ثم نقض العهد فانه يقتل رجالهم ولا تسبى ذراريهم الموجودون قبل النقض لأن العهد شملهم جميعا ودخلت فيهم الذرية والنقض إنما وجد من رجالهم فتختص إباحة الدماء بهم ومن الممكن أن ينفرد الرجل بالعهد والامان دون ذريته وذريته دونه فجاز أن ينتقض العهد فيه دونهم والنقض إنما وجد من الرجال البالغين دون الذرية فيجب ان يختص حكمه بهم قال احمد : قالت امرأة علقمة لما ارتد : إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد وقال الحسن فيمن نقض العهد : ليس على الذرية شئ فأما من ولد فيهم بعد نقض العهد جاز استرقاقه لأنه لم يثبت له أمان بحال وسواء فيما ذكرنا لحقوا بدار الحرب أو أقاموا بدار الاسلام فأما نساؤهم فمن لحقت منهن بدار الحرب طائعة أو وافقت زوجها في نقض العهد جاز سبيها لانها بالغة عاقلة نقضت العهد فأشبهت الرجل ومن لم تنقض العهد لم ينتقض عهدها بنقض زوجها

فصول : في الهدنة ومعناها وأحكامها وشروطها
فصل : فأما أهل الهدنة إذا نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل رجال بني قريظة وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم حين نقضوا عهده ولما هادن قريشا فنقضت عهده حل له منهم ما كان حرم عليه منهم ولأن الهدنة عهد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه وفسخه كعهد الاجارة بخلاف عقد الذمة
فصل : ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة وذلك جائز بدليل قول الله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقال سبحانه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }
وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه و سلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم وإما ان يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح إذا ثبت هذا فانه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية ولا يجوز أن يشترط نقضها لمن شاء منهما لأنه يفضي إلى ضد المقصود منها وإن شرط الامام لنفسه ذلك دونهم لم يجز أيضا ذكره أبو بكر لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح
وقال القاضي و الشافعي : يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم صالح أهل خيبر على أن يقره ما أقرهم الله تعالى ولا يصح هذا فانه عقد لازم فلا يجوز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمة ولم يكن بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين أهل خيبر هدنة فانه فتحها عنوة وانما ساقاهم وقال لهم ذلك وهذا يدل على جواز المساقاة وليس هذا بهدنة اتفاقا وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة : اني أقركم ما أقركم الله لم يصح فكيف يصح منهم الاحتجاج به مع إجماعهم مع غيرهم على أنه لا يجوز اشتراطه
فصل : ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة لما ذكرنا وقال القاضي : وظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين وهو اختيار ابي بكر ومذهب الشافعي لأن قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه و سلم قريشا يوم الحديبية عشرا ففي ما زاد يبقى على مقتضى العموم فعلى هذا إن زاد المدة على عشر بطل في الزيادة وهل تبطل في العشر ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة
وقال أبو الخطاب : ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر على ما يراه الامام من المصلحة وبهذا قال أبو حنيفة لأنه عقد يجوز في العشر فجازت الزيادة عليها كعقد الاجارة والعام مخصوص في العشر لمعنى موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب
فصل : وتجوز مهادنتهم على غير مال لأن النبي صلى الله عليه و سلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم فانها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم فقد أطلق احمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغارا للمسلمين وهذا محمول على غير حال الضرورة فأما إن دعت اليه ضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الاسر فيجوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذا ههنا ولأن بذله المال إن كان فيه صغار فانه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم الى كفرهم
وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن معمر عن الزهري قال : [ أرسل النبي صلى الله عليه و سلم الى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب : أرأيت إن جعلت لك ثلث تمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب فأرسل إليه عيينة : إن جعلت لي الشطر فعلت ]
قال معمر : فحدثني ابن أبي نجيح [ أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا : يا رسول الله والله لقد كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة حول المدينة ما يطيق أن يدخلها فالآن حين جاء الله بالاسلام نعطيهم ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فنعم اذا ] ولولا أن ذلك جائز لما بذله النبي صلى الله عليه و سلم
[ وروي أن الحارث بن عمرو الغطفاني بعث الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن جعلت لي شطر ثمار المدينة والا ملأتها عليك خيلا ورجلا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وسعد بن زرارة فشاورهم النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إن كان هذا أمرا من السماء فتسليم لأمر الله تعالى وإن كان برأيك وهواك اتبعنا رأيك وهواك وإن لم يكن أمرا من السماء ولا برأيك وهواك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا شراء أو قرى فكيف وقد أعزنا الله بالاسلام ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لرسوله : أتسمع ] ؟ فعرضه النبي صلى الله عليه و سلم ليعلم ضعفهم من قوتهم فلولا جوازه عند الضعف لما عرضه عليهم
فصل : ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الامام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الامام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ولأن تجويزه من غير الامام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الامام فان هادنهم غير الامام أو نائبه لم يصح وإن دخل بعضهم دار الاسلام بهذا الصلح كان آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لأن الأمان لم يصح وإن عقد الامام الهدنة ثم مات أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لأن الامام عقده باجتهاده فلم يجز نقضه باجتهاد غيره كما لم يجز للحاكم نقض احكام من قبله باجتهاده واذا عقد الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وقال تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } ولأنه لو لم يف بها لم يسكن إلى عقده وقد يحتاج إلى عقدها فان نقضوا العهد جاز قتالهم لقول الله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } وقال تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ولما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه و سلم خرج اليهم فقاتلهم وفتح مكة وإن نقض بعضهم دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم انكار ولا مراسلة الامام ولا تبرؤ فالكل ناقضون لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما هادن قريشا دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه و سلم وبنو بكر مع قريش فعدت بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقض عهدهم وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقاتلهم ولأن سكوتهم يدل على رضاهم كما ان عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه جميعهم لدلالة سكوتهم على رضاهم كذلك في النقض وان أنكر من لم ينقض على الناقض بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال أو راسل الامام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد لم ينتقض في حقه ويأمره الامام بالتميز ليأخذ الناقض وحده فان امتنع من التميز أو اسلام الناقض صار ناقضا لأنه منع من اخذ الناقض فصار بمنزلته وان لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لأنه كالأسير فان أسر الامام منهم قوما فادعى الأسير أنه لم ينقض وأشكل ذلك عليه قبل قول الأسير لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من قبله
فصل : وان خاف نقض العهد منهم جاز أن ينبذ اليهم عهدهم لقول الله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } يعني أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم ولا يكفي وقوع ذلك في قبوله حتى يكون عن أمارة تدل على ما خافه ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة قبل اعلامهم بنقض العهد للآية ولأنهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم ولا أخذ مالهم فان قيل : فقد قلتم : إن الذمي إذا خيف منه الخيانة لم ينتقض عهده قلنا : عقد الذمة آكد لأنه يجب على الامام إجابتهم اليه وهو نوع معاوضة وعقد مؤبد بخلاف الهدنة والأمان ولهذا لو نقض بعض أهل الذمة لم ينتقض عهد الباقين بخلاف الهدنة ولأن أهل الذمة في قبضة الامام وتجب ولايته فلا يخشى الضرر كثيرا من نقضهم بخلاف أهل الهدنة فانه يخاف منهم الغارة على المسلمين والضرر الكثير بأخذهم للمسلمين
فصل : وإذا عقد الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة لأنه آمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا فعليه ضمانه ولا تلزمه حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط فان اغار عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لأنهم في عهدهم فلا يجوز لهم أذاهم ولا استرقاقهم وذكر الشافعي ما يدل على هذا
ويحتمل جواز ذلك وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجب أن يدفع عنهم فلا يحرم استرقاقهم بخلاف أهل الذمة فعلى هذا إن استولى المسلمون على الذين أسروهم وأخذوا أموالهم فاستنقذوا ذلك منهم لم يلزم رده اليهم على هذا القول ومقتضى القول الأول : وجوب رده كما ترد أموال أهل الذمة إليهم
فصل : وإذا عقد الهدنة مطلقا فجاءنا منهم انسان مسلما أو بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك سواء كان حرا أو عبدا أو رجلا أو امرأة ولا يجب رد مهر المرأة وقال أصحاب الشافعي : إن خرج العبد إلينا قبل إسلامه ثم أسلم لم يرد اليهم فان اسلم قبل خروجه ثم خرج الينا لم يصر حرا لأنهم في أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر وقال الشافعي في قول له : إذا جاءت امرأة له مسلمة وجب رد مهرها لقول الله تعالى : { وآتوهم ما أنفقوا } يعني رد مهرها الى زوجها إذا جاء يطلبها وان جاء غيره لم يرد إليه شيء
ولنا أنه من غير أهل دار الاسلام خرج إلينا فلم يجب رده ولا رد شئ بدلا عنه كالحر من الرجال وكالعبد إذا خرج ثم أسلم قولهم انه في أمان منا قلنا : إنما أمناهم ممن هو في دار الاسلام الذين هم في قبضة الامام فأما من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد قبل اسلامه ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء لرده لم ينكره النبي صلى الله عليه و سلم ولم يضمنه ولما انفرد هو وأبو جندل وأصحابهما عن النبي صلى الله عليه و سلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامة ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم وقهره على نفسه فصار حرا كما لو أسلم بعد خروجه وأما المراة فلا يجب رد مهرها لانها لم تأخذ منه شيئا ولو أخذته كانت قد قهرتهم عليه في دار القهر ولو وجب عليها عوضه لوجب مهر المثل دون المسمى والآية قال قتادة تبيح رد المهر وقال عطاء و الزهري و الثوري : لا يعمل بها اليوم وعلى ان الآية إنما نزلت في قضية الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه و سلم شرط لهم رد من جاءه مسلما فلما منع الله رد النساء أمر برد مهورهن وكلامنا فيما إذا وقع الصلح مطلقا فليس هو في معنى ما تناوله الأمر إن وقع الكلام فيما إذا شرط رد النساء لم يصح أيضا لأن الشرط الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم شرطه كان صحيحا وقد نسخ فاذا شرط الآن كان باطلا فلا يجوز قياسه على الصحيح ولا الحاقة به
فصل : والشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين :
الأول : شرط صحيح مثل ان يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان فهذا يصح وقال اصحاب الشافعي : لا يصح شرط رد المسلم إلا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص بالشرط ذا العشيرة ولأن ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له لكن لا يجوز هذا الشرط إلا عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به بمعنى أنهم إذا جاءوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره الامام على المضي معهم وله أن يأمره سرا بالهرب منهم ومقاتلتهم [ فان أبا بصير لما جاء النبي صلى الله عليه و سلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي : انا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني اليهم فأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولم يلمه بل قال : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا تمر عليهم عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تناشده الله والرحم أن يضمهم إليه ولا يرد اليهم أحدا جاءه ففعل ] فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ويقتلون من قدروا عليه من الكفار ويأخذون أموالهم ولا يدخلون في الصلح وإن ضمهم الامام إليه باذن الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأموالهم
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه و سلم هاربأ من الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل يرده قال عمر : فقمت الى جانب أبي جندل فقلت : انهم الكفار وإنما دم أحدهم دم كلب وجعلت أدني منه قائم السيف لعله أن يأخذه فيضرب به أباه قال : فضن الرجل بأبيه
الثاني : شرط فاسد مثل أن يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد سلاحهم أو إعطاءهم شيئا من سلاحنا من آلات الحرب أو يشترط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله أو يشترط نقضها متى شاءوا أو أن لكل طائفة منهم نقضها أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة اليه فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها وهل يفسد العقد بها ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع إلا في ما إذا شرط أن لكل واحد منهم نقضها متى شاء فينبغي أن لا تصح وجها واحدا لأن طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الأمن منهم ولا أمنهم منا فيفوت معنى الهدنة وإنما لم يصح شرط رد النساء لقول الله تعالى : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } إلى قوله { فلا ترجعوهن إلى الكفار } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله منع الصلح في النساء ] وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لا تأمن من أن تزوج كافرا يستحلها أو يكرهها من ينالها واليه أشار الله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن }
الثاني : أنها ربما فتنت عن دينها لأنها أضعف قلبأ وأقل معرفة من الرجل
الثالث : أن المرأة لا يمكنها في العادة الهرب والتخلص بخلاف الرجل ولا يجوز رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا مسلمين لأنهم بمنزلة المرأة في الضعف في العقل والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب فأما الطفل الذي لا يصح إسلامه فيجوز رده لأنه ليس بمسلم
فصل : واذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي قالت : يا بن عم إلى من تدعني ؟ فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة

مسألة وفصلان : حكم ما لو استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين وحكم الأجير للخدمة في الغزو وحكم التاجر والصانع
مسألة : قال : وإذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم وأعطوا ما استؤجروا به
نص أحمد على هذا في رواية جماعة فقال في رواية عبد الله وحنبل في الامام يستأجر قوما يدخل بهم بلاد العدو : لا يسهم لهم ويوفى لهم بما استؤجروا عليه وقال القاضي : هذا محمول على استئجار من لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفار أما الرجال المسلمون الأحرار فلا يصح استئجارهم على الجهاد لأن الغزو يتعين بحضوره على من كان من أهله فاذا تعين عليه الفرض لم يجز أن يفعله عن غيره كمن عليه حجة الاسلام لا يجوز أن يحج عن غيره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يحمل كلام أحمد و الخرقي على ظاهره في صحة الاستئجار على الغزو لمن لم يتعين عليه لما روى أبو داود باسناده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ للغازي أجره وللجاعل أجره ] وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها ] ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد أو لم يتعين عليه الجهاد فصح أن يؤجر نفسه عليه كالعبد ويفارق الحج حيث أنه ليس بفرض عين وان الحاجة داعية اليه وفي المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له مما فيه للمسلمين نفع وبهم اليه حاجة فينبغي أن يجوز بخلاف الحج اذا ثبت هذا فان قلنا بالأول فالإجارة فاسدة وعليه الأجرة بردها وله سهمه لأن غزوه بغير أجرة وإن قلنا بصحته فظاهر كلام أحمد و الخرقي رحمهما الله أنه لا سهم له لأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلا يستحق شيئا
وقد روى أبو داود باسناده [ عن يعلى بن منبه قال : أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالغزو وانا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيرا يكفيني وأجري له سهمه فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل قال : ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي ؟ فسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت الى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له أمره فقال : ما أجد في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى ] ويحتمل أن يسهم له وهو اختيار الخلال قال : روى جماعة عن أحمد أن للأجير السهم إذا قاتل وروى عنه جماعة أن كل من شهد القتال فله السهم قال : وهذا الذي اعتمد عليه من قول أبي عبد الله ووجه ذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن عمر وحديث جبير بن نفير وقول عمر : الغنيمة لم شهد الوقعة ولأنه حاضر للوقعة من أهل القتال فيسهم له كغير الأجير فأما الذين يعطون من حقهم من الفيء فلهم سهامهم لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا لا أنه عوض عن جهاده بل نفع جهاده له لا لغيره وكذلك من يعطون من الصدقات وهم الذين إذا نشطوا للغزو وأعطوا فانهم يعطون معونة لا عوضا ولذلك إذا دفع إلى الغزاة ما يتقوون به ويستعينون به كان له فيه الثواب ولم يكن عوضا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من جهز غازيا كان له مثل أجره ]
فصل : فأما الأجير للخدمة في الغزو أو الذي يكري دابة له ويخرج معها ويشهد الوقعة فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما لا سهم له وهو قول الأوزاعي و إسحاق قالا : المستأجر على خدمة القوم لا سهم له ووجهه حديث يعلى بن منبه
والثانية : يسهم لهما إذا شهدا القتال مع الناس وهو قول مالك و ابن المنذر وبه قال الليث إذا قاتل وإن اشتغل بالخدمة فلا سهم له واحتج ابن المنذر بحديث سلمة بن الاكوع أنه كان أجيرا لطلحة حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة حين أغار على سرح رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم سهم الفارس والراجل وقال القاضي : يسهم له اذا كان مع المجاهدين وقصده الجهاد فأما لغير ذلك فلا وقال الثوري : يسهم له إذا قاتل ويرفع عمن استأجره نفقة ما اشتغل عنه
فصل : فأما التاجر والصانع كالخياط والخباز والبيطار والحداد والإسكاف فقال أحمد : يسهم لهم إذا حضروا قال أصحابنا : قاتلوا أو لم يقاتلوا وبه قال في التاجر الحسن و ابن سيرين و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا وعن الشافعي كقولنا وعنه لا يسهم له بحال
وقال القاضي في التاجر والأجير إذا كانا مع المجاهدين وقصدهما الجهاد وإنما معه المتاع إن طلب منه باعه والأجير قصده الجهاد أيضا : فهذان يسهم لهما لأنهما غازيان والصناع بمنزلة التجار متى كانوا مستعدين للقتال ومعهم السلاح فمتى عرض اشتغلوا به أسهم لهم لأنهم في الجهاد بمنزلة غيرهم وإنما يشتغلون بغيره عند فراغهم منه

فصل : حكم ما لو دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا
فصل : إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الامام فغنموا فعن أحمد فيه ثلاث روايات :
إحداهن : أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسه الامام ويقسم باقيه بينهم وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي لعموم قوله سبحانه : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية والقياس على ما إذا دخلوا باذن الامام
والثانية : هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد فكان لهم أشبه الاحتطاب فان الجهاد إنما يكون بإذن الامام أو من طائفة لهم منعة وقوة فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب
والثالثة : أنه لا حق لهم فيه قال أحمد في عبد أبق الى الروم ثم رجع ومعه متاع : فالعبد لمولاه وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق والأولى أولى قال الأوزاعي : لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذي كان مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناسا من القبط فكانوا خدما لهم فخرجوا يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون ورفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر : نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به إلا الخمس رواه سعيد و الأثرم وإن كانت الطائفة ذات منعة غزوا بغير إذن الإمام ففيه روايتان : إحداهما : لا شيء لهم وهو فيء للمسلمين والثانية : يخمس والباقي لهم وهذا أصح ووجه الروايتين ما تقدم ويخرج فيه وجه كالرواية الثالثة وهو أن الجميع لهم من غير خمس لكونه اكتساب مباح من غير جهاد

مسألة وفصول : أحكام في الغلول
مسألة : قال : ومن غل من الغنيمة حرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح
الغال هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة فلا يطلع الامام عليه ولا يضعه مع الغنيمة فحكمه أن يحرق رحله كله وبهذا قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول و الأوزاعي والوليد بن هشام ويزيد بن يزيد بن جابر وأتي سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله رواهما سعيد في سننه وقال مالك و الليث و الشافعي و أصحاب الرأي : لا يحرق لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحرق فان عبد الله بن عمر روى [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال : سمعت بلالا نادى ثلاثا قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ] أخرجه أبو داود لأن احراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعة المال
ولنا ما [ روى صالح بن محمد بن زرارة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال : بعه وتصدق بثمنه ] أخرجه سعيد و أبو داود و الأثرم
وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال فأما حديثهم فلا حجة لهم فيه فان الرجل لم يعترف أنه أخذ ما أخذه على سبيل الغلول ولا أخذه لنفسه وإنما توانى في المجيء به وليس الخلاف فيه ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائبا معتذرا والتوبة تجب ما قبلها وتمحو الحوبة
وأما النهي عن إضاعة المال فانما نهي عنه إذا لم تكن فيه مصلحة فأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس به ولا يعد تضييعا كإلقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه فأكله إتلافه وإيقافه إذهابه ولا يعد شيء من ذلك تضييعا ولا إفسادا ولا ينهى عنه
وأما المصحف فلا يحرق لحرمته ولما تقدم من قول سالم فيه والحيوان لا يحرق لنهي النبي صلى الله عليه و سلم أن يعذب بالنار إلا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور باحراقه وهذا لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضا نص عليه أحمد لأنه يحتاج اليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه وقال الأوزاعي : يحرق سرجه واكافه
ولنا أنه ملبوس حيوان فلا يحرق كثياب الغال ولا تحرق ثياب الغال التي عليه لأنه لا يجوز تركه عريانا ولا ماغل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد : فالذي أصاب في الغلول أي شيء يصنع به ؟ قال : يرفع إلى المغنم كذلك قال الأوزاعي ولا سلاحه لأنه يحتاج إليه للقتال ولا نفقته لأن ذلك مما لا يحرق عادة وجميع ذلك أو ما أبقت النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه كان ثابتا عليه ولم يوجد ما يزيله وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان ويحتمل أن يباع المصحف ويتصدق به لقول سالم فيه وإن كان معه شيء من كتب الحديث أو العلم فينبغي أن لا تحرق أيضا لأن نفع ذلك يعود إلى الدين وليس المقصود الإضرار به في دينه وإنما القصد الإضرار به في شيء من دنياه
فصل : وان لم يحرق رحله حتى استحدث متاعا آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال الغلول نص عليه أحمد في الذي يرجع إلى بلده قال : ينبغي أن يحرق ما كان معه في أرض العدو وإن مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه أحمد لأنها عقوبة فسقط بالموت كالحدود لأنه بالموت انتقل إلى ورثته فاحراقه عقوبة لغير الجاني وإن باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق لأنه صار لغيره أشبه ما لو انتقل عنه بالموت واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة فوجب تقديمه كالقصاص في حق الجاني
فصل : وإن كان الغال صبيا لم يحرق متاعه وبه قال الأوزاعي لأن الاحراق عقوبة وليس هو من أهلها فأشبه الحد وإن كان عبدا لم يحرق متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده وإن استهلك ما غله فهو في رقبته لأنه من جنايته وإن غلت امرأة أو ذمي احرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة ولذلك يقطعان في السرقة ويحدان في الزنا وغيره وإن أنكر الغلول وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار لأنه عقوبة به فلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد ولا يقبل في بينته إلا عدلان لذلك
فصل : ولا يحرم الغال سهمه وقال أبو بكر في ذلك روايتان : إحداهما : يحرم سهمه لأنه قد جاء في الحديث يحرم سهمه فان صح فالحكم له وقال الأوزاعي في الصبي يغل : يحرم سهمه ولا يحرق متاعه
ولنا أن سبب الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يعلم ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا قياس فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله
فصل : إذا تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده إلى أهله فان تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الامام ويتصدق بالباقي وهذا قول الحسن و الزهري و مالك و الأوزاعي و الثوري و الليث
وروى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف قال : غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة وتفرق الناس ندم فأتى عبد الرحمن فقال : قد غللت مائة دينار فاقبضها قال : قد تفرق الناس فلن أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة فأتى معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج يبكي فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال : ما يبكيك ؟ فأخبره فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون أمطيعي أنت يا عبد الله ؟ قال : نعم قال : فانطلق إلى معاوية فقل له : خذ مني خمسك فاعطه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فان الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وإن الله يقبل التوبة عن عباده فقال معاوية : أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من أن يكون لي مثل كل شيء امتلكت وعن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وقال الشافعي : لا أعرف للصدقة وجها وقد جاء في حديث الغال أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا أقبله منك حتى تجيء به يوم القيامة ]
ولنا قول من ذكرنا من الصحابة ومن بعدهم ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا ولأن تركه تضييع له وتعطيل لمنفعته التي التي خلق لها ولا يتخفف به شيء من اثم الغال وفي الصدقة نفع لم يصل إليه من المساكين وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الاثم عن الغال فيكون أولى

مسألة وفصل : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو وتقام الحدود في الثغور
مسألة : قال : ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو
وجملته أن من أتى حدا من الغزاة أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب لم يقم عليه حتى يقفل فيقام عليه حده وبهذا قال الأوزاعي و إسحاق وقال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يقام الحد في كل موضع لأن أمر الله تعالى بإقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال : إذا لم يكن أمير الجيش الامام أو أمير أقليم فليس له إقامة الحد ويؤخر حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحدود اليه وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة الى المحدود أو قوى به أو شغل عنه أخر وقال أبو حنيفة : لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع
ولنا على وجوب الحد أمر الله تعالى ورسوله به وعلى تأخيره ما روى بشر بن أبي أرطاة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تقطع الأيدي في الغزاة ] لقطعتك أخرجه أبو داود وغيره ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم
وروى سعيد في سننه باسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب الى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار وعن أبي الدرداء مثل ذلك وعن علقمة قال : كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة : أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به الى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن :
( كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا )
وقال لابنة حصفة امرأة سعد : اطلقيني ولك الله علي وإن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد فإن قتلت استرحتم مني قال : فحلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ الى الناس قال : وصعدوا به فوق العذيب ينظر الى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس يقولون : هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول : الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حصفة سعدا بما كان من أمره فقال سعد : لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله المسلمين به ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا وهذا اتفاق لم يظهر خلافه فأما إذا رجع فإنه يقام الحد لعموم الآيات والأخبار وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو شغل فإذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه وانتفاء معارضه ولهذا قال عمر : حتى يقطع الدرب قافلا
فصل : وتقام الحدود في الثغور بغير خلاف نعلمه لأنها من بلاد الاسلام والحاجة داعية الى زجر أهلها كالحاجة الى زجر غيرهم وقد كتب عمر الى أبي عبيدة أن يجلد من شرب الخمر ثمانين وهو بالشام وهو من الثغور

مسألة وفصول : إذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم ولا يقتل شيخ ولا امرأة ولا أعمى ولا راهب ولا عبد إلا إذا قاتلوا
مسألة : قال : وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم أو ينبت أو يبلغ خمس عشرة سنة
وجملة ذلك أن الامام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبيا لم يبلغ بغير خلاف وقد روى ابن عمر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النساء والصبيان ] متفق عليه ولأن الصبي يصير رقيقا بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفردا صار مسلما فإتلافه إتلاف من يمكن جعله مسلما والبلوغ يحصل بأحد أسباب ثلاثة :
أحدها : الاحتلام وهو خروج المني من ذكر الرجل أو قبل الأنثى في يقظة أو في منام وهذا لا خلاف فيه وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } ثلاث مرات ثم قال : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتم بعد احتلام ] وقال لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] رواهما أبو داود
الثاني : إنبات الشعر الخشن حول القبل وهو علامة على البلوغ بدليل ما روى عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت أخرجه الأثرم و الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح وعن كثير بن السائب قال : حدثني أبناء قريظة أنهم عرضوا على النبي صلى الله عليه و سلم فمن كان منهم محتلما أو نبتت عانته قتل ومن لا ترك أخرجه الأثرم وعن أسلم مولى عمر أن عمر كان يكتب الى امراء الاجناد أن لا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي ولا يأخذوا الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي وحكي عن الشافعي أن هذا بلوغ في حق الكفار لأنه لا يمكن الرجوع إلى قولهم في الاحتلام وعدد السنين وليس بعلامة عليه في حق المسلمين لامكان ذلك فيهم
ولنا قول أبي نضرة وعقبة بن عامر حين اختلف في بلوغ تميم بن قرع المهري : انظروا فان كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إليه بعض القوم فاذا هو قد أنبت فقسموا له ولم يظهر خلاف هذا فكان إجماعا ولأنه علم على البلوغ في حق الكافر فكان علما عليه في حق المسلم كالعلمين الآخرين ولأنه أمر يلازم البلوغ غالبا فكان علما عليه كالاحتلام وقولهم : انه يتعذر في حق الكافر معرفة الاحتلام والسن قلنا : لا تتعذر معرفة السن في الذمي الناشىء بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا يوجب جعل ما ليس بعلامة كغير الإنبات
الثالث : بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم وأنا أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة قال نافع : فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال : هذا فصل ما بين الرجال وبين الغلمان متفق عليه وهذه العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بعلامتين الحيض والحمل فمن لم يوجد علامة منهن فهو صبي يحرم قتله
فصل : ولا تقتل امرأة ولا شيخ فان وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق و مجاهد وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : { ولا تعتدوا } يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير
وقال الشافعي في أحد قوليه و ابن المنذر : يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ولأن الله تعالى قال : { فاقتلوا المشركين } وهذا عام يتناول بعمومه الشيوخ وقال ابن المنذر : لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها من عموم قوله : { فاقتلوا المشركين } ولأنه كافر لا نفع في حياته فيقتل كالشاب
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة ] رواه أبو داود في سننه
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال : لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما وعن عمر أنه وصى سلمة بن قيس فقال : لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا هرما رواهما سعيد ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة وقد أومأ النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذه العلة في المرأة فقال : [ ما بال هذه قتلت وهي لا تقاتل ] والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج من عمومها المرأة والشيخ الهرم في معناها فنقيسه عليها وأما حديثهم فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير جمعا بين الأحاديث ولأن أحاديثنا خاصة في الهرم وحديثهم عام في الشيوخ كلهم والخاص يقدم على العام وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها
فصل : ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم هو كالخلاف في الشيخ وحجتهم ههنا حجتهم فيه
ولنا في الزمن والأعمى أنهما ليسا من أهل القتال فأشبها المرأة وفي الراهب ما روي في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : وستمرون على أقوام في الصوامع قد حبسوا أنفسهم فيها فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالهم ولأنهم لا يقاتلون تدينا فأشبهوا من لا يقدر على القتال
فصل : ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أدركوا خالدا فمروه أن لا يقتل ذرية ولا عسيفا ] وهم العبيد لأنهم يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي فأشبهوا النساء والصبيان
فصل : ومن قاتل ممن ذكرنا جميعهم جاز قتله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة ومن كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم قتله ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب وقد جاء عن معاوية أنه قال لمروان والأسود : أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك

مسألة : من قاتل من هؤلاء قتل
مسألة : قال : ومن قاتل من هؤلاء النساء المشايخ والرهبان في المعركة قتل
لا نعلم فيه خلافا وبهذا قال الأوزاعي و الثوري و الليث و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقد جاز عن ابن عباس قال : [ مر النبي صلى الله عليه و سلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال : من قتل هذه قال رجل : أنا يا رسول الله قال : ولم قال : نازعتني قائم سيفي قال : فسكت ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم وقف على امرأة مقتولة فقال : [ ما بالها قتلت وهي لا تقاتل ] وهذا يدل على أنه إنما نهى عن قتل المرأة إذا لم تقاتل ولأن هؤلاء إنما لم يقتلوا لأنهم في العادة لا يقاتلون

فصلان : حكم المريض والفلاح إذا كانا لا يقاتلان
فصل : فأما المريض فيقتل إذا كان ممن لو كان صحيحا قاتل لأنه بمنزلة الاجهاز على الجريح إلا أن يكون ميئوسا من برئه فيكون بمنزلة الزمن لا يقتل لأنه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها
فصل : فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يقتل لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب وقال الأوزاعي : لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة وقال الشافعي : يقتل إلا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشركين
ولنا قول عمر وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون فأشبهوا الشيوخ والرهبان

فصل : حكم ما إذا حاصر الإمام حصنا وصفات الحاكم
فصل : إذا حاصر الامام حصنا لزمته مصابرته ولا ينصرف عنه إلا بخصلة من خصال خمس :
إحداها : أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] وإن أسلموا بعد الفتح عصموا دماءهم دون أموالهم ويرقون
الثانية : أن يبذلوا مالا على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا يؤخذ منهم كل عام فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزمه قبولها منهم وحرم قتالهم لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وإن بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله قبله ولا يلزمه قبوله إذا لم ير المصلحة فيه
الثالثة : أن يفتحه
الرابعة : أن يرى المصلحة في الانصراف عنه إما لضرر في الإقامة وإما لليأس منه وإما لمصلحة ينتهزها تفوت باقامته فينصرف عنه لما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : إنا قافلون إن شاء الله تعالى غدا فقال المسلمون : أنرجع عنه ولم نفتحه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم الجراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنا قافلون غدا فأعجبهم فقفل رسول الله صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه
الخامسة : أن ينزلوا على حكم حاكم فيجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك والكلام فيه في فصلين : أحدهما صفة الحاكم والثاني صفة الحكم فيعتبر فيه سبعة شروط : أن يكون الحاكم حرا مسلما عاقلا بالغا ؟ ذكرا عدلا فقيها كما يشترط في حاكم المسلمين ويجوز أن يكون أعمى لأن عدم البصر لا يضر في مسألتنا لأن المقصود رأيه ومعرفة المصلحة في أحد أقسام الحكم ولا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فانه لا يستغني عن البصر ليعرف المدعي من المدعى عليه والشاهد من المشهود له و المشهود عليه والمقر له من المقر ويعتبر من الفقه ههنا ما يتعلق بهذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر له ونحو ذلك ولا يعتبر فقهه في جميع الأحكام التي لا تعلق له بهذا ولهذا حكم سعد بن معاذ ولم يثبت أنه كان عالما بجميع الأحكام إذا حكموا رجلين جاز ويكون الحكم ما اتفقا عليه وإن جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يصلح وإن نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح وإن عينوا رجلا يصلح فرضيه الامام جاز لأن بني قريظة رضوا بحكم سعد بن معاذ وعينوه فرضيه النبي صلى الله عليه و سلم وأجاز حكمه وقال : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله ] وإن مات من اتفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام مقامه وإن لم يتفقوا على من يقوم مقامه أو طلبوا حكما لا يصلح ردوا إلى مأمنهم وكانوا على الحصار حتى يتفقوا وكذلك إن رضوا باثنين فمات أحدهما فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إن رضوا بتحكيم من لم تجتمع الشرائط فيه ووافقهم الإمام عليه ثم بان أنه لا يصلح لم يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا
وأما صفة الحكم : فإن حكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة ] وإن حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية فقال القاضي : يلزم حكمه وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه فكان له المن كالامام في الأسير
واختار أبو الخطاب أن حكمه لا يلزم لأن عليه أن يحكم بما فيه الحظ ولا حظ للمسلمين في المن وإن حكم بالمن على الذرية فينبغي أن لا يجوز لأن الامام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ويحتمل الجواز لأن هؤلاء لم يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فإنه يصير رقيقا بنفس السبي وإن حكم عليهم بالفداء جاز لأن الامام مخير في الأسرى بين القتل والفداء والاسترقاق والمن فكذلك الحاكم وإن حكم عليهم باعطاء الجزية لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك لا يملك الامام إجبار الأسير على اعطاء الجزية وإن حكم بالقتل والسبي جاز للامام المن على بعضهم لأن ثابت بن قيس سأل في الزبير بن باطا من قريظة وماله رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجابه ويخالف مال الغنيمة إذا حازه المسلمون لأن ملكهم استقر عليه وإن أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم لأنهم أسلموا وهم أحرار وأموالهم لهم فلم يجز استرقاقهم بخلاف الأسير فان الأسير قد ثبتت اليد عليه كما تثبت على الذرية ولذلك جاز استرقاقه وإن أسلموا بعد الحكم عليهم نظرت فان كان قد حكم عليهم بالقتل سقط لأن من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز استرقاقهم لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب : ويحتمل جواز استرقاقهم كما لو أسلموا بعد الأسر ويكون المال على ما حكم فيه وإن حكم بأن المال للمسلمين كان غنيمة لأنهم أخذوه بالقهر والحصر

مسألة : حكم ما لو خلي الأسير منا وحلف أن يبعث إليهم بشيء
مسألة : قال : وإذا خلي الأسير منا وحلف أن يبعث اليهم بشئ يعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم
وجملته ان الأسير إذا خلاه الكفار واستحلفوه على أن يبعث اليهم بفدائه أو يعود اليهمن نظرت فان أكرهوه بالعذاب لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لأنه مكره فلم يلزمه ما أكره عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وإن لم يكره عليه وقدر على الفداء الذي التزمه لزمه اداؤه وبهذا قال عطاء و الحسن و الزهري و النخعي و الثوري و الأوزاعي وقال الشافعي أيضا : لا يلزمه لانه حر لا يستحقون بدله
ولنا قول الله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ولما صالح النبي صلى الله عليه و سلم أهل الحديبية على رد من جاءه مسلما وفى لهم بذلك وقال : [ إنا لا يصلح في ديننا الغدر ] ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه فلزمه الوفاء به كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة ولأنه عاهدهم على اداء مال فلزمه الوفاء به كثمن المبيع والمشروط في عقد الهدنة في موضع يجوز شرطه وما ذكروه باطل بما إذا شرط رد من جاءه مسلما أو شرط لهم مالا في عقد الهدنة فأما إن عجز عن الفداء نظرنا فان كان المفادى امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل لها ذلك لقول الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } ولأن في رجوعها تسليطا لهم على وطئها حراما وقد منع الله تعالى رسوله رد النساء إلى الكفار بعد صلحه على ردهن في قصة الحديبية وفيها : فجاء نسوة مؤمناتن فنهاهم الله أن يردوهن رواه أبو داود وغيره وإن كان رجلا ففيه روايتان :
إحداهما : لا يرجع أيضا وهو قول الحسن و النخعي و الثوري و الشافعي لأن الرجوع اليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امراة وكما لو شرط قتل مسلم او شرب الخمر
والثانية : يلزمه وهو قول عثمان و الزهري و الأوزاعي و محمد بن سوقة لما ذكرنا في بعث الفداء ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما ورد أبا بصير وقال : [ إنا لا يصلح في ديننا الغدر ] وفارق رد المرأة فان الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى الله عليه و سلم قريشا على رد من جاءه منهم مسلما فأمضى الله ذلك في الرجال ونسخه في النساء وقد ذكرنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه تقدمت

فصلان : حكم ما لو أطلق الأسير وأمنوه وحكم ما لو اشترى الأسير شيئا أو اقترض
فصل : فإن أطلقوه وآمنوه صاروا في أمان منه لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فان أمكنه المضي إلى دار الاسلام لزمه وإن تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب فان أخذ في الخروج فأدركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الأمان لأنهم طلبوا منه المقام وهو معصية فأما إن أطلقوه ولم يؤمنوه فله أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب لأنه لم يؤمنهم ولم يؤمنوه وإن أطلقوه وشرطوا عليه المقام عندهم لزمه ما شرطوا عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمنون عند شروطهم ] وقال أصحاب الشافعي : لا يلزمه فأما إن أطلقوه على أنه رقيق لهم فقال أبو الخطاب : له أن يسرق ويهرب ويقتل لأن كونه رقيقا حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض أمانا له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب الشافعي وإن أحلفوه على هذا فإن كان مكرها على اليمين لم تنعقد يمينه وإن كان مختارا فحنث كفر يمينه ويحتمل أن تلزمه الاقامة على الرواية التي تلزمه الرجوع إليهم في المسألة الأولى وهو قول الليث
فصل : وإن اشترى الأسير شيئا مختارا أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لأنه عقد معاوضة فأشبه ما لو فعله غير الأسير وإن كان مكرها لم يصح فان أكرهوه على قبضه لم يضمنه ولكن عليه رده اليهم إن كان باقيا لأنهم دفعوه اليه بحكم العقد وإن قبضه باختياره ضمنه لأنه قبضه عن عقد فاسد وان باعه والعين قائمة لزمه ردها لأن العقد باطل وإن عدمت العين رد قيمتها

مسألة : لا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ويباح له الهرب من ثلاثة
مسألة : قال : ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ومباح له أن يهرب من ثلاثة فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل
وجملته أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار بدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } وذكر النبي صلى الله عليه و سلم الفرار يوم الزحف فعده من الكبائر
وحكي عن الحسن و الضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها والأمر مطلق وحبر النبي صلى الله عليه و سلم عام فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل وإنما يجب النبات بشرطين :
أحدهما : أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين فان زادوا عليه جاز الفرار لقول الله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله : { الآن خفف الله عنكم } ولو كان خبرا على حقيقته لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة الى غلبة الاثنين تخفيفا ولأن خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون فعلم أنه أمر وفرض ولم يأت شيء ينسخ هذه الآية لا في كتاب ولا سنة فوجب الحكم بها قال ابن عباس : نزلت { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ثم جاء تخفيف فقال : { الآن خفف الله عنكم } - إلى قوله - { يغلبوا مائتين } فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ماخفف من العدد رواه أبو داود وقال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر
الثاني : أن لا يقصد بفراره التحيز الى فئة ولا التحرف لقتال فان قصد أحد هذين فهو مباح له لأن الله تعالى قال : { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } ومعنى التحرف للقتال : أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح الى استدبارهما أو من نزلة إلى علو أو من معطشة الى موضع ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصة أو ليستند الى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما في خطبته إذ قال : يا سارية بن زنيم الجبل ظلم الذئب من استرعاه الغنم فانكرها الناس فقال علي رضي الله عنه : دعوه فلما نزل سألوه عما قال فلم يعترف به وكان قد بعث سارية الى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم فانتصروا عليهم وأما التحيز الى فئة فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوهم وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي : لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التحيز اليها ونحوه ذكر الشافعي لأن ابن عمر روى أن النبي صلى اله عليه وسلم قال : [ إني فئة لكم ] وكانوا بمكان بعيد منه وقال عمر : انا فئة كل مسلم وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد وقال عمر : رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز الي لكنت له فئة وإذا خشي الأسر فالأولى له أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز بثواب الدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة وان استأسر جاز لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت اليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا الى فدد فقالو لهم : انزلوا فأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة معه ونزل اليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم

فصل : حكم ما إذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين
فصل : وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته وهو كونهم أقل من نصف عددهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وان غلب على ظنهم الهلاك فيه ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضا فان الله تعالى يقول : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ولذلك صبر عاصم وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة

فصل : إذا جاء العدو بلدا فلأهله التحصن
فان جاء العدو بلدا فلأهله التحصن منهم وان كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فرارا إنما التولي بعد لقاء العدو وإن لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز الى الحصن لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز الى فئة وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة وإن تحيزوا الى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف للقتال وان ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه أو لهم في التحيز إليه فائدة جاز

فصل : إذا فر قوم قبل إحراز الغنيمة فلا شيء لهم
فصل : فان ولى قوم قبل احراز الغنيمة وأحرزها الباقون فلا شيء للفارين لأن إحرازها حصل بغيرهم فكان ملكها لمن أحرزها وان ذكروا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شيء لهم أيضا لذلك وان فروا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط حقهم منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم

فصل : حكم ما إذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون
فصل : وإذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها فما غلب على ظنهم السلامة فيه من بقائهم في مركبهم أو إلقاء نفوسهم في الماء فالأولى لهم فعله وان استوى عندهم الأمران فقال أحمد : كيف شاء يصنع قال الأوزاعي : هما موتتان فاختر أيسرهما وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنهم يلزمهم المقام لأنهم إذا رموا نفوسهم في الماء كان موتهم بفعلهم وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم

مسألة : حكم من أجر نفسه - بعد أن غنموا - على حفظ الغنيمة
مسألة : قال : ومن أجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة فمباح له ما أخذ إن كان راجلا أو على دابة يملكها
وجملته أن الغنيمة إذا احتاجت الى من يحفظها أو سوق الدواب التي هي منها أو يرعاها أو يحملها فان للامام أن يستأجر من يفعل ذلك ويؤدي أجرتها منها لأن ذلك من مؤنتها فهو كعلف الدواب وطعام السبي ومن أجر نفسه على فعل شيء من ذلك فله أجرته مباحة لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة فحلت له أجرته كما لو أجر نفسه على الدلالة إلى الطريق فأما قوله : إن كان راجلا أو على دابة يملكها فإنه يعني به : لا يركب من دواب المغنم ولا فرسا حبيسا
قال أحمد : لا بأس أن يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره أن يستأجر القوم على سباق الرمك على فرس حبيس لأنه يستعمل الفرس الموقوفة للجهاد فيما يختص منفعة نفسه فان أجر نفسه فركب الدابة الحبيس أو دابة من المغنم لم تطب له أجرة لأن المعين له على العمل يختص منفعة نفسه فلا يجوز أن يستعمل فيه دواب المغنم ولا دواب الحبيس وينبغي أن يلزمه بقدر أجر الدابة يرد في الغنيمة إن كانت من الغنيمة أو يصرف في نفقة دواب الحبيس إن كان الفرس حبيسا

فصلان : لا يجوز ركوب دابة من الغنيمة ولا الانتفاع من الغنيمة
فصل : فإن شرط في الإجابة ركوب دابة من الغنيمة فينبغي أن يجوز لأن ذلك بمنزلة أجرة تدفع إليه من المغنم ولو أجر نفسه بدابة من المغنم معينة صح فإذا جعل أجره ركوبها كان أولى إلا أن يكون العمل مجهولا فلا يجوز لأن من شرط صحة إجارتها كون عوضها معلوما وإن شرط في الإجارة ركوب دابة من الحبيس لم يجز لأنها إنما حبست على الجهاد وليس هذا بجهاد إنما هو نفع لأهل الغنيمة
فصل : ولا يجوز الانتفاع من الغنيمة بركوب دابة منها ولا لبس ثوب من ثيابها لما روى رويفع ابن ثابت قال : لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم خيبر : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ] رواه أبو داود و الأثرم [ وعن رجل من بلقين قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بوادي القرى فقلت : ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش فقلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال : لا ولا السهم تستخرجه من جنبك أنت أحق به من أخيك المسلم ] رواه الأثرم و لأن الغنيمة مشتركة بين الغانمين وأهل الخمس فلم يجز لواحد الاختصاص بمنفعته كغيره من الأموال المشتركة فإن دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس قال أحمد : إذا كان أنكى فيهم أو خاف على نفسه فنعم
وذكر حديث سيف أبي جهل وهو ما روى عبد الله بن مسعود قال : انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله فقلت : الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل فاضربه بسيف معي غير طائل فوقع سيفه من يده فأخذت سيفه فضربته به حتى برد رواه الأثرم وفي ركوب الفرس للجهاد روايتان :
إحداهما : يجوز كما يجوز في السلاح والثانية لا يجوز لأنها تتعرض للعطب غالبا وقيمتها كثيرة بخلاف السلاح

مسألة وفصل : في صفة الأمان
مسألة : قال : ومن لقي علجا فقال له : قف أو ألق سلاحك فقد أمنه
قد تقدم الكلام فيمن يصح أمانه ونذكر ههنا صفة الأمان فالذي ورد به الشرع لفظتان : أجرتك وأمنتك لقول الله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ] وقال : [ من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ] وفي معنى ذلك إذا قال : لا تخف لا تذهل لا تخش لا خوف عليك لا بأس عليك
وقد روي عن عمر انه قال : إذا قلتم : لا بأس او لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله تعالى يعلم الألسنة وفي رواية أخرى إذا قال الرجل للرجل : لا تخف فقد أمنه فإذا قال : لا تذهل فقد أمنه فإن الله يعلم الألسنة
وروي ان عمر قال للهرمزان : تكلم ولا بأس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن مالك : ليس لك إلى ذلك سبيل فقد أمنته فقال عمر : كلا فقال الزبير : قد قلت له : تكلم ولا بأس عليك فدرأ عنه عمر القتل رواه سعيد وغيره وهذا كله لا نعلم فيه خلافا فأما إن قال له : قم أو قف أو الق سلاحك فقال أصحابنا : هو أمان أيضا لأن الكافر يعتقد هذا أمانا فأشبه قول : أمنتك
وقال الأوزاعي : إن ادعى الكافر أنه أمن أو قال : إنما وقفت لندائك فهو آمن فإن لم يدع ذلك فلا يقبل ويحتمل أن هذا ليس بأمان لأن لفظه لا يشعر به وهو يستعمل للإرهاب والتخويف فلم يكن أمانا لقوله : لأقتلنك لكن يرجع إلى القائل فإن قال : نويت به الأمان فهو أمان وإن قال : لم أرد أمانه نظرنا في الكافر فإن قال : اعتقدته أمانا رد إلى مأمنه ولم يجز قتله وإن لم يعتقده امانا فليس بأمان كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه امانا
فصل : فإن أشار المسلم إليهم بما يرونه امانا وقال : أردت به الأمان فهو أمان وإن قال : لم أرد به الامان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على هذه الإشارة لم يجز قتلهم ولكن يردون إلى مأمنهم
وقال عمر رضي الله عنه : والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانه فقتله لقتله به رواه سعيد وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم وبهذا قال مالك و الشافعي و ابن المنذر فإن قيل : وكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق ؟ قلنا : تغليبا لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبا لحقن دمه ولأن الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين والمسلمون لا يفهمون كلامهم فدعت الحاجة إلى التكليم بالإشارة بخلاف غيره

فصل : حكم ما لو سبيت كافرة فجاز ابنها يطلبها وقال : عندي أسير مسلم
فصل : إذا سبيت كافرة فجاء ابنها يطلبها وقال : إن عندي أسيرا مسلما فأطلقوها حتى أحضره فقال الإمام : أحضره فأحضره لزم اطلاقها لأن المفهوم من هذا إجابته إلى ما سأل وإن قال الإمام : لم أرد إجابته لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي : يطلق الأسير ولا تطلق المشركة لأن المسلم حر لا يجوز أن يكون ثمنا لمملوكة ويقال له : إن اخترت شراءها فائت بثمنها
ولنا أن هذا يفهم منه الشرط فيجب الوفاء به كما لو صرح به ولأن الكافر فهم منه ذلك وبنى عليه فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة وقولهم : إن الحر لا يكون ثمن مملوكة قلنا : لكن يصح أن يفادى بها فقد [ فادى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الأكوع برجلين من المسلمين وفادى برجلين من المسلمين بأسير من الكفار ووفى لهم برد من جاءه مسلما وقال : إنه لا يصلح في ديننا الغدر ] وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم ولأنه التزم إطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه السلام : [ المسلمون على شروطهم ] وقوله : [ إنه لا يصلح في ديننا الغدر ]

مسألة وفصل : حكم السرقة من الغنيمة
مسألة : قال : ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع
يعني إذا كان السارق بعض الغانمين أو أباه أو سيده فلا قطع عليه لأن له شبهة وهو حقه المتعلق بها فيكون ذلك مانعا من قطعه لأن الحدود تدرأ بالشبهات فأشبه ما لو سرق من مال مشترك بينه وبين غيره وهكذا ان كان لابنه وان علا وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وزاد أبو حنيفة : إذا كان لذي رحم محرم منه فيها حق لم يقطع مبني على أنه لا يقطع بسرقة مالهم وقد سبق الكلام في هذا ولو كان لأحد الزوجين فيها حق فسرق منها الآخر لم يقطع عند من لا يرى أن أحدهما يقطع بسرقة مال الآخر وقد سبق ذكر هذا
فصل : والسارق من الغنيمة غير الغال فلا يجري مجراه في إحراق رحله ولا يجري الغال مجرى السارق في قطع يده وذكر بعض أصحابنا أن السارق يحرق رحله لأنه في معنى الغال ولأنه لما درىء عند الحد وجب أن يشرع في حقه عقوبة أخرى كسارق الثمر يغرم مثلي ما سرق
ولنا أن هذا لا يقع عليه اسم الغال حقيقة ولا هو في معناه لأن الغلول يكثر لكونه أخذ مال لا حافظ له ولا يطلع عليه غالبا فيحتاج إلى زاجر عنه وليس كذلك السرقة فإنها أخذ مال محفوظ فالحاجة إلى الزجر عنه أقل

مسألة : حكم من وطىء جارية قبل قسم المغنم
مسألة : قال : وإن وطىء جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المقسم إلا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها
يعني إذا كان الواطىء من الغانمين أو ممن لولده فيها حق فلا حد عليه لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة فيكون للواطىء حق في هذه الجارية وإن كان قليلا فيدرأ عنه الحد للشبهة وبهذا قال أبة حنيفة و الشافعي وقال مالك و أبو ثور : عليه الحد لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا زان ولأنه وطىء في غير ملك عامدا عالما بالتحريم فلزمه الحد كما لو وطىء جارية غيره وقال الأوزاعي : كل من سلف من علمائنا يقول : عليه أدنى الحدين مائة جلدة ومنع بعض الفقهاء ثبوت الملك في الغنيمة وقال : إنما يثبت بالاخبار بدليل أن أحدهم لو قال : أسقطت حقي سقط ولو ثبت ملكه لم يزل لذلك كالوارث
ولنا أن له فيها شبهة الملك فلم يجب عليه الحد كوطء الجارية المشتركة والآية مخصوصة بوطء الجارية المشتركة وجارية ابنه فنقيس عليه هذا ومنع الملك لا يصح لأن ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى مالك ولأنه تصح قسمته ويملك الغانمون طلب قسمتها فأشبهت مال الوارث إنما كثر الغانمون فقل نصيب الواطىء ولم يستقر في شيء بعينه وكان للإمام تعيين نصيب كل واحد بغير اختياره فلذلك جاز أن يسقط بالإسقاط بخلاف الميراث وضعف الملك لا يخرجه عن كونه شبهة في الحد الذي يدرأ بالشبهات ولهذا يسقط الحد بأدنى شيء وإن لم يكن حقيقة الملك فهو شبهة إذا ثبت هذا فإنه يعزر ولا يبلغ بالتعزير الحد على ما أسلفناه ويؤخذ منه مهر مثلها فيطرح في المقسم وبهذا قال الشافعي
وقال القاضي : إنه يسقط عنه من المهر حصته منها ويجب عليه بقيته كما لو وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره وليس بصحيح لأننا إذا أسقطنا عنه حصته وأخذنا الباقي فطرحناه في المغنم ثم قسمناه على الجميع وهو فيهم عاد إليه سهم من حصة غيره ولأن قدر حصته قد لا تمكن معرفته لقلة المهر وكثرة الغانمين ثم إذا أخذناه فإن قسمناه مفردا على من سواه لم يمكن وإن خلطناه ببقية الغنيمة ثم قسمناه على الجميع أخذ سهما مما ليس له فيه حق إذا ثبت هذا فإن ولدت منه فالولد حر يلحقه نسبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هو رقيق لا يلحقه نسبه لأن الغانمين إنما يملكون بالقسمة وقد صادف وطؤه غير ملكه
ولنا أنه وطء سقط فيه الحد بشبهة الملك فيلحق فيه النسب كوطء جارية ابنه وما ذكروه غير مسلم ثم يبطل بوطء جارية ابنه ويفارق الزنا فإنه يوجب الحد وإذا ثبت هذا فإن الأمة تصير أم ولد له في الحال وقال الشافعي : لا تصير أم ولد في الحال لأنها ليست ملكا له فإذا ملكها بعد ذلك فهل تصير أم ولد ؟ فيها قولان
ولنا أنه وطء يلحق به النسب لشبهة الملك فتصير به أم ولد كوطء جارية ابنه ويبطل ما ذكروه بجارية الابن ولا نسلم ما ذكروه فإنا قد بينا أن الملك يثبت في الغنيمة بمجرد الاغتنام وعليه قيمتها تطرح في المغنم لأنه فوتها عليهم وأخرجها من الغنيمة بفعله فلزمته قيمتها كما لو قتلها فإن كان معسرا كان في ذمته قيمتها وقال القاضي : إذا كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد وباقيها رقيق الغانمين لأن كونها أم ولد إنما يثبت بالسراية في ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالاعتاق
ولنا أنه استيلاد جعل بعضها أم ولد فيجعل جميعها أم ولد كاستيلاد جارية الابن وفارق العتق لأن الاستيلاد أقوى لكونه فعلا وينفذ من المجنون فأما قيمة الولد فقال أبو بكر : فيها روايتان :
إحداهما : تلزمه قيمته حين وضعه تطرح في المغنم لأنه فوت رقه فأشبه ولد المغرور
والثانية : لا تلزمه لأنه ملكها حين علقت ولم يثبت ملك الغانمين في الولد بحال فأشبه ولد الأب من جارية ابنه إذا وطئها ولأنه يعتق حين علوقه ولا قيمة له حينئذ وقال القاضي : إذا صار نصفها أم ولد يكون الولد كله حرا وعليه قيمة نصفه

فصل : حكم ما لو كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين
فصل : إذا كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين نظرت فإن كان رجلا لم يعتق لأن العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم وعم علي وعقيلا أخا علي كانا في أسرى بدر فلم يعتقا عليهما ولأن الرجل لا يصير رقيقا بنفس السبي وإن استرق أو كان الأسير امرأة أو صبيا عتق عليه قدر نصيبه وسرى إلى باقيه إ ن كان موسرا وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلا ملكه منه
وقال الشافعي : لا يعتق منه شيء وهذا مقتضى قول أبي حنيفة لأنه لا يملك بمجرد الاغتنام ولو ملك لم يتعين ملكه فيه وإن قسمه وجعله في نصيبه واختار تملكه عتق عليه وإلا فلا وإن جعل له بعضه فاختار تملكه عتق عليه وقوم عليه الباقي
ولنا ما بيناه من أن الملك يثبت للغانمين لكون الاستيلاء التام وجد منهم وهو سبب للملك ولأن ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى المسلمين

فصل : حكم ما لو أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة
فصل : وإن أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة قبل القسمة فإن كان ممن لم يثبت فيه الرق كالرجل قبل استرقاقه لم يعتق لما ذكرناه قبل وإن كان رقيقا كالمرأة والصبي عتق عليه قدر حصته وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وعليه قيمة باقيه تطرح في المقسم وإن كان معسرا عتق عليه قدر ملكه من الغنيمة لأنه موسر بقدر حصته من الغنيمة فإن كان بقدر حقه من الغنيمة عتق ولم يأخذ شيئا وإن كان دون حقه أخذ باقي حقه وإن كان أكثر من حقه لم يعتق إلا قدر حقه فإن أعتق عبدا ثانيا وفضل من حقه عن الأول شيء عتق بقدره من الثاني وإن لم يفضل شيء لم يعتق من الثاني شيء

فصل : يكره نقل رؤوس الأعداء من بلد إلى بلد
فصل : ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سمرة ابن جندب قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة ] وعن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان ] رواهما أبو داود
وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ] رواه النسائي وعن عبد الله بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق برأس البطريق فأنكر ذلك فقال : يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا قال : فاستنان بفارس والروم ؟ لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر
وقال الزهري : لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه و سلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله لن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا أن عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظفر أهلها برجل من المسلمين فأخذوا رأسه فجاء قومه عمرا مغضبين فقال لهم عمرو : خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه

فصل : جواز قبول هدية الكفار من أهل الحرب
فصل : يجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل هدية صاحب مصر فإن كان ذلك في حال الغزو فقال أبو الخطاب : ما أهداه المشركون لأمير الجيش أو لبعض قواده فهو غنيمة لأنه لا يفعل ذلك إلا لخوفه من المسلمين فظاهر هذا أن ما أهدي لآحاد الرعية فهو له وقال القاضي : هو غنيمة أيضا وإن كان من دار الحرب إلى دار الإسلام فهو لمن أهدي له سواء كان الإمام أو غيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل الهدية فكانت له دون غيره وهذا قول الشافعي و محمد وقال أبو حنيفة : هو للمهدي له بكل حال لأنه خص بها أشبه إذا كان في دار الإسلام وحكي ذلك رواية عن أحمد
ولنا أنه أخذ ذلك بظهر الجيش أشبه ما لو أخذه قهرا ولأنه إذا أهدى للإمام أو الأمير فالظاهر أنه يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهرا وأما إن أهدى لآحاد المسلمين فلم يقصد به ذلك في الظاهر لعدم الخوف منه فيكون له كما لو أهدى إليه في دار الإسلام ويحتمل أن ينظر فإن كان بينهما مهاداة قبل ذلك فله ما أهدى إليه وإن تجدد ذلك بالدخول إلى دارهم فهو للمسلمين كقولنا في الهدية إلى القاضي

كتاب الجزية
وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى قال الله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } تقول العرب : جزيت ديني إذا قضيته والأصل فيها الكتاب والسنة و الإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
وأما السنة فما [ روى المغيرة بن شعبة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند : أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ] أخرجه البخاري وعن [ بريدة أنه قال : كان رسول الله إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا وقال له : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث : ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ] في أخبار كثيرة وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة

مسألة : فيمن تقبل منهم الجزية
مسألة : قال : ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه
وجملته أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان : أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى عليه السلام وإنما خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرنجة والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى عليه السلام والعمل بشريعته فكلهم من أهل الإنجيل ومن عدا هؤلاء من الكفار فليس من أهل الكتاب بدليل قول الله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } واختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى وقال في موضع آخر : بلغني أنهم يسبتون فهؤلاء إذا أسبتوا فهم من اليهود
وروي عن عمر أنه قال : هم يسبتون وقال مجاهد : هم بين اليهود والنصارى وقال السدي والربيع : هم من أهل الكتاب وتوقف الشافعي في أمرهم والصحيح أنه ينظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم وإن خالفوهم في ذلك فليس هم من أهل الكتاب
ويروى عنهم أنهم يقولون ان الفلك حي ناطق وأن الكواكب السبعة آلهة فإن كانوا كذلك فهم كعبدة الأوثان وأما أهل صحف ابراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم الجزية لأنهم من غير الطائفتين ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما هي مواعظ وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه و سلم صحف ابراهيم وزبور داود في حديث أبي ذر
وأما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم وأخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم دليل هذا قول أكثر أهل العلم ونقل عن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب وتحل نساؤهم وذبائحهم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وان ملكهم سكر فوقع على بنته وأخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال : أتعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته فأنا على دين آدم قال : فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر - وأراه قال وعمر - منهم الجزية رواه الشافعي و سعيد وغيرهما ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ]
ولنا قول الله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } والمجوس من غير الطائفتين وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] يدل على أنهم غيرهم وروى البخاري بإسناده عن بجالة أنه قال : ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها من مجوس هجر ولو كانوا أهل كتاب لما وقف عمر في أخذ الجزية منهم مع أمر الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة الكتاب وقد قال أبو عبيد : لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظا ولو كان له أصل لما حرم النبي صلى الله عليه و سلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك ويجوز أن يصح هذا مع تحريم نسائهم وذبائحهم لأن الكتاب المبيح لذلك هو الكتاب المنزل على إحدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم ولأن كتابهم رفع فلم ينتهض للإباحة ويثبت به حقن دمائهم
فأما قول أبي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الإجماع فلا يلتفت إليه وقوله عليه السلام : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] في أخذ الجزية منهم إذا ثبت هذا فإن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس ثابت بالإجماع لا نعلم في هذا خلافا فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى زمننا هذا من غير نكير ولا مخالف وبه يقول أهل العلم من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم مع دلالة الكتاب على أخذ الجزية من أهل الكتاب ودلالة السنة على أخذ الجزية من المجوس بما [ روينا من قول المغيرة لأهل فارس : أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ] وحديث بريدة وعبد الرحمن بن عوف وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولا فرق بين كونهم عجما أو عربا وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو يوسف : لا تؤخذ الجزية من العرب لأنهم شرفوا بكونهم من رهط النبي صلى الله عليه و سلم
ولنا عموم الآية وأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فأخذ أكيدر دومة فصالحه على الجزية وهو من العرب رواه أبو داود وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب [ وبعث معاذا إلى اليمن فقال : إنك تأتي قوما أهل كتاب ] متفق عليه وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وكانوا عربا قال ابن المنذر : ولم يبلغنا أن قوما من العجم كانوا سكانا باليمن حيث وجه معاذا ولو كان لكان في أمره أن يأخذ من جميعهم من كل حالم دينارا دليل على أن العرب تؤخذ منهم الجزية وحديث بريدة فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر من بعثه على سرية أن يدعو عدوه إلى أداء الجزية ولم يخص بها عجميا دون غيره وأكثر ما كان النبي صى الله عليه وسلم يغزو العرب ولأن ذلك إجماع فإن عمر رضي الله عنه أراد الجزية من نصارى بني تغلب فأبوا ذلك وسألوه أن يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على ما يأخذه منهم عوضا عن الجزية فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم وما أنكر أخذ الجزية منهم أحد فكان ذلك اجماعا وقد ثبت بالقطع واليقين أن كثيرا من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر الصحابة في بلاد الإسلام ولا يجوز إقرارهم فيها بغير جزية فثبت يقينا أنهم أخذوا الجزية منهم وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده ولا بين أن يكون ابن كتابين أو ابن وثنيين أو ابن كتابي ووثني
وقال أبو الخطاب : من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لو تقبل منه الجزية ومن ولد بين أبوين أحدهما تقبل منه الجزية ولاآخر لا تقبل منه فهل تقبل منه ؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي
ولنا عموم النص فيهم ولأنهم من أهل دين تقبل من أهله الجزية فيقرون بها كغيرهم وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية أي يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم

فصل : لا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين
فصل : ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين :
أحدهما : أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول
والثاني : التزام أحكام الاسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث بريدة : [ فادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] ولا تعتبر حقيقة الإعطاء ولا جريان الاحكام لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل والمراد بقوله : { حتى يعطوا } أي يلتزموا الإعطاء ويجيبوا الى بذله كقول الله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } والمراد به التزام ذلك دون حقيقته فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول لقوله عليه السلام : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ]

مسألة وفصل : حكم غير أهل الكتاب والمجوس
مسألة : قال : ومن سواهم فالاسلام أو القتل
يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم إلا الاسلام فان لم يسلموا قتلوا هذا ظاهر مذهب أحمد وروى عنه الحسن بو ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغلظ كفرهم من وجهين : أحدهما دينهم والثاني كونهم من رهط النبي صلى الله عليه و سلم
وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف ابراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وادريس وجهان :
أحدهما : يقرون بالجزية لأنهم من أهل الكتاب فأشبهوا اليهود والنصارى وقال أبو حنيفة : تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى الله عليه و سلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية لأنه يقر بالاسترقاق فأقروا بالجزية كالمجوس وعن مالك أنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش لأنهم ارتدوا وعن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز انها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولأنه كافر فيقر بالجزية كأهل الكتاب
ولنا قول الله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] وهذا عام خص منه أهل الكتاب بالآية والمجوس بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم وقد بينا أن أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية فيما تقدم
فصل : وإذا عقد الذمة لكفار زعموا أنهم من أهل الكتاب ثم تبين أنهم عبدة الأوثان فالعقد باطل من أصله وإن شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك لأن الأصل صحته فان أقر بعضهم بذلك دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي في حق من لم يقر بحاله

مسألة وفصول : في الجزية والهدنة وشروطهما والضيافة
مسألة : قال : والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهما ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهما ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهما
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول في تقدير الجزية والثاني في كمية مقدارها فأما الأول ففيه ثلاث روايات :
إحداها : أنها مقدرة بمقدر لا يزاد عليه ولا ينقص منه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر ] وفرضها عمر مقدرة بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا
والثانية : أنها غير مقدرة بل يرجع فيها الى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان قال الأثرم : قيل لابي عبد الله : فيزداد اليوم فيه وينقص ؟ يعني الجزية قال : نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الامام وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين قال الخلال : العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للامام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك
وهذا قول الثوري و أبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب رواهما أبو داود وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات : على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر درهما وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأي الامام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز أن تختلف قال البخاري : قال ابن عيينة عن أبي نجيح : قلت لمجاهد : ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال : جعل ذلك من أجل اليسار ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة
والرواية الثالثة : أن أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينقص منه وروي أنه زاد على ثمانية وأربعين فجعلها خمسين
الفصل الثاني : أننا اذا قلنا بالرواية الأولى وانها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهما وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك : هي في حق الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن عمر وقال الشافعي : الواجب دينار في حق كل واحد لحديث معاد أن النبي صلى الله عليبه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا : رواه أبو داود وغيره الا أن المستحب جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا : وقضاء النبي صلى الله عليه و سلم أولى بالاتباع من غيره
ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خلاف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رضي الله عنهم فصار إجماعا لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلو من وجهين :
أحدهما : أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد لأن ذلك من أجل اليسار
والوجه الثاني : أن يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى اجتهاد الامام ولأن الجزية وجبت صغارا أو عقوبة فتختلف باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والمكافيف
فصل : وحد اليسار في حقهم ما عده الناس غنى في العادة وليس بمقدر لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف
فصل : إذا بذلوا الجزية لزم قبولها وحرم قتالهم لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فجعل اعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتالهم وقول النبي صلى اله عليه وسلم : [ فادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] وإن قلنا ان الجزية غير مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل ما لا يجوز طلب أكثر منه مما يحتمله حالهم
فصل : وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب بأوله ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية }
ولنا أنه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون نفس الاعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها
فصل : وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر وكان النبي صلى الله عليه و سلم يأخذ من نصارى نجران ألفي حلة وكان عمر يؤتى ينعم كثيرة يأخذها من الجزية
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية من كل صنعة من متاعه من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسال مسالا ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول : خذوا فاقتسموا فيقولون : لا حاجة لنا فيه فيقول : أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه وإذا ثبت هذا فانه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام : [ أو عدله مغافر ]
فصل : ولا يصح عقد الذمة والهدنة إلا من الامام أو نائبه وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة ولأن عقد الذمة عقد مؤبد فلم يجز أن يفتات به على الإمام فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح لكن إن عقده على ما لا يجوز أن يطلب منهم أكثر منه لزم الإمام إجابتهم إليه وعقدها عليه
فصل : ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الامام أحمد باسناده عن الأحنف بن قيس أن عمر شرط عليهم ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته قال ابن المنذر : وروي عن عمر أنه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار وكانوا ثلثمائة نفس في كل سنة وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ولأن في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضرارا بهم فاذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك وإن لم تشرط الضيافة عليهم لم تجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ومن أصحابنا من قال : تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول أصح لأنه أداء مال فلم يجب بغير رضاهم كالجزية فان شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة وقال الشافعي : لا يجوز قتالهم عليها
ولنا أنه شرط سائغ امتنعوا من قبوله فقوتلوا عليه كالجزية
فصل : ذكر القاضي أنه شرط الضيافة فانه يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة والفرسان فيقول : تضيفون في كل سنة مائة يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وأدم كذا وللفرس من التبن كذا ومن الشعير كذا فان شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين من غير عدد ولا تقدير قال أبو بكر : إذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفونهم الذبيحة ولا ضيافتهم بأرفع من طعامهم لأنه يروى عن عمر أنه شكا اليه أهل الذمة أن المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال : أطعموهم مما تأكلون وقال الأوزاعي : ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير
وقال القاضي : إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم الشعير ويحتمل أن يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع فان عمر رضي الله عنه صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوها ركبانا فان لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه والسابق إلى منزل أحق له ممن يأتي بعده فان امتنع بعضهم من القيام بما شرط عليه أجبر عليه فان امتنع الجميع أجبروا فان لم يمكن إلا بالمقاتلة قوتلوا فان قاتلوا فقد نقضوا العهد
فصل : وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فان جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب لراهب من أهل الشام : إنني إن وليت هذه الأرض أسقطت عنك خراجك فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه وقال : إنني جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر إن شئت أداء الخراج وان شئت أن تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط عليه ضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية إذا قلنا الجزية مقدرة الاقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر أن من الشروط الفاسدة اشتراط الاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم ممدودا الى إعطاء الجزية فان لم يعطها كان قتالهم مباحا ووجه الأول أن هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجار كما لو شرط عليهم عدل الجزية مغافر
فصل : وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل أن يشترط أن لا جزية عليهم أو إظهار المنكر أو إسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم ونحو هذا فقال القاضي : يفسد العقد به لأنه شرط فعل محرم فأفسد العقد كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يفسد الشرط وحده ويصح العقد بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة

مسألة : لا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا امرأة
مسألة : قال : ولا جزية على صبي ولا زائل عقل ولا امرأة
لانعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وبه قال مالك و أبو حنيفة وأصحابه و الشافعي و أبو ثور وقال ابن المنذر : ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وقد دل على صحة هذا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي رواه سعيد و أبو عبيد و الأثرم وقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] دليل على أنها لا تجب على غير بالغ ولأن الدية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها

فصل : حكم ما لو بذلت المرأة الجزية
فصل : وإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها فان قالت : فأنا أتبرع بها أو أنا أؤديها قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض فان شرطته على نفسها ثم رجعت كان لها ذلك وان بذلت الجزية لتصير إلى دار الاسلام مكنت من ذلك بغير شيء ولكن يشترط عليها التزام أحكام الاسلام وتعقد لها الذمة ولا يؤخد منها شيء الا أن تتبرع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها وان أخذ منها شيء على غير ذلك رد اليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وأن دمها لا يحقن الا به فأشبه من أدى مالا الى من يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه الا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة عقدت لهن بغير شيء وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء فان كان في الحصن معهن رجال فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم تصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه وبرؤا من تجب عليه وإن بذلوا جزية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز وكان ذلك زيادة في جزيتهم وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من لا تلزمه فان كان القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزىء في الجزية أخذ منهم وسقط الباقي

فصل : أحوال من بلغ من أولاد أهل الذمة
فصل : ومن بلغ من أولاد أهل الذمة أو أفاق من مجانينهم فهو من أهلها بالعقد الأول لا يحتاج إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع : هو مخير بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه فان اختار الذمة عقدت له وإلا ألحق بمأمنه وهو قول الشافعي
ولنا أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد العقد لهؤلاء ولأن العقد يكون مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم ولأنه عقد عهد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه لذلك كالهدنة ولأن الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج الى تجديده لهم عند تغير أحوالهم كغيرهم ولأنه عقد دخلوا فيه فيلزمهم بعد البلوغ والإفاقة كالاسلام إذا ثبت هذا فان كان البلوغ والإفاقة في أول حول قومه أخذ منه في آخره معهم وإن كان في أثناء الحول أخذ منه عند تمام الحول بقسطه ولم يترك حتى يتم حوله لئلا يحتاج إلى أفراده بحول وضبط حول كل انسان منهم وربما أفضى الى أن يصير كل واحد حول منفردا

فصل : أحوال من يجن ويفيق وأحكامها
فصل : ومن كان يجن ويفيق فله ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون جنونه غير مضبوط مثل من يفيق ساعة من يوم أو أيام أو يصرع ساعة من يوم أو أيام فهذا يعتبر حاله بالأغلب لأن مدة الافاقة غير ممكن مراعاتها لتعذر ضبطها
الثاني : أن يكون مضبوطا مثل من يجن يوما يوفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر الأغلب من حاله وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه يجن ويفيق فيعتبر الأغلب من حاله كالأول والثاني تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقا في الكل وجبت الجزية فاذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيما يجب به لو انفرد فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان :
أحدهما أن أيامه تلفق فاذا كملت حولا أخذت منه لأن أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل كمال الحول فلم يجز كالصحيح
والثاني : يؤخد منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا فإن استوت إفاقته وجنونه مثل من يجن يوما ويفيق يوما أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت إفاقته لأنه تعذر اعتبار الأغلب لعدمه فتعين الاحتمال الآخر
الحال الثالث : أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق من الحول على ما تقدم شرحه والله أعلم

مسائل وفصول : من لا تجب عليهم الجزية
مسألة : قال : ولا على فقير
يعني الفقير العاجز عن أدائها وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في الآخر : يجب عليه لقوله عليه السلام : [ خذ من كل حالم دينارا ] ولأن دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر عليه
ولنا أن عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقيرالمعتمل فيدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه ولأن الله تعالى قال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولأن هذا مال يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير العاجز كالزكاة والنقل ولأن الخراج ينقسم الى خراج أرض وخراج رؤوس ثم ثبت أن خراج الأرض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شيء عليه كذلك خراج الرؤوس وأما الحديث فيتناول الأخذ ممن يمكن الأخذ منه ومن لا يمكن الأخذ منه فالأخذ منه مستحيل فكيف يؤمر به ؟
مسألة : قال : ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى
هؤلاء الثلاثة ومن في معناهم ممن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه لا جزية عليهم وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي في أحد قوليه : عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان
مسألة : قال : ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما
لا خلاف في هذا نعلمه لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جزية على العبد ] وعن ابن عمر مثله ولأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إيجابه على عبد المسلم إلى إيجاب الجزية على مسلم فأما إن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزية عليه أيضا وهو قول عامة أهل العلم
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكر من الحديث ولأنه محقون الدم فأشبه النساء والصبيان أو لا مال له فأشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي إيجاب الجزية عليه يؤديها سيده وروي ذلك عن أحمد وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه
قال أحمد : أراد أن يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر والأول أولى
فصل : ومن بعضه حر فقياس المذهب أن عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم يتجزأ يختلف بالرق والحرية فيقسم على قدر ما فيه كالإرث
فصل : ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل وجوبها عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارين ووجه ذلك عموم النصوص ولأنه كافر صحيح قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء وقد ذكرنا أنه يحرم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن ولأنه لا كسب له فأشبه الفقير غير المعتمل

مسألة : حكم ما لو أسلم من وجبت عليه الجزية قبل أن تؤخذ منه
مسألة : قال : ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه الجزية
وجملته أن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول لم تجب عليه الجزية وإن أسلم بعد الحول سقطت عنه وهذا قول مالك و الثوري و أبي عبيد وأصحاب الرأي وقال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : إن أسلم بعد الحول لم تسقط لأنها دين يستحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام كالخراج وسائر الديون و للشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان أحدهما عليه من الجزية بالقسط كما لو أفاق بعد الحول
ولنا قول الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس على المسلم جزية ] رواه الخلال وذكر أن أحمد سئل عنه فقال : ليس يرويه غير جرير قال أحمد : وقد روي عن عمر أنه قال : إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج ] يعني الجزية وروي أن ذميا أسلم فطولب بالجزية وقيل : إنما أسلمت تعوذا قال : ان في الاسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال عمر : إن في الاسلام معاذا وكتب ألا تؤخذ منه الجزية رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحول ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الاسلام كالقتل وبهذا فارق سائر الديون

فصل : إذا مات الذمي بعد الحول لم تسقط الجزية
فصل : وإن مات الذمي بعد الحول لم تسقط الجزية عنه في ظاهر كلام أحمد ذكره أحمد وهو مذهب الشافعي وحكى ابو الخطاب عن القاضي أنها تسقط بالموت وهو قول أبي حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر ابن عبد العزيز لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنها تسقط في الاسلام فتسقط بالموت كما قبل الحول
ولنا أنه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الاسلام فانه الأصل والجزية بدل عنه فاذا أتى بالأصل استغنى عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه الى التيمم بخلاف الموت ولأن الاسلام قربة وطاعة يصلح أن يكون معاذا من الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه

فصل : لا تتداخل الجزية
فصل : ولا تتداخل الجزية بل إذا اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت منه كلها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود ولنا أنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية

مسألة : إذا أعتق العبد لزمته الجزية
مسألة : قال : واذا أعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان المعتق له مسلما أو كافرا
هذا الصحيح عن أحمد رواه عنه جماعة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان و الليث و ابن لهيعة و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد يقر بغير جزية وروي نحو هذا عن الشعبي لأن الولاء شعبة من الرق وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال : هذا قول قديم رجع عنه أحمد والعمل على ما رواه الجماعة وعن مالك كقول الجماعة وعنه إن كان المعتق له مسلما فلا جزية عليه لأن عليه الولاء لمسلم فأشبه ما لو كان عليه الرق
ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتل فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الأصلي فاذا ثبت هذا فان حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم أو افاق من مجانينهم على ما مضى

مسألة وفصلان : لا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الصدقة
مسألة : قال : ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين
بنو تغلب بن وائل منالعرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفقوا وقالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين ان القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الابل من كل خمس شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم وفيما سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار اجماعا وقال به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى على نصارى بني تغلب إلا الجزية وقال : لا والله الا الجزية والا فقد آذنتكم بالحرب والحجة لهذا عموم الآية فيهم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن لا ينصروا اولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا من الاجماع وأما الآية فان هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فان الجزية يجوز أخذها من العروض
فصل : قال أصحابنا : تؤخذ الصدقة مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وهذا قول أبي حنيفة و أبي عبيد وذكر أنه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من مال نسائهم وصبيانهم ومجانينهم وزمناهم ومكافيفهم وشيوخهم إلا أن أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون وكذا الواجب على بني تغلب لا يجب في مال صبي ولا مجنون إلا في الأرض خاصة وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء والصبيان والمجانين قال : وقد روي عن عمر أنه قال : هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم
وقال النعمان بن زرعة : خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم ومساكنهم فكان جزية كما لو أخذ باسم الجزية : يحققه أن الزكاة طهرة وهؤلاء لا طهرة لهم فعلى هذا يكون مصرف المأخوذ منهم : مصرف الفيء لا مصرف الصدقات وهذا أقيس واحتج أصحابنا بأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم عمر اليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة من كل مال زكوي لأي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض كذلك المأخوذ من بني تغلب ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال والعقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيرا أو له مال غير زكوي كالدور وثياب البذلة وعبيد الخدمة لا شيء عليه كما لا يجب على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ مما لم يبلغ نصابا فأما مصرف المأخوذ منهم فاخنار القاضي أن مصرفه مصرف الفيء لأنه مأخوذ من مشرك ولأنه جزية مسماة بالصدقة
وقال أبو الخطاب : مصرفه إلى أهل الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به - فيمن يؤخذ منه - مسلك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها والأول أقيس وأصح لأن معنى الشيء أخص به من اسمه ولهذا لو سمي رجل أسدا أو نمرا أو أسود أو أحمر لم يصر له حكم المسمى بذلك ولأن هذا لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ]
فصل : فان بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا فلا يغير ويحتمل أن يقبل منه لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد } وهذا قد أعطى الجزية وإن كان باذل الجزية منهم حربيا قبلت منه للآية وخبر بريدة : [ ادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] ولأنه لم يدخل في صلح الأولين فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه وان أراد إمام نقض صلحهم وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن عبد العزيز لم يكن له ذلك لأن عقد الذمة على التأبيد وقد عقده معهم عمر بن الخطاب فلم يكن لغيره نقضه ما داموا على العهد

فصل : وسائر أهل الكتاب تقبل منهم الجزية
فصل : فأما سائر أهل الكتاب من النصارى واليهود العرب وغيرهم فالجزية منهم مقبولة ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني تغلب نص أحمد على هذا ورواه عن الزهري قال : ونذهب إلى أن يأخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة ويضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي و أبو الخطاب أن حكم من تنصر من تنوخ وبهرا أو تهود من كنانة وحمير وتمجس من تميم حكم بني تغلب سواء وذكر ذلك عن الشافعي نص عليه في تنوخ وبهرا لأنهم من العرب فأشبهوا بني تغلب
ولنا عموم قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا إلى اليمن فقال : [ خذ من كل حالم دينارا ] وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث بن كعب - قال الزهري : أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى - وأخذ الجزية من أكيدر دومة وهو عربي وحكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربيا كان أو غير عربي الا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر اياهم ففي ما عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين أحد من الأئمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه :
أحدها : أن قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما تلزم منه مخالفة النص
والثاني : ان العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة
الثالث : أن بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرر إن لم يصالحوا ولم يوجد هذا في غيرهم فان وجد هذا في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية وخيف الضرر بترك مصالحتهم فرأى الامام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة قال علي بن سعيد : سمعت أحمد يقول : أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم كما صنع عمر في نصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم وذكر هذا أبو أسحاق صاحب المهذب في كتابه والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم إذا كانوا في معناهم أما قياس من لم يصالح عليهم في جعل جزيتهم صدقة فلا يصح والله أعلم

فصل : حكم ما إذا مر العاشر بتاجر تغلبي نصراني
فصل : واذا اتجر نصراني تغلبي فمر بالعاشر فقال أحمد : يؤخذ منه العشر ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة وروى باسناده عن زياد بن جدير أن عمر بعثه مصدقا فأمر أن يأخذ من نصراى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر ورواه أبو عبيد
وقال حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة : هو الذي عليه العمل أن يكون عليهم الضعف مما على المسلمين ألا تسمعه يقول : من كل عشرين درهما درهما ؟ وانما يؤخذ من المسلمين إذا مروا بأموالهم ربع لعشر من كل أربعين درهما درهم فذاك ضعف هذا وهذا ظاهر كلام الخرقي لقوله : مثلا ما يؤخذ من المسلمين وهو أقيس فان الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على المسلمين لا ضعف ما على أهل الذمة

مسألة : لا تؤكل ذبائح بني تغلب ولا تنكح نساؤهم
مسألة : قال : ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم
اختلفت الرواية عن أبي عبد الله في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم فعنه لا يحل ذلك وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومذهب الشافعي ولم يبح الشافعي ذبائح العرب من أهل الكتاب كلهم وكره ذبائح بني تغلب عطاء و سعيد بن جبير و محمد بن علي و النخعي وقال علي رضي الله عنه : انهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر ولأنه يحتمل أنهم دخلوا في دين الكفر بعد التبديل فلم يحل ذلك منهم
والرواية الثانية : تحل ذبائحهم ونساؤهم وهذا الصحيح عن أحمد رواه عنه الجماعة وكان آخر الروايتين عنه قال ابراهيم بن الحارث : فكان آخر قوله على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا وهذا قول ابن عباس وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الحسن و النخعي و الشعبي و الزهري و عطاء الخراساني و الحكم و حماد و إسحاق وأصحاب الرأي قال الأثرم : وما علمت أحدا كرهه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إلا عليا وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ولأنهم أهل كتاب يقرون على دينهم ببذل المال فتحل ذبائحهم ونساؤهم لبني اسرائيل

مسألة : حكم من جاء من أهل الذمة إلى غير بلده
مسألة : قال : ومن يجز من أهل الذمة الى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة
اشتهر هذا عن عمر رضي الله عنه وصحت الرواية عنه به وقال الشافعي : ليس عليه إلا الجزية إلا أن يدخل ارض الحجاز فينظر في حاله فان كان لرسالة أو نقل ميرة اذن له بغير شيء وان كان لتجارة لا حاجة بأهل الحجاز اليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضا بحسب ما يراه والأولى أن يشترط نصف العشر لأن عمر شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى ] رواه أبو داود وروى الامام أحمد عن سفيان عن هشام عن أنس بن سيرين قال : بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت : تبعثني إلى العشور من بين عمالك ؟ قال : أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر وهذا كان بالعراق
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال باسناده عن لاحق بن حميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما وقد ذكرنا حديث زياد بن حدير أن عمر أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر وهذا كان بالعراق واشتهرت هذه القصص ولم تنكر فكانت اجماعا وعمل به الخلفاء بعده ولم يأت تخصيص الحجاز بنصف العشر في شيء من الأحاديث علمناه لا عن عمر ولا عن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بل ظاهر أحاديثهم أن ذلك في غير الحجاز وما وجب من المال في الحجاز وجب في غيره كالديون والصدقات

فصلان : لا يؤخذ العشر إلا مرة في السنة ولا يؤخذ من غير مال التجارة
فصل : ولا تؤخذ منهم في السنة إلا مرة نص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه وقال : كذا روي عن ابراهيم النخعي عن عمر حين كتب ألا يأخذ في السنة إلا مرة : أن يأخذ من الذمي نصف العشر وهذا قول الشافعي في الداخلين أرض الحجاز
وروى الامام أحمد باسناده قال : جاء رجل نصراني إلى عمر فقال : ان عاملك عشرني في السنة مرتين قال : ومن أنت ؟ قال : أنا الشيخ النصراني قال عمر : وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب الى عامله أن لا تعشروا في السنة إلا مرة ولأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة واحدة فكذلك هذا إذا ثبت هذا فإنه متى أخذ منهم ذلك مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون عليه فلا يعشرهم ثانية فإن مر ثانية بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة لأنها لم تعشر
فصل : ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة لم يؤخذ منه شيء نص عليه أحمد وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر فروى عنه صالح من كل عشرين دينارا دينار يعني فإذا نقصت من العشرين فليس عليه شيء لأن ما دون النصاب لا تجب فيه زكاة على مسلم ولا على تغلبي فلا يجب فيه على ذمي شيء كالذي دون العشرة
وروى صالح أيضا أنه قال : إذا مروا بالعاشر فان كانوا أهل الحرب أخذ منهم العشر من العشرة واحدا وإن كانوا من أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا فاذا نقصت فليس عليه شيء وإن نقص مال الحربي عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شيء ولا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة المسلم والذمي في ذلك سواء
وروي عن أحمد أن في العشرة نصف مثقال وليس فيما دون العشرة شيء نص على هذا في رواية أبي الحارث قلت : اذا كان مع الذمي عشرة دنانير ؟ قال : تأخذ منه نصف دينار قلت : فان كان معه أقل من عشرة دنانير ؟ قال : إذا نقصت لم يؤخذ منه شيء وذلك لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم أو نقول : مال معشور فوجب في العشرة منه كمال الحربي
وقال ابن حامد : يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي مما قل أو كثر لأن عمر قال : خذ من كل عشرين درهما درهما ولأنه حق عليه فوجب في قليله وكثيره كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها
ولنا أنه عشر أو نصف عشر وجب بالشرع فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمر ولأنه حق يتقدر بالحول فاعتبر له النصاب كالزكاة وأما قول عمر فالمراد به والله أعلم بيان قدر المأخوذ وانه نصف العشر ومعناه إذا كان معه عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهما درهما لأن في صدر الحديث أن عمر بعث مصدقا وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا وانما يؤخذ ذلك من المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيره

فصل : حكم ما لو مر الذمي على العاشر بخمر أو خنزير
فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال في موضع : قال عمر : ولوهم بيعها لا يكون إلا على الآخذ منها
وروى باسناده عن سويد بن غفلة في قول عمر : ولهم بيع الخمر والخنزير بعشرها قال أحمد : اسناد جيد وممن رأى ذلك مسروق و النخعي و أبو حنيفة ووافقهم محمد بن الحسن في الخمر خاصة وذكر القاضي أن أحمد نص على أنه لا يؤخذ منهم شيء وبه قال عمر بن عبد العزيز و أبو عبيد و أبو ثور قال عمر بن عبد العزيز : الخمر لا يعشرها مسلم
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عتبة بن فرقد بعث إليه بأربعين الف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر : بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس وقال : والله لا استعملتك على شيء بعدها قال : فنزعه قال أبو عبيد : ولوهم بيعها وخذوا انتم من الثمن أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولين بيعها وروي باسناده عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر : ان عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال : لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن

فصل : ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم
فصل : فصل : ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم على جزية رؤوسهم وخراج أرضهم احتجاجا بقول عمر هذا ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها والتصرف فيها فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم

فصل : حكم ما إذا مر الذمي على العاشر وعليه دين بقدر ما معه
فصل : وإذا مر الذمي بالعاشر وعليه دين بقدر ما معه أو ينقص عن النصاب فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذ نصف العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول فيمنعه الدين كالزكاة وإن ادعى أن عليه دينا لم يقبل ذلك إلا ببينة من المسلمين لأن الأصل براءة ذمته منه وان مر بجارية فادعى أنها ابنته أو اخته ففيه روايتان : إحداهما يقبل قوله قال الخلال وهو أشبه القولين لأن الاصل عدم ملكه فيها والثانية يقبل إلا ببينة لأنها في يده فأشبهت بهيمة

مسألة : حكم ما لو دخل إلينا تاجر حربي بأمان
مسألة : قال : وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر
وقال أبو حنيفة : لا يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا فنأخذ منهم مثله لما روي عن أبي مجلز لاحق بن حميد قال : قالوا لعمر : كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا ؟ قال : كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم ؟ قالوا : العشر قال : فكذلك خذوا منهم وعن زياد بن حدير قال : كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا قال : من كنتم تعشرون ؟ قال : كفار أهل الحرب فنأخذ منهم كما يأخذون منا وقال الشافعي : ان دخل إلينا بتجارة لا يحتاج اليها المسلمون لم يأذن له الامام إلا بعوض يشرطه عليه ومهما شرط جاز ويستحب أن يشترط العشر ليوافق فعله فعل عمر رضي الله عنه وان أذن مطلقا من غير شرط فالمذهب أنه لا يؤخذ منهم شيء لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شيء كالهدنة ويحتمل أن يجب العشر لأن عمر أخذه
ولنا ما روينا في المسألة التي قبلها وأن عمر أخذ منهم العشر واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء الراشدون بعده والأئمة بعده في كل عصر من غير نكير فأي اجماع يكون أقوى من هذا ؟ ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالتخمين من غير نقل ولأن مطلق الأمر يحمل على المعهود في الشرع وقد استمر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء الراشدين فيجب أخذه فأما سؤال عمر عما يأخذون منا فانما كان لأنهم سألوه عن كيفية الأخذ ومقداره ثم استمر الأخذ من غير سؤال ولو تقيد أخذنا منهم بأخذهم منا لوجب أن يسأل عنه في كل وقت

فصول : في العشر وشروطه
فصل : ويؤخذ منهم العشر من كل مال للتجارة في ظاهر كرم الخرقي وقال القاضي : إذا دخلوا في نقل ميرة بالناس اليها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر يؤخذ منهم وهذا قول الشافعي لأن دخولهم نفع للمسلمين
ولنا عموم ما رويناه وروى صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ليكثر الحمل الى المدينة وهذا يدل على أنه يخفف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك أيضا إذا رأى المصلحة
فصل : ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر سواء كان ذكرا أو أنثى أو صغيرا أو كبيرا وقال القاضي : ليس على المرأة عشر ولا نصف عشر سواء كانت حربية أو ذمية لكن إن دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الاقامة به ولا يعرف هذا التفصيل عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بني تغلب وصبيانهم وكذلك يوجب العشر أو نصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون النساء وليس هذا بجزية وإنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الاسلام وانتفاعه بالتجارة فيها فيستوي فيه الرجل والمرأة كالزكاة في حق المسلمين
فصل : ولا يعشرون في السنة إلأا مرة ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير نص عليهما أحمد وحكي عن أبي عبد الله بن حامد أن الحربي يعشر كلما دخل إلينا وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأننا لو أخذنا منه مرة واحدة لا نأمن أن يدخلوا فاذا جاء وقت السنة الأخرى لم يدخلوا فتعذر الأخذ منهم
ولنا أنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ أكثر من مرة في السنة كالزكاة ونصف العشر من الذمي وقولهم : يفوت غير صحيح فانه يؤخذ منه أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه فلا يؤخذ منه شيء حتى تمضي تلك السنة فاذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل وان لم يدخل فما فات من حق السنة الاولى شيء
فصل : وليس لأهل الحرب دخول دار الاسلام بغير أمان لأنه لا يؤمن أن يدخل جاسوسا أو متلصصا فيضر بالمسلمين فان دخل بغير امان سئل فان قال : جئت رسولا فالقول قوله لأنه تتعذر إقامة البينة على ذلك ولم تزل الرسل تأتي من غير تقدم أمان وان قال : جئت تاجرا نظرنا فان كان معه متاع يبيعه قبل قوله أيضا وحقن دمه لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم وان لم يكن معه ما يتجر به لم يقبل قوله لأن التجارة لا تحصل بغير مال وكذلك مدعي الرسالة اذا لم يكن معه رسالة يؤديها أو كان ممن لا يكون مثله رسولا وان قال : أمنني مسلم فهل يقبل منه ؟ على وجهين :
أحدهما : يقبل تغليبا لحقن دمه كما يقبل من الرسول والتاجر والثاني لا يقبل لأن إقامة البينة عليه ممكنة فان قال مسلم : أنا أمنته قبل قوله لأنه يملك أن يؤمنه فقبل قوله فيه كالحاكم إذا قال : حكمت لفلان على فلان بحق وان كان جاسوسا خير الامام فيه بين أربعة أشياء كالأسير وان كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح إلينا في مركب فقد ذكرنا حكمه

مسألة : من نقض العهد حل دمه وماله
مسألة : قال : ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه وماله
وجملة ذلك أنه ينبغي للامام عند عقد الهدنة أن يشترط عليهم شروطا نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه وقد رويت عن عمر رضي الله عنه في ذلك اخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن اسماعيل بن عياش قال : حدثنا غير واحد من اهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة الى عبد الرحمن بن غنم إنا حين قدمنا من بلادنا طلبنا اليك الأمان لأنفسنا واهل ملتنا على انا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وان نوسع ابوابها للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وألا نكتم أمر من غش المسلمين وألا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين وألا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو اليه أحدا ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وألا نمنع أحدا من أقربا ئنا إذا اراد الدخول في الاسلام وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مواكبهم ولا نتكلم بكلامهم وان لا نتكنى بكناهم وان نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وان نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من اوسط ما نجد ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا وان نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الامان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب لهم عمر أن أمض لهم ما سألوه والحق فيه حرفين اشترط عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده فانفذ عبد الرحمن من غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فاذا صولحوا عليها ثم نقض بعضهم شيئا منها فظاهر كلام الخرقي أن عهذه ينتقض به وهو ظاهر ما رويناه لقولهم في الكتاب : إن نحن خالفنا فقد حل لك منا ما يحل لك من أهل المعاندة والشقاق وقال عمر : وان ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده ولأنه عقد بشرط فمتى لم يوجد الشرط زال حكم العقد كما لو امتنع من التزام الاحكام وذكر القاضي والشريف أبو جعفر ان الشروط قسمان :
أحدهما : ينتقض العهد بمخالفته وهو أحد عشر شيئا الامتناع عن بذل الجزية وجري احكامنا عليهم إذا حكم بها حاكم والاجتماع على قتال المسلمين والزنا بمسلمة واصابتها باسم نكاح وفتن مسلم عن دينه وقطع الطريق عليه وقتله وايواء جاسوس المشركين والمعاونة على المسلمين بدلالة المشركين على عوراتهم أو مكاتبتهم وذكر الله تعالى أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء فالخصلتان الأوليان ينتقض العهد بهما بلا خلاف في المذهب وهو مذهب الشافعي وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب لأن اطلاق الأمان يقتضي ذلك فاذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلونا لزمنا قتالهم وذلك ضد الأمان وسائر الخصال فيها روايتان :
إحداهما : أن العهد ينتقض بها سواء شرط عليهم ذلك أو لم يشترط وظاهر مذهب الشافعي قريب من هذا إلا أن ما لم يشترط عليهم لا ينتقض العهد بتركه ما خلا الخصال الثلاث الأولى فانه يتعين شرطها وينتقض العهد بتركها بكل حال وقال أبو حنيفة : لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الامام على وجه لا يتعذر معه أخذ الجزية منهم
ولنا ما ذكرناه ما روي أن عمر رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال : ما على هذا صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس ولأن فيه ضررا على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية وكل موضع قلنا لا ينتقض عهده فانه إن فعل ما فيه حد اقيم عليه حده أو قصاصه وإن لم يوجب حدا عزر ويفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله فان أراد أحد منهم فعل ذلك كف عنه فان مانع بالقتال نقض عهده ومن حكمنا بنقض عهده منهم خير الامام فيه بين أربعة أشياء : القتل والاسترقاق والفداء والمن كالأسير الحربي لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهد ولا عقد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي ويختص ذلك به دون ذريته لأن النقض إنما وجد منه دونهم فاختص به كما لو أتى ما يوجب حدا أو تعزيرا

فصل : أقسام أمصار المسلمين
فصل : أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعه ولا مجتمع لصلاتهم ولا يجوز صلحهم على ذلك بدليل ما روي عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنو فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا رواه الامام أحمد واحتج به ولأن هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من البيع والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه
القسم الثاني : ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه لأنها صارت ملكا للمسلمين وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان :
أحدهما : يجب هدمه وتحرم تبقيته لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن تكون فيها بيعة كالبلاد التي اختطها المسلمون
والثاني : يجوز لأن في حديث ابن عباس : أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فان للعجم ما في عهدهم ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا من الكنائس ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم أنها ما أحدثت فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله أن لا يهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار ولأن الاجماع قد حصل على ذلك فانها موجودة في بلد المسلمين من غير نكير
القسم الثالث : ما فتح صلحا وهو نوعان : أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فلهم إحداث ما يحتاجون فيها لأن الدار لهم
والثاني : أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية الينا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك وعمارته لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معنا والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم : أن لا يحدثوا بيعة ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاية وان وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها وما وجد في بلاد المسلمين من الكنائس والبيع فهي على ما كانت عليه في زمن فاتحيها ومن بعدهم وكل موضع قلنا : يجوز إقرارها لم يجز هدمها ولهم رم ما تشعث منها واصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي الى خرابها وذهابها فجرى مجرى هدمها وان وقعت كلها لم يجز بناؤها وهو قول بعض أصحاب الشافعي وعن أحمد أنه يجوز وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولأن استدامتها جائزة وبناؤها كاستدامتها وحمل الخلال قول أحمد : لهم أن يبنوا ما انهدم منها أي إذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين
ولنا أن في كتاب أهل الجزيرة لعياض بن غنم : ولا نجدد ما خرب من كنائسنا وروى كثير بن مرة قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تبنى الكنيسة في الاسلام ولا يجدد ما خرب منها ] ولأن هذا بناء كنيسة في دار الاسلام فلم يجز كما لو ابتدىء بناؤها وفارق رم شعثها فانه ابقاء واستدامة وهذا إحداث

فصل : حكم من استحدث من أهل الذمة بناء
فصل : ومن استحدث من أهل الذمة بناء لم يجز له منعه حتى يكون أطول من بناء المسلمين المجاورين له لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الاسلام يعلو ولا يعلى ] ولأن في ذلك رتبة على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك ولهذا يمنعون من صدور المجالس ويلجؤون الى أضيق الطرق ولا يمنع من تعلية بنائه على من ليس بمجاور له لأن علوها إنما يكون ضررا على المجاور لها دون غيره وفي جواز مساواة المسلمين وجهان :
أحدهما : الجواز لأنه ليس بمستطيل على المسلمين والثاني المنع لقوله عليه السلام : [ الاسلام يعلو ولا يعلى ] ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم كذلك في بنائهم فان كان للذمي دار عالية فملك المسلم دارا الى جانبها أو بنى المسلم إلى جانب دار الذمي دارا دونها أو اشترى ذمي دارا عالية لمسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها لأنه لم يعل على المسلمين شيئا فان انهدمت داره العالية ثم جدد بناءها لم يجز تعليته على بناء المسلمين وإن انهدم ما علا منها لم تكن له اعادته وإن تشعث منه شيء ولم ينهدم فله رمه وإصلاحه لأنه ملك استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة

فصل : لا يجوز للمشركين سكنى الحجاز
فصل : ولا يجوز لأحد منهم سكنى الحجاز وبهذا قال مالك و الشافعي إلا أن مالكا قال أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ]
وروى أبو داود باسناده [ عن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
وعن ابن عباس قال : [ أوصى رسول الله صلى الله عليه وصلم بثلاثة أشياء : قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالث ] رواه أبو داود وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز
وقال الأصمعي و أبو عبيد : هي من ريف العراق إلى عدن طولا ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا وقال أبو عبيدة : هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى منقطع السماوة عرضا
قال الخليل : إنما قيل لها جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها
وقال أحمد : جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن
وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أخرجوا اليهود من الحجاز ] فأما إخراح أهل نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه و سلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز وإنما سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيماء وفيد ونحوهما لأن عمر لم يمنعهم من ذلك

صل : ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة
فصل : ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون الى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة فقال : أنا الشيخ النصراني وإن عاملك عشرني مرتين فقال عمر : وأنا الشيخ الحنيف وكتب له عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة ولا يأذن لهم في الاقامة أكثر من ثلاثة أيام على ما روي عن عمر رضي الله عنه ثم ينتقل عنه
وقال القاضي يقيم أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الإذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام وإذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لأنه يشق الانتقال على المريض وتجوز الإقامة لمن يمرضه لأنه لا يستغني عنه وإن كان له دين على أحد وكان حالا أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر وفاؤه لمطل أو تغيب عنه فينبغي أن يمكن من الإقامة ليستوفي دينه لأن التعدي من غيره وفي إخراجه ذهاب ماله وإن كان الدين مؤجلا لم يمكن من الإقامة ويوكل من يستوفيه له لأن التفريط منه وأن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته احتمل أن يجوز لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله وذلك مما يمنع من الدخول بالبضائع إلى الحجاء فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم ويحتمل أن يمنع من الإقامة لأن له من الإقامة بدا فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز ويقيم فيه أيضا ثلاثة أيام أو أربعة على الخلاف فيه وكذلك إذا انتقل منه إلى مكان آخر جاز ولو حصلت الإقامة في الجميع شهرا وإذا مات بالحجاز دفن به لأنه يشق نقله وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى

فصل : لا يجوز للمشركين دخول الحرم
فصل : فأما الحرم فليس لهم دخوله بحال وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لهم دخوله كالحجاز كله ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة والمنع من الاستيطان لا يمنع الدخول والتصرف كالحجاز
ولنا قول الله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } يريد ضررا بتأخير الجلب عن الحرم دون المسجد ويجوز تسمية الحرم المسجد الحرام بدليل قول الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } وإنما أسرى به من بيت أم هانىء من خارج المسجد ويخالف الحجاز لأن الله تعالى منع منه مع إذنه في الحجاز فان هذه الآية نزلت واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز ولم يمنعوا من الاقامة به وأول من أجلاهم عمر رضي الله عنه ولأن الحرم أشرف لتعلق النسك به ويحرم صيده وشجره والملتجىء اليه فلا يقاس غيره عليه فان أراد كافر الدخول اليه منع منه فان كانت معه ميرة أو تجارة خرج إليه من يشتري منه ولم يترك هو يدخل وان كان رسولا الى امام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته ويبلغها إياه فان قال : لا بد لي من لقاء الامام وكانت المصلحة في ذلك خرج اليه الامام ولم يأذن له في الدخول فان دخل الحرم عالما بالمنع عزر وان دخل جاهلا نهي وهدد فان مرض بالحرم أو مات أخرج ولم يدفن به لأن حرمة الحرم أعظم ويفارق الحجاز من وجهين :
أحدهما : ان دخوله إلى الحرم حرام واقامته به حرام بخلاف الحجاز والثاني أن خروجه من الحرم سهل ممكن لقرب الحل منه وخروجه من الحجاز في مرضه صعب ممتنع وان دفن نبش وأخرج إلا أن يصعب إخراجه لنتنه وتقطعه وان صالحهم الامام على دخول الحرم بعوض فالصلح باطل فان دخلوا الى الموضع الذي صالحهم عليه لم يرد عليهم العوض لأنهم قد استوفوا ما صالحهم عليه وان وصلوا إلى بعضه أخذ من العوض بقدره ويحتمل أن يرد عليهم بكل حال لأن ما استوفوه لا قيمة له والعقد لم يوجب العوض لكونه باطلا

فصل : لا يجوز للمشركين دخول مساجد الحل إلا بإذن المسلمين
فصل : فأما مساجد الحل فليس لهم دخولها بغير إذن المسلمين لأن عليا رضي الله عنه بصر بمجوسي وهو على المنبر وقد دخل المسجد فنزل وضربه وأخرجه من أبواب كندة فان اذن لهم في دخولها جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قدم عليه وفد أهل الطائف فأنزلهم من المسجد قبل اسلامهم وقال سعيد بن المسيب : قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن وهب فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه و سلم فيه ليفتك به فرزقه الله الاسلام
وفيه رواية اخرى : ليس لهم دخوله بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله فقال له عمر : ادع الذي كتبه ليقرأه قال : انه لا يدخل المسجد قال : ولم قال : انه نصراني وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقرره عندهم ولأن حدث الجنابة والحيض والنفاس يمنع المقام في المسجد فحدث الشرك اولى

فصل : أقسام المأخوذ في أحكام الذمة
فصل : والمأخوذ في أحكام الذمة ينقمس خمسة أقسام : أحدها ما لا يتم العقد الا بذكره وهو شيئان : التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فان أخل بذكر واحد منهما لم يصح العقد وفي معناهما ترك قتال المسلمين فانه وان لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه
القسم الثاني : ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وهو ثمانية خصال ذكرناها فيما تقدم
القسم الثالث : ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو دينهم أو رسولهم بسوء
القسم الرابع : ما فيه إظهار منكر وهو خمسة أشياء : إحداث البيع والكنائس ونحوها ورفع أصواتهم بكتبهم بين المسلمين واظهار الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعلية البنيان على أبنية المسلمين والاقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع ما في هذه الأقسام الثلاثة
القسم الخامس : التميز على المسلمين في أربعة أشياء : لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم أما لباسهم فهو أن يلبسوا ثوبا يخالف لونه لون سائر الثياب فعادة اليهود العسلي وعادة النصارى الأدكن وهو الفاختي ويكون هذا في ثوب واحد لا في جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانيا أو علامة أخرى إن لم يكن نصرانيا كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوته يخالف لونها لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد أو جلجل ليفرق بينه وبين المسلمين في الحمام ويلبس نساؤهم ثوبا ملونا وتشد الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها ولا يمنعون لبس فاخر الثياب ولا العمائم ولا الطيلسان لأن التمييز حصل بالغيار والزنار
وأما الشعور فانهم يحذفون مقاديم رؤوسهم ويجزون شعورهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق شعره
وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز ولهم ركوب ما سواها ولا يركبون السروج ويركبون عرضا رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال بإسناده أن عمر أمر بجز نواصي أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض ويمنعون تقلد السيوف وحمل السلاح واتخاذه وأما الكنى فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر وأبي الحسن وشبههما ولا يمنعون الكنى بالكلية فإن أحمد قال لطبيب نصراني : يا أبا إسحاق وقال : أليس النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل على سعد بن عبادة قال : [ أما ترى ما يقول أبو الحباب ] وقال لأسقف نجران : [ أسلم يا أبا الحارث ] وقال عمر لنصراني : يا أبا حسان أسلم تسلم

فصل : وجوب كتابة أحوال أهل الذمة
فصل : وإذا عقد معهم الذمة كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وعددهم وحلاهم ودينهم فيقول : فلان بن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج العين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد من الآخر ويجعل لكل عشرة عريفا يراعي من يبلغ منهم أو يفيق من جنون أو يقدم من غيبة أو يسلم أو يموت أو يغيب ويجبي جزيتهم فيكون ذلك أحوط لحفظ جزيتهم

فصل : حكم ما لو مات الإمام أو عزل
فصل : وإذا مات الامام أو عزل وولي غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة من كان قبله وكان عقدا صحيحا أقرهم عليه لأن الخلفاء أقروا عقد عمر ولم يجددوا عقدا سواه ولأن عقد الذمة مؤبد وإن كان فاسدا رده إلى الصحة وإن لم يعرف فشهد به مسلمان أو كان أمره ظاهرا عمل به وإن أشكل عليه سألهم فإن ادعوا العهد بما يصلح أن يكون جزية قبل قولهم وعمل به وإن شاء استحلفهم استظهارا فإن بان له بعد ذلك أنهم نقضوا من المشروط عليهم شيئا رجع بما نقضوا وإن قالوا : كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا وكذا هدية استحلفهم يمينا واحدة لأن الظاهر فيما يدفعونه أنه جزية واختار أبو الخطاب أنه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم لأن العقد الأول لم يثبت عنده فصار كالمعدوم

مسألة : من هرب من ذمة المسلمين إلى دار الحرب عاد حربيا
مسألة : قال : ومن هرب من ذمتنا الى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا
يعني يصير حكمه حكم أهل الحرب سواء كان رجلا او امرأة ومتى قدر عليه أبيح منه ما يباح من الحربي من القتل والاسترقاق وأخذ المال وإن هرب الذمي بأهله وذريته أبيح من البالغين منهم ما يباح من أهل الحرب ولم يبح سبي الذرية لأن النقض إنما وجد من البالغين دون الذرية

فصل : حكم ما لو نقضت طائفة من أهل الذمة العهد
فصل : وإن نقضت طائفة من أهل الذمة جاز غزوهم وقتلهم وإن نقض بعضهم دون بعض اختص حكم النقض بالناقض دون غيره وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز أن ينبذ إليهم عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم بدليل أن الامام تلزمه إجابتهم إليه بخلاف عقد الأمان والهدنة فانه لمصلحة المسلمين ولأن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة ولذلك إذا نقض بعض أهل الذمة العهد وسكت بعضهم لم يكن سكوتهم نقضا وفي عقد الهدنة يكون نقضا

فصل : تجب حماية أهل الذمة على المسلمين
فصل : واذا عقد الذمة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم ولهذا قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون اموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده : وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرا أن يوفي لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم

فصل : فصل : حكم ما لو تحاكم إلينا مسلم وذمي
فصل : واذا تحاكم إلينا مسلم مع ذمي وجب الحكم بينهم لأن عليا حفظ الذمي من ظلم المسلم وحفظ المسلم منه
وان تحاكم بعضهم مع بعض أو استعدى بعضهم على بعض خير الحاكم بين الحكم بينهم والاعراض عنهم لقول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فان حكم بينهم لم يحكم إلا بحكم الاسلام لقول الله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } واذا استعدت المرأة على زوجها في طلاق أو ظهار أو إيلاء فان شاء أعداها وإن شاء تركها لقول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فان أحضر زوجها حكم عليه بما يحكم على المسلم في مثل ذلك فان كان قد ظاهر منها منعه وطأها حتى يكفر وتكفيره بالاطعام وحده لأنه لا يملك رقبة مسلم ولا يملك شراءها ولا يصح منه الصيام

فصل : لا يجوز تمكين الذمي من شراء مصحف ولا حديث الرسول صلى الله عليه و سلم
فصل : ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا فقه فان فعل فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله قال مهنا : سألت احمد أبا عبد الله : هل تكره للرجل المسلم أن يعلم علاما مجوسيا شيئا من القرآن ؟ قال : ان أسلم فنعم وإلا فاكره ان يضع القرآن في غير موضعه قلت : فيعلمه أن يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة ؟ قال : لا نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن نسافر بالقرآن الى أرض العدو مخافة أن يناله العدو

فصل : لا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام
فصل : ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم احدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ انا غادون غدا فلا تبدأوهم بالسلام وان سلموا عليكم فقولوا : وعليكم ] أخرجه الامام احمد باسناده وباسناده عن أنس أنه قال : نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل الكتاب على : وعليكم قال أبو داود : قلت لأبي عبد الله : تكره أن يقول الرجل للذمي : كيف أصبحت ؟ أو كيف حالك ؟ أو كيف أنت ؟ أو نحو هذا ؟ قال : نعم هذا عندي أكثر من السلام
وقال أبو عبد الله : إذا لقيته في الطريق فلا توسع له وذلك بما تقدم من حديث أبي هريرة وروي عن ابن عمر أنه مر على رجل فسلم عليه فقيل : انه كافر فقال : رد علي ما سلمت عليك فرد عليه فقال : أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه فقال : أكثر للجزية وقال يعقوب بن بختان : سألت أبا عبد الله فقلت : نعامل اليهود والنصارى فنأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون أسلم عليهم ؟ قال : نعم تنوي السلام على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة فكرهه

فصل : فيما يذكره بعض أهل الذمة من أن الجزية لا تلزمهم
فصل : وما يذكر بعض أهل الذمة من أن الجزية لا تلزمهم وأن معهم كتابا من النبي صلى الله عليه و سلم باسقاطها عنهم لا يصح وسئل عن ذلك أبو العباس بن سريج فقال : ما نقل ذلك أحد من المسلمين وذكر انهم طولبوا بذلك فأخرجوا كنا ذكروا أنه بخط علي رضي الله عنه كتبه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيه شهادة سعد ين معاذ ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولأن قولهم غير مقبول ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته

فصلان : في معاملة أهل الذمة
فصل : قال ابو الخطاب : يمتهنون عند أخذ الجزية ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ذهب إلى قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقيل : الصغار التزامهم الجزية وجريان أحكامنا عليهم ولا يقبل منهم ارسالها بل يحضر الذمي بنفسه بها ويؤديها وهو قائم والآخذ جالس ولا يشتط عليهم في أخذها ولا يعذبون إذا أعسروا عن أدائها فان عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال أبو عبيد : وأحسبه من الجزية فقال : إني لأظنكم قد أهلكتم الناس قالوا : لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا قال : بلا صوت ولا بوط قالوا : نعم قال : الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني وقدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم فعلاه عمر بالدرة فقال سعيد : سبق سيلك مطرك إن تعاقب نصبر وان تعف نشكر وان تستعتب نعتب : فقال : ما على المسلم إلا هذا مالك تبطىء بالخراج ؟ قال : أمرتنا أن لا نزيد الفلاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكن نؤخرهم إلى غلاتهم قال عمر : لا عزلتك ما حييت رواهما أبو عبيد وقال : إنما وجه التأخير الى الغلة الرفق بهم قال : ولم نسمع في استيداء الخراج والجزية وقتا غير هذا واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على عكبرى فقال له على رؤوس الناس : لا تدعن لهم درهما من الخراج وشدد عليه القول ثم قال : القني عند انتصاف النهار فأتاه فقال : إني كنت أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا تبيعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف وارفق بهم وافعل بهم
فصل : قال أحمد في الرجل له المرأة النصرانية : لا يؤذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعة وله أن يمنعها ذلك وكذلك في الأمة قيل له : أله أن يمنعها شرب الخمر ؟ قال : يأمرها فان لم تقبل فليس له منعها قيل له : فان طلبت منه أن يشتري لها زنارا ؟ قال : لا يشتري لها زنارا تخرج هي تشتري لنفسها وسئل عن الذمي يعامل بالربا ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم وذلك المال في يده فقال : لا يلزمه أن يخرج منه شيئا لأن ذلك مضى في حال كفره فأشبه نكاحهم في الكفر إذا أسلم وسئل عن المجوسيين يجعلان ولدهما مسلما فيموت وهو ابن خمس سنين فقال : يدفن في مقابر المسلمين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فابواه يهودانه ويصرانه ويمجسانه ] يعني أن هذين لم يمجساه فيبقى على الفطرة وسئل أبو عبد الله عن أولاد المشركين فقال : اذهب إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله اعلم بما كانوا عاملين ] قال : وكان ابن عباس يقول : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ] حتى سمع : [ الله اعلم بما كانوا عاملين ] فترك قوله وسأله ابن الشافعي فقال : يا أبا عبد الله ذراري المشركين أو المسلمين ؟ فقال : هذه مسائل أهل الزيغ وقال أبو عبد الله : سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال : يا صبي أنت تسأل عن هذا ؟ قال أحمد : ونحن نمر هذه الاحاديث على ما جاءت ولا نقول شيئا وسئل عن أطفال المسلمين فقال : ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه : عصفور من عصافير الجنة قال : وهذا حديث ؟ وذكر فيه رجلا ضعفه طلحة وسئل عن الرجل يسلم بشرط أن لا يصلي إلا صلاتين فقال : يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس وقال : معنى حديث حكيم بن حزام - بايعت النبي صلى الله عليه و سلم على أن لا أخر إلا قائما - أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع قال : وحديث قتادة عن نصر بن عاصم أن رجلا منهم بايع النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي طرفي النهار

مسألة في إرسال الكلب المعلم وشروط إرسال الجارح
الأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وقال سبحانه : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال سبحانه : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وأما السنة [ فروى أبو ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله أنا بأرض صيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ماذا يصلح لي ؟ قال : أما ما ذكرت أنكم بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] [ وعن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله أنا نرسل الكلب المعلم فيمسك علينا قال : كل قلت وإن قتل ؟ قال : كل ما لم يشرك كلب غيره قال : وسئل رسول الله عن صيد المعراض فقال : ما خرق فكل وما قتل بعرضه فلا تأكل ] متفق عليهما وأجمع أهل العلم على إباحة الإصطياد والأكل من الصيد
مسألة : قال : وإذا سمى وأرسل كلبه أو فهده المعلم واصطاد وقتل ولم يأكل منه جاز أكله
أما ما أدرك ذكاته من الصيد فلا يشترط في إباحته سوى صحة التذكية ولذلك [ قال عليه السلام : وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] وأما ما قتل الجارح فيشترط في إباحته شروط سبعة
أحدهما : أن يكون الصائد من أهل الذكاة فإن كان وثنيا أو مرتدا أو مجوسيا أو من غير المسلمين وأهل الكتاب أو مجنونا لم يبح صيده لأن الإصطياد أقيم مقام الذكاة والجارح آلة كالسكين وعقره للحيوان بمنزلة افراء الأوداج [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : فإن أخذ الكلب ذكاته ] والصائد بمنزلة المذكي فتشترط الأهلية فيه
الشرط الثاني : أن يسمي عند إرسال الجارح فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي و أبي ثور و داود ونقل حنبل عن أحمد إن نسي التسمية على الذبيحة والكلب أبيح قال الخلال : سها حنبل في نقله فإن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل وممن اباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة و مالك ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] ولأن إرسال الجارحة جرى مجرى التذكية فعفي عن النسيان فيه كالذكاة وعن أحمد أن التسمية تشترط على إرسال الكلب في العمد والنسيان ولا يلزم ذلك في إرسال السهم إليه حقيقة وليس له اختيار فهو بمنزلة السكين بخلاف الحيوان فإنه يفعل بإختياره وقال الشافعي : يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا ل [ أن البراء روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم ] [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل فقيل أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله فقال اسم الله في قلب كل مسلم ] وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا
ولنا قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وقال : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل قلت أرسل كلبي فأخذ معه كلبا آخر ؟ قال : لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] متفق عليه وفي لفظ [ وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ] وفي حديث أبي ثعلبة : [ وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ] وهذه نصوص صحيحة لا يعرج على ما خالفها وقوله : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] يقتضي نفي الإثم لا جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل على ما لو نسي شرط الصلاة والفرق بين الصيد والذبيحة أن الذبح وقع في محله فجاز أن يتسامح فيه بخلاف الصيد فأما أحاديث أصحاب الشافعي فلم يذكرها أصحاب السنن المشهورة وإن صحت فهي في الذبيحة ولا يصح قياس الصيد عليها لما ذكرنا مع ما في الصيد من النصوص الخاصة إذا ثبت هذا فالتسمية المعتبرة قوله بسم الله لان إطلاق التسمية ينصرف إلى ذلك وقد ثبت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا ذبح قال : بسم الله والله أكبر ] وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف في أن قوله بسم الله يجزئه وإن قال اللهم اغفر لي لم يكف لأن ذلك طلب حاجة وإن هلل أو سبح أو كبر أو حمد الله تعالى احتمل الأجزاء لأنه ذكر اسم الله تعالى على وجه التعظيم واحتمل المنع لأن إطلاق التسمية لا يتناوله وإن ذكر اسم الله تعالى بغير العربية أجزأه وإن أحسن العربية لأن المقصود ذكر إسم الله وهو يحصل بجميع اللغات بخلاف التكبير في الصلاة فإن المقصود لفظه وتعتبر التسمية عند الإرسال لأنه الفعل الموجود من المرسل فتعتبر التسمية عنده كما تعتبر عند الذبح من الذابح وعند إرسال السهم من الرامي نص أحمد على هذا ولا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم مع التسمية في ذبح ولا صيد وبه قال الليث واختار أبو إسحاق بن شاقلا استحباب ذلك وهو قول الشافعي لقوله عليه السلام : [ من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ] وجاء في تفسير قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } لا أذكر إلا ذكرت معي
ولنا قوله عليه السلام : [ موطنان لا أذكر فيهما : عند الذبيحة والعطاس ] رواه أبو محمد الخلال بإسناده ولأنه إذا ذكر غير الله تعالى أشبه المهل لغير الله
الشرط الثالث : أن يرسل الجارحة على الصيد فإن استرسلت بنفسها فقتلت لم يبح وبهذا قال ربيعة و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء و الأوزاعي يؤكل صيده إذا أخرجه للصيد وقال إسحاق إذا سمى عند انفلاته أبيح صيده وروى بإسناده عن ابن عمر أنه سئل عن الكلاب تنفلت من مرابضها فتصيد الصيد قال اذكر اسم الله وكل وقال إسحاق فهذا الذي اختار إذا لم يتعمد هو إرساله من غير ذكر اسم الله عليه قال الخلال : هذا على معنى قول أبي عبدالله
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ] ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه وإن استرسل بنفسه فسمى صاحبه وزجره فزاد في عدوه أبيح صيده وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعية لا يباح وعن عطاء كالمذهبين
ولنا أن زجره أثر في عدوه فصار كما لو أرسله وذلك لأن فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره فالإعتبار بفعل الإنسان بدليل ما لو صال الكلب على إنسان فأغراه إنسان فالضمان على من أغراه وإن أرسله بغير تسمية ثم سمى وزجره فزاده في عدوه فظاهر كلام احمد أنه يباح فإنه قال إذا أرسل ثم سمى فانزجر أو أرسل وسمى فالمعنى قريب من السواء وظاهر هذا الإباحة لأنه انزجر بتسميتة وزجره فأشبه التي قبلها وقال القاضي لا يباح صيده لأن الحكم يتعلق بالإرسال الأول بخلاف ما إذا استرسل بنفسه فإنه لا يتعلق به حظر ولا إباحة
الشرط الرابع : أن يكون الجارح معلما ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط لأن الله تعالى قال : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } وما تقدم من حديث أبي ثعلبة ويعتبر في تعليمه ثلاثة شروط : إذا أرسله استرسل وإذا زجره أنزجر وإذا أمسك لم يأكل ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في حكم العرف وأقل ذلك ثلاث قاله القاضي وهو قول أبي يوسف و محمد ولم يقدر أصحاب الشافعي عدد المرات لأن التقدير بالتوقيف ولا توقيف في هذا بل قدره بما يصير به في العرف معلما وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا تكرر مرتين صار معلما لأن التكرار يحصل بمرتين وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب يحصل ذلك بمرة ولا يعتبر التكرار لأنه تعلم صنعة فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع
ولنا أن تركه للأكل يحتمل أن يكون لشبع ويحتمل أنه لتعلم فلا يتميز ذلك إلا بالتكرار وما اعتبر فيه التكرار عتبر ثلاثا كالمسح في الإستجمار وعدد الإقرار والشهود في العدة والغسلات في الوضوء ويفارق الصنائع فإنها لا يتمكن من فعلها إلا من تعلمها فإذا فعلها علم أنه قد تعلمها وعرفها وترك الأكل ممكن الوجود من المتعلم وغيره ويوجد من الصنفين جميعا فلا يتميز به إحداهما من الآخر حتى يتكرر وحكي عن ربيعة و مالك أنه لا يعتبر ترك الأكل ما روي أبو ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل ] ذكره الإمام أحمد ورواه أبو داود
ولنا أن العادة في المعلم ترك الأكل فاعتبر شرطا كالإنزجار إذا زجر وحديث أبي ثعلبة معارض بما [ روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] وهذا أولى بالتقديم لأنه متفقه عليه ولأنه متضمن للزيادة وهو ذكر الحكم معللا ثم أن حديث أبي ثعلبة محمول على جارحه ثبت تعليمها لقوله : [ إذا أرسلت كلبك المعلم ] ولا يثبت التعليم حتى يترك الأكل إذا ثبت هذا فإن الإنزجار بالزجر إنما يعتبر بإرساله على الصيد أو رؤيته أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال
الشرط الخامس : أن لا يأكل من الصيد فإن أكل منه لم يبح في أصح الروايتين ويروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وبه قال عطاء و طاوس و عبيد بن عمير و الشعبي و النخعي و سويد بن غفلة و أبو بردة و سعيد بن جبير و عكرمة و الضحاك و قتادة و إسحاق و أبو حنيفة و أصحابه و أبو ثور والرواية الثانية : يباح وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وسلمان وأبي هريرة وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد وبه قال مالك و لـ لشافعي قولان كالمذهبين واحتج من أباحه بعموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وحديث أبي ثعلبة ولأنه صيد جارح معلم فأبيح كما لو لم يأكل فإن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عدي بن حاتم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك قلت وإن قتل قال : وإن قتل إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] متفق عليه ولأن ما كان شرطا في الصيد الأول كان شرطا في سائر صيوده كالإرسال والتعليم وأما الآية فلا تتناول هذا الصيد فإنه قال : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهذا إنما أمسك على نفسه وأما حديث أبي ثعلبة فقد قال أحمد يختلفون عن هشيم فيه وعلى أن حديثنا أصح لأنه متفق عليه وعدي بن حاتم أضبط ولفظه أبين لأنه ذكر الحكم والعلة قال أحمد حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم و الشعبي يقول : كان جاري وربيطي فحدثني والعمل عليه ويحتمل أنه أكل منه بعد أن قتله وانصرف عنه وإذا ثبت هذا فإنه لا يحرم ما تقدم من صيوده في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يحرم لأنه لو كان معلما ما أكل
ولنا عموم الآية والأخبار وإنما خص منه ما أكل منه ففيما عداه يجب القضاء بالعموم ولأن إجتماع شروط التعليم حاصلة فوجب الحكم به ولهذا حكمنا بحل صيده فإذا وجد الأكل احتمل أن يكون لنسيان أو لفرط جوعه أو نسي التعليم فلا يترك ما يثبت يقينا بالإحتمال

فصل إن شرب الكلب دم الصيد ولم يأكل من لم يحرم
فإن شرب دمه ولم يأكل منه لم يحرم نص عليه أحمد وبه قال عطاء و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وكرهه الشعبي و الثوري لأنه في معنى الأكل
ولنا عموم الآية والأخبار وإنما خرج منه ما أكل منه بحديث عدي : [ فإن أكل منه فلا تأكل ] وهذا لم يأكل ولأن الدم لا يقصده الصائد منه ولا ينتفع به فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكا على صائده

فصل لا يحرم ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه
ولا يحرم ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه ويحتمل كلام الخرقي أنه يخرج عن أن يكون معلما فتعتبر له شروط التعليم ابتداء والأول لما ذكرنا في صيده الذي قبل الأكل
الشرط السادس : أن يجرح الصيد فإن خنقه أو قتله بصدمته لم يبح قال الشريف وبه قال أكثرهم وقال الشافعي في قول له يباح لعموم الآية والخبر
ولنا أنه قتله بغير جرح أشبه ما قتله بالحجر والبندق ولأن الله تعالى حرم الموقوذة وهذا كذلك وهذا يخص ما ذكروه وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ] يدل على أنه لا يباح ما لم ينهر الدم
الشرط السابع : أن يرسله على صيد فإن أرسله وهو لا يرى شيئا ولا يحس به فأصاب صيدا لم يبح هذا قول أكثر أهل العلم لأنه لم يرسله على الصيد وإنما استرسل بنفسه وهكذا إن رمى سهما إلى غرض فأصاب صيدا أو رمى به إلى فوق رأسه فوقع على صيد فقتله لم يبح لأنه لم يقصد برميه عينا فأشبه من نصب سكينا فانذبحت بها شاة

فصل كل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به فحكمه حكم الكلب
وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده قال ابن عباس في قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } هي الكلاب المعلمة وكل طير تعلم الصيد والفهود والصقور وأشباهها وبمعنى هذا قال طاوس و يحيى بن أبي كثير و الحسن و مالك و الثوري و ابو جنيفة و محمد بن الحسن و الشافعي و أبو ثور وحكي عن ابن عمر و مجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب لقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } يعني كلبتم من الكلاب
ولنا ما [ روي عن عدي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيد البازي فقال : إذا أمسك عليك فكل ] ولأنه جارح يصاد به عادة ويقبل التعليم فأشبه الكلب فأما الآية فإن الجوارح الكواسب { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي كسبتم وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ( مكلبين ) من التكليب وهو الإغراء

فصل هل يجب غسل أثر فم الكلب من الصيد ؟ فيه وجهان
وهل يجب غسل أثر فم الكلب من الصيد ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يجب لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله ولم يأمرا بغسله والثاني : يجب لأنه قد ثبتت نجاسته فيجب غسل ما أصابه كبوله

مسألة إذا أرسل البازي وما اشبهه فصاد وقتل أكل وإن أكل من الصيد لأنه تعليمه بأن يأكل
مسألة : قال : وإذا أرسل البازي وما أشبهه فصاد وقتل أكل وإن أكل من الصيد لأن تعليمه بأن يأكل
وجملته أنه يشترط في الصيد بالبازي ما يشترط في الصيد بالكلب إلا ترك الأكل فلا يشترط ويباح صيده وإن أكل منه وبهذا قال ابن عباس وإليه ذهب النخعي و حماد و الثوري و أبو حنيفة وأصحابه ونص الشافعي على أنه كالكلب في تحريم ما أكل منه من صيده لأن مجالدا روى عن الشعبي [ عن عدي بن حاتم عن البي صلى الله عليه و سلم : فإن أكل الكلب والبازي فلا تأكل ] ولأنه جارح أكل مما صاده عقيب قتله فأشبه سباع البهائم
ولنا إجماع الصحابة روى الخلال بإسناده عن ابن عباس قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل من الصيد وإذا أكل الصقر فكل لأنك تستطيع أن تضرب الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر وقد ذكرنا عن أربعة من الصحابة أباحة ما أكل منه الكلب وخالفهم ابن عباس فيه ووافقهم في الصقر ولم ينقل عن أحد في عصرهم خلافهم ولأن جوارح الطير تعلم بالأكل ويتعذر تعليمها بترك الأكل فلم يقدح في تعليمها بخلاف الكلب والفهد وأما الخبر فلا يصح يرويه مجالد وهو ضعيف قال أحمد مجالد يصير القصة واحدة كم من أعجوبة لمجالد والروايات الصحيحة تخالفه ولا يصح قياس الطير على السباع لما بينهما من الفرق فإذا ثبت هذا فكل جارح من الطير أمكن تعليمه والاصطياد به من البازي والصقر والشاهين والعقاب حل صيدها على ما ذكرناه

مسألة ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما لأنه شيطان
مسألة : قال : ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما لأنه شيطان
البهيم الذي لا يخالط لون لون سواه قال أحمد الذي ليس فيه بياض قال ثعلب وإبراهيم الحربي : كل لون لم يخالطه لون آخر بهيم قيل لهما من كل لون ؟ قالا نعم وممن كره صيده الحسن و النخعي و قتادة و إسحاق وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه يعني من السلف وأباح صيده أبو حنيفة و مالك و الشافعي لعموم الآية والخبر والقياس على غيره من الكلاب
ولنا أنه كلب يحرم اقتناؤه ويجب قتله فلم يبح صيده كغير المعلم ودليل تحريم اقتنائه [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : فاقتلوا منها كل أسود بهيم ] رواه سعيد وغيره
وروى مسلم في صحيحه بإسناده [ عن عبد الله بن المغفل قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها فقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النكتتين فإنه شيطان ] فأمر بقتله وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه فلم يبح صيده لغير المعلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم سماه شيطانا ولا يجوز اقتناء الشيطان وإباحة الصيد المقتول رخصة فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص والعمومات مخصوصة بما ذكرناه وإن كان فيه نكتتان فوق عينيه لم يخرج بذلك عن كونه نهيا لما ذكرناه من الخبر

مسألة حكم ما إذا أدرك الصيد وفيه روح
مسألة : قال : وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل
يعني والله أعلم ما كان فيه حياة مستقرة فأما ما كانت حياته المذبوح فهذا يباح من غير ذبح في قولهم جميعا فإن الذكاة في مثل هذا لا تفيد شيئا وكذلك لو ذبحه مجوسي ثم أعاد ذبحه مسلم لم يحل فأما ان أدركه وفيه حياة مستقرة فلم يذبحه حتى مات نظرت فإن لم يتسع الزمان لذكاته حتى مات حل أيضا
قال قتادة يأكله ما لم يتوان في ذكاته أو يتركه عمدا وهو قادر على أن يذكيه ونحوه قول مالك و الشافعي وروي عن الحسن و النخعي وقال ابو حنيفة لا يحل لأنه أدركه حيا حياة مستقرة فتعلقت إباحته بتذكيته كما لو اتسع الزمان
ولنا أنه لم يقدر على ذكاته بوجه ينسب فيه إلى التفريط ولم يتسع لها الزمان فكان عقره ذكاته كالذي قتله ويفارق ما قاسوا عليه لأنه أمكنه ذكاته وفرط بتركها ولو أدركه وفيه حياة مستقرة يعيش بها طويلا وأمكنته ذكاته فلم يدركه حتى مات لم يبح سواء كان به جرح يعيش معه أو لا وبه قال مالك و الليث و الشافعي و إسحاق و ابو ثور وأصحاب الرأي لأن ما كان كذلك فهو في حكم الحي بدليل أن عمر رضي الله عنه كانت جراحاته موحية فأوصى وأجيزت وصاياه وأقواله في تلك الحال ولا سقطت عنه الصلاة والعبادات ولأنه ترك تذكيته مع القدرة عليها فأشبه غير الصيد

مسألة فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل
مسألة : قال : فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل
يعني أغرى الكلب به وأرسله عليه ومعنى أشلى في العربية دعا إلا أن العامة تستعمله بمعنى اغراه ويحتمل أن الخرقي أراد دعاه ثم أرسله لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه واختلف قول أحمد في هذه المسألة فعنه مثل قول الخرقي وهو قول الحسن و إبراهيم وقال في موضع : إني لأقشعر من هذا يعني أنه لا يراه وهو قول أكثر أهل العلم لأنه مقدور عليه فلم يبح بقتل الجارح له كبهيمة الأنعام وكما لو أخذه سليما ووجه الأولى أنه صيد قتله الجارح له من غير إمكان ذكاته فأبيح كما لو أدركه ميتا ولأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالبا فجاز أن تكون ذكاته على حسب الإمكان كالمتردية في بئر وحكي عن القاضي أنه قال في هذا يتركه حتى يموت فيحل لأنه صيد تعذرت تذكيته فأبيح بموته من عقر الصائد له كالذي تعذرت تذكيته لقلة لبته والأول أصح لأنه حيوان لا يباح بغير التذكية إذا كان معه آلة الذكاة فلم يبح بغيرها إذا لم يكن معه آلة كسائر المقدور على تذكيته ومسألة الخرقي محمولة على ما يخاف موته إن لم يقتله الحيوان أو يذكى فإن كان به حياة يمكن بقاؤه إلى أن يأتي به منزله فليس فيه اختلاف أنه لا يباح إلا بالذكاة لأنه مقدور على تذكيته

مسألة حكم ما إذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره
مسألة : قال : وإذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره لم يؤكل إلا أن يدرك في الحياة فيذكى
معنى المسألة أن يرسل كلبه على صيد فيجد الصيد ميتا ويجد مع كلبه كلبا لا يعرف حاله ولا يدري هل وجدت فيه شرائط صيده أو لا ولا يعلم أيهما قتله ؟ أو يعلم أنهما جميعا قتلاه أو ان قاتله الكلب المجهول فإنه لا يباح إلا أن يدركه حيا فيذكيه وبهذا قال عطاء و القاسم بن مخيمرة و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا والأصل فيه ما [ روى عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر قال : لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] وفي لفظ : [ فإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فخشيت أن يكون أخذ معه وقد قتله فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ] وفي لفظ : [ فإنك لا تدري أيهما قتل ؟ ] أخرجه البخاري ولأنه شك في الإصطياد المبيح فوجب أبقاء حكم التحريم فأما إن علم أن كلبه الذي قتل وحده أو أن الكلب الآخر مما يباح صيده أبيح بدلالة تعليل تحريمه [ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] وقوله : [ فإنك لا تدري أيهما قتل ] ولأنه لم يشك في المبيح فلم يحرم كما لو كان لو كان هو أرسل الكلبين وسمى ولو جهل حال الكلب المشارك لكبله ثم انكشف له أنه مسمى عليه مجتمعة فيه الشرائط حل الصيد ولو اعتقد حله لجهله بمشاركة الآخر له أو لاعتقاده أنه كلب مسمى عليه ثم بإن بخلافه حرم لأن حقيقة الإباحة والتحريم لا تتغير بإعتقاده خلافها ولا الجهل بوجودها

فصلان
فصل : وإن أرسل كلبه فأرسل مجوسي كلبه فقتلا صيدا لم يحل لأن صيد المجوسي حرام فإذا اجتمع الحظر والإباحة غلب الحظر كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل ولأن الأصل الحظر والحل موقوف على شرط وهو تذكية من هو من أهل الذكاة أو صيده الذي حصلت التذكية به ولم يتحقق ذلك وكذلك إن رمياه بسهميهما فاصاباه فمات ولا فرق بين أن يقع سهماهما فيه دفعة واحدة أو يقع أحدهما قبل الآخر إلا أن يكون الأول قد عقره عقرا موحيا مثل أن ذبحه أو جعله في حكم المذبوح ثم أصابه الثاني وهو غير مذبوح فيكون الحكم للأول فإن كان الأول المسلم أبيح وإن كان المجوسي لم يبح وإن كان الثاني موحبا ايضا فقال أكثر أصحابنا الحكم للأول أيضا لأن الإباحة حصلت به فأشبه ما لو كان الثاني غير موح ويجيء على قول الخرقي أنه لا يباح لقوله وإذا دبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطىء عليها شيء لم تؤكل ولأن الروح خرجت بالجرحين فأشبه ما لو جرحاه معا وإن كان الأول ليس بموح والثاني موح فالحكم للثاني في الحظر والإباحة وإن أرسل المسلم والمجوسي كلبا واحدا فقتل صيدا لم يبح لذلك وكذلك لو أرسله مسلمان وسمى أحدهما دون الآخر وكذلك لو أرسل المسلم كلبين أحدهما معلم والآخر غير معلم فقتلا صيدا لم يحل وكذلك أن أرسل كلبه المعلم فاسترسل معه معلم آخر بنفسه فقتلا الصيد لم يحل في قول أكثر العلم منهم ربيعة و مالك و الشافعي و ابو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي يحل ههنا
ولنا أن إرسال الكلب على الصيد شرط لما بيناه ولم يوجد في أحدهما
فصل : فإن ارسل مسلم كلبه وأرسل مجوسي كلبه المجوسي الصيد إلى كلب المسلم فقتله حل أكله وهذا قول الشافعي و ابي ثور وقال أبو حنيفة : لا يحل لأن كلب المجوسي عاون في اصطياده فأشبه إذا عقره
ولنا أن جارحة المسلم انفردت بقتله فأبيح كما لو رمى المجوسي سهمه فرد الصيد فأصابه سهم مسلم فقتله أو امسك مجوسي شاة فذبحها مسلم وبهذا يبطل ما قاله

فصل حكم ما إذا أصاب المجوسي بكلب مسلم
وإذا صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح صيده في قولهم جميعا وإن صاد المسلم بكلب المجوسي فقتل حل صيده وبهذا قال سعيد بن المسيب و الحكم و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد لا يباح وكرهه جابر و الحسن و مجاهد و النخعي و الثوري لقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } وهذا لم يعلمه وعن الحسن أنه كره الصيد اليهودي والنصراني لهذه الآية
ولنا أنه آلة صاد بها المسلم فحل صيده كالقوس والسهم قال ابن المسيب هي بمنزلة شفرته والآية دلت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا فهو في معناه فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم وإنما تشترط فيما أقيم مقام الذكاة وهو إرسال الآلة من الكلب والسهم وقد وجد الشرط ههنا

فصل وإذا أرسل جماعة كلابا وسموا فوجدوا الصيد قتيلا لا يدرون من قتله حل أكله
وإذا أرسل جماعة كلابا وسموا فوجدوا الصيد قتيلا لا يدرون من قتله حل أكله فإن اختلفوا في قاتله وكانت الكلاب متعلقة به فهو بينهم على السواء لأن الجميع مشتركة في إمساكه فأشبه ما لو كان في أيدي الصيادين أو عبيدهم وإن كان البعض متعلقا به دون باقيها فهو لمن كلبه متعلق به وعلى من حكمنا له به اليمين في المسألتين لأن دعواه محتملة فكانت اليمين عليه كصاحب اليد وإن كان قتيلا والكلاب ناحية وقف الأمر حتى يصطلحوا ويحتمل أن يقرع بينهم فمن قرع صاحبه حلف وكان له وهذا قول أبي ثور قياسا على ما لو تداعيا دابة في يد غيرهما وعلى الأول إذا خيف فساده قبل اصطلاحهم عليه باعوه ثم اصطلحوا على ثمنه

مسألة إذا سمى ورمى صيدا فاصابت غيره جاز أكله
مسألة : قال : وإذا سمى ورمى صيدا فأصابت غيره جاز أكله
وجملة ذلك الأمر أن الصيد بالسهام وكل محدد جائز بلا خلاف وهو داخل في مطلق قوله تعالى : { فاصطادوا } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ] [ وعن أبي قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وأخذ رمحه ثم شد على الحمار فقتله فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه و سلم سألوه عن ذلك فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله ] متفق عليه ويعتبر فيه من الشروط ما ذكرنا في الجارح إلا التعليم وتعتبر التسمية عند ارسال السهم والطعن إن كان برمح والضرب إن كان مما يضرب لأنه الفعل الصادر منه وإن تقدمت التسمية بزمن يسير جاز كما ذكرنا في النية في العبادات ويعتبر أن يقصد الصيد فلو رمى هدفا فأصاب صيدا أو قصد رمي إنسان أو حجر أو رمى عبثا غير قاصد صيدا فقتله لم يحل وإن قصد صيدا فأصابه وغيره حلا جميعا والجارح في هذا بمنزلة السهم نص أحمد على هذه المسائل وهو قول الثوري و قتادة و ابي حنيفة و الشافعي إلا أن الشافعي قال : إذا أرسل الكلب على صيد فأخذ آخر في طريقه حل وإن عدل عن طريقه إليه ففيه روايتان ؟ وقال مالك إذا أرسل كلبه على صيد بعينه فأخذه غيره لم يبح لأنه لم يقصد صيده إلا أن يرسله على صيود كبار فتتفرق عن صغار فإنها تباح إذا أخذها
ولنا عموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وقوله عليه السلام : [ إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى عليه فكل مما أمسك عليك ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل ما ردت عليك قوسك ] ولأنه أرسل آلة الصيد على صيد فحل ما صاده كما لو أرسلها على كبار فتفرقت عن صغار فأخذها على مالك أو كما لو أخذ صيدا في طريقه على الشافعي ولأنه لا يمكن تعليم الجارح اصطياد واحد بعينه دون واحد فسقط اعتباره فأما أن أرسل سهمه أو الجارح ولا يرى صيدا ولا يعلمه فصاد لم يحل صيده لأنه لم يقصد صيدا لأن القصد لا يتحقق لما لا يعلمه وبهذا قال الشافعي في الكلب وقال الحسن ومعاوية بن قرة يأكله لعموم الآية والخبر ولأنه قصد الصيد فحل له ما صاده كما لو رآه
ولنا أن قصد الصيد شرط ولا يصح العقد مع عدم العلم فأشبه ما لو لم يقصد الصيد

فصل حكم ما لو رأى سوادا فظنه آدميا فإذا هو صيد
وإن رأى سوادا أو سمع حسا فظنه آدميا أو بهيمة أو حجرا فرماه فقتله فإذا هو صيد لم يبح وبهذا قال مالك و محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة يباح وقال الشافعي يباح إن كان المرسل سهما ولا يباح إن كان جارحا واحتج من أباحه بعموم الآية والخبر ولأنه قصد الإصطياد وسمى فأشبه ما لو علمه صيدا
ولنا أنه لم يقصد الصيد فلم يبح كما لو رمى هدفا فأصاب صيدا وكما في الجارح عند الشافعي وإن ظنه كلبا أو خنزيرا لم يبح لذلك وقال محمد بن الحسن : يباح لأنه مما قتله
ولنا ما تقدم فأما أن ظنه صيدا حل لأنه ظن وجود الصيد أشبه ما لو رآه وإن شك هل هو صيد أو لا ؟ أو غلب على ظنه أنه ليس بصيد لم يبح لأن صحة القصد تنبني على العلم ولم يوجد ذلك وإن رمى حجرا يظنه صيدا فقتل صيدا فقال أبو الخطاب : لا يباح لأنه لم يقصد صيدا على الحقيقة ويحتمل أن يباح لأن صحة القصد تنبني على الظن وقد وجد فصح فينبغي أن يحل صيده

مسألة حكم ما لو رمى الصيد فغاب عن عينيه فوجده ميتا وسهمه فيه
مسألة : قال : وإذا رمى فغاب عن عينيه فوجده ميتا وسهمه فيه لا أثر به غيره حل أكله
هذا هو المشهور عن أحمد وكذلك لو أرسل كلبه على صيد فغاب عن عينه ثم وجده ميتا ومعه كلبه حل وهذا قول الحسن و قتادة وعن أحمد غاب نهارا فلا بأس وإن غاب ليلا لم يأكله وعن مالك كالروايتين وعن أحمد ما يدل على أنه إن غاب مدة طويلة لم يبح وإن كانت يسيرة لأنه قيل له إن غاب يوما قال يوم كثير ووجه ذلك قول ابن عباس : إذا رميت فأقعصت فكل وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل وإن بات عنك ليلة فلا تأكل فإنك لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك وكره عطاء و الثوري أكل ما غاب وعن أحمد مثل ذلك و لـ لشافعي فيه قولان لأن ابن عباس قال : كل ما أصميت وما أنميت فلا تأكل قال الحكم الأصماء الأقعاص يعني أنه يموت في الحال والإنماء أن يغيب عنك يعني أنه لا يموت في الحال
قال الشاعر :
( فهو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره )
وقال أبو حنيفة يباح إن لم يكن ترك طلبه وإن تشاغل عنه ثم وجده لم يبح
ولنا ما روى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ] متفق عليه و [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أفتني في سهمين قال : ما رد عليك سهمك فكل قال وإن تغيب عني ؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك أو تجده قد صل ] رواه أبو داود و [ عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث وسهمك فيه فكله ما لم ينتن ] ولأن جرحه بسهمه سبب إباحته وقد وجد يقينا والمعارض له مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك ولأنه وجده وسهمه فيه ولم يجد به أثرا آخر فأشبه ما لو لم يترك طلبه عند أبي حنيفة أو كما لو غاب نهارا أو مدة يسيرة أو كما لو لم تغب إذا ثبت هذا فإنه يشترط في حله شرطان :
أحدهما : أن يجد سهمه فيه أو أثره ويعلم أنه أثر سهمه لأنه إذا لم يكن كذلك فهو شاك في وجود المبيح فلا يثبت بالشك
والثاني : أن لا يجد به أثرا غير سهمه مما يحتمل أنه قتله ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك ] وفي لفظ : [ وإن وجدت فيه أثرا غير سهمك فلا تأكله فإنك لا تدري اقتلته أنت أو غيرك ] رواه الدار قطني وفي لفظ : [ إذا وجدت فيه سهمك ولم يأكل منه سبع فكل منه ] رواه النسائي وفي حديث عدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل ] رواه البخاري وقال عليه السلام : [ وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ] ولأنه إذا كان به أثر يصلح أن يكون قد قتله فقد تحقق المعارض فلم يبح كما لو وجد مع كلبه كلبا سواه فأما إن كان الأثر مما يقتل مثله مثل أكل حيوان ضعيف كالسنور والثعلب من حيوان قوي فهو مباح لأنه يعلم أن هذا لم يقتله فأشبه ما لو تهشم من وقعته

مسألة حكم ما لو رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل
مسألة : قال : وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل
يعني وقع في ماء يقتله أو تردى ترديا يقتله مثله ولا فرق في قول الخرقي بين كون الجراحة موحية أو غير موحية هذ المشهور عن أحمد وظاهر قول ابن مسعود و عطاء و ربيعة و إسحاق وأصحاب الرأي وأكثر أصحابنا المتأخرين يقولون إن كانت الجراحة موحية مثل أن ذبحه أو أبان حشوته لم يضر وقوعه في الماء ولا ترديه وهو قول الشافعي و مالك و الليث و قتادة و أبي ثور لأن هذا صار في حكم الميت بالذبح فلا يؤثر فيه ما أصابه ووجه الأول قوله : [ وإن وقع في الماء فلا تأكل ] ولأنه يحتمل أن الماء أعان على خروج روحه فصار بمنزلة ما لو كانت الجراحة غير موحية ولا خلاف في تحريمه إذا كانت الجراحة غير موحية ولو وقع الحيوان في الماء على وجه يقتله مثل أن يكون رأسه خارجا من الماء أو يكون من طير الماء الذي لا يقتله الماء أو كان التردي لا يقتل مثل ذلك الحيوان فلا خلاف في إباحته لأن النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله ] ولأن الوقوع في لماء والتردي إنما حرم خشية أن يكون قاتلا أو معينا على القتل وهذا منتف فيما ذكرناه

فصل حكم ما لو رمى طائرا في الهواء
فإن رمى طائرا في الهواء أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حل وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي قال مالك لا يحل إلا أن تكون الجراحة موحية أو يموت قبل سقوطه لقوله تعالى : { والمتردية } ولأنه اجتمع المبيح والحاضر فغلب الحظر كما لو غرق
ولنا أنه صيد سقط بالإصابة سقوطا لا يمكن الإحتراز عن سقوطه عليه فوجب أن يحل كما لو أصاب الصيد فوقع على جنبه ويخالف ما ذكروه فإن الماء يمكن التحرز منه وهو قاتل بخلاف الأرض

مسألة إذا رمى صيدا فقتل جماعة فكله حلال
مسألة : قال : وإذا رمى صيدا فقتل جماعة فكله حلال
قد سبق شرح هذه المسألة فيما إذا رمى صيدا فأصاب غيره

فصل حكم الصيد بالليل
قال أحمد لا بأس بصيد الليل فقيل له [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أقروا الطير على وكناتها ] فقال هذا كان أحدكم يريد الأمر فيثير الطير حتى يتفاءل أن كان عن يمينه قال كذا وإن جاء عن يساره قال كذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقروا الطير على وكناتها ] وروي له [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تطرقوا الطير في أوكارها فإن الليل لها أمان ] فقال هذا ليس بشيء يرويه فرات بن السائب وليس بشيء ورواه عنه حفص بن عمر ولا أعرفه قال يزيد بن هارون وما علمت أن أحدا كره صيد الليل وقال يحيى بن معين ليس به بأس وسئل هل يكره لرجل صيد الفراخ الصغار مثل الورشان وغيره يعني من أوكارها ؟ فلم يكرهه

مسألة حكم لو رمى صيدا فأبان منه عضوا
مسألة : قال وإذا رمى صيدا فأبان منه عضوا لم يؤكل ما أبان منه ويؤكل ما سواه في إحدى الروايتين والأخرى يأكله وما أبان منه
وجملته أنه إذا رمى صيدا أو ضربه فبان بعضه لم يخل من أحوال ثلاثة
أحدهما : أن يقطعه قطعتين رأسه فهذا جميعه حلال سواء كانت القطعتان متساويتين أو متفاوتتين وبهذا قال الشافعي وروي ذلك عن عكرمة و النخعي و قتادة وقال أبو حنيفة أن كانتا متساويتين أو التي مع الرأس أقل حلتا وإن كانت الأخرى أقل لم يحل وحل الرأس وما معه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أبين من حي فهو ميت ] ولنا أنه جزء لا تبقى الحياة مع فقده فأبيح كما لو تساوت القطعتان
الحال الثاني : أن يبين منه عضوا وتبقى فيه حياة مستقرة فالبائن محرم بكل سواء بقي الحيوان حيا أو أدركه فذكاه أو رماه بسهم آخر فقتله إلا أنه ذكاه حل بكل حال دون ما أبان منه وإن ضربه في غير مذبحه فقتله نظرت فإن لم يكن أثبته بالضربة الأولى حل دون ما أبان منه وإن كان أثبته لم يحل شيء منه لأن ذكاة المقدور عليه في الحلق واللبة
الحال الثالث : أبان منه عضوا ولم تبق فيه حياة مستقرة فهذه التي ذكر الخرقي فيها روايتين أشهرهما عن أحمد إباحتهما قال أحمد أنما حديث النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما قطعت من الحي ميتة إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب ] أما إذا كانت البينونة والموت جميعا أو بعده بقليل إذا كان في علاج الموت فلا بأس به ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة وربما مشى حتى يموت ؟ وهذا مذهب الشافعي وروي ذلك عن علي و عطاء و الحسن وقال قتادة وإبراهيم وعكرمة أن وقعا معا أكلهما وإن مشى بعد قطع العضو أكله ولم يأكل العضو
والرواية الثانية : لا يباح ما بان منه وهذا مذهب أبي حنيفة لقول النبي صلىالله عليه وسلم : [ ما أبين من حي فهو ميت ] ولأن هذه البينونة لا تمنع بقاء الحيوان في العادة فلم يبح أكل البائن كما لو أدركه الصياد وفيه حياة مستقرة والأولى المشهورة لأن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجميعه كما لو قده نصفين والخبر يقتضي أن يكون الباقي حيا حتى يكون المنفصل منه ميتا وكذا نقول قال أبو الخطاب فإن بقي معلقا بجلده حل رواية واحدة

فصل حكم الطريدة
قال أحمد حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن أنه كان لا يرى بالطريدة بأسا كان المسلمون يفعلون ذلك في مغازيهم وما زال الناس يفعلونه في مغازيهم واستحسنه ابو عبد الله قال والطريدة الصيد يقع بين القوم فيقطع ذا منه بسيفه قطعة ويقطع الآخر أيضا حتى يؤتى عليه وهو حي قال وليس هو عندي إلا أن الصيد يقع بينهم لا يقدرون على ذكاته فيأخذونه قطعا

مسألة وفصل حكم نصب المناجل وحكم ما قتلته الشبكة
مسألة : قال : وكذلك إذا نصب المناجل للصيد
وجملته أنه إذا نصب المناجل للصيد فعقرت صيدا أو قتلته حل فإن أبان منه عضوا فحكمه حكم البائن بضربة الصائد روي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول الحسن و قتادة وقال الشافعي لا يباح بحال لأنه لم يذكه أحد وإنما قتلت المناجل بنفسها ولم يوجد من الصائد إلا السبب فجرى ذلك مجرى من نصب سكينا فذبحت شاة ولأنه لو رمى سهما وهو لا يرى صيدا فقتل صيدا لم يحل فهذا أولى
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : كل ما ردت عليك يدك ] ولأنه قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد فأشبه ما لو رماه بها ولأنه قصد قتل الصيد بما له حد جرت العادة بالصيد به أشبه ما ذكرنا والسبب جرى مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في إباحة الصيد وفارق ما إذا نصب سكينا فإن العادة لم تجر بالصيد بها وإذا رمى سهما ولم ير صيدا فليس ذلك بمعتاد والظاهر أنه لا يصيب صيدا فلم يصح قصده وهذا بخلافه
فصل : فأما ما قتلته الشبكة أو الحبل فهو محرم ولانعلم فيه خلافا إلا عن الحسن أنه يباح ما قتله الحبل إذا سمى فدخل فيه وجرحه وهذا قول شاذ يخالف عوام أهل العلم ولأنه قتله بما ليس له حد أشبه ما لو قتله بالبندق

مسألة وفصل حكم ما صيد بالمعراض وحكم سائر آلات الصيد
مسألة : قال : وإذا صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده ولا يأكل ما قتل بعرضه
المعراض عود محدد وربما جعل في رأسه حديدة قال أحمد المعراض يشبه السهم يحذف به الصيد فربما أصاب الصيد بحده فخرق وقتل فيباح وربما اصاب بعرضه فقتل بثقله فيكون موقوذا فلا يباح وهذا قول علي وعثمان وعمار وابن عباس وبه قال النخعي و الحكم و مالك و الثوري و الشافعي و أبو حنيفة و إسحاق و أبو ثور وقال الأوزاعي وأهل الشام يباح ما قتله بحده وعرضه وقال ابن عمر ما رمي من الصيد بجلاهق أو معراض فهو من الموقوذة وبه قال الحسن
ولنا ما [ روى عدي بن حاتم قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيد المعراض فقال : ما خرق فكل وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل ] متفق عليه وهذا نص ولأن ما قتله بحده بمنزلة ما طعنه برمحه أو رماه بسهمه ولأنه محدد خرق وقتل بحده وما قتل بعرضه إنما يقتله بثقله فهو موقوذ كالذي رماه بحجر أو ببندقة
فصل : قال وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد كالسهم يصيب الطائر فيقتله والرمح والحربة والسيف يضرب به صفحا فيقتل فكل ذلك حرام وهكذا إن أصاب بحده فلم يجرح وقتل بثقله لم يبح ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : ما خرق فكل ] ولأنه إذا لم يجرحه فإنما يقتله بثقله فأشبه ما أصاب بعرضه

مسألة وفصل إذا رمى صيدا فعقره ورماه آخر فثبته ورماه آخر فقتله
مسألة : قال : وإذا رمى صيدا فعقره ورماه آخر فأثبته ورماه آخر فقتله لم يؤكل وكان لمن أثبته القيمة مجروحا على قاتله
أما الذي عقره ولم يثبته فلا شيء له ولا عليه لأنه حين ضربه كان مباحا لا ملك لأحد فيه ولم يثبت له فيه حق لأن باق على امتناعه وأما الذي أثبته فقد ملكه لأنه أزال امتناعه فصار بمنزلة إمساكه فإذا ضربه الثالث فقتله فعليه ضمانه لأنه قتل حيوانا مملوكا لغيره وهذا محمول على أن جرح المثبت ليس بموح بدليل أنه نسب القتل إلى الثالث ويضمنه مجروحا حين الجرح الأول والثاني لأنه قتله وهما فيه ؟ فأما إباحته فينظر فيه فإن كان القاتل أصاب مذبحه حل لأنه صادف محل الذبح وليس عليه الا أرش ذبحه كما لو ذبح شاة لغيره وإن كان أصاب غير مذبحه لم يحل لأنه لما أثبته صار مقدورا عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة فإذا قتله بغير ذلك لم يحل كما لو قتل شاة وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أبي يوسف و محمد
فصل : وإن رمى صيدا فأثبته ثم رماه آخر فأصابه لم تخل رمية الأول من قسمين أحدهما : أن تكون موحية مثل أن تنحره أو تذبحه أو تقع في خاصرته أو قلبه فينظر في رمية الثاني فإن كانت غير موحبة فهو حلال ولا ضمان على الثاني إلا أن ينقصه برميه شيئا فيضمن ما نقصه لأن بالرمية الأولى صار مذبوحا وإن كانت رمية الثاني موحية فقال القاضي وأصحابه يحل كالتي قبلها وهو مذهب الشافعي ويجيء على قول الخرقي أن يكون حرما كقوله فيمن ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطىء عليها شيء لم يؤكل
القسم الثاني : أن يكون جرح الأول غير موح فينظر في رمية الثاني فإن كانت موحية فهو محرم لما ذكرنا إلا أن تكون ذبحته أو نحرته وإن كانت غير موحية فلها ثلاث صور
إحداهما : أنه ذكي بعد ذلك فيحل والثانية : لم يذك حتى مات فإنه يحرم لأنه مات من جرحين مبيح ومحرم فحرم كما لو مات من جرح مسلم ومجوسي وعلى الثاني ضمان جميعه لأن جرحه هو الذي حرمه فكان جميع الضمان عليه
الثالثة : قدر على ذكاته فلم يذكه حتى مات حرم لمعنيين أحدهما : أنه ترك ذكاته مع إمكانها والثاني : أنه مات من جرحين مبيح ومحرم ويلزم الثاني الضمان وفي قدره احتمالان أحدهما : يضمن جميعه كالتي قبلها قال القاضي هذا قول الخرقي يجابه الضمان في مسألته على الثالث من غير تفريق وليست هذه مسألة الخرقي لقوله ثم رماه الثالث فقتله فتعين حملها على أن جرح الثاني كان موحيا لا غير الإحتمال الثاني : أن يضمن الثاني بقسط جرحه لأن الأول إذا ترك الذبح مع إمكانه صار جرحه حاظرا أيضا بدليل ما لو انفرد وقتل الصيد فيكون الضمان منقسما عليهما وذكر القاضي في قسمته عليهما أنه يقسط أرش جرح الأول وعلى الثاني أرش جراحته ثم يقسم ما بقي من القيمة بينهما نصفين وفرض المسألة في صيد قيمته عشرة دراهم نقصه جرح الأول درهما ونقصه جرح الثاني درهما فعليه درهم ويقسم الباقي وهو ثمانية بينهما نصفين فيكون على الثاني خمسة دراهم بالمباشرة وأربعة بالسراية وتسقط حصة الأول وهي خمسة إن كان أرش جرح الثاني درهمين لزماه ويلزمه نصف السبعة الباقية ثلاثة ونصف فيلزمه خمسة ونصف وتسقط حصة الأول أربعة ونصف وإن كانت جنايتهما على حيوان مملوك لغيرهما قسم الضمان عليهما كذلك ويتوجه على هذه الطريقة أنه سوى بين الجنايتين مع أن الثاني جنى عليه وقيمته دون قيمة يوم جنى عليه الأول وإن لم يدخل أرش الجناية في بدل النفس كما يدخل في الجناية على الآدمي والجواب عن هذا أن كل واحد منهما انفرد بإتلاف ما قيمته درهم وتساويا في إتلاف الباقي بالسراية فتساويا في الضمان وإنما يدخل أرش الجناية في بدل النفس التي لا ينقص بدلها بإتلاف بعضها وهو الآدمي أما البهائم فإنه إذا جنى عليها جناية أرشها درهم نقص ذلك من قيمتها فإذا أسرى إلى النفس أوجبنا ما بقي من قيمة النفس ولم يدخل الأرش فيها وذكر أصحاب الشافعي في قسمة الضمان طرقا ستة أصحها : عندهم أن يقال أن الأول أتلف نصف نفس قيمتها عشرة فيلزمه خمسة والثاني : أتلف نصف نفس قيمتها تسعة فيلزمه أربعة ونصف فيكون المجموع تسعة ونصفا وهي أقل من قيمته لأنها عشرة فتقسم العشرة على تسعة ونصف فيسقط عن الأول ما يقابل أربعة ونصفا ويتوجه على هذا أن كل واحد منهما يلزمه أكثر من قيمة نصف الصيد حين جنى عليه وإن كانت الجراحات من ثلاثة فإن كان الأول هو أثبته فعلى طريقة القاضي على كل واحد أرش جرحه وتقسم السراية عليهم أثلاثا وإن كان المثبت له هو الثاني فجراحه الأول هدر لا عبرة بها والحكم في جراحة الآخرين كما ذكرنا وعلى الطريقة الأخرى الأول أتلف ثلث نفس قيمتها عشرة فيلزمه ثلاثة وثلث والثاني أتلف ثلثها وقيمتها تسعة قيلزمه ثلاثة والثالث أتلف ثلثها وقيمتها ثمانية فيلزمه درهمان وثلثان ومجموع ذلك تسعة تقسم عليها العشرة حصة كل واحد منهم ما يقابل ما أتلفه وإن أتلفوا شاة مملوكة لغيرهم ضمنوها كذلك

فصل حكم مالو رمى الصيد اثنان معا فقتلاه
فإن رمياه معا فقتلاه كان حلالا وملكاه لأنهما اشتركا في سبب الملك والحل تساوي الجرحان أو تفاوتا لأن موته كان بهما فإن كان أحدهما موحيا والآخر غير موح ولا يثبته مثله فهو لصاحب الجرح الموحي لأنه الذي أثبته وقتله ولا شيء على الآخر لأن جرحه كان قبل ثبوت ملك الآخر فيه وإن أصابه أحدهما بعد صاحبه فوجدناه ميتا ولم نعلم هل صار بالأول ممتنعا أو لا حل لأن الأصل الامتناع ويكون بينهما لأن أيديهما عليه فإن قال كل واحد منهما أنا أثبته ثم قتلته أنت حرم لأنهما اتفقا على تحريمه ويتحالفان لأخذ الضمان وإن اتفقا على الأول منهما فادعى الأول أنه أثبته ثم قتله وأنكر الثاني اثبات الأول له فالقول قول الثاني لأن الأصل عدم امتناعه ويحرم على الأول لإقراره بتحريمه والقول قول الثاني في عدم الإمتناع مع يمينه وإن علمت جراحة كل واحد منهما نظرنا فيها فإن علم أن جراحة الأول لا يبقى معها امتناع مثل إن كسر جناح الطائر أو ساق الظبي فالقول قول الأول بغير يمين وإن علم أنه لا يزيل الإمتناع مثل خدش الجلد فالقول قول الثاني وإن احتمل الأمرين فالقول قول الثاني لأن الأصل معه وعليه اليمين لأن ما ادعاه الأول محتمل

فصل حكم ما لو رمى صيدا فأصابه وبقي على امتناعه حتى دخل دار إنسان
وإن رمى صيدا فأصابه وبقي على امتناعه حتى دخل دار إنسان فأخذه فهو لمن أخذه لأن الأول لم يملكه لكونه ممتنعا فملكه الثاني بأخذه ولو رمى طائرا على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم فأخذوه فهو للرامي دونهم لأنه ملكه بإزالة امتناعه

فصل حكم ما لو تعلق الصيد في شرك إنسان أو شبكته
قال أصحابنا وإذا تعلق صيد في شرك إنسان أو شبكته ملكه لأنه أثبته بآلته فإن أخذه أحد لزمه رده عليه لأن آلته أثبتته فأشبه ما لو اثبته بسهمه فإن لم تمسكه الشبكة بل انفلت منها في الحال أو بعد حين لم يملكه لأنه لم يثبته وإن أخذ الشبكة وانفلت بها فصاده إنسان ملكه ويرد الشبكة على صاحبها لأنه لم يثبته وإن كان يمشي بالشبكة على وجه لا يقدر على الإمتناع فهو لصاحبها لأنها أزالت امتناعه وإذا أمسكه الصائد وثبتت يده عليه ثم انفلت منه لم يزل ملكه عنه لأنه امتنع منه بعد ثبوت ملكه فلم يزل ملكه عنه كما لو شردت فرسه أو ند بعيره فإن اصطاد صيدا فوجد عليه علامة مثل أن يجد في عنقه قلادة أو في اذنه قرطا لم يملكه لأن الذي اصطاده ملكه فلا يزول ملكه بالإنفلات وكذلك إن وجد طائرا مقصوص الجناح فإن قيل يحتمل أن الذي أمسكه أولا محرم لم يمكله أو أنه أرسله على سبيل التخلية وإزالة الملك عنه كالقاء الشيء التافه قلنا أما الأول فنادر وهو مخالف للظاهر لأن ظاهر حال المحرم أنه لا يصيد ما حرم الله عليه وأما الثاني فخلاف الأصل فإن الأصل بقاء ملكه عليه وما ذكروه محتمل فلا يزول الملك بالشك وإن علم ان مالكه أرسله اختيارا فقال أصحابنا لا يزول الملك عنه بالإرسال والإعتاق كما لو أرسل البعير والبقرة ويحتمل أن يزول الملك لأن الأصل الإباحة فالإرسال يرده إلى أصله ويفارق بهيمة الأنعام من وجهين
أحدهما : أن الأصل ههنا الإباحة وبهيمة الأنعام بخلافه
الثاني : ان الإرسال ههنا يفيد وهو رد الصيد إلى الخلاص من أيدي الأدميين وحبسهم ولهذا روي عن أبي الدرداء أنه اشترى عصفورا من صبي فأرسله ويجب إرسال الصيد على المحرم إذا أحرم أو دخل الحرم وهو في يده بخلاف بهيمة الأنعام فإن إرساله تضييع له وربما هلك إذا لم يكن له من يقوم به

مسألة و فصل حكم ما لو كان في سفينة فوثبت سمكة في حجره
مسألة : قال : ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره فهي له دون صاحب السفينة
وذلك لأن السمكة من الصيد المباح يملك بالسبق إليه وهذه حصلت في يد الذي هي في حجره وحجره له ويده عليه دون صاحب السفينة ألا ترى أنهما لو تنازعا كيسا في حجره كان أحق به من صاحب السفينة ؟ كذا ههنا ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة إذ وقعت في السفينة فهي لصاحبها وذكره ابن أبي موسى لأن السفينة ملكه ويده عليها فما حصل من المباح فيها كان أحق به كحجره
فصل : فإن كانت السمكة وثبت بسبب فعل إنسان لقصد الصيد كالصياد الذي يجعل في السفينة ضوءا بالليل ويدق بشيء كالجرس ليثب السمك في السفينة فهذا للصائد دون من وقع في حجره لأن الصائد أثبتها بذلك فصار كمن رمى طائرا فألقاه في دار قوم وإن لم يقصد الصيد بهذا بل حصل اتفاقا كانت لمن وقعت في حجره

مسألة لا يصاد السمك بشيء نجس
مسألة : قال : ولا يصاد السمك بشيء نجس
ومعنى ذلك أن يترك في الماء نجس كالعذرة والميتة وشبهها ليأكله السمك فيصيدوه به فكره أحمد ذلك وقال : هر حرام لا يصاد به وإنما كره أحمد ذلك لما يتضمن من أكل السمك النجاسة وسواء في هذا ما يتفرق كالدم والعذرة وما لا يتفرق كالجرذ وقطعة من الميتة وكره أحمد ببنات وردان وقال أن مأواها الحشوش وكره الصيد بالضفادع وقال الضفدع نهي عن قتله

فصل يكره الصيد بالخراطيم
وكره الصيد بالخراطيم وكل شيء فيه الروح لما فيه من تعذيب الحيوان فإن اضطاد فالصيد مباح وكره الصيد بالشباش وهو طائر يخيط عينه أو يربط من أجل تعذيبه ولم ير بأسا بالصيد بالشبكة والشرك وشيء فيه دبق يمنع الطير من الطيران وأن يطعم شيئا إذا أكله سكر وأخذه

مسألة لا يؤكل صيد مرتد ولا ذبيحته
مسألة : قال : ولا يؤكل صيد مرتد ولا ذبيحته وإن تدين بدين أهل الكتاب
يعني ما قتله من الصيد ولم تدرك ذكاته وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي و أبو حنيفة و أصحابه وقال الأوزاعي و إسحاق تباح ذبيحته إذا ذهب إلى النصرانية أو اليهودية لأن من تولى قوما فهو منهم ولنا أنه كافر لا يقر على كفره فلم تبح ذبيحته كعبدة الأوثان وقد مضت هذه المسألة في باب المرتد

مسألة و فصلان حكم ترك التسمية على الصيد والذبيحة
مسألة : قال : ومن ترك التسمية على الصيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل وإن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم يؤكل وإن تركها ساهيا أكلت
أما الصيد فقد مضى القول فيه وأما الذبيحة فالمشهور من مذهب أحمد أنها شرط مع الذكر وتسقط بالسهو وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك و الثوري و أبو حنيفة و إسحاق وممن أباح ما نسيت التسمية عليه عطاء و طاوس و سعيد بن المسيب و الحسن و عبد الرحمن بن أبي ليلى و جعفر بن محمد و ربيعة وعن أحمد أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو وبه قال الشافعي لما ذكرنا في الصيد قال أحمد إنما قال الله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } يعني المتية وذكر ذلك عن ابن عباس
ولنا قول ابن عباس : من نسي التسمية فلا بأس وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن ربيعة قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ما لم يتعمد ] ولأنه قول من سمينا ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا وقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } محمول على ماتركت التسمية عليه عمدا بدليل قوله : { وإنه لفسق } والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق ويفارق الصيد لأن ذبحه في غير محل فاعتبرت التسمية تقوية له والذبيحة بخلاف ذلك
فصل : والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه كما تعتبر على الطهارة وإن سمى على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز سواء أرسل الأولة أو ذبحها لأنه لم يقصد الثانية بهذه التسمية وإن رأى قطيعا من الغنم فقال بسم الله ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم يحل وإن جهل كون ذلك لا يجزىء لم يجر مجرى النسيان لأن النسيان يسقط المؤاخذة والجاهل مؤاخذ ولذلك يفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي وإن أضجع شاة ليذبحها وسمى ثم ألقى السكين وأخذ أخرى أو رد سلاما ما أو كلم إنسانا أو استسقى ماء ونحو ذلك وذبح حل لأنه سمى على تلك الشاة بعينها ولم يفصل بينهما إلا بفصل يسير فأشبه ما لو لم يتكلم
فصل : وإن سمى الصائد على صيد فأصاب غيره حل وإن سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى به لم يبح ما صاده به لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على الآلة التي يصيد بها بخلاف الذبيحة ويحتمل أن يباح قياسا على ما لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها وسقوط اعتبار تعيين الصيد لمشقته لا يقتضي اعتبار تعيين الآلة فلا يعتبر

مسألة حكم ما لو ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم
مسألة : قال : وإذا ند بعير فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل
وكذلك أن تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل لأن الماء يعين على قتله هذا قول أكثر الفقهاء روى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال مسروق والأسود و الحسن و عطاء و طاوس و إسحاق و الشعبي و الحكم و حماد و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و قال مالك لا يجوز أكله إلا أن يذكى وهو قول ربيعة و الليث قال أحمد : لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج واحتج لـ مالك بأن الحيوان الأنسي إذا توحش لم يثبت له حكم الوحشي بدليل أنه لا يجب على المحرم الجزاء بقتله ولا يصير الحمار الأهلي مباحا إذا توحش
ولنا ما [ روى رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم فند بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال صلى الله عليه و سلم : إن البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا ] وفي لقظ : [ فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا ] متفق عليه وحرب ثور في بعض دور الأنصار فضربه رجل بالسيف وذكر إسم الله عليه فسئل عنه علي فقال ذكاة وحية فأمرهم بأكله وتردى بعير في بئر فذكي من قبل شاكلته فبيع بعشرين درهما فأخذ ابن عمر عشرة بدرهمين ولأن الإعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه لا بأصله بدليل الوحشي إذا قدر عليه وجبت تذكيته في الحلق واللبة وكذلك الأهلي إذا توحش يعتبر بحاله وبهذا فارق ما ذكروه فإذا تردى فلم يقدر على تذكيته فهو معجوز عن تذكيته فأشبه الوحشي فأما إن كان رأس المتردي في الماء لم يبح لأن الماء يعين على قتله فيحصل قتله بمبيح وحاظر فيحرم كما لو جرحه مسلم ومجوسي

مسألة و فصول حكم المسلم والكتابي والعدل والفاسق والحربي والذمي وما ذبح لكنائس أهل الكتاب
مسألة : قال : والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء
يعني في الاصطياد والذبح وأجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقول الله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يعني ذبائحكم قال البخاري قال ابن عباس : طعامكم ذبائحكم وكذلك قال مجاهد و قتادة وروي معناه عن ابن مسعود وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم أيضا قال ذلك عطاء و الليث و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا حرم صيد أهل الكتاب إلا مالكا أباح ذبائحهم وحرم صيدهم ولا يصح لأن صيدهم من طعامهم فليدخل في عموم الآية ولأن من حلت ذبيحته حل صيده كالمسلم
فصل : ولا فرق بين العدل والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب وعن ابن عباس رضي الله عنه لا تؤكل ذبيحة الأقلف وعن أحمد مثله والصحيح إباحته فإنه مسلم فأشبه سائر المسلمين وإذا أبيحت ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر مع تحقق فسقه وذبيحة النصراني وهو كافر أقلف فالمسلم أولى
فصل : ولا فرق بين الحربي والذمي في إباحة ذبيحة الكتابي منهم وتحريم ذبيحة من سواه وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال لا بأس بها حديث عبد الله بن مغفل في الشحم قال إسحاق : أجاد وقال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم مجاهد و الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا فرق بين الكتابي العربي وغيره إلا أن في نصارى العرب اختلافا ذكرناه في باب الجزية وسئل مكحول عن ذبائح العرب فقال أما بهرا وتنوخ وسليح فلا بأس وأما بنو تغلب فلا خير في ذبائحهم والصحيح إباحة ذبائح الجميع لعموم الآية فيهم
فصل : فإن كان أحد أبوي الكتابي ممن لا تحل ذبيحته والآخر ممن تحل ذبيحته فقال أصحابنا لا يحل صيده ولا ذبيحته وبه قال الشافعي إذا كان الأب غير كتابي وإن كان الأب كتابيا ففيه قولان إحداهما : تباح وهو قول مالك و أبي ثور و الثاني : لا تباح لأنه وجد ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب ما يقتضي التحريم كما لو جرحه مسلم ومجوسي وبيان وجود ما يقتضي التحريم أن كونه ابن مجوسي أو وثني يقتضي تحريم ذبيحته وقال أبو حنيفة : تباح ذبيحته بكل حال لعموم النص ولأنه كتابي يقر على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين وأما إن كان ابن وثنيين أو مجوسيين فمقتضى مذهب الأئمة الثلاثة تحريمه ومقتضى مذهب أبي حنيفة حله لأن اعتبار بدين الذابح لا بدين أبيه بدليل أن الإعتبار في قبول الجزية بذلك ولعموم النص والقياس
فصل : فأما ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم فننظر فيه فإن ذبحه لهم مسلم فهو مباح نص عليه وقال أحمد و سفيان و الثوري في المجوسي يذبح لإلهه ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها فيسمى : يجوز الأكل منها وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به وإن ذبحها الكتابي وسمى الله وحده حلت أيضا لأن شرط الحل وجد وإن علم أنه ذكر اسم غير الله عليها أو ترك التسمية عمدا لم تحل قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يؤكل يعني ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم لأنه أهل لغير الله به وقال في موضع يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح فأما ما سوى ذلك فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح لكنائسهم واعيادهم مطلقا وهو قول ميمون بن مهران لأنه ذبح لغير الله وروي عن أحمد إباحته وسئل عنه العرباض بن سارية فقال كلوا وأطعموني وروي مثل ذلك عن أبي أمامه الباهلي وأبي مسلم الخولاني وأكله أبو الدرداء وجبير بن نفير ورخص فيه عمرو بن الأسود ومكحول وضمرة بن حبيب لقول الله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وهذا من طعامهم قال القاضي ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو نبي فسماه على ذبيحته حرم لقوله تعالى : { وما أهل لغير الله به } وإن سمى الله وحده حل لقول الله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } لكنه يكره لقصده بقلبه الذبح لغير الله

مسألة لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر
مسألة : ولا يؤكل ما قتل بالبندق أوالحجر لأنه موقوذ
يعني الحجر الذي لا حد له فأما المحدد كالصوان فهو كالمعراض إن قتل بحده أبيح وإن قتل بعرضه أو ثقله وقيذ لا يباح وهذا قول عامة الفقهاء وقال ابن عمر في المقتول بالبندق تلك الموقوذة وكره ذلك سالم والقاسم و مجاهد و عطاء و الحسن و إبراهيم و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور ورخص فيما قتل بها ابن المسيب وروي أيضا عن عمار وعبد الرحمن بن أبي ليلى
ولنا قول الله تعالى : { والموقوذة } وروى سعيد بإسناده [ عن إبراهيم عن عدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت ] وقال في المعراض : [ إذا أصيب بعرضه فقتل فإنه وقيذ ] وقال عمر : ليتق أحدكم أن يحذف الأرنب بالعصا والحجر ثم قال : وليذك لكم الأسل الرماح والنبل إذا ثبت هذا فسواء شدخه أو لم يشدخه حتى لو رماه ببندقة فقطعت حلقوم طائر ومريئه أو اطارت رأسه لم يحل وكذلك أن فعل ذلك بحجر غير محدد

مسألة وفصلان حكم صيد المجوسي وذبيحته وطعامه وحكم سائر الكفار والزنادقة
مسألة : قال : ولا يؤكل صيد المجوسي وذبيحته إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له
أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما ذكاة له كالسمك والجراد فإنهم أجمعوا على إباحته غير أن مالكا و الليث و أبا ثور شذوا عن الجماعة وأفرطوا : فأما مالك و الليث فقالا لا نرى أن يؤكل الجراد إذا صاده المجوسي ورخصا في السمك و أبو ثور أباح صيده وذبيحته ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولأنهم يقرون بالجزية فيباح صيدهم وذبائحهم كاليهود والنصارى واحتج برواية عن سعيد بن المسيب وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به قال إبراهيم الحربي خرق أبو ثور الإجماع قال أحمد ههنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا ! يعرض بـ أبي ثور وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو بردة و سعيد بن المسيب وعكرمة و الحسن بن محمد و عطاء و مجاهد و عبد الرحمن بن أبي ليلى و سعيد بن جبير ومرة الهمذاني و ألزهري و مالك و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي قال أحمد ولا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ولأن الله تعالى قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار ولأنهم لا كتاب لهم فلم تحل ذبائحهم كأهل الأوثان
وقد روى الإمام أحمد بإسناده [ عن قيس بن سكن الأسدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم نزلتم بفارس من النبط فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا وإن كانت ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا ] ولأن كفرهم مع كونهم غير أهل كتاب يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب وإنما أخذت منهم الجزية لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم فلما غلبت في التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء احتياطا للتحريم في الموضعين ولأنه إجماع فإنه قول من سمينا ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها ولا خلاف في إباحة ما صادوه من الحيتان حكي عن الحسن البصري أنه قال رأيت سبعين من الصحابة يأكلون صيد المجوسي من لا يختلج في صدورهم شيء من ذلك رواه سعيد بن منصور والجراد كالحيتان في ذلك لأنه لا ذكاة له ولأنه تباح ميتته فلم يحرم بصيد كالحوت
فصل : وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم إلا الحيتان والجراد وسائر ما تباح ميتته فإن ما صادوه مباح لأنه لا يزيد بذلك عن موته بغير سبب وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحلت لما ميتتان السمك والجراد ] وقال في البحر : [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ]
فصل : قال أحمد وطعام المجوس ليس به بأس أن يؤكل وإذا أهدي إليه أن يقبل أنما تكره ذبائحهم أو شيء فيه دسم يعني من اللحم ولم ير بالسمن والخبز بأسا وسئل عما يصنع المجوس لأمواتهم ويزمزمون عليهم أياما عشرا ثم يقتسمون ذلك في الجيران قال لا بأس بذلك وعن الشعبي : كل مع المجوسي وإن زمزم
وروى أحمد أن سعيد بن جبير كان يأكل من كواميخ المجوس وأعجبه ذلك وروى هشام عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بطعام المجوس في المصر ولا بشواريزهم ولا بكواميخهم
مسألة : قال : وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء وإن طفا
قوله طفا يعني ارتفع على وجه الماء قال عبد الله بن رواحة :
( وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا )
وجملة ذلك أن السمك وغيره من ذوات الماء التي لا تعيش إلا فيه إذا ماتت فهي حلال سواء ماتت بسبب أو غير سبب ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] قال أحمد هذا خير من مائه حديث وأما ما مات بسبب مثل أن صاده إنسان أو نبذه البحر أو جزر عنه فإن العلماء أجمعوا على إباحته وكذلك ما حبس في الماء بحظيرة حتى يموت فلا خلاف أيضا في حله قال أحمد الطافي يؤكل وما جزر عنه الماء أجود والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه وإنما اختلفوا في الطافي وليس به بأس وممن أباح الطافي من السمك أبو بكر الصديق وأبو أيوب رضي الله عنهما وبه قال مالك و الشافعي وممن أباح ما وجد من الحيتان عطاء و مكحول و الثوري و النخعي وكره الطافي جابر و طاوس و ابن سيرين و جابر بن زيد وأصحاب الرأي لأن جابرا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه ] رواه أبو داود
ولنا قول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة } قال ابن عباس طعامه ما مات فيه وأيضا الحديث الذي قدمناه وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الطافي حلال ولأنه لو مات في البر أبيح فإذا مات في البحر أبيح كالجراد فأما حديث جابر فإنما هو موقوف عليه كذلك قال أبو داود رواه الثقات فأقفوه على جابر وقد أسند من وجه ضعيف وإن صح فنحمله على نهي الكراهة لأنه إذا مات رسب في أسفله فإذا انتن طفا فكرهه لنتنه لا لتحريمه

فصلان يباح أكل الجراد
فصل : يباح أكل الجراد بإجماع أهل العلم وقد قال عبد الله بن أبي أوفى : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع غزوات نأكل الجراد رواه البخاري و أبو داود ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي و ابن المنذر وعن أحمد أنه إذا قتله البرد لم يؤكل وعنه لا يؤكل إذا مات بغير سبب وهو قول مالك ويروى أيضا عن سعيد بن المسيب
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ أحلت لنا ميتتان ودمان ] فالميتتان السمك والجراد ولم يفصل ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذبح وذابح وآلة كبهيمة الأنعام
فصل : ويباح أكل الجراد بما فيه وكذلك السمك يجوز أن يقلى من غير أن يشق بطنه وقال أصحاب الشافعي في السمك لا يجوز لأن رجعيه نجس
ولناعموم النص في إباحته وما ذكروه غير مسلم وإن بلغ إنسان شيئا منه حيا كره لأن فيه تعذيبا له

فصل حكم السمك والجراد يلقيان في النار
وسئل أحمد عن السمك يلقى في النار فقال ما يعجبني والجراد فقال ما يعجبني والجراد أسهل فإن هذا له دم ولم يكره السمك إذا ألقي في النار إنما كره تعذيبه بالنار وأما الجراد فسهل في القائه لأنه لا دم له ولأن السمك لا حاجة إلى إلقائه في النار لإمكان تركه حتى يموت بسرعة والجراد لا يموت في الحال بل يبقى مدة طويلة وفي مسند الشافعي ان كعبا كان محرما فمرت به رجل من جراد فنسي وأخذ جرادتين فألقاهما في النار وشواهما وذكر ذلك لعمر فلم ينكر عمر تركهما في النار وذكر له حديث ابن عمر : كان الجراد يقلى له فقال إنما يؤخذ الجراد فتقطع أجنحته ثم يلقى في الزيت وهو حي

مسألة ذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة
مسألة : قال : وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة
قد ذكرنا حكم المعجوز عنه من الصيد والأنعام فأما المقدور عليه منهما فلا يباح إلا بالذكاة بلا خلاف بين أهل العلم وتفتقر الذكاة إلى خمسة أشياء ذابح وآله ومحل وفعل وذكر أما الذبح فيعتبر له شرطان : دينه وهو كونه مسلما أو كتابيا وعقله وهو أن يكون ذا عقل يعرف الذبح ليقصد فإن كان لا يعقل كالطفل الذي لا يميز والمجنون والسكران لم يحل ما ذبحه لأنه لا يصح منه القصد فأشبه ما لو ضرب إنسانا بالسيف فقطع عنق شاة
وأما الآلة فلها شرطان أحدهما : أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها والثاني : أن لا تكون سنا ولا ظفرا فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء حل الذبح به سواء كان حديدا أو حجرا أو بلطة أو خشبا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا ] متفق عليه
[ وعن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله أرأيت أم أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا ؟ فقال : أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله ] والمروة الصوان وعن رجل من بني حارثة أنه كان يرى لقحة فأخذها الموت فلم يجد شيئا ينحرها به فأخذ وتدا فوجأها به في لبتها حتى أهريق دمها ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمره بأكلها رواه أبو داود وبهذا قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور ونحوه قول مالك و عمرو بن دينار وبه قال أبو حنيفة إلا في السن والظفر قال إذا كانا متصلين لم يجز الذبح بهما وإن كانا منفصلين جاز
ولنا عموم حديث رافع ولأن ما لم تجز الذكاة به متصلا لم تجز منفصلا كغير المحدد وأما العظم غير السن فمقتضى إطلاق قول أحمد و الشافعي و أبي ثور إباحة الذبح به وهو قول مالك و عمرو بن دينار وأصحاب الرأي وقال ابن جريج يذكى بعظم الحمار ولا يذكى بعظم القرد لأنك تصلي على الحمار وتسقيه في جفنتك وعن أحمد لا يذكي بعظم ولا ظفر وقال النخعي لا يذكى بالعظم والقرن ووجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ] فعلله بكونه عظما فكل عظم فقد وجدت فيه العلة والأول أصح إن شاء الله تعالى لأن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثنى السن والظفر خاصة فيبقى سائر العظام داخلا فيما يباح الذبح به والمنطوق مقدم على التعليل ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة ولا يحرم الذبح بالسكين وإن كانت مدية لهم ولأن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة ويحصل بها المقصود فأشبهت سائر الالات وأما المحل فالحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع وقد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الذكاة في الحلق واللبة ] قال أحمد الذكاة في الحلق واللبة واحتج بحديث عمر وهو ما روى سعيد و الأثرم بإسنادهما عن الفرافصة قال : كنا عند عمر فنادى أن النحر في اللبة والحلق لمن قدر وإنما نرى أن الذكاة اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق فتنسفح بالذبح فيه الدماء السيالة ويسرع زهوق النفس فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان : قال أحمد لو كان حديث أبي العشراء حديثا يعني ما [ روى أبو العشراء عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو طعنت في فخذها لا جزأ عنك ] قال أحمد : أبو العشراء هذا ليس بعروف وأما الذكر فالتسمية وقد مر ذكرها وأما الفعل فيعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك و أبو يوسف لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : [ نهى رسول الله صلىالله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج ثم تترك حتى تموت ] رواه أبو داود وقال أبو حنيفة يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف في أن الأكمل قطع الأربعة الحلقوم والمريء والودجين فالحلقوم مجرى النفس والمريء وهو مجرى الطعام والشراب والودجان وهما عرقان محيطان بالحلقوم لأنه أسرع لخروج روح الحيوان فيخف عليه ويخرج من الخلاف فيكون أولى والأول يجزيء لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة مع قطعه فأشبه ما لو قطع الأربعة

مسألة و فصل يستحب نحر البعير وذبح ما سواه ويسن الذبح بسكين حاد
مسألة : قال : ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه
لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى : { فصل لربك وانحر } وقال الله تعالى ك { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } قال مجاهد أمرنا بالنحر وأمر بنو إسرائيل بالذبح فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث في قوم ماشيتهم الإبل فسن النحر وكانت بنو إسرائيل ماشيتهم البقر فأمروا بالذبح [ وثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحر بدنة وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده ] متفق عليه ومعنى النحر أن يضربها بحرية أو نحوها في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها
فصل : ويسن الذبح بسكين حاد لما روى أبو داود [ عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحد شفرته وليرح ذبيحته ] ويكره أن يسن السكين والحيوان يبصره ورأى عمر رجلا قد وضع رجله على شاة وهو يحد السكين فضربه حتى أفلت الشاة ويكره أن يذبح شاة والأخرى تنظر إليه ويستحب أن يستقل بها القبلة واستحب ذلك ابن عمر و ابن سيرين و عطاء و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي وكره ابن عمر و ابن سيرين أكل ما ذبح لغير القبلة وقال سائرهم ليس ذلك مكروها لأن أهل الكتاب يذبحون لغير القبلة وقد أحل الله ذبائحهم

فصل لا تؤكل المصبورة ولا المجثمة
قال أحمد : ولا تؤكل المصبورة ولا المجثمة وبه قال إسحاق والمجثمة هي الطائر أو الأرنب يجعل غرضا ثم يرمى حتى يقتل والمصبورة مثله إلا أن المجثمة لا تكون إلا في الطائر والأرنب وأشباهها والمصبورة كل حيوان وأصل الصبر الحبس والأصل في تحريمه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صبر البهائم وقال : لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا ] وروى سعيد بإسناده [ عن أبي الدرداء قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كل مجثمة ] وبإسناده [ عن مجاهد قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المجثمة وعن أكلها ونهى عن المصبورة وعن أكلها ] ولأنه حيوان مقدور عليه فلم يبح بغير الذكاة كالبعير والبقرة

مسألة و فصولفي أحكام الذبح والنحر
مسألة : قال : فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و الزهري و قتادة و مالك و الليث و الثوري و ابو حنيفة و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح لأن الله تعالى قال : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } والأمر يقتضي الوجوب وقال تعالى : { فصل لربك وانحر } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر البدن وذبح الغنم وإنما تؤخذ الأحكام من جهته وحكي عن مالك أنه لا يجزىء في الإبل إلا النحر لأن أعناقها طويلة فإذا ذبح تعذب بخروج روحه قال ابن المنذر إنما كرهه ولم يحرمه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ امرر الدم بما شئت ] [ وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكلناه ونحن بالمدينة ] [ عن عائشة قالت : نحر رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع بقرة واحدة ] ولأنه ذكاة في محل الذكاة فجاز أكله كالحيوان الآخر
مسألة : قال : وإذا ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطىء عليها شيء لم تؤكل
يعني إذا وطىء عليها شيء يقتلها مثله غالبا وهذا الذي ذكره الخرقي نص عليه أحمد وقال أكثر أصحابنا المتأخرين لا يحرم بهذا وهو قول أكثر الفقهاء لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت وكذلك لو أبين رأسها بعد الذبح لم تحرم نص عليه أحمد ولو ذبح إنسان ثم ضرب آخر عنقه أو غرقه لم يلزمه قصاص ولا دية ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عدي بن حاتم : [ وإن وقعت في الماء فلا تأكل ] وقال ابن مسعود : من رمى طائرا فوقع في الماء فغرق فيه فلا تأكله ولأن الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع مع الذبح فقد اجتمع ما يبيح ويحرم فيغلب الحظر ولأنه لا يؤمن أن يعين على خروج الروح فتكون قد خرجت بفعلين مبيح ومحرم فأشبه ما لو وجد الأمران في حال واحدة أو رماه ومجوسي فمات
مسألة : قال : وإذا ذبحها من قفاها وهو مخطىء فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت
قال القاضي معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه فتأتي السكين على القفا لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها فسقط اعتبار المحل كالمتردية في بئر فأما مع عدم التوائها فلا تباح بذلك لأن الجرح في القفا سبب للزهوق وهو في غير محل الذبح فإذا اجتمع مع الذبح منع حله كما لو بقر بطنها وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا المعنى فإن الفضل ابن زياد قال : سألت أبا عبد الله عمن ذبح في القفا قال عامدا أو غير عامد ؟ قلت عامدا قال : لا تؤكل فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس
فصل : فإن ذبحها من قفاها اختيارا فقد ذكرنا عن أحمد أنها لا تؤكل وهو مفهوم كلام الخرقي وحكي هذا عن علي و سعيد بن المسيب و مالك و إسحاق قال إبراهيم النخعي تسمى هذه الذبيحة القفينة وقال القاضي إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء حلت وإلا فلا ويعتبر ذلك بالحركة القوية وهذا مذهب الشافعي وهذا أصح لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله كأكيلة السبع والمتردية والنطيحة ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلت بذلك نص عليه أحمد فقال : لو أن رجلا ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال تلك ذكاة وحية وأفتى بأكلها عمران بن حصين وبه قال الشعبي و أبو حنيفة و الثوري و قال أبو بكر : لبي عبد الله فيها قولان والصحيح أنها مباحة لأنه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فأبيح كما ذكرنا مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف
فصل : فإن ذبحها من قفاها فلم يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء أو لا ؟ نظرت فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القتل فالأولى إباحته لأنه بمنزلة ما قطعت عنقه بضربة السيف وإن كانت الآلة كالة وأبطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح لأنه مشكوك في وجود ما يحله فيحرم كما لو أرسل كلبه على الصيد فوجد معه كلبا آخر لا يعرفه

مسألة و فصلين في ذكاة الجنين
مسألة : قال : وذكاتها ذكاة جنينها أشعر أو لم يشعر
يعني إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه ذبحها أو وجده ميتا في بطنها أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال روي هذا عن عمر وعلي به قال سعيد بن المسيب و النخعي و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر و قال ابن عمر ذكاته ذكاة أمه أذا أشعر وروي ذلك عن عطاء و طاوس و مجاهد و الزهري و الحسن و قتادة و مالك و الليث و الحسن ين صالح و أبي ثور لأن عبد الله بن كعب مالك قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون إذا شعر الجنين فذكاته ذكاة أمه وهذا إشارة إلى جميعهم فكانا إجماعا وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى لأنه حيوان ينفرد بحياته فلا يتذكى بذكاة غيره كما بعد الوضع قال ابن المنذر كان الناس على إباحته لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان فقال لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين
ولنا ما [ روى أبو سعيد قال : قيل يا رسول الله صلى الله إن أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد في بطنها الجنين أنأكله أم نلقيه ؟ قال : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ]
وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ذكاة الجنين ذكاة أمه ] رواهما أبو داود ولأن هذا إجماع من الصحابة ومن بعدهم فلا يعول على ما خالفه ولأن الجنين متصل بها إتصال خلقة يتغذى بغذائها فتكون ذكاته ذكاتها كأعضائها ولأن الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه فيكون ذكاة له
فصل : واستحب أبو عبد الله أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه ولأن ابن عمر كان يعجبه أن يريقوا من دمه وإن كان ميتا
فصل : وإن خرج حيا حياة مستقرة يمكن أن يذكى فلم يذكه حتى مات فليس بذكي قال أحمد : إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأن نفس أخرى

مسألة و فصلان في قطع عضو وفي كراهة سلخ الحيوان قبل أن يبرد
مسألة : قال : ولا يقطع عضو مما ذكي حتى تزهق نفسه
كره ذلك أهل العلم منهم عطاء و عمرو بن دينار و مالك و الشافعي ولا نعلم لهم مخالفا وقد قال عمر رضي الله عنه : لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق فإن قطع عضو قبل زهوق النفس وبعد الذبح فالظاهر إباحته فإن أحمد سئل عن رجل ذبح دجاجة فأبان رأسها قال يأكلها قيل له والذي بان منها أيضا ؟ قال نعم قال البخاري قال ابن عمر وابن عباس إذا قطع الرأس فلا بأس به وبه قال عطاء و الحسن و النخعي و الشعبي و الزهري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وذلك لأن قطع ذلك العضو بعد حصول الذكاة فأشبه ما لو قطعه بعد الموت
فصل : ويكره سلخ الحيوان قبل أن يبرد لأن فيه تعذيبا للحيوان فهو كقطع العضو ويكره النفخ في اللحم الذي يريده للبيع لما فيه من الغش
فصل : وإن قطع من الحيوان شيء وفيه حياة مستقرة فهو ميتة لما روي أبو واقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة ] رواه أبو داود ولأن إباحته إنما تكون بالذبح وليس هذا بذبح

مسألة ذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال
مسألة : قال : وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا أو نسوا التسمية
وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة بالغا أو صبيا حرا كان أو عبدا لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : اجمع كل من نحفظ عنه أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي
وقد [ روي أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فدكتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كلوها ] متفق عليه وفي هذا الحديث فوائد سبع إحداها : إباحة ذبيحة المرأة والثانية : إباحة ذبيحة الأمة والثالثة : إباحة ذبيحة الحائض لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل والرابعة : إباحة الذبح بالحجر والخامسة : إباحة ذبح ما خيف عليه الموت والسادسة : حل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه والسابعة : إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف عليه ويشترط أن يكون عاقلا فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل لم يصح منه الذبح وبهذا قال مالك وقال الشافعي لا يعتبر العقل وله فيما إذا أرسل المجنون الكلب على صيد وجهان
ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد له العقل كالعبادة فإن من لا عقل له لا يصح منه القصد فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها وقوله إذا سموا أو نسوا التسمية فالتسمية مسترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد أو ذكر اسم غير الله لم تحل ذبيحته روي ذلك عن علي وبه قال النخعي و الشافعي و حماد و إسحاق وأصحاب الرأي وقال عطاء و مجاهد و مكحول : إذا ذبح النصراني بامس المسيح حل فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته وقد علم أنه سيقول ذلك
ولنا قول الله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وقوله { وما أهل لغير الله به } والآية أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم فإن لم يعلم اسمى الذابح أم لا ؟ أو ذكر اسم الله أم لا ؟ فذبيحته حلال لأن الله تعالى أباح لنا أكل ما ذبحه المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح
وقد [ روي عن عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا يا رسول الله إن قوما حديثوا عهد بشرك يأتوننا بلحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا ؟ قال : سموا أنتم وكلوا ] أخرجه البخاري

فصل حكم ما لو ذبح الكتابي ما حرم الله عليه
وإذا ذبح الكتابي ما حرم الله عليه مثل كل ذي ظفر ـ قال قتادة هي الإبل والنعام والبط وما ليس بمشقوق الصابع ـ أو ذبح لها شحم محرم عليه فظاهر كلام أحمد و الخرقي إباحته فإن أحمد حكى عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا يأكل من شحمها قال أحمد هذا مذهب دقيق وظاهر هذا أنه لم يره صحيحا وهذا اختيار ابن حامد وأبي الخطاب وذهب أبو الحسن التميمي والقاضي إلى تحريمها وحكاه التميمي عن الضحاك و مجاهد و سوار وهو قول مالك لأن الله تعالى قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وليس هذا من طعامهم ولأنه جزء من البهيمة لم يبح لذابحها فلم يبح لغيره كالدم
ولنا ما [ روى عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم من قصر خبير فدنوت لآخذه فإذا رسول الله صلى الله عليه يبتسم إلي ] متفق عليه ولأنها ذكاة أباحت اللحم والجلد فأباحت الشحم كذكاة المسلمة والآية حجة لنا فإن معنى طعامهم ذبائحهم كذلك فسره العلماء وقاسهم ينتقص بما ذبحه الغاصب

فصل حكم ما لو ذبح ما يزعم أنه محرم عليه ولم يثبت أنه كذلك
فصل : وإن ذبح شيئا يزعم أنه محرم عليه ولم يثبت أنه محرم عليه فهو حلال لعموم الآية وقوله أنه حرام غير مقبول

مسألة في ذبح الأخرس
مسألة : قال : فإن كان أخرس أومأ إلى السماء
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أهل العلم على إباحة ذبيحة الأخرس منهم الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وهو قول الشعبي و قتادة و الحسن بن صالح إذا ثبت هذا فإنه يشير إلى السماء لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق وإشارته إلى السماء تدل على قصده تسمية الذي في السماء ونحو هذا قال الشعبي وقد دل على هذا [ حديث أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء فقال : من أنا ؟ فأشارت بإصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اعتقها فإنها مؤمنة ] رواه الإمام أحمد والقاضي البرتي في مسنديهما فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بإيمانها بإشارتها إلى السماء تريد أن الله سبحانه فيها فأولى أن يكتفى بذلك علما على التسمية ولو أنه اشار إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا

مسألة في ذبح الجنب
مسألة : قال : وإن كان جنبا جاز أن يسمي ويذبح
وذلك أن الجنب له التسمية ولا يمنع منها لأنه إنما يمنع من القرآن لا من الذكر ولهذا تشرع له التسمية عند اغتساله وليست الجناية أعظم من الكفر والكافر يسمي ويذبح وممن رخص في ذبح الجنب الحسن و الحكم و الليث و الشافعي و إسحاق و ابو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا منع من ذلك وتباح ذبيحة الحائض لأنها في معنى الجنب

فصل في المنخقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع
والمنخقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع وما أصابها مرض فماتت به محرمة إلا أن تدرك ذكاتها لقوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } [ وفي حديث جارية كعب أنها أصيبت شاة من غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كلوها ] فإن كانت لم يبق من حياتها إلا مثل حركة المذبوح لم تبح بالذكاة لأنه لو ذبح ما ذبحه المحوسي لم يبح وإن أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكنه ذبحها حلت لعموم الآية والخبر وسواء كانت قد انتهت إلى حل يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش لعموم الآية والخبر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل ولم يستفصل
وقدقال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فعقرها فوقع قصبها بالأرض فأدركها فذبحها بحجر قال يلقي ما أصاب الأرض ويأكل سائرها وقال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت إلا أن فيها الروح يعني فذبحت قال : إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها وسال الدم فارجو إن شاء الله تعالى أن لا يكون بأكلها بأس وروى ذلك بإسناده عن عقيل بن عمير و طاوس وقالا تحركت ولم يقولا سال الدم وهذا على مذهب أبي حنيفة وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال فلا بأس به وقال ابن أبي موسى إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة ونص عليه أحمد فقال إذا شق الذئب بطنها فخرج قصبها فذبحها لا تؤكل وقال إن كان يعلم أنها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وإن ذكاها وقد يخاف على الشاة الموت من العلة والشيء يصيبها فيبادرها فيذبحها وليس هذا مثل لا يدري لعلها تعيش والتي قد خرجت امعاؤها يعلم أنها لا تعيش وهذا قول أبي يوسف والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش معه فوصى فقبلت وصاياه ووجبت العبادة عليه وفيما ذكرنا من عموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل في حديث جارية كعب ما يرد هدا ويحتمل نصوص أحمد على شاة خرجت امعاؤها وبانت فتلك لا تحل بالذكاة لأنها في حكم الميت ولا تبقى حركتها إلا كحركة المذبوح فأما ما خرجت أمعاؤها ولم تبن منها فهي في حكم الحياة تباح بالذبح ولهذا قال الخرقي فيمن شق بطن رجل فأخرج حشوته فقطعها فأبانها ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول ولو شق بطن رجل وضرب عنقه آخر فالقاتل هو الثاني وقال بعض أصحابنا إذا كانت تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة وهذا التحديد بعيد يخالف ظواهر النصوص ولا سبيل إلى معرفته وقوله في حديث جارية كعب فأدركتها فدكتها بحجر يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت موتها في ساعتها والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح وأنها متى كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة أنها متى تحركت وسال دمها حلت والله أعلم

مسألة المحرم من الحيوان ما نص الله عليه في كتابه
مسألة : قال : والمحرم من الحيوان ما نص الله تعالى عليه في كتابه وما كانت العرب تسمية طيبا فهو حلال وما كانت تسمية خبيثا فهو محرم لقول الله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
يعني بقوله ما سمى الله تعالى في كتابه : قوله سبحانه : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } الآية وما عدا هذا فما استطابته العرب فهو حلال لقول الله تعالى : { ويحل لهم الطيبات } يعني ما يستطيبونه دون الحلال بدليل قوله في الاية الأخرى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } ولو أراد الحلال لم يكن ذلك جوابا لهم وما استخبثته العرب فهو محرم لقول الله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } والذين تعتبر استطابتهم واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب وخوطبوا به وبالسنة فرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم ولم يعتبر أهل البوادي لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون فقال ما دب ودرج إلا أم حبين فقال لتهن أم حبين العافية وما وجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز فإن لم يشبه شيئا منها فهو مباح لدخوله في عموم قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وما سكت الله عنه فهو عفا عنه ]
وإذا ثبت هذا فمن المستخبثات الحشرات كالديدان والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر والاوزاغ والحرباء والعضاء والجراذين والعقارب والحيات وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ورخص مالك و ابن أبي ليلى و الأوزاعي في هذا كله إلا الأوزاغ فإن ابن عبد البر قال هو مجمع على تحريمه وقال مالك الحية حلال إذا ذكيت واحتجوا بعموم الآية المبيحة
ولنا قوله تعالى { ويحرم عليهم الخبائث } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور ] وفي حديث [ الحية ] مكان الفأرة ولو كانت من الصيد البماح لم يبح قتلها ولأن الله تعالى قال : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقال : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } ولأنها مستخبثة فحرمت كالوزغ أو مأمور بقتلها فأشبهت الوزغ

مسائل و فصول فيما يحرم أكله وما يحل ويكره
فصل : والقنفذ حرام قال أبو هريرة هو حرام وكرهه مالك و أبو حنيفة ورخص فيه الشافعي و الليث و ابو ثور
ولنا [ أن أبا هريرة قال : ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هو خبيث من الخبائث ] رواه أبو داود ولأنه يشبه المحرمات ويأكل الحشرات فأشبه الجرذ
مسألة : قال : وبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الحمر الأهلية
أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية قال أحمد خمسة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كرهوها قال ابن عبد البر لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها وحكي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان بظاهر قوله سبحانه : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وتلاها ابن عباس وقال ما خلا هذا فهو حلال وسئلت عائشة رضي الله عنها عن الفأرة فقالت ما هي بحرام وتلت هذه الآية ولم ير عكرمة وأبو وائل بأكل الحمر بأسا وقد [ روي عن غالب بن الحر قال : أصابتنا سنة فقلت يا رسول الله أصابتنا سنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية فقال : اطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية ]
ولنا ما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل ] متفق عليه قال ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه و سلم تحريم الحمر الأهلية علي وعبد الله بن عمرو وجابر والبراء وعبدالله ابن أبي أوفى وأنس وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح حسان وحديث غالب بن الحر لا يعرج على مثله مع عارضه ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رخص لهم في مجاعتهم وبين علة تحريمها المطلق لكونها تأكل العذرات [ قال عبد الله بن أبي أوفى : حرمها رسول الله صلى الله عليه و سلم البتة من أجل أنها تأكل العذرة ] متفق عليه
فصل : والبغال حرام عند كل من حرم الحمر الأهلية لأنها متولدة منها والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم وهكذا ان تولد من بين الأنسي والوحشي ولد فهو محرم تغليبا للتحريم والسمع المتولد من بين الذئب والضبع محرم قال قتادة : ما البغل إلا شيء من الحمار و [ عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل ]
فصل : وألبان الحمر محرمة في قول أكثرهم ورخص فيها عطاء و طاوس و الزهري و الأول أصح لأن حكم الألبان حكم اللحمان
مسألة : قال : وكل ذي ناب من السباع وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس
أكثر أهل العلم يرون تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو به ويكسر إلا الضبع منهم مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الحديث و أبو حنيفة وأصحابه وقال الشعبي و سعيد بن جبير وبعض أصحاب مالك هو مباح لعموم قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } وقوله سبحانه : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به }
[ ولنا ما روى أبو ثعلبة الخشني قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ] متفق عليه و [ قال أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أكل كل ذي ناب من السابع حرام ] قال ابن عبد البر : هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهذا نص صريح يخص عموم الآيات فيدخل في هذا الأسد والنمر والفهد والذئب والكلب والخنزير وقد روي عن الشعبي أنه سئل عن رجل يتداوى بلحم الكلب فقال لاشفاه الله وهذا يدل على أنه رأى تحريمه
فصل : ولا يباح أكل القرد وكرهه عمر و عطاء و مجاهد و مكحول و الحسن و لم يجيزوا بيعه وقال ابن عبد البر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا ييؤكل ولا يجوز بيعه [ عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لحم القرد ولأنه سبع فيدخل في عموم الخبر وهو مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة ]
فصل : وابن آوى والنمس وابن عرس حرام سئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال : كل شيء ينهش بأنيابه ينهش بأنيابه فهو من السباع وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي : ابن عرس مباح لأنه ليس له ناب قوي فأشبه الضب ولأصحابه في ابن آوى وجهان
ولنا أنها من السباع فتدخل في عموم النهي ولأنها مستخبثة غير مستطابة فإن ابن آوى يشبه الكلب ورائحته كريهة فيدخل في عموم قوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث }
فصل : واختلفت الرواية في الثعلب فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه وهذا قول أبي هريرة و مالك و ابي حنيفة لأنه سبع فيدخل في عموم النهي ونقل عن أحمد إباحته اختاره الشريف أبو جعفر ورخص فيه عطاء و طاوس و قتادة و الليث و سفيان بن عيينة و الشافعي لأنه يفدي في الإحرام والحرم وقال أحمد و عطاء كل ما يودى إذا أصابه المحرم فإنه يؤكل واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر كاختلافها في الثعلب والقول فيه كالقول في الثعلب ولـ لشافعي في سنور البر وجهان فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا و مالك و أبي حنيفة و الشافعي [ وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن أكل الهر ]
فصل : والفيل محرم قال أحمد ليس هو من أطعمه المسلمين وقال الحسن هو مسخ وكرهه أبو حنيفة و الشافعي ورخص في أكله الشعبي
ولنا [ نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل ذي ناب من السباع ] وهو من أعظمها نابا ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة
فصل : فأما الدب فينظر فإن كان ذا ناب ييفرس فهو محرم وإلا فهو مباح قال أحمد أن لم يكن له ناب فلا بأس به وقال أصحاب أبي حنيفة هو سبع لأنه أشبه شيء بالسباع فلا يؤكل
ولنا أن الأصل الإباحة ولم يتحقق وجود فيبقى على الأصل وشبهه بالسباع إنما يعتبر في وجود العلة المحرمة وهو كونه ذا ناب يصيد به ويفرس فإذا لم يوجد ذلك كان داخلا في عموم النصوص المبيحة والله أعلم
مسألة : قال : وكل ذي مخلب من الطير وهي التي تعلق بمخالبها الشيء وتصيد بها
هذا قول أكثر أهل العلم وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك و الليث و الأوزاعي و يحيى ابن سعيد : لا يحرم من الطير شيء قال مالك لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير واحتجوا بعموم الآيات المبيحة وقول أبي الدراداء وابن عباس ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه
ولنا ما روى ابن عباس قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ] وعن خالد بن الوليد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حرم عليكم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ] رواهما أبو داود وهذا يخص عموم الآيات ويقدم على ما ذكروه فيدخل في هذا كل ما له مخلب يعدو به كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة وأشباهها
فصل : ويحرم منها ما يأكل الجيف كالنسور والرخم وغراب البين وهو أكبر الغربان والأبقع قال عروة ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات ولعله يعني [ قول النبي صلى الله عليه و سلم خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور ] فهذه الخمس محرمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أباح قتلها في الحرم ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم ولأن ما ؤكل لا يحل قتله إذا قدر عليه وإنما يذبح ويؤكل وسئل أحمد عن العقعق فقال : إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به قال بعض أصحابنا هو يأكل الجيف فيكون على هذا محرما
فصل : ويحرم الخطاب والخشاف والخفاش وهو الوطواط قال الشاعر :
( مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويعمي أعين الخفاش )
قال أحمد ومن يأكل الخشاف ؟ وسئل عن الخطاف فقال لا أدري وقال النخعي كل الطير حلال إلا الخفاش وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تستطيبها العرب ولا تأكلها ويحرم الزنابير واليعاسيب والنحل وإشباهها لأنها مستخبثة غير مستطابة
فصل : وما عدا ما ذكرنا فهو مباح لعموم النصوص الدالة على الإباحة من ذلك بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم قال الله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ومن الصيود الظباء وحمر الوحش وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم ابا قتادة وأصحابه يأكل الحمار الذي صاده وكذلك بقر الوحش كلها مباحة على اختلاف أنواعها من الإبل والتيتل والوعل والمها وغيرها من الصيود كلها مباحة وتفدى في الإحرام ويباح النعام وقد قضى الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنة وهذا كله مجمع عليه لا نعلم فيه خلافا إلا ما يروى عن طلحة بن مصرف قال : إن الحمار الوحشي إذا أنس واعتلف فهو بمنزلة الأهلي قال أحمد وما ظننت أنه روي في هذا شيء وليس الأمر عندي كما قال وأهل العلم على خلافه لأن الظباء إذا تأنست لم تحرم والأهلي إذا توحش لم يحل ولا يتغير منها شيء عن أصله وما كان عليه قال عطاء في حمار الوحش : إذا تناسل في البيوت لا تزول عنه أسماء الوحش وسألوا أحمد عن الزرافة تؤكل ؟ قال نعم وهي دابة تشبه البعير إلا أن عنقها أطول من عنقه وجسمها ألطف من جسمه وأعلى منه ويداها أطول من رجليها
فصل : وتباح لحوم الخيل كلها عرابها وبراذينها نص عليه أحمد وبه قال ابن سيرين وروي ذلك عن ابن الزبير و الحسن و عطاء و الأسود بن يزيد وبه قال حماد بن زيد و الليث و ابن المبارك و الشافعي و أبو ثور قال سعيد بن جبير : ما أكلت شيئا أطيب من معرفة برذون وحرمها أبو حنيفة وكرهها مالك و الأوزاعي و ابو عبيد لقول الله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها }
و [ عن خالد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها ولأنه ذو حافر فأشبه بالحمار ]
ولنا قول جابر [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر عن لحوم الحمر والأهلية وأذن في لحوم الخيل ] [ وقالت أسماء نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة ] متفق عليهما ولأنه حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فيحل كبهيمة الأنعام ولأنه داخل في عموم الآيات والأخبار المبيحة وأما الآية فإنما يتعلقون بدليل خطابها وهم لا يقولون به وحديث خالد ليس له إسناد جيد قاله أحمد قال وفيه رجلان لا يعرفان يرويه ثور عن رجل ليس بمعروف وقال لا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر
فصل : والأرانب مباحة أكلها سعد بن أبي وقاص ورخص فيها أبو سعيد و عطاء و ابن المسيب و الليث و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر و لا نعلم أحدا قائلا بتحريمها إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص وقد صح عن أنس أنه قال : أنفجنا أرنبا فسعى القوم فلعبوا فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها وبعث بوركها أو قال ـ فخذها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقبله متفق عليه [ وعن محمد بن صفوان بن محمد أنه قال : صدت أرنبين فذبحتهما بمروة فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرني بأكلهما ] رواه أبو داود ولأنها حيوان مستطاب ليس بذي أشبه الظبي
فصل : ويباح الوبر به قال عطاء و طاوس و مجاهد و عمرو بن دينار و الشافعي و ابن المنذر و أبو يوسف وقال القاضي هو محرم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف
ولنا أنه يفدى في الإحرام والحرم وهو مثل الأرنب يعتلف النبات والبقول فكان مباحا كالأرانب ولأن الأصل الإباحة وعموم النصوص يقتضها ولم يرد فيه تحريم فتجب إباحته
فصل : وسئل احمد عن اليربوع فرخص فيه وهذا قول عروة و عطاء الخراساني و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة هو محرم وروي ذلك عن أحمد أيضا وعن ابن سيرين و الحكم و حماد وأصحاب الرأي لأنه يشبه الفأر
ولنا أن عمر حكم فيه بجفره ولأن الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم وأما السنجاب فقال القاضي هو محرم لأنه ينهش بنابه فأشبه الجرذ ويحتمل أنه مباح لأنه يشبه اليربوع ومتى تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة لأنها الأصل وعموم النصوص يقتضيها
فصل ويباح من الطيور ما لم نذكره في المحرمات من ذلك الدجاج [ قال أبو موسى رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يأكل الدجاج والحبارى لما روى سفينة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه و سلم لحم حبارى ] رواه أبو داود ويباح الزاغ وبذلك قال الحكم و حماد و محمد بن الحسن و الشافعي في أحد قوليه
ويباح غراب الزرع وهو الأسود الكبير الذي يأكل الزرع ويطير مع الزاغ لأن مرعاهما الزرع والحبوب فأشبها الحجل وتباح العصافير كلها [ قال عبد الله بن عرمو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها قيل يا رسول الله فما حقها ؟ قال : يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها ] رواه النسائي ويباح الحمام كله على اختلاف أنواعه من الجوازل والفواخت والرقاطي والقطا والحجل وغيرها وتباح الكراكي والأوز وطير الماء كله والغرانيق والطواويس وأشباه ذلك لا نعلم فيه خلافا
واختلف عن أحمد في الهدهد والصرد فعنه أنهما حلال لأنهما ليسا من ذوات المخلب ولا يستخبثان وعنه تحريمهما [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل الهدهد والصرد والنملة والنحلة وكل ما كان لا يصيد بمخلبه ولا يأكل الجيف ولا يستخبث فهو حلال ]
فصل : قال احمد : اكره لحوم الجلالة وألبانها قال القاضي في المجرد هي التي تأكل القذر فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها وفي بيضها روايتان وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير وقال الليث : إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه
وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان إحداهما : أنها محرمة والثانية : أنها مكروهة غير محرمة وهذا قول الشافعي وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس ورخص الحسن في لحومها وألبانها لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات بدليل إن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الإغتسال ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس
ولنا ما روى ابن عمر قال [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكل الجلالة وألبانها ] رواه أبو داود وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل بحمها ولا يحمل عليها إلا الأدم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة ] رواه الخلال بإسناده ولأن لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه وإنما يتغذى الطاهرات وكذلك الكافر في الغالب
فصل : وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا واختلف في قدره فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثا سواء كانت طائرا أو بهيمة وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا وهذا قول أبي ثور لأن ما طهر الآخر كالذي نجس ظاهره والأخرى : تحبس الدجاجة ثلاثا والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة لحديث عبد الله بن عمر ولأنهما أعظم جسما وبقاء علفهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير والله أعلم
فصل : ويكره ركوب الجلالة وهو قول عمر وابنه وأصحاب الرأي لحديث عبد الله بن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ركوبها ] ولأنها ربما عرقت فتلوث بعرقها
فصل : وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها وقال ابن عقيل يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتظهر بالإستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحما ويصير لبنا وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة و الشافعي وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول مكتل عرة مكتل بر والعرة عذرة الناس
ولنا ما روي عن ابن عباس قال : كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه و سلم ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس ولأنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والإستحالة لا تطهر فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات

مسألة و فصول في حكم الأكل من الميتة
مسألة : قال : ومن اضطر إلى الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن منه الموت
أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الإختيار وعلى إباحة الأكل منها في الإضطرار وكذلك سائر المحرمات والأصل في هذا قول الله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ويباح له أكل ما يسد الرمق معه ويأمن الموت بالإجماع ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع أيضا وفي الشبع روايتان :
أظهرهما : لا يباح وهو قول ابي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين لـ لشافعي قال الحسن يأكل قدر ما يقيمه لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الإبتداء ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية يحققه أنه بعد سد رمقه كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا ههنا
والثانية : يباح له الشبع اختارها أبو بكر لما [ روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده نافة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى اسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال لا قال : فكلوها ] ولم يفرق رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحالة الإعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم جاز الشبع لأنه إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة والمستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له والله أعلم إذا ثبت هذا اذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل قال أحمد : إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من جوع أو يخاف أن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور
فصل : وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يجب وهو قول مسروق وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي قال الأثرم : سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر قول مسروق من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا اختيار ابن حامد وذلك لقول الله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لو كام معه طعام حلال
والثاني : لا يلزمه لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا لماء لحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فأخرجوه فقال : قد كان الله أحله لي لأني مضطر ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص ولأن له غرضا في إجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه
فصل : وتباح المحرمات عند الإضطرار إليها في الحضر والسفر جميعا لأن الآية مطلقة غير مقيدة بإحدى الحالتين وقوله : { فمن اضطر } لفظ عام في حق كل مضطر ولأن الإضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك لكون هذه المصلحة أعظم من مصلحة إجتناب النجاسات والصيانة عن تناول المستخبثات وهذا المعنى عام في الحالين وظاهر كلام أحمد أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة
وروي عن أحمد أنه قال : أكل الميتة إنما يكون في السفر يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال وهذا من أحمد خرج مخرج الغالب فإن الغالب أن الحضر يوجد فيه الطعام الحلال ويمكن دفع الضرورة بالسؤال ولكن الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقيته لا يكتفي فيه بالمظنة بل متى وجدت الضرورة أباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد ومتى انتفت لم يبح الأكل لوجود مظنتها بحال
فصل : قال أصحابنا ليس للمضطر في سفر المعصية الأكل من الميتة كقاطع الطريق والآبق لقول الله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } قال مجاهد غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم وقال سعيد بن جبير : إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له فإن تاب وأقلع عن معصية حل له الأكل
فصل : وهل للمضطر التزود من الميتة ؟ على روايتين أصحهما : له ذلك وهو قول مالك لأنه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته ولا يأكل منها إلا عند ضرورته
والثانية : لا يجوز لأنه توسع فيما لم يبح إلا للضرورة فإن استصحبها فلقيه مضطر آخر لم يجز له بيعه إياه لأنه إنما أبيح له منها ما يدفع به الضرورة ولا ضرورة إلى البيع ولأنه لا يملكه ويلزمه إعطاء الآخر بغير عوض إذا لم يكن هو مضطرا في الحال إلى ما معه لأن ضرورة الذي لقيه موجودة وحاملها يخاف الضرر في ثاني الحال

مسألة و فصل في الأكل من الثمر والزرع
مسألة : قال : ومن مر يثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل
هذا يحتمل أنه أراد في حال الجوع والحاجة لأنه ذكره عقيب مسألة المضطر قال أحمد إذا لم يكن عليها حائط يأكل إذا كان جائعا وإذا لم يكن جائعا فلا يأكل قال وقد فعله غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ولكن إذا كان عليه حائط لم يأكل لأنه قد صار شبه الحريم وقال في موضع إنما الرخصة للمسافر إلا أنه لم يعتبر ههنا حقيقة الإضطرار لأن الإضطرار يبيح ما وراء الحائط ورويت عنه الرخصة في الأكل من غير المحوطة مطلقا من غير اعتبار جوع ولا غيره
وروي عن أبي زينب التميمي قال سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة قال عمر يأكل ولا يتخذ خبنة وروي عن أحمد أنه قال يأكل مما تحت الشجر وإذا لم يكن تحت الشجر فلا يأكل ثمار الناس وهو غني عنه ولا يضرب بحجر ولا يرمي لأن هذا يفسد
وقد [ روي عن رافع بن عمر قال : كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رافع لم ترمي نخلهم ؟ قلت يا رسول الله الجوع قال : لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك ] أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وقال أكثر الفقهاء لا يباح الأكل في الضرورة لما [ روى العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا وأن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم ] أخرجه أبو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا ] متفق عليه
ولنا ما [ روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى ا لله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة مثليه والعقوبة ] قال الترمذي هذا حديث حسن
وروي أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا أتيت على حائط بستان فناد صاحب البستان ثلاثا فإن أجابك وإلا فكل من غير أن تفسد ]
وروي سعيد بإسناده عن الحسن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله ولأنه قول من سمينا من الصحابة من غير مخالف فيكون إجماعا فإن قيل فقد أبى سعد أن يأكل قلنا امتناع سعد من أكله ليس بمخالف لهم لأن الإنسان قد يترك المباح غنى عنه أو تورعا أو تقذرا كترك النبي صلى الله عليه و سلم أكل الضب فأما أحاديهم عهي مخصوصة بما رويناه من الحديث والإجماع فإ كانت محوطة لم يجز الدخول إليها لقول ابن عباس إن كان عليها حائط فهو حريم فلا تأكل وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس ولأن احرازه بالحائط يدل على شح صاحبه به وعدم المسامحة فيه قال بعض أصحابنا إذا كان علينا ناطور فهو بمنزلة المحوط في أنه لا يدخل إليه ولا يأكل منه إلا في الضرورة
فصل : وعن أحمد في الأكل من الزرع روايتان إحداهما : قال لا يأكل انمار خص في الثمار ليس الزرع وقال ما سمعنا في الزرع أن يمس منه ووجهه أن الثمار خلقها الله تعالى للأكل رطبة والنفوس تتوق إليها والزرع بخلافها
والثانية : قال يأكل من الفريك لأن العادة جارية بأكله رطبا أشبه الثمر وكذلك الحكم في الباقلا والحمص وشبهه مما يؤكل رطبا فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه والأولى في الثمار وغيرها أن لا يأكل منها إلا بإذن لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم

فصل روايتان عن أحمد في حلب لبن الماشية
فصل : وعن أحمد في حلب لبن الماشية روايتان :
إحداهما : يجوز له أن يحلب ويشرب ولا يحمل لما [ روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن فليحلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه أحد فليستأذنه وإن لم يجبه أحد فليحلب وليشرب ولا يحمل ] رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم وبه يقول أحمد و إسحاق
والرواية الثانية : لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب لما [ روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته خزانته فينقل طعامه فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية إلا بإذنه ] وفي لفظ : [ فإن ما في ضروع مواشيهم مثل ما في مشاربهم ] متفق عليه

مسائل وفصول في المضطر وما يأكله
مسألة : قال : ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة
وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وقال مالك أن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة ولأصحاب الشافعي وجهان :
أحدهما : يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن دينار لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذل له صاحبه
ولنا أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق ولأن حق الآدمي تلزمه غرامته وحق الله لا عوض له
فصل : إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الإمتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى أكل الميتة إلا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضره ويخاف أن يهلكه أو يمرضه
فصل : وإن وجد طعاما مع صاحبه فامتنع من بذله له أو بيعه منه ووجد ثمنه لم يجز له مكابرته عليه وأخذه منه وعدل إلى الميتة سواء كان قويا يخاف من مكابرته التلف أو لم يخف فإن بذله له بثمن مثله وقدر على الثمن لم يحل له أكل الميتة لأنه قادر على طعام حلال وإن بذله بزيادة على ثمن المثل لا يجحف بماله لزمه شراؤه أيضا لما ذكرناه وإن كان عاجزا عن الثمن فهو في حكم العادم وإن امتنع من بذله الا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه المضطر بذلك لم يلزمه أكثر من ثمن مثله لأن الزيادة أحوج إلى بذلها بغير حق فلم يلزمه كالمكره
فصل : وإن وجد المحرم ميتة وصيدا أكل وبه قال الحسن و مالك و أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي في أحد قوليه يأكل الصيد ويفديه وهو قول الشعبي لأن الضرورة تبيحه ومع القدرة عليه لا تحل الميتة لغناه عنها
ولنا أن إباحة الميتة منصوص عليها وإباحة الصيد مجتهد فيها وتقديم عليه أولى فإن لم يجد ميتة ذبح الصيد وأكله نص عليه أحمد لأنه مضطر إليه عينا وقد قيل أن في الصيد تحريمات ثلاثا تحريم قتله وأكله وتحريم الميتة لأن ما ذبحه المحرم من الصيد يكون ميتة فقد ساوى الميتة في هذا وفضل عليها بتحريم القتل والأكل ولكن يقال على هذا إن الشارع إذا أباح له ذبحه لم يصر ميتة ولهذا لو لم يجد الميتة فذبحه كان ذكيا طاهرا وليس بنجس ولا ميتة ولهذا يتعين عليه ذبحه في محل الذبح وتعتبر شروط الذكاة فيه ولا يجوز قتله ولو كان ميتة لم يتعين ذلك عليه
فصل : وإذا ذبح المحرم الصيد عند الضرورة جاز له أن يشبع منه لأنه لحم ذكي لا حق فيه لآدمي سواه فأبيح له الشبع منه كما لو ذبحه حلال من أجله
فصل : فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه وقال بعض أصحاب الشافعي : له ذلك لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الأكلة
ولنا أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا لنفسه ولا يتقين حصول البقاء بأكله أما قطع الأكلة فإن يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله
فصل : وإن لم يجد ألا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو كافرا لأنه مثله فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وإن وجده ميتا أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم قال أبو بكر بن داود : أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ] واختار أبو الخطاب أن له أكله وقال لا حجة في الحديث ههنا لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت
مسألة : قال : فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحيي به نفسه وأعطاه ثمنه إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته
وجملته أن إذا اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به ولم يجز لأحد أخذه منه لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه لأن قتله بغير حق وإن لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما لزمه بذل منافعه في انجائه من الغرق والحريق فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لا مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كغير ماله فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لامكان الوصول إليه دونها وإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي أن له قتاله والأولى أن لا يجوز له ذلك لامكان الوصول إليه بدونها وإن اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم يلزمه إلا ثمن مثله لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح من الميتة [ قال أبو هريرة : قلنا يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه ؟ قال : يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل ]
فصل : وإذا اشتدت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت الضرورة خلقا كثيرا وكان عند بعض الناس قدر كفايته وكفاية عياله لم يلزمه بذله للمضطرين وليس لهم أخذه منه لأن ذلك يفضي إلى وقوع الضرورة به ولا يدفعها عنهم وكذلك أن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة لم يلزمه بذل ما معه للمضطرين ولم يفرق أصحابنا بين هذه الحال وبين كونه لا يتضرر بدفع ما معه إليهم في أن ذلك واجب عليه لكونه غير مضطر في الحال والآخر مضطر فوجب تقديم حاجة المضطر
ولنا أن هذا مفض به إلى هلاك عياله فلم يلزمه كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه ولأن في بذله إلقاء بيده إلى التهلكة وقد نهى الله عن ذلك
مسألة : قال : ولا بأس بأكل الضب والضبع
أما الضب فإنه مباح في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو سعيد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم قال أبو سعيد : كنا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة فقال عمر ما يسرني أن مكان كل ضب دجاجة سمينة ولوددت أن في كل حجر ضب ضبين وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي و ابن المنذر
وقال أبو حنيفة هو حرام وبهذا قال الثوري لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن أكل لحم الضب ] وروي نحوه عن علي ولأنه ينهش فأشبه ابن عرس
ولنا ما [ روى ابن عباس قال : دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فقيل هو ضب يا رسول الله فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا ولكنه لم يكن بأرض قوم فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر ] متفق عليه [ قال ابن عباس ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم الضب تقذرا وأكل على مائدته ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و [ قال عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحرم الضب ولكنه قذره ولو كان عندي لأكلته ] ولأن الأصل الحل ولم يوجد المحرم فبقي على الإباحة ولم ثبت فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم نهي ولا تحريم ولأن الإباحة قول من سمينا من الصحابة ولم يثبت عنهم خلافه فيكون إجماعا
فصل : فأما الضبع فرويت الرخصة فيها عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة وإسحاق وقال عروة ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا
وقال أبو حنيفة و الثوري و مالك هو حرام وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب لأنها من السباع وقد [ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهي من السباع فتدخل في عموم النهي وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الضبع فقال : ومن يأكل الضبع ؟ ]
ولنا ما [ روى جابر قال امرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بأكل الضبع قلت صيد هي ؟ قال : نعم احتج به أحمد وفي لفظ قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الضبع فقال هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم ] رواه أبو داود
قال ابن عبد البر هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع لأنه أقوى منه قلنا هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص في رتبة المخصص بدليل تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد فأما الخبر الذي فيه [ ومن يأكل الضبع ؟ ] فحديث طويل يرويه عبد الكريم بن أبي المخارق ينفرد به وهو متروك الحديث ولأن الضبع قد قيل أنها ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس فعلى هذا لا تدخل في عموم النهي والله أعلم

مسائل و فصول ما لا يؤكل
مسألة : قال : ولا يؤكل الترياق لأنه يقع فيه لحوم الحيات
الترياق دواء يتعالج به من السم ويجعل فيه من لحوم الحيات فلا يباح أكله ولا شريه لأن لحم الحية حرام وممن كرهه الحسن و ابن سيرين ورخص فيه الشعبي و مالك لأنه يرى إباحة لحوم الحيات ويقتضيه مذهب الشافعي لإباحته التداوي ببعض المحرمات
ولنا أن لحم الحيات حرام بما قد ذكرناه فيما مضى ولا يجوز التداوي بمحرم ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]
فصل : ولا يجوز التداوي بمحرم ولا بشيء فيه محرم مثل ألبان الاتن ولحم شيء من المحرمات ولا شرب الخمر للتداوي به لما ذكرنا من الخبر ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر له النبيذ يصنع للدواء فقال : انه ليس بدواء ولكنه داء ]
فصل : ويجوز أكل الأطعمة التي فيها الدود والسوس كالفواكه والفثاء والبطيخ والحبوب والخل إذا لم تقذره نفسه وطابت به لأن التحرز من ذلك يشق ويجوز أكل العسل بقشه وفيه فراخ لذلك وإن نقاه فحسن فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أتى بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه وينقيه وهذا أحسن
مسألة : قال : ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله
إنما كان كذلك لأن ما قتله السم محرم وما قتله السهم وحده مباح فإذا مات بسبب مبيح ومحرم حرم كما لو مات برمية مسلم ومجوسي أو قتل الصيد كلب معلم وغيره أو وجد مع كلبه كلبا لا يعرف حاله أو رمى صيدا بسهم فوجده غريقا في الماء أو تردى من جبل أو وطىء عليه شيء فإن علم أن السم لم يعن على قتله لكون السهم أوحى منه فهو مباح لانتفاء المحرم
مسألة : قال : وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر
كل ما يعيش في البر من دواب لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء إلا ما لآدم فيه كالسرطان فإنه يباح بغير ذكاة قال أحمد السرطان لا بأس به قيل له يذبح ؟ قال لا وذلك لأن مقصود الذبح إنما هو إخراج الدم منه وتطييب اللحم بإزالته عنه فما لا دم فيه لا حاجة إلى ذبحه وأما سائر ما ذكرنا فلا يحل إلا أن يذبح قال أحمد كلب الماء يذبحه ولا أرى بأسا بالسلحفاة إذا ذبح والرق يذبحه وقال قوم يحل من غير ذكاة ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] ولأنه من حيوان البحر فأبيح بغير ذكاة كالسمك والسرطان وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كل ما في البحر قد ذكاه الله تعالى لكم وروى الإمام أحمد بإسناده عن شريح رجل أدرك النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل شيء في البحر مذبوح ] [ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله ذبح كل شيء في البحر لابن آدم ]
ولنا أنه حيوان يعش في البر له نفس سائله فلم يبح بغير ذبح كالطير ولا خلاف في الطير فيما علمناه والأخبار محمولة على ما لا يعيش إلا في البحر كالسمك وشبهه لأنه لا يتمكن من تذكيته لأنه لا يذبح إلا بعد إخراجه من الماء وإذا خرج مات

فصول حكم ما لا يعيش إلا في الماء وحكم الضفدع وكلب البحر وغيرهما
فصل : فأما ما لا يعيش إلا في الماء كالسمك وشبهه فإنه يباح بغير ذكاة لا نعلم في هذا خلافا لما ذكرنا من الأخبار وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد ] [ وقد صح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر ميتة فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم أخبروه فقال : هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ؟ ] متفق عليه
فصل : وكل صيد البحر مباح إلا الضفدع وهذا قول الشافعي وقال الشعبي لو أكل أهل الضفادع لاطعمتهم وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في كل ما في البحر قد ذكاه الله لكم وعموم قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } يدل على إباحة جميع صيده وروى عطاء و عمرو بن دينار أنهما بلغهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله ذبح كل شيء فيي البحر لابن آدم ] [ فأما الضفدع فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتله ] رواه النسائي فيدل ذلك على تحريمه فأما التمساح فقد نقل عنه ما يدل على أنه لا يؤكل وقال الأوزاعي لا بأس به لمن اشتهاه وقال ابن حامد لا يؤكل التمساح ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس وقد روي عن إبراهيم النخعي وغيره أنه قال كانوا يكرهون سباع البحر كما يكرهون سباع البر وذلك لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن كل ذي ناب من السباع وقال أبو علي النجاد ما حرم نظيره في البر فهو حرام في البحر ككلب الماء وخنزيره وإنسانه وهو قول الليث إلا في كلب الماء فإنه يرى إباحة كلب البر والبحر وقال أبو حنيفة لا يباح إلا السمك وقال مالك كل ما في البحر مباح لعموم قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه }
فصل : وكلب الماء مباح وركب الحسن بن علي رضي الله عنه سرجا عليه جلد من جلود كلاب الماء وهذا قول مالك و الشافعي و الليث و يقتضيه قول الشعبي و الأوزاعي ولا يباح عند أبي حنيفة وهو قول أبي علي النجاد وبعض أصحاب الشافعي
ولناعموم الآية والخبر قال عبد الله سألت أبي عن كلب الماء فقال حدثنا يحيى بن سعييد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير شريحا رجل أدرك النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل شيء في البحر فهو مذبوح ] قال فذكرت ذلك لـ عطاء فقال أما الطير فنذبحه وقال أبو عبد الله كلب الماء نذبحه
فصل : قيل لأبي عبد الله يكره الجري ؟ قال لا والله وكيف لنا بالجري ؟ ورخص فيه علي و الحسن و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وسائر أهل العلم وقال ابن عباس الجري لا تأكله اليهود ووافقتهم الرافضة ومخالفتهم صواب
فصل : وعن أحمد في السمكة توجد في بطن سمكة أخرى أو حوصلة طائر أو يوجد في حوصلته جراد فقال في موضع : كل شيء أكل مرة لا يؤكل وقال في موضع : الطافي أشد من هذا وقد رخص فيه أبو بكر رضي الله عنه وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي فيما في بطن السمكة دون ما في حوصلة الطائر لأنه كالرجيع ورجيع الطائر عنده نجس
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحلت لنا ميتتان ودمان ] ولأنه حيوان طاهر في محل طاهر لا تعتبر له ذكاة فأبيح كالطافي من السمك وهكذا يخرج في الشعير يوجد في بعر الجمل أو خث الجواميس ونحوها

مسألة حكم ما لو وقعت النجاسة في مائع كالدهن وشبهه
مسألة : قال : وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس واستصبح به إن أحب ولم يحل أكله ولا ثمنه
ظاهر هذا أن النجاسة إذا وقعت في مائع غيرالماء نجسته وإن كثر وهذا ظاهر المذهب وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينجس إذا كثر قال حرب سألت أحمد عن كلب ولغ في سمن أو زيت قال إذا كان في آنية كبيرة مثل حب أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس يؤكل وإذا كان في آنية صغيرة فلا يعجبني أن يؤكل وسئل عن كلب وقع خل أكثر من قلتين فخرج منه وهو حي فقال هذا أسهل من أنه لو مات
وعنه رواة ثالثة ما أصله الماء كالخل التمري يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر وما ليس أصله الماء لا يدفع عن نفسه قال المروذي قلت لأبي عبد الله فإن وقعت النجاسة في خل أو دبس ؟ فقال أما الخل فاصله الماء يعود إلى أن يكون إذا حمل عليه وقال ابن مسعود في فأرة وقعت في سمن : إنما حرم من الميتة لحمها ودمها
ولنا ما [ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن قال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوله وإن كان مائعا فلا تقربوه ] ولأن غير الماء ليس بطهور فلا يدفع النجاسة عن نفسه وحكم الجامد قد ذكرناه فيما تقدم واختلفت الرواية في الإستصباح بالزيت النجس فأكثر الروايات إباحته لأن ابن عمر أمر أن يستصبح به ويجوز أن تطلى به سفينة وهذا قول الشافعي وعن أحمد لا يجوز الاستصباح به وهو قول ابن المنذر ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال : لا هو حرام ] وهذا في معناه ولنا أنه زيت أمكن الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم في العجين الذي عجن بماء من آباء ثمود أنه نهاهم عن أكله وأمرهم أن يعلفوه النواضح وهذا الزيت ليس بميته ولا هو من شحومها فيتناوله الخبر إذا ثبت هذا فإنه يستصبح به على وجه لا يمسه ولا تتعدى نجاسته إليه : إما أن جعل الزيت في أبريق له بلبل ويصب منه في المصباح ولا يمسه وإنا أن يدع على رأس الجرة التي فيها الزيت سراجا مثقوبا أو قنديلا فيه ثقب ويطينه على رأس أناء الزيت أو يشمعه وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء بحيث يرتفع الزيت فيملأ السراج وما أشبهه هذا ولم ير أبو عبد الله أن تدهن بها الجلود وقال يجعل منه الأسقية والقرب
ونقل عن عمر أنه تدهن به الجلود وعجب أحمد من هذا وقال إن في هذا لعجبا شيء يلبس يطيب بشيء فيه ميتة ؟ فعلى قول أحمد كل انتفاع يفضي إلى تنجيس إنسان لا يجوز وإن لم يفض إلى ذلك جاز فأما أكله فلا إشكال في تحريمه ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقربوه ] ولأن النجس خبيث وقد حرم الله الخبائث وأما بيعه فظاهر كلام أحمد رحمه الله تحريمه ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه ] وقال أبو موسى : لتوه بالسويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه
وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أنه يباع لكافر بشرط أن يعلم بنجاسته لأن الكفار يعتقدون حله ويستبيحون أكله
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ] متفق عليه وكونهم يعتقدون حله لا يجوز لنا بيعه لهم كالخمر والخنزير

فصول حكم شحوم الميتة وأنواع ما يكره أكله
فصل : فأما شحوم الميتة وشحم الخنزير فلا يجوز الانتفاع به بإستصباح ولا غيره ولا أن تطلى به السفن ولا الجلود لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله حرم الميتة والخنزير والأصنام قالوا يا رسول الله شحوم الميتة تطلى بها السفن ويدهن به الجلود ويستصبح الناس ؟ قال : لا هي حرام ] متفق عليه
فصل : إذا استصبح بالزيت النجس فدخانه نجس لأنه جزء يستحيل منه والإستحالة لا تظهر فإن علق بشيء وكان يسيرا عفي عنه لأنه لا يمكن التحرر منه فأشبه دم البراغيث وإن كان كثيرا لم يعف عنه
فصل : سئل أحمد عن خباز خبز خبزا فباع منه ثم نظر في الماء عجن منه فإذا فيه فأرة فقال لا يبيع الخبز من أحد وإن باعه استرده فإن لم يعرف صاحبه تصدق بثمنه ويطعمه من الدواب ما لا يؤكل لحمه ولا يطعم لما يؤكل إلا أن يكون إذا أطعمه لم يذبح حتى يكون له ثلاثة أيام على معنى الجلالة قيل له أليس [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تنتفعوا من الميتة ] ؟ قال ليس هذا بمنزلة الميت إنما اشتبه عليه قيل له فهو بمنزلة كسب الحجام يطعم الناضح والرقيق ؟ قال هذا أشد عندي لا يطعم الرقيق لكن يعلفه البهائم قيل له أن الحجة ؟ قال حدثنا عبد الصمد عن صخر عن نافع [ عن ابن عمر أن قوما اختبزوا من آبار الذين مسخوا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أطعموه النواضح ]
فصل : قال أحمد لا أرى أن يطعم كلبه المعلم الميتة ولا الطير المعلم لأنه يضريه على الميتة فإن أكل الكلب فلا أرى صاحبه حرجا ولعل أحمد كره أن يكون الكلب المعلم إذا صار وقتل أكل منه لتضريته بإطعامه الميتة ولم يكره مالك إطعام كلبه وطيره الميتة لأنه غير مأكول إذا كان لا يشرب في إنائه
فصل : قال أحمد : أكره أكل الطين ولا يصح فيه حديث إلا أنه يضر بالبدن ويقال أنه رديء وتركه خير من أكله وإنما كرهه أحمد لأجل مضرته فإن كان منه ما تدواى به كالطين الأرمني فلا يكره وإن كان مما لا مضرة فيه ولا نفع كالشيء اليسير جازأكله لأن الأصل الإباحة والمعنى الذي لأجله كره ما يضر وهو منتف ههنا فلم يكره
فصل : ويكره أكل البصل والثوم والكراث والفجل وكل ذي رائحة كريهة من أجل رائحته سواء أراد دخول المسجد أو لم رد لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس ] رواه ابن ماجة وإن أكله لم يقرب من المسجد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا ] وفي رواية : [ فلا يقربنا في مساجدنا ] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وليس أكلها محرما [ لما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إليه بطعام لم يأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فيه الثوم فقال يا رسول الله أحرام هو ؟ قال لا ولكنني أكرهه من أجل ريحه ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح [ وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي : كل الثوم فلولا أن الملك يأتيني لأكلته ] وإنما منع أكلها يؤذيي الناس برائحته ولذلك نهى عن قربان المساجد فإن أتى المساجد كره له ذلك ولم يحرم عليه [ لما روى المغيرة بن شعبة قال : أكلت ثوما مصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ريح الثوم فلما قضى صلاته قال : من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها فجئت فقلت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتعطني يدك قال فادخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر فقال : إن لك عذرا ] رواه أبو داود وقد روي عن أحمد أنه يأثم لأن ظاهر النهي التحريم ولأن أذى المسلمين حرام وهذا فيه أذاهم
فصل : ويكره أكل الغدة واذن القلب لما [ روي عن مجاهد قال كره رسول الله صلى الله عليه و سلم من الشاة ستا وذكر هذين ] ولأن النفس تعافهما وتستخبثهما ولا أظن أحمد كرههما إلا لذلك لا للخبر لأنه قال فيه هذا حديث منكر ولأن في الخبر ذكر الطحال وقد قال أحمد لا بأس به ولا أكره منه شيئا
فصل : وقيل لأبي عبد الله الجبن ؟ قال : يؤكل من كل وسئل عن الجبن الذي صنعه المجوس فقال ما أدري إلا أن أصح حديث فيه حديث الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال سئل عمر عن الجبن وقيل له يعمل فيه الأنفحة الميتة فقال : سموا أنتم وكلوا رواه معاوية عن الأعمش وقال : أليس الجبن الذي نأكله عامته يصنعه المجوس ؟
فصل : ولا يجوز أن يشتري الجوز الذي يتقامر به الصبيان ولا البيض الذي يتقامرون به يوم العيد لأنهم يأخذونه بغير حق

فصل في الضيافة
قال أحمد والضيافة على كل المسلمين كل من نزل عليه ضيف كان عليه أن يضيفه قيل أن ضاف الرجل ضيف كافر يضيفه ؟ قال [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ] وهذا الحديث بين ولما أضاف المشرك دل على أن المسلم والمشرك يضاف وأنا أراه كذلك والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على المسلم والكافر واليوم والليلة حق واجب وقال الشافعي ذلك مستحب وليس بواجب لأنه غير مضطر إلى طعامه فلم يجب عليه بذله كما لو لم يضفه
ولنا ما روى المقدام بن أبي كريمة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليلة الضيف حق واجب فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضى وإن شاء ترك ] حديث صحيح وفي لفظه : [ ايما رجل ضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره على كل مسلم حتى يأخذ بحقه من زرعه وماله ] رواه أبو داود والواجب يوم ليلة والكمال ثلاثة أيام لما روى أبو شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم ليلة ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه قالوا يا رسول الله كيف يؤثمه ؟ قال : يقيم عنده وليس عنده ما يقريه ] متفق عليه قال أحمد جائزته يوم وليلة كأنه أوكد من سائر الثلاثة ولم يرد يوما وليلة سوى الثلاثة لأنه يصير أربعة أيام وقد قال وما زاد على الثلاثة فهو صدقة فإن امتنع من إضافته فللضيف بقدر ضيافته [ قال أحمد له أن يطالبهم بحقه الذي جعله له النبي صلى الله عليه و سلم ولا يأخذ شيئا إلا بعلم أهله وعنه رواية أخرى أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم لما روى عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله انك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا قال : إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ] متفق عليه وقال أحمد في تفسير قول النبي صلى الله عليه و سلم [ فله أن يعقبهم بمثل قراه ] يعني أن يأخذ من أرضهم وزرعهم وضرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنه وعن أحمد رواية أخرى أن الضيافة على أهل القرى دون أهل الأمصار قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الضيافة أي شيء تذهب فيها ؟ قال هي مؤكدة وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين ير بهم الناس أوكد فأ مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك

فصول فيما يستحب عند الطعام وفي آداب الأكل
فصل : قال المروذي سألت أبا عبد الله قلت تكره الخبز الكبار قال نعم أكرهه ليس فيه بركة إنما البركة في الصغار وقال مرهم أن لا يخبزوا كبارا قال رأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام وبعده وإن كان على وضوء وقال مهنا ذكرت ليحيى بن معين حديث قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن زادان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ بركة الطعام الوضوء قبله وبعده ] فقال لي يحيى ما أحسن الوضوء قبله وبعده وذكرت الحديث لـ أحمد فقال ما حدث بهذا إلا قيس بن الربيع وهو منكر الحديث قلت بلغني عن يحيى بن سعيد قال كان سفيان يكره غسل اليد عند الطعام لم كره سفيان ذلك ؟ قال لأنه من زي العجم قلت بلغني عن يحيى بن سعيد قال كان سفيان يكره أن يكون تحت القصعة الرغيف لم كرهه سفيان ؟ قال كره أن يستعمل الطعام قلت تكرهه أنت ؟ قال نعم وروي عن عقيل قال حضرت مع ابن شهاب وليمة ففرشوا المائدة بالخبز فقال لا تتخذوا الخبز بساطا وقال المروذي قلت لأبي عبد الله إن أبا معمر قال إن أبا أسامة قدم اليهم خبزا فكسره قال هذا لئلا تعرفوا كم تأكلون وقيل لأبي عبد الله يكره الأكل متكئا ؟ قال أليس [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا آكل متكئا ] رواه أبو داود و [ عن شعيب بن عبد الله بن عمرو عن أبيه قال ما رئي رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل متكئا قط ] رواه أبو داود و [ عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأكل الرجل وهو منبطح ] رواه أبو داود
فصل : وتستحب التسمية عند الطعام وحمد الله عند آخره لما [ روى عمر بن أبي مسلمة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه و سلم فجالت يدي في القصعة فقال : سم الله كل بيمينك وكل مما يليك قال فما زالت أكلتي بعد ] رواه ابن ماجة : بمعناه و أبو داود وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال : لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ للطاعم الشاكر مثل ما للصائم الصابر ] قال أحمد معناه إذا أكل وشرب يشكر الله ويحمده على ما رزقه وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي إن يذكر اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره ] رواه أبو داود وعن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ] [ عن أبي سعيد قال كان النبي صلى الله عليه سلم إذا أكل طعاما قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ] [ عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا رفع طعامه أو ما بين يديه قال : الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع ] رواهن ابن ماجة
فصل : ويأكل بيمينه ويشرب بها لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم قال : [ إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ] رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة
ويستحب الأكل بثلاث أصابع لما روى كعب بن مالك قال [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل بثلاث أصابع ولا يمسح يده حتى يلعقها ] رواه الإمام أحمد وذكر له حديث ترويه ابنة الزهري أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأكل بكفه كلها فلم يصححه ولم ير ثلاث أصابع وروي عن أحمد أنه أكل خبيصا بكفه كلها وروي عن عبد الله بن بريدة أنه كان ينهى بناته أن يأكلن بثلاث أصابع وقال : لا تشبهن الرجال
فصل : قال مهنا : سألت أحمد عن حديث عائشة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقطعوا اللحم بالسكين فإن ذلك صنيع الأعاجم ] فقال ليس بصحيح لا نعرف هذا وقال حديث عمرو بن أمية الضمري خلاف هذا [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يختز من لحم الشاة فقام إلى الصلاة وطرح السكين ] وحديث مسعر عن جامع بن شداد عن المغيرة اليشكري [ عن المغيرة بن شعبة : ضفت برسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فألقى الشفرة ] قال وسألت أحمد عن حديث أبي جحيفة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : اكفف جشاءك يا أبا جحيفة فإن أكثركم شبعا اليوم أكثركم جوعا يوم القيامة ] فقال هو ويحيى جميعا ليس بصحيح
فصل : [ وروي عن ابن عباس قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في الإناء ] و [ عن أنس قال ما أكل النبي صلى الله عليه و سلم على خوان ولا في سكرجة ] قال قتادة فعلام كانوا يأكلون ؟ قال على السفر [ وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يقام على الطعام حتى يرفع ] وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا وضعت المائدة فلا يقم رجل حتى ترفع المائدة ولا يرفع يده وإن شبع حتى يفرغ القوم وليعذر فإن الرجل يخجل جليسه فيقبض يده وعسى أن يكون له في الطعام حاجة ] وعن نبيشة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أكل في قصعة فلحسها استغفرت له القصعة ] وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يمسح أحدكم يده حتى يلعقها فإنه لا يدري في أي طعامه البركة ] رواهن ابن ماجة
فصل : وسئل أبو عبد الله عن غسل اليد بالنخالة فقال لا بأس به نحن نفعله وسئل عن الرجل يأتي القوم وهم على طعام فجأة لم يدع إليه فلما دخل إليهم دعوه هل يأكل ؟ قال نعم ومابأس وسئل عن حديث النبي صلى الله عليه و سلم أنه ادخر لأهله قوت سنة هو صحيح ؟ قال نعم ولكنهم يختلفون في لفظه
فصل : [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ] و [ عن جابر قال : صنع أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله طعاما فدعا النبي وأصحابه فلما فرغوا قال : اثيبوا أخاكم قالوا يا رسول الله وما إثابته ؟ قال : إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته ] رواه أبو داود والله أعلم

مسألة الأضحية سنة
الاصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه : { فصل لربك وانحر } قال بعض أهل التفسير المراد بالأضحية بعد صلاة العيد [ أما السنة فما روى أنس قال ضحى النبي صلى الله عليه و سلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما ] متفق عليه والأملح الذي بياض وسواد بياضه أغلب قال الكسائي وقال ابن الأعرابي هو النقس البياض قال الشاعر :
( حتى أكتسى الرأس قناعا أشيبا ... أملح لا لدا ولا محببا )
وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية
مسألة : قال : والأضحية سنة لا يستحب تركها لمن يقدر عليها
أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة روي ذلك عن أبي بكر عمر بلال و أبي مسعود البدري رضي الله عنهم وبه قال سويد بن عفلة و سعيد بن المسيب و علقمة والأسود عطاء و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال ربيعة و مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و أبو حنيفة هي واجبة لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ] وعن محنف بن سليم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يا أيها الناس : إن على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة ]
ولنا ما روى الدار قطني بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاث كتبت علي وهن لكم تطوع ] وفي رواية : [ الوتر والنحر وركعتا الفجر ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا ] رواه مسلم علقه على الارادة والواجب لا يعلق على الإرادة ولأنها ذبيحة لا يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة فأما حديثهم فقد ضعفه أصحاب الحديث ثم نحمله على تأكيد الإستحباب كما قال : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] وقال : [ من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا ] وقد روي عن أحمد في اليتيم : يضحي عنه وليه إذا كان موسرا وهذا على سبيل التوسعة في يوم العيد لا على سبيل الإيجاب

فصل الأضحية أفضل من الصدقة
والأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد وبهذا قال ربيعة و أبو داود و أبو الزناد وروي عن بلال أنه قال : ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فوه فهو أحب إلي من أن أضحي وبهذا قال الشعبي و ابو ثور وقالت عائشة : لأن أتصدق بخاتمي هذا أوجب إلي من أن أهدي إلى البيت ألفا
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى والخلفاء بعده ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ماعمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب الله من اراقه دم وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها واظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا ] رواه ابن ماجة ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما قول عائشة فهو في الهدي دون الأضحية وليس الخلاف فيه

مسألة حكم من أراد أن يضحي فدخل العشر
مسألة : قال : ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا
ظاهر هذا تحري قص الشعر وهو قول بعض أصحابنا وحكاه ابن المنذر عن أحمد و إسحاق و سعيد بن المسيب وقال القاضي وجماعة من أصحابنا هو مكروه غير محرم وبه قال مالك و الشافعي لقول عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي متفق عليه وقال أبو حنيفة لا يكره ذلك لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي
ولنا ما روت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من اظفاره شيئا حتى يضحي ] رواه مسلم ومقتضى النهي التحريم وهذا يرد القياس ويبطله وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ليفعل مانهى عنه وإن كان مكروها قال الله تعالى إخبارا عن شعيب : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليفعله فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره ولأن عائشة تعلم ظاهرا ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائما كاللباس والطيب فأما ما يفعله نادرا كقص الشعر وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها وإن احتمل أرادتها إياه فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص ولأن عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة عن قوله والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصا له إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار فإن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية فيه إجماعا سواء فعله عمدا أو نسيانا

مسألة تجزىء البدنة عن سبعة وكذلك البقرة
مسألة : قال : وتجزىء البدنة عن سبعة وكذلك البقرة
وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء و طاوس و سالم و الحسن و عمرو بن دينار و الثوري و الأوزاعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن عمر أنه قال لا تجزىء نفس واحدة عن سبعة ونحوه قول مالك قال أحمد ماعلمت أحدا لا يرخص في ذلك إلا ابن عمر وعن سعيد بن المسيب أن الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة وبه قال إسحاق لما روى رافع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير ] متفق عليه [ وعن ابن عباس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة ] رواه ابن ماجة
ولنا ما روى جابر قال : [ نحرنا بالحديبية مع النبي صلى الله عليه و سلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وقال أيضا كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها ] رواه مسلم وهذا إن صح من حديثهم وأما حديث رافع فهو في القسمة لا في الأضحية إذا ثبت هذا فسواء كان المشتركون من أهل بيت أو لم يكونوا مفترضين أو متطوعين أو كان بعضهم يريد القربة وبعضهم يريد اللحم لأن كل إنسان منهم إنما يجزىء عنه نصيبه فلا تضره نية غيره في عشرة

فصل لا بأس أن يذبح الرجل عن أهله شاة واحدة
ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بقرة أو بدنة نص عليه أحمد وبه قال مالك و الليث و الأوزاعي و إسحاق [ وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة قال صالح قلت لأبي يضحي بالشاة عن أهل البيت ؟ قال نعم لا بأس قد ذبح النبي صلى الله عليه و سلم كبشين فقرب أحدهما فقال : بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته وقرب الآخر فقال : بسم الله اللهم هذا منك ولك عمن وحدك من أمتي ] وحكي عن أبي هريرة أنه كان يضحي بالشاة فتجيء ابنته فتقول عني ؟ فيقول وعنك وكره ذلك الثوري و أبو حنيفة لأن الشاة لا تجزىء عن أكثر من واحد فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزىء عنهما كالأجنبيين
ولنا ما روى مسلم بإسناده عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بكبشين ليضحي به فأضجعه ثم ذبحه ثم قال : بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ] وعن جابر قال [ ذبح رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الذبح كبشين أملحين أقرنين فلما وجههما قال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر ] ثم ذبح رواه أبو داود وروى ابن ماجة عن أبي أيوب قال [ كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه و سلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون الناس ] حديث حسن صحيح

فصلان ترتيب الأضاحي والسنة استسمانها
وافضل الأضاحي البدنة ثم البقرة ثم الشاة ثم شرك في بقرة وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و قال مالك الأفضل الجذع من الضأن ثم البقرة ثم البدنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين ولا يفعل إلا الأفضل ولو علم الله خيرا منه لفدى إسحاق به
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في الجمعة : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ] ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى البدنة فيه أفضل كالهدي فإنه قد سلمه ولأنها أكثر ثمنا ولحما وأنفع فأما التضحية بالكبش فلأنه أفضل أجناس الغنم وكذلك حصول الفداء به أفضل والشاة أفضل من شرك في بدنة لأن اراقة الدم مقصودة في الأضحية والمنفرد يتقرب بإراقته كله والكبش أفضل الغنم لأنه أضحية النبي صلى الله عليه و سلم وهو أطيب لحما [ وذكر القاضي أن جذع الضأن أفضل من ثني المعز لذلك ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : نعم الأضحية الجذع من الضأن وهو حديث غريب ويحتمل أن الثني أفضل لقول النبي صلىالله عليه وسلم : لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر علكم فاذبحوا الجذع من الضأن ] رواه مسلم و أبو داود وهذا يدل على فضل الثني على الجذع لكونه جعل الثني أصلا والجذع بدلا لا ينتقل إليه إلا عند عدم الثني
فصل : ويسن استسمان الأضحية واستحسانها لقول الله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } قال ابن عباس تعظيمها استسمانها واستعظامها واستحسانها ولأن ذلك أعظم لأجرها وأكثر لنفعها والأفضل في الأضحية من الغنم في لونها البياض لما روي عن مولاة أبي ورقة بن سعيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين ] رواه أحمد بمعناه وقال أبو هريرة : [ دم بيضاء أحب إلى الله من دم سوداوين ] ولأنه لون الأضحية النبي صلى الله عليه و سلم ثم ما كان أحسن لونا فهو أفضل

مسألتان و فصلان ما لا يجزىء من الأضحية معنى الجذع من الضأن
مسألة : قال : ولا يجزىء إلا الجذع من الضأن والثني من غيره
وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عمر و الزهري لا يجزىء الجذع لأنه لا يجزىء من غير الضأن فلا يجزىء منه كالحمل وعن عطاء و الأوزاعي فلا يجزىء الجذع من جميع الأجناس لما روى مجاشع ابن سليم قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الجذع يوفي مما يوفى منه الثني ] رواه أبو داود و النسائي
ولنا أن الجذع من الضأن يجزىء حديث مجاشع وأبي هريرة وغيرهما وعلى أن الجذعة من غيرها لا تجزىء قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن وقال أبو بردة بن نيار عندي جذعة أحب إلي من شاتين فهل تجزىء عني ؟ قال : نعم ولا تجزىء عن أحد بعدك ] متفق عليه وحديثهم محمول على الجذع من الضأن لما ذكرنا قال إبراهيم الحربي إنما يجزىء الجذع من الضأن لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يكون ثنيا
فصل : ولا يجزىء في الأضحية غير بهيمة الأنعام وإن كان أحد أبويه وحشيا لم يجزىء أيضا وحكي عن الحسن بن صالح أن بقرة الوحش تجزىء عن سبعة والظبي عن واحد وقال أصحاب الرأي : ولد البقرة الأنسية يجزىء وإن كان أبوه وحشيا وقال أبو ثور يجزىء إذا كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام
ولنا قول الله تعالى : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم وعلى أصحاب الرأي أنه متولد من بين ما يجزىء وما لا يجزىء فلم يجزىء كما لو كانت الأم وحشية
مسألة : قال : والجذع من الضأن ما له ستة أشهر ودخل في السابع
قال أبو القاسم وسمعت أبي يقول سألت بعض أهل البادية كيف تعرفون الضأن إذا أجذع ؟ قال لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا فإذا قامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة والإبل إذا كمل لها خمس سنين ودخلت في السادسة قال الأصمعي وأبو زياد الكلابي وأو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة والقى ثنيته فهو حينئذ ثني ونرى إنما سمي ثنيا لأنه ألقى ثنيته وأما البقرة فهي التي لها سنتان لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تذبحوا إلا مسنة ] ومسنة البقرة التي لها سنتان وقال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أو ستة أشهر

مسألة فيما يجتنب من الضحايا
مسألة : قال : ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها والعجفاء التي لا تنقي والعرجاء البين عرجها والمريضة التي لا يرجى برؤها والعضباء والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن
أما العيوب الأربعة الأول فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في أنها تمنع الأجزاء لما روى البراء قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والعجفاء التي لا تنقي ] رواه أبو داود و النسائي ومعنى العوراء البين عورها التي قد انخسفت عينها وذهبت لأنها قد ذهبت عينها والعين عضو مستطاب فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها لأن عورها ليس ببين ولا ينقص ذلك لحمها والعجفاء المهزولة التي لا تنقي هي التي لا مخ لها في عظامها لهزالها والنقي المخ قال الشاعر :
( لا تشكين عملا ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين )
فهذه لا تجزىء لأنها لا لحم فيها إنما هي عظام مجتمعة وأما العرجاء البين عرجها فهي التي بها عرج فاحش وذلك يمنعها من اللحاق بالغنم فتسبقها إلى الكلأ فيرعينه ولا تدركهن فينقص لحمها فإن كان عرجا يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت وأما المريضة التي لا يرجى برؤها فهي التي بها مرض قد يئس من زواله لأن ذلك ينقص لحمها وقيمتها نقصا كبيرا والذي في الحديث المريضة البين مرضها وهي التي يبين أثره عليها لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده وهو أصح وذكر القاضي أن المراد بالمريضة الجرباء لأن الجرب يفسد اللحم ويهزل إذا كثر وهذا قول أصحاب الشافعي وهذا تقييد للمطلق وتخصيص للعموم بلا دليل فالمعنى يقتضي العموم كما يقتضيه اللفظ فإن كان المرض يفسد اللحم وينقصه فلا معنى للتخصيص مع عموم اللفظ والمعنى
وأما العضب فهو ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن وذلك يمنع الأجزاء أيضا وبه قال النخعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة و الشافعي تجزىء مكسورة القرن وروي نحو ذلك عن علي وعمار و ابن المسيب و الحسن و قال مالك أن كان قرنها يدمى لم يجز وإلا جاز وقال عطاء و مالك إذا ذهبت الأذن كلها لم يجز وان ذهب يسير جاز واحتجوا بأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أربع لا تجوز في الأضاحي ] يدل على أن غيره يجزىء ولأن في حديث البراء عن عبيد بن فيروز قال : قلت للبراء فإني أكره النقص من القرن ومن الذنب فقال أكره لنفسك ما شئت وإياك أن تضيق على الناس ولأن المقصود اللحم ولا يؤثر ذهاب ذلك فيه
[ ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يضحى بأعضب القرن والأذن ] قال قتادة فسألت سعيد بن المسيب فقال نعم العضب النصف فأكثر من ذلك رواه الشافعي و ابن ماجة [ وعن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن ] رواه أبو داود و النسائي وهذا منطوق يقدم على المفهوم

فصول لا تجزىء العمياء و تجزىء الخصي وتجزىء الجماء وتكره المشقوقة الأذن
فصل : ولا تجزىء العمياء لأن النهي عن العوراء تنبيه على العمياء وإن لم يكن عماها بينا لأن العمى يمنع مشيها مع الغنم ومشاركتها في العلف ولا تجزىء ما قطع منها عضو كالألية والأطباء لأن ابن عباس قال : لا تجوز العجفاء ولا الجداء قال أحمد هي التي قد يبس ضرعها ولأن ذلك أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين
فصل : ويجزىء الخصي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين موجوءين ] والوجأ رض الخصيتين وما قطعت خصيتاه أو شلتا فهو كالموجوء لأنه في معناه ولأن الخصاء ذهاب عضو غير مستطاب بطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن قال الشعبي ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه وبهذا قال الحسن و عطاء و الشعبي و النخعي و مالك و الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا
فصل : وتجزىء الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن والصمعاء وهي الصغيرة الأذن والبتراء وهي التي لا ذنب لها سواء كان خلقة أو مقطوعا وممن لم ير بأسا بالبتراء ابن عمر و سعيد بن المسيب و الحسن وسعيد بن جبير و النخعي و الحكم و كره الليث أن يضحى بالبتراء ما فوق القصبة
وقال ابن حامد لا تجوز التضحية بالجماء لأن ذهاب أكثر من نصف القرن يمنع فذهاب جميعه أولى ولأن ما منع منه العور منع منه العمى وكذلك ما منع منه العضب يمنع منه كونه أجم أولى
ولنا أن هذا نقص لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد به نهي فوجب أن يجزىء وفارق العضب فإن النهي عنه وارد وهو عيب فإنه ربما أدمى وآلم الشاة فيكون كمرضها ويقبح منظرها بخلاف الأجم فإنه حسن في الخلقة ليس بمرض ولا عيب إلا أن الأفضل ما كان كامل الخلقة [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبش أقرن محيل وقال : خير الأضحية الكبش الأقرن ] وأمر باستشراف العين والأذن
فصل : وتكره المشقوقة الأذن والمثقوبة وما قطع شيء منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ] قال زهير قلت لأبي إسحاق ما المقابلة ؟ قال تقطع طرف الأذن قلت فما المدابرة ؟ قال تقطع من مؤخرة الأذن قلت فما الخرقاء ؟ قال تشق الأذن قلت فما الشرقاء ؟ قال تشق أذنها السمة رواه أبو داود و النسائي قال القاضي : الخرقاء التي انبثقت أذنها وهذا نهي تنزيه ويحصل الأجزاء بها ولا نعلم فيه خلافا ولأن اشتراط السلامة من ذلك يشق إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله

فصول في الأضحية وحكم ما لو اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيبا
مسألة : قال : ولو أوجبها سليمة فنابت عنده ذبحها وكانت أضحية
وجملته أنه إذا أوجب أضحية صحيحة سليمة من العيوب ثم حدث بها عيب بمنع الأجزاء ذبحها وأجزأته روي هذا عن عطاء و الحسن و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أصحاب الرأي لا تجزئه لأن الأضحية عندهم واجبة فلا يبرأ منها إلا بإراقة دمها سليمة كما لو أوجبها في ذمته ثم عينها فعابت
ولنا ما [ روى أبو سعيد قال : ابتعنا كبشا نضحي به فأصاب الذئب من الميتة فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم فأمرنا أن نضحي به ] رواه ابن ماجة ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة فلم يمنع الأجزاء كما لو حدث بها عيب بمعالجة الذبح ولا نسلم أنها واجبة في الذمة وإنما تعلق الوجوب بعينها فلما أن تعيبت بفعله فعليه بدلها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا عالج ذحبها فقلعت السكين عينها أجزأت استحسانا
ولنا أنه عيب أحدثه بها قبل ذبحها فلم تجزئه كما لو كان قبل معالجة الذبح
فصل : وإن نذر أضحية في ذمته ثم عينها في شاة تعين فإن عابت تلك الشاة قبل ذبحها لم تجزىء لأن ذمته لا تبرأ إلا بذبح شاة سليمة كما لو نذر رقبة أو كان عليه عتق رقبة في كفارة فاشتراها ثم عابت عنده لم تجزئه وإن قال لله علي عتق هذ العبد فعاب أجزأ عنه
فصل : وإذا أتلف الأضحية الواجبة فعليه قيمتها لأنها من المتقومات وتعتبر القيمة يوم أتلفها فإن غلت الغنم فصار مثلها خيرا من قيمتها فقال أبو الخطاب يلزمه مثلها لأنه أكثر الأمرين ولأنه تعلق بها حق الله تعالى في ذبحها فوجب عليه مثلها كما لو لم تتعيب بخلاف الآدمي وهذا مذهب الشافعي وظاهر قول القاضي أنه لا يلزمه إلا القيمة يوم أتلافها وهو قول أبي حنيفة لأنه إتلاف أوجب القيمة فلم يجب أكثر من القمية يوم الإتلاف كما لو أتلفها أجنبي وكسائر المضمونات فإن رخصت الغنم فزادت فيمتها على مثلها مثل أن كانت قيمتها عند إتلافها عشرة فصارت قيمة مثلها خمسة فعليه عشرة وجها واحدا فإن شاء اشترى بها أضحية واحدة تساوي عشرة وإن شاء اشترى اثنتين وإن شاء اشترى أضحية واحدة فإن فضل من العشرة ما لا يجيء به أضحية اشترى به شركا في بدنة فإن لم يتسع لذلك أو لم تمكنه المشاركة ففيه وجهان
أحدهما : يشتري لحما ويتصدق به لأن الذبح وتفرقة اللحم مقصودان فإذا تعذر أحدهما وجب الآخر
والثاني : يتصدق بالفضل لأنه إذا لم يحصل له التقرب بإراقة الدم كان اللحم وثمنه سواء فإن كان المتلف أجنبيا فعليه قيمتها يوم أتلفها وجها واحدا ويلزمه دفعها إلى صاحبها فإن زاد على ثمن مثلها فحكمه حكم ما لو أتلفها صاحبها وإن لم تبلغ القيمة ثمن أضحية فالحكم فيه على ما مضى فيما زاد على ثمن الأضحية في حق المضحي فإن تلفت الأضحية في يده بغير تفريط أو سرقت أو ضلت فلا شيء عليه لأنها أمانة في يده فلم يضمنها إذا لم يفرط كالوديعة
فصل : وإن اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيبا فله ردها إن شاء وإن شاء أخذ أرشها ثم إن كان عيبها يمنع إجزاءها لم يكن له التضحية بها وإلا فله أن يضحي بها ولا أرش له وإن أوجبها ثم علم أنها معيبة فذكر القاضي أنه مخير بين ردها وأخذ أرشها فإن أخذ أرشها فحكمه حكم الزائد عن قيمة الأضحية على ما ذكرناه ويحتمل أن يكون الأرش له لأن إيجابها إنما صادفها بدون هذا الذي أخذ أرشه فلم يتعلق الإيجاب بالأرش ولا بمبدله فأشبه ما لو تصدق بها ثم أخذ أرشها وعلى قول أبي الخطاب لا يملك ردها لأنه قد زال ملكه عنها بإيجابها فأشبه ما لو اشترى عبدا معيبا فأعتقه ثم علم عيبه وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا يتعين أخذ الأرش وفي كون الأرش للمشتري ووجوبه في التضحية وجهان ثم ننظر فإن كان عيبها لا يمنع أجزاءها فقد صح إيجابها والتضحية بها وإن كان عيبها يمنع إجزاءها فحكمه حكم ما لو أوجبها عاملا بعيبها على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى

مسألة إذا ذبحت الأضحية ذبح ولدها معها
مسألة : قال : وإن ولدت ذبح ولدها معها
وجملته أنه إذا عين أضحية فولدها تابع لها حكمه حكمها سواء كان حملا حين التعيين أو حدث بعده وبهذا قال الشافعي وعن أبي حنيفة لا يذبحه ويدفعه إلى المساكين حيا وإن ذبحه دفعه إليهم مذبوجا وأرش ما نقصه الذبح لأنه من نمائها لزمه دفعه إليهم على صفته كصوفها وشعرها
ولنا أن استحقاق ولدها حكم يثبت لولد بطريق السراية من الأم فيثبت له ما يثبت لها كولد أو الولد والمدبرة إذا ثبت هذا فإنه يذبحه كما يذبحها لأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه ولا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه كأمه
وقد روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها وأنها وضعت هذا العجل ؟ فقال علي لا تحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن زهير العبسي عن المغيرة بن حذف عن علي

فصلان حكم لبن الأضحية وصوفها
فصل : ولا يشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها فإن لم يفضل عنه شيء أو كان الحلب يضر بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحلبها ويرش على الشرع الماء حتى ينقطع اللبن فإن احتلبها تصدق به لأن اللبن متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد
ولنا قول علي رضي الله عنه لا يحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها ولأنه انتفاع لا يضرها فأشبه الركوب ويفارق الولد فإنه يمكن أيصاله إلى محله أما اللبن فإن حلبه وتركه وإن لم يحلبه تعقد الضرع وأضر بها فجوز له شربه وإن تصدق به كان أفضل وإن احتلب ما يضر بها أو بولدها لم يجز له وعليه أن يتصدق به فإن قيل فصوفها وشعرها ووبرها إذا جزه تصدق به ولم ينتفع به فلم أجزتم له الانتفاع باللبن ؟ قلنا الفرق بينهما من وجهين أحدهما : أن لبنها يتولد من غذائها وعلفها وهو القائم به فجاز صرفه إليه كما أن المرتهن إذا علف الرهن كان له أن يحلب ويركب وليس له أن يأخذ الصوف ولا الشعر
الثاني : ان الصوف والشعر ينتفع به على الدوام فجرى مجرى جلدها وأجزائها واللبن يشرب ويؤكل شيئا فشيئا فجرى مجرى منافعها وركوبها ولأن اللبن يتجدد كل يوم والصوف والشعر عين موجودة دائمة في جميع الحول
فصل : وأما صوفها فإن كان جزه أنفع لها مثل أن يكون في زمن الربيع تخف بجزه وتسمن جاز جزه ويتصدق به وإن كان لا يضر بها لقرب مدة الذبح أو كان بقاؤه أنفع لها لكونه يقيها الحر والبرد لم يجز له أخذه كما أنه ليس له أخذ بعض أجزائها

مسألتان في إيجاب الأضحية
مسألة : قال : وإيجابها أن يقول هي أضحية
وجملة ذلك أن الذي تجب به الأضحية وتتعين به هو القول دون النية وهذا منصوص الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة إذا اشترى شاة أو غيرها بنية الأضحية صارت أضحية لأنه مأمور بشراء أضحية فإذا اشتراها بالنية وقعت عنها كالوكيل
ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف ويفارق البيع فإنه لا يمكنه جعله لموكله بعد إيقاعه وههنا بعد الشراء يمكنه جعلها أضحية فأما إذا قال هذه أضحية صارت واجبة كما يعتق العبد بقول سيده هذا حر ولو أنه قلدها أو أشعرها ينوي به جعلها أضحية لم تصر أضحية حتى ينطق به لما ذكرنا
مسألة : قال : ولو أوجبها ناقصة ذبحها لم تجزئه
يعني إذا كانت ناقصة نقصا يمنع الأجزاء فأوجبها وجب عليه ذبحها لأن إيجابها كالنذر لذبحها فيلزمه الوفاء به ولأن إيجابها كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام فإنه يلزمه الوفاء به ولا يجزئه عن الأضحية الشرعية ولا تكون أضحية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أربع لا تجزىء في الأضاحي ] ولكنه يذبحها ويثاب على ما تصدق به منها كما يثاب على الصدقة بما لا يصلح أن يكون هديا وكما لو أعتق عن كفارته عبدا لا يجزىء في الكفارة إلا أنه ههنا لا يلزمه بدلها لأن الأضحية في الأصل غير واجبة ولم يوجد منه ما يوجبها وإن كانت الأضحية واجبة عليه مثل من نذر أضحية في ذمته أو أتلف أضحيته التي أوجبها لم تجزئه هذه عما في ذمته فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها أو مريضة فبرأت أو عرجاء فزال عرجها فقال القاضي قياس المذهب أنها تجزىء وقال أصحاب الشافعي لا تجزىء لأن الإعتبار بحال إيجابها ولأن الزيادة فيها كانت للمساكين كما أن نقصها بعد إيجابها عليهم لا يمنع من كونها أضحية
ولنا أن هذه أضحية يجزىء مثلها فيجزىء كما لو لم يوجبها إلا بعد زوال عينها

مسألة لا تباع أضحية الميت في دينه ويأكلها ورثته
مسألة : قال : ولا تباع أضحية الميت في دينه ويأكلها ورثته
يعني إذا أوجب أضحية ثم مات لم يجز بيعها وإن كان على الميت دين لا وفاء له وبهذا قال أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي وقال الأوزاعي إن ترك دينا لا وفاء له إلا منها بيت فيه وقال مالك إن تشاجر الورثة فيها باعوها
ولنا أنه تعين ذبحها فلم يصح بيعها في دينه كما لو كان حيا إذا ثبت هذا فإن ورثته يقومون مقامه في الأكل والصدقة والهدية لأنهم يقومون مقام موروثهم فيما له وعليه

مسألة فصلان ما يستحب وما يجوز في الأضحية
فصل : واختلفت الرواية هل تجوز التضحية عن اليتيم من ماله ؟ فروي أنه ليس للولي ذلك لأنه إخراج شيء من ماله بغير فلم يجز كالصدقة والهدية وهذا مذهب الشافعي وروي أن للولي أن يضحي عنه إذا كان موسرا وهذا قول أبي حنيفة و مالك قال مالك : إذا كان له ثلاثون دينارا يضحي عنه بالشاة بنصف دينار لأنه إخراج مال يتعلق بيوم العيد فجاز إخراجه من مال اليتيم كصدقة الفطر فعلى هذا يكون هذا يكون إخراجها من ماله على سبيل التوسعة عليه والتطييب لقلبه واشراكه لامثاله في مثل هذا اليوم كما يشتري له الثياب الرفيعة للتجمل والطعام الطيب ويوسع عليه في النفقة وإن لم يجب ذلك ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الروايتين على حالين فالموضع الذي منع التضحية إذا كان اليتيم طفلا لا يعقل التضحية ولا يفرح بها ولا يكسر قلبه بتركها لعدم الفائدة فيها فيحصل إخراج ثمنها تضييع مال لا فائدة فيه والموضع الذي أجازها إذا كان اليتيم يعقلها وينجبر قلبه بها وينكسر بتركها لحصول الفائدة منها والضرر بتفويتها واستدل أبو الخطاب بقول أحمد : يضحي عنه على وجوب الأضحية والصحيح إن شاء الله تعالى ما ذكرناه وعلى كل حال متى ضحى عن اليتيم لم يتصدق بشيء منها ويوفرها لنفسه لأنه لا يجوز الصدقة بشيء من مال اليتيم تطوعا
مسألة : قال : والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها ولو أكل أكثر جاز
قال أحمد نحن نذهب إلى حديث عبد الله يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق على المساكين بالثلث قال علقمة : بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا وإن أرسل إلى أهل أخيه عتبة بثلث وإن تصدق بثلث وعن ابن عمر قال الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر يجعلها نصفين يأكل نصفا ويتصدق بنصف لقول الله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } وقال أصحاب الرأي : [ ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وحسيا من مرقها ونحو خمس بدنات أو ست بدنات وقال : من شاء فليتقطع ولم يأكل منهن شيئا ]
ولنا ماروي عن ان عباس في صفة أضحيه النبي صلى الله عليه و سلم قال ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال حديث حسن ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان إجماعا ولأن الله تعالى قال : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } والقانع السائل يقال قنع قنوعا إذا سأل وقنع قناعة إذا رضي قال الشاعر :
( لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع )
والمعتر الذي يعتريك أي ويتعرض لك لتطعمه فلا يسأل فذكر ثلاثة أصناف فينبغي أن يقسم بينهم أثلاثا وأما الآية التي احتج بها أصحاب الشافعي فإن الله تعالى لم يبين قدر المأكول منها والمتصدق به وقد نبه عليه في آيتنا وفسره النبي صلى الله عليه و سلم بفعله وابن عمر بقوله وابن مسعود بأمره وأما خبر أصحاب الرأي فهو في الهدي والهدي يكثر فلا يتمكن الإنسان من قسمه وخذ ثلثه فتتعين الصدقة بها والأمر في هذا واسع فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز وقال أصحاب الشافعي يجوز أكلها كلها
ولنا قول الله تعالى قال : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وقال : { وأطعموا البائس الفقير } والأمر يقتضي الوجوب وقال بعض أهل العلم يجب الأكل منها ولا تجوز الصدقة بجيمعها للأمر بالأكل منها
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نحر خمس بدنات ولم يأكل منهن شيئا وقال : من شاء فليقتطع ] ولأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها فلم يجب الأكل منها كالعقيقة والأمر للاستحباب أو الإباحة كالأمر بالأكل من الثمار والزرع والنظر إليها
فصل : ويجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي ولا ابن عمر و
Bهما لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الاضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ] رواه مسلم وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنما نهيتكم للذاقة التي ذفت فكلوا وتزودوا وتصدقوا وادخروا ] وقال أحمد فيه أسانيد صحاح فأما علي وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كانوا سمعوا النهي فرووا على ما سمعوا
فصل : ويجوز أن يطعم منها كافرا وبهذا قال الحسن و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك غيرهم أحب إلينا وكره مالك و الليث إعطاء النصراني جلد الأضحية
ولنا أنه طعام له أكله فجاز إطعامه للذمي كسائر طعامه ولأنه صدقة تطوع فجاز إطعامها الذمي والأسير كسائر صدقة التطوع فأما الصدقة الواجبة منها فلا يجزىء دفعها إلى كافر لأنها صدقة واجبة فأشبهت الزكاة وكفارة اليمين

مسألة و فصل لا يعطى الجازر بأجرته شيئا من الأضحية وله أن ينتفع بجلدها
مسألة : قال : ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها
وبهذا قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي ورخص الحسن و عبدالله بن عبيد بن عمير في إعطائه الجلد
ولنا ما [ روى علي رضي الله عنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر شيئا منها وقال : نحن نعطيه من عندنا ] متفق عليه ولأن ما يدفعه إلى الجزار أجرة عوض عن عمله وجزارته ولا تجوز المعاوضة بشيء منها فأما أن دفع إليه لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها
مسألة : قال : وله أن ينتفع بجلدها ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها
وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها واجبة كانت أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح قال أحمد لا يبيعها ولا يبيع شيئا منها وقال : سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها الله تبارك وتعالى ؟ وقال الميموني قالوا لأبي عبد الله فجلد الأضحية يعطاه السلاح ؟ قال لا وحكى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يعطى الجازر في جزارتها شيئا منها ] ثم قال إسناده جيد وبهذا قال أبو هريرة وهو مذهب الشافعي ورخص الحسن و النخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل وآلة البيت وروي نحو هذا عن الأوزاعي لأنه ينتفع به هو وغيره فجرى مجرى تفريق اللحم وقال أبو حنيفة يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه وروي عن ابن عمر أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه وحكاه ابن المنذر عن أحمد و إسحاق
ولنا أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقسم جلودها وجلالها ونهيه أن يعطى الجازر شيئا منها ولأنه جعله لله تعالى فلم يجز بيعه كالوقف وما ذكروه في شراء آلة البيت يبطل باللحم لا يجوز بيعه بآلة البيت وإن كان ينتفع به فأما جواز الانتفاع بجلودها وجلالها فلا خلاف فيه لأنه جزء منها فجاز للمضحي الإنتفاع به كاللحم وكان علقمة ومسروق يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه
[ وروت عائشة قالت : قلت يا رسول الله قد كانوا ينتفعون من ضحاياهم يجملون منها الودك ويتخذون منها الاسقية قال : ما ذاك ؟ قالت نهيت عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاث قال : إنما نهيتكم للذاقة التي ذفت فكلوا وتزودوا وتصدقوا ] حديث صحيح رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها ولأنه انتفاع له فجاز كلحمها

مسألة حكم إبدال الأضحية
مسألة : قال : ويجوز أن يبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها
هذا المنصوص عن أحمد وبه قال عطاء و مجاهد و عكرمة و مالك و أبو حنيفة و محمد بن الحسن واختار أبو الخطاب أنه لا يجوز بيعها ولا إبدالها لأن أحمد نص في الهدي إذا عطب أنه يجزىء عنه وفي الضحية إذا هلكت أو ذبحها فسرقت لا بدل عليه ولو كان ملكه ما زال عنها لزمه بدلها في هذه المسائل وهذا مذهب ابي يوسف و الشافعي و أبي ثور لأنه قد جعلها لله تعالى فلم يملك التصرف فيها بالبيع والإبدال كالوقف
ولنا ما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ساق مائة بدنة في حجته وقدم علي من اليمن فأشركه فيها ] رواه مسلم وهذا نوع من الهبة أو بيع ولأنه عدل عن عين وجبت لحق الله تعالى إلى خير منها من جنسها فجاز كما لو وجبت عليه بنت لبون فأخرج حقه في الزكاة فأما بيعها فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز وقال القاضي يجوز أن يبيعها ويشتري خيرا منها وهو قول عطاء و مجاهد و أبي حنيفة لما ذكرنا من حديث بدن النبي صلى الله عليه و سلم واشراكه فيها ولأن ملكه لم يزل عنها بدليل جواز إبدالها ولأنها عين يجوز إبدالها فجاز بيعها كما قبل إيجابها
ولنا أنه جعلها لله تعالى فلم يجز بيعها كالوقف وإنما جاز إبدالها بجنسها لأنه لم يزل الحق فيها عن جنسها وإنما انتقل إلى خير منها فكأنه في المعنى ضم زيادة إليها وقد جاز إبدال المصحف ولم يجز بيعه وأما حديث النبي صلى الله عليه و سلم فالظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يبعها وإنما شرك عليا في ثوابها وأجرها ويحتمل أن ذلك كان قبل إيجابها وقول الخرقي : بخير منها يدل على أنه لايجوز بدونها ولا خلاف في هذا لأنه تفويت جزء منها فلم يجز كإتلافه وإنه لا يجوز بمثلها لعدم الفائدة في هذا وقال القاضي فيإبدالها بمثلها احتمالان
أحدهما : جوازه لأنه لا ينقص مما وجب عليه شيء ولنا أنه بغير ما أوجبه لغير فائدة فلم يجز كإبداله بما دونها

مسألتان وفصول الإختلاف في وقت التضحية وحكم ما لو فات الوقت ولم يذبح أو ذبح قبل الوقت
مسألة : قال : وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة العيد وخطبته فقد حل الذبح إلى آخر يومين من أيام التشريق نهارا ولا يجوز ليلا
الكلام في وقت الذبح في ثلاثة أشياء : أوله وآخره وعموم وقته أو خصوصه أما أوله فظاهر كلام الخرقي أنه إذا مضى من نهار يوم العيد قدر تحل فيه الصلاة وقدر الصلاة والخطبتين تامتين في أخف ما يكون فقد حل وقت الذبح ولا تعتبر نفس الصلاة لا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم وهذا مذهب الشافعي و ابن المنذر وظاهر كلام أحمد أن من شرط جواز التضحية في حق أهل المصر صلاة الإمام وخطبته وروي نحو هذا عن الحسن و الأوزاعي و مالك و أبي حنيفة و إسحاق لما روى جندب بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ]
وعن البراء قال : قال رسول الله عليه وسلم : [ من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ] متفق عليه وفي لفظ قال : [ إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فمن ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم قدمها لأهله ليس من النسك في شيء ] وظاهر هذا اعتبار نفس الصلاة
وقال عطاء وقتها إذا طلعت الشمس لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها بالوقت كالصيام وهذا وجه قول الخرقي ومن وافقه والصحيح إن شاء الله تعالى أن وقتها في الموضع الذي يصلي فيه بعد الصلاة لظاهر الخبر والعمل بظاهره أولى فأما غير أهل الأمصار والقرى فأول وقتها في حقهم قدر الصلاة والخطبة بعد الصلاة لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الإعتبار بقدرها وقال أبو حنيفة : أول وقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني لأنه من يوم النحر فكان وقتها كسائر اليوم
ولنا أنها عبادة وقتها في حق أهل المصر بعد إشراق الشمس فلا تتقدم وقتها في حق غيرهم كصلاة العيد وما ذكروه يبطل بأهل الأمصار فإن لم يصل الإمام في المصر لم يجز الذبح حتى تزول الشمس لأنها حينئذ تسقط فكأنه قد صلى وسواء ترك الصلاة عمدا أو غير عمد لعذر أو غيره فأما الذبح في اليوم الثاني فهو في أول النهار لأن الصلاة فيه غير واجبة ولأن الوقت قد دخل في اليوم الأول وهذا من اثنائه فلا تعتبر فيه صلاة ولا غيرها وإن صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح لوجود الصلاة التي يسقط بها الفرض عن سائر الناس فإن ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة أجزأ في ظاهر كلام أحمد لأن النبي صلى الله عليه و سلم علق المنع على فعل الصلاة فلا يتعلق بغيره ولأنه الخطبة غير واجبة وهذا قول الثوري
الثاني : آخر الوقت وآخره اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة : يوم العيد ويومان بعده وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس قال أحمد أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي رواية قال خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يذكر أنسا وهو قول مالك و الثوري و أبي حنيفة وروي عن علي : آخر أيام التشريق وهو مذهب الشافعي وقول عطاء و الحسن لأنه روي عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أيام منى كلها منحر ] ولأنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين وقال ابن سيرين لا تجوز إلا في يوم النحر خاصة لأنها وظيفة عيد فلا تجوز إلا في يوم واحد كاداء الفطرة يوم الفطر وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد كقول ابن سيرين في اهل الأمصار وقولنا في أهل منى وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن و عطاء بن يسار تجوز التضحية إلى هلال المحرم وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف كان الرجل من المسلمين يشتري أضحية فيسمنها حتى يكون آخر ذي الحجة فيضحي بها رواه الإمام أحمد بإسناده وقال : هذا الحديث عجيب وقال أيام الأضحى التي أجمع عليها ثلاثة ايام
[ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه فلم تجز التضحية فيه كالذي بعده ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي وقد روي عنه مثل مذهبنا وحديثهم إنما هو ومنى كلها منحر ] ليس فيه ذكر الأيام والتكبير أعم من الذبح وكذلك الأفطار بدليل أول يوم النحر ويوم عرفة يوم التكبير ولا يجوز الذبح فيه
الثالث : في زمن الذبح وهو النهار دون الليل نص عليه أحمد في رواية الأثرم وهو قول مالك وروي عن عطاء ما يدل عليه وحكي عن أحمد رواية أخرى أن الذبح يجوز ليلا وهو اختيار أصحابنا المتأخرين وقول الشافعي و إسحاق و أبي حنيفة وأصحابه لأن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار
ووجه قول الخرقي قول الله تعالى : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الذبح بالليل ولأنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر ولأن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب فلا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود ولذا قالوا يكره الذبح فيه فعلى هذا أن ذبح ليللا لم يجزئه عن الواجب وإن كان تطوعا فذبحها كانت شاة لحم ولم تكن أضحية فإن فرقها حصلت القربة بتفريقها دون ذبحها
فصل : إذا فات وقت الذبح ذبح الواجب قضاء وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته وهو مخير في التطوع فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم وليست أضحية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسلمها إلى الفقراء ولا يذبحها فإن ذبحها فرق لحمها وعليه أرش ما نقصها الذبح لأن الذبح قد سقط بفوات وقته
ولنا أن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم وذلك أنه لو ذبحها في الأيام ثم خرجت قبل تفريقها فرقها بعد ذلك ويفارق الوقوف والرمي ولأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك
فصل : وإذا وجبت الأضحية بإيجابه لها فضلت أو سرقت بغير تفريط منه فلا ضمان عليه لأنها أمانة في يده فإن عادت إليه ذبحها سواء كان في زمن الذبح أو فيما بعده على ما ذكرناه
مسألة : قال : وإن ذبح قبل ذلك لم يجزئه ولزمه البدل
وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ] ولأنها نسيكة واجبة ذبحها قبل وقتها فلزمه بدلها كالهدي إذا ذبحه قبل محله ويجب أن يكون بدلها مثلها أو خيرا منها لأن ذبحها قبل محلها إتلاف لها وكلام الخرقي ومن طلق من أصحابنا محمول على الأضحية الواجبة بنذر أو تعيين فإن كانت غير واجبة بواحد من الأمرين فهي شاة لحم ولا بدل عليه إلا ان يشاء لأنه قصد التطوع فأفسده فلم يجب عليه بدله كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها إلى غير مستحقها والحديث يحمل على أحد أمرين إما الندب وإما على التخصيص بمن وجبت عليه بدليل ما ذكرنا فأما الشاة المذبوحة فهي شاة لحم كما وصفها النبي صلى الله عليه و سلم ومعناه يصنع بها ما شاء كشاة ذبحها للحمها لا لغير ذلك فإن هذه إن كانت واجبة فقد لزمه إبدالها وذبح ما يقوم مقامها فخرجت هذه عن كونها واجبة كالهدي الواجب إذا عطب دون محله وإن كان تطوعا فقد أخرجها بذبحه إياها قبل محلها عن القربة فبقيت مجرد شاة لحم
ويحتمل أن يكون حكمها حكم الأضحية كالهدي إذا عطب لا يخرج عن حكم الهدي على رواية ويكون معنى قوله شاة لحم أي في فضلها وثوابها خاصة دون ما يصنع بها

مسألة لا يستحب ان يذبح الأضحية إلا المسلم
مسألة : قال : ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم وإن ذبحها بيده كان أفضل
وجملته أنه يستحب أن لا يذبح الأضحية إلا مسلم لأنها قربة فلا يليها غير أهل القربة وإن استناب ذميا في ذبحها جاز مع الكراهة وهذا قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وحكي عن أحمد لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم وهذا قول مالك وممن كره ذلك علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم وبه قال الحسن و ابن سيرين ؟ وقال جابر : لا يذبح النسك إلا مسلم لما روي في حديث ابن عباس الطويل عن النبي صلى الله عليه و سلم [ ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر ] ولأن الشحوم تحرم علينا مما يذبحونه على رواية فيكون ذلك بمنزلة إتلافه
ولنا أن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم ويجوز أن يتولى الكافر ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر ولا نسلم تحريم الشحوم علينا بذبحهم والحديث محمول على الاستحباب والمستحب أن يذبحها المسلم ليخرج من الخلاف وإن ذبحها بيده كان أفضل [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما ونحر البدنات الست بيده ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثا وستين بدنة ] ولأن فعله قربة وفعل القربة أولى من استنابته فيها فإن استناب فيها جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم استناب من نحر باقي بدنه بعد ثلاث وستين وهذا لا شك فيه
ويستحب أن يحضر ذبحها لأن في حديث ابن عباس الطويل [ واحضروها إذا ذبحتم فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها ] [ وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها ]

مسألة وفصول ما يجب أن يقول المضحي عند الذبح وفصول فيما إذا ذبحها غيره وفي نذر الأضحية
مسألة : قال : وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن لأن النية تجزىء
لا أعلم خلافا في أن النية تجزىء وإن ذكر أن يضحى عنه فحسن لما روينا من الحديث قال الحسن : يقول بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان وكره أهل الرأي هذا وقد ذكرناه في التي قبلها
فصل : وإن عين أضحية فذبحها غيره بغير إذنه أجزأت عن صاحبها ولا ضمان على ذابحها وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك هي شاة لحم لصاحبها أرشها وعليه بدلها لأن الذبح عبادة فإذا فعلها غير صاحبها عنه بغير إذنه لم تقع الموقع كالزكاة وقال الشافعي تجزىء عن صاحبها وله على ذابحها أرش ما بين قيمتها صحيحة ومذبوحة لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فإذا فعله فاعل بغير إذن المضحي ضمنه كتفرقة اللحم
ولنا على مالك أنه فعل لا يفتقر إلى النية فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه كغسل ثوبه من النجاسة وعلى الشافعي أنها أضحية أجزأت عن صاحبها ووقعت موقعها فلم يضمن ذابحها كما لو كان بإذن ولأنه إراقة دم تعين إراقته لحق الله تعالى فلم يضمن مريقه كقاتل المرتد بغير إذن الإمام ولأن الأرش لو وجب فإنما يجب ما بين كونها وجود الأرش ووجوبه ولأنه لو وجب الأرش لم يخل إما أن يجب للمضحي أو للفقراء : لا جائز أن يجب للفقراء لأنهم إنما يستحقونها مذبوحة ولو دفعها إليهم في الحياة لم يجز ولا جائز أن يجب له لأنه لا يجوز أن يأخذ بدل شيء منها كعضو من أعضائها ولأنهم وافقونا في أن الأرش لا يدفع إليه فيتعذر إيجابه لعدم مستحقه
فصل : وإن نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله أن يأكل منها وقال القاضي من أصحابنا من منع الأكل منها وهو ظاهر كلام أحمد وبناه على الهدي المنذور
ولنا أن النذر محمول على المعهود والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها والنذر لا يغير من صفة المنذور إلا الإيجاب وفارق الهدي الواجب بأصل الشرع لا يجوز الأكل منه فالمنذور محمول عليه بخلاف الأضحية
فصل : ولا يضحي عما في البطن وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ولا نعلم مخالفا لهم وليس للعبد والمدبر والمكاتب وأم الولد أن يضحوا إلا بإذن سادتهم لأنهم ممنوعون من التصرف بغير إذنهم إلا المكاتب فإنه ممنوع من التبرع والأضحية تبرع وأما من نصفه حر إذا ملك بجزئه الحر شيئا له أن يضحي بغير إذن سيده لأن له لأن يتبرع بغير إذنه

مسألة وفصل يجوز اشتراك السبعة يضحوا ببدنة أو بقرة ويجوز لهم اقتسام اللحم
مسألة : قال : ويجوز أن يشترك السبعة يضحوا بالبدنة والبقرة
وجملته أنه يجوز أن يشترك في التضحية بالبدنة والبقرة سبعة واجبا كان أو تطوعا سواء كانوا كلهم متقربين أو يريد بعضهم القربة وبعضهم اللحم وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يجوز الاشتراك في الهدي وقال ابو حنيفة يجوز للمتقربين ولا يجوز إذا كان بعضهم غير متقرب لأن الذبح واحد فلا يجوز أن تختل نية القربة فيه
[ ولنا ما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشترك في الأبل والبقر كل سبعة منا في بدنة ] رواه مسلم
ولنا على أبي حنيفة أن الجزء المجزىء لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلف جهات القرب فأراد بعضهم التضحية وبعضهم الفدية
فصل : ويجوز للمشتركين قسمة اللحم ومنع منه أصحاب الشافعي في وجه بناء على أن القسمة بيع وبيع لحم الهدي والأضحية غير جائز
ولنا أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالاشتراك مع أن سنة الهدي والأضحية إلا كل منها دليل على تجويز القسمة إذ لا يتمكن واحد منهم من الأكل إلا بالقسمة وكذلك الصدقة والهدية ولا نسلم أن القسمة بيع بل هي إفراز حق على ما ذكرنا ي باب القسمة

مسائل وفصول في العقيقة
مسألة : قال : والعقيقة سنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة
العقيقة الذبيحة التي تذبح عن المولود وقيل هي الطعام الذي يصنع ويدعى إليه من أجل المولود قال أبو عبيد في العقيقة الشعر الذي على المولود وجمعها عقائق ومنها قول الشاعر
( أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا )
ثم أن العرب سمت الذبيحة عند حلق شعره عقيقة على عاداتهم في تسمية الشيء باسم سببه أو مما جاوره ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية وصارت الحقيقة مغمورة فيه فلا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة وقال ابن عبد البر أنكر أحمد هذا التفسير وقال ان العقيقة الذبح نفسه ووجهه أن أصل العق القطع ومنه عق والديه إذا قطعهما والذبح قطع الحلقوم والمريء والودجين والعقيقة سنة في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة وفقهاء التابعين وأئمة الأمصار إلا أصحاب الرأي قالوا ليست سنة وهي من أمر الجاهلية [ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن العقيقة فقال : إن الله تعالى لا يحب العقوق ] فكأنه كره الاسم وقال : [ من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل ] رواه مالك في موطئه وقال الحسن و داود هي واجبة وروي عن بريدة أن الناس يعرضون عليها كم يعرضون على الصلوات الخمس لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه وتحلق رأسه ] وعن أبي هريرة مثله قال أحمد اسناده جيد وروى حديث سمرة الأثرم و أبو داود [ وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرهم عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة ] وظاهر الأمر الوجوب
ولنا على استحبابها هذه الأحاديث وعن أم كرز الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ] وفي لفظ : [ عن الغلام شاتان مثلان وعن الجارية شاة ] رواه أبو داود وفي رواية قال : [ العقيقة عن الغلام شاتان ] والإجماع قال أبو الزناد العقيقة من أمر الناس كانوا يكرهون تركه وقال أحمد العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عق عن الحسن و الحسين وفعله أصحابه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الغلام مرتهن بعقيقته ] وهو اسناد جيد يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وجعلها أبو حنيفة من أمر الجاهلية وذلك لقلة علمه ومعرفته بالأخبار وأما بيان كونها غير واجبة فدليله ما احتج به أصحاب الرأي من الخبر وما رووه محمول على تأكيد الأستحباب جمعا بين الأخبار ولأنها ذبيحة لسرور حادق فلم تكن واجبة كالوليمة والنقيعة
فصل : والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد وقال إذا لم يكن عنده ما يعق فاستقرض رجوت أن يخلف الله عليه احياء السنة قال ابن المنذر : صدق أحمد احياء السنن واتباعها أفضل وقد ورد فيها من التأكيد في الأخبار التي رويناها ما لم يرد في غيرها ولأنها ذبيحة أمر النبي صلى الله عليه و سلم بها فكانت أولى كالوليمة والأضحية
مسألة : قال : عن الغلام وعن الجارية شاة
هذا قول أكثر القائلين بها وبه قال ابن عباس وعائشة و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وكان ابن عمر يقول : [ شاة عن الغلام والجارية لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه عق عن الحسن شاة وعن الحسين شاة ] رواه أبو داود كان الحسن و قتادة لا يريان عن الجارية عقيقة لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد والجارية لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة
ولنا حديث عائشة وأم كرز وهذا نص وما روه محمول على الجواز [ إذا ثبت هذا فالمستحب أن تكون الشاتان متماثلتين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : شاتان مكافئتان ] وفي رواية [ مثلان ] قال أحمد يعني متقاربتين أو متساويتين لما جاء من الحديث فيه ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روي في حديث أم كرز أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ولا بأس أن يكون ذكورا أو إناثا ] رواه أبو سعيد و أبو داود والذكر أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم عق عن الحسن بكبش كبش وضحى بكبشين أقرنين والعقيقة تجري مجرى الأضحية والأفضل في لونها البياض على ما ذكرنا في الأضحية لأنها تشبهها ويستحب استسمانها واستعظامها واستحسانها كذلك وإن خالف ذلك أو عق بكبش واحد أجزأ لما روينا من حديث الحسن و الحسين
مسألة : قال : ويذبح يوم السابع
قال أصحابنا السنة أن تذبح يوم السابع فإن فات ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين ويروى هذا عن عائشة وبه قال إسحاق وعن مالك في الرجل يريد أن يعق عن ولده فقال ما علمت هذا من أمر الناس وما يعجبني ولا نعلم خلافا بين أهل العلم القائلين بمشروعيتها في استحباب ذبحها يوم السابع والأصل فيه حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه ] وأما كونه في أربع عشرة ثم في إحدى وعشرين فالحجة فيه قول عائشة رضي الله عنها وهذا تقدير الظاهر أنها لا تقوله إلا توقيفا وإن ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأه لأن المقصود يحصل وإن تجاوز أحدا وعشرين احتمل أن يستحب في كل سابع فيجعله في ثمانية وعشرين فإن لم يكن فقي خمسة وثلاثين وعلى هذا قياسا على ما قبله واحتمل أن يجوز في كل وقت لأن هذا قضاء فائت فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها وإن لم يعق أصلا فبلغ الغلام وكسب فلا عقيقة عليه وسئل أحمد عن هذه المسألة فقال ذلك على الوالد يعني لا يعق عن نفسه لأن السنة في في حق غيره وقال عطاء و الحسن يعق عن نفسه لأنها مشروعة عنه ولأنه مرتهن بها فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه
ولنا أنها مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها غيره كالأجنبي وكصدقة الفطر
فصل : ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن لما [ روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن : احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة على المساكين والأفاوض ] يعني أهل الصفة رواه الإمام أحمد وروى سعيد في سننه عن محمد بن علي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وأنه تصدق بوزن شعورهما ورقا ] وإن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بوزنه ورقا [ وإن سماه قبل السابع جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ] وسمى الغلام الذي جاءه به أنس بن مالك فحنكه وسماه عبد الله [ ويستحب أن يحسن اسمه لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماءكم ] وقال عليه السلام : [ أحب الأسماء إلي عبد الله وعبد الرحمن ] حديث صحيح
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : أحب الأسماء إلى الله تعالى أسماء الأنبياء وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ تسموا باسم ولا تكنوا بكنيتي ] وفي رواية [ لا تجمعوا بين اسمي وبين كنيتي ]
فصل : ويكره أن يلطخ رأسه بدم كره ذلك أحمد و الزهري و مالك و الشافعي و ابن المنذر و حكي عن الحسن و قتادة أنه مستحب لما روي في حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويدمى ] رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا قال هذا إلا الحسن و قتادة وأنكر أهل العلم وكرهوه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مع الغلام عقيقته فهر يقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى ] رواه ابو داود وهذا يقتضي أن لا يمس بدم لأنه أذى
وروى يزيد بن عبد المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ] قال مهنا ذكرت هذا الحديث ل أحمد فقال ما أظرفه ورواه ابن ماجة ولم يقل عن أبيه ولأن هذا تنجيس له فلا يشرع كلطخه بغيره من النجاسات
وقال بريدة كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ويلطخ رأسه بدمها فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران رواه أبو داود فأما رواية من روى [ ويدمى ] فقال أبو داود ويسمى أصح هكذا قال سلام ابن أبي مطيع عن قتادة وإياس بن دغفل عن الحسن : وهم همام فقال ويدمى قال أحمد قال فيه ابن أبي عروبة يسمى وقال همام يدمى وما أراه إلا أخطأ وقد قيل هو تصحيف من الراوي
مسألة : قال : ويجتنب فيها من العيب ما يجتنب في الأضحية
وجملته أن حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها وإنه يمنع فيها من العيب ما يمنع ويستحب فيها من الصفة ما يستحب فيها وكانت عائشة تقول ائتوني به أعين أقرن وقال عطاء : لذكر أحب إلي من الأنثى : والضأن أحب من المعز فلا يجزىء فيها أقل من الجذع من الضأن والثني من المعز ولا تجوز فيها العوراء البين عورها والعرجاء البين ظلعها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي والعضباء التي ذهب أكثر من نصف أذنها أو قرنها وتكره فيه الشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة ويستحب استشراف العين والأذن كما ذكرنا في الأضحية سواء لأنها تشبهها فتقاس عليها
مسألة : قال : وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها لا أنها تطبخ أجدالا
وبهذا قال الشافعي وقال ابن سيرين اصنع بلحمها كيف شئت وقال ابن جريج تطبخ بما وملح وتهدى الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشيء وسئل أحمد عنها فحكى قول ابن سيرين وهذا يدل على أنه ذهب إليه وسئل هل يأكلها كلها ؟ قال لم أقل يأكلها كلها ولا يتصدق منها بشيء والأشبه قياسها على الأضحية لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة فأشبهت الأضحية ولأنها أشبهتها في صفاتها وسنها وقدرها وشروطها فأشبهتها في مصرفها وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن ويستحب أن تفصل أعضاؤها ولا تكسر عظامها لما روي عن عائشة أنها قالت : السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع
قال أبو عبيد الهروي في العقيقة تطبخ جدولا لا يكسر لها عظم أي عضوا عضوا وهو الجدال بالدال غير المعجمة والأرب والشلو والعضو والوصل كله واحد وإنما فعل بها ذلك لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود فاستحب فيها ذلك تفاؤلا بالسلامة كذلك قالت عائشة وروي أيضا عن عطاء و ابن جريج وبه قال الشافعي
فصل : قال أحمد يباع الجلد والرأس والسقط ويتصدق به وقد نص في الأضحية على خلاف هذا وهو أقيس في مذهبه لأنها ذبيحة لله فلا يباع منها شيء كالهدي ولأنه تمكن الصدقة بذلك بعينه فلا حاجة إلى بيعه وقال أبو الخطاب يحتمل أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى فيخرج في المسألتين روايتان ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث أن الأضحية ذبيحة شرعت يوم النحر فأشبهت الهدي والعقيقة شرعت عند سرور حادث وتجدد نعمة فأشبهت الذبيحة في الوليمة ولأن الذبيحة ههنا لم تخرج عن ملكه فكان له أن يفعل بها ما شاء من بيع وغيره والصدقة بثمن ما بيع منها بمنزلة الصدقة به في فضلها وثوابها وحصول النفع به فكان له ذلك
فصل : قال بعض أهل العلم يستحب للوالد أن يؤذن في أذن ابنه حين يولد لما روى عبد الله ابن رافع عن أمه أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقة فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وسماه وروينا أن رجلا قال لرجل عند الحسن يهنئه بابن له ليهنئك الفارس فقال الحسن وما يدريك أنه فارس هو أو حمار ؟ فقال كيف نقول ؟ قال قل بورك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره [ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر وروى أنس قال ذهبت بعبد الله بن طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ولد قال : هل معك تمر ؟ فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حب الأنصار التمر ] وسماه عبد الله
فصل : قال أصحابنا لا تسن الفرعة ولا العتيرة وهو قول علماء الأمصار سوى ابن سيرين فإنه كان يذبح العتيرة في رجب ويروي فيها شيئا والفرعة والفرع بفتح الراء أول ولد الناقة كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية فنهوا عنها قال ذلك أبو عمرو الشيباني وقال أبو عبيد العتيرة : هي الرجبية كان أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمرا نذر أن يذبح من غنمه شاة في رجب وهي العتائر والصحيح إن شاء الله تعالى [ أنهم كانوا يذبحونها في رجب من غير نذر جعلوا ذلك سنة فيما بينهم كالأضحية في الأضحى وكان منهم من ينذرها كما قد تنذر الأضحية بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : على كل أهل بيت أضحاة وعتيرة ] وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم في بدء الإسلام تقرير لما كان في الجاهلية وهو يقتضي ثبوتها بغير نذر ثم نسخ ذلك بعد ولأن العتيرة لو كانت في المنذروة لم تكن منسوخة فإن الإنسان لو نذر ذبح شاة في أي وقت كان لزمه الوفاء بنذره والله أعلم [ وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفرعة من كل خمس واحدة ] قال ابن المنذر هذا حديث ثابت
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا فرع ولا عتيرة ] متفق عليه وهذا الحديث متأخر عن الأمر بها فيكون ناسخا ودليل تأخره أمران أحدهما : أن رواية أبي هريرة وهو متأخر الإسلام فإن إسلامه في سنة فتح خيبر وهي السنة السابعة من الهجرة والثاني : أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمرا متقدما على الإسلام فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له ولو قدرنا تقدم النهي على الأمر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر إذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به وإطعامه لم يكن ذلك مكروها والله تعالى أعلم

مسألة السبق في النصل والحافر والخف لا غير
كتاب السبق والرمي : المسابقة جائزة بالسنة والإجماع أما السنة ف [ روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ] متفق عليه قال موسى بن عقبة من الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة أميال وقال سفيان من الثنية إاى مسجد بني زريق ميل أو نحوه وأجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة والمسابقة على ضمر بين مسابقة بغير عوض ومسابقة بعوض فأما المسابقة بغير عوض فتجوز مطلقا من غير تقييد بشيء معين كالمسابقة على الاقدام والسفن والطيور والبغال والحمير والفيلة والمزاريق وتجوز المصارعة ورفع الحجر ليعرف الأشد وغير هذا ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في سفر مع عائشة فسابقته على رجلها فسبقته قالت فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال : هذه بتلك ] رواه أبو داود و [ سابق سلمة ابن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم في يوم ذي قرد ] و [ صارع النبي صلى الله عليه و سلم ركانة فصرعه ] رواه الترمذي ومر بقوم يربعون حجرا يعني يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم فلم ينكر عليهم وسائر المسابقة يقاس على هذا
وأما المسابقة بعوض فلا تجوز إلا بين الخيل والإبل والرمي لما سنذكره إن شاء الله تعالى واختصت هذه الثلاثة بتجهيز العوض فيها لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوق فيها وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الإجتهاد في النهاية لها والأحكام لها وقد ورد الشرع بالأمر بها والترغيب في فعلها قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ] [ وروى سعيد في سننه عن خالد بن زيد قال كنت رجلا راميا وكان عقبة بن عامر الجهني يمر بي فيقول يا خالد اخرج بنا نرمى فلما كان ذات يوم أبطأت عنه فقال هلم أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة : صانعه يحتسب في صنعه الخير والرامي به ومنبله أرموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها ] وعن مجاهد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال ] قال الزهري النضال في الرمي والرهان في الخيل والسباق فيهما قال مجاهد ورأيت ابن عمر يشتد بين الهدفين إذا أصاب خصلة قال أنا بها أنا بها وعن حذيفة مثله
مسألة : قال : والسبق في النصل والحافر والخف لاغير
السبق بسكون الباء المسابقة والسبق بفتحها الجعل المخرج في المسابقة والمراد بالنصل ههنا السهم ذو النصل وبالحافر الفرس وبالخف البعير عبر عن كل واحد منها بجزء بجزء منه يختص به ومراد الخرقي ان المسابقة بعوض لا تجوز لا في هذه الثلاثة وبهذا قال الزهري و مالك وقال أهل العراق يجوز ذلك في المسابقة على الاقدام والمصارعة لورود الأثر بهما فإن النبي صلى الله عليه و سلم سابق عائشة وصارع ركانة ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولهم في المسابقة في الطيور والسفن وجهان بناء على الوجهين في المسابقة على الاقدام والمصارعة
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ] رواه أبو داود فنفى السبق في غير هذه الثلاثة ويحتمل أن يراد به نفي الجعل أي لا يجوز الجعل إلا في هذه الثلاثة ويحتمل أن يراد به نفي المسابقة بعوض فإنه يتعين حمل الخبر على أحد الأمرين للإجماع على جواز المسابقة بغير عوض في هذه الثلاثة وعلى كل تقدير فالحديث حجة لنا
ولأن غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها فلم تجز المسابقة عليها بعوض كالرمي بالحجارة ورفعها إذا ثبت هذا فالمراد بالنصل السهام من النشاب والنبل دون غيرهما والحافر الخيل وحدها والخف الإبل وحدها وقال أصحاب الشافعي تجوز المسابقة بكل ما له نصل من الزراريق وفي الرمح والسيف وجهان وفي الفيل والبغال والحمير وجهان لأن للمزاريق والرماح والسيوف نصلا وللفيل خف وللبغال والحمير حوافر فتدخل في عموم الخبر
ولنا أن هذه الحيوانات المختلف فيها لا تصلح للكر والفر ولا يقاتل عليها ولا يسهم لها والفيل لا يقاتل عليه أهل الإسلام والرماح والسيوف لا يرمى بها فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس والخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به لأنه نكرة في إثبات وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به بعوض لكونه نكرة في سياق النفي ثم كان عاما لحمل على ما عهدت المسابقة عليه وورد الشرع بالحث على تعلمه وهو ما ذكرناه

مسألتان وفصلان في السبق والرهان
مسألة : قال : وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر فإن سبق من أخرج احرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئا وإن سبق من لم يخرج احرز سبق صاحبه
وجملته أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو حزبين لم تخل أما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما فإن كان من غريهما نظرت فإن كان من الإمام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال لأن في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك لا يجوز بذل العوض من غير الإمام لأن هذا مما يحتاج إليه للجهاد فاختص به الإمام لتولية الولايات وتأمير الأمراء
ولنا أنه بذل لماله فيما فيه مصلحة وقربة فجاز كما لو اشترى به خيلا وسلاحا فأما إن كان منهما أنه اشترط كون الجعل من أحدهما دون الآخر فيقول أن سبقتني فلك عشرة وإن سبقتك فلا شيء عليك فهذا جائز وحكي عن مالك أنه لا يجوز لأنه قمار
ولنا أن أحدهما يختص بالسبق فجاز كما لو أخرجه الإمام ولا يصح ما ذكره لأن القمار أن لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أ ويغرم وههنا لا خطر على أحدهما فلا يكون قمارا فإذا سبق المخرج أحرز سبقه ولا شيء له على صاحبه وإن سبق الآخر أخذ سبق المخرج فملكه وكان كسائر ماله لأنه عوض في الجعالة فيملك فيها كالعوض المجهول في رد الضالة والآبق وإن كان العوض في الذمة فهو دين يقضى به عليه ويجبر على تسليمه إن كان موسرا وإن أفلس ضرب مع الغرماء
فصل : والمسابقة عقد جائز ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر هو لازم إن كان العوض منهما وجائز إذا كان من أحدهما أو من غيرهما وذكره القاضي احتمالا لأنه عقد من شرطه أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالإجارة
ولنا أنه عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه فكان جائزا كرد الآبق فإنه عقد على الإصابة ولا يدخل تحت قدرته وبهذا فارق الإجارة فعلى هذا لكل واحد من المتعاقدين الفسخ قبل الشروع في المسابقة وإن أراد أحدهما الزيادة فيها أو النقصان منها لم يلزم الآخر إجابته وأما بعد الشروع في المسابقة فإن كان لم يظهر لأحدهما فضل على الآخر جاز الفسخ لكل واحد منهما وإن ظهر لأحدهما فضل مثل أن يسبقه بفرسه في بعض المسابقة أو يصيب بسهامه أكثر منه فللفاضل الفسخ ولا يجوز للمفضول لأنه لو جاز له ذلك لفات غرض المسابقة لأنه متى بان له سبق صاحبه له فسخها وترك المسابقة فلا يحصل المقصود وقال أصحاب الشافعي إذا قلنا العقد جائز ففي جواز الفسخ من المفضول وجهان
فصل : ويشترط أن يكون العوض معلوما لأنه مال في عقد فكان معلوما كسائر العقود ويكون معلوما بالمشاهدة أو بالقدر والصفة على ما تقدم في غير موضع ويجوز أن يكون حالا ومؤجلا كالعوض في البيع ويجوز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا فلو قال أن نضلتني فلك دينار حال وقفيز حنطة بعد شهر جاز وصح النضال لأن ما جاز أن يكون حالا ومؤجلا جاز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا كالثمن غير أنه يحتاج إلى صفة الحنطة بما تصير به معلومة
فصل : فإن شرط أن يطعم السبق أصحابه فالشرط فاسد لأنه عوض على عمل فلا يستحق غير العامل كالعوض في رد الآبق ولا يفسد العقد وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفسد
ولنا أنه عقد لا تقف صحته على تسمية بدل فلم يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح وذكر القاضي أن الشروط الفاسدة في المسابقة تنقسم قسمين
أحدهما : ما يخل بشرط صحة العقد نحو أن يعود إلى جهالة العوض أو المسافة ونحوهما فيفسد العقد لأن العقد لا يصح مع فوات شرطه
والثاني : ما لا يخل بشرط العقد نحو أن يشترط أن يطعم السبق أصحابه أو غيرهم أو يشرط أنه إذا نضل لا يرمي أبدا أو لا يرمي شهرا أو شرطا أن لكل واحد منهما أو لأحدهما فسخ العقد متى شاء بعد الشروع في العمل وأشباه هذا فهذه شروط باطلة في نفسها وفي العقد المقترن بها وجهان :
أحدهما : صحته لأن العقد تم بأركانه وشروطه فإذا حذف الزائد الفاسد بقي العقد صحيحا
والثاني : يبطل لأنه بذل العوض لهذا الغرض فإذا لم يحصل له غرضه لا يلزمه العوض وكل موضع فسدت المسابقة فإن كان السابق المخرج أمسك سبقه وإن كان الآخر فله أجر عمله لأنه عمل بعوص لم يسلم له فاستحق أجر المثل كالإجارة الفاسدة
فصل : وإذا كان المخرج غير المتسابقين فقال لهما أو لجماعة أيكم سبق فله عشرة جاز لأن كل منهم يطلب أن يكون سابقا وأيهم سبق استحق العسرة وإن جاؤوا جميعا فلا شيء لواحد منهم لأنه لا سابق فيهم وإن قال لاثنين أيكما سبق فله عشرة وأيكما صلى فله عشرة لم يصح لأنه لا فائدة في طلب السبق فلا يحرص عليه لعدم فائدته فيه وإن قال : ومن صلى فله خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق لفائدته فيه بزيادة الجعل وإن كانوا أكثر من اثنين فقال من سبق فله عشرة ومن صلى فله كذلك صح لأن كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقا أو مصليا والمصلي هو الثاني لأن رأسه عند صلي الآخر والصلوان هما العظمان الناتئان من جانبي الذنب وفي الأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال : سبق أبو بكر وصلى عمر وخبطتنا عشواء وقال الشاعر :
( إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا )
فإن قال للمجلي وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني تسعون وللتالي وهو الثالث ثمانون وللنازع هو الرابع سبعون وللمرتاح وهو الخامس ستون وللحظي وهو السادس خمسون وللعاطف وهو السابع أربعون وللمؤمل وهو الثامن ثلاثون وللطيم وهو التاسع عشرون وللسكيت وهو العاشر عشرة وللفسكل وهو الآخر خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق فإذا فاته طلب ما يلي السابق والفسكل اسم للآخر ثم يستعمل هذا في غير المسابقة بالخيل تجوزا كما روي أن أسماء ابنة عميس كانت تزوجت جعفر بن أبي طالب وولدت له عبد الله ومحمدا وعونا ثم تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم تزوجها علي بن أبي طالب فقالت له أن ثلاثة أنت آخرهم لأخيار فقال لولدها فسكلتني أمكم وإن جعل للمصلي أكثر من السابق أو مثله أو جعل للتالي أكثر من المصلي أو مثله أو لم يجعل للمصلي شيئا لم يجز لأن ذلك يفضي إلى أن لا يقصد السبق بل بقصد التأخر فيفوت المقصود
فصل : إذا قال لعشرة من سبق منكم فله عشرة صح فإن جاؤوا معا فلا شيء لهم لأنه لم يوجد الشرط الذي يستحق به الجعل في واحد منهم وإن سبقهم واحد فله العشرة لوجود الشرط فيه وإن سبق اثنان فلهما العشرة وإن سبق تسعة وتأخر واحد فالعشرة للتسعة لأن الشرط وجد فيهم فكان الجعل بينهم كما لو قال من رد عبدي الآبق فله عسرة فرده تسعة ويحتمل أن يكون لكل واحد من السابقين عشرة لأن كل واحد منهم سابق قيستحق الجعل لكماله كما لو قال من رد عبدا لي فله عشرة فرد كل واحد عبدا وفارق ما لو قال من رد عبدي فرده تسعة لأن كل واحد منهم لم يرده إنما رده حصل من الكل ويصير هذا كما لو قال من قتل قتيلا فله سلبه فإن قتل كل واحد واحدا فلكل واحد سلب قتيله كاملا وإن قتل الجماعة واحدا فلجميعهم سلب واحد وههنا كل واحد له سبق مفرد فكان له الجعل كاملا فعلى هذا لو قال من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة وصلى خمسة فعلى الأول من الوجهين للسابقين عشرة لكل واحد منهم درهمان وللمصلين خمسة لكل واحد منهم درهم وعلى الوجه الثاني لكل واحد من السابقين عشرة فيكون لهم خمسون ولكل واحد من الصلين خمسة فيكون لهم خمسة وعشرون ومن قال بالوجه الأول احتمل على قوله أن لا يصح العقد على هذا الوجه لأنه يحتمل أن يسبق تسعة فيكون لهم عشرة لكل واحد درهم وتسع ويصلي واحد فيكون له خمسة فيصير للمصلي من الجعل فوق ما للسابق فيفوت المقصود
مسألة : قال : وإن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافىء فرسه فرسيهما أو بعيره بعيرهما أو رميه رمييهما فإن سبقهما أحرز سبقيهما وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه فكان كسائر ماله ولم يأخذ من المحلل شيئا
السبق بالفتح الجعل الذي يسابق عليه ويسمى الخطر والندب والقرع والرهن ويقال سبق إذا أخذ وإذا أعطى وهو من الأضداد ومتى استبق الاثنان والجعل بينهما فأخرج كل واحد منهما لم يجز وكان قمارا لأن كل واحد منهما لا يخلو من أن يغنم أو يغرم وسواء كان ما أخرجاه متساويا مثل أن يخرج كل واحد منهما عشرة أو متفاوتا مثل أن أخرج أحدهما عشرة والآخر خمسة ولو قال أن سبقتين فلك علي عشرة وإن سبقتك فلي عليك قفيز حنطة أو قال ان سبقتني فلك علي عشرة ولي عليك قفيز لم يجز لما ذكرناه فإن أدخلا بينهما محللا وهو ثالث لم يخرج شيئا جاز وبهذا قال سعيد بن المسيب و الزهري و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي وحكي أشهب عن مالك أنه قال في المحلل لا أحبه وعن جابر بن زيد أنه قيل له أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا لا يرون بالدخيل بأسا قال هم أعف من ذلك ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ] رواه أبو داود فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق لأنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أو يغرم وإذا لم يؤمن أن يسبق لم يكن قمارا لأن كل واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك ويشترط أن يكون فرس المحلل مكافئا لفرسيهما أو بعيره مكافئا لبعيريهما ورميه لرمييهما فإن لم يكن مكافئا مثل أن يكون فرساهما جوادين وفرسه بطيء فهو قمار للخبر ولأنه مأمون سبقه فوجوده كعدمه وإن كان مكافئا لهما جاز فإن جاؤوا كلهم الغاية دفعة واحدة أحرز كل واحد منهما سبق نفسه ولا شيء للمحلل لأنه لا سابق فيهما وكذلك أن سبق المستبقان المحلل وإن سبق المحلل وحده أحرز السبقين بالاتفاق وإن سبق أحد المستبقين وحده أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه ولم يأخذ من المحلل شيئا وإن سبق أحد المستبقين والمحلل أحرز السابق مال نفسه ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين سواء كان المستبقون اثنين او أكثر حتى لو كانوا مائة وبينهم محلل لا سبق منه جاز وكذلك لو كان المحلل جماعة جاز لأنه لا فرق بين الأثنين والجماعة وهذا كله مذهب الشافعي
فصل : ويشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وأن يكون لابتداء عدوهما وآخرة غاية لا يختلفان فيها لأن الغرض معرفة أسبقهما ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية ولأن أحدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه وقد يكون بضد ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره [ وقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية ] رواه أبو داود وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وذك ستة أميال أو سبعة وبين التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وذلك ميل أو نحوه فإن استبقا بغير غاية لينظرا أيهما يقف أو لا لم يجز لأنه يؤدي إلى أن لا يقف أحدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الأشهاد على السبق فيه ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة فإن أرسل احدهما قبل الآخر ليعلم هل يدركه الآخر أو لا ؟ لم يجز هذ في المسابقة بعوض لأنه قد لا يدركه مع كونه أسرع منه لبعد المسافة بينهما ويكون عند أول المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك ويحصل السبق في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الإبل اعتبر السبق بالكتف لأن الاعتبار بالرأس متعذر فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه وفي الإبل ما يرفع راسه وفيها ما يمد عنقه فربما سبق رأسه لمد عنفه لا لسبقه فلذلك اعتبرنا الكتف فإن سبق رأس قصير العنق فهو سابق لأن من ضرورة ذلك كونه سابقا وإن سبق طويل العنق بأكثر مما بينهما في طول العنق فقد سبق وإن كان بقدره لم يسبقه وإن كان أقل فالآخر السابق ونحو هذا كله قول الشافعي وقال الثوري إذا سبق أحدهما بالأذن كان سابقا ولا يصح لأن أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الآخر عنقه فيكون سابقا بإذنه لذلك لا لسبقه وان شرطا السبق باقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح وقال بعض أصحاب الشافعي يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمي وليس بصحيح لأن هذا لا ينضبط ولا يقف الفرسان عند الغاية بحيث يعرف مساحة ما بينهما
وقد [ روى الدار قطني بإسناده عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي : قد جعلت لك هذه السبقة بين الناس ] فخرج علي فدعا سراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه و سلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان ـ قال أبو عبد الرحمن الميطان مرسلها من الغاية ـ فصف الخيل ثم ناد هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة فيسعد الله بسبقه من شاء من خلقه وكان علي يقعد على منتهى الغاية يخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفيه بين ابهامي ارجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلا السبقة له فإن شككتما فاجعلوا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلا الغاية من غاية اصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام وهذا الأدب الذي ذكره في هذا الحديث في ابتداء الإرسال وانتهاء الغاية من أحسن ما قيل في هذا وهو مروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قضية أمره بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وفوضها إليه فينبغي أن تتبع ويعمل بها
فصل : ويشترط في الرهان أن تكون الدابتان من جنس واحد فإن كانا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض من هذه المسابقة وإن كانا من نوعين كالعربي والبرذون أو البختي والعرابي ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن التفاوت بينهما في الجري معلوم بحكم العادة فأشبها الجنسين
والثاني : يصح ذكره القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنهما من جنس واحد وقد يسبق كل واحد منهما الآخر والضابط الجنس وقد وجد ويكفي في المظنة احتمال الحكمة ولو على بعد

مسألة وفصول في المناضلة
وهي المسابقة في الرمي بالسهام والمناضلة مصدر ناضلته نضالا ومناضلة وسمي الرمي نضالا لأن السهم التام يسمى نضلا فالرمي به عمل بالنضل فسمي نضالا ومناضلة مثل قاتلته قتالا ومقاتلة وجادلته جدالا ومجادلة ويشترط لصحته ثمانية شروط :
أحدهما : أن يكون عدد الرشق معلوما والرشق بكسر الراء عدد الرمي وأهل اللغة يقولون هو عبارة عما بين العشرين والثلاثين والرشق بفتح الراء الرمي نفسه مصدر رشقت رشقا أي رميت رميا وإنما اشترط علمه لأنه لو كان مجهولا لأفضى إلى الخلاف لأن أحدهما يريد القطع والآخر يريد الزيادة فيختلفان
الثاني : أن يكون عدد الإصابة معلوما فيقولان الرشق عشرون والإصابة خمسة أو ستة أو ما يتفقان عليه منها إلا أنه لا يجوز اشتراط إصابة نادرة كإصابة جميع الرشق أو إصابة تسعة أعشاره ونحو هذا لأن الظاهر أن هذا لا يوجد فيفوت الغرض
الثالث : استواؤهما في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي فإن جعلا رشق أحدهما عشرة والآخر عشرين أو شرطا وأن يصيب أحدهما خمسة والآخر ثلاثة أو شرطا إصابة أحدهما خواسق والآخر خواصل أو شرطا أن يحط أحدهما من إصابته سهمين أو يحط سهمين من إصابته بسهم من إصابة صاحبه أو شرطا أن يرمي أحدهما من بعد والآخر من قرب أو أن يرمي أحدهما وبين أصابعه سهم والآخر بين أصابعه سهمان أو أن يرمي أحدهما وعلى رأسه شيء والآخر خال عن شاغل أو أن يحط عن أحدهما واحدا من خطئه لا له ولا عليه واشباه هذا مما تفوت به المساواة لم يصح لأن موضوعها على المساواة والغرض معرفة الحذق وزيادة أحدهما على الآخر فيه ومع التفاضل لا يحصل فإنه ربما أصاب أحدهما لكثرة رميه لا لحذفه فاعتبرت المساواة كالمسابقة على الحيوان
الرابع : ان يصفا الإصابة فيقولان خواصل وهو المصيب للغرض كيفما كان قال الأزهري يقال خصلت مناضلي خصلة وخصلا ويسمى ذلك القرع والقرطسة يقال قرطس إذا أصاب أو حوابي وهو ما وقع بين يدي الغرض ثم وثب إليه ومنه يقال حبا الصبي أو خواصر وهو ما وقع في أحد جانبي الغرض ومنه قيل الخاصرة لأنها في جانب الإنسان أو خوارق وهو ما خرق الغرض ثم وقع بين يديه أو خواسق وهو ما خرق الغرض وثبت فيه أو موارق وهو ما أنفذ الغرض ووقع من ورائه أو خوازم وهو ما خزم جانب الغرض وإن شرطا الخواسق والحوابي معا أصح
الخامس : قدر الغرض والغرض هو ما يقصد إصابته من قرطاس أو ورق أو جلد أو خشب أو قرع أو غيره ويسمى غرضا لأنه يقصد ويسمى شارة وشنا قال الأزهري ما نصب في الهدف فهو القرطاس وما نصب في الهواء فهو الغرض ويجب أن يكون قدره معلوما بالمشاهدة أو بتقديره بشبر أو شبرين بحسب الاتفاق فإن الإصابة تختلف بإختلاف سعته وضيقه
السادس : معرفة المسافة أما بالمشاهدة أو بالذرعان فيقول مائة ذراع أو مائتي ذراع لأن الإصابة تختلف بقربها وبعدها ومهما اتفقا عليه جاز إلا أن يجعلا مسافة بعيدة تتعذر الإصابة في مثلها وهو ما زاد على ثلاثمائة ذراع فلا يصح لأن الغرض يفوت بذلك وقد قيل أنه ما رمى إلى أربعمائة ذراع إلا عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
السابع : تعيين الرماة فلا يصح مع الإبهام لأن الغرض معرفة حذق الرامي بعينه لا معرفة حذق رام في الجملة ولو عقد اثنان نضالا على أربع مع كل واحد منهما ثلاثة لم يجز لذلك ولا يشترط تعيين القوس والسهام ولو عينها لم تتعين لأن القصد معرفة الحذق وهذا لا يختلف إلا بالرامي لا بإختلاف القوس والسهام وفي الرهان يعتبر تعيين الحيوان الذي يسابق به ولا يعتبر تعيين الراكب لأن الغرض معرفة عدو الفرس لا حذق الراكب وكل ما يعتبر تعيينه إذا تلف انفسخ العقد ولم يقم غيره مقامه لأن العقد تعلق بعينه فانفسخ بتلف العين ولأن الغرض معرفة حذق الرامي أو عدو الفرس وقد فاتت معرفة ذلك بموته ولا يعرف حذقه من غيره وما لا يتعين يجوز إبداله لعذر وغيره فإذا تلف قام غيره مقامه فإن شرطا أن لا يرمي بغير هذا القوس ولا بغير هذا السهم أو لا يركب غير هذا الراكب فهذه شروط فاسدة لأنها تنافي مقتضى العقد أشبهت ما إذا شرط إصابة بإصابتين
الثامن : أن تكون المسابقة في الإصابة ولو قالا السبق لأبعدنا رميا لم يجز لأن الغرض من الرمي الإصابة لا بعد المسافة فإن المقصود من الرمي أما قتل العدو أو جرحه أو الصيد أو نحو ذلك وكل هذا إنما يحصل من الإصابة لا من الأبعاد
فصل : والمناضلة على ثلاثة أضرب
أحدها : تسمى المبادرة وهو أن يقولا من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق فأيهما سبق إليها مع تساويهما في الرشق فقد سبق فإذا رميا عشرة عشرة فأصاب أحدهما خمسا ولم يصب الآخر خمسا فالمصيب خمسا هو السابق لأنه قد سبق إلى خمسة وسواء أصاب الآخر أربعا أو ما دونها أو لم يصب شيئا ولا حاجة إلى اتمام الرشق لأن السبق قد حصل بسبقه إلى ما شرطا السبق إليه وإن أصاب كل واحد منهما من العشر خمسا فلا سابق فيهما ولا يكملان الرشق لأن جميع الإصابة المشروطة قد حصلت واستويا فيها فإن رمى أحدهما عشرا فأصاب خمسا ورمى الآخر تسعا فأصاب أربعا لم يحكم بالسبق ولا بعدمه حتى يرمي العاشر فإن أخطأ به فقد سبق الأول وإن أصاب به فلا سابق فيهما وإن لم يكن أصاب من التسعة إلا ثلاثا فقد سبقه الأول ولا يحتاج إلى رمي العاشر لأن أكثر ما يحتمل أنه يصيب به ولا يخرجه ذلك عن كونه مسبوقا
الضرب الثاني : أن يقول أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث من عشرين رمية فقد سبق ويسمى مفاضلة ومحاطة لأن ما تساويا فيه من الإصابة محطوط غير معتد به ويلزم إكمال الرشق إذا كان في اتمامه فائدة فإذا قالا أينا فضل صاحبه بثلاثة فهو سابق فرميا اثنتي عشرة رمية فأصابها أحدهما وأخطأها الآخر كلها لم يلزم اتمام الرشق لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب الآخر الثماني الباقية ويحطها الأول ولا يخرج الأول بهذا عن كونه سابقا وإن كان الأول أنما أصاب من الاثنتي عشرة عشرا لزمهما أن يرميا الثالثة عشرة فإن أصاباها أو أخطآ أو اصابها الأول وحده فقد سبق ولا يحتاج إلى اتمام الرشق فإن أصابها الآخر وأخطأها الأول فعليهما أن يرميا الرابعة عشرة والحكم فيها وفيما بعدها كالحكم في الثالثة عشرة وأنه متى أصاباها أو أخطآ أو أصابها الأول فقد سبق ولا يرميان ما بعدها وإن أصابها الآخر وحده رميا ما بعدها وهكذا كل موضع كان اتمام الرشق فائدة لأحدهما لزم اتمامه وإن يئس من الفائدة لم يلزم اتمامه فإذا بقي من العدد ما يمكن ان يسبق أحدهما به صاحبه أو يسقط أحدهما به سبق صاحبه لزم الاتمام والا فلا فإذا كان السبق يحصل بثلاث إصابات من عشرين فرميا ثماني عشرة فأخطآها أو أصاباها أو تساويا في الإصابة فيها لم يلزم إتمام الرشق لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب أحدهما هاتين الرميتين ويخطئهما الآخر ولا يحصل السبق بذلك وكذلك أن فضل أحدهما الآخر بخمس إصابات فما زاد لم يلزم الاتمام لأن إصابة الآخر بالسهمين الباقيين لا يخرج الآخر عن كونه فاضلا بثلاث إصابات وإن لم يفضله إلا بأربع رميا السهم الآخر فإن اصابه المفضول وحجه فعليهما رمي الآخر فإن أصابه المفضول أيضا سقط سبق الأول وإن أخطآ في أحد السهمين أو أصاب الأول في أحدهما فهو سابق
فصل : الثالث : أن يقولا أينا أصاب خمسا من عشرين فهو سابق فمتى أصاب أحدهما خمسا من العشرين ولم يصبها الآخر فالأول سابق وإن أصاب كل واحد منهما خمسا أو لم يصب واحد منهما خمسا فلا سابق فيهما وهذه في معنى المحاطة في أنه يلزم اتمام الرشق ما كان في إتمامه فائدة فإذا خلا عن الفائدة لم يلزم اتمامه ومتى أصاب كل واحد منهما خمسا لم يلزم اتمامه ولم يكن فيهما سابق فإن رميا ست عشرة رمية ولم يصب واحد منهما شيئا لم يلزم اتمامه ولا سابق فيهما لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب أحدهما الأربعة كلها ولا يحصل السبق بذلك
واختلف أصحابنا فقال أبو الخطاب لا بد من معرفة الرمي هل هو مبادرة أو محاطة أو مفاضلة ؟ لأن غرض الرماة يختلف فمنهم من تكثر إصابته في الابتداء دون الانتهاء ومنهم من هو بالعكس فوجب بيان ذلك ليعلم ما دخل فيه وظاهر كلام القاضي أنه لا يحتاج إلى اشتراط ذلك لأن مقتضى النضال المبادرة وإن من بادر إلى الإصابة فهو السائق فإنه إذا شرط أن السبق لمن أصاب خمسة من عشرين فسبق إليها واحد فقط وجد الشرط ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : فإن شرطا إصابة موضع من الهدف على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابه الآخر ففعل ثم فضل أحدهما الاخر بما شرطاه كان سابقا ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن هذا نوع من المحاطة فإذا أصاب أحدهما موضعا بينه وبين الغرض شبر وأصاب الآخر موضعا بينه وبين الغرض أقل من شبر أسقط الأول وإن اصاب الأول الغرض أسقط فإن أصاب الثاني الدائرة التي في الغرض لم يسقط به الأول لأن الغرض كله موضع للإصابة فلا يفضل أحدهما صاحبه إذا أصاباه جميعا إلا أن يشترطا ذلك وإن شرطا أن يحتسب كل واحد منهما خاسقه بإصابتين جاز لأن أحدهما لم يفضل صاحبه في شيء فقد استويا
فصل : والسنة أن يكون لهما غرضان يرميان أحدهما ثم يمضيان فيأخذان السهام يرميان الآخر لأن هذا كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة ] وقال إبراهيم التيمي رأيت حذيفة يشتد بين الهدفين يقول أنا بها في قميص وعن ابن عمر مثل ذلك والهدف ما ينصب الغرض عليه إما تراب مجموع وأما حائط ويروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم كانوا يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض فإذا جاء الليل كانوا رهبانا فإن جعلوا غرضا واحدا جاز لأن المقصود يحصل به وهو عاة أهل عصرنا
ولا بد في المناضلة أن يبتدىء أحدهما بالرمي لأنهما لو رميا معا أفضى إلى الإختلاف ولم يعرف المصيب منهما فإن كان المخرج أجنبيا قدم من يختاره منهما فإن لم يختر وتشاحا أقرع بينهما وأيهما كان أحق بالتقديم فبدره الآخر فرمى لم يعتد له بسهمه أصاب أو أخطأ وإذا بدأ أحدهما في وجه بدأ الآخر في الثاني تعديلا بينهما وإن شرطا البداءة لأحدهما في كل الوجوه لم يصح لأن موضوع المناضلة على المساواة وهذا تفاضل فإن فعل ذلك من غير شرط باتفاق منهما جاز لأن البداءة لا أثر لها في الإصابة ولا في تجويد الرمي وإن شرطا أن يبدأ كل واحد منهما من وجهين متواليين جاز لتساويهما ويحتمل أن يكون اشتراط البداءة في كل موضع ذكرنا غير لازم ولا يؤثر في العقد لأنه لا أثر له في تجويد رمي البادىء ولا كثرة إصابة وكثير من الرماة يختار التأخر على البداية فيكون وجود هذا الشرط كعدمه فإذا رمى البادىء بسهم رمى الثاني بسهم كذلك حتى يقضيا رميهما لأن إطلاق المناضلة يقتضي المراسلة ولأن ذلك أقرب إلى التساوي وأنجز للرمي لأن أحدهما يصلح قوسه ويعدل سهمه حتى يرمي الآخر وإن رميا بسهمين سهمين فحسن وهو العادة بين الرماة فيما رأينا وإن اشترطا أن يرمي أحدهما رشقا ثم يرمي الآخر أو يرمي أحدهما عددا ثم يرمي الآخر مثله جاز لأن هذا لا يؤثر في مقصود المناضلة وإن خالف مقتضى الإطلاق كما يجوز أن يشترط في البيع ما لا يقتضيه الإطلاق من النقود والخيار والأجل لما كان غير مانع من المقصود
فصل : وإن شرطا أن يرميا إرشاقا كثيرة جاز لأنه إذا جاز على القليل جاز على الكثير ولا بد أن تكون معلومة ثم أن شرطا أن يرميا منها كل يوم قدرا اتفقا عليه جاز لأن الغرض في هذا صحيح فإنهما أو أحدهم قد يضعف عن الرمي كله مع حذقه وإن اطلقا العقد جاز وحمل على التعجيل والحلول كسائر العقود فيرميان من أول النهار إلى آخره إلا أن يعرض عذر يمنع من مرض أو ريح أو تشوش السهام أو لحاجته إلى طعام أو شراب أو صلاة أو قضاء حاجة لأن هذه مستثناة بالعرف وكذلك المطر فإنه يرخي الوتر ويفسد الرشق فإذا جاء الليل تركاه لأن العادة ترك الرمي بالليل فحمل العقد عليه مع الإطلاق إلا أن يشترطا الرمي ليلا فيأخذ أحدهما صاحبه بذلك وإن كانت الليلة مقمرة منيرة اكتفي بذلك وإلا رميا في ضوء شمعة أو مشعل وإن عرض عارض يمنع الرمي كما ذكرنا أو كسر قوس أو قطع وتر أو انكسر سهم جاز إبداله فإن لم يمكن أخر الرمي حتى يزول العارض
فصل : فإن أراد أحدهما التطويل والتشاغل عن الرمي بما لا حاجة إليه من مسح القوس والوتر ونحو ذلك أرادة التطويل على صاحبه لعله ينسى القصد الذي أصاب به أو يفتر منع من ذلك وطولب بالرمي ولا يدهش بالاستعجال بالكلية بحيث يمنع من تحري الإصابة ويمنع كل واحد منهما من الكلام الذي يغيظ به صاحبه مثل أن يرتجز ويفتخر ويتبجح بالإصابة ويعنف صاحبه على الخطأ أو يظهر له أنه يعلمه وهكذا الحاضر معهما مثل الأمير والشاهدين وغيرهم يكره لهم مدح المصيب وزهرهته وتعنيف المخطىء وزجره لأنه فيه كسر قلب أحدهما وغيظه
فصل : وإذا تشاحا في موضع الوقوف فإن كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا يؤذيه استقبالها ونحو ذلك والآخر يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لأنه العرف إلا أن يكون في شرطهما استقبال ذلك فالشرط أملك كما قلنا في الرمي ليلا وإن كان الموقفان سواء كان ذلك إلى الذي له البداءة فيتبعه الآخر فإذا كان في الوجه الثاني وقف حيث شاء ويتبعه الأول
فصل : ويجوز عقد النضال على جماعة لأنه يروى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم مر على أصحاب له ينتضلون فقال : ارموا وأنا مع ابن الأدرع فأمسك الآخرون وقالوا كيف نرمي وأنت مع ابن الأدرع ؟ قال : ارموا وأنا معكم كلكم ] رواه البخاري ولأنه إذا جاز أن يكونا اثنين جاز أن يكونوا جماعتين لأن المقصود معرفة الحذق وهذا يحصل في الجماعتين فجاز كما في سباق الخيل وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم سبق بين الخيل المضمرة وسبق بين الخيل التي لم تضمر وعلى هذا يكون كل حزب بمنزلة واحد فإن عقد النضال جماعة ليتناضلوا حزبين فذكر القاضي أنه يجوز وهو مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يجوز لأن التعيين شرط وقبل التفاضل لم يتعين من في كل واحد من الحزبين فعلى هذا إذا تفاضلوا عقدوا النضال بعده وعلى قول القاضي يجوز العقد قبل التفاضل ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة لأنها ربما وقعت على الحذق في أحد الحزبين وعلى الكوادن في الآخر فيبطل مقصود النضال بل يكون لكل حزب رئيس فيختار أحدهما واحدا ثم يختار الآخر واحدا كذلك الحذاق حتى يتفاضلوا جميعا ولا يجوز أن يجعل الخيار إلى أحدهما في الجميع ولا أن يختار جميع حزبه أولا لأنه يختار الحذاق كلهم في حزبه ولا يجوز أن يجعل رئيس الحزبين واحدا لأنه يميل إلى حزبه فتلحقه التهمة ولا يجوز أن يختار كل واحد من الرئيسين أكثر من واحد لأنه أبعد من التساوي وإذا اختلفا في المبتدىء بالخيار منهما أقرع بينهما ولو قال أحدهما أنا أختار أولا وأخرج السبق أو يخرجه أصحابي لم يجز لأن السبق أنما يستحق بالسبق لا في مقابلة تفضل أحدهما بشيء
فصل : وإذا خرج أحد الزعيمين السبق من عنده فسبق حزبه لم يكن على حزبه شيء لأنه جعله على نفسه دونهم وإن شرطه عليهم فهو عليهم بالسوية ويكون للحزب الاخر بالسوية من أصاب منهم ومن لم يصب في أحد الوجهين كما أنه على الحزب الآخر بالسوية وفي الوجه الآخر يقسم بينهم على قدر الإصابة وليس لمن لم يصب منهم شيء لأن استحقاقه بالإصابة فكان على قدرها واختص بمن وجدت منه بخلاف المسبوقين فإنه وجب عليهم لالتزامهم له وقد استووا في ذلك
فصل : ومتى كان النضال بين حزبين اشترطا كون الرشق قسمه بينهم بغير كسر ويتساوون فيه فإن كانوا ثلاثة وجب أن يكون له ثلث وإن كانوا أربعة وجب أن يكون له ربع وكذلك ما زاد لأنه إذا لم يكن كذلك بقي سهم أو أكثر لا يمكن الجماعة الإشتراك فيه
فصل : وإذا كانوا حزبين فدخل معهم رجل لا يعرفونه في احد الحزبين وكان يحسن الرمي جاز وإن كان لا يحسنه بطل العقد فيه وإخراج من الحزب الآخر من جعل بإزائه لأن كل واحد يجعل في مقابلة آخر أو يختار أحد الزعيمين واحدا ويختار الآخر آخر في مقابلته وهل يبطل في الباقين ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل فلكل حزب الخيار لتبعيض الصفقة في حقهم وإن بان راميا لكنه قليل الإصابة فقال حزبه ظنناه كثير الإصابة أو لم نعلم حاله أو بان كثير الإصابة فقال الحزب الآخر ظنناه قليل الإصابة لم يسمع ذلك منهم وكان كمن عرفوه لأن شرط دخوله أن يكون في العقد من أهل الصنعة دون الحذق كما لو اشترى عبدا على أنه كاتب فبان حاذقا أو ناقصا فيها لم يؤثر
فصل : ولا يجوز أن يقولوا نقرع فمن خرجت قرعته فهو السابق ولا أن من خرجت قرعته فالسبق عليه ولا أن يقولوا نرمي فأينا أصاب فالسبق على الآخر لأنه عوض في عقد فلا يستحق بالقرعة ولا بالإصابة وإن شرطوا أن يكون أن يكون فلان مقدم حزب وفلان مقدم الآخر ثم فلان ثانيا من الحزب الأول وفلان ثانيا من الحزب الثاني كان فاسدا لأن تقديم كل واحد من الحزب يكون إلى زعيمه وليس للحزب الآخر مشاركته في ذلك فإذا شرطوه كان فاسدا
فصل : وإذا تناضل اثنان وأخرج أحدهما السبق فقال أجنبي أنا شريكك في الغنم والغرم أن نضلك فنصف السبق علي وان نضلته فنصفه لي لم يجز وكذلك لو كان المتناضلون ثلاثة فيهم محلل فقال رابع للمستبقين أنا شريككما في الغنم والغرم كان باطلا لأن الغنم والغرم إنما يكون من المناضل فأما من لا يرمي فلا يكون له غنم ولا غرم ولو شرطا في النضال أنه إذا جلس عليه السبق لم يجز لأن السبق على النضال وهذا الشرط يخالف مقتضى النضال فكان فاسدا
فصل : ولو فضل أحد المتناضلين صاحبه فقال المفضول اطرح فضلك واعطيك دينارا لم يجز لأن المقصود معرفة الحذق وذلك يمنع منه وإن فسخا العقد وعقدا عقدا آخر جاز وإن لم يفسخاه ولكن رميا تمام الرشق فتمت افصابة له مع ما أسقطه استحق السبق ورد الدينار إن كان أخذه
فصل : إذا كان شرطهما خواصل وهي الإصابة المطلقة اعتد بها كيفما وجدت بشرط أن يصيب بنصل السهم فإن اصاب بعرضه أو بفوقه نحو أن ينقلب السهم بين يدي الغرض فيصيب فوقه الغرض لم يعتد به لأن هذا من سيء الخطأ وإن انقطع السهم قطعتين فأصابت القطعة الأخرى لم يحتسب به فإن كان الغرض جلدا خيط عليه شنبر كشنبر المنخل وجعلا له عرى وخيوطا تعلق به في العرى فأصاب الشنبر أو العرى نظرت في شرطهما فإن شرطا اصابة الغرض اعتد له لأن ذلك من الغرض فأما المعاليق وهي الخيوط فلا يعتد له بإصابتها على كلا الشرطين لأنها ليست من الجلدة ولا من الغرض فأشبه إصابة الهدف
فصل : وإن أطارت الريح الغرض فوقع السهم في موضعه فإن كان شرطهما خواصل احتسب به لعلمنا أنه لو كان الغرض في موضعه أصابه وإن كان شرطهما خواسق فقال القاضي ينظر فإن كانت صلابة الهدف كصلابة الغرض فثبت في الهدف احتسب له به لأنه لو بقي مكانه لثبت فيه كثبوته في الهدف وإن لم يثبت فيه مع التساوي لم يحتسب وإن كان الهدف أصلب فلم يثبت فيه أو كان رخوا لم يحتسب السهم له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو بقي مكانه أو لا وهذا مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب إن كان شرطهما خواسق لم يحاسب له بالسهم الذي وقع في موضعه ولا عليه لأننا لا ندري هل يثبت في الغرض لو كان موجودا أو لا ؟ وإن وقع السهم في غير موضع الغرض احتسب به على راميه لأنه خطأ ولو وقع في الغرض في الموضع الذي طار إليه حسب عليه ايضا لا له إلا أن يكونا اتفقا على رميه في الموضع الذي طار إليه وكذلك الحكم إذا ألقت الريح الغرض على وجهه
فصل : وإذا رمى فأخطأ لعارض من كسر قوس أو قطع وتر أو حيوان اعترض بين يديه وريح شديدة ترد السهم عرضا لم يحسب عليه بذلك السهم لأن خطأه للعارض لا لسوء رميه قال القاضي ولو أصاب لم يحتسب له لأنه إذا لم يحتسب عليه لم يحتسب له ولأن الريح الشديدة كما يجوز أن تصرف الرمي الشديد فيخطىء يجوز أن تصرف السهم المخطىء عن خطئه فيقع مصيبا فتكون إصابته بالريح لا بحذق رميه فأما أن وقع السهم في حائل بينه وبين الغرض فمرقه وأصاب الغرض حسب له لأن إصابته لسداد رميه ومروقه لقوته فهو أولى من غيره وإن كانت الريح لينة خفيفة لا ترد السهم عادة لم يمنع لأن الجو لا يخلو من ريح ولأن الريح اللينة لا تؤثر إلا في الرمي الرخو الذي لا ينتفع به
فصل : وإن كان شرطهما خواسق والخاسق ما ثقب الغرض وثبت فيه فمتى أصاب الغرض بنصله وثبت فيه حسب له وإن خدشه ولم يثقبه لم يحتسب له وحسب به عليه وإن مرق منه احتسب له به لأن ذلك لقوة رميه فهو ابلغ من الخاسق وإن خرقه وهو أن يثقبه ويقع بين يديه ففيه وجهان :
احدهما : يحتسب له لأنه ثقب ثقبا يصلح للخسق وإنما لم يثبت السهم لسبب آخر من سعة الثقب أو غيره والثاني : لا يحتسب له لأن شرطهما الخواسق والخاسق ما ثبت وثبوته يكون بحذق الرامي وقصده برميه ما اتفقا عليه فإن كان امتناع السهم من الثبوت لمصادفته ما يمنع الثبوت من حصاة أو حجر أو عظم أو أرض غليظة ففيه الوجهان إلا أنه إذا لم يحتسب له لم يعد عليه لأن العارض منعه من الثبوت فأشبه ما لو منعه عارض من الإصابة وإن اختلفا في وجود العارض نظرت فإن علم موضع الثقب باتفاقهما أو ببينة نظر في الموضع فإن لم يكن فيه ما يمنع فالقول قول المنكر وإن كان فيه ما يمنع فالقول قول المدعي ولا يمين لأن الحال تشهد بصدق ما ادعاه وإن لم يعلما موضع الثقب إلا أنهما اتفقا على أنه خرق الغرض ولم يكن وراءه شيء يمنع فالقول قول المنكر بغير يمين أيضا لأنه لا مانع وإن كان وراءه ما يمنع وادعى المصاب عليه أنه لم يكن لسهم في موضع وراءه ما يمنع فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الإصابة مع احتمال ما يقوله المصيب وإن أنكر أن يكون خرق أيضا فالقول ايضا قوله مع يمينه لما ذكرناه
فصل : وإن شرطا خاسقا فوقع السهم في نقب في الغرض أو موضعه بال فنقبه وثبت في الهدف معلقا في الغرض نظرت فإن كان الهدف صليبا كصلابة الغرض فثبت فيه حسب له لأنه علم أن الغرض لو كان صحيحا لثبت فيه وإن كان الهدف ترابا أهيل لم يحتسب له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو أصاب موضعا منه قويا أو لا ؟ وإن صادف السهم في ثقب في الغرض قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض فقال الرامي خسفت وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية فأنكر صاحبه وقال بل هي كانت مقطوعة فإن علم أن الغرض كان صحيحا فالقول قول الرامي وإن اختلفا فذكر القاضي أنها كالتي قبلها إن كان الهدف رخوا لم يعتد به وإن كان قويا صلبا اعتد به وإن وقع سهمه في سهم ثابت في الغرض اعتد له به فإن كان شرطهما خواسق لم يحتسب له به ولا عليه لأننا لا نعلم يقينا أنه لولا فوق السهم الثابت لخسق فإن اصاب السهم ثم سبح عنه فخسق احتسب له به
فصل : إذا قال رجل لآخر : ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم صح وكان جعالة لأنه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا لأن النضال يكون بين اثنين أو جماعة على أن يرموا جيمعا ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا وإن قال إن أصبت به فلك درهم وإن أخطأت فعليك درهم لم يصح لأنه قمار
وإن قال ارم عشرة أسهم فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم صح لأنه جعل الجعل في مقابلة الإصابة المعلومة فإن أكثر العشرة أقله ستة وليس ذلك بمجهول لأنه بالأقل يستحق الجعل وإن قال إن كان صوابك أكثر فلك بكل سهم أصبت به درهم صح وكذلك أن قال ارم عشرة ولك بكل سهم أصبت به منها درهم أو قال فلك بكل سهم زائد على النصف من المصيبات درهم لأن الجعل معلوم بتقديره بالإصابة فأشبه ما لو قال استق لي من هذا البئر ولك بكل دلو تمرة أو قال : من رد عبدا من عبيدي فله بكل عبد درهم وإن قال : وإن كان خطؤك أكثر فعليك درهم أو نحو هذا لم يجز لأنه قمار وإن قال ارم عشره فإن أخطأتها فعليك درهم ونحو هذا لم يجز لأن الجعل يكون في مقابلة عمل ولم يوجد من القابل عمل يستحق به شيئا ولو قال الرامي لأجنبي أن أخطأت فلك درهم لم يصح لذلك
فصل : وإذا عقد النضال ولم يذكروا قوسا فظاهر كلام القاضي أنه يصح ويستويان في القوس إما العربية وإما العجمية وقال غيره لا يصح حتى يذكرا نوع القوس الذي يرميان عليه في الابتداء لأن إطلاقه ربما أفضى إلى الاختلاف وقد أمكن التحرز عنه بالتعيين للنوع فيجب ذلك وإن اتفقا على أنهما يرميان بالنشاب في الابتداء صح وينصرف إلى الرمي بالقوس الأعجمية لأن سهامها هو المسمى بالنشاب وسهام العربية يسمى نبلا فإن عينا نوعا من القسيي لم يجز العدول عنها إلى غيرها لأن أحدهما قد يكون احذق بالرمي بأحد النوعين دون الآخر وإن عينا قوسا بعينها لم تتعين لأنها قد تنكسر ويحتاج إلى إبدالها لأن الحذق لا يختلف بإختلاف عين القوس بخلاف النوع وإن تناضلا على أن يرمي أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو أحدهما بقوس الزنبور والآخر بقوس الجرخ أو قوس الحسبان وهو قوس سهامه قصار يجعل في مجرى مثل القصبة ثم يرمى بها ففيها وجهان :
أحدهما : يصح وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما نوعا جنس فصحت المسابقة مع اختلافهما كالخيل والإبل
والثاني : لا تصح المسابقة مع اختلافهما لأنهما يختلفان في الإصابة فجرى مجرى المسابقة بين جنسين وكذلك الحكم في المسابقة بين نوعي الخيل والإبل
فصل : وظاهر كلام أحمد إباحة الرمي بالقوس الفارسية ونص على جواز المسابقة بها وقال أبو بكر بن جعفر يكره لأنه [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى مع رجل قوسا فارسية فقال : القها فإنها معلونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح القنا فيها يؤيد الله الدين وبها يمكن الله لكم في الأرض ] رواه الأثرم
ولنا انعقاد الإجماع على الرمي بها وإباحة حملها فإن ذلك جار في اكثر الأعصار وهي التي يحصل الجهاد بها في عصرنا وأكثر الأعصار المتقدمة وأما الخبر فيحتمل أنه لعنها لأن حملتها في ذلك العصر العجم ولم يكونا أسلموا بعد ومنع العرب من حملها لعدم معرفتهم بها ولهذا أمر برماح القنا ولو حمل إنسان رمحا غيرها لم يكن مذموما وحكى أحمد أن قوما استدلوا على القسي الفارسية بقول الله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } يعني أن هذا مما استطاعه من القوة فيدخل في عموم الآية
مسألة : قال : ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسه فرسا يحرضه على العدو ولا يصيح به وقت سباقه لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جنب ولا جلب ]
معنى الجنب أن يجنب المسابق إلى فرسه فرسا لا راكب عليه يحرض الذي تحته على العدو ويحثه عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي معناه أن يجنب فرسا يتحول عند الغاية عليه لكونها أقل كلالا وإعياء قال ابن المنذر كذا قيل ولا أحسب هذا يصح لأن الفرس التي يسابق عليها لا بد من تعيينها فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها وإن كانت التي يتحول إلبها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة ومن شرط السباق ذلك ولأن هذا متى احتاج إلى التحول والاشتغال به فربما سبق بإشتغاله لا سرعة غيره ولأن المقصود معرفة عدو الفرس في الحلبة كلها فمتى كان إنما يركبه في آخر الحلبة فما حصل المقصود وأما الجلب فهو أن يتبع الرجل فرسه يركض خلفه ويجلب عليه ويصيح وراءه يستحثه بذلك على العدو وهكذا فسره مالك وقال قتادة : الجلب والجنب في الرهان وروي عن أبي عبيد كقول مالك وحكي عنه أن معنى الجلب أن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم قال فلا يفعل ليأتهم على مياههم فيصدقهم والتفسير الأول هو الصحيح لما روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جلب ولا جنب في الرهان ] رواه أبو داود وفي حديث علي في السباق وفي آخره ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام : يروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا ]

فصلان الذي تصح منه اليمين
كتاب الأيمان الأصل في مشروعيتها وثبوت حكمها الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } الآية وقال تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وأمر نبيه صلى الله عليه و سلم بالحلف في ثلاثة مواضع فقال : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين } وقال : { قل بلى وربي لتأتينكم } والثالث : { قل بلى وربي لتبعثن } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] متفق عليه [ وكان أكثر قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ومصرف القلوب - ومقلب القلوب ] ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في آي وأخبار سوى هذين كثير وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها ووضعها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه
فصل : وتصح من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين ولا تصح من غير مكلف كالصبي والمجنون والنائم لقوله عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاث ] ولأنه قول يتعلق به وجوب حق فلم يصح من غير مكلف أو غير مكلف ولا تنعقد يمين مكره وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة تنعقد لأنها يمين مكلف فانعقدت كيمين المختار
ولنا ما روى أبو امامة وواثلة بن الأسقع ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على مقهور يمين ] ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر
فصل : وتصح اليمين من الكافر وتلزمه الكفارة بالحنث سواء حنث في كفره أو بعد اسلامه وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر إذا حنث بعد إسلامه وقال الثوري وأصحاب الرأي لا ينعقد يمينه لأنه ليس بمكلف
ولنا ان عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالوفاء بنذره ولأنه من أهل القسم بدليل قوله تعالى : { فيقسمان بالله } ولا نسلم أنه غير مكلف وانما تسقط عنه العبادات باسلامه لأن الاسلام يجب ما قبله فاما ما يلزمه بنذره أو يمينه فينبغي أن يبقى حكمه في حقه لأنه من جهته

فصلان لا يجوز الحلف بغير الله ويكره الافراط بالحلف بالله
فصل : ولا يجوز الحلف بغير الله وصفاته نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام قال الشافعي أخشى أن يكون معصية قال ابن عبد البر وهذا أصل مجمع عليه وقيل يجوز ذلك لأن الله تعالى أقسم بمخلوقاته فقال : { والصافات صفا } { والمرسلات عرفا } { والنازعات غرقا } [ وقال النبي صلى اله عليه وسلم للأعرابي السائل عن الصلاة : أفلح وأبيه ان صدق ] وقال في حديث أبي الشعراء : [ وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزأك ]
[ ولنا ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم أدركه وهو يحلف بأبيه فقال : ان الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] قال عمر : فما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا متفق عليه يعني ولا حاكيا لها عن غيري وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] قال الترمذي هذا حديث حسن وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال ] متفق عليه وفي لفظ : [ من حلف أنه بريء من الاسلام فان كان قد كذب فهو كما قال وان كان صادقا لم يرجع الى الاسلام سالما ] رواه ابو داود فأما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ولا وجه للقياس على إقسامه وقد قيل أن في إقسامه اضمار القسم برب هذه المخلوقات فقوله : { والضحى } أي ورب الضحى
وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفلح وأبيه إن صدق ] فقال ابن عبد البر هذه اللفظة غير محفوظة من وجه صحيح فقد رواه مالك وغيره من الحفاظ فلم يقولوها فيه وحديث أبي العشراء قد قال أحمد لو كان يثبت ؟ يعني أنه لم يثبت ولهذا لم يعمل به الفقهاء في إباحة الذبح في الفخذ ثم لو ثبت فالظاهر أن النهي بعده لأن عمر قد كان يحلف بها كما حلف النبي صلى الله عليه و سلم ثم نهى عن الحلف بها ولم يرد بعد النهي إباحة ولذلك قال عمر وهو يروي الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا ثم إن لم يكن الحلف بغير الله محرما فهو مكروه فإن حلف فليستغفر الله تعالى أو ليذكر الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف باللات والعزى فليقل لا إله الله ] لأن الحلف بغير الله سيئة والحسنة تمحو السيئة وقد قال الله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها ] ولأن من حلف بغير الله فقد عظم غير الله تعظيما يشبهه تعظيم الرب تبارك وتعالى ولهذا سمي شركا لكونه أشرك غير الله مع الله تعالى في تعظيمه بالقسم به فيقول لا إله إلا الله توحيدا لله تعالى وبراءة من الشرك وقال الشافعي : من حلف بغير الله تعالى فليقل أستغفر الله
فصل : ويكره الإفراط في الحلف بالله تعالى لقول تعالى : { ولا تطع كل حلاف مهين } وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله فإن لم يخرج إلى حد الإفراط فليس بمكروه إلا أن يقترن به ما يوجب كراهته ومن الناس من قال الأيمان مكروهة لقول الله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم }
[ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحلف كثيرا وقد كان يحلف في الحديث الواحد أيمانا كثيرة وربما كرر اليمين الواحدة ثلاثا فإن قال في خطبة الكسوف : والله يا أمة محمد ما أحد أغير من الله يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ] ولقيته امرأة من الأنصار معها أولادها فقال : [ والذي نفسي بيده أنكم لأحب الناس إلي ] ثلاث مرات وقال : [ والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ] ولو كان هذا مكروها لكان النبي صلى الله عليه و سلم أبعد الناس منه ولأن الحلف بالله تعظيم له وربما ضم إلى يمنيه وصف الله تعالى بتعظيمه وتوحيده فيكون مثابا على ذلك [ وقد روي أن رجلا حلف على شيء فقال والله الذي لا آله إلا هو ما فعلت كذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما أنه قد كذب ولكن قد غفر له بتوحيده ] وأما الإفراط في الحلف فأنما كره لأنه لا يكاد يخلو من الكذب والله أعلم
فأما قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } فمعناه لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر والتقوى والإصلاح بين الناس وهو أن يحلف بالله أن لا يفعل برا ولا تقوى ولا يصلح بين الناس ثم يمتنع من فعله ليبر في يمنيه ولا يحنث فيها فنهوا عن المضي فيها
قال أحمد وذكر حديث ابن عباس بإسناده في قوله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } الرجل يحلف أن لا يصل قرابته وقد جعل الله له مخرجا في التكفير فأمره أن لا يعتل بالله فليكفر وليبر وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأن يستلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يؤدي الكفارة التي فرض الله عليه ] متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] وقال : [ إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] متفق عليهما وإن كان النهي عاد إلى اليمين فالمنهي عنه الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح بين الناس لا على كل يمين فلا حجة فيها لهم إذا

فصل خمسة أقسام
فصل : والإيمان تنقسم خمسة أقسام :
أحدها : واجب وهي التي ينجي بها إنسانا معصوما من هلكة كما [ روي عن سويد بن حنظلة قال : خرجنا نريد النبي صلى الله عليه و سلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنا أنه أخي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم : صدقت المسلم أخو المسلم ] رواه أبو داود و النسائي فهذا ومثله واجب لأن انجاء المعصوم واجب وقد تعين في اليمين فيجب وكذلك انجاء نفسه مثل أن تتوجه عليه إيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو بريء
الثاني : مندوب وهو الحلف الذي تتعلق به مصلحة من إصلاح بين متخاصمين أو إزالة حقد من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو دفع شر فهذا مندوب لأن فعل هذه الأمور إليه واليمين مفضية إليه وإن حلف على فعل طاعة أو ترك معصية ففيه وجهان :
أحدهما : أنه مندوب إليه وهو قول بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي لأن ذلك يدعوه إلى فعل الطاعات وترك المعاصي
والثاني : ليس بمندوب إليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك في الأكثر الأغلب ولا حنث النبي صلى الله عليه و سلم أحدا عليه ولا ندبه إليه ولو كان ذلك طاعة لم يخلوا به ولأن ذلك يجري النذر [ وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن النذر وقال : أنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ] متفق عليه
الثالث : المباح مثل الحلف على فعل مباح أو تركه والحلف على الخبر بشيء هو صادق فيه أو يظن أنه فيه صادق فإن الله تعالى قال : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ومن صور اللغو أن يحلف على شيء يظنه كما حلف عليه ويبين بخلافه فأما الحلف على الحقوق عند الحاكم ففيه وجهان :
أحدهما : أن تركه أولى من فعله فيكون مكروها ذكر ذلك أصحابنا وأصحاب الشافعي لما روي أن عثمان والمقداد تحاكما إلى عمر في مال استقرضه المقداد فجعل عمر اليمين على المقداد فردها على عثمان فقال عمر لقد أنصفك فأخذ عثمان ما أعطاه المقداد ولم يحلف فقال خفت أن يوافق قدر بلاء فيقال بيمين عثمان
والثاني : أنه مباح فعله كتركه لأن الله تعالى أمر نبيه بالحلف على الحق في ثلاثة مواضع وروي محمد ابن كعب القرظي أن عمر قال على المنبر وفي يده عصا : يا أيها الناس لا تنمعكم اليمين من حقوقكم فوالذي نفسي بيده أن في يدي لعصا
وروى عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن الشعبي أن عمرا وأبيا تحاكما إلى زيد في نخل ادعاه أبي فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد أعف أمير المؤمنين فقال عمر ولم يعفي أمير المؤمنين ؟ إن عرفت شيئا استحققته بيميني وإلا تركته والله الذي لا آله إلا هو أن النخل لنخلي وما لأبي فيه حق لما خرجا وهب حقوقهم بعدي فيكون سنة ولأنه حلف صدق على حق فأشبه الحلف عند غير الحاكم
الرابع : المكروه وهو الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب قال الله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حلف لا ينفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال وكان من جملة أهل الإفك الذين تكلموا في عائشة رضي الله عنها فأنزل الله تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } وقيل المراد بقوله { ولا يأتل } أي لا يمتنع ولأن اليمين على ذلك مانعة من فعل الطاعة أو حاملة على فعل المكروه فتكون مكروهة فإن قيل لو كانت مكروهة لانكر النبي صلى الله عليه و سلم على الأعرابي الذي سأله عن الصلوات فقال هل علي غيرها ؟ فقال : لا إلا أن تطوع فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم بل قال : أفلح الرجل أن صدق قلنا لا يلزم هذا فإن اليمين على تركها لا تزيد ولو تركها لم ينكر عليه ويكفي في ذلك بيان أن ما تركه تطوع وقد بينه له النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : إلا أن تطوع ولأن هذه اليمين أن تضمنت ترك المندوب فقد تناولت فعل الواجب والمحافظة عليه كله بحيث لا ينقص منه شيئا وهذا في الفضل يزيد على ما قابله من ترك التطوع فيترجح جانب الإثبات بها على تركها فيكون من قبيل المندوب فكيف ينكر ؟ ولأن في الإقرار على هذه اليمين بيان حكم محتاج إليه وهو بيان أن ترك التطوع غير مؤاخذ به فلو أنكر على الحالف لحصل ضد هذا وتوهم كثير من الناس لحوق الأثم فيفوت الغرض ومن قسم المكروه الحلف في البيع والشراء ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الحلف منفق للسلعة ممحق للبركة ] رواه ابن ماجة
القسم الخامس : المحرم وهو الحلف الكاذب فإن الله تعالى ذمة بقوله تعالى : { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } ولأن الكذب حرام فإذا كان محلوقا عليه كان أشد في التحريم وإن بطل به حقا أو اقتطع به مال معصوم كان أشد فإنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف يمينا فاجرة يقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ] وأنزل الله عز و جل في ذلك { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } ومن هذا القسم الحلف على فعل معصية أو ترك واجب فإن المحلوف عليه حرام فكان الحلف حراما لأنه وسيلة إليه والوسيلة تأخذ حكم المتوسل إليه

فصل حكم ما لو كانت اليمين على فعل واجب
فصل : ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرم كان حلها محرما لأن حلها بفعل المحرم وهو محرم وإن كانت على فعل مندوب أو ترك كروه فجعلها مكروه وإن كانت على فعل مباح فحلها مباح فإن قيل وكيف يكون حلها مباحا وقد قال الله تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } قلنا هذا في الايمان في العهود والواثيق بدليل قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } إلى قوله { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة } والعهد يجب الوفاء به بغير يمين فمع اليمين أولى فإن الله تعالى قال : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } وقال : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } ولهذا نهى عن نقض اليمين والنهي يقتضي التحريم وذمهم عليه وضرب لهم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ولا خلاف في أن الحل المختلف فيه لا يدخله شيء من هذا وإن كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب فحلها مندوب إليه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني والله إن شاء لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] وإن كانت اليمين على فعل محرم أو ترك واجب فحلها واجب لأن حلها بفعل الواجب وفعل الواجب

مسألتان وفصول في الحالف وأحكام اليمين
مسألة : قال : ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله أولا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة
لا خلاف في هذا عند فقهاء الأمصار قال ابن عبد البر اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين هي التي على المستقبل من الأفعال وذهبت طائفة إلى أن الحنث متى كان طاعة لم يوجب كفارة وقال قوم من حلف على فعل معصية فكفارتها تركها وقال سعيد بن جبير : اللغو أن يحلف الرجل فيما لا ينبغي له يعني فلا كفارة عليه في الحنث وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله تعالى ولا في قطعية رحم ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارة ] رواه أبو داود ولأن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم ولا إثم في الطاعة ولأن اليمين كالنذر ولا نذر في معصية الله تعالى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمنيه ] وقال : [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] أخرجه البخاري وحديثهم لا يعارض حديثنا لأن حديثنا أصح منه وأثبت ثم أنه يحتمل أن تركها كفارة لاثم الحلف والكفارة المختلف فيها كفارة المخالفة وقولهم أن الحنث طاعة قلنا فاليمين غير طاعة فتلزمه كفارة للمخالفة ولتعظيم اسم الله تعالى إذا حلف به ولم يبر يمينه
إذا ثبت هذا نظرنا في يمينه فإن كانت على ترك شيء ففعله حنث ووجبت الكفارة وإن كانت على فعل شيء فلم يفعله وكانت يمينه مؤقتة بلفظه أو نيته أو قرينة حاله ففات حنث وكفر فإن كانت مطلقة لم يحنث إلا بفوات وقت الإمكان لأنه كا دام في الوقت والفعل ممكن فيحتمل أن يفعل فلا يحنث ولهذا [ قال عمر للنبي صلى الله عليه و سلم ألم تخبرنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال : فاخبرتك أنك تاتيه العام ؟ قال لا قال : فإنك آتية ومطوف به ] وقد قال الله تعالى : { قل بلى وربي لتبعثن } وهو حق ولم يأت بعد
مسألة : قال : وإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق
وجملة ذلك أن من حلف ان لا يفعل شيئا ففعله ناسيا فلا كفارة عليه نقله عن أحمد الجماعة إلا في الطلاق والعتاق فإنه يحنث هذا ظاهر المذهب واختاره الخلال وصاحبه وهو قول أبي عبيدة وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضا وهذا قول عطاء و عمرو دينار وابن أبي نجيح و إسحاق قالوا لا حنث على الناسي في طلاق ولا غيره وهو ظاهر مذهب الشافعي لقوله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم والمجنون ولأنه أحد طرفي اليمين فاعتبر فيه القصد كحالة الابتداء بها وعن أحمد رواية أخرى أنه يحنث في الجميع وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة وهو قول سعيد بن جبير و مجاهد و الزهري و قتادة و ربيعة و مالك وأصحاب الرأي والقول الثاني لـ لشافعي لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله فلزمه الحنث كالذاكر وكما لو كانت اليمين بالطلاق والعتاق
ولنا على أن الكفارة لا تجب في اليمين المكفرة ما تقدم ولأنها تجب لرفع الإثم ولا إثم على الناسي وأما الطلاق والعتاق فهو متعلق بشرط فيقع بوجود شرطه من غير قصد كما لو قال أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج
فصل : وإن فعله غير عالم بالمحلوف عليه كرجل حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه يحسبه أجنبيا أو حلف أنه لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فأعطاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئيا أو حلف لا بعت لزيد ثوبا فوكل زيد من يدفعه إلى من يبيعه فدفعه إلى الحالف فباعه من غير علمه فهو كالناسي لأنه غير قاصد للمخالفة أشبه الناسي
فصل : والمكره على الفعل ينقسم قسمين أحدهما : أن يلجأ إليه مثل من يحلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها أو لا يخرج منها فأخرج محمولا أو مدفوعا بغير اختياره ولم يمكنه الامتناع فهذا لا يحنث في قول أكثرهم وبه قال أصحاب الرأي وقال مالك إن دخل مربوطا لم يحنث وذلك لأنه لم يفعل الدخول والخروج فلم يحنث كما لو لم يوجد ذلك الثاني : أن يكره بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه فقال أبو الخطاب فيه روايتان كالناسي ولـ لشافعي قولان وقال مالك و أبو حنيفة يحنث لأن الكفارة لا تسقط بالشبهة فوجبت مع الإكراه والنسيان ككفارة الصيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه نوع إكراه فلم يحنث به كما لو حمل ولم يمكنه الامتناع ولأن الفعل لا ينسب إليه فأشبه من لم يفعله ولا نسلم الكفارة في الصيد بل إنما تجب على المكره والله أعلم
مسألة : قال : ومن حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة
هذا ظاهر المذهب نقله الجماعة عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود و سعيد بن المسيب و الحسن و الأوزاعي و الثوري و الليث و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي من أهل الكوفة وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم قال ابن مسعود كنا بعد من اليمين التي لا كفارة لها اليمين الغموس وعن سعيد بن المسيب قال : هي من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر وروي عن أحمد أن فيها الكفارة وروي ذلك عن عطاء و الزهري و الحكم و البتي هو قول الشافعي لأنه وجدت منه اليمين بالله تعالى والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة
ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبهت اللغو وبيان كونها غير منعقدة أنها لا توجب برا ولا يمكن فيها ولأنه قارنها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح الذي قارنه الرضاع ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها ودليل ذلك أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس ] رواه البخاري وروى فيه : [ خمس من الكبائر لا كفارة لهن : الإشراك بالله والفرار من الزحف وبهت المؤمن وقتل المسلم بغير حق والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرىء مسلم ] ولا يصح القياس على المستقبلة لأنها يمين منعقدة يمكن حلها والبر فيها وهذه غير منعقدة فلا حل لها وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ] يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله فيما يستقبله قاله ابن المنذر

مسائل وفصول أحكام الكفارة واليمين المكفرة والقسم بصفات الله والقسم بحذف حرف
مسألة : قال : والكفارة إنما تلزم من حلف يريد عقد اليمين
وجملته أن اليمين التي تمر على لسانه في عرض حديثه من غير قصد إليها لا كفارة فيها في قول أكثر أهل العلم لأنها من لغو اليمين نقل عبد الله عن أبيه أنه قال : اللغو عندي أن يحلف على اليمين يرى انها كذلك والرجل يحلف فلا يعقد قلبه على شيء وممن قال ان اللغو اليمين التي لا يعقد عليها قلبه عمر وعائشة رضي الله عنهما وبه قال عطاء و القاسم وعكرمة و الشعبي و الشافعي لما روي عن عطاء قال : [ قالت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله ] أخرجه أبو داود قال ورواه الزهري و عبد الملك بن أبي سليمان و مالك بن مغول عن عطاء عن عائشة موقوفا وروى الزهري أن عروة حدثه عن عائشة قالت : أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وأيمان الكفارة كل يمين حلف عليها على وجه من الأمر في غضب أو غيره ليفعلن أو ليتركن فذلك عقد الإيمان التي فرض الله تعالى فيها الكفارة ولأن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود عليه وهذا كذلك وممن قال لا كفارة في هذا ابن عباس وأبو هرية وأبو مالك وزرارة ابن أوفى و الحسن و النخعي و مالك وهو قول من قال إنه من لغو اليمين ولا نعلم في هذا خلافا ووجه ذلك قول الله تعالى ك { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ونفى المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة ولأن المؤاخذة يحتمل أن يكون معناها إيجاب الكفارة بدليل أنها تجب في الأيمان التي لا مأثم فيها وإذا كانت المؤاخذة إيجاب الكفارة فقد نفاها في اللغو فلا تجب ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان إجماعا ولأن قول عائشة في تفسير اللغو وبيان الأيمان التي فيها الكفارة خرج منها تفسيرا لكلام الله تعالى وتفسير الصحابي مقبول
مسألة : قال : ومن حلف على شيء يظنه كما حلف فلم يكن فلا كفارة عليه لأنه من لغو اليمين
أكثر أهل العلم على أن هذه اليمين لا كفارة فيها قاله ابن المنذر يروى هذا ابن عباس وأبي هريرة وأبي مالك وزرارة بن أوفى و الحسن و النخعي و مالك و أبي حنيفة و الثوري وممن قال هذا لغو اليمين مجاهد و سليمان بن يسار و الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم على أن لغو اليمين لا كفارة فيه وقال ابن عبد البر : أجمع المسلمون على هذا وقد حكي عن النخعي في اليمين على شيء يظنه حقا فتبين بخلافه أنه من لغو اليمين وفيه الكفارة وهو أحد قولي الشافعي وروي عن أحمد أن فيه الكفارة وليس من لغو اليمين لأن اليمين بالله تعالى وجدت مع المخالفة فأوجبت الكفارة كاليمين على مستقبل
ولنا قول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وهذه منه ولأنها يمين غير منعقدة فلم تجب فيها كفارة كيمين الغموس ولأنه غير مقصود للمخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيا وفي الجملة لا كفارة في يمين على ماض لأنها تنقسم ثلاثة أقسام ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا وما تعمد الكذب فيه فهو يمين الغموس لا كفارة فيها لأنها أعظم من أن تكون فيها كفارة وما يظنه حقا فيتبين بخلافه فلا كفارة فيه لأنه من لغو اليمين أما اليمين على المستقبل فما عقد عليه قلبه وقصد اليمين عليه ثم خالف فعليه الكفارة وما لم يعقد عليه قلبه ولم يقصد اليمين عليه وإنما جرت على لسانه فهو من لغو اليمين وكلام عائشة يدل على هذا فإنها قالت أيمان اللغو ما كان في المراء والمزاحة والهزل والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وأيمان الكفارة كل يمين حلف عليها على وجه من الأمر في غضب أو غيره ليفعلن أو ليتركن فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة وقال الثوري : في جامعة الأيمان أربعة يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل : والله لا افعل فيفعل أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل ويمينان لا يكفران أن يقول والله ما فعلت وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل مسألة : قال : واليمين المكفرة فأن يحلف بالله عز و جل أو باسم من اسمائه
أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز و جل فقال والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة قال ابن المنذر وكان مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي يقولون من حلف باسم من أسماء الله تعالى فحنث أن عليه الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا إذا كان من أسماء الله عز و جل التي لا يسمى بها سواه وأسماء الله تنقسم ثلاثة أقسام :
احدها : ما لا يسمى بها غيره نحو قوله والله والرحمن والأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ورب العالمين و مالك يوم الدين ورب السموات والأرض والحي الذي لا يموت ونحو هذا فالحلف بهذا يمين بكل حال
والثاني : ما يسمى به غير الله تعالى مجازا وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى مثل الخالق والرازق والرب والرحيم والقادر والقاهر والملك والجبار ونحوه فهذا يسمى به غير الله مجازا بدليل قول الله تعالى : { وتخلقون إفكا } { وتذرون أحسن الخالقين } وقوله : { ارجع إلى ربك } { اذكرني عند ربك } { فأنساه الشيطان ذكر ربه } وقال : { فارزقوهم منه } وقال : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } فهذا أن نوى به اسم الله تعالى أو أطلق كان يمينا لأنه بإطلاقه ينصرف إليه وإن نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينا لأنه يستعمل في غيره فينصرف بالنية إلى ما نواه وهذا مذهب الشافعي وقال طلحة العاقولي إذا قال : والرب والخالق والرازق كان يمينا على كل حال كالأول لأنها لا تستعمل مع التعريف بلام التعريف إلا في إسمه تعالى فأشبهت القسم الأول
الثالث : ما يسمى به الله تعالى وغيره ولا ينصرف إليه بإطلاقه كالحي والعالم والموجود والمؤمن والكريم والشاكر فهذا إن قصد به اليمن بإسم الله تعالى كان يمينا وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينا فيختلف هذا القسم والذي قبله في حالة الإطلاق ففي الأول يكون يمينا وفي الثاني لا يكون يمينا وقال القاضي و الشافعي في هذا القسم لا يكون يمينا وإن قصد به إسم الله تعالى لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة الإسم فمع الإشتراك لا تكون له حرمة والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين
ولنا أنه أقسم باسم الله تعالى قاصدا به الحلف به فكان يمينا مكفرة كالقسم الذي قبله وقولهم أن النية المجردة لا تنعقد بها اليمين نقول به وما انعقد بالنية المجردة إنما انعقد بالإسم المحتمل المراد به اسم الله تعالى فإن النية تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته فيصير كالمصرح به كالكنايات وغيرها ولهذا لو نوى بالقسم الذي قبله غير الله تعالى لم يكن يمينا لنيته
فصل : والقسم بصفات الله تعالى كالقسم بأسمائه وصفاته تنقسم أيضا ثلاثة أقسام :
أحدها : ما هو صفات لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها كعزة الله تعالى وعظمته وجلاله وكبريائه وكلامه فهذه تنعقد بها اليمين في قولهم جميعا وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي لأن هذه من صفات ذاته لم يزل موصوفا بها وقد ورد الأثر بالقسم ببعضها فروي أن النار تقول : قط قط عزتك رواه البخاري والذي يخرج من النار يقول : وعزتك لا أسألك غيرها وفي كتاب الله تعالى : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين }
والثاني : ما هو صفة للذات ويعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته فهذه صفة للذات لم يزل موصوفا بها وقد تستعمل في المعلوم والمقدور اتساعا كقولهم اللهم اغفر لنا علمك فينا ويقال اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك ويقال انظر إلى قدرة الله أي مقدوره فمتى أقسم بهذا كان يمينا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال وعلم الله لا يكون يمينا لأنه يحتمل المعلوم
ولنا أن العلم من صفات الله تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة كلاعظمة والعزة والقدرة وينتقض ما ذكروه بالقدرة فإنهم قد سلموها وهي قرينتها فأما أن نوى القسم بالمعلوم والمقدور احتمل أن لا يكون يمينا وهو قول أصحاب الشافعي لأنه نوى بالإسم غير صفة الله مع احتمال اللفظ ما نواه فأشبه ما لو نوى القسم بمحلوف في الأسماء التي يسمى بها غير الله تعالى وقد روي عن أحمد أن ذلك يكون بيمينا بكل حال ولا تقبل منه نية غير صفة الله تعالى وهو قول أبي حنيفة في القدرة لأن ذلك موضوع للصفة فلا يقبل منه نية غير الصفة كالعظمة وقد ذكر طلحة العاقولي في أسماء الله تعالى المعرفة بلام التعريف كالخالق والرازق أنها تكون يمينا بكل حال لأنها لا تنصرف إلا إلى اسم الله كذا هذا
الثالث : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحانه لفظا أو نية كالعهد والميثاق والأمانة ونحوه فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بإضافته أو نيته وسنذكره ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
فصل : وإن قال وحق الله فهي يمين مكفرة وبهذا قال مالك و الشافعي وقال ابو حنيفة لا كفارة لها لأن حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له
ولنا أن لله حقوقا يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة وقد اقترن عرف الإستعمال بالحلف بهذه الصفة فتنصرف إلى صفة الله تعالى كقوله وقدرة الله وإن نوى بذلك القسم بمخلوق فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم والقدرة إلا أن إحتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر
فصل : وإن قال لعمر الله فهي يمين موجبة للكفارة وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي إن قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر لأنها إنما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف فكأنه قال لعمر الله ما أقسم به فيكون مجازا والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق
ولنا أنه أقسم بصفة من صفات ذات الله فكان يمينا موجبا للكفارة كالحلف ببقاء الله تعالى فإن معنى ذلك الحلف ببقاء الله تعالى وحياته ويقال العمر والعمر واحد وقيل معناه وحق الله وقد ثبت له عرف الشرع والإستعمال قال الله تعالى : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }
وقال النابغة : ( فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما أريق على الأنصاب من جسد )
وقال آخر : ( إذا رضيت كرام بني قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها )
وقال آخر : ( ولكن لعمر الله ما ظل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم )
وهذا في الشعر والكلام كثير وأما احتياجه إلى التقدير فلا يصح فإن اللفظ إذا اشتهر في العرف صار من الأسماء العرفية يجب حمله عليه عند الإطلاق دون موضوعه الأصلي على ما عرف من سائر الأسماء العرفية ومتى احتاج اللفظ إلى التقدير وجب التقدير له ولم يجز اطراحه ولهذا يفهم مراد المتكلم به من غير اطلاع على نية قائله وقصده كما يفهم أن مراد المتكلم بهذا من المتقدمين القسم ويفهم بغير حرف القسم في أشعارهم القسم في مثل قوله
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا )
ويفهم من القسم الذي حذف في جوابه حرف لا أنه مقدر مراد كهذا البيت ويفهم من قول الله تعالى : { واسأل القرية } { وأشربوا في قلوبهم العجل } التقدير فكذا ههنا وإن قال عمرك الله كما في قوله :
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان ؟ )
فقد قيل هو مثل قوله نشدتك الله ولهذا ينصب اسم الله تعالى فيه وإن قال لعمري أو لعمرك أو عمرك فليس بيمين في قول أكثرهم وقال الحسن في قوله لعمري عليه الكفارة
ولنا أنه أقسم بحياة مخلوق فلم تلزمه كفارة كما لو قال وحياتي وذلك لأن هذا اللفظ يكون قسما بحياة الذي أضيف إليه لعمر فإن التقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به والعمر الحياة أو البقاء
فصل : وإن قال وايم الله أو وايمن الله فهي يمين موجبة للكفارة والخلاف فيه كالذي ذكرنا في الفصل الذي قبله وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقسم به وانضم إليه عرف الإستعمال فوجب أن يصرف إليه واختلف في اشتقاقه فقيل هو جمع يمين وحذفت النون فيه في البعض تخفيفا لكثرة الإستعمال وقيل هو من اليمين فكأنه قال ويمين الله لأفعلن وألفه ألف وصل
فصل : وحروف القسم ثلاثة : الباء وهي الأصل وتدخل على المظهر والمضمر جميعا والواو وهي بدل من الباء تدخل على المظهر دون المضمر لذلك وهي أكثر استعمالا وبها جاءت أكثر الأقسام في الكتاب والسنة وإنما كانت الباء الأصل لأنها الحرف الذي تصل به الأفعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها والتقدير في القسم أقسم بالله كما قال الله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } والتاء بدل من الواو وتحتص باسم واحد من أسماء الله تعالى وهو الله ولا تدخل على غيره فيقال تالله ولو قال تالرحمن أو تالرحيم لم يكن قسما فإذا أقسم باحد هذه الحروف الثلاثة في موضعه كان قسما صحيحا لأنه موضوع له وقد جاء في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى : { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } { تالله لقد آثرك الله علينا } { تالله تفتأ تذكر يوسف } { تالله لقد علمتم } { وتالله لأكيدن أصنامكم } قال الشاعر :
( الله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الضيان والآس )
فإن قال ما أردت به القسم لم يقبل منه لأنه أتى باللفظ الصريح في القسم واقترنت به قرينة دالة عليه وهو الجواب بجواب القسم ويحتمل أن يقبل منه في قوله تالله لأقومن إذا قال أردت أن قيامي بمعونة الله وفضله لأنه فسر كلامه بما يحتمله ولا يقبل في الحرفين الآخرين لعدم الإحتمال ويحتمل أن لا يقبل بحال لأنه أجاب بجواب القسم فيمنع صرفه إلى غيره
فصل : وإن أقسم بغير حرف القسم فقال الله لأقومن بالجر أو النصب كان يمينا وقال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي لأن ذكر اسم الله تعالى بغير حرف القسم ليس بصريح في القسم فلا ينصرف إليه إلا بالنية
ولنا أنه سائغ في العربية وقد ورد به عرف الإستعمال في الشرع [ فروي أن عبد الله بن مسعود أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه قتل أبا جهل فقال : الله أنك قتلته ؟ ] قال الله إني قتلته ذكره البخاري وقال لركانة بن عبد يزيد : الله ما أردت إ لا واحدة قال ما أردت إلا واحدة وقال امرؤ القيس :
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا )
وقال أيضا ( فقلت يمين الله مالك حيلة )
وقد اقترنت به قرينتان تدلان عليه إحداهما : الجواب بجواب القسم والثاني : النصب والجر في اسم الله تعالى فوجب أن تكون يمينا كما لو قال والله وإن قال الله لأفعلن بالرفع ونوى اليمين فهيي يمين لكنه قد لحن فهو كما لو قال والله بالرفع وإن لم ينو اليمين فقال أبو الخطاب يكون يمينا لأن قرينة الجواب بجواب القسم كافية والعامي لا يعرف الإعراب فيأتي به إلا أن يكون من أهل العربية فإن عدوله عن إعراب القسم دليل على أنه لم يرده ويحتمل أن لا يكون قسما في حق العامي لأنه ليس بقسم في حق أهل العربية فلم يكن قسما في غيرهم كما لو لم يجبه بجواب القسم
فصل : ويجاب القسم باربعة أحرف : حرفان للنفي هما ما ولا وحرفان للإثبات وهما ان واللام المفتوحة وتقوم أن المكسورة مقام ما النافية مثل قوله : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } وإن قال والله أفعل بغير حرف فالمحذوف ههنا لا وتكون يمينه على النفي لأن موضوعه في العربية كذلك قال الله تعالى : { تالله تفتأ تذكر يوسف } أي لا تفتؤ وقال الشاعر تالله يبقى على الأيام ذو حيد وقال آخر فقلت يمين الله أبرح قاعدا أي لا أبرح
فصل : فإن قال لا ها لله ونوى اليمين فهو يمين [ لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل أبي قتادة لاها لله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صدق ] وإن لم ينو اليمين فالظاهر أنه لا يكون يمينا لأنه لم يقترن به عرف ولا نية ولا في جوابه حرف يدل على القسم وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
مسألة : قال : أو بآية من القرآن
وجملته أن الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام الله يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها وبهذا قال ابن مسعود و الحسن و قتادة و مالك و الشافعي و أبو عبيد و عامة أهل العلم وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس بيمين ولا تجب به كفارة فمنهم من زعم أنه مخلوق ومنهم من قال : لا يعهد اليمين به
ولنا أن القرآن كلام الله وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به كما لو قال وجلال الله وعظمته وقولهم هو مخلوق قلنا هذا كلام المعتزلة وإنما الخلاف مع الفقهاء وقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ القرآن كلام الله غير مخلوق ] وقال ابن عباس في قوله تعالى : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } أي غير مخلوق وأما قولهم لا يعهد اليمين به فيلزمهم قولهم وكبرياء الله وعظمته وجلاله إذا ثبت هذا فإن الحلف بآية منه كالحلف بجميعه لأنها من كلام الله تعالى
فصل : وإن حلف بالمصحف انعقدت يمينه وكان قتادة يحلف بالمصحف ولم يكره ذلك أمامنا و إسحاق لأن الحالف بالمصحف إنما قصد بالمكتوب فيه وهو القرآن فإنه بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين
مسألة : قال : أو تصدق بملكه أو بالحج
وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا أو يحث به على شيء مثل أن يقول ان كلمت زيدا فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة فهذا يمين حكمة أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شيء وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ويسمى نذر اللجاج والغضب ولا يتعين عليه الوفاء به وإنما يلزم نذر التبرر وسنذكره في بابه وهذا قول عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة وبه قال عطاء و طاوس و عكرمة و القاسم و الحسن و جابر بن زيد و النخعي و قتادة و عبد الله بن شريك و الشافعي و العنبري و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال سعيد بن المسيب لا شيء في الحلف بالحج وعن الشعبي و الحارث العكلي و حماد و الحكم لا شيء في الحلف بصدقة ماله لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله تعالى لحرمة الإسم وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلم يلزمه وقال أبو حنيفة و مالك يلزمه الوفاء بنذره لأنه نذر فيلزمه الوفاء به كنذر التبرر وروي نحو ذلك عن الشعبي
ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ] رواه سعيد بن منصور و الجوزجاني في المترجم وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة اليمين ] ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم ولأنه يمين فيخل في عموم قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } ودليل أنه يمين أنه يسمى بذلك ويسمى قائله حالفا وفارق نذر التبرر لكونه قصد به التقرب إلى الله تعالى والبر ولم يخرجه مخرج اليمين وههنا خرج مخرج اليمين ولم يقصد به قربة ولا برا فاشبه اليمين من وجه والنذر من وجه فخير بين الوفاء به وبين الكفارة
وعن أحمد رواية ثانية أنه تتعين الكفارة ولا يجزئه الوفاء بنذره وهو قول لبعض أصحاب الشافعي لأنه يمين والأول أولى لأنه انما التزم فعل ما نذره فلا يلزمه أكثر منه كنذر التبرر وفارق اليمين بالله تعالى لأنه أقسم بالإسم المحترم فإذا خالف لزمته الكفارة تعظيما للإسم بخلاف هذا
مسألة : قال : أو بالعهد
وجملته أنه إذا حلف بالعهد أو قال وعهد الله وكفالته فذلك يمين يجب تكفيرها إذا حنث فيها وبهذا قال الحسن و طاوس و الشعبي و الحارث العكلي و قتادة و الحكم و الأوزاعي و مالك وحلفت عائشة رضي الله عنها بالعهد أن لا تكلم ابن الزبير فلما كلمته اعتقت أربعين رقبة وكانت إذا ذكرته تبكي وتقول واعهداه قال أحمد شديد في عشرة مواضع من كتاب الله : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } ويتقرب إلى الله تعالى إذا حلف بالعهد وحنث ما استطاع وعائشة أعتقت أربعين رقبة ثم تبكي حتى تبل خمارها وتقول واعهداه وقال عطاء و أبو عبيد و ابن المنذر لا يكون يمينا إلا أن ينوي وقال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي اليمين بعهد الله الذي هو صفته وقال أبو حنيفة ليس بيمين ولعلهم ذهبوا إلى أن العهد من صفات الفعل فلا يكون الحلف به يمينا كما لو قال : وخلق الله وقد وافقنا أبو حنيفة في أنه إذا قال علي عهد الله وميثاقه لأفعلن ثم حنث أنه يلزمه الكفارة
ولنا أن عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا كقوله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم } وكلامه قديم صفة له ويحتمل أنه استحقاقه لما تعبدنا به وقد ثبت له عرف الإستعمال فيجب أن يكون يمينا بإطلاقه كما لو قال : وكلام الله إذا ثبت هذا فإنه إن قال علي عهد الله وميثاقه لأفعلن أو قال وعهد الله وميثاقه لأفعلن فهو يمين وإن قال والعهد والميثاق لأفعلن ونوى عهد الله كان يمينا لأنه نوى الحلف بصفة من صفات الله تعالى وإن أطلق فقال القاضي فيه روايتان إحداهما : يكون يمينا لأن لام التعريف إن كانت للعهد يجب أن تنصرف إلى عهد الله لأنه الذي عهدت اليمين به وإن كانت للاستغراق دخل فيه ذلك والثانية : لا يكون يمينا لأنه يحتمل غير ما وجبت به الكفارة ولم يصرفه إلى ذلك بنيته فلا تجب الكفارة لأن الأصل عدمها
مسألة : قال : أو بالخروج من الإسلام
اختلفت الرواية عن أحمد في الحلف بالخروج من الإسلام مثل أن يقول هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أن فعل كذا أو هو بريء من الإسلام أو من رسول الله أو من القرآن أن فعل أو يقول هو يعبد الصليب أو يعبدك أو يعبد غير الله تعالى إن فعل أو نحو هذا فعن أحمد عليه الكفارة إذا حنث يروى هذا عن عطاء و طاوس و الحسن و الشعبي و الثوري و الأوزاعي و إسحاق و أصحاب الرأي ويروى ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه
والرواية الثانية : لا كفارة عليه وهو قول مالك و الشافعي و الليث و أبي ثور و ابن المنذر لأنه لم يحلف باسم الله ولا صفته فلم تلزمه كفارة كما لو قال عصيت الله تعالى فيما أمرني ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الرواية الأولى على الندب دون الإيجاب لأنه قال في رواية حنبل إذا قال أكفر بالله أو أشرك بالله فأحب إلي أن يكفر كفارة يمين إذا حنث ووجه الرواية الأولى ما [ روي عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الرجل يقول هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها بالله في هذه الأشياء فقال : عليه كفارة يمين ] أخرجه أبو بكر ولأن البراء من هذه الأشياء توجب الكفر بالله فكان الحلف بها يمينا كالحلف بالله تعالى
والرواية الثانية : أصح إن شاء الله تعالى فإن الوجوب من الشارع ولم يرد في هذه اليمين نص ولا هي في قياس المنصوص فإن الكفارة إنما وجبت في الحلف باسم الله تعظيما لاسمه واظهارا لشرفه وعظمته ولا تتحقق التسوية
فصل وإن قال هو يستحل الخمر والزنا إن فعل ثم حنث أو قال هو يستحل ترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة فهو كالحلف بالبراءة من الإسلام لأن استحلال ذل يوجب الكفر وإن قال عصيت الله فيما أمرني أو في كل ما افترض علي أو محوت المصحف أو أنا أسرق أو أقتل النفس التي حرم الله إن فعلت وحنث لم تلزمه كفارة لأن هذ دون الشرك وإن قال أخزاه الله وأقطع يده أو لعنه الله إن فعل ثم حنث فلا كفارة عليه نص عليه أحمد وبهذا قال عطاء و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال طاوس و الليث عليه كفارة ويه قال الأوزاعي إذا قال عليه لعنة الله
ولنا أن هذا يوجب للكفر فأشبه ما لو قال محوت المصحف وإن ا قال لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت وحنث فقال القاضي عليه كفارة وذكر أن أحمد نص عليه والصحيح إن هذا لا كفارة فيه لأن إيجابها في هذا ومثله تحكم بغير نص ولا قياس صحيح

مسألتان لا يجوز الحلف بالبراءة من الإسلام ولا بتحريم المملوك
فصل : ولا يجوز الحلف بالبراءة من الإسلام ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من قال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما ] رواه أبو داود
مسألة : قال : أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله
وجملته أنه إذا قال هذا حرام علي أن فعلت وفعل أو قال ما أحل الله عليه حرام إن فعلت ثم فعل فهو مخير إن شاء ترك ما حرمه على نفسه وإن شاء كفر وإن قال هذا الطعام حرام علي فهو كالحلف على تركه ويروى نحو هذا عن ابن مسعود و الحسن و جابر بن زيد و قتادة و إسحاق و أهل العراق وقال سعيد بن جبير فيمن قال الحل علي حرام يمين من الايمان يكفرها وقال الحسن هي يمين إلا أن ينوي طلاقه امرأته وعن إبراهيم مثله وعنه نوى طلاقا وإلا فليس بشيء وعن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين وقال طاوس هو ما نوى وقال مالك الشافعي ليس بيمين ولا شيء عليه لأنه قصد تغيير المشروع فلغا ما قصده كما قال : هذه ربيبتي
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ـ إلى قوله ـ { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } سمى تحريم ما أحل الله يمينا وفرض له تحلة وهي الكفارة [ وقالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه و سلم يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحدانا فقالت له ذلك فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ] فنزل { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؟ تبتغي مرضاة أزواجك } متفق عليه فإن قيل إنما نزلت الآية في تحريم مارية القبطية كذلك قال الحسن و قتادة قلنا ما ذكرناه أصح فإنه متقق عليه وقول عائشة صاحبة القصة الحاضرة للتنزيل المشاهدة للحال أولى و الحسن و قتادة لو سمعا قول عائشة لم يعدلا به شيئا ولم يصيرا إلى غيره فكيف يصار إلى قولهما ويترك قولها ؟ وقد روي عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه جعل تحريم الحلال يمينا ولو ثبت أن الآية نزلت في تحريم مارية كان حجة لنا لأنها من الحل الذي حرم وليست زوجة فوجدت الكفارة بتحريمها يقتضي وجوبه في كل حلال حرم بالقياس عليها لأنه حرم الحل فأوجب الكفارة كتحريم الأمة والزوجة وما ذكروه يبطل بتحريمها وإذا قال هذه ربيبتي يقصد تحريمها فهو ظهار

مسائل وفصول ألفاظ الحلف وأحكامها
مسألة : قال : أو يقول أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله
هذا قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا وسواء نوى اليمين أو أطلق لأنه لو قال بالله ولم يقل أقسم ولا أشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا وإنما كان يمينا بتقدير الفعل قبله لأن الباء تتعلق بفعل مقدر على ما ذكرناه فإذا أظهر الفعل ونطق بالمقدر كان أولى بثبوت حكمه وقد ثبت له عرف الإستعمال قال الله تعالى : { فيقسمان بالله } وقال تعالى : { وأقسموا بالله } ـ وقال { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ويقول الملاعن في لعانه أشهد بالله إني لمن الصادقين وتقول المرأة أشهد بالله أنه لمن الكاذبين وأنشد أعرابي عمر
( أقسم بالله لتفعلنه )
وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي فقال أقسمت بالله أو شهدت بالله قال عبد الله بن رواحة ( أقسمت بالله لتنزلنه ) وإن أراد بقوله أقسمت بالله الخبر عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله عن قسم يأتي به فلا كفارة عليه وإن ادعى إرادة ذلك قبل منه وقال القاضي لا يقبل في الحكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه خلاف الظاهر
ولنا أن هذا حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا علم من نفسه أنه نوى شيئا أو أراده مع احتمال اللفظ إياه لم تلزمه كفارة وإن قال شهدت بالله إني آمنت بالله فليس بيمين وإن قال أعزم بالله يقصد اليمين فهو يمين وإن أطلق فظاهر كلام الخرقي أنه يمين وهو قول ابن حامد وقال أبو بكر ليس بيمين وهو قول الشافعي لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الإستعمال وظاهره غيراليمين لأنه معناه أقصد بالله لأفعلن ووجه الأول أنه يحتمل اليمين وقد اقترن به ما يدل عليه وهو جوابه بجواب القسم فيكون يمينا فأما إن نوى بقوله غير اليمين لم يكن يمينا
فصل : وإن قال أحلف بالله أو أولي أو حلفت بالله أو آليت بالله أو ألية بالله أو حلفا بالله أو قسما بالله فهو يمين سواء نوى به اليمين أو أطلق لما ذكرناه في أقسم بالله وحكمه حكمه في تفصيله لأن الإيلاء والحلف والقسم واحد قال الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } وقال سعد ين معاذ أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به وقال الشاعر
( أولي برب الراقصات إلى منى ... ومطارح الأكوار حيث تبيت )
وقال ابن دريد : ( الية باليعملات ترتمي ... بها النجاء بين أجواز الفلا )
وقال : ( بل قسما بالشم من يعرب هل ... لمقسم من بعد هذا منتهى ؟ )
فصل : وإن قال أقسمت أو آليت لأو حلفت أو شهدت لأفعلن ولم يذكر بالله فعن أحمد روايتان إحداهما : أنها يمين وسواء نوى اليمين أو أطلق وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس و النخعي و الثوري و أبي حنيفة وأصحابه
وعن أحمد أن نوى اليمين بالله كان يمينا وإلا فلا وهو قول مالك و إسحاق و ابن المنذر لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة وقال الشافعي ليس بيمين وإن نوى وروي نحو ذلك عن عطاء و الحسن و الزهري و قتادة و أبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله وصفته فلم تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت
ولنا أنه قد ثبت لها عرف الشرع والإستعمال ف [ إن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنيبما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تقسم يا أبا بكر ] رواه أبو داود [ وقال العباس للنبي صلى الله عليه و سلم أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه فبايعه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : أبررت قسم عمي ولا هجرة ] وفي كتاب الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } ـ إلى قوله ـ { اتخذوا أيمانهم جنة } فسماها يمينا وسماها رسول الله صلى الله عليه و سلم قسما وقالت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( حلفت لئن عادوا لنصطلمنهم ... لجاؤ وا ترى حجرتيها المقانب )
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل :
( فآليت ... تنفك عيني حزينة عليك و ينفك جلدي أغبرا )
وقولهم يحتمل القسم بغير الله قلنا إنما يحمل على القسم المشروع ولهذا لم يكن هذا مكروها ولو حمل على القسم بغير الله كان مكروها ولو كان مكروها لم يفعله أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم و أبر النبي صلى الله عليه و سلم قسم العباس حين أقسم عليه
فصل : وإن قال أعزم أو عزمت لم يكن قسما نوى به القسم أو لم ينو لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع و إستعمال و هو موضع للقسم و فيه دلالة عليه وكذلك لو قال استعين بالله أو أعتصم بالله أو أتوكل على الله أو علم الله أو عز الله أو تبارك الله ونحو هذا لم يكن يمينا نوى أو لم ينو لأنه ليس بموضوع للقسم لغة ولا ثبت له عرف في شرع ولا إستعمال فلم يجب به شيء كما لو قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
مسألة : قال : أو بأمانة الله
قال القاضي لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } يعني الودائع والحقوق وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وإذا كان اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته إلا بنية أو دليل صارف إليه
ولنا أن أمانة الله صفة له بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها إذا نوى ويجب حملها على ذلك عند الاطلاق لوجوه :
أحدها : أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه قسما بمخلوق والظاهر من حال المسلم خلافه
والثاني : أن القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله تعالى أعظم حرمة وقدرا
والثالث : أن ما ذكروه من الفرائض والودائع لم يعهد القسم بها ولا يستحسن ذلك لو صرح به فذلك لا يقسم بما هو عبارة عنه
الرابع : أن أمانة الله المضافة إليه هي صفته وغيرها يذكر غير مضاف إليه كما ذكر في الآيات والخبر
الخامس : أن اللفظ عام في كل أمانة الله لأن إسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة أفاد الإستغراق فيدخل فيه أمانة الله التي هي صفته فتنعقد اليمين بها موجبة للكفارة كما لو نواها
فصل : فإن قال والأمانة لافعلت ونوى الحلف بأمانة الله فهو يمين مكفرة موجبة للكفارة وإن أطلق فعلى روايتين :
إحداهما : يكون يمينا لما ذكرنا من الوجوه والثانية : لا يكون يمينا لأنه لم يضفها إلى الله تعالى فيحتمل غير ذلك قال أبو الخطاب : وكذلك إذا قال والعهد والميثاق والجبروت والعظمة والأمانات فإن نوى يمينا كان يمينا وإلا فلا وقد ذكرنا في الأمانة روايتين فيخرج في سائر ما ذكروه وجهان قياسا عليها
فصل : ويكره الحلف بالأمانة لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من حلف بالأمانة فليس منا ] رواه أبو داود وروي عن زياد بن خدير أن رجلا حلف عنده بالأمانة فجعل يبكي بكاء شديدا فقال له الرجل : هل كان هذا يكره ؟ قال نعم كان عمر ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي
فصل : ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء وقال أصحابنا الحلف برسول الله صلى الله عليه و سلم يمين موجبة للكفارة وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله صلى الله عليه و سلم فحنث فعليه الكفارة قال أصحابنا لأنه أحد شرطي الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف بإسم الله تعالى ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] ولأنه حلف بغير الله فلم يوجب الكفارة كسائر الأنبياء ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه لعدم الشبه وانتفاء المماثلة وكلام أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب
مسألة : قال : ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد فحنث فعليه كفارة واحدة
وجملته أنه إذا حلف بجيمع هذه الأشياء التي ذكرها الخرقي وما يقوم مقامها أو كرر اليمين على شيء واحد مثل أن قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا فحنث فليس عليه إلا كفارة واحدة روي نحو هذا عن ابن عمر وبه قال الحسن و عروة و إسحاق وروي أيضا عن عطاء و عكرمة و النخعي و حماد و الأوزاعي وقال أبو عبيد فيمن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته ثم حنث فعليه ثلاث كفارات وقال أصحاب الرأي عليه بكل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد والتفهيم ونحوه عن الثوري و أبي ثور وعن الشافعي قولان المذهبين وعن عمرو بن دينار أن كان في مجلس واحد كقولنا وإن كان في مجالس كقولهم واحتجوا بأن أسباب الكفارات تكررت فتكرر الكفارات كالقتل لآدمي وصيد حرمي ولأن اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه
ولنا أنه حنث واحد أوجب جنسا واحدا من الكفارات فلم يجب به أكثر من كفارة كما لو قصد التأكيد والتفهيم وقولهم أنها أسباب تكررت لا نسلمه فإن السبب الحنث وهو واحد وإن سلمنا فينتقض بما إذا تكرر الوطء في رمضان في أيام وبالحدود إذا تكررت أسبابها فإنها كفارات وبما إذا قصد التأكيد ولا يصح القياس على الصيد الحرمي لأن الكفارة بدل ولذلك تزداد بكبر الصيد وتتقدر بقدره فهي كدية القتيل ولا على كفارة قتل الآدمي لأنها أجريت مجرى البدل أيضا لحق الله تعالى لأنه لما أتلف آدميا عابدا لله تعالى ناسب أن يوجد عبدا يقوم مقامه في العبادة فلما عجز عن الإيجاب لزمه اعتاق رقبة لأن العتق إيجاد للعبد بتخليصه من رق العبودية وشغلها إلى فراغ البال للعبادة بالحرية التي حصلت بالإعتاق ثم الفرق ظاهر وهو أن السبب ههنا تكرر بكماله وشروطه وفي محل النزاع لم يوجد ذلك لأن الحنث إما أن يكون هو السبب أو جزءا منه أو شرطا له بدليل توقف الحكم على وجوده وأياما كان فلم يجز الإلحاق ثم وإن صح القياس فقياس كفارة اليمين على مثلها أولى من قياسها على القتل لبعد ما بينهما
فصل : وإذا حلف يمينا واحدة على أجناس مختلفة فقال والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع فكفارة واحدة لا أعلم فيه خلافا لأن اليمين واحدة والحنث واحد فإنه بفعل واحد من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين وإن حلف أيمانا على أجناس فقال والله لا أكلت ولا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى لا نعلم في هذا أيضا خلافا لأن الحنث في الثانية تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى فأشبه ما لو وطىء في رمضان فكفر ثم وطىء مرة أخرى فإن حنث في الجميع قبل التكفير فعليه في كل يمين كفارة وهذا ظاهر كلام الخرقي ورواه المروذي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم
وقال أبو بكر تجزئه كفارة واحدة ورواها ابن منصور عن أحمد قال القاضي وهي الصحيحة وقال أبو بكر ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله ومذهبه إن كفارة واحدة تجزئه وهو قول إسحاق لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس وإن اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء
ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر أحداهما بكفارة الأخرى ما لو كفر عن أحداهما قبل الحنث في الأخرى وكالأيمان المختلفة للكفارة وبهذا فارق الأيمان على شيء واحد فإنه متى حنث في أحداهما كان حانثا في الأخرى فإن كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة وههنا تعدد الحنث فتعددت الكفارات وفارق الحدود فإنها وجبت للزجر وتندرىء بالشبهات بخلاف مسألتنا ولأن الحدود عقوبةبدنية فالموالاة بينها ربما أفضت إلى التلف فاجتزىء بأحدها وههنا الواجب إخراج مال يسير أو صيام ثلاثة أيام فلا يلزم الضرر الكثير بالموالاة فيه و يخشى منه التلف

مسألة حكم لو حلف على شيء بيمينين مختلفي الكفارة
مسألة : قال ولو حلف على شيء بيمينين مختلفي الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها
هذا مثل الحلف بالله وبالظهار وبعتق عبده فإذا حنث فعليه كفارة يمين وكفارة ظهار ويعتق العبد لأن تداخل الأحكام إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس والكفارات ههنا أجناس وأسبابها مختلفة فلم تتداخل كحد الزنا والسرقة والقذف والشرب

مسألة حكم ما لو حلف بحق القرآن
مسألة : قال : ومن حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين
نص على هذا أحمد وهو قول ابن مسعود و الحسن وعنه أن الواجب كفارة واحدة وهو قياس المذهب و مذهب الشافعي و أبي عبيد لأن الحلف بصفات الله كلها وتكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة فالحلف بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة
ووجه الأول ما روى مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين صبر فمن شاء بر ومن شاء فجر ] رواه الأثرم ولأن ابن مسعود قال : عليه بكل آية كفارة يمين ولم نعرف مخالفا له في الصحابة فكان إجماعا قال أحمد وما أعلم شيئا يدفعه ويحتمل أن كلام أحمد : في كل آية كفارة على الاستحباب لمن قدر عليه فإنه قال عليه بكل آية كفارة فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب وكلام ابن مسعود أيضا يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله والمبالغة في تعظيمه ما ان عائشة اعتقت أربعين رقبة حين حلفت بالعهد وليس ذلك بواجب ولا يجب أثر من كفارة لقول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } وهذه يمين فتدخل في عموم الأيمان المنعقدة ولأنها يمين واحدة فلم توجب الناس كسائر الأيمان ولأن إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضي إلى المنع من البر والتقوى والإصلاح بين الناس لأن من علم أنه بحنثه تلزمه هذه الكفارات كلها ترك المحلوف عليه كائنا ما كا وقد يكون برا وتقوى وإصلاحا فتمنعه منه وقد نهى الله تعالى عنه بقوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } وإن قلنا بوجوب كفارات بعدد الآيات فلم يطق أجزأته كفارة واحدة نص عليه أحمد

مسألة وفصلان حم من حلف بنحر ولده وذبح نفسه أو أجنبي
مسألة : قال : وعن أبي عبد الله فيمن حلف بنحر ولده روايتان احداهما كفارة يمين والأخرى يذبح كبشا
اختلفت الرواية فيمن حلف بنحر ولده نحو أن يقول إن فعلت كذا فلله علي أن أذبح ولدي أو يقول ولدي نحير إن فعلت كذا أو نذر ذبح ولده مطلقا غير معلق بشرط فعن أحمد عليه كفارة يمين وهذا قياس المذهب لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج وكلاهما يوجب الكفارة وهو قول ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال لامرأة نذرت أن تذبح ابنها : لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك
والرواية الثانية : كفارته ذبح كبش ويطعمه للمساكين وهو قول أبي حنيفة وروى ذلك عن ابن عباس أيضا لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذر ذبح شاة بدليل أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده وكان أمرا بذبح شاة وشرع من قبلنا شرع لما ما لم يثبت نسخه ودليل أنه أمر بذبح شاة أن الله يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي وذبح الولد من كبائر المعاصي قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ]
وقال الشافعي ليس هذا بشيء ولا يجب به شيء لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز ولا تجب به كفارة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم ] وقوله عليه السلام : [ ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ]
ولنا قوله عليه السلام [ من نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ] ولأن النذر حكمه حكم اليمين بدليل قوله عليه السلام : [ النذر حلفه وكفارته كفارة يمين ] فيكون بمنزلة من حلف ليذبحن ولده وقولهم أن النذر لذبح الولد كناية عن ذبح كبش لا يصح لأن إبراهيم لو ان مأمورا بذبح كبش لم يكن الكبش فداء ولا كان مصدقا للرؤيا قبل ذبح الكبش وإنما أمر بذبح ابنه ابتلاء ثم فدي بالكبش وهذا أمر اختص بإبراهيم عليه السلام لا يتعداه إلى غيره لحكمة علمها الله تعالى فيه ثم لو كان إبراهيم مأمورا بذبح كبش فقد ورد شرعا بخلافه فإن نذر ذبح الابن ليس بقربة في شرعنا ولا مباح بل هو معصية فتكون كفارته ككفارة سائر نذور المعاصي
فصل : وإن نذر ذبح نفسه أو أجنبي ففيه أيضا عن أحمد روايتان وعن ابن عباس أيضا فيه روايتان نقل ابن منصور عن أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه إذا حنث يذبح شاة وكذلك إن نذر ذبح أجنبي لأنه روي عن ابن عباس في الذي قال أنا أنحر فلانا فقال عليه ذبح كبش ولأنه نذر ذبح آدمي فكان عليه ذبح كبش كنذر ذبح ابنه والثانية : عليه كفارة يمين لأنه نذر معصية فكان موجبه كفارة لما ذكرنا فيما تقدم
وروى الجوزجاني بإسناده عن الأوزاعي قال حدثني أبو عبيد قال : جاء رجل إلى ابن عمر فقال إني نذرت أن أنحر نفسي قال فتجهمه ابن عمر وأفف منه ثم أتى ابن عباس فقال له اهد مائة بدنة ثم أتى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له أرأيت لو نذرت أن لا تكلم أباك أو أخاك ؟ إنما هذه خطوة من خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه ثم رجع إلى ابن عباس فأخبره فقال : أصاب عبد الرحمن ورجع ابن عباس عن قوله والصحيح في هذا أنه نذر معصية حكمه حكم نذر سائر المعاصي لا غير
فصل : قال أحمد في امرأة نذرت نحر ولدها ولها ثلاثة أولاد تذبح عن كل واحد كبشا وتكفر يمينها وهذا على قوله أن كفارة نذر ذبح الولد ذبح كبش جعل عن كل واحد كبشا لأن لفظ الواحد إذا أضيفت اقتضى التعميم فكان عن كل واحد كبش فإن عنت بنذرها واحدا فإنما عليها كبش واحد بدليل أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ابنه الواحد فدي بكبش واحد ولم يفد غير من أمر بذبحه من أولاده وكذا ههنا وعبد المطلب لما نذر ذبح ابن من بنيه إن بلغوا عشرة لم يفد منهم إلا واحد وسواء نذرته معينا أو عنت واحدا غير معين فأما قول أحمد وتكفر يمينها فيحتمل أنه أراد أن ذبح الكبش كفارة يمينها ويحتمل أنه كان مع نذرها يمين وأما على الرواية الأخرى تجزئها كفارة يمين على ما سبق

مسألة وفصول حكم من حلف أن يعتق ما يملك أو عبده أو عبد غيره
مسألة : قال : ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده وإمائه ومكاتبيه ومدبريه وأمهات أولاده وشقص يملكه من مملوكه
معناه إذا قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر أو عتيق أو فكل ما أملك حر فإن هذا إذا حنث عتق مماليكه ولم تغن عنه كفارة روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ما به قال ابن أبي ليلى و الثوري و مالك و الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي سلمة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة و الحسن و أبي ثور تجزئه كفارة يمين لأنها ييمن فتدخل في عموم قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين }
وروي عن أبي رافع قال : قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة ثم أتيت حفصة إلى أن قال ثم أتيت ابن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته رواه الأثرم و الجوزجاني مطولا
ولنا أنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق والآية مخصوصة بالطلاق والعتق في معناه ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق على شرط فأشبه الطلاق فأما حديث أبي رافع قال أحمد قال فيه : كفري يمينك وأعتقي جاريتك وهذه زيادة يجب قبولها ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها
فصل : فأما أن قال فإن فعلت فلله علي أن أعتق عبدي أو أحرره أو نحو هذا لم يعتق بحنثه وكفر كفارة يمين على ما ذكرنا في نذر اللجاج لأن هذا لم يعلق عتق العبد إنما حلف على تعليق العتق بشرط بخلاف الذي قبله
فصل : وإذا حنث عتق عليه عبيده وإماؤه ومدبروه وأمهات أولاده ومكاتبوه والأشقاص التي يملكها من العبيد والإماء وبهذا قال أبو ثور و المزني و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه ولعله ذهب إلى أن الشقص لا يقع عليه اسم العبد وقال أبو حنيفة وصاحباه و إسحاق لا يعتق المكاتب وهو قول الشافعي لأنه خارج عن ملك سيده وتصرفه فلم يدخل في اسم مماليكه كالحر وقال الربيع سماعي من الشافعي أنه يعتق
ولنا أنه مملوكة فيعتق كالمدبر ودليل كونه مملوكة [ قوله عليه السلام : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] [ وقوله لعائشة : اشتري بريرة وأعتقيها ] وكانت مكاتبة ويصح شراء غير المملوك ولا عتقه ولأنه يصح إعتاقه بالإجماع وأحكامه أحكام العبيد ولأنه مملوك فلا بد له من مالك ولأنه يصح إعتاقه بالمباشرة فدخل في العتق بالتعليق كسائر عبيده وأما الشقص فإنه مملوك له قابل للتحرير فيدخل في عموم لفظه
فصل : : فإن قال عبد فلان حر إن دخلت الدار ثم دخلها لم يعتق العبد بغير خلاف لأنه لا يعتق بإعتاقه ناجزا فلا يعتق بالتعليق أولى : وهل تلزمه كفارة يمين ؟ فيه عن أحمد روايتان ذكرهما ابن أبي موسى إحداهما : عليه كفارة لأنه حلف بالعتق فيما لا يقع بالحنث فلزمته كفارة كما لو قال لله عليه أن أعتق فلانا
والثانية : لا كفارة عليه لأنه حلف بإخراج مال غيره فلم يلزمه شيء كما لو قال مال فلان صدقة أن دخلت الدار ولأنه تعليق للعتق على صفة فلم تجب به كفارة كسائر التعليق وأما إذا قال لله علي أن أعتق عبدا فإنه نذر فأوجب الكفارة لكون النذر كاليمين وليس كذلك ههنا فإنه إنما علق العتق على صفة فوجود الصفة أثر في جعل المعلق كالمنجز ولو نجز العتق لم يلزمه شيء فكذلك ههنا
فصل : فإن قال أن فعلت كذا فمال فلان صدقة أو فعلى فلان حجة أو فمال فلان حرام عليه أو هو بريء من الإسلام وأشباه هذا فليس ذلك بيمين ولا تجب به كفارة ولا نعلم بين أهل العلم فيه خلافا لأنه لم يرد الشرع فيه بكفارة ولا هو في معنى ما ورد الشرع به

مسألة وفصول هل الكفارة قبل الحنث أو بعده
مسألة : قال : ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث وبعده وسواء كانت الكفارة صوما أو غيره إلا في الظهار والحرام فعليه الكفارة قبل الحنث
الظهار والحرام شيء واحد وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين ولا خلاف بين العلماء فيما علمنا في وجوب تقديم كفارته على الوطء والأصل فيه قول الله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } فأما كفارة سائر الأيمان فإنها تجوز قبل الحنث وبعده صوما كانت أو غيره في قول أكثر أهل العلم وبه قال مالك وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم وبه قال الحسن و ابن سيرين و ربيعة و الأوزاعي و الثوري و ابن المبارك و إسحاق و أبو عبيد و أبو خثيمة و سليمان بن داود وقال أصحاب الرأي لا تجزىء الكفارة قبل الحنث لأنه تكفير قبل وجود سببه فأشبه ما لو كفر قبل اليمين ودليل ذلك أن سبب التكفير الحنث إذ هو هتك الإسم المعظم المحترم ولم يوجد وقال الشافعي كقولنا في الإعتاق والإطعام والكسوة وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية فلم يجز فعله قبل وجوبه لغير مشقة كالصلاة
ولنا روى عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ] رواه أبو داود وفي لفظ : [ وائت الذي هو خير ] راوه البخاري و الأثرم وروى أبو هريرة وأبو الدرداء وعدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو ذلك ورواه الأثرم وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إني إن شاء لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ـ أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] رواه البخاري ولأنه كفر بعد وجود السبب فأجزأ كما لو كفر بعد الجرح وقبل الزهوق والسبب بدليل قوله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم } وقوله سبحانه : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وكفرت عن يميني ـ وكفر يمينك ] وتسمية الكفارة كفارة اليمين وبهذا ينفصل عما ذكروه فإن الحنث شرط وليس بسبب وتعجيل حق المال بعد وجود سببه وقبل وجود شرطه جائز بدليل تعجيل الزكاة بعد وجود النصاب قبل الحلول وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الزهوق قال ابن عبد البر العجب من أصحاب أبي حنيفة أجازوا تقديم الزكاة من غير أن يرووا فيها مثل هذه الآثار الواردة في تقديم الكفارة ويأبون تقديم الكفارة مع كثرة الرواية الواردة فيها والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها فأما أصحاب الشافعي فهم محجوبون بالأحاديث مع أنهم قد احتجوا بها في البعض وخالفوها في البعض وفرقوا بين ما جمع بينه النص ولأن الصيام نوع تكفير فجاز قبل الحنث كالتكفير بالمال وقياس الكفارة على الكفارة أولى من قياسها على الصلاة المفروضة بأصل الوضع
فصل : فأما التكفير قبل اليمين فلا يجوز عند أحد من العلماء لأنه تقديم للحكم قبل سببه فلم يجز كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب وكفارة القتل قبل الجرح
فصل : والتكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة وقال ابن أبي موسى : بعده أفضل عند أحمد وهو قول الشافعي و مالك و الثوري لما فيه من الخروج من الخلاف وحصول اليقين ببراءة الذمة
ولنا أن الأحاديث الواردة فيه فيها التقديم مرة والتأخير أخرى وهذا دليل التسوية ولأنه تعجيل مال يجوز تعجيله قبل وجوبه فلم يكن التأخير أفضل كتعجيل الزكاة وكفارة القتل وما ذكروه معارض بتعجيل النفع للفقراء والتبرع بما لم يجب عليه وعلى أن الخلاف المخالف للنصوص لا يوجب تفضيل المجمع عليه كترك الجمع بين الصلاتين
فصل : وإن كان الحنث في اليمين محظورا فعجل الكفارة قبله ففيه وجهان :
أحدهما : تجزئه لأنه عجل الكفارة بعد سببها فأجزأته كما لو كان الحنث مباحا
والثاني : لا تجزئه لأن التعجيل رخصة فلا يستباح بالمعصية كالقصر في سفر المعصية والحديث لم يتناول المعصية فإنه قال : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر وهذا لم ير غيرها خيرا منها ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كما ذكرنا

مسألة وفصول حكم ما لو حلف واستثنى
مسألة : قال : وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى فإن شاء فعل وإن شاء ترك ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام
وجملة ذلك أن الحالف إذا قال إن شاء الله مع يمينه فهذا يسمى استثناء فإن ابن عمر روى عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : [ من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ] رواه أبو داود وأجمع العلماء على تسمية استثناء وأنه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] رواه الترمذي
وروى أبو داود : [ من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك ] ولأنه وما قال لأفعلن إن شاء الله فقد علمنا أنه متى شاء الله فعل ومتى لم يفعل لم يشأ الله ذلك فإن ما شاء الله كان ومتى لم يشأ لم يكن إذا ثبت هذا فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلا باليمين بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتا يمكنه الكلام فيه فأما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته أو عي أو عارض من عطشه أو شيء غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه وبهذا قال مالك و الشافعي و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي و إسحاق لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من حلف فاستثنى ] وهذا يقتضي كونه عقيبه ولأن الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به كالشرط وجوابه وخبر المبتدأ والاستثناء بالا ولأن الحالف إذا سكت ثبت الحكم يمينه وانعقدت موجبة لحكمها وبعد ثبوته لا يمكن دفعه ولا تغييره قال أحمد حديث النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن سمرة : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ] ولم يقل فاستثن ولو جاز الاستثناء في كل حال لم يحنث حانث به
وعن احمد رواية أخرى أنه يجوز الاستثناء إذا لم يطل الفصل بينهما قال في رواية المروذي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لأغزون قريشا ـ ثم سكت ثم قال ـ إن شاء الله ] إنما هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره
ونقل عنه إسماعيل بن سعيد مثل هذا وزاد قال ولا أقول فيه بقول هؤلاء من لم يرد ذلك إلامتصلا ويحتمل كلام الخرقي هذا لأنه قال إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام ولم يشترط اتصال الكلام وعدم السكوت وهذا قول الأوزاعي قال في رجل حلف لا أفعل كذا وكذا ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فقال له إنسان قل إن شاء الله فقال إن شاء الله أيكفر يمينه ؟ فال أراه قد استثنى وقال قتاة له أن يستثني قبل أن يقوم أو يتكلم ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم استثنى بعد سكوته إذ قال : [ والله لأغزون قريشا ـ ثم سكت ثم قال ـ إن شاء الله ] واحتج به أحمد ورواه أبو داود وزاد قال الوليد بن مسلم ثم لم يغزهم ويشترط على هذه الرواية أن لا يطيل الفصل بينهما ولا يتكلم بينهما بكلام أجنبي
وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه قال يصح الاستثناء ما دام في المجلس وحكي ذلك عن الحسن و عطاء وعن عطاء أنه قال قدر حلب الناقة العزوزة وعن ابن عباس أنه له أن يستثني بعد حين وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح لما ذكرناه وتقديره بمجلس أو غيره لا يصح لأن التقديرات بابها التوقيف فلا يصار إليها بالتحكم
فصل : ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم الحسن و النخعي و مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو حنيفة و ابن المنذر ولا نعلم لهم خالفا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف فقال إن شاء الله ] والقول هو النطق ولأن اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك الاستثناء وقد روي عن أحمد إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه رجوت أن يجوز إذا خاف على نفسه فهذا في حق الخائف على نفسه لأن يمينه غير منعقد أو لأنه بمنزلة المتأول وأما في حق غيره فلا
فصل : واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء فلو أراد الجزم فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد أو كانت عادته جارية بالاستثناء فجرى لسانه على العادة من غير قصد لم يصح لأن اليمين لما لم ينعقد من غير قصد فكذلك الاستثناء وهذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم أنه لا يصح الاستثناء حتى يقصده مع ابتداء يمينه فلو حلف غير قاصد للاستثناء ثم عرض له بعد فراغه من اليمين فاستثنى لم ينفعه ولا يصح لأن هذا يخالف عموم الخبر فإنه قال : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] ولأن لفظ الاستثناء يكون عقيب يمينه فكذلك نيته
فصل : يصح الاستثناء في كل يمين مكفرة كاليمين بالله والظهار والنذر وقال ابن أبي موسى : من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه لأنها أيمان مكفرة فدخلها الاستثناء كاليمين بالله تعالى فلو قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أو لله علي أن أتصدق بمائة درهم إن شاء الله لم يلزمه شيء لأنها أيمان فتدخل في عموم قوله [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ]
فصل : وإن قال : والله لأشربن اليوم إلا أن يشاء الله أو لا أشرب إلا أن يشاء الله لم يحنث بالشرب ولا بتركه لما ذكرنا في الإثبات ولا فرق بين تقديم الاستثناء وتأخيره في هذا كله فماذا قال والله إن شاء الله لا أشرب اليوم أو لأشربن ففعل أو ترك لم يحنث لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء قال الله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد }
فصل : وإن قال والله لأشربن اليوم إن شاء زيد فشاء زيد لزمه الشرب فإن تركه حتى مضى اليوم حنث وإن لم يشأ زيد لم يلزمه يمين فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت انحلت اليمين لأنه لم يوجد الشرط وإن قال والله لا أشرب إلا أن يشاء زيد فقد منع نفسه الشرب إلا أن توجد مشيئة زيد فإن شاء فله الشرب وإن لم يشأ لم يشرب وإن خفيت مشيئته لغيبه أو موت أو جنون لم يشرب وإن شرب حنث لأنه منع نفسه إلا أن توجد المشيئة فلم يكن له أن يشرب قبل وجودها وإن قال والله لأشربن إلا أن يشاء زيد فقد ألزم نفسه الشرب إلا أن يشاء زيد أن لا يشرب لأن الاستثاناء ضد المستثنى منه والمستثنى إيجاب لشربه بيمينه فإن شرب قبل مشيئة زيد بر وإن قال زيد قد شئت أن لا يشرب انحلت اليمين لأنها معلقة بعدم مشيئته لترك الشرب ولم تتقدم فلم يوجد شرطها وإن قال قد شئت أن يشرب أو ما شئت أن لا يشرب لم تنحل اليمين لأن هذه المشئية غير المستثناة فإن خفيت مشيئته لزمه الشرب لأنه علق وجوب الشرب بعدم المشيئة وهي معدومة بحكم الأصل وإن قال والله لا أشرب اليوم إن شاء زيد فقال زيد قد شئت أن لا تشرب فشرب حنث وإن شرب قبل مشئيته لم يحنث لأن الامتناع من الشرب معلق بمشيئته ولم تثبت مشيئته فلم يثبت الامتناع بخلاف التي قبلها وإن خفيت مشيئته فهي في حكم المعدومة والمشيئة في هذه المواضع أن يقول بلسانه
مسألة : قال : وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله رحمه الله أنه توقف عن الجواب وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء
يعني إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله أولعبده أنت حر إن شاء الله فقد توقف أحمد في الجواب لاختلاف الناس فيها وتعارض الأدلة وفي موضع قطع أنه لا ينفعه الاستثناء فيهما ال في رواية إسحاق بن منصور و حنبل من حلف فال إن شاء الله لم يحنث وليس له استثناء في الطلاق والعتاق قال حنبل لأنهما ليسا من الإيمان وبه قال مالك و الأوزاعي و الحسن و قتادة وقال طاوس و حماد و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز الاستثناء فيهما لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] ولأنه علق الطلاق والعتاق بشرط لم يتحقق وجوده فلم يقعا كما لو علقه بمشيئة زيد ولم تتحقق مشيئته
ولنا أنه أوقع الطلاق والعتاق في محل قابل فوقع كما لو لم يستثن والحديث إنما تناول الأيمان وليس هذا بيمين إنما هو تعليق على شرط قال ابن عبد البر إنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله تعالى وقول المتقدمين الأيمان بالطلاق والعتاق إنما جاز على التقريب والاتساع ولا يمين في الحقيقة إلا بالله وهذا طلاق وعتاق وقد ذكرنا هذه المسألة في الطلاق بأبسط من هذا
مسألة : قال : وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لم تطلق إن تزوج بها وإن قال إذا ملكت فلانا فهو حر فملكه صار حرا
اختلفت الرواية عن أحمد في هاتين المسألتين فعنه لا يقع طلاق ولا عتق روي هذا عن ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و عروة وجابر بن زيد و سوار والقاضي و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ورواه الترمذي عن علي وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وشريح وغير واحد من فقهاء التابعين قال وهو قول أكثر أهل العلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن أدم فيما لا يملك ] قال الترمذي وهذا حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها ] رواه الدار قطني وروى أبو بكر في الشافي عن الخلال عن الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طلاق قبل نكاح ] قال أحمد هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم وعدة من الصحابة ولأن من لا يقع طلاقه وعتقه بالمباشرة لم تنعقد له صفة كالمجنون ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا والرواية الثانية : عن احمد أنه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق قال في رواية أبي طالب إذا قال إن اشتريت هذا الغلام فهو حر فاشتراه عتق وأن قال أن تزوجت فلانة فهي طالق فهذا غير الطلاق هذا حق لله تعالى والطلاق يمين ليس هو لله تعالى ولا فيه قربة إلى الله تعالى قال أبو بكر في كتاب الشافي لا يختلف قول أبي عبد الله أن الطلاق إذا وقع قبل النكاح لا يقع وإن العتاق يقع إلا ما روى محمد بن الحسن بن هارون في العتق أنه لا يقع وما أراه إلا غلطا كذلك سمعت الخلال يقول فإن كان حفظ فهو قول آخر والفرق بينهما إن ناذر الطلاق لا يلزمه الوفاء به فكما افترقا في النذر جاز أن يفترقا في اليمين ولأنه لو قال لأمته : أول ولد تلدينه فهو حر لإنه يصح وهو تعليق للحرية على الملك
وعن أحمد رحمه الله ما يدل على وقوع الطلاق والعتق وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه يصح تعليقه على الأخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية والنذر واليمين وقال مالك : إن خص جنسا من الأجناس أو عبدا بعينه عتق إذا ملكه وإن قال : كل عبد أملكه فهو حر لم يصح والأول أصح إن شاء الله تعالى لأنه تعليق للطلاق والعتاق قبل الملك فأشبه ما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق أو لأمة غيره إن دخلت الدار فأنت حرة ثم تزوج الأجنبية وملك الأمة ودخلتا الدار فإن الطلاق لا يقع ولا تعتق الأمة بغير خلاف نعلمه

مسألتان وفصول حكم ما لو حلف أن لا يفعل شيئا وفعله أو أن يفعل شيئا ولم يفعله
مسألة : قال : ولو حلف أن لا ينكح فلانة أو لا اشتريت فلانة فنكحها نكاحا فاسدا أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث
وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : إذا قال لعبده إن زوجتك أو بعتك فأنت حر فزوجه تزويجا فاسدا لم يعتق وإن باعه بيعا فاسدا يملك به حنث لأن البيع الفاسد عنده يثبت به الملك إذا اتصل به القبض ولنا أن اسم البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل أن قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } وأكثر ألفاظه في البيع إنما ينصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح وكالصلاة وغيرها وما ذكروه من ثبوت الملك به لا نسلمه
وقال ابن أبي موسى لا يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد ؟ على روايتين وقال أبو الخطاب إن نكحها نكاحا مختلفا فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع في وقت النداء فعلى وجهين وقال ابن أبي موسى إن تزوجها تزويجا مختلفا فيه أو ملك ملكا مختلفا فيه حنث فيهما جميعا ولنا أنه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما كالمتفق على فسادهما
فصل : والماضي والمستقبل سواء في هذا وقال محمد بن الحسن ما صليت ولا تزوجت ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لأن الماضي لا يقصد منه إلا الاسم والإسم يتناوله والمستقبل بخلافه فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة
ولنا أن ما لا يتناوله الإسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي كالإيجاب وكغير المسمى وما ذكروه ولا يصح لأن الإسم لا يتناول إلا الشرعي ولا يحصل
فصل : : وإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار حنث وقال أبو حنيفة : لا يحنث لأن الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد
ولنا أنه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم وما ذكروه لا يصح فإن بيع الخيار يثبت ذلك به بعد انقضاء الخيار بالإتفاق وهو سبب له ولا نسلم أن الملك لا يثبت في مدة الخيار
فصل : وإن حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المتزوج والمشتري لم يحنث وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول فلم يقع الإسم على الإيجاب بدونه فلم يحنث به وإن حلف لا يهب ولا يعير فأوجب ذلك ولم يقبل الآخر فقال القاضي يحنث وهو قول أبي حنيفة و ابن سريج لأن الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما الإيجاب والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من السبب فيحنث بمجرد الإيجاب فيهما كالوصية
وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الإيجاب لأنه عقد لا يتم إلا بالقبول فلم يحنث فيه بمجرد الإيجاب كالنكاح والبيع فأما الوصية والهدية والصدقة فقال أبو الخطاب يحنث فيها بمجرد الإيجاب ولا أعلم قول الشافعي فيها إلا أن الظاهر أنه لا يخالف في الوصية والهدية لأن الإسم يقع عليهما بدون القبول ولهذا لما قال الله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } إنما أراد الإيجاب دون القبول ولأن الوصية صحيحة قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ
فصل : وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الإيجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يحصل به المسمى الشعري فتناولته يمينه وإن حلف ليتزوجن بر بذلك سواء كانت له امرأة أو لم يكن وسواء تزوج نظيرتها أو دونها أو أعلى منها إلا أن يحتال على حل يمينه بتزويج لا يحصل مقصودها مثل أن يواطىء امرأته على نكاح لا يغيطها به ليبر في يمينه فلا يبر بهذا وقال أصحابنا : إذا حلف ليتزوجن على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لأنه قصد غيظ زوجته ولا يحصل إلا بذلك
ولنا أنه تزوج تزويجا صحيحا فبر به كما لو تزوج نظيرتها ودخل بها وقولهم أن الغيظ لا يحصل إلا بتزويج نظيرتها والدخول غير مسلم فإن الغيظ يحصل بمجرد الخطبة وإن حصل بما ذكروه زيادة في الغيظ فلا تلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته يمينه كما أنه يلزمه نكاح اثنتين ولا ثلاث ولا أعلى من نظيرتها والذي تناولته يمينه مجرد التزويج ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأته حنث بهذا فكذلك يحصل البر به لأن المسمى واحد فما تناوله النفي تناوله في الإثبات وإنما لا يبر إذا تزوج تزويجا لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لأن مبنى الأيمان على المقاصد والنيات ولم يحصل مقصوده ولأن التزويج ههنا يحصل حيلة على التخلص من يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه حيلته وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن على امرأته فتزوج بعجوز أو زنجية لا يبر لأنه أراد أن يغمها ويغيرها وبهذا لا تغار ولا تغتم فعلله أحمد بما لا يغيظ بها والزوجة ولم يعتبر أن تكون نظيرتها لأن الغيظ لا يتوقف على ذلك ولو قدر أن تزوج العجوز يغيظها والزنجية لبر به وإنما ذكره أحمد لأن الغالب أنه لا يغيظها لأنها تعلم أنه إنما فعل ذلك حيلة لئلا يغيظها ويبر به
فصل : إذا حلف لا تسريب فوطىء جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن الناس لأن التسري مأخوذ من السر ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه كهذه
ولنا أن التسري مأخوذ من السر وهو الوطء لأنه يكون في السر قال الله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سرا } وقال الشاعر :
( فلن تتطلبوا سرها للغنى ... ولن تسلموها لازهادها )
وقال آخر :
( إلا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وإن لا يحسن السر أمثالي )
ولأن كل حكم تعلق بالوطء لم يعتبر فيه الإنزال ولا التحصين كسائر الأحكام
فصل : إذا حلف لا يهب له فأهدى إليه أو أعمره حنث لأن ذلك من أنواع الهبة وإن أعطاه من الصدقة الواجبة أو نذر أو كفارة لم يحنث لأن ذلك حق لله تعالى عليه يجب اخراجه فليس هو بهبة منه وإن تصدق عليه تطوعا فقال القاضي يحنث وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يحنث وهو قول اصحاب الرأي لأنهما يختلفان اسما وحكما بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ هو عليها صدقة ولنا هدية ] وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له وكان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة ومع هذا الاختلاف لا يحنث في إحداهما بفعل الآخر
ووجه الأول أنه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية ولأن الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم قيل وهب درهما وتبرع بدرهم واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فيختص بإسم دونها كاختصاص الهدية والعمري باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الأحكام فإنه قد يثبت للنوع ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان فإن وصى له لم يحنث لأن الهبة تمليك في الحياة والوصية إنما تملك بالقبول بعد الموت فإن أعاره لم يحنث لأن الهبة تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين ولأن المستعير لا يملك المنفعة وإنما يستبيحها ولهذا يملك المعير الرجوع فيها ولا يملك المستعير إجارتها ولا إعارتها هذا قول القاضي ومذهب الشافعي وقال أبو الخطاب يحنث لأن العارية هبة المنفعة والأول أصح وإن أضافه لم يحنث لأنه لم يملكه شيئا وإنما أباحه ولهذا لا يملك التصرف بغير الأكل وإن باعه وحاباه لم يحنث لأنه معاوضة يملك الشفيع أخذ جميع المبيع ولو كان هبة أو بعضه هبة لم يملك أخذه كله
وقال أبو الخطاب يحنث في أحد الوجهين لأنه يترك له بعض المبيع بغير ثمن أو وهبه بعض الثمن وإن وقف عليه فقال أبو الخطاب يحنث لأنه تبرع له بعين في الحياة ويحتمل أن لا يحنث لأن الوقف لا يملك في رواية وإن حلف لا يتصدق عليه فوهب له لم يحنث لأن الصدقة نوع من الهبة ولا يحنث الحالف على نوع بفعل نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي صلى الله عليه و سلم ولم تحرم الهبة ولا الهدية وإن حلف لا يهب له شيئا فاسط عنه دينا لم يحنث إلا أن ينوي لأن الهبة تمليك عين وليس له إلا دين في ذمته
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يشتري فلانا أو لا يضربه فوكل في الشراء والضرب حنث
وجملته أن من حلف لا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه ونحو هذا قول مالك و أبي ثور وقال الشافعي لا يحنث إلا أن ينوي بيمينه أن لا يستنيب في فعله أو يكون ممن لم تجر عادته بمباشرته لأن إطلاق إضافة الفعل يقتضي مباشرته بدليل أنه لو وكله في البيع لم يجز للوكيل توكيل غيره وإن حلف لا يبيع ولا يضرب فأمر من فعله فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث وإن كان ممن لا يتولاه كالسلطان ففيه قولان وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه فقيل فيه قولان وقيل يحنث قولا واحدا وقال أصحاب الرأي إن حلف لا يبيع فوكل من باع لم يحنث وإن حلف لا يضرب ولا يتزوج فوكل من فعله حنث
ولنا أن الفعل يطلق على من وكل فيه وأمر به فيحنث به كما لو كان ممن لا يتولاه بنفسه وكما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه أو لا يضرب فوكل من ضرب عند أبي حنيفة وقد قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقال : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } وكان هذا متناولا للاستنابة فيه ولأن المحلوف عليه وجد من نائبه فحنث به كما لو حلف لا يدخل دارا فأمر من حمله إليها وقولهم إن اضافة الفعل إليه تقتضي المباشرة نمنعه ولا نسلم إنه إذا وكل في فعل يمتنع على الوكيل التوكيل فيه ولئن سلمنا فلأن التوكيل يقصد به الأمانة والحذق والناس يختلفون فيهما فإذا عين واحدا لم تجز مخالفة تعيينه بخلاف اليمين فأما أن نوى بيمينه المباشرة للمحلوف عليه أو كان سبب يمينه يقتضيها أو قرينة حاله تخصص بها لأن إطلاقه يقيد بنيته أو بما دل عليها فأشبه ما لو صرح به بلفظه وإن حلف ليشترين أو ليبيعن أو ليضربن فوكل من فعل ذلك بر لما ذكرنا في طرف النفي وذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله المحلقين ] تناول من حلق رأسه بأمره
فصل : وإن حلف ليطلقن زوجته أو لا يطلقها فوكل من طلقها أو قال لها طلقي نفسك فطلقتها أو قال لها اختاري أوامرك بيدك فطلقت نفسها بر وحنث والخلاف فيه على ما تقدم وإن قال أنت طالق إن شئت أو أن قمت فشاءت او قامت حنث بغير خلاف لأن الطلاق منه وإنما حققت شرطه
فصل : فإن حلف لا يضرب امرأته فلطمها أو لكمها أو ضربها بعصا أو غيرها حنث بغير خلاف وإن عضها أو خنقها أو جز شعرها هاجزا يؤلمها قاصدا للاضرار بها حنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يحنث لأن ذلك لا يسمى ضربا فلا يحنث به كما لو شتمها شتما آلمها وقد نقل عن أحمد ما يدل على هذا فإن مهنا نقل عنه فيمن قال لامرأته : إن لم أضربك اليوم فأنت طالق فعضها أو قرصها أو أمسك شعرها فهو على ما نوى من ذلك قال القاضي فظاهر هذا أنه لم يدخله في إطلاق إسم الضرب
ولنا أن هذا في العرف يستعمل لكف الأذى المؤلم للجسم فيدخل فيه كل ما اختلفنا فيه ولهذا يقال تضاربا إذا فعل كل واحد منهما هذا بصاحبه وإن لم يكن معهما آلة وفارق الشتم فإنه لا يؤلم الجسم وإنما يؤلم القلب
مسألة : قال : ومن حلف بعتق أو طلاق أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث
وبهذا قال مجاهد و سعيد بن جبير و الزهري و قتادة و ربيعة و مالك و أبو عبيد وأصحاب الرأي وهو المشهور عن الشافعي وقال عطاء وعمرو بن دينار وابن أبي نجيح و إسحاق و ابن المنذر لا يحنث وهو رواية عن أحمد لأن الناسي لا يكلف حال نسيانه فلا يلزمه الحنث كالحلف بالله تعالى

مسألة فيمن حلف فتأول في يمينه
مسألة : قال : وإذا حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما وإن كان ظالما لم ينفعه تأويله لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يمينك على ما يصدقك به صاحبك ]
معنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أنه أخي يقصد أخوة الإسلام أو المشابهة أو يعني بالسقف والبناء السماء وبالبساط والفراش الأرض وبالأوتاد الجبال وباللباس الليل أو يقول ما رأيت فلانا يعني ما ضربت رئته ولا ذكرته يريد ما قطعت ذكره أو يقول جواري أحرار يعني سفنه ونسائي طوالق يعني نساء الأقارب منه أو يقول ما كاتبت فلانا ولا عرفته ولا أعلمته ولا سألته حاجة ولا أكلت له دجاجة ولا فروجة ولا شربت له ماء ولا في بيتي فرش ولا حصير ولا بارية وينوي بالمكاتبة مكاتبة الرقيق وبالتعريف جعله عريفا وبالإعلام جعله أعلم الشفة والحاجة شجرة صغيرة والدجاجة الكنة من الغزل والفروجة الدراعة والفرش صغار الإبل والحصير والحبس والبارية السكين التي يبرى بها أو يقول ما لفلان عندي وديعة ولا شيء يعني بما الذي أو يقول ما فلان ههنا ويعني موضعا بعينه أو يقول والله ما أكلت من هذا شيئا ولا أخذت منه يعني الباقي بعد أخذه وأكله فهذا وأشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف الظاهر ولا يخلو حال الحلف المتأول من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون مظلوما مثل من يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره أو نال مسلما منه ضرر فهذا له تأويله قال مهنا سألت أحمد عن رجل له امرأتان اسم كل واحدة منهما فاطمة فماتت واحدة منهما فحلف بطلاق فاطمة ونوى التي ماتت قال إن كان المستحلف له ظالما فالنية نية صاحب الطلاق وإن كان المطلق الظالم فالنية نية الذي استحلف [ وقد روى أبو دواد بإسناده عن سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فخلى سبيله فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : أنت أبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم وقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ] يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غير ما عناه قال محمد بن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف يعني لا يحتاج أن يكذب لكثرة المعاريض وخص الظريف بذلك يعني به الكيس الفطن فإنه يفطن للتأويل فلا حاجة به إلى الكذب
الحال الثاني : أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكن على حق عنده فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يمينك على ما يصدقك به صاحبك ] رواه مسلم و أبو داود وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اليمين على نية المستحلف ] رواه مسلم وقالت عائشة على ما وقع للمحلوف له ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق ولا نعلم في هذا خلافا قال إبراهيم في رجل استحلفه السلطان بالطلاق على شيء فورى في يمينه إلى شيء آخر أجزأ عنه وإن كان ظالما لم تجزىء عنه التورية
الحال الثالث : لم يكن ظالما و لا مظلوما فظاهر كلام أحمد أن له تأويله فروي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه فوضع مهنا أصبعه في كفه وقال ليس المروذي ههنا وما يصنع المروذي ههنا ؟ يريد ليس هو في كفه ولم ينكر ذلك أبو عبد الله [ وروى أن مهنا قال له إني أريد الخروج يعني السفر إلى بلده واحب أن تسمعني الجزء الفلاني فأسمعه إياه ثم رآه بعد ذلك فقال ألم تقل أنك تريد الخروج ؟ فقال له مهنا قلت لك إني أريد الخروج الآن ؟ فلم ينكر عليه وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم في هذا خلافا روى سعيد عن جرير عن المغيرة قال كان إذا طلب إنسان إبراهيم ولم يرد إبراهيم أن يلقاه خرجت إليه الخادم وقالت اطلبوه في المسجد وقال له رجل إني ذكرت رجلا بشيء فكيف لي أن أعتذر إليه ؟ قال قل له والله إن الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يمزح ولا يقول إلا حقا ومزاحه إن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه وهو التأويل وقال لعجوز : لا تدخل الجنة عجوز يعني أن الله ينشئهن أبكارا عربا أترابا ] وقال أنس [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله احملني فقال رسول الله : إنا حاملوك على ولد الناقة قال وما أصنع بولد الناقة ؟ قال : وهل تلد الإبل إلا النوق ] رواه أبو داود [ وقال لامرأة وقد ذكرت له زوجها : أهو الذي في عينه بياض فقالت يا رسول الله أنه لصحيح العين وأراد النبي صلى الله عليه و سلم البياض الذي حول الحدق ] [ وقال لرجل احتضنه من ورائه : من يشتري هذا العبد ؟ فقال يا رسول الله تجدني إذا كاسدا قال : لكنك عند الله لست بكاسد ] [ وهذا كله من التأويل والمعاريض وقد سماه النبي صلى الله عليه و سلم حقا فقال : لا أقول إلا حقا ] وروي عن شريح أنه خرج من عند زياد وقد حضره الموت فقيل له كيف تركت الأمير ؟ قال تركته يأمر وينهى فلما مات قيل له كيف قلت ذلك قال ؟ تركته يأمر بالصبر وينهى عن البكاء والجزع ويروى عن شقيق أن رجلا خطب امرأة وتحته أخرى فقالوا لأزوجك حتى تطلق امرأتك فقال أشهدوا إني قد طلقت ثلاثا فزوجوه فأقام على امرأته فقالوا قد طلقت ثلاثا قال ألم تعلموا أنه كان لي ثلاث نسوة فطلقتهن ؟ قالوا بلى قال قد طلقت ثلاثا فقالوا ما هذا أردنا فذكر ذلك شقيق لعثمان فجعلها نيته وروي عن الشعبي أنه كان في مجلس فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به والثناء عليه فقال الشعبي أن له بيتا وشرفا فقيل لـ لشعبي بعد ما ذهب الرجل تعرفه ؟ قال لا ولكنه نظر إلي فيل فكيف اثنيت عليه ؟ قال : شرفه أذناه وبيته الذي يسكنه وروي أن رجلا أخذ على شراب فقيل له من أنت ؟ فقال :
( أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود )
( ترى الناس أفواجا على باب داره ... فمنهم قيام حولها وقعود )
فظنوه شريفا فخلوا سبيله فسألوا عنه فإذا هو ابن الباقلاني وأخذ الخوارج رافضيا فقالوا له تبرأ من عثمان وعلي فقال أنا من علي ومن عثمان بريء فهذا وشبهه هو التأويل الذي لا يعذر به الظالم ويسوغ لغيره مظلوما كان أو غير مظلوم لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول ذلك في المزاح من غير حاجة به إليه

فصل في المستحيل والحلف عليه
فصل : والمستحيل نوعان أحدهما : مستحيل عادة كصعود السماء والطيران وقطع المسافة البعيدة في مدة قليلة فإذا حلف على فعله انعقدت يمينه ذكره القاضي وأبو الخطاب لأنه يتصور وجوده فإذا حلف عليه انعقدت يمينه ولزمته الكفارة في الحال لأنه مأيوس من البر فيها فوجبت الكفارة كما لو حلف ليطلقن امرأته فماتت
والثاني : المستحيل عقلا كرد أمس وشرب الماء في الكوز ولا ماء فيه فقال أبو الخطاب لا تنعقد يمينه ولا تجب بها كفارة وهو مذهب مالك لأنها يمين قارنها ما يحلها فلم تنعقد كيمين الغموس أو يمين على غير متصور فأشبهت يمين الغموس وهذا لأن اليمين إنما تنعقد على متصور أو متوهم التصور وليس ههنا واحد منهما
وقال القاضي تنعقد موجبة للكفارة في الحال وهذا قول أبي يوسف و الشافعي لأنه حلف على نفسه في المستقبل ولم يفعل كما لو حلف ليطلقن امرأته فماتت قبل طلاقها وبالقياس على المستحيل عادة ولا فرق بين أن يعلم استحالته أو لا يعلم مثل أن يحلف ليشربن الماء في الكوز ولا ماء فيه فالحكم واحد فيمن علم أنه لا ماء فيه ومن لا يعلم وإن حلف ليقتلن فلانا وهو ميت فهو كالمستحيل عادة لأنه يتصور أن يحييه الله فيقتله وتنعقد يمينه على قول أصحابنا وإن حلف لأقتلن الميت يعني في حال موته فهو مستحيل عقلا فيكون فيه من الخلاف ما قد ذكرناه

فصل حكم من حلف ليفعلن فلان كذا أو لا يفعل
فإن قال والله ليفعلن فلان كذا أو لا يفعل أو حلف على حاضر فقال والله لتفعلن كذا فأحنثه ولم يفعل فالكفارة على الحالف كذلك قال ابن عمر وأهل المدينة و عطاء و قتادة و الأوزاعي وأهل العراق و الشافعي لأن الحالف هو الحانث فكانت الكفارة عليه كما لو كان هو الفاعل لما يحنثه ولأن سبب الكفارة إما اليمين وإما الحنث أو هما وأي ذلك قدر فهو موجود في الحالف وإن قال أسأل بالله لتفعلن وأراد اليمين فهي كالتي قبلها وإن أراد الشفاعة إليه بالله فليس بيمين ولا كفارة على واحد منهما وإن قال بالله لتفعلن فهي يمين لأنه أجاب بجواب القسم إلا أن ينوي ما يصرفها وإن قال بالله أفعل فليست يمينا لأنه لم يجبها بجواب القسم ولذلك لا يصلح أن يقول والله لأفعل ولا بالله أفعل وإنما صلح ذلك في التاء لأنها لا تختص بالقسم فيدل على أنه سؤال فلا تجب به كفارة

فصل أمر النبي بإبرار المقسم
[ وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم وسلم أمر بإبرار المقسم ] رواه البخاري وهذا والله أعلم على سبيل الندب لا على سبيل الإيجاب بدليل [ أن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتخبرني بما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تقسم يا أبا بكر ] ولم يخبره ولو وجب عليه أبراره لأخبره ويحتمل أن يجب عليه أبراره إذا لم يكن فيه ضرر ويكون امتناع النبي صلى الله عليه و سلم من إبرار أبي بكر لما علم من الضرر فيه وإن أجابه إلى صورة ما أقسم عليه دون معناه تعذر المعنى فحسن فإنه [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن العباس جاءه برجل ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا هجرة بعد الفتح وقال العباس أقسمت عليك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتبايعنه فوضع النبي صلى الله عليه و سلم يده في يده وقال : أبررت قسم عمي ولا هجرة ] وأجابه إلى صورة المبايعة دون ما قصد بيمينه

فصل يستحب إجابة من سأل بالله
ويسحتب إجابة من سأل بالله لما [ روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من استعاذ بالله فأعيذه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ]
وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله أما الذين يحبهم الله فرجل سأل قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فتخلف رجل باعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله عز و جل والذي أعطاه وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فاقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له والثلاثة الذين يبغضهم الله الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم ] رواهما النسائي

فصل حكم من لم يحلف وقال حلفت
فصل : إذا قال حلفت ولم يكن حلف فقال أحمد هي كذبة ليس عليه يمين وعنه عليه الكفارة لأنه أقر على نفسه والأول هو المذهب لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا كذب في الخبر به لم يلزمه حكمه كما لو قال ما صليت وقد صلى ولو قال علي يمين ونوى الخبر فهي كالتي قبلها وإن نوى القسم فقال أبو الخطاب هي يمين وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي ليس بيمين لأنه لم يأت باسم الله تعالى المعظم ولا صفته فلم يكن يمينا كما لو قال حلفت وهذا أصح إن شاء الله فإن هذه ليست صيغة اليمين والقسم وإنما هي صيغة الخبر فلا يكون بها حالفا وإن قدر ثبوت حكمها لزمه أقل ما يتناوله الاسم وهو يمين ما وليست كل يمين للكفارة فلا يلزمه شيء ووجه الأول أنه كناية عن اليمين وقد نوى اليمين فتكون يمينا كالصريح

فصل حكم ما لو حلف على فعل شيء أو تركه
فصل : وإذا حلف على ترك شيء أو حرمه لم يصر محرما وقال أبو حنيفة يصير محرما لقول الله تعالى : { لم تحرم ما أحل الله لك ؟ } وقوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ولأن الحنث يتضمن هتك حرمة الإسم المعظم فيكون حراما ولأنه إذا حرمه فقد حرم الحلال فيحرم كما لو حرم زوجته
ولنا أنه إذا أراد التكفير فله فعل المحلوف عليه وحل فعله مع كونه محرما تناقض وتضاد والعجب أن أبا حنيفة لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث وقد فرض الله تعالى تحلة اليمين فعلى قوله يلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه وهو عنده محرم وهذا غير جائز ولأنه لو كان محرما لوجب تقديم الكفارة عليه كالظهار ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] فأمر بفعل المحلوف عليه ولو كان محرما لم يأمره به وسماه خيرا والمحرم ليس بخير وأما الآية فإنما أراد بها قوله هو علي حرام أو منع نفسه منه وذلك يسمى تحريما قال الله تعالى : { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } وقال : { وحرموا ما رزقهم الله } ولم يثبت فيه التحريم حقيقة ولا شرعا

مسألتان وفصول شروط من تدفع إليه الكفارة وقدر ما لكل منهم وما يجب أن يعطوا
كتاب الكفارات : الأصل في كفارة اليمين الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } الآية وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] في اخبار سوى هذا وأجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير ان شاء أطعم عشرة مساكين مسلمين أحرار اكبار كانوا أو صغار إذا أكلوا الطعام
أجمع أهل العلم على أن الحانث في يمينه بالخيار إن شاء اطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق أي ذلك فعل أجزأه لأن الله تعالى عطف بعض هذه الخصال على بعض بحرف أو وهو للتخيير قال ابن عباس ما كان في كتاب الله ( أو ) فهو مخير فيه وما كان ( فمن لم يجد ) فالأول الأول ذكره الإمام أحمد في التفسير والواجب في الاطعام إطعام عشرة مساكين لنص الله تعالى على عددهم إلا أن لا يجد عشرة مساكين فيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ويعتبر في المدفوع إليهم أربعة أوصاف
أن يكونوا مساكين وهم الصنفان اللذان تدفع إليهم الزكاة المذكوران في أول أصنافهم في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } والفقراء مساكين وزيادة لكون الفقير أشد حاجة من المسكين على ما بيناه ولأن الفقر والمسكنة في غير الزكاة شيء واحد لأنهما جميعا اسم للحاجة إلى ما لا بد منه في الكفاية ولذلك لو وصى للفقراء أو وقف عليهم أو للمساكين لكان ذلك لهم جميعا وإنما جعلا صنفين في الزكاة وفرق بينهما لأن الله تعالى ذكر الصنفين جميعا باسمين فاحتيج إلى التفريق بينهما فأما من غير الزكاة فكل واحد من الإسمين يعبر به عن الصنفين لأن جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة إلى ما تتم به الكفاية ولا يجوز صرفها إلى غيرهم سواء كان من أصناف الزكاة أو لم يكن لأن الله تعالى أمر بها للمساكين وخصهم بها فلا تدفع إلى غيرهم ولأن القدر المذفوع إلى كل واحد من الكفارة قدر يسير يراد به دفع حاجة يومه في مؤنته وغيرهم من الأصناف لا تندفع حاجتهم بهذا لكثرة حاجتهم وإذا صرفوا ما يأخذونه في حاجتهم صرفوه إلى غير ما شرع له
الثاني أن يكونوا أحرارا فلا يجزىء دفعها إلى عبد ولا مكاتب ولا أم وبهذا قال مالك و الشافعي واختار الشريف أو جعفر جواز دفعها إلى مكاتب نفسه وغيره وقال أبو الخطاب يتخرج جواز دفعها إليه بناء على جواز اعتاقه في كفارته لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته أشبه المسكين
ولنا أن الله تعالى عده صنفا في الزكاة غير صنف المساكين ولا هو في معنى المساكين لأن حاجته غير جنس حاجتهم فدل على أنه ليس بمسكين والكفارة انما هي للمساكين بدليل الآية ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته أما كفايته فإنها حاصلة بكبسه وماله فإن لم يكن له كسب ولا مال عجزه سيده ورجع إليه واستغنى بإنفاقه وخالف الزكاة فإنها تصرف إلى الغني والكفارة بخلافها
الثالث : أن يكونوا مسلمين فلا يجوز صرفها إلى كافر ذميا كان أو حربيا وبذلك قال الحسن و النخعي و الأوزاعي و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز دفعها إلى الذمي لدخوله في اسم المساكين فيدخل في عموم الآية ولأنه مسكين من أهل دار الإسلام فأجزأ الدفع إليه من الكفارة كالمسلم وروي نحو هذا عن الشعبي وخرجه أبو الخطاب وجها في المذهب بناء على جواز اعتاقه في الكفارة وقال الثوري يعطيهم أن لم يجد غيرهم
ولنا أنهم كفارة فلم يجز إعطاؤهم كمستأمني أهل الحرب والآية مخصوصة بهذا فنقيس
الرابع : أن يكونوا قد أكلوا الطعام فإن كان طفلا لم يطعم لم يجز الدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي وقول القاضي وهو ظاهر قول مالك فإنه قال يجوز الدفع إلى الفطيم وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الثانية : يجوز دفعها إلى الصغير الذي لم يطعم ويقبض للصغير وليه وهو الذي ذكره أبو الخطاب في المذهب وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو الخطاب وهو قول أكثر الفقهاء لأنه حر مسلم محتاج فأشبه الكبير ولأن أكله للكفارة ليس بشرط وهذا يصرف الكفارة إلى ما يحتاج إليه مما تتم به كفايته فأشبه الكبير
ولنا قوله تعالى : { إطعام عشرة مساكين } وهذا يقتضي أكلهم له فإذا لم تعتبر حقيقة أكله اعتبر إمكانه ومظنته ولا تتحقق مظنته فيمن لا يأكل ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته لجاز دفع القيمة ولم يتعين الإطعام وهذا يقيد ما ذكروه فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الأربعة في واحد جاز الدفع إليه سواء كان صغيرا أو كبيرا محجورا أو غير عليه إلا أن من لا حجر عليه يقبض لنفسه أو يقبض له وكيله والمحجور عليه كالصغير والمجنون يقبض له وليه
مسألة : قال : لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق أو رطلان خبرزا أو مدان تمرا أو شعيرا
أما مقدار ما يعطى كل مسكين وجنسه فقد ذكرناه في باب الظهار ونص الخرقي على أنه يجزىء الدقيق والخبز ونص أحمد عليه أيضا وروي عنه لا يجزىء الخبز وهو قول مالك و الشافعي وقال لا يجزىء دقيق ولا سويق لأنه خرج عن حالة الكمال والادخار ولا يجزىء في الزكاة فلم يجزىء في الكفارة كالقيمة
ولنا قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } وهذا قد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله فوجب أن يجزئه روى الإمام احمد في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال الخبز واللبن
وفي رواية عنه قال : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن وقال أبو رزين : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } خبز وزيت وخل وقال الأسود بن يزيد الخبز والتمر وعن علي الخبز والتمر الخبز والسمن الخبز واللحم وعن ابن سيرين قال كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم وأوسطه الخبز والسمن وأخسه الخبز والتمر وقال عبيدة الخبز والزيت وسأل رجل شريحا ما أوسط طعام أهلي ؟ فقال شريح أن الخبز والخل والزيت لطيب فقال له رجل أفرأيت الخبز واللحم ؟ قال أرفع طعام أهلك وطعام الناس وعن علي و الحسن و الشعبي و قتادة و مالك و ابي ثور يعذبهم أو يعشيهم وهذا اتفاق على تفسير ما في الآية بالخبز ولأنه أطعم المساكين من أوسط طعام أهله فأجزأه كما لو أعطاه حبا ويفارق الزكاة من وجهين
أحدهما : أن الواجب عليه عشر الحب وعشر الحب حب فاعتبر الواجب وههنا الواجب الإطعام والخبز أقرب إليه
والثاني : إن دفع الزكاة يراد للاقتيات في جميع العام فيحتاج إلى ادخاره فاعتبر أن يكون على صفة تمكن من ادخاره عاما والكفارة تراد لدفع حاجة يومه ولهذا تقدرت بما الغالب أنه يكفيه ليومه والخبز أقرب إلى ذلك لأنه قد كفاه مؤنة طحنه وخبزه إذا تقرر هذا فإنه أن أعطى المسكين رطلي خبز بالعراقي أجزأه لأنه لا يكون من أقل من مد وقدر ذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم خمس اواق وسبع أوقية وإن طحن مدا وخبزه أجزأه نص عليه أحمد وكذلك إذا دفع دقيق المد إلى المسكين أجزأه وإن دفع الدقيق من غير تقدير حنطته فقال أحمد يجزئه بالوزن رطل وثلث ولا يجزئه مد دقيق بالكيل لأنه يروع بالطحن فحصل في مد دقيق الحب أقل من مد الحب وإن زاد في الدقيق عن مد بحيث يعلم أنه قدر مد حنطة جاز وقول الخرقي في مد من دقيق يحتمل أنه أراد إخراجه بالوزن كما ذكر أحمد ويحتمل أنه أراد مدا من الحنطة طحنه ثم أخرج دقيقه ويحتمل أنه أراد إخراج ما يعلم أن حبه مد لما ذكرنا ويجب أن يحمل قوله في الدقيق والخبز على دقيق الحنطة وخبزها فإن اعطى من الشعير لم يجزئه إلا ضعف ذلك كما لا يجزىء من حبها إلا ضعف ما يجزىء من حب البر
فصل : والأفضل إخراج الحب لأن فيه خروجا من الخلاف قال أحمد التمر أعجب إلي والدقيق ضعيف والتمر أحب إلي ويحتمل أن يكون إخراج الخبز أفضل لأنه أنفع للمسكين وأقل كلفة وأقرب إلى حصول المقصود منه بغنيته والظاهر أن المسكين يأكله ويستغني به في يومه ذلك والحب يعجز عن طحنه وعجنه فالظاهر أنه يحتاج إلى بيعه ثم يشتري بثمنه خبزا فيتكلف حمل كلفة البيع والشراء وغبن البائع والمشتري له وتأخر حصول النفع به وربما لم يحصل له بثمنه من الخبز ما يكفيه ليومه فيفوت المقصود مع حصول الضرر
فصل : ويجب أن يكون المخرج في الكفارة سالما من العيب ولا يكون الحب مسوسا ولا متغيرا طعمه ولا فيه زؤان أو تراب يحتاج إلى تنقية وكذلك دقيقه وخبزه لأنه مخرج في حق الله تعالى عما وجب في الذمة فلم يجز ان يكون معيبا الشاة في الزكاة

مسألة لا يجزىء مكان الطعام أن يعطيهم أضعاف قيمة الطعام ورقا
مسألة : قال : ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقا لم يجزه
وجملته أنه لا يجزىء في الكفارة إخراج قيمة الطعام ولا الكسوة في قول امامنا و مالك و الشافعي و ابن المنذر وهو ظاهر قول من سمينا قولهم في تفسير الآية في المسألة التي قبلها وهو ظاهر من قول عمر بن الخطاب وابن عباس و عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير و النخعي وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي لأن المقصود دفع حاجة المسكين وهو يحصل بالقيمة
ولنا قول الله تعالى : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } هذا ظاهر في عين الطعام والكسوة فلا يحصل التكفير بغيره لأنه لم يؤد الواجب إذا لم يؤد ما أمره الله بأدائه ولأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ولو جاز القيمة لم ينحصر التخيير في الثلاثة ولأنه لو أريدت القيمة لم يكن للتخيير معنى لأن قيمة الطعام ان ساوت قيمة الكسوة فهما شيء واحد فكيف يخير بينهما ؟ وإن زادت قيمة احداهما على الآخر فكيف يخير بين شيء وبعضه ؟ ثم ينبغي أنه إذا أعطاه في الكسوة ما يساوي إطعامه أن يجزئه وهو خلاف الآية وكذلك لو غلت قيمة الطعام فصار نصف المد يساوي كسوة المسكين ينبغي أن يجزئه نصف المد وهو خلاف الآية ولأنه أحد ما يكفر به فتعين ما ورد به النص كالعتق أو فلا تجزىء فيه القيمة كالعتق فعلى هذا لو أعطاهم أضعاف قيمة الطعام لا يجزئه لأنه لم يؤد الواجب فلا يخرج عن عهدته

مسألة وفصل كل من يعطى من الزكاة يعطى من الكفارة والعكس
مسألة : قال : ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله
وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و لا نعلم فيه مخالفا ولأن الكفارة حق مال يجب لله تعالى فجرى مجرى الزكاة فيمن يدفع إليه من أقاربه ومن لا يدفع إليه وقد سبق ذلك في باب الزكاة
فصل : وكل من يمنع الزكاة من الغني والكافر والرقيق يمنع أخذ الكفارة وهل يمنع منها بنو هاشم ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يمنعون منها لأنها صدقة واجبة فمنعوا منها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أنا لا تحل لنا الصدقة ] وقياسا على الزكاة والثاني : لا يمنعون لأنها لم تجب بأصل الشرع فأشبهت صدقة التطوع

مسألة وفصلان حكم ما لو اطعم مسكينا واحدا
مسألة : قال : ومن لم يصب إلا مسكينا واحدا ردد عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام
وجملته أن المكفر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم أو لا يجدهم فإن وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين ولا أقل من ستين في كفارة الظهار وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد وقال أبو عبيد أن خص بها أهل شديدي الحاجة جاز بدليل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للمجامع في رمضان حين أخبره بشدة حاجته وحاجة أهله : أطعمه عيالك ] ولأنه دفع حق الله تعالى إلى من هو من أهل الاستحقاق فأجزأه كما لو دفع زكاته إلى واحد وقال أصحاب الرأي يجوز أن يرددها على مسكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة يمين أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا ولا يجوز دفعها إليه في يوم واحد وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه في كل يوم قد أطعم مسكينا ما يجب للمسكين فأجزأ كما لو أعطى غيره ولأنه لو أطعم هذا المسكين من كفارة أخرى أجزأه فكذلك إذا أطعمه من هذه الكفارة
ولنا قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة فما امتثل الأمر فلا يجزئه ولأن الله تعالى جعل كفارته إطعام عشرة مساكين فإذا لم يطعم عشرة فما اتى بالكفارة ولأن من لم يجز الدفع إليه في اليوم الأول لم يجز في اليوم الثاني مع اتفاق الحال كالولد فأما الواقع على أهله فإنما اسقط الله تعالى الكفارة عنه لعجزه عنها فإنه لا خلاف في أن الإنسان لا يأكل كفارة نفسه ولا يطعمها عائلته وقد أمر بذلك
الحال الثاني : العاجز عن عدد المساكين كلهم فإنه يردد على الموجودين منهم في كل يوم حتى تتم عشرة فإن لم يجد إلا واحدا ردد عليه تتمة عشرة أيام وإن وجد اثنين ردد عليهما خمسة أيام وعلى هذا ونحو هذا قال الثوري وهو اختيار أكثر الأصحاب وعن أحمد رواية أخرى لا يجزئه إلا كمال العدد وهو مذهب مالك و الشافعي لما ذكرنا في حال القدرة
ولنا أن ترديد الإطعام في عشرة أيام في معنى إطعام عشرة لأنه يدفع الحاجة في عشرة أيام فأشبه ما لو أطعم في كل يوم واحدا والشيء بمعناه يقوم مقامه بصورته عند تعذرها ولهذا شرعت الإبدال لقيامها مقام المبدلات في المعنى ولا يجتزأ بها مع القدرة على المبدلات كذا ههنا
فصل : وإن أطعم كل يوم مسكينا حتى أكمل العشرة أجزأه بلا خلاف نعلمه لأن الواجب إطعام عشرة مساكين وقد أطعمهم وإن دفعها إلى من يظنه مسكينا فبان غنيا ففي ذلك وجهان بناء على الروايتين في دفع الزكاة إليه
أحدهما : لا يجزئه وهو قول الشافعي و أبي يوسف و أبي ثور و ابن المنذر لأنه لم يطعم المساكين فلم يجزئه كما لو علم
والثاني : يجزئه وهو قول أبي حنيفة و محمد لأنه دفعها إلى من يظنه مسكينا وظاهره المسنة فأجزأه كما لو لم يعلم حاله وهذا لأن الفقر يخفى وتشق معرفة حقيقته قال الله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } فوجب أن يكتفى بظهوره وظنه [ وكذلك لما سأل الرجلان النبي صلى الله عليه و سلم من الصدقة قال : إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] وإن بان كافر أو عبدا لم يجزئه وجها واحدا كقولنا في الزكاة لأن ذلك لا يكاد يخفى وليس هو في مظنة الخفاء فإن كان الدافع الإمام فأخطأ في الفقر لم يضمن وإن أخطأ في الحرية والإسلام فهل يضمن ؟ على الوجهين بناء على خطئه في الحد
فصل : إذا أطعم مسكينا في يوم واحد من كفارتين ففيه وجهان
أحدهما : يجزئه لأنه أطعم عن كل كفارة عشرة مساكين فأجزأه كما لو أطعمه في يومين ولأن من جاز له أن يأخذ من اثنين جاز أن يأخذ من واحد كالقدر الذي يجوز له أخذه من الزكاة
والثاني : لا يجزئه إلا عن واحد وهو قول أبي حنيفة و أبي يوسف لأنه أعطى مسكينا في يوم طعام اثنين فلم يجزئه إلا عن واحد كما لو كان في كفارة واحدة وإن أطعم اثنين من كفارتين في يوم واحد جاز ولا نعلم في جوازه خلافا وكذلك ان أطعم واحدا من كفارتين في يومين جاز أيضا بغير خلاف نعلمه فلو كان على واحد عشر كفارات وعنده عشرة مساكين يطعمهم كل يوم كفارة يفرقها عليهم جاز لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته وبيان أنه أتى بما أمر أنه أطعم عن كل كفارة عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله والحكم في الكسوة كالحكم في الطعام على ما فصلناه

مسألة و فصلان ما يجزىء من كسوة الكفارة
مسألة : قال : وإن شاء كسا عشرة مساكين للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه وللمرأة درع وخمار
لا خلاف في أن الكسوة أحد أصناف كفارة اليمين لنص الله تعالى عليها في كتابه بقوله تعالى : { أو كسوتهم } ولا تدخل في كفارة غير كفارة اليمين ولا يجزئه أقل من كسوة عشرة لقول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } وتتقدر الكسوة بما تجزىء الصلاة فيه فإن كان رجلا فثوب تجزئه الصلاة فيه وإن كانت امرأة فدرع وخمار وبهذا قال مالك و ممن قال لا تجزئه السراويل الأوزاعي و أبو يوسف وقال إبراهيم ثوب جامع وقال الحسن كل مسكين حلة ازار ورداء قال ابن عمر و عطاء و طاوس و مجاهد وعكرمة وأصحاب الرأي يجزئه ثوب ثوب ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة وحكي عن الحسن قال تجزىء العمامة وقال سعيد بن المسيب عباءة وعمامة وقال الشافعي يجزىء أقل ما يقع الإسم من سراويل أو ازار أو رداء أو مقنعة أو عمامة وفي القلنسوة وجهان واحتجوا بأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة فأجزأ كالذي تجوز الصلاة فيه
ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجز فيه ما يقع عليه الإسم كالإطعام والإعتاق ولأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأنه مصروف إلى المساكين في الكفارة فيتقدر كالإطعام ولأن الابس ما لا يستر عورته إنما يسمى عريانا ولا مكتسبا وكذلك لابس السراويل وحده أو مئزرا يسمى عريانا فلا يجزئه لقول الله تعالى : { أو كسوتهم }
إذا ثبت هذا فإنه إذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا لأنه أقل ما يستر عورتها وتجزئها الصلاة فيه وإن أعطاها ثوبا واسعا يمكنها أن تستر به بدنها ورأسها أجزأه ذلك وإن كسا الرجل أجزأه قميص أو ثوب يمكنه أن يستر عورته ويجعل على عاتقه منه شيئا أو ثوبين يأتزر باحدهما ويرتدي بالآخر ولا يجزئه مئزر وحده ولا سروال وحده لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يصلي أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء ]
فصل : ويجوز أن يكسوهم من جميع أصناف الكسوة من القطن والكتان والصوف والشعر والوبر والخز والحرير لأن الله تعالى أمر بكسوتهم ولم يعين جنسا فأي جنس كساهم منه خرج به عن العهدة لوجود الكسوة المأمور بها ويجوز أن يكسوهم لبيسا أو جديدا إلا أن يكون مما قد بلي وذهبت منفعته لأنه معيب فلا يجزىء كالحب المعيب والرقبة إذا بطلت منفعتها وسواء كان ما أعطاهم مصبوغا أو غير مصبوغ أو خاما أو مقصورا لأنه تحصل الكسوة المأمور بها والحكمة المقصودة منها
فصل : والذين تجزىء كسوتهم هم المساكين الذين يجزىء إطعامهم لأن الله تعالى قال { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } فينصرف الضمير إليهم وقد تقدم الكلام في المساكين وأصنافهم

مسألة وفصول الشروط التي تعتبر في الرقبة المجزئة
مسألة : قال : وإن شاء أعتق رقبة مؤمنة قد صلت وصامت لأن الأيمان قول وعمل وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل
وجملته أن اعتاق الرقبة أحد خصال الكفارة بغير خلاف لنص الله تعالى عليه بقوله : { أو تحرير رقبة } ويعتبر في الرقبة ثلاثة أوصاف
أحدها : أن تكون مؤمنة في ظاهر المذهب وهو قول مالك و الشافعي و أبي عبيد وعن أحمد رواية أخرى أن الذمية تجزىء وهو قول عطاء و أبي ثور وأصحاب الرأي لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة } وهذا مطلق فتدخل فيه الكافرة
ولنا أنه تحرير في كفارة فلا تجزىء فيه الكافرة ككفارة القتل والجامع بينهما أن الإعتاق يتضمن تفريغ العبد المسلم لعبادة ربه وتكميل أحكامه وعبادته وجهاده ومعونة المسلم فناسب ذلك شرع اعتاقه في الكفارة تحصيلا لهذه المصالح والحكم مقرون بها في كفارة القتل المنصوص على الأيمان فيها فيعلل بها ويتعدى ذلك الحكم إلى كل تحرير في كفارة فيختص بالمؤمنة لاختصاصها بهذه الحكمة وأما المطلق الذي احتجوا به فإنه يحمل على المقيد في كفارة القتل كما حمل مطلق قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } على المقيد في قوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وإن لم يحمل عليه من جهة اللغة حمل عليه من جهة القياس
الثاني : أن تكون قد صلت وصامت وهذا قول الشعبي و مالك و إسحاق قال القاضي لا يجزىء من له دون السبع لأنه لا تصح منه العبادات في ظاهر كلام أحمد وظاهر كلام الخرقي المعتبر الفعل دون السن فمن صلى وصام ممن له عقل يعرف الصلاة والصيام ويتحقق منه الإتيان به بنيته وأركانه فإنه يجزىء في الكفارة وإن كان صغيرا ولم يوجدا منه لم يجزىء في الكفارة وإن كان كبيرا وقال أبو بكر وغيره من أصحابنا يجوز اعتاق الطفل في الكفارة وهو قول الحسن و عطاء و الزهري و الشافعي و ابن المنذر لأن المراد بالأيمان ههنا الإسلام بدليل اعتاق الفاسق قال الثوري المسلمون كلهم مؤمنون عندنا في الأحكام ولا ندري ما هم عند الله ولهذا تعلق حكم القتل يكل مسلم بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ } والصبي محكوم بإسلامه يرثه المسلمون ويرثهم ويدفن في مقابر ويغسل ويصلى عليه وإن سبي منفردا عن أبويه أجزأه عتقه لأنه محكوم بإسلامه وكذلك إن سبي مع أحد أبويه ولو كان أحد أبوي الطفل مسلما والآخركافرا أجزأ اعتاقه لأنه محكوم بإسلامه وقال القاضي في موضع يجزىء اعتاق الصغير في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإنها على روايتين
وقال إبراهيم النخعي ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزىء إلا ما صام وصلى وما كان في القرآن رقبة ليست بمؤمنة فالصبي يجزىء ونحو هذا قول الحسن ووجه قول الخرقي أن الواجب رقبة مؤمنة والأيمان قول وعمل فما لم تحصل الصلاة والصيام لم يحصل العمل
وقال مجاهد و عطاء في قوله : { فتحرير رقبة مؤمنة } قال قد صلت ونحو هذا قول الحسن و إبراهيم وقال مكحول إذا ولد المولد فهو نسمة فإذا تقلب ظهرا لبطن فهو رقبة فإذا صلى فهو مؤمنة ولأن الطفل لا تصح منه عبادة لفقد التكليف فلم يجزىء في الكفارة كالمجنون ولأن الصبا نقص يستحق به النفقة على القريب أشبه الزمانة والقول الآخر أقرب إلى الصحة إن شاء الله لأن الأيمان الإسلام وهو حاصل في حق الصغير [ ويدل على هذا أن معاوية بن الحكم السلمي أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية فقال لها : أين الله ؟ قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت أنت رسول الله قال : أعتقها فإنها مؤمنة ] رواه مسلم وفي حديث عن أبي هريرة [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله أن علي رقبة فقلا لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ فأشارت برأسها إلى السماء قال : من أنا ؟ فأشارت إلى رسول الله وإلى السماء أي أنت رسول الله قال : أعتقها ] فحكم لها بالإيمان بهذا القول
فصل : ولا يجزىء اعتاق الجنين في قول أكثر أهل العلم وبه قال ابو حنيفة و الشافعي وقال أبو ثور يجزىء لأنه آدمي مملوك فصح اعتاقه عن الرقبة كالمولود
ولنا أنه لم تثبت له أحكام الدنيا بعد فإنه لا يملك بالإرث والوصية ولا يشترط لهما كونه آدميا لكونه ثبت له ذلك وهو نطفة أو علقة وليس بآدمي في تلك الحال
الثالث : أن لا يكون بها نقص يضر بالعمل وقد شرحنا ذلك في الظهار ويجزىء الصبي وإن كان عاجزا عن العمل لأن ذلك ماض إلى زوال وصاحبه سائر إلى الكمال ولا يجزىء المجنون لأن نقصه لا غاية لزواله معلومة فأشبه الزمن
فصل : وإن أعتق غائبا تعلم حياته وتجيء أخباره صح وأجزأه عن الكفارة كالحاضر وإن شك في حياته وانقطع خبره لم يحكم بالأجزاء فيه لأن الأصل شغل ذمته ولا تبرأ بالشك وهذا العبد مشكوك فيه وفي وجوده فشك في إعتاقه فإن قيل الأصل حياته قلنا إلا أنه قد علم أن الموت لا بد منه وقد وجدت دلالة عليه وهو انقطاع أخباره فإن تبين بعد هذا كونه حيا تبينا صحة عتقه وبراءة الذمة من الكفارة وإلا فلا
فصل : وإن أعتق غيره عنه بغير أمره لم يقع عن المعتق عنه إذا كان حيا وولاؤه للمعتق ولا يجزىء عن كفارته وإن نوى ذلك وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أنه إذا أعتق عن واجب على غيره بغير أمره صح لأنه قضى عنه واجبا فصح كما لو قضى عنه دينا
ولنا أنه عبادة من شرطها النية فلم يصح أداؤها عمن وجبت عليه بغير أمره مع كونه من أهل الأمر كالحج ولأنه أحد خصال الكفارة فلم يصح عن المكفر بغيره أمره كالصيام وهكذا الخلاف فيما إذا كفر عنه بإطعام أو كسوة ولا يجوز أن ينوب عنه في الصيام بإذنه ولا بغير إذنه لأنه عبادة بدنية فلا تدخلها النيابة فأما إن أعتق عنه بأمره نظرت فإن جعل له عوضا صح العتق عن العتق عنه وله ولاؤه وأجزأ عن كفارته بغير خلاف علمناه وبه يقول أبو حنيفة و مالك و الشافعي وغيرهم لأنه حصل العتق عنه بماله فأشبه ما لو اشتراه ووكل البائع في إعتاقه عنه وإن لم يشترط عوضا ففيه روايتان
إحداهما : يقع العتق عن المعتق عنه ويجزىء في كفارته وهو قول مالك و الشافعي لأنه أعتق بأمره فصح كما لو شرط عوضا
والأخرى : لا يجزىء وولاؤه للمعتق وهو قول أبي حنيفة لأن العتق بعوض كالبيع وبغير عوض كالهبة ومن شرط الهبة القبض ولم يحصل فلم يقع عن الموهوب له وفارق البيع فإنه لا يشترط فيه القبض فإن كان المعتق عنه ميتا نظرت فإن وصى بالعتق صح لأنه بأمره وإن لم يوص به فأعتق عنه أجنبي لم يصح لأنه ليس بنائب عنه وإن أعتق عنه وارثه فإن لم يكن عليه واجب لم يصح العتق عنه ووقع عن المعتق وإن كان عليه عتق واجب صح العتق عنه لأنه نائب له في ماله وأداء واجباته فإن كانت عليه كفارة يمين فكسا عنه أو اطعم عنه جاز وإن أعتق عنه ففيه وجهان :
أحدهما : ليس له ذلك لأنه غير متعين فجرى مجرى التطوع والثاني : يجزىء لأن العتق يقع واجبا لأن الوجوب يتعين فيه بالفعل فأشبهه المعين من العتق ولأنه أحد خصال كفارة اليمين فجاز أن يفعله عنه كالإطعام والكسوة ولو قال من عليه الكفارة أطعم عن كفارتي أو أكس ففعل صح رواية واحدة سواء ضمن له عوضا أو لم يضمن له عوضا
مسألة : قال : ولو اشتراها بشرط العتق فأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة
وهذا مذهب الشافعي روري عن معقل بن يسار ما يدل عليه وذلك لأنه إذا اشتراها بشرط العتق فالظاهر إن البائع نقصه من الثمن لأجل هذا الشرط فكأنه أخذ عن العتق عوضا فلم تجزئه عن الكفارة قال أحمد إن كانت رقبة واجبة لم تجزئه لأنها ليست رقبة سليمة ولأن عتقها يستحق بسبب آخر وهو الشرط فلم تجزئه كما لو اشترى قريبه فنوى بشرائه العتق عن الكفارة أو قال إن دخلت الدار فأنت حر ثم نوى عند دخوله أنه عن كفارته
فصل : ولو قال له رجل أعتق عبدك من كفارتك ولك عشرة دنانير ففعل لم يجزئه عن الكفارة لأن الرقبة لم تقع خالصة عن الكفارة وقال القاضي العتق كله يقع عن باذل العوض وله ولاؤه وهذا فيه نظر فإن المعتق لم يعتقه عن باذل العوض ولا رضي بإعتاقه عنه ولا بذال العوض طلب ذلك والصحيح ان اعتاقه من المعتق والولاء له وقد ذكر الخرقي أنه إذا قال أعتقه والثمن علي فالثمن عليه والولاء للمعتق فإن رد العشرة على باذلها ليكون العتق عن الكفارة وحدها أو عزم على رد العشرة أو رد العشرة قبل العتق فأعتقه عن كفارته أجزأه
فصل : وإذا اشترى عبدا ينوي إعتاقه عن كفارته فوجد به عيبا لا يمنع من الإجراء في الكفارة فأخذ أرشه ثم أعتق العبد عن كفارته أجزأه وكان الأرش له لأن العتق إنما وقع على العبد المعيب دون الأرش وإن أعتقه قبل العلم بالعيب ثم ظهر على العيب فأخذ أرشه فهو له أيضا كما لو أخذه قبل اعتاقه وعنه أنه يصرف ذلك الأرش وفي الرقاب لأنه أعتقه معتقدا أنه سليم فكان بمنزلة العوض عن حق الله تعالى وكفارة الأرش مصروفة في حق الله تعالى كما لو باعه كان الأرش للمشتري وإن علم العيب ولم يأخذ أرشه حتى أعتقه كان الأرش للمعتق لأنه أعتقه معيبا عالما بعيبه فلم يلزمه أرش كما لو باعه ولم يعلم عيبه
مسألة : قال : وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه ينوي بشرائه الكفارة عتق ولم يجزئه
وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي يجزئه استحسانا لأنه يجزىء عن كفارة البائع فأجزأ عن كفارة المشتري كغيره
ولنا قوله تعالى : { فتحرير رقبة } والتحرير فعل العتق ولم يحصل العتق ههنا بتحرير منه ولا إعتاق فلم يكن ممتثلا للأمر ولأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه كما لو ورثه ينوي به العتق عن كفارته وكأم الولد ويخالف المشتري البائع من وجهين :
أحدهما : أن البائع يعتقه والمشتري لم يعتقه أنما يعتق بإعتاق الشرع وهذا عن غير اختيار منه
والثاني : أن البائع لا يستحق عليه اعتاقه والمشتري بخلافه
فصل : إذا ملك نصف عبد فأعتقه من كفارته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا بقيمة باقية ولم يجزئه عن كفارته في قول أبي بكر الخلال وصاحبه وحكاه عن أحمد وهو قول أبي حنيفة لأن عتق نصيب شريكه لم يحصل بإعتاقه إنما حصل بالسراية وهي غير فعله وإنما هي من آثار فعله فأشبه ما لو اشترى من يعتق عليه ينوي به الكفارة يحقق هذا أنه لم يباشر بالإعتاق إلا نصيبه فسرى إلى غيره ولو خص نصيب غيره بالإعتاق لم يعتق منه شيء ولأنه إنما يملك إعتاق نصيبه لا نصيب غيره وقال القاضي : قال غيرهما من أصحابنا يجزئه إذا نوى إعتاق جميعه عن كفارته وهو مذهب الشافعي لأنه أعتق عبدا كامل الرق سليم الخلق غير مستحق العتق ناويا به الكفارة فأجزأه كما لو كان الجميع ملكه والأول أصح إن شاء الله ولا نسلم أنه أعتق العبد كله وإنما أعتق نصفه وعتق الباقي عليه فأشبه شراء قريبه ولأن إعتاق باقيه مستحق بالسراية فهو كالقريب فعلى هذا هل يجزئه عتق نصفه الذي هو ملكه ويعتق نصفا آخر فتكمل الكفارة ؟ ينبني على ما إذا أعتق نصفي عبدين وسنذكره إن شاء الله وإن نوى عتق نصيبه عن الكفارة ولم ينو ذلك في نصيب شريكه لم يجزئه نصيب شريكه وفي نصيبه نفسه ما سنذكره إن شاء الله ولو كان معسرا فأعتق نصيبه عن كفارته فكذلك فإن ملك باقيه فأعتقه عن الكفارة أجزأه ذلك وإن أراد صيام شهر وإطعام ثلاثين مسكينا لم يجزئه كما لو أعتق نصف عبد في كفارة اليمين وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه
فصل : وإن كان العبد كله له فأعتق جزءا منه معينا أو مشاعا عتق جميعه وإن كان نوى به الكفارة أجزأ عنه لأن إعتاق بعض العبد إعتاق لجميعه وإن نوى إعتاق الجزء الذي باشره بالإعتاق عن الكفارة دون غيره لم يجزئه عتق غيره وهل يحتسب لما نوى به الكفارة ؟ على وجهين
فصل : وإن قال إن ملكت فلانا فهو حر وقلنا يصح هذا التعليق فاشتراه ينوي العتق عن كفارته عتق ولم يجزئه عن الكفارة ويخرج فيه من الخلاف مثل ما في شراء قريبه والله أعلم

مسائل وفصول لا يجزىء في الكفارة أم الولد ولا مكاتب أدى كتابته ويجزىء المدبر والخصي وولد الزنا
مسألة : قال : ولا تجزىء في الكفارة أم ولد
هذا ظاهر المذهب وبه قال الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى أنها تجزىء ويروى ذلك عن الحسن و طاوس و النخعي وعثمان البتي لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة } ومعتقها قد حررها
ولنا أن عتقها يستحق بسبب آخر فلم تجزىء نه كما لو اشترى قريبه أو عبدا بشرط العتق فأعتقه وكما لو قال لعبده أنت حر إن دخلت الدار ثم نوى عتقه عن كفارته عند دخوله والآية مخصوصة بما ذكرناه فنقيس عليه ما اختلفنا فيه
فصل : ولد أم الولد الذي ولدته بعد كونها أم ولد حكمه حكمها فيما ذكرناه لأن حكمه حكمها في العتق بموت سيدها
مسألة : قال : ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئا
روي عن أحمد رحمه الله في المكاتب ثلاث روايات :
إحداهن : يجزىء مطلقا اختاره أبو بكر وهو مذهب أبي ثور لأن المكاتب عبد يجوز بيعه فأجزأ عتقه كالمدبر ولأنه رقبة فدخل في مطلق قوله سبحانه : { فتحرير رقبة }
والثانية : لا يجزىء مطلقا وهو قول مالك و الشافعي و أبي عبيد لأن عتقه مستحق بسبب آخر ولهذا لا يملك إبطال كتابته فأشبه أم الولد
والثالثة : إن أدى من كتابته شيئا لم يجزئه وإلا أجزأه وبهذا قال الليث و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي قال القاضي هو الصحيح لأنه إذا أدى شيئا فقد حصل العوض عن بعضه فلم يجزىء كما لو أعتق بعض رقبة وإذا لم يؤد فقد أعتق رقبة كاملة مؤمنة سالمة الخلق تامة الملك لم يحصل عن شيء منها عوض فأجزأ أعتقها كالمدبر ولو أعتق عبدا على مال فأخذه من العبد لم يجزىء عن كفارته في قولهم جميعا
مسألة : قال : ويجزئه المدبر
وهذا قول طاوس و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال الأوزاعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي لا يجزىء لأن عتقه مستحق بسبب آخر فأشبه أم الولد ولأن بيعه عندهم غير جائز فأشبه أم الولد
ولنا قوله تعالى : { فتحرير رقبة } وقد حرر رقبة ولأنه عبد كامل المنفعة يجوز بيعه ولم يحصل عن شيء منه عوض فجاز عتقه كالقن والدليل على جواز بيعه أن النبي صلى الله عليه و سلم باع مدبرا وسنذكر حديثه في بابه إن شاء الله ولأن التدبير إما أن يكون وصية أو عتقا بصفة وأيا ما كان فلا يمنع التكفير بإعتاقه قبل وجود الصفة والصفة ههنا الموت ولم يوجد
مسألة : قال : والخصي
ولا نعلم في إجزاء الخصي خلافا سواء كان مقطوعا أو مشلولا أو موجوءا لأن ذلك نقص لا يضر بالعمل ولا يؤثر فيه بل ربما زادت بذلك قيمته فاندفع فيه ضرر شهوته فأجزأ كالفحل
مسألة : قال : وولد الزنا
هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن فضالة بن عبيد وأبي هريرة وبه قال ابن المسيب و الحسن و طاوس و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و ابن المنذر
وروي عن عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و حماد أنه لا يجزىء لأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ولد الزنا شر الثلاثة ] قال أبو هريرة : لأن أدفع بسوط في سبيل الله أحب إلي منه رواه أبو داود
ولنا دخوله في مطلق قوله تعالى : { فتحرير رقبة } ولأنه مملوك مسلم كامل العمل لم يعتض عن شيء منه ولا استحق عتقه بسبب آخر فأجزأ عتقه كولد الرشيدة فأما الأحاديث الواردة في ذمه فاختلف أهل العلم في تفسيرها فقال الطحاوي ولد الزنا هو الملازم للزنا كما يقال ابن السبيل الملازم لها وولد الليل الذي لا يهاب السرقة وقال الخطابي عن بعض أهل العلم قال هو شر الثلاثة أصلا وعنصرا ونسبا لأنه خلق من ماء الزنا وهو خبيث وأنكر قوم هذا التفسير وقالوا ليس عليه من وزر والديه شيء وقد قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وفي الجملة هذا يرجع إلى أحكام الآخرة أما أحكام الدنيا فهو كغيره في صحة امامته وبيعه وعتقه وقبول شهاة فكذلك في أجزاء عتقه عن الكفارة لأنه من أحكام الدنيا

مسألة يجزىء الصيام لمن لم يجد من يكفر به
مسألة : قال : فإن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا أجزأه صيام ثلاثة أيام متتابعة
يعني إن لم يجد طعاما ولا كسوة ولا عتقا انتقل إلى صيام ثلاثة أيام لقول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وهذا لا خلاف فيه إلا في اشتراط التتابع في الصوم وظاهر المذهب اشتراطه كذلك قال إبراهيم النخعي و الثوري و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء و مجاهد و عكرمة
وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية خرى أنه يجوز تفريقها وبه قال مالك و الشافعي في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق ولا يجوز تقييده إلا بدليل ولأنه صام الأيام الثلاثة فلم يجب التتابع فيه كصيام المتمتع ثلاثة أيام في الحج ولنا أن في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) كذلك ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة وهذا إن كان قرآنا فهو حجة لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن لم يكن قرآنا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه و سلم إذ يحتمل أن يكونا سمعاه من النبي صلى الله عليه و سلم تفسيرا فظناه قرآنا فثبتت له رتبة الخبر ولا ينقص عن درجة تفسير النبي صلى الله عليه و سلم للآية وعلى كلا التقديرين فهوحجة يصار إليه ولأنه صيام في كفارة فوجب فيه التتابع ككفارة القتل والظهار والمطلق يحمل على المقيد على ما قررناه فيما مضى فعلى هذا إن أفطرت المرأة لمرض أو حيض أو الرجل لمرض لم ينقطع التتابع وبهذا قال أبو ثور و إسحاق
وقال أبو حنيفة ينقطع فيهما لأن التتابع لم يوجد وفوات الشرط يبطل به المشروط وقال الشافعي ينقطع في المرض في أحد القولين ولا ينقطع في الحيض
ولنا أنه عذر يبيح الفطر أشبه الحيض في كفارة القتل

مسألة وفصلان إذا كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم وحكم ما لو أعتق العبد عبدا
مسألة : قال : ولو كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم
لا خلاف في أن العبد يجزئه الصيام في الكفارة لأن ذلك فرض المعسر من الأحرار وهو أحسن حالا من العبد فإنه يملك في الجملة ولأن العبد داخل في قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وإن أذن السيد لعبده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه ليس بمالك لما أذن له فيه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه التكفير بغير الصيام وقد قال غيره من أصحابنا فيما إذن له سيده في التكفير بالمال روايتان
احداهما : يجوز تكفيره به والأخرى : لا يجوز إلا بالصيام وقد ذكرنا علل ذلك في الظهار والاختلاف فيه
وذكر القاضي أن أصل هذا عنده الروايتان في ملك العبد بالتمليك إن قلنا يملك بالتمليك فملكه سيده وأذن له بالتكفير بالمال جاز لأنه مالك لما يكفر به وإن قلنا لا يملك بالتمليك ففرضه الصيام لأنه لا يملك شيئا يكفر به وكذلك إن قلنا يملك ولم يأذن له سيده بالتكفير في المال ففرضه الصيام وإن ملك لأنه محجور عليه ممنوع من التصرف فيما في يديه قال وأصحابنا يجعلون في العبد روايتين مطلقا سواء قلنا يملك أو لا يملك ثم على الرواية التي تجيز له التكفير بالمال له إن يطعم وهل له أن يعتق ؟ على روايتين
إحداهما : ليس له ذلك لأن العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث وليس ذلك للعبد ولكن يكفر بالإطعام وهذا رواية عن مالك وبه قال الشافعي على القول الذي يجيز له التكفير بالمال
والثانية : له التكفير بالعتق لأن من صح تكفيره بالمال صح بالعتق كالحر ولأنه يملك العبد فصح تكفيره بإعتاقه كالحر وقولهم أن العتق يقتضي الولاء والولاية لا نسلم ذلك في العتق في الكفارة على ما أسلفناه وإن سلمنا فتخلف بعض الأحكام لا يمنع ثبوت المقتضي فإن الحكم يتخلف بتخلف سببه لا لتخلف أحكامه كما أنه يثبت لوجود سببه ولأن تخلف بعض الأحكام مع وجود المقتضي إنما يكون لمانع منعها ويجوز أن يختص المنع بها دون غيرها ولهذا السبب المقتضي لهذه الأحكام لا يمنع ثبوته تخلفها عنه في الرقيق على أن الولاء يثبت بإعتاق العبد لكن لا يرث به كما لو اختلف ديناهما وهذا اختيار أبي بكر وفرع عليه إذا أذن له سيده فأعتق نفسه ففيه قولان
أحدهما : يجزئه لأنه رقبة تجزىء عن غيره فأجزأت عن نفسه كغيره والآخر لا يجزئه لأن الإذن له في الإعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره وهذا التعليل يدل على أن سيده لو أذن له في إعتاق نفسه عن كفارته جاز فأما ان أطلق الإذن في الإعتاق فليس له أن يعتق إلا أقل رقبة تجزىء عن الواجب وليس له إعتاق نفسه إذا كانت أفضل مما يجزىء وهذا من أبي بكر يقتضي أنه لا يعتبر في التكفير أن يملكه سيده ما يكفر به لأنه لا يملك نفسه بل متى أذن له في التكفير بالعتق أو الإطعام أجزأه لأنه لو اعتبر التمليك لما صح له أن يعتق نفسه لأنه لا يملكها ولأن التمليك لا يكون إلا في معين ولا يصح أن يأذن فيه مطلقا
فصل : وإذا أعتق العبد عبدا عن كفارته بإذن سيده وقلنا إن الإعتاق في الكفارة يثبت به الولاء لمعتقه ثبت ولاؤه للعبد الذي أعتقه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الولاء للمعتق ] ولا يرث لأنه ليس من أهل الميراث ولا يمتنع ثبوت الولاء مع انتفاء الإرث كما لو اختلف دينهما أو قتل المعتق عتيقه فإنه لا يرثه مع ثبوت الولاء له عليه فإن عتق المعتق له ورث بالولاء لزوال المانع كما إذا كانا مختلفي الدين فاسلم الكافر منهما ذكر هذا طلحة العاقولي ومقتضى هذا أن سيد العبد لا يرث عتيقه في حياة عبده كما لا يرث ولد عبده فإن أعتق عبده ثم مات ورث السيد مولى عبده لأنه مولى مولاه كما أنه لو أعتق العبد وله ولد عليه الولاء لمولى أمه يجر ولاءه ويرثه سيده إذا مات أبوه
فصل : وليس للسيد منع عبده من التكفير بالصيام سواء كان الحلف أو الحنث بإذنه أو بغير إذنه وسواء أضر به الصيام أو لم يضر به وقال الشافعي أن حنث بغير إذنه والصوم يضر به فله منعه لأن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه مما يتعلق به ضرر على السيد فكان له منعه وتحليله كما لو أحرم بالحج بغير إذنه
ولنا أنه صوم واجب لحق الله تعالى فلم يكن لسيده منعه منه كصيام رمضان وقضائه ويفارق الحج لأن ضرره كثير لطول مدته وغيبته عن سيده وتفويف خدمته ولهذا ملك تحليل زوجته منه ولم يملك منعها صوم الكفارة فأما صوم التطوع فإن كان فيه ضرر عليه فللسيد منعه منه لأنه يفوت حقه بما ليس بواجب عليه وإن كان لا يضر به لم يكن لسيده منعه منه لأنه يعبد ربه بما لا مضرة فيه فأشبه ذكر الله تعالى وصلاة النافلة في غير وقت خدمته وللزوج منع زوجته منه في كل حال لأنه يفوت حقه من الإستمتاع ويمنعه منه

مسألة وفصل حكم من حنث وهو عبد أو نصفه حر ونصفه عبد
مسألة : قال : ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق عليه فعليه الصوم لا يجزئه غيره
ظاهر هذا أن الإعتبار في الكفارات بحالة الحنث لأنه وقت الوجوب وهو حينئذ عبد فوجب عليه الصوم فلا يجزئه غير ما وجب عليه وقال القاضي هذا فيه نظر فإن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد لأنه إنما يكفر بما وجب عليه يوم حنث ومعناه أنه لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه وهذا منصوص عن الشافعي ومن أصحابه من قال بقول الخرقي وليس على الخرقي حجة من كلام احمد بل هو حجة له لقوله إنما يكفر ما وجب عليه وإنما للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه ولم يجب عليه إلا الصوم فلا يكفر بغيره ووجه ذلك أنه حكم تعلق بالعبد في رقه فلم يتغير بحريته كالحد وهذا على القول الذي لم يجز فيه للعبد التكفير بالمال بإذن سيده فأما على القول الآخر فله التكفير ههنا بطريق الأولى لأنه إذا جاز له في حال رقه التكفير بالمال ففي حال حريته أولى وإنما احتاج إلى إذن سيده في حال رقه لأن المال لسيده أو لتعلق حقه بماله وبعد الحرية قد زال ذلك ولا حاجة إلى إذنه وإن قلنا التكفير بأغلظ الأحوال لم يكن له التكفير بغير المال إن كان موسرا وإن حلف عبد وحنث وهو حر فحكمه حكم الأحرار لأن الكفارة لا تجب قبل الحنث فما وجبت إلا وهو حر
فصل : ومن نصفه حر فحكمه في التكفير حكم الحر الكامل فإذا ملك بجزئه الحر مالا يكفر به لم يجز له الصيام وله التكفير بأحد الأمور الثلاثة وظاهر مذهب الشافعي أن له التكفير بالإطعام والكسوة دون الإعتاق لأنه لا يثبت له الولاء ومنهم من قال لا يجزئه إلا الصيام لأنه منقوص بالرق أشبه القن
ولنا قول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وهذا واجد لأنه يملك ملكا تاما فأشبه الحر الكامل ولا نسلم أنه لا يثبت له الولاء ثم إن امتناع بعض أحكامه لا يمنع صحته كعتق المسلم رقيقه الكافر

مسألتان وفصول حكم من وجد ما يكفر به وليس لديه غيره أو لديه ما يكفر به وعليه دين
مسألة : قال : ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته مقدار ما يكفر به
وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا فيتخير بين الخصال الثلاث فإن لم يجدها انتقل إلى صيام ثلاثة أيام ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفر به وهذا قول إسحاق و نحوه قال أبو عبيد و ابن المنذر و قال الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره أجزأه الصيام لأنه فقير ولأن النخعي قال إذا كان مالكا لعشرين درهما فله الصيام وقال عطاء الخراساني لا يصوم من ملك عشرين درهما ولم يملك دونها الصيام وقال سعيد بن جبير إذا لم يملك إلا ثلاثة دراهم كفر بها وقال الحسن درهمين وهذان القولان نحو قولنا
ووجه ذلك أن الله تعالى اشترط الصيام أن لا يجد بقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ومن وجد ما يكفر به فاضلا عن قوته وقوت عياله فهو اجد فيلزمه التكفير بالمال لظاهر الآية ولأنه حق لا يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة الفطر
فصل : فلو ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه لأنه حق لآدمي والكفارة حق لله تعالى فإذا كان مطالبا بالدين وجب تقديمه كزكاة الفطر فإن لم يكن مطالبا بالدين فكلام أحمد يقتضي روايتين
إحداهما : تجب الكفارة لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم يسقط بالدين كزكاة الفطر
والثانية : لا تجب لأنها حق لله تعالى يجب في المال فأسقطها الدين كزكاة المال وهذا أصح لأن حق الآدمي أولى بالتقديم لشحه وحاجته إليه وفيه نفع للغريم وتفريغ ذمة المدين وحق الله تعالى مبني على المسامحة لكرمه وغناه ولأن الكفارة بالمال لها بدل ودين الآدمي لا بدل له ويفارق صدقة الفطر لكونها أجريت مجرى النفقة ولهذا يتحملها الإنسان عن غيره كالزوج عن امرأته وعائلته ورقيقه ولا بدل لها بخلاف الكفارة
فصل : فإن كان له مال غائب أو دين يرجو وفاءه لم يكفر بالصيام وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئه الصيام لأنه غير واجد فأجزأه الصيام عملا بقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وقياسا على المعسر والدليل على أنه غير واجد أن المتمتع لو عدم الهدي في موضعه انتقل إلى الصيام ولو عدم الماء في موضعه انتقل إلى التيمم ولو عدم المظاهر المال في موضعه انتقل إلى الصيام والإنتقال في هذه المواضع مشروط بعدم الوجدان ولأنه غير متمكن من التكفير بالمال أشبه هذه الأصول
ولنا أنه حق مال يجب على وجه الطهرة فلم تمنع الغيبة وجوبه كالزكاة ولأنه غير مؤقت ولا ضرر في تأخيره فلم يسقط بغيبته كالزكاة وفارق الهدي فإن له وقتا يفوت بالتأخير والتيمم يفضي تأخيره إلى فوات الصلاة وتأخير كفارة الظهار يفضي إلى ترك الوطء وفيه ضرر بخلاف مسألتنا ولا نسلم عدم التمكن ولهذا صح بيع الغائب مع أن التمكن من التسليم شرط
مسألة : قال : ومن له دار لا غنى له عن سكناها أو دابة يحتاج إلى ركوبها أو خادم يحتاج إلى خدمته أجزأه الصيام في الكفارة
وجملته أن الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية والسكنى من الحوائج الأصلية وكذلك الدابة التي يحتاج إلى ركوبها لكونه لا يطيق المشي فيما يحتاج إليه أو لم تجر عادته به وكذلك الخادم الذي يحتاج إلى خدمته لكونه ممن لا يخدم نفسه لمرض أو كبر أو لم تجر عادته به وهذه الثلاثة من الحوائج الأصلية لا تمنع التكفير بالصيام ولا الزكاة من الأخذ والكفارة
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك من ملك رقبة تجزىء في الكفارة لا يجزئه الصيام وإن كان محتاجا إليها لخدمته لأنه واجد لرقبة يعتقها فيلزمه ذلك لقوله تعالى : { أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } فاشترط للصيام أن لا يجدها
ولنا أنها مستغرقة لحاجته الأصلية فلم تمنع جواز الإنقال كالمسكن والمركوب والطعام الذي هو محتاج إليه وما ذكروه يبطل بالطعام المحتاج إليه وبما إذا وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فإنه لا يمنع الإنتقال إلى التيمم ولأن وجدان ثمن الرقبة كوجدانها ولهذا لم يجز لمن وجد ثمنها الإنتقال إلى الصيام ومع هذا لو وجد ثمنها الذي يحتاج إليه لم يمنعه الإنتقال كذا ههنا
إذا ثبت هذا فإنه إن كان في شيء من ذلك فضل عن حاجته مثل من له دار كبيرة تساوي أكثر من دار مثله ودابة فوق دابة مثله وخادم فوق خادم مثله يمكن أن يحصل به قدر ما يحتاج إليه وتفضل فضلة يكفر بها فإنه يباع منه الفاضل عن كفايته أو يباع الجميع ويبتاع له قدر ما يحتاج إليه ويكفر بالباقي وإن تعذر بيعه أو أمكن البيع ولم يمكن شراء ما يحتاج إليه ترك ذلك وكان له الإنتقال إلى الصيام لأنه تعذر الجمع بين القيام بحاجته والتكفير بالمال فأشبه ما لو لم يكن فيه فضل
فصل : ومن له عقار يحتاج إلى أجرته لمؤنته وحوائجه الأصلية أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه بالتكفير منها أو سائمة يحتاج إلى نمائها حاجة أصلية أو أثاث يحتاج إليه وأشباه هذا فله التكفير بالصيام لأن ذلك مستغرق لحاجته الأصلية فأشبه المعدم

مسألة وفصل حكم ما لو أطعم مساكين وكسا خمسة أو كسا بعض الكسوة وأطعم بعض الطعام
مسألة : قال : ويجزئه أن أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة
وجملته أنه إذا أطعم بعض المساكين وكسا الباقين بحيث يستوفي العدد أجزأه في قول إمامنا و الثوري وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يجزئه لقول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } فوجه الدلالة من وجهين :
أحدهما : أنه جعل الكفارة احد هذه الخصال الثلاث ولم يأت بواحد منها
الثاني : إن اقتصاره على هذه الخصال الثلاث دليل على انحصار التكفير فيها وما ذكرتموه خصلة رابعة ولأنه نوع من التكفير فلم يجزئه تبعيضه كالعتق ولأنه لفق الكفارة من نوعين فأشبه ما لو أعتق نصف عبد وأطعم خمسة أو كساهم
ولنا أنه أخرج من المنصوص عليه بعده العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس واحد ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالكفارتين وكالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في الجنابة جاز في بعضه في طهارة الحدث فيما إذا كان بعض بدنه صحيحا وبعضه جريحا وفيما إذا وجد من الماء ما يكفي بعض بدنه ولأن معنى الطعام والكسوة متقارب إذ القصد منها سد الخلة ودفع الحاجة وقد استويا في العدد واعتبار المسكنة في المدفوع إليه وتنوعهما من حيث كونهما في الإطعام سدا لجوعه وفي الكسوة ستر العورة لا يمنع الأجزاء في الكفارة الملفقة منهما كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا إلى ستر عورته والآخر إلى الاستدفاء ولأنه قد خرج عن عهدة الذين أطعمهم بالإطعام فيخرج عن عهدة الذين كساهم بالكسوة بدليل أنه لا يلزمه بالانفاق أكثر من اطعام من بقي ولا كسوة أكثر ممن بقي وإذا خرج عن عهدة عشرة مساكين وجب أن يجزئه كما لو اتفق النوع
وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه فإنها دلت على أنه مخير في كل فقير بين أن يطعمه أو يكسوه وهذا يقتضي ما ذكرناه ويصير كما يخير في الصيد الحرمي بين أن يفديه بالنظير أو يقوم النظير بدراهم فيشتري بها طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما فلو صام عن بعض الأمداد وأطعم بعضا أجزأ كذلك ههنا وكذلك الدية لما كان مخيرا بين إخراج ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم ولو أعطى البعض ذهبا والبعض دراهم جاز وفارق ما إذا أعتق نصف عبد وأطعم خمسة أو كساهم لأن تنصيف العتق يخل بالآخر لما سنذكره بعد هذا
فصل : وإن أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه لأنه ما أطعمه الطعام الواجب له ولا كساه الكسوة الواجبة فصار كمن لم يطعمه شيئا ولم يكسه وإن أطعم بعض المساكين برا وبعضهم تمرا أو من جنس آخر أجزأه وقال الشافعي لا يجزئه
ولنا قوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } وقد أطعمهم من جنس ما يجب عليه ولأنه لو كسا بعض المساكين قطنا وبعضهم كتانا جاز مع اختلاف النوع كذلك الإطعام

مسائل وفصول في أحكام عامة في الكفارة والإعتاق
مسألة : قال : وإن أعتق نصفي عبدين أو نصفي أمتين أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه
قال الشريف أبو جعفر هذا قول أكثرهم يعني أكثر الفقهاء وقال أبو بكر بن جعفر لا يجزىء لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من إعتاق نصفين واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أوجه فمنهم من قال كقول الخرقي ومنهم من قال كقول أبي بكر ومنهم من قال إن كان نصف الرقيق حرا أجزأ لأنه يحصل تكميل الأحكام وإن كان رقيقا لم يجز لأنه لا يحصل
ولنا أن الأشقاص كالأشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير دليله الزكاة ونعني به إذا كان له نصف ثمانين شاة مشاعا وجبت الزكاة كما لو ملك أربعين منفردة وكالهدايا والضحايا إذا اشتركوا فيها والأولى أنه لا يجزىء إعتاق نصفين اذا لم يكن الباقي بينهما حرا لأن اطلاق الرقبة إنما ينصرف إلى إعتاق الكاملة ولا يحصل من الشقصين ما يحصل من الرقبة الكاملة من تكميل الأحكام وتخليص الآدمي من ضرر الرق وشقصه فلا يثبت به من الأحكام ما يثبت بإعتاق رقبة كاملة ويمتنع قياس الشقصين على الرقبة الكاملة ولهذا لو أمر انسانا بشراء رقبة أو بيعها أو بإهداء حيوان أو بالصدقة به لم يكن له أن يشقصه كذا ههنا
مسألة : قال : وإن أعتق نصف عبد وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه
لا نعلم في هذا خلافا وذلك لأن مقصودهما مختلف متباين إذ كان الفصد من العتق تكميل الأحكام وتخليص المعتق من الرق والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المجاعة في الطعام وستر العورة ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة فلتقارب معناهما واتحاد مصرفهما جريا مجريا الجنس الواحد فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر ولذلك سوي بين عددهما ولتباعد قصد العتق منهما واختلاف مصرفهما ومباينتهما له لم يجريا مجرى الجنس الواحد فلم يكمل به واحد منهما ولذلك خالف عدده عددهما
فصل : ولو أطعم المساكين أو كساهم أو أعتق نصف عبد ولم يكن له ما يتم به الكفارة فصام عن الباقي لم يجزئه ولأنه يدل في الكفارة فلم تكمل به كسائر الإبدال مع مبدلاتها ولأن الصوم من الطعام والكسوة أبعد من العتق فإذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر فتكميله بالبدل أولى فإن قيل يبطل هذا بالغسل والوضوء مع التيمم قلنا التيمم لا يأتي ببعضه بدلا عن بعض الطهارة وإنما يأتي به بكماله وههنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه
مسألة : قال : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء
مسألة : قال : في هذه المسألة فصلان الفصل الأول : أنه إذا شرع في الصوم ثم قدر على العتق أو الإطعام أو الكسوة لم يلزمه الرجوع إليها وروي ذلك عن الحسن و قتادة وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وروي عن النخعي و الحكم أنه يلزمه الرجوع إلى أحدها وبه قال الثوري وأصحاب الرأي لأنه قدر على المبدل قبل إتمام البدل فلزمه الرجوع كالمتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام صلاته
ولنا أنه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل فلم يلزمه الرجوع إلى المبدل بعد الشروع فيه كما لو شرع المتمتع العاجز عن الهدي في صوم السبعة الأيام فإنه لا يخرج بلا خلاف
والدليل على أن البدل لا يبطل أن البدل الصوم وهو صحيح مع قدرته اتفاقا وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه ولأن الرجوع إلى طهارة الماء لا مشقة فيه ليسره والكفارة يشق الجمع فيها بين خصلتين وإيجاب الرجوع يفضي إن ذلك فإن قيل ينتقض دليلكم بما إذا شرع المتمتع في صوم الثلاثة قلنا إذا قدر على الهدي في صوم الثلاثة تبينا أنه ليس بعادم له في وقته لأن وقت الهدي يوم النحر بخلاف مسألتنا
الفصل الثاني : أنه أن واجب الإنتقال إلى الأعلى فله ذلك في قول أكثرهم ولا نعلم خلافا إلا في العبد إذا حنث ثم عتق
وقال أبو الخطاب لا يجوز الإنتقال في مسألتنا محتجا بقول الخرقي إذا حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق قال وهو ظاهر كلام أحمد لقوله في العبد إنما يكفر ما وجب عليه
ولنا أن العتق والإطعام الأصل فأجزأه التكفير به كما لو تكلف الفقير فاستدان وأعتق وأما العبد إذا عتق فيحتمل أنه يجوز له الإنتقال كمسألتنا ويحمل كلام أحمد على أنه لا يلزمه الإنتقال ويحتمل أنه يفرق بينه وبين الحر من حيث أن الحر كان يجزئه التكفير بالمال لو تكلفه والعبد لم يكن يجزئه إلا الصيام على رواية
فصل : ولو وجبت الكفارة على موسر فأعسر لم يجزئه الصيام وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يجزئه لأنه عاجز عن المبدل فجاز له العدول إلى البدل كما لو وجبت عليه الصلاة ومعه ماء فاندفق قبل الوضوء به
ولنا أن الإطعام وجب عليه في الكفارة فلم يسقط بالعجز عنه كالإطعام في كفارة الظهار وفارق الوضوء لأن الصلاة واجبة ولا بد من أدائها فاحتيج إلى الطهارة لها في وقتها بخلاف الكفارة
فصل : والكفارة في حق العبد والحر والرجل والمرأة والمسلم والكافر سواء لأن الله تعالى ذكر الكفارة بلفظ عام في جميع المخاطبين فدخل الكل في عمومه إلا أن الكافر لا يصح منه التكفير بالصيام لأنه عبادة وليس هو من أهلها ولا بالإعتاق لأن من شرطه الأيمان في الرقبة ولا يجوز لكافر شراء مسلم إلا أن يتفق إسلامه في يديه أو يرث مسلما فيعتقه فيصح إعتاقه وإن ل ميتفق ذلك فتكفيره بالإطعام أو الكسوة فإذا كفر به ثم أسلم لم يلزمه أعادة التكفير وإن أسلم قبل التكفير كفر بما يجب عليه في تلك الحال من إعتاق أو إطعام أو كسوة أو صيام ويحتمل على قول الخرقي إلا يجزئه الصيام لأنه إنما يكفر بما وجب عليه حين الحنث ولم يكن الصيام مما وجب عليه

مسألة وفصل يرجع في الأيمان إلى النية وحكم ما لو لم ينو شيئا أو اختلف السبب والنية
مسألة : قال ابو القاسم رحمه الله تعالى : ويرجع في الأيمان إلى النية
وجملة ذلك أن مبنى اليمين على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له فالموافق للظاهر أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل أن ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق الإطلاق وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الأفهام منها والمخالف يتنوع أنواعا أحدها : أن ينوي بالعام الخاص وينوي أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها ومنها أن يحلف على فعل شيء أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف لا أتغذى يعني اليوم أو لآكلن يعني الساعة ومنها أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله ومنها أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش ينوي قطع كل ما له فيه منة أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها معه في جميع الدور أو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فيتعلق يمينه بالإنتفاع به أو بثمنه مما لها فيه منة عليه
وبهذا قال مالك و قال أبو حنيفة و الشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه فلو أحنثناه على ما سواءه لأحنثنا على ما نوى لا على ما حلف ولأن النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها
ولنا أنه نوى بكلامه ما يحتمله ويسوغ في اللغة التعبير به عنه فنيصرف يمينه إليه كالمعاريض وبيان احتمال اللفظ أنه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى : { ما يملكون من قطمير } { ولا يظلمون فتيلا } { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } والقطمير لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شيء وقال الحطيئة يهجو بني العجلان :
( ولا يظلمون الناس حبة خردل )
ولم يرد الحبة بعينها إنما أراد لا يظلمونهم وقد يذكر العام ويراد به الخاص كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } يعني رجلا واحدا : { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني أبا سفيان وقال تعالى : { تدمر كل شيء } ولم يرد السماء والأرض ولا مساكنهم [ وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : إنما لامرىء ما نوى ] ولأن كلام الشارع يحمل على مراده إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره وقولهم أن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين قلنا وهذا كذلك فإنما انعقدت عليه اليمين على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله
فصل : ومن شرط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن يحلف لا يأكل خبزا يعني به لا يدخل بيتا فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين
مسألة : قال : فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها
وجملته أنه إذا عدمت النية نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار نظرنا فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها اختصت بيمينه بها وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فإن كان سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث وإن كان سبب يمينه خشونة غزلها ورداءته لم يتعد بيمنه لبسه والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في التي قبلها قد دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به وقد ثبت أن كلام الشارع إذا كان خاصا في شيء لسبب عام تعدى إلى ما يوجد فيه السبب كتنصيصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة أثبت الحكم في كل ما يوجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي مثله فأما إن كان اللفظ عاما والسبب خاصا مثل من دعي إلى غذاء فحلف لا يتغذى أو حلف لا يقعد فإن كانت له نية فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين :
إحداهما : أن اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل عن رجل حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال النذر يوفي به يعني لا يدخله ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده أن لا يخرج إلا بإذنه فعتق العبد وطلق الزوجة وخرجا بغير إذنه لا يحنث لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وإنما يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكي ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها ولو حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو حلف أن لا يرى منكرا إلا رفعه إلى فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء على ما تقدم :
أحدهما : لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بعين موصوفة تعلقت بالعين وإن تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر تنحل اليمين بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال رفعه إليه إلا في حال ولايته فعلى هذا إن رأى المنكر في ولايته فأمكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه حال كونه معزولا وهل يحنث بعزله ؟ فيه وجهان أحدهما : يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه ما لو مات والثاني : لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته لاحتمال أن يلي فيرفعه إليه بخلاف ما إذا مات فإنه يحنث قد تحقق فواته وإذا مات قبل إمكان رفعه إليه حنث أيضا لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليصربن عبده في غد فمات العبد اليوم ويحتمل ان لا يحنث لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه المكره وإن قلنا لا تنحل يمينه بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك
فصل : فإن اختلف السبب والنية مثل أن امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف أنه لا يلبس ثوبا من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا لأن النية وافقت مقتضى اللفظ وإن نوى بيمينه ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي يقدم السبب لأن اللفظ ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب هو الامتنان وظاهر حالة قطع النية فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده كعدمه فلم يبق إلا لفظه بعمومه والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى =

============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي

  : أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي أدوات الأعراب تأليف ظاهر شوكت البياتي  الإهداء إلى صديقي الصدوق: طه هاشم الدليمي الذ...