4. مصاحف

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 5. و6. المغني - ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 مجلد 5. و6. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

5

مجلد 5. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد
 من دخل في واجب لم يجز له الخروج منه
فصل : ومن دخل في واجب كقضاء رمضان أو نذر معين أو مطلق أو صيام كفارة لم يجز له الخروج منه لأن المتعين وجب عليه الدخول فيه وغير المتعين تعين بدخوله فيه فصار بمنزلة الفرض المتعين وليس في هذا خلاف بحمد الله

صيام الصغير والكافر إذا اسلم
مسألة : قال : وإذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصيام أخذ به
يعني أنه يلزم الصيام يؤمر به ويضرب على تركه ليتمرن عليه ويتعود كما يلزم الصلاة ويؤمر بها وممن ذهب إلى أنه يؤمر بالصيام إذا أطاقه عطاء والحسن وابن سيرين والزهري و قتادة و الشافعي وقال الأوزاعي إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل صوم شهر رمضان وقال إسحاق : إذا بلغ اثنتي عشرة أحب أن يكلف الصوم للعادة واعتباره بالعشرة أولى لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالضرب على الصلاة عندها واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى واجتماعهما في أنهما عباداتان بدنيتان من أركان الإسلام إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيقه
فصل : ولا يجب عليه الصوم حتى يبلغ قال أحمد في غلام احتلم صام ولم يترك والجارية إذا حاضت وهذا قول أكثر أهل العلم وذهب بعض أصحابنا إلى إيجابه على الغلام المطيق له إذا بلغ عشرا لما روى ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى عليه وسلم إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان ] ولأنه عبادة بدنية أشبه الصلاة وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بان يضرب على الصلاة من بلغ عشرا والمذهب الأول قال القاضي : المذهب عندي رواية واحدة أن الصلاة والصوم لا تجب حتى يبلغ وما قاله أحمد فيمن ترك الصلاة يقضيها نحمله على الاستحباب وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ] ولأنه عبادة بدنية فلم تجب على الصبي كالحج وحديثهم مرسل ثم نحمله على الاستحباب وسماه واجبا تأكيدا لاستحبابه كقوله عليه السلام : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ]
فصل : إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار بالاحتلام أو السن فقال القاضي يتم صومه ولا قضاء عليه لأن نية صوم رمضان حصلت ليلا فيجزئه كالبالغ ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نفلا وباقيه فرضا كما لو شرع في صوم يوم تطوعا ثم نذر إتمامه واختار أبو الخطاب أنه يلزمه القضاء لأنه عبادة بدنية بلغ في أثنائها بعد مضي بعض أركانها فلزمته إعادتها كالصلاة والحج إذا بلغ بعد الوقوف وهذا لأنه ببلوغه يلزمه صوم جميعه والماضي قبل بلوغه نفل فلم يجز عن الفرض ولهذا لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم لزمه القضاء فأما ما مضى من الشهر قبل بلوغه فلا قضاء عليه وسواء كان قد صامه أو أفطره هذا قول عامة أهل العلم وقال الأوزاعي يقضيه إن كان افطره وهو مطيق لصيامه
ولنا أنه زمن مضى في حال صباه فلم يلزمه قضاء الصوم فيه كما لو بلغ بعد انسلاخ رمضان وإن بلغ الصبي وهو مفطر فهل يلزمه امساك ذلك اليوم وقضاؤه ؟ على روايتين
مسألة : قال : وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل من بقية شهره
أما صوم ما يستقبله من بقية شهره فلا خلاف فيه وأما قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه فلا يجب وبهذا قال الشعبي و قتادة و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء عليه قضاؤه وعن الحسن كالمذهبين
ولنا أن ما مضى عبادة خرجت في حال كفره فلم يلزمه قضاؤه كالرمضان الماضي
فصل : فأما اليوم الذي أسلم فيه فإنه يلزمه امساكه ويقضيه هذا المنصوص عن أحمد وبه قال الماجشون و إسحاق وقال مالك و أبو ثور و ابن المنذر لا قضاء عليه لأنه لم يدرك من زمن العبادة ما يمكنه التلبس بها فيه فأشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم وقد روي ذلك عن أحمد
ولنا أنه أدرك جزءا من وقت العبادة فلزمته كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة

صيام المجنون عندما يفيق
فصل : فأما المجنون إذا أفاق في اثناء فعيه صم ما بقي من الأيام بغير خلاف وفي قضاء اليوم الذي أفاق فيه وإمساكه روايتان ولا يلزمه قضاء ما مضى وبهذا قال أبو ثور و الشافعي في الجديد وقال مالك : يقضي وإن مضى عليه سنون وعن أحمد مثله وهو قول الشافعي القديم لأنه معنى يزيل العقل فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء وقال أبو حنيفة أن جن جميع الشهر فلا قضاء عليه وإن أفاق في اثنائه قضي ما مضى لأن المجنون لا ينافي الصوم بدليل ما لو جن في اثناء الصوم لم يفسد فإذا وجد في بعض الشهر وجب القضاء كالإغماء
ولنا أنه معنى يزيل التكليف فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكفر ويخص أبا حنيفة بأنه معنى لو وجد في جميع الشهر اسقط القضاء فإذا وجد في بعضه اسقطه كالصغر والكفر يفارق الإغماء في ذلك

إثبات الهلال
مسألة : قال : وإذا رأى هلال شهر رمضان وحده صام
المشهور في المذهب أنه متى رأى الهلال واحد لزمه الصيام عدلا كان أو غير عدل شهد عند الحاكم أو لم يشهد قبلت شهادته أو ردت وهذا قول مالك و الليث و الشافعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال عطاء و إسحاق لا يصوم وقد روى حنبل عن أحمد لا يصوم إلى في جماعة الناس وروي نحوه عن الحسن و ابن سيرين لأنه يوم محكوم به من شعبان فأشبه التاسع والعشرين
ولنا أنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه كما لو حكم به الحاكم وكونه محكوما به من شعبان ظاهر في حق غيره وأما في الباطن فهو يعلم أنه من رمضان فلزمه صيامه كالعدل
فصل : فإن أفطر ذلك اليوم بجماع فعليه الكفارة وقال أبو حنيفة لا تجب لأنها عقوبة فلا تجب بفعل مختلف فيه كالحد
ولنا أنه أفطر يوما من رمضان بجماع فوجبت به عليه الكفارة كما لو قبلت شهادته ولا نسلم أن الكفارة عقوبة ثم قياسهم ينتقض بوجوب الكفارة في السفر القصير مع وقوع الخلاف فيه
مسألة : قال : وإن كان عدلا صام الناس بقوله
المشهور عن أحمد أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل ويلزم الناس الصيام بقوله وهو قول عمر وعلي وابن عمر و ابن مبارك و الشافعي في الصحيح عنه وروي عن أحمد أنه قال : اثنين اعجب إلي قال أبو بكر : إن رآه وحده ثم قدم المصر صام الناس بقوله على ما روى في الحديث وإن كان الواحد في جماعة الناس فذكر أنه رآه دونهم لم يقبل إلا قول اثنين لأنهم يعاينون ما عاين وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يقبل إلا شهادة اثنين وهو قول مالك و الليث و الأوزاعي و إسحق لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وسألتهم وانهم حدثوني [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا ] رواه النسائي ولأن هذه شهادة على رؤية الهلال فأشبهت الشهادة على هلال شوال وقال أبو حنيفة في الغيم كقولنا وفي الصحو لا يقبل إلا الاستفاضة لأنه لا يجوز أن تنظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة فيراه واحد دون الباقين ولنا ما روى ابن عباس قال [ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال رأيت الهلال قال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ؟ قال : نعم قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي و [ روى ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه و سلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه ] رواه أبو داود ولأنه خبر عن وقت الفريضة فيما طريقة المشاهدة فقبل من واحد كالخبر بدخول وقت الصلاة ولأنه خبر ديني يشترك فيه المخبر والمخبر فقبل من واحد عدل كالرواية وخبرهم إنما يدل بمفهومه وخبرنا اشهر منه وهو بدل بمنطوقه فيجب تقديمه ويفارق الخبر عن هلال شوال فإنه خروج من العبادة وهذا دخول فيها وحديثهم في هلال شوال يخالف مسألتنا وما ذكره أبو بكر وأبو حنيفة لا يصح لأن يجوز انفراد الواحد به ما لطافة المرئي وبعده ويجوز أن تختلف معرفتهم بالمطلع ومواضع قصدهم وحدة نظرهم ولهذا لو حكم برؤيته حاكم بشهادة واحد جاز ولو شهد شاهدان وجب قبول شهادتهما ولو كان ممتنعا على ما قالوه لم يصح فيه حكم حاكم ولا يثبت بشهادة اثنين ومن منع ثبوته بشهادة اثنين رد عليه الخبر الأول وقياسه على سائر الحقوق وسائر الشهور ولو أن جماعة في محفل فشهد اثنان منهم على رجل منهم أنه طلق زوجته أو أعتق عبده قبلت شهادتهما دون من أنكر ولو أن اثنين من أهل الجمعة شهدا على الخطيب أه قال على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما لقبلت شهادتهما وكذلك لو شهدا عليه لفعل وإن كان غيرهما يشاركهما في سلامة السمع وصحة البصر كذا ههنا
فصل : وإن أخبره مخبز برؤية الهلال يثق بقوله لزمه الصوم وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم لأنه خبر بوقت العبادة يشترك فيه المخبر والمخبر أشبه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والخبر عن دخول وقت الصلاة ذكر ذلك ابن عقيل ومقتضى هذا أنه يلزمه قبول الخبر وإن رده الحاكم عدالة من يعلم غيره عدالته
فصل : فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها وهو قول أبي حنيفة واحد الوجهين ولأصحاب الشافعي لأنه خبر ديني فأشبه الرواية والخبر عن القبلة ودخول وقت الصلاة ويحتمل أن لا تقبل لأنه شهادة برؤية الهلال فلم يقبل فيه قول امرأة كهلال شوال
مسألة : قال : ولا يفطر إلا بشهادة اثنين
وجملة ذلك أنه لا يقبل في هلال شوال إلا بشهادة اثنين عدلين في قول الفقهاء جميعهم إلا أبا ثور فإنه قال يقبل قول واحد لأنه طرفي شهر رمضان أشبه الأول ولأنه خبر يستوي فيه المخبر والمخبر أشبه الرواية واخبار الديانات
ولنا خبر عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وعن ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين ] ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة فلم تقبل فيه إلا شهادة اثنين كسائر الشهور وهذا يفارق الخبر لأن الخبر يقبل فيه قول المخبر مع وجود المخبر عنه وفلان عن فلان وهذا لا يقبل فيه ذلك فافترقا
فصل : ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شهادة النساء المنفردات وإن كثرن وكذلك سائر الشهور لأنه مما يطلع عليه الرجال وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص وكان القياس يقتضي مثل ذلك في رمضان ولكن تركناه احتياطا للعبادة
فصل : وإذا صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما ولم يروا هلال شوال أفطروا وجها واحدا وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان
أحدهما : لا يفطرون لقول عليه السلام : [ وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا ] ولأنه فطر فلم يجز أن يستند إلى شهادة واحد كما لو شهد بهلال شوال
والثاني : يفطرون وهو منصوص الشافعي ويحكى عن أبي حنيفة لأن الصوم إذا وجب وجب الفطر لاستكمال العدة لا بالشهادة وقد يثبت تبعا ما لا يثبت أصلا بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء وتثبت بها الولادة فإذا ثبت الولادة ثبت النسب على وجه التبع للولادة كذا ههنا وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا وجها واحدا لان الصوم إنما كان على وجه الاحتياط فلا يجوز الخروج منه بمثل ذلك والله أعلم
مسألة : قال : ولا يفطر إذا رآه وحده
روي هذا عن مالك و الليث و الشافعي يحل له أن يأكل حيث لا يراه أحد لأنه يتيقنه من شوال فجاز له الأكل كما لو قامت به بينة
ولنا ما روى أبو رجاء عن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا ذلك له فقال لأحدهما أصائم أنت ؟ قال : بل مفطر قال ما حملك على هذا ؟ قال : لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال للآخر قال أنا صائم قال ما حملك على هذا ؟ قال : لم أكن لأفطر والناس صيام فقال للذي أفطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك ثم نودي في الناس أن خرجوا أخرجه سعيد عن ابن عليه عن أيوب عن أبي رجاء وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به وبصاحبه ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا تواعده وقالت عائشة : إنما يفطر يوم الفطر الإمام وجماعة المسلمين ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا ولأنه يوم محكوم به من شوال بخلاف مسألتنا وقولهم إنه يتيقن أنه من شوال قلنا لا يثبت اليقين لأنه يحتمل أن يكون الرائي خيل إليه كما روي أن رجلا في زمن عمر قال : لقد رأيت الهلال فقال له امسح عينك فمسحها ثم قال له تراه ؟ قال : لا قال لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك فظننتها هلالا أو ما هذا معناه
فصل : فإن رآه اثنان ولم يشهد عند الحاكم جاز لمن سمع شهادتهما الفطر إذا عرف عدالتهما ولكل واحد منهما الفطر بقولهما لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ وإذا شهد اثنان فصوموا وأفطروا ] وإن شهدوا عند الحاكم فرد شهادتهما لجهله بحالهما فلمن علم عدالتهما الفطر بقولهما لأن رد الحاكم ههنا ليس بحكم منه وإنما هو توقف لعدم علمه فهو كالوقوف عن الحكم انتظارا للبينة ولهذا لو تثبت عدالتهما بعد ذلك حكم بها وإن لم يعرف أحدهما عدالة صاحبه لم يجز له الفطر إلا أن يحكم بذلك الحاكم لئلا يفطر برؤيته وحده

صيام العاجز عن معرفة شهر رمضان
مسألة : قال : وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه وإن وافق ما قبله لم يجزه
وجملته أن من كان محبوسا أو مطمورا أو في بعض النواحي النائية عن الأمصار لا يمكنه تعرف الأشهر بالخبر فاشتبهت عليه الأشهر فإنه يتحرى ويجتهد فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه ولا يخلو من أربعة أحوال
أحدها : أن لا ينكشف له الحال فإن صومه صحيح ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزأه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد
الثاني : أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا يجزئه في هاتين الحالتين لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو صام يوم الشك فبان من رمضان وليس بصحيح لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله فإذا أصاب أو لم يعلم الحال اجزأه كالقبلة إذا اشتبهت أو الصلاة في يوم الغيم إذا اشتبه وقتها وفارق يوم الشك فإنه ليس بمحل الاجتهاد فإن الشرع أمر بالصوم عند أمارة عينها فما لم توجد لم يجز الصوم
الحال الثالث : وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء وقال بعض الشافعية يجزئه في أحد الوجهين كما لو اشتبه يوم عرفة فوقفوا قبله
ولنا أنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة في يوم الغيم وأما الحج فلا نسلمه إلا فيما إذا أخطأ الناس كلهم لعظم المشقة عليهم وإن وقع ذلك لنفر منهم لم يجزئهم ولأن ذلك لا يؤمن مثله في القضاء بخلاف الصوم
الحال الرابع : أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده اجزأه وما وافق قبله لم يجزئه
فصل : وإذا وافق صومه بعد الشهر اعتبر أن يكون ما صامه بعدة أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين هلالين أو لم يوافق وسواء كان الشهران تامين أو ناقصين ولا يجزئه أقل من ذلك وقال القاضي : ظاهر كلام الخرقي أنه إذا وافق شهرا بين هلالين اجزأه سواء كان الشهران تامين أو ناقصين أو أحدهما تاما والآخر ناقصا وليس بصحيح فإن الله تعالى قال : { فعدة من أيام أخر } ولأنه فاته شهر رمضان فوجب أن يكون صيامه بعدة ما فاته كالمريض والمسافر وليس في كلام الخرقي تعرض لهذا التفصيل فلا يجوز حمل كلامه على ما يخالف الكتاب والصواب فإن قيل أليس إذا نذر صوم شهر يجزئه ما بين هلالين قلنا الإطلاق يحمل على ما تناوله الاسم والاسم يتناول ما بين الهلالين وههنا يجب قضاء ما ترك فيجب أن يراعي فيه عدة المتروك كما أن من الأيام سواء كان ما صامه بين هلالين أو من شهرين فإن دخل في صيامه يوم عيد لم يعتد به وإن وافق أيام التشريق فهل يعتد بها ؟ على روايتين بناء على صحة صومها عن الفرض
فصل : وأن لم يغلب على ظن الاسير دخول رمضان فصام لم يجزئه وإن وافق الشهر لأنه صامه على الشك فلم يجزئه كما لو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإن غلب على ظنه من غير امارة فقال القاضي عليه الصيام ويقضي إذا عرف الشهر كالذي خفيت عليه دلائل القلة ويصلي على حسب حالة ويعيد وذكر أبو بكر فيمن خفيت عليه دلائل القبلة هل يعيد ؟ على وجهين كذلك يخرج على قوله ههنا وظاهر كلام الخرقي أنه يتحرى فمتى غلب على ظنه دخول الشهر صح صومه وإن لم يبن على دليل لأنه ليس في وسعه معرفة الدليل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد ذكرنا مثل هذا في القبلة
فصل : وإذا صام تطوعا فوافق شهر رمضان لم يجزئه نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي يجزئه وهذا ينبني على تعيين النية لرمضان وقد مضى القول فيه

الأيام المحرم صيامها
مسألة : قال : ولا يصام يوما العيدين ولا أيام التشريق لا عن فرض ولا عن تطوع فإن قصد لصيامها كان عاصيا ولم يجزئه عن الفرض
أجمع أهل العلم على أن صوم يومي العيدين منهي عنه محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة وذلك لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال : إن هذين يومين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيامهم يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم وعن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن صيام يومين يوم فطر ويوم أضحى ] وعن أبي مثله متفق عليهما والنهي يقتضي فساد النهي عنه وتحريمه وأما صومهما ن النذر المعين ففيه خلاف نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
مسألة : قال : وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه يصومها عن الفرض
وجملة ذلك أن أيام التشريق منهي عن صيامهم أيضا لما روى نبيشة الهذلي قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز و جل ] متفق عليه وروي [ عن عبد الله بن حذافة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم أيام منى أنادي : أيها الناس إنها أيام أكل وشرب وبعال ] إلا أنه من رواية الواقدي وهو ضعيف وعن عمرو بن العاص أنه قال : هذا الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها قال مالك وهي أيام التشريق رواه أبو داود ولا يحل صيامها تطوعا في قول أكثر أهل العلم وعن ابن الزبير أنه كان يصومها وروي نحو ذلك عن ابن عمر والأسود بن يزيد وعن أبي طلحة أنه كان لا يفطر إلا يومي العيدين والظاهر أن هؤلاء لم يبلغهم نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيامها ولو بلغهم لم يعدوه إلى غيره وقد روى أبو مرة مولى أم هانئ أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاما فقال كل فقال إني صائم فقال عمرو : كل فهذه الأيام التي كان رسول الله يأمر بإفطارها وينهى عن صيامها والظاهر أن عبد الله بن عمرو أفطر لما بلغه نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما صومها للفرض روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن لم يجد الهد أي المتمتع إذا عدم الهدي وهو حديث صحيح رواه البخاري ويقاس عليه كل مفروض

المكروه صيامها
فصل : ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق ذلك صوما مثل من يصوم يوما ويفطر يوما فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال قيل لأبي عبد الله صيام يوم الجمعة فذكر حديث النهي أن يفرد ثم قال إلا أن يكون في صيام كان يصومه وأما أن يفرد فلا قال : قلت رجل كان يصوم يوما ويفطر يوما فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت فصام الجمعة مفردا فقال هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة وقال أبو حنيفة ومالك لا يكره افراد الجمعة لأنه يوم فأشبه سائر الأيام
ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يصومن أحكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده ] و [ قال محمد بن عباد سألت جابرا أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صوم يوم الجمعة ؟ قال : نعم ] متفق عليهما و [ عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال : اصمت أمس قالت : لا قال : اتريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا قال : فأفطري ] رواه البخاري وفيه أحاديث سوى هذه وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع وهذا الحديث يدل على أن المكروه أفراده لأن نهيه معلل بكونها لم تصم أمس ولا غدا
فصل : قال أصحابنا يكره افراد يوم السبت بالصوم لما روى عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وروي أيضا عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه ] أخرجه أبو داود وقال اسم اخت عبد الله ابن بسر هجيمة أو جهيمة قال الاثرم : قال أبو عبد الله أما صيام يوم السبت يفترد به فقد جاء فيه حديث الصماء وكان يحيى بن سعيد يتقيه أي أن يحدثني به وسمعته من أبي عاصم والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوما لإنسان لم يكره لما قدمناه وقال أصحابنا بالصيام دون غيرهما افراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم لأنهما يومان يعظمهما الكفارة فيكون تخصيهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمها فكره كيوم السبت وعلى قياس هذا كل عبد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم
فصل : ويكره إفراد رجب بالصوم قال أحمد وإن صامه رجل أفطر فيه يوما أو أياما بقدر ما لا يصومه كله ووجه ذلك ما روى أحمد بإسناده عن خرشة بن الحر قال : رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية وبإسناده عن ابن عمر أنه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال : صوموا منه وأفطروا وعن ابن عباس نحوه وبإسناده عن أبي بكرة أنه دخل على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان فقال ما هذا فقالوا رجب نصومه قال أجعلتم رجب رمضان فأكفأ السلال وكسر الكيزان قال أحمد : من كان يصوم السنة صامه وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ولا يشبه برمضان
فصل : وروى أبو قتادة قال : [ قيل يا رسول الله فكيف بمن صام الدهر ؟ قال : لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر ] قال الترمذي هذا حديث حسن وعن أبي موسى [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ] قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فسر مسدد قول أبي موسى من صام الدهر ضيقت عليه جهنم فلا يدخلها فضحك وقال من قال هذا ؟ فأين حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم كره ذلك وما فيه من الأحاديث ؟ قال أبو الخطاب إنما يكره إذا أدخل فيه يومي العيدين وأيام التشريق لأن أحمد قال إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق رجوت أن لا يكون بذلك بأس وروي نحو هذا عن مالك وهو الشافعي لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم منهم أبو طلحة قيل أنه صام بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم أربعين سنة والذي يقوى عندي أن صوم الدهر مكروه وإن لم يصم هذه الأيام فإن صامها فقد فعل محرما وإنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة والضعف وشبه التبتل المنهي عنه بدليل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعبد الله بن عمرو : إنك لتصوم الدهر تقوم الليل فقلت نعم قال إنك إذا فعلت ذلك هجمت له عينك ونقهت له النفس لا صام من صام الدهر صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله قلت فإني أطيق أكثر من ذلك قال : فصم صوم داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفرإذا لاقى ] وفي رواية [ وهو أفضل الصيام فقلت إني أطيق أفضل من ذلك قال : لا أفضل من ذلك ] رواه البخاري

إذا رؤي الهلال نهارا قبل الزوال
مسألة : قال : وإذا رؤي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة
وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد أن الهلال إذا رؤي نهارا قبل الزوال أو بعده وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود و ابن عمر و أنس و الأوزاعي و مالك و الليث و الشافعي و إسحاق و أبي حنيفة وقال الثوري وأبو يوسف أن رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ] وقد رأوه فيجب الصوم والفطر ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد
ولنا ما روى أبو وائل قال جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين أن لأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية ولأنه قول ابن مسعود وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم محمول على ما إذا رؤي عشية بدليل ما لو رؤي بعد الزوال ثم أن الخبر إنما يقضي الصوم والفطر من الغد بدليل ما لو رآه عشية فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا أنه لليلة المقبلة وهو قول مالك و أبي حنيفة و الشافعي وعن أحمد رواية أخرى انه للماضية فيلزم قضاء ذلك اليوم وامساك بقيته احتياطا للعبادة والأول أصح لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره فهو لها في أولها كما لو رؤي بعد العصر

السحور وصيام وما يستحب للصائم
مسألة : قال : والاختيار تأخير السحور وتعجيل الفطر
الكلام في هذه المسألة في فصلين
أحدهما في السحور : والكلام فيه في ثلاثة أشياء
أحدها : في استحبابه ولا نعلم فيه بين العلماء خلافا وقد روى أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال تسحروا فإن في السحور بركة ] متفق عليه وعن عمرو بن العاص قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكله السحر ] أخرجه مسلم و أبي داود و الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورو الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ]
الثاني في وقته : قال أحمد يعجبني تأخير السحور لما [ روى زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان قدر ذلك ؟ قال خمسين آية ] متفق عليه و [ روى العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السحور فقال : هلم إلى الغداء المبارك ] رواه أبو داود و النسائي سماه غداء لقرب وقته منه ولأن المقصود بالسحور التقوي على الصوم وما كان أقرب إلى الفجر كان أعون على الصوم قال أبو داود قال أبو عبد الله إذا شك في الفجر يأكل حتى يستيقن طلوعه وهذا قول ابن عباس و عطاء و الأوزاعي قال أحمد : يقول الله تعالى { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا يمنعكم من سحوركم آذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق ]
وقال الترمذي : هذا حديث حسن وروى أبو قلابة قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يستحر يا غلام أخف الباب لا يفجأنا الصبح وقال رجل لابن عباس إني اتسحر فإذا شككت امسكت فقال ابن عباس كل ما شككت حتى لا تشك فأما الجماع فلا يستحب تأخيره لأنه ليس مما يتقوى به وفيه خطر وجوب الكفارة وحصول الفطر به
الثالث : فيما يستحر به وكل ما حصل من أكل أو شرب حصل به فضيلة السحور [ لقوله عليه السلام : ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء ] وروى أبو هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نعم سحور المؤمن التمر ] رواه أبو داود
الفصل الثاني : في تعجيل الفطر وفيه أمور ثلاثة
احدها : في استحبابه وهو قول اكثر أهل العلم لما روى سهل بن سعد الساعدي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ] متفق عليه وعن أبي عطية قال دخلت أنا ومسروق على عائشة فقال مسروق رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم احدهما يعجل الإفطاء ويعجل المغرب والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر المغرب قالت : من الذي يعجل الإفطار ويعجل المغرب ؟ قال عبد الله قالت : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنع رواه مسلم وعن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله تعالى : أحب عبادي إلي أسرعهم فطرا ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب و [ قال أنس ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي حتى يفطر ولو على شربة من ماء ] رواه ابن عبد البر
الثاني فيما يفطر عليه : يستحب أن يفطر على رطبات فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن فعلى الماء لما روى أنس قال : [ كان رسول يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء ] رواه أبو داود و الاثرم و الترمذي وقال حديث حسن غريب وعن سليما بن عامر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على الماء فإنه طهور ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن صحيح
الثالث في الوصال : وهو أن لا يفطر بين اليومين بأكل ولا شرب وهو مكروه في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن الزبير أنه كان يواصل اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم
ولنا ما روى ابن عمر قال : [ واصل رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان فواصل الناس فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوصال فقالوا إنك تواصل قال : إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى ] متفق عليه وهذا يقتضي اختصاصه بذلك ومنع إلحاق غيره به وقوله : [ إني أطعم وأسقى ] يحتمل أنه يريد أنه يعان على الصيام ويغنيه الله تعالى عن الشراب والطعام بمنزلة من طعم وشرب ويحتمل أنه أراد إني أطعم حقيقة وأسقى حملا للفظ على حقيقته والأول أظهر لوجهين
أحدهما : أنه لو طعم وشرب حقيقة لم يكن مواصلا وقد أقرهم على قولهم إنك تواصل
والثاني : أنه قد روي أنه قال : [ إني أظل يطعمني ربي ويسقيني ] وهذا يقتضي أنه في النهار ولا يجوز الأكل في النهار له ولا لغيره إذا ثبت هذا فإن الوصال غير محرم وظاهر قول الشافعي أنه محرم تقريرا لظاهر النهي في التحريم
ولنا أنه ترك الأكل والشرب المباح فلم يكن محرما كما لو تركه في حال الفطر فإن قيل فصوم يوم العيد محرم مع كونه تركا للأكل والشرب المباح قلنا ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه وإنما حرم بنية الصوم ولهذا لو تركه من غير نية الصوم لم يكن محرما وأما النهي فإنما أتى به رحمة لهم ورفقا بهم لما فيه من المشقة عليهم كما نهى عبد الله بن عمرو عن صيام النهار وقيام الليل وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث قال عائشة : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوصال رحمة لهم وهذا لا يقتضي التحريم ولهذا لم يفهم منه أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم التحريم بدليل أنهم واصلوا بعده ولو فهموا منه التحريم لما استجازوا فعله قال أبو هريرة : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوصال فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم يوما ويوما ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر لزدتكم ] كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا متفق عليه فإن واصل من سحر إلى سحر جاز لما روى أبو سعيد أنه [ سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ] أخرجه البخاري وتعجيل الفطر أفضل لما قدمناه
فصل : ويستحب تفطير الصائم لما روى زيد بن خال الجهني [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من فطر صائما كان له أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
فصل : روى ابن عباس قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أفطر قال : اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ] وعن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أفطر يقول : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ] وإسناده حسن ذكرهما الدارقطني

ما يستحب صومه من الأيام
مسألة : قال : ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال وإن فرقها فكأنما صام الدهر
وجملة ذلك أن صوم ستة أيام من شوال مستحب عند كثير من أهل العلم روي ذلك عن كعب الأحبار والشعبي بن مهران وبه قال الشافعي وكرهه مالك وقال ما رأيت أحدا من أهل الفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وإن يلحق برمضان ما ليس منه
ولنا ما روى أبو أيوب قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن وقال أحمد : هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه و سلم وروي سعيد بإسناده عن ثوبان قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من صام رمضان شهر بعشرة أشهر وصام ستة أيام بعد الفطر وذلك تمام سنة ] يعني أن الحسنة بعشر أمثالها فالشهر بعشرة والستة بستين يوما فذلك اثنا عشر شهرا وهو سنة كاملة ولا يجري هذا مجرى التقديم لرمضان لأن يوم الفطر فاصل فإن قيل فلا دليل في هذا الضعف والتشبيه بالتبتل لولا ذلك لكان ذلك فضلا عظيما لاستغراقه الزمان بالعبادة والطاعة والمراد بالخبر التشبيه به في حصول العبادة به على وجه عري عن المشقة كما قال عليه السلام : [ من صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن صام الدهر ] ذكر ذلك حثا على صيامها وبيان فضلها ولا خلاف في استحبابها ونهى عبد الله ابن عمرو عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث وقال : من قرأ { قل هو الله أحد } فكأنما قرأ ثلث القرآن أراد التشبيه بثلث القرآن في الفضل لا في كراهة الزيادة عليه إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونها متتابعة أو مفرقة في أول الشهر أو في آخره لأن الحديث ورد بها مطلقا من غير تقييد فضيلتها لكونها تصير مع الشهر ستة وثلاثين يوما والحسنة بعشر أمثالها فيكون ذلك كثلاثمائة وستين يوما وهو السنة كلها فإذا وجد ذلك في كل سنة صار كصيام الدهر كله وهذا المعنى يحصل مع التفريق والله أعلم
مسألة : قال : وصيام عاشوراء كفارة سنة ويوم عرفة كفارة سنتين
وجملته أن صيام هذين اليومين مستحب لما روى أبو قتادة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : صيام عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ] وقال في صيام عاشوراء : [ إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ] أخرجه مسلم إذا ثبت هذا فإن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وهذا قول سعيد ابن المسيب والحسن لما روى ابن عباس قال : [ أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم ] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي عن ابن عباس أنه قال : التاسع وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم التاسع ] أخرجه مسلم بمعناه وروى عنه عطاء أنه قال صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود إذا ثبت هذا فإنه يستحب صوم التاسع والعاشر لذلك نص عليه أحمد وهو قول إسحاق قال أحمد : فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر
فصل : واختلف في صوم عاشوراء هل كان واجبا فذهب القاضي إلى أنه لم يكن واجبا وقال هذا قياس المذهب واستدل بشيئين
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من لم يأكل بالصوم والنية في الليل شرط في الواجب
والثاني : أنه لم يأمر من أكل بالقضاء ويشهد لهذا ما روى معاوية قال [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر ] وهو حديث صحيح وروي عن أحمد أنه كان مفروضا لما [ روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم صامه وأمر بصيامه فلما افترض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه ] وهو حديث صحيح وحديث معاوية محمول على أنه أراد ليس هو مكتوبا عليكم الآن وأما تصحيحه بنية من النهار وترك الأمر بقضائه فيحتمل أن نقول من لم يدرك اليوم بكماله لم يلزمه قضاؤه كما قلنا فيمن أسلم وبلغ في أثناء يوم من رمضان على أنه قد روى أبو داود [ أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : صمتم يومكم هذا ؟ قالوا : لا قال : فأتموا بقية يومكم واقضوه ]
فصل : فأما يوم عرفة فهو اليوم التاسع من ذي الحجة سمي بذلك لأن الوقوف بعرفة فيه وقيل سمي يوم عرفة لأن إبراهيم عليه السلام أري في المنام ليلة التروية أنه يؤمر بذبح ابنه فأصبح يومه يتروى هل هذا من الله أو حلم فسمي يوم التروية فلما كانت الليلة الثانية رآه أيضا فأصبح يوم عرفة فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة وهو يوم شريف عظيم وعيد كريم وفضلة كبير وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن صيامه يكفر سنتين
فصل : وأيام عشر ذي الحجة كلها شريفة مفضلة يضاعف العمل فيها ويستحب الاجتهاد في العبادة فيها لما روى ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ] وهو حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أيام أحب إلى الله عز و جل أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر ] وهذا حديث غريب أخرجه الترمذي وروى أبو داود بإسناده عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء ]
مسألة : قال : ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم ليتقوى على الدعاء
أكثر أهل العلم يستحبون الفطر يوم عرفة بعرفة وكانت عائشة وابن الزبير يصومانه وقال قتادة : لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء وقال عطاء أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف لأن كراهة صومه إنما هي معللة بالضعف عن الدعاء فإذا قوي عليه أو كان في الشتاء لم يضعف فتزول الكراهة
ولنا ما روى [ عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفات فشربه النبي صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه و [ قال ابن عمر حججت مع النبي صلى الله عليه و سلم فلم يصمه يعني يوم عرفة ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم المعظم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه به فكان تركه أفضل
فصل : روي عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن
وأفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما لما [ روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام فقلت إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا أفضل من ذلك ] متفق عليه
فصل : وروى أبو داود بإسناده [ عن اسامة بن زيد أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كان يصوم يوم الاثنين والخميس فسئل عن ذلك فقال : إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس ]

أيام البيض
مسألة : قال : وأيام البيض التي حض رسول الله صلى الله عليه و سلم على صيامها هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر
وجملة ذلك أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب لا نعلم فيه خلافا وقد روى أبو هريرة قال : أوصاني خليلي بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وإن أوتر قبل أن أنام و [ عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر ] متفق عليهما ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما [ روى أبو ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر إذا صمت من الشهر فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن
وروى النسائي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأعرابي : كل قال إني صائم قال : صوم ماذا ؟ قال : صوم ثلاثة أيام من الشهر قال : إن كنت صائما فعليك بالغر البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ] وعن ملحان القيسي قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس وعشرة وقال هو كهيئة الدهر ] أخرجه أبو داود وسميت أيام البيض لابيضاض ليلها كله بالقمر والتقدير أيام الليالي البيض وقيل إن الله تاب على آدم فيه وبيض صحفيته ذكره أبو الحسن التميمي

على الصائم حفظ لسانه وتنزيه صومه عن الكذب والغيبة
فصل : ويجب على الصائم أن ينزه صومه عن الكذب والغيبة والشتم قال أحمد : ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا نحفظ صومنا ولا يغتاب أحدا ولا يعمل عملا يجرح به صومه و [ قال رسول الله صلى عليه وسلم من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ] وقال أبو هريرة [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه ] متفق عليهما

ليلة القدر وفضلها وقتها وما كان يفعله رسول الله في العشر الأخير
فصل : ليلة القدر وهي ليلة شريفة مباركة معظمة مفضلة قال الله تعالى { ليلة القدر خير من ألف شهر } قيل معناه العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها القدر و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] متفق عليه وقيل إنما سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من خير ومصيبة وزرق وبركة يروى ذلك عن ابن عباس قال الله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } وسماها مباركة فقال تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين } وهي ليلة القدر بدليل قوله سبحانه : إنا أنزلناه في ليلة القدر وقال تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } يروى أن جبريل نزل به من بيت العزة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل به على النبي صلى الله عليه و سلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة وهي باقية لم ترفع لما [ روى أبو ذر قال : قلت يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء أو هي باقية إلى يوم القيامة ؟ قال : باقية إلى يوم القيامة قلت في رمضان أو في غيره ؟ قال : في رمضان فقلت في العشر الأول أو الثاني أو الآخر ؟ فقال : في العشر الآخر ] واكثر أهل العلم على أنها في رمضان وكان ابن مسعود يقول من يقم الحول يصبها يشير إلى أنها في السنة كلها وفي كتاب الله تعالى ما يبين أنها في رمضان لأن الله أخبر أنه أنزل القرآن في ليلة القدر وأنه أنزله في رمضان فيجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يتناقض الخبران ولأن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر أنها في رمضان في حديث أبي ذر وقال [ التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر ] متفق عليه وقال أبو كعب : والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي رمضان وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه آكد وقال أحمد هي في العشر الأواخر في وتر من الليالي لا يخطئ إن شاء الله كذا روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو سبع بقين أو تسع بقين ] وروى سالم عن أبيه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر ] متفق عليه وقالت عائشة : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر ] متفق عليه وقالت كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها وقال علي رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر ] وقالت عائشة : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاوز في العشر الأواخر من رمضان ] وفي لفظ للبخاري : [ تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان ] وكل هذه الأحاديث صحيحة
فصل : واختلف أهل العلم في ارجى هذه الليالي فقال أبي بن كعب وعبد الله بن عباس هي ليلة سبع وعشرين قال زر بن حبيش قلت لأبي بن كعب : أما علمت أبا المنذر أنها ليلة سبع وعشرين ؟ قال : بلى أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع فعددنا وحفظنا والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه كره أن يخبركم فتتكلوا قال الترمذي : هذا حديث صحيح وروى أبو ذر في حديث فيه طول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقم في رمضان حتى بقي سبع فقام بهم حتى مضى نحو من ثلث الليل ثم قام بهم في ليلة خمس وعشرين حتى مضى من شطر الليل حتى كانت ليلة سبع وعشرين فجمع نساءه وأهله واجتمع الناس قال فقام بهم حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح يعني السحور ] متفق عليه وحكي عن ابن عباس أنه قال سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرون منها : هي وروى أبو داود بإسناده عن معاوية عن النبي صلى الله عليه و سلم في ليلة القدر قال ليلة سبع وعشرين وقيل آكدها ليلة ثلاث وعشرين لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن عبد الله بن أنس سأله فقال [ يا رسول الله إني أكون ببادية يقال لها الوطاة وإني بحمد الله أصلي بهم فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها في المسجد فأصليها فيه فقال : انزل ليلة ثلاثة وعشرين فصليها فيه وإن أحببت أن تستتم آخر هذا الشره فافعل وإن أحببت فكف ] فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا في حاجة حتى يصلي الصبح فإذا صلى الصبح كانت دابته ببات المسجد رواه أبو داود مختصرا وقيل آكدها ليلة أربع وعشرين لأنه روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ليلة القدر أول ليلة من السبع الأواخر ] وروي عن بعض الصحابة أنه قال لم نكن نعد عددكم هذا وإنما كما نعد من آخر الشهر يعني أن السابعة والعشرين هي أول ليلة من السبع الأواخر وروى أبو ذر قال : [ صمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم شهر رمضان فلم يقم بنا حتى كانت ليلة سبع بقيت فقام بنا نحوا من ثلث الليل ثم لم يقم ليلة ست فلما كانت ليلة خمس قام بنا النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من نصف الليل فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة فقال : الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة فلما كانت ليلة ثلاث قام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح فقلت وما الفلاح ؟ قال السحور وأيقظ في تلك الليلة أهله ونساءه وبناته ] رواه سعيد وقيل آكدا ليلة إحدى وعشرين لما روى أبو سعيد [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أريت ليلة القدر ثم انسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر وإني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال : فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الماء والطين على جبهته ] وفي حديث في صبيحة إحدى وعشرين متفق عليه قال الترمذي : قد روي أنها ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ليلة خمس وعشرين وليلة سبعة وعشرين وليلة تسع وعشرين وآخر ليلة وقال أبو قلابة إنها تنتقل في ليالي العشر قال الشافعي : كان هذا عندي والله أعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجب على نحو ما يسأل فعلى هذا كانت في السنة التي رأى أبو سعيد النبي صلى الله عليه و سلم يسجد في الماء والطين إحدى وعشرين وفي السنة التي أمر عبد الله بن أنيس ليلة ثلاث وعشرين وفي السنة التي رأى أبي ابن كعب علامتها ليلة سبع وعشرين وقد ترى علامتها في غير هذه الليالي قال بعض أهل العلم أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة في الشهر كله طمعا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في ويم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كله واخفى اسمه الأعظم في الأسماء ورضاه في الطاعات ليجتهدوا في جميعها وأخفى الأجل وقيام الساعة ليجد الناس في العمل حذرا منها
فصل : فأما علامتها فالمشهور فيها ما ذكره أبي كعب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الشمس تطلع من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها ] وفي بعض الأحاديث بيضاء مثل الطست وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : بلجة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها ]
فصل : ويستحب أن يجتهد فيها في الدعاء فيها بما روي [ عن عائشة أنها قالت يا رسول إن وافقتها بم أدعو قال : قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ]

كتاب الاعتكاف
الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره ومنه قوله تعالى { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } وقال : { يعكفون على أصنام لهم } قال الخليل : عكف يعكف ويعكف وهو في الشرع الإقامة في المسجد على صفة نذكرها وهو قربة وطاعة قال الله تعالى { وطهر بيتي للطائفين والقائمين } وقال : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقالت عائشة كان النبي صلى الله عليه و سلم يعتكف العشر الأواخر متفق عليه وروى ابن ماجه في سننه عن ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في المعتكف : هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها ] وهذا الحديث ضعيف وفي إسناده فرقد السنجي قال أبو داود قلت لأحمد رحمه الله تعرف في فضل الاعتكاف شيئا ؟ قال : لا إلا شيئا ضعيفا ولا نعلم العلماء خلافا في أنه مسنون

حكم الاعتكاف
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : والاعتكاف سنة إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به
لا خلاف في هذه الجملة بحمد الله قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه ومما يدل على أنه سنة فعل النبي صلى الله عليه و سلم ومداومته عليه تقريبا إلى الله تعالى وطلبا لثوابه واعتكاف أزواجه معه وبعده ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم به إلا من أراده و [ قال عليه السلام : من أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر ] ولو كان واجبا لما علقه بالإرادة وأما إذا نذره فيلزمه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] رواه البخاري و [ عن عمر أنه قال يا رسول الله إني نذرت أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه و سلم أوف بنذرك ] رواه البخاري و مسلم
فصل : وإن نوى اعتكاف مدة لم تلزمه فإن شرع فيها فله اتمامها وله الخروج منها متى شاء وبهذا قال الشافعي وقال مالك تلزمه بالنية مع الدخول فيه فإن قطعه لزمه قضاؤه وقال ابن عبد البر لا يختلف في ذلك الفقهاء ويلزمه القضاء عند جميع العلماء قال وإن لم يدخل فيه فالقضاء مستحب ومن العلماء من أوجبه وأن لم يدخل فيه واحتج بما روي [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته عائشة فأذن لها فأمرت ببنائها فضرب وسألت حفصة أن يستأذن لها رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعلت فأمرت ببنائها فضرب فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببنائها فضرب قالت وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلى الصبح دخل معتكفه فلما صلى الصبح انصرف فبصر بالأبنية فقال : ما هذا ؟ فقالوا بناء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول صلى الله عليه و سلم : البرأردتن ؟ ما أنا بمعتكف فرجع فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال ] متفق عليه معناه ولأنه عبادة تتعلق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها كالحج ولم يصنع ابن عبد البر شيئا وهذا ليس بإجماع ولا نعرف هذا القول عن أحد سواه وقد قال الشافعي : كل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة ولم يقع بالإجماع لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج والعمرة ولم يقع الإجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج والعمرة وإذا كانت العبادات التي لها أصل في الوجوب أولى وقد انعقد الإجماع على أن الانسان لو نوى الصدقة بمال مقدر وشرع في الصدقة به فأخرج بعضه لم تلزمه الصدقة بباقية وهو نظير الاعتكاف لأنه غير مقدر بالشرع فأشبه الصدقة وما ذكره حجة عليه فإن النبي صلى الله عليه و سلم ترك الاعتكاف ولو كان واجبا لما تركه وأزواجه تركن الاعتكاف بعد نيته وضرب أبنيتهن له ولم يوجد عذر يمنع فعل الواجب ولا أمرن بالقضاء وقضاء النبي صلى الله عليه و سلم هل لم يكن واجبا عليه وإنما فعله تطوعا لأنه كان إذا عمل عملا أثبته وكان فعله لقضائه كفعله لأدائه على سبيل التطوع به لا على سبيل الإيجاب كما قضى السنة التي فاتته بعد الظهر وقبل الفجر فتركه له دليل على عدم الوجوب لتحريم ترك الواجب وفعله للقضاء لا يدل على الوجوب لأن قضاء السنن مشروع فإن قيل إنما جاز تركه ولم يؤمر تاركه من النساء بقضائه لتركهن إياه قبل الشروع قلنا فقد سقط الاحتجاج لاتفاقنا على أنه لا يلزم قبل شروعه فيه فلم يكن القضاء دليلا على الوجوب مع الاتفاق على انتفائه ولا يصح قياسه على الحج والعمرة لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظمى ومشقة شديدة وإنفاق مال كثير ففي إبطالهما تضييع لما له وإبطال لأعماله الكثيرة وقد نهينا عن إضاعة المال وإبطال الأعمال وليس في ترك الاعتكاف بعد الشروع فيه مال يضيع ولا عمل يبطل فإن ما مضى من اعتكافه لا يبطل بترك اعتكاف المستقبل ولأن النسك يتعلق بالمسجد الحرام على الخصوص والاعتكاف بخلافه

الصوم في الاعتكاف
مسألة : قال : ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم
المشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم روي ذلك عن علي وابن مسعود و سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز و الحسن و عطاء و طاوس و الشافعي و إسحاق وعن أحمد رواية أخرى أن الصوم شرط في الاعتكاف قال إذا اعتكف يجب عليه الصوم وروي عن عائشة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا اعتكاف إلا بصوم ] رواه الدارقطني وعن ابن عمر [ أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : اعتكف وصم ] رواه أبو داود ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة كالوقوف ولنا ما روى ابن عمر [ عن عمر أنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أوف بنذرك ] رواه البخاري ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصيام كالصلاة ولأنه عبادة تصح في الليل فأشبه سائر العبادات ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع قال سعيد : حدثنا عبد العزيز بن محمد بن أبي سهل قال كان على امرأة من أهلي اعتكاف فسألت عمر بن عبد العزيز فقال ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها فقال الزهري : لا اعتكاف إلا بصوم فقال له عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : لا قال فعن أبي بكر ؟ قال : لا قال فعن عمر ؟ قال : لا قال وأظنه قال فعن عثمان ؟ قال : لا خرجت من عنده فلقيت عطاء وطاوسا فسألتهما فقال طاوس : كان فلان لا يرى عليها صياما إلا أن تجعله على نفسها وأحاديثهم لا تصح أما حديثهم عن عمر فتفرد به ابن بديل وهو ضعيف قال أبو بكر النيسابوري هذا حديث منكر والصحيح ما رويناه أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما وحديث عائشة موقوف عليها ومن رفعه فقد وهم ولو صح فالمراد به الاستحباب فإن الصوم فيه أفضل وقياسهم ينقلب عليهم فإنه لبث في مكان مخصوص فلم يشترط له الصوم كالوقوف ثم نقول بموجبه فإنه لا يكون قربة بمجرده بل بالنية إذا ثبت هذا فإنه يستحب أن يصوم لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف وهو صائم ولأن المعتكف يستحب له التشاغل بالعبادات والقرب والصوم من أفضلها ويتفرغ به مما يشغله عن العبادات ويخرج به من الخلاف
فصل : إذا قلنا إن الصوم شرط لم يصح اعتكاف ليلة مفردة ولا بعض يوم ولا ليلة وبعض يوم لأن الصوم المشترط لا يصح في أقل من يوم يحتمل أن يصح في بعض اليوم إذا صام اليوم كله لأن الصوم المشروط وجد في زمن الاعتكاف ولا يعتبر وجود المشروط في زمن الشرط كله

مكان الاعتكاف
مسألة : قال : ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه
يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك لأن الجماعة واجبة واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين إما ترك الجماعة الواجبة وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا والأصل في ذلك قول الله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فخصها بذلك فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها فإن المباشرة محرمة في الاعتكاف مطلقا وفي حديث عائشة قالت : [ إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا ] وروى الدارقطني بإسناده عن الزهري عن عروة وسعيد بن المسيب عن عائشة في حديث وإن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الانسان ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة فذهب أبو عبد الله إلى أن كل مسجد تقام فيه الجماعة يجوز الاعتكاف فيه ولا يجوزه في غيره وروي عن حذيفة وعائشة والزهري ما يدل على هذا واعتكف أبو قلابة وسعيد بن جبير في مسجد حيهما وروي عائشة والزهري أنه لا يصح إلا في مساجد الجماعات وهو قول الشافعي إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة لئلا يلتزم الخروج من معتكه لما يمكنه التحرز من الخروج إليه وروي عن حذيفة وسعيد بن المسيب لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد نبي وحكي عن حذيفة أن الاعتكاف لا يصح إلا في أحد المساجد الثلاثة قال سعيد : حدثنا مغيرة عن إبراهيم قال : دخل حذيفة مسجد الكوفة فإذا هو بأبنية مضروبة فسأل عنه فقيل قوم معتكفون فانطلق إلى ابن مسعود فقال : ألا تعجب من قوم يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الأشعري ؟ فقال عبد الله : فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت فقال حذيفة : لقد علمت ما الاعتكاف إلا في ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال مالك : يصح الاعتكاف في كل مسجد لعموم قوله تعالى : وأنتم عاكفون في المسجد وهو قول الشافعي : إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جخعة
ولنا قول عائشة : من السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة وقد قيل ن هذا من قول الزهري ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم كيفما كان وروى سعيد حدثنا هشيم أنبأنا جرير عن الضحاك عن حذيفة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل مسجد له إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح ] ولأن قوله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } يقتضي إباحة الاعتكاف في كل مسجد إلا أنه يقيد بما تقام فيه الجماعة بالأخبار والمعنى الذي ذكرناه ففيما عداه يبقى على العموم وقول الشافعي في اشتراطه موضعا تقام فيه الجمعة لا يصح للأخبار ولأن الجمعة لا تكرر فلا يضر وجوب الخروج إليها كما لو اعتكفت المرأة مدة يتخللها أيام حيضها ولو كان الجامع تقام فيه الجمعة وحدها ولا يصلى فيه غيرها لم يجز الاعتكاف فيه ويصح عند مالك والشافعي ومبنى الخلاف على أن الجماعة واجبة عندنا فيلتزم الخروج من معتكفه إلهيا فيفسد اعتكافه وعندهم ليست واجبة
فصل : وإن كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة أو بعض يوم جاز في كل مسجد لعدم المانع وإن كانت تقام فيه بعض الزمان جاز الاعتكاف فيه في ذلك الزمان دون غيره وإن كان المعتكف ممن لا تلزمه الجماعة كالمريض والمعذور ومن هو في قرية لا يصلي فيها سواه جاز اعتكافه في كل مسجد لأنه لا تلزمه الجماعة فأشبه المرأة وإن اعتكف اثنان في مسجد لا تقام فيه جماعة فأقاما الجماعة فيه صح اعتكافهما لأنهما أقاما الجماعة فأشبه ما لو أقامها فيه غيرهما

اعتكاف المرأة والمريض
فصل : وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها وبهذا قال الشافعي : وليس لها الاعتكاف في بيتها وقال أبو حنيفة و الثوري : لها الاعتكاف في مسجد بيتها وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكي عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية زواجه فيه وقال : البر تردن ؟ ] ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها فكن موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل
ولنا قوله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ جعلت لي الأرض مسجدا ] ولأن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم استأذنه في الاعتكاف في المسجد فإذن لهن ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه ولو كان الاعتكاف فلي غيره أفضل لدهن عليه ونبههن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرت ابنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن وسوء المقصد به ولذلك قال : [ البر تردن ] منكرا لذلك أي لم تفعلن ذلك تبررا ولذلك ترك الاعتكاف لظنه أنه تتنافس في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن ولم يأذن لهن في المسجد وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه
فصل : ومن سقطت عنه الجماعة من الرجال كالمريض إذا أحب أن يعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة ينبغي أن يجوز له ذلك لأن الجماعة ساقطة عنه فأشبه المرأة ويحتمل أن لا يجوز له ذلك لأنه من أهل الجماعة فأشبه من تجب عليه ولأنه إذا التزم الاعتكاف وكلفه نفسه فينبغي أن يجعله في مكان تصلى فيه الجماعة ولأن من التزم ما لا يلزمه لا يصح بدون شروطه كالمتطوع بالصوم والصلاة
فصل : وإذا اعتكفت المرأة في المسجد لها أن تستتر بشيء لأن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لما أردن الاعتكاف أمرن بأبنيتهن فضربن في المسجد ولأن المسجد يحضره الرجال وخير لهم وللنساء أن لا يرونهن ولا يرينهم وإذا ضربت بناء جعلته في مكان لا يصلي فيه الرجال لئلا تقطع صفوفهم ويضيق عليهم ولا بأس أن يستتر الرجل أيضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر ببنائه فضرب ولأنه أستر له وأخفى لعمله وروى ابن ماجة عن أبي سعيد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتكف في قبة تركية على سدتها قطعة حصير قال فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة ثم أطلع رأسه فكلم الناس ] والله أعلم

خروج المعتكف وما يحرم وفساد الاعتكاف وما يمتنع على المعتكف
مسألة : قال : ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان أو صلاة الجمعة
وجملة ذلك أن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لا بد له منه قالت عائشة رضي الله عنها : السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد له منه رواه أبو داود وقالت أيضا : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ] متفق عليه ولا خلاف في أن له الخروج لما لا بد له منه قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ولأن هذا مما لا بد منه ولا يمكن فعله في المسجد فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه لم يصح لأحد الاعتكاف ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط وكنى بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه وإن بغته القيء أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل ما لا بد له منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ولا يفسد اعتكافه وهو عليه ما لم يبطل وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة ويلزمه السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يعتكف في غير الجامع إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة فإن نذر اعتكافا متتابعا فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه وعليه الاستئناف لأنه أمكنه فرضه بحيث لا يخرج منه فبطل بالخروج كالمكفر إذا ابتدأ صوم الشهرين المتتابعين في شعبان أو ذي الحجة
ولنا أنه خرج لواجب فلم يبطل كالمعتدة تخرج لقضاء العدة وكالخارج لانقاذ غريق أو إطفاء حريق أو أداء شهادة تعينت عليه ولأنه إذا نذر أياما فيها جمعة فكأنه استثنى الجمعة بلفظه ثم تبطل بما إذا نذرت المرأة أياما فيها عادة حيضها فإنه يصح مع إمكان فرضها في غيرها والأصل غير مسلم إذا ثبت هذا فإنه إذا خرج لواجب فهو على اعتكافه ما لم يطل لأنه خروج لما لا بد له منه أشبه الخروج لحاجة الإنسان فإن كان خروجه لصلاة الجمعة فله أن يتعجل قال أحمد : أرجو أن له ذلك لأنه خروج جائز فجاز تعجيله كالخروج لحاجة الإنسان وإذا صلى الجمعة فإن أحب أن يعتكف في الجامع فله ذلك لأنه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين للاعتكاف بنذره وتعيينه فمع عدم ذلك أولى وكذلك إن دخل في طريقه مسجدا فأتم اعتكافه فيه جاز لذلك وإن أحب الرجوع إلى معتكفه فله ذلك لأنه خرج من معتكفه فكان له الرجوع إليه كما لو خرج إلى غير الجمعة قال بعض أصحابنا : يستحب له الإسراع إلى معتكفه وقال أبو داود : قلت لأحمد يركع أعني المعتكف يوم الجمعة بعد الصلاة في المسجد ؟ قال : نعم بقدر ما كان يركع ويحتمل أن يكون الخيرة إليه في تعجيل الرجوع وتأخيره لأنه في مكان يصلح للاعتكاف فأشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه فأما إن خرج ابتداء إلى مسجد آخر أول إلى الجامع من غير حاجة أو كان المسجد أبعد من موضع حاجته فمضى إليه لم يجز له ذلك لأنه خروج لغير حاجة أشبه ما لو خرج إلى غير المسجد فإن كان المسجدان متلاصقين يخرج من أحدهما فيصير في الآخر فله الانتقال من أحدهما إلى الآخر لأنهما واحد ينتقل من إحدى زاويته إلى الأخرى وإن كان يمشي بينهما في غيرهما لم يجز له الخروج وإن قرب لأنه خروج من المسجد لغير حاجة واجبة
فصل : وإذا خرج لما لا بد منه فليس عليه أن يستعجل في مشيه بل يمشي على عادته لأن عليه مشقة في إلزامه غير ذلك وليس له الإقامة بعد قضاء حاجته لأكل ولا لغيره وقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يأكل اليسير في بيته كاللقمة واللقمتين فأما جميع أكله فلا وقال القاضي : يتوجه أن له الأكل في بيته والخروج إليه ابتداء لأن الأكل في المسجد دناءة وترك للمروءة وقد يخفي جنس قوته عن الناس وقد يكون في المسجد غيره فيستحي أن الأكل دونه وإن أطعمه معه لم يكفهما
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يدخل البيت إلى لحاجة الإنسان وهذا كناية عن الحدث ولأنه خروج لما له منه بد أو لبث في غير معتكفه لما له منه بد فأبطل الاعتكاف كمحادثة أهله وما ذكره القاضي ليس بعذر يبيح الإقامة ولا الخروج ولو ساغ ذلك ساغ الخروج للنوم وأشباهه
فصل : وإن خرج لحاجة الإنسان وبقرب المسجد سقاية أقرب من منزله لا يحتشم من دخولها ويمكنه التنظيف فيها لم يكن له المضي إلى منزله لأن له من ذلك بد وإن كان يحتشم من دخولها أو فيه نقيصة عليه أو مخالفة لعادته أو لا يمكنه التنظيف فيها فله من الآخر يمكنه الوضوء في الأقرب بلا ضرر فليس له المضي إلى الأبعد وإن بذل له صديقه أو غيره الوضوء في منزله القريب لم يلزمه لما عليه من المشقة بترك المروءة والاحتشام من صاحبه قال المروذي : سألت أبا عبد اله عن الاعتكاف في المسجد الكبير أعجبت إليك أو مسجد الحي قال : المسجد الكبير وأرخص لي أن أعتكف في غيره قلت : فأين ترى أن أعتكف في هذا الجانب أو في ذاك الجانب ؟ قال : في ذاك الجانب هو أصلح من أجل السقاية قلت : فمن اعتكف في هذا الجانب ترى أن يخرج إلى الشط يتهيأ ؟ قال : إذا كان له حاجة لا بد له من ذلك قلت : يتوضأ الرجل في المسجد ؟ قال : لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد
فصل : إذا خرج لما له منه بد بطل اعتكافه وإن قل وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم لأن اليسير معفو عنه بدليل أن صفية أتت النبي صلى الله عليه و سلم تزوره في معتكفه فلما قامت لتنقلب خرج معها ليقلها ولأن اليسير معفو عنه بدليل ما لو تأنى في مشيه
ولنا أنه خروج من معتكفه لغير حاجة فأبطله كما لو أقام أكثر من نصف يوم أما خروج النبي صلى الله عليه و سلم فيحتمل أنه لم يكن له بد لأنه كان ليلا فلم يأمن عليها ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعا له ترك جميعه فكان له ترك بعضه ولذلك تركه لما أراد نساؤه الاعتكاف معه وأما المشي فتختلف فيه طباع الناس وعليه في تغيير مشيه مشقة ولا كذلك هاهنا فإنه لا حاجة به إلى الخروج
مسألة : قال : ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة إلا أن يشترط ذلك
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
أحدهما : في الخروج لعيادة المريض وشهود الجنازة مع عدم الاشتراط واختلفت الرواية عن أحمد في ذلك فروي عنه ليس له فعله وهو قول عطاء و عروة و مجاهد و الزهري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وروى عنه الاثرم و محمد بن الحكم أن له أن يعود المريض ويشهد الجنازة ويعود إلى معتكفه وهو قول علي رضي الله عنه به قال سعيد بن جبير و النخعي و الحسن لما روى عاصم بن ضمرة عن علي قال : إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليحضر الجنازة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم رواه الإمام أحمد و الاثرم وقال أحمد : عاصم بن ضمرة عندي حجة قال أحمد : يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه وجه الأول ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ] متفق عليه وعنها رضي الله عنها أنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه وعنها قالت : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه ] رواهما أبو داود ولأن هذا ليس بواجب فلا يجوز ترك الاعتكاف الواجب من أجله كالمشي مع أخيه في حاجة ليقضيها له وإن تعينت عليه صلاة الجنازة وأمكنه فعلها في المسجد لم يجز الخروج إليها فإن لم يمكنه ذلك فله الخروج إليها وإن تعين عليه دفن الميت أو تغسيله جاز أن يخرج له لأن هذا واجب متعين فيقدم على الاعتكاف كصلاة الجمعة فأما إن كان الاعتكاف تطوعا وأحب الخروج منه لعيادة مريض أو شهود جنازة جاز لأن كل واحد منهما تطوع فلا يتحتم واحد منهما لكن الأفضل المقام على اعتكافه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يعرج على المريض ولم يكن واجبا عليه فأما إن خرج لما لا بد منه فسأل عن المريض في طريقه ولم يعرج جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك
الفصل الثاني : إذا اشتراط فعل ذلك في اعتكافه فله فعله واجبا كان الاعتكاف أو غير واجب وكذلك ما كان قربة كزيارة أهله أو رجل صالح أو عالم أو شهود جنازة وكذلك ما كان مباحا مما يحتاج إليه كالعشاء في منزله والمبيت فيه فله فعله قال الاثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن المعتكف يشترط أن يأكل في أهله فقال : إذا اشترط فنعم قيل له : وتجيز الشرط في الاعتكاف ؟ قال : نعم قلت له : فيبيت في أهله ؟ قال : إذا كان تطوعا جاز وممن أجاز أن يشترط العشاء في أهله الحسن و العلاء بن زياد و النخعي و قتادة ومنع منه أبو مجلز و مالك و الأوزاعي قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط
ولنا أنه يجب بعقده فكان الشرط إليه فيه كالوقف ولأن الاعتكاف لا يختص بقدر فإذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه وإن قال : متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت جاز شرطه
فصل : وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد لم يجز لأن الله تعالى قال : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فاشتراط ذلك اشتراط لمعصية الله تعالى والصناعة في المسجد منهي عنها في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف أولى وسائر ما ذكرناه يشبه ذلك ولا حاجة إليه فإن احتاج إليه فلا يعتكف لأن ترك الاعتكاف أولى من فعل المنهي عنه قال أبو طالب : سألت أحمد عن المعتكف يعمل عمله من الخياط وغيره قال : ما يعجبني أن يعمل قلت : إن كن يحتاج قال : إن كان يحتاج لا يعتكف
فصل : إذا خرج لما له منه بد عامدا بطل اعتكافه إلا أن يكون اشترط وإن خرج ناسيا فقال القاضي : لا يفسد اعتكافه لأنه فعل المنهي عنه ناسيا فلم تفسد العبادة كالأكل في الصوم وقال ابن عقيل : يفسد لأنه ترك للاعتكاف وهو لزوم للمسجد وترك الشيء عمده وسهوه سواء كترك النية في الصوم فإن أخرج بعض جسده لم يفسد إعتكافه عمدا كان أو سهوا ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله وهي حائض ] متفق عليه
فصل : ويجوز للمعتكف صعود سطح المسجد لأنه من جملته ولهذا يمنع الجنب من البث فيه وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا ويجوز أن يبيت فيه وظاهر كلام الخرقي أن رحبة المسجد ليست منه وليس للمعتكف الخروج إليها لقوله في الحائض : يضرب لها خباء في الرحبة والحائض ممنوعة من المسجد وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا وروى عنه المروذي أن المعتكف يخرج إلى رحبة المسجد هي من المسجد قال القاضي : إن كان عليها حائط وباب فهي كالمسجد لأنها معه وتابعة له وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكم المسجد فكأنه جميع بين الروايتين وحملهما على اختلاف الحالين فإن خرج إلى منارة خارج المسجد للأذان بطل اعتكافه قال أبو الخطاب : ويحتمل أن لا يبطل لأن منارة المسجد كالمتصلة به
مسألة : قال : ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا
وجملة ذلك أن الوطء في الاعتكاف محرم بالإجماع والأصل فيه قول الله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها } فإن وطئ في الفرج متعمدا أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر عنهم ولأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالحج والصوم وإن كان ناسيا فكذلك عند إمامنا و أبي حنيفة و مالك وقال الشافعي : لا يفسد اعتكافه لأنها مباشرة لا تفسد الصوم فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة فيما دون الفرج
ولنا ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه في إفساده كالخروج من المسجد ولا يسلم أنها لا تفسد الصوم ولأن المباشرة دون الفرج لا تفسد الاعتكاف إلا إذا اقترن بها الإنزال إذا ثبت هذا فلا كفارة بالوطء في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقول عطاء و النخعي وأهل المدينة ومالك وأهل العراق والثوري وأهل الشام والأوزاعي ونقل حنبل عن أحمد أن عليه كفارة وهو قول الحسن والزهري واختيار القاضي لأنه عبادة يفسدها الوطء لعينه فوجبت الكفارة بالوطء فيها كالحج وصوم رمضان
ولنا أنها عبادة لا تجب بأصل الشرع فلم تجب بإفسادها كفارة كالنوافل ولأنها عبادة لا تدخل المال في جيرانها فلم تجب الكفارة بإفسادها كالصلاة ولأن وجوب الكفارة إنما يثبت بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابها فتبقى على الأصل وما ذكروه ينتقض بالصلاة وصوم غير رمضان والقياس على الحج لا يصح لأنه مباين لسائر العبادات ولهذا يمضي في فاسدة ويلزم بالشروع فيه ويجب بالوطء فيه بدونه بخلاف غيره ولأنه لو وجبت الكفارة ههنا بالقياس عليه للزم أن يكون بدنة لأن الحكم في الفرع يثبت على صفة الحكم في الأصل بعينه وأما القياس على الصوم فهو دال على نفي الكفارة لأن الصوم واردا في الفرع فيثبت فيه الحكم الثابت في الأصل بعينه وأما القياس على الصوم فهو دال على نفي الكفارة لأن الصوم كله لا يجب بالوطء فيه كفارة سوى رمضان والاعتكاف أشبه بغير رمضان لأنه نافلة لا يجب إلا بالنذر ثم لا يصح قياسه على رمضان أيضا لأن الوطء فيه إنما أوجب الكفارة لحرمة الزمان ولذلك يجب على كل من لزمه الإمساك وإن لم يفسد به صوما
واختلف موجبوا الكفارة فيها فقال القاضي : يجب كفارة الظهار وهو قول السحن والزهري وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه روى عن الزهري أنه قال : من أصاب في اعتكافه فهو كهيئة المظاهر ثم قال عبد الله : إذا كان نهارا وجبت عليه الكفارة ويحتمل أن أبا عبد الله إنما أوجب عليه الكفارة إذا فعل ذلك في رمضان لأنه اعتبر ذلك في النهار لأجل الصوم ولو كان لمجرد الاعتكاف لما اختص الوجوب بالنهار كما لم يختص الفساد به وحكي عن أبي بكر عليه كفارة يمين ولم أر هذا عن أبي بكر في كتاب الشافعي ولعل أبا بكر إنما أوجب عليه كفارة في موضع تضمن الإفساد الاخلال بالنذر فوجبت لمخالفة نذره وهي كفارة يمين فأما في غير ذلك فلا لأن الكفارة إنما تجب بنص أو إجماع أو قياس وليس هاهنا نص ولا إجماع ولا قياس فإن نظير الاعتكاف الصوم ولا يجب بإفساده كفارة إذا كان تطوعا ولا منذورا ما لم يتضمن الإخلال بنذره فيجب به كفارة يمين كذلك هذا
فصل : فأما المباشرة دون الفرج فإن كانت لغيره شهوة فلا بأس بها مثل أن تغسل رأسه أو تفيه أو تناوله شيئا [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدني رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله ] وإن كانت على شهوة فهي محرمة لقول الله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ولقول عائشة : السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها رواه أبو داود ولأنه لا يأمن افضاءها إلى إفساد الاعتكاف وما أفضى إلى الحرام كان محراما فإن فعل فأنزل فسد اعتكافه وإن لم ينزل لم يفسد وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر : يفسد في الحالين وهو قول مالك لأنها مباشرة محرمة فأفسدت الاعتكاف كما لو أنزل
ولنا أنها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا فلم تفسد الاعتكاف كالمباشرة لغير شهوة وفارق التي أنزل بها لأنها تفسد الصوم ولا كفارة عليه إلا على رواية حنبل
فصل : وإن ارتد فسد اعتكافه لقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } ولأنه خرج بالردة عن كونه م أهل الاعتكاف وإن شرب ما أسكره فسد اعتكافه لخروجه عن كونه من الله المسجد
فصل : وكل موضع فسد اعتكافه فإن كان تطوعا فلا قضاء عليه لأن التطوع لا يلزم بالشروع فيه في غير الحج والعمرة وإن كان نذرا نظرنا فإن كان نذر أياما متتابعة فسد ما مضى من اعتكافه واستأنف لأن التتابع وصف في الاعتكاف وقد أمكنه الوفاء به فلزمه وإن كان نذر أياما معينه كالعشر الأواخر من شهر رمضان ففيه وجهان أحدهما يبطل ما مضى ويستأنفه لأنه نذر اعتكافه متتابعا فبطل بالخروج منه كما لو قيده بالتتابع بلفظه والثاني لا يبطل لأن ما مضى منه قد أدى العبادة فيه أداء صحيحا فلم يبطل بتركها في غيره كما لو أفطر في أثناء شهر رمضان والتتابع ههنا ضرورة التعيين والتعيين مصرح به وإذا كان لم يكن بد من الإخلال بأحدهما ففيما حصل ضرورة أولى ولأن وجوب التتابع من حيث الوقت لا من حيث النذر فالخروج في بعضه لا يبطل ما مضى منه كصوم رمضان إذا أفطر فيه فعلى هذا يقضي ما أفسد فيه فحسب وعليه الكفارة على الوجهين جميعا لأنه تارك لبعض ما نذره وأصل الوجهين فيمن نذر صوما معينا فأفطر في بعضه فإن فيه روايتين كالمذهبين اللذين ذكرناهما
فصل : إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما أفسد تتابعه ووجب استئناف الاعتكاف لإخلاله بالاتيان بما نذره على صفته
مسألة : قال : وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك اعتكافه فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياما معلومة وقضى ما ترك وكفر كفارة يمين وكذلك في النفير إذا احتيج إليه
وجملته أنه إذا وقعت فتنة خاف منها على نفسه إن قعد في المسجد أو على ماله نهبا أو حريقا فله ترك الاعتكاف والخروج لأن هذا مما أباح الله تعالى لأجله ترك الواجب بأصل الشرع وهو الجمعة والجماعة فأولى أن يباح لأجله ترك ما أوجبه على نفسه وكذلك إن تعذر عليه المقام في المسجد لمرض لا يمكنه المقام معه فيه كالقيام المتدارك أو سلس البول أو الإغماء أو لا يمكنه المقام إلا بمشقة شديدة مثل أن يحتاج إلى خدمة فراش فله الخروج وإن كان المرض خفيفا كالصدع ووجع الضرس ونحوه فليس له الخروج فإن خرج بطل اعتكافه وله الخروج إلى ما يتعين عليه الواجب مثل الخروج في النفير إذا عم أو حضر عدو يخافون كلبه واحتيج إلى خروج المعتكف لزمه الخروج لأنه واجب متعين فلزم الخروج إليه كالخروج إلى الجمعة إذا خرج ثم زال عذره نظرنا فإن كان تطوعا فهو مخير إن شاء رجع إلى معتكفه وإن شاء لم يرجع وإن كان واجبا رجع إلى معتكفه فبنى على ما مضى من اعتكافه ثم لا يخلو النذر من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون نذر اعتكافا في أيام غير متتابعة ولا معينة فهذا لا يلزمه قضاء بل يتم ما بقي عليه لكنه يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله ليكون متتابعا ولا كفارة عليه لأنه أتى بما نذر على وجهه فلا يلزمه كفارة كما لو لم يخرج
الثاني : نذر أياما معينة كشهر رمضان فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين بمنزلة تركه المنذور في وقته ويحتمل أن لا يلزمه كفارة على ما سنذكره إن شاء الله
الثالث : نذر أياما متتابعة فهو مخير بين اللبناء والقضاء والتكفير وبين الابتداء ولا كفارة عليه لأنه يأتي بالمنذور على وجهه فلم يلزمه كفارة كما لو أتى به من غير أن يسبقه الاعتكاف الذي قطعه وذكر الخرقي مثل هذا في الصيام فقال : ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه فإذا عوفي بنى على ما مضى من صيامه وقضى ما ترك وكفر كفارة يمين وإن أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه وقال أبو الخطاب فيمن ترك الصيام المنذور لعذر فعن أحمد فيه رواية أخرى أنه لا كفارة عليه وهو قول مالك و الشافعي وأبي عبيد : لأن المنذور كالمشروع ابتداء ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شيء فكذلك المنذور وقال القاضي : إن خرج لواجب الجهاد تعين أو أداء شهادة واجبة فلا كفارة عليه لأنه خروج واجب لحق الله تعالى فلم يجب به شيء كالمرأة تخرج لحيضها أو نفاسها وحمل كلام الخرقي على أنه يبني على ما مضى دون إيجاب الكفارة وظاهر كلام الخرقي أن عليه الكفارة لأن النذر كاليمين ومن حلف على فعل شيء فحنث لزمته الكفارة سواء كان لعذر أو غيره وسواء كانت المخالفة واجبة أم لم يكن ويفارق صوم رمضان فإن الإخلال به والفطر فيه لغير عذر لا يوجب الكفارة ويفارق الحيض فإنه يتكرر ويظن وجوده في زمن النذر فيصير كالخروج لحاجة الإنسان وكالمستثنى بلفظه
مسألة : قال : والمعتكف لا يتجر ولا يتكسب بالصنعة
وجملته أن المعتكف لا يجوز له أن يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد له منه قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : المعتكف لا يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد له منه طعام أو نحو ذلك فأما التجارة والأخذ والعطاء فلا يجوز شيء من ذلك وقال الشافعي : لا بأس أن يبيع ويشتري ويخيط ويتحدث ما لم يكن مأثما
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن البيع والشراء في المسجد ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن ورأى عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال : يا هذا إن هذا سوق الآخرة فإن أردت البيع فأخرج إلى سوف الدنيا وإذا منع من البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أولى فأما الصنعة فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز منها ما يكتسب له لأنه بمنزلة التجارة بالبيع والشراء ويجوز ما يعمله لنفسه كخياطة قميصه ونحوه وقد روى المروذي قال : سألت أبا عبد الله عن المعتكف : ترى له أن الخيط ؟ قال : لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل وقال القاضي : لا تجوز الخياطة في المسجد سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن قل أو كثر لأن ذلك معيشة أو تشغل عن الاعتكاف فأشبه البيع والشراء فيه والأولى أن يباح له ما يحتاج إليه من ذلك إذا كان يسيرا مثل أن ينشق قميصه فيخيطه أو ينحل شيء يحتاج إلى ربط فيربطه لأن هذا يسير تدعو الحاجة إليه فجرى مجرى لبس قميصه وعمامته وخلعهما

ويباح أو لا يباح للمعتكف
فصل : يستحب للمعتكف التشاغل بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة ويجتنب ما لا يعينه من الأقوال والأفعال ولا يكثر الكلام لأن من كثر كلامه كثر سقطه وفي الحديث : [ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ] ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره وعكسه الوطء ولا بأس بالكلام لحاجته ومحادثة غيره فإن [ صفية زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه و سلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا : سبحان الله يا رسول الله فقال : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا ] أو قال : [ شيئا ] متفق عليه وقال علي رضي الله عنه : أيما رجل اعتكف فلا يساب ولا يرفث في الحديث ويأمر أهله بالحاجة أي وهو يمشي ولا يجلس عندهم رواه الإمام أحمد
فصل : فأما إقراء القرآن وتدريس العلم ودرسه ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث ونحو ذلك مما يتعدى نفعه فأكثر أصحابنا على أنه لا يستحب وهو ظاهر كلام أحمد وقال أبو الحسن الآمدي : في استحباب ذلك روايتان واختار أبو الخطاب أنه مستحب إذا قصد به طاعة الله تعالى لا المباهاة وهذا مذهب الشافعي لأن ذلك أفضل العبادات ونفعه يتعادى فكان أولى من تركه كالصلاة واحتج أصحابنا بأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به ولأن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد فلم يستحب فيها ذلك كالطواف وما ذكروه يبطل بعيادة المرضى وشهود الجنازة فعلى هذا القول فعله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف قال المروذي : قلت لأبي عبد الله أن رجلا يقرئ في المسجد كان له ولغيره يقرئ أحب إلي وسئل أيما أحب إليك : الاعتكاف أو الخروج إلى عبادان ؟ قال : ليس يعدل الجهاد عندي شيء يعني أن الخروج إلى عبادان أفضل من الاعتكاف

الصيام عن الكلام
فصل : وليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار تحريمه قال قيس بن مسلم : دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال : ما لها لا تتكلم ؟ قالوا : حجت مصمتة فقال لها : تكلمني فإن هذا لا يحل هذا من أعمال الجاهلية فتكلمت رواه البخاري وروى أبو داود بإسناده [ عن علي رضي الله عنه قال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا صمات يوم إلى الليل ] وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن صوم الصمت ] فإن نذر ذلك في اعتكافه أو غيره لم يلزمه الوفاء به وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر ولا نعلم فيه مخالفا لما روى ابن عباس قال : [ بينا النبي صلى الله عليه و سلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ] رواه البخاري ولأنه نذر فعل منهي عنه فلم يلزمه كنذر المباشرة في المسجد وإن أراد فعله لم يكن له ذلك سواء نذره أو لم ينذره وقال أبو ثور وابن المنذر : له فعله إذا كان أسلم ولنا النهي عنه وظاهره التحريم والأمر بالكلام ومقتضاه الوجوب وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وهذا صريح ولم يخالفه أحد من الصحابة فيما علمناه واتباع ذلك أولى

ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام
فصل : ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام لأنه استعمال له في غير ما هو له أشبه استعمال المصحف في التوسد ونحوه وقد جاء لا تناظروا بكتاب الله قيل : معناه لا تتكلم به عنه الشيء تراه كأن ترى رجلا قد جاء وقته فتقول : { ثم جئت على قدر يا موسى } أو نحوه ذكر أبو عبيد نحو هذا المعنى

في المباح اثناء الاعتكاف
مسألة : قال : ولا بأس أن يتزوج في المسجد ويشهد النكاح
وإنما كان كذلك لأن الاعتكاف عبادة لا تحرم الطيب فلم تحرم النكاح كالصوم ولأن النكاح طاعة وحضوره قربة ومدته لا تتطاول فيتشاغل به عن الاعتكاف فلم يكره فيه كتشميت العاطس ورد السلام
فصل : ولا بأس أن يتنظف بأنواع التنظيف لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرجل رأسه وهو معتكف وله أن يتطيب ويلبس الرفيع من الثياب وليس ذلك بمستحب قال أحمد : لا يعجبني أن يتطيب وذلك لأن الاعتكاف عبادة تختص مكانا فكان ترك الطيب فيها مشروعا كالحج وليس ذلك بمحرم لأنه لا يحرم اللباس ولا النكاح فأشبه الصوم
فصل : ولا بأس أن يأكل المعتكف في المسجد ويضع سفرة يسقط عليها ما يقع منه كيلا يلوث المسجد ويغسل يده في الطست ليفرغ خارج المسجد ولا يجوز أن يخرج لغسل يده لأن من ذلك بدا وهل يكره تجديد الطهارة في المسجد ؟ فيه روايتان إحداهما لا يكره لأن أبا العالية قال : حدثني من كان يخدم النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما ما حفظت لكم منه أنه كان يتوضأ في المسجد وعن ابن عمر أنه قال : كان يتوضأ في المسجد الحرام على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم الرجال والنساء وعن ابن سيرين قال : كان أبو بكر وعمر والخلفاء يتوضأون في المسجد وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس و عطاء و طاوس و ابن جريج والأخرى يكره لأنه لا يسلم من أن يبصق في المسجد أو يتمخط والبصاق في المسجد خطيئة ويبل من المسجد مكانا يمنع المصلين من الصلاة فيه وإن خرج من المسجد للوضوء وكان تجديدا بطل لأنه خروج لما له منه بد وإن كان وضوءا من حدث لم يبطل لأن الحاجة داعية إليه سواء كان وقت الصلاة أو قبلها لأنه لا بد من الوضوء للمحدث وإنما يتقدم عن وقت الحاجة إليه لمصلحة وهو كونه على وضوء وربما يحتاج إلى صلاة النافلة به
فصل : إذا أراد أن يبول في المسجد في طست لم يبح له ذلك لأن المساجد لم تبن لهذا وهو مما يقبح ويفحش ويستخفى به فوجب صيانة المسجد عنه كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله وإن أراد الفصد أو الحجامة فيه فكذلك ذكره القاضي لأنه اراقة نجاسة في المسجد فأشبه البول فيه وإن دعت إليه حاجة كبيرة خرج من المسجد ففعله وان استغنى عنه لم يكن له الخروج إليه كالمرض الذي يمكن احتماله ويكون تحتها شيء يقع فيه الدم [ قالت عائشة : اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة من أزواجه مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي ] رواه البخاري والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز من ذلك إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد
مسألة : قال : والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة
وجملته أن المعتكفة إذا توفي زوجها لزمها الخروج لقضاء العدة وبهذا قال الشافعي وقال ربيعة ومالك وابن المنذر : تمضي في اعتكافها حتى تفرغ منه ثم ترجع إلى بيت زوجها فتعتد فيه لأن الاعتكاف المنذور واجب والاعتداد في البيت واجب فقد تعارض واجبان فيقدم أسبقهما
ولنا أن الاعتداد في بيت زوجها واجب فلزمها الخروج إليه كالجمعة في حق الرجل ودليلهم ينتقض بالخروج إلى الجمعة وسائر الواجبات وظاهر كلام الخرقي أنها كالذي خرج لفتنة وأنها كالذي تبني وتقضي وتكفر وقال القاضي : لا كفارة عليها لأن خروجها واجب وقد مضى لقول فيه

في اعتكاف المرأة
فصل : وليس للزوجة أن تعتكف إلا بإذن زوجها ولا للمملوك أن يعتكف إلا بإذن سيده لأن منافعها مملوكة لغيرهما والاعتكاف يفوتها ويمنع استيفاءها وليس بواجب عليهما بالشرع فكان لها المنع منه وأم الولد والمدبر كالقن في هذا لأن الملك باق فيهما فإن أذن السيد والزوج لهما ثم أراد إخراجهما منه بعد شروعهما فيه فلهما ذلك في التطوع وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في العبد كقولنا : وفي الزوجة ليس لزوجها إخراجها لأنها تملك بالتمليك فالإذن أسقط حقه من منافعها وأذن لها في استيفائها فلم يكن له الرجوع فيها كما لو أذن لها في الحج فأحرمت به بخلاف العبد فإنه لا يملك بالتمليك وقال مالك : ليس له تحليلهما لأنهما عقدا على أنفسهما تمليك منافع كانا يملكانها لحق الله تعالى فلم يجز الرجوع فيهما كما لو أحرما بالحج بإذنهما
ولنا أن لهما المنع منه ابتداء فكان لهما المنع منه دواما كالعارية ويخالف الحج لأنه يلزم بالمشروع فيه بخلاف الاعتكاف على ما مضى من الخلاف فيه فإذا كان ما أذنا فيه منذورا لم يكن لهما تحليهما منه لأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه فيصير كالحج إذا أحرما به فأما ان نذرا الاعتكاف فأراد السيد والزوج منعهما الدخول فيه نظرات فإن كان النذر بإذنهما وكان معينا لم يملكا منعهما منه لأنه وجب بإذنهما وإن كان بغير إذنهما فلهما منعهما منه لأن نذرهما تضمن تفويت حق غيرهما بغير إذنه فكان لصاحب الحق المنع منه وإن كان النذر المأذون فيه غير معين فهل لهما منعهما ؟ على وجهين أحدهما لهما ذلك منعهما لأن حقهما ثابت في كل زمن فكان تعيين زمن سقوطه إليهما كالدين والثاني ليس لهما ذلك لأنه وجب التزمه بإذنهما فأشبه المعين وأما المعتق بعضه فإن كان بينه وبين سيده مهايأة فله أن يعتكف في يومه بغير إذن سيده لأن منافعه غير مملوكة لسيده في هذا اليوم وحكمه في يوم سيده حكم القن فإن لم يكن بينهما مهايأة فلسيده منعه لأن له ملكا في منافعه في كل وقت
فصل : وأما المكاتب فليس لسيده منعه من واجب ولا تطوع لأنه لا يستحق منافعه وليس له إجباره على الكسل وإنما له دين في ذمته فهو كالحر المدين
مسألة : قال : وإذا حاضت المرأة خرجت من المسجد وضربت خباء في الرحبة
أما خروجها من المسجد فلا خلاف فيه لأن الحيض حدث يمنع اللبث في المسجد فهو كالجنابة وآكد منه وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ] رواه أبو داود وإذا ثبت هذا فإن المسجد إن لم يكن له رحبة رجعت إلى بيتها فإذا طهرت رجعت فأتمت اعتكافها وقضت ما فاتها ولا كفارة عليها نص عليه أحمد لأنه خروج معتاد واجب أشبه الخروج للجمعة أو لما لا بد منه وإن كانت له رحبة خارجة من المسجد يمكن أن تضرب فيها خباءها فقال الخرقي : تضرب خباءها فيها مدة حيضها وهو قول أبي قلابة وقال النخعي : تضرب فسطاطها في دارها فإذا طهرت قضت تلك الأيام وإن دخلت بيتا أو سقفا استأنفت وقال الزهري و عمرو بن دينار و ربيعة و مالك و الشافعي : ترجع إلى منزلها فإذا طهرت فلترجع لأنه وجب عليها الخروج من المسجد فلم يلزمها الإقامة في رحبته كالخارجة لعدة أو خوف فتنة
ووجه قول الخرقي ما روى المقدام بن شريح [ عن عائشة قالت : كن معتكفات إذا حضن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإخراجهن من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن ] رواه أبو حفص بإسناده وفارق المعتدة فإن خروجها لتقيم في بيتها وتعتد فيه ولا يحصل ذلك مع الكون في الرحبة وكذلك الخائفة من الفتنة خروجها لتسلم من الفتنة فلا تقيم في موضع لا تحصل السلامة بالإقامة فيه والظاهر إن إقامتها في الرحبة مستحب وليس بواجب وإن لم يقيم في الرحبة ورجعت إلى منزلها أو غيره فلا شيء عليها لأنها خرجت بإذن الشرع ومتى طهرت رجعت إلى المسجد فقضت وبنت ولا كفارة عليها لا نعلم فه خلافا لأنه خروج لعذر معتاد أشبه الخروج لقضاء الحاجة وقول إبراهيم تحكم لا دليل عليه
فصل : فأما الاستحاضة فلا تمنع الاعتكاف لأنها لا تمنع الصلاة ولا الطواف وقد [ قالت عائشة : اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم امرأة مستحاضة فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي ] أخرجه البخاري إذا ثبت هذا فإنها تتحفظ وتتلجم لئلا تلوث المسجد فإن لم يمكن صيانته منها خرجت من المسجد لأنه عذر وخروج لحفظ المسجد من نجاستها فأشبه الخروج لقضاء حاجة الإنسان

الخروج المباح في الاعتكاف ينقسم إلى أربعة أقسام
فصل : الخروج المباح في الاعتكاف والواجب ينقسم أربعة أقسام :
أحدها : ما لا يوجب قضاء ولا كفارة وهو الخروج لحاجة الإنسان وشبه مما لا بد منه
والثاني : ما يوجب قضاء بلا كفارة وهو الخروج للحيض
الثالث : ما يوجب قضاء وكفارة وهو الخروج لفتنة وشبهة مما يخرج لحاجة نفسه
الرابع : ما يوجب قضاء وفي الكفارة وجهان وهو الخروج الواجب كالخروج في النفير أو العدة ففي قول القاضي : لا كفارة عليه لأنه واجب لحق الله تعالى أشبه الخروج للحيض وظاهر كلام الخرقي وجوبها لأنه خروج غير معتاد فأوجب الكفارة كالخروج لفتنة

حساب المدة في الاعتكاف المنذور لمدة
مسألة : قال : ومن نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس
وهذا قول مالك والشافعي وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أحرى أنه يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر من أوله وهو قول الليث بن زفر ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه ] متفق عليه ولأن الله تعالى قال : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ولا يلزم الصوم إلا من قبل طلوع الفجر ولأن الصوم شرط في الاعتكاف فلم يجز ابتداؤه قبل شرطه
ولنا أنه أنذر الشهر وأوله غروب الشمس ولها تحل الديون المعلقة به ويقع الطلاق والعتاق المعلقان به ووجب أن يدخل قبل الغروب ليستوفي جميع الشهر فإنه لا يمكن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كإمساك جزء من الليل مع النهار في الصوم وأما الصوم فإن محله النهار فلا يدخل فيه شيء من الليل في أثنائه ولا ابتدائه إلا ما حصل ضرورة بخلاف الاعتكاف وأما الصوم فإن محله النهار فلا يدخل فيه شيء من الليل في أثنائه ولا ابتدائه إلا ما حصل ضرورة بخلاف الاعتكاف وأما الحديث فقال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به على أن الخبر إنما هو في التطوع فمتى شاء دخل وفي مسألتنا نذر شهرا فيلزمه اعتكاف شهر كامل ولا يحصل إلا أن يدخل فيه قبل غروب الشمس من أوله ويخرج بعد غروبها من آخره فأشبه ما لو نذر اعتكاف يوم فإنه يلزمه فيه قبل طلوع فجره ويخرج بعد غروب شمسه
فصل : وإن أحب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان تطوعا ففيه روايتان :
إحداهما : يدخل قبل غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين لما روي عن أبي سعيد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعتكف العشر الأواسط من رمضان حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ] متفق عليه ولأن العشر بغر هاء عدد الليالي فإنها عدد المؤنث قال الله تعالى { وليال عشر } وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين
والرواية الثانية : يدخل بعد صلاة الصبح قال حنبل : قال أحمد أحب إلي أن يدخل قبل الليل ولكن حديث عائشة [ أن النبي كان يصلي الفجر ثم يدخل معتكفه ] وبهذا قال الأوزاعي و إسحاق : ووجهه ما روت عمرة عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى الصبح دخل معتكفه ] متفق عليه وإن نذر اعتكاف العشر ففي وقت دخوله الروايتان جميعا
فصل : ومن اعتكف العشر الأواخر من رمضان استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه نص عليه أحمد وروي عن النخعي و أبي مجلز و أبي بكر بن عبد الرحمن و المطلب بن حنطب و أبي قلابة أنهم كانوا يستحبون ذلك وروى الأثرم بإسناده عن أيوب عن أبي قلابة أنه كان يبيت في المسجد ليلة الفطر ثم يغدو كما هو إلى العيد وكان في اعتكافه لا يلقى له حصير ولا مصلي يجلس عليه كان يجلس كأنه بعض القوم قال : فأتيته في يوم الفطر فإذا في حجرة جويرية مزينة ما ظننتها إلا بعض بناته فإذا هي أمة له فأعتقها وغدا كما هو إلى العيد وقال إبراهيم : كانوا يحبون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد ثم يغدوا إلى المصلى من المسجد
فصل : وإذا نذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأهلة أو ثلاثون يوما وهل يلزمه التتابع على وجهين بناء على الروايتين في نذر الصوم
أحدهما : لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأنه معنى يصح فيه الفريق فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام
والثاني : يلزمه التتابع وهو قول أبي حنيفة ومالك وقال القاضي : يلزمه التتابع قولا واحدا لأنه معنى يحصل في الليل والنهار فإذا أطلقه اقتضى التتابع كما لو حلف لا يكلم زيدا شهرا وكمدة الإيلاء والعنة والعدة وبهذا فارق الصيام فإن أتى بشهر بين هلالين أجزأه ذلك وإن كان ناقصا وإن اعتكف ثلاثين يوما من شهرين جاز وتدخل فيه الليالي لأن الشهر عبادة عنهما ولا يجزئه أقل من ذلك وإن قال : لله علي أن اعتكف أيام هذا الشهر أو ليالي هذا الشهر لزمه ما نذر ولم يدخل فيه غيره وكذلك إن قال شهرا في النهار أو في الليل
فصل : وإن قال لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما فعلى قول القاضي يلزمه التتابع وقال أبو الخطاب : لا يلزمه لأن اللفظ يقتضي ما تناوله والأيام المطلقة توجد بدون التتابع فلا يلزمه كما لو قال لله علي أن أصوم ثلاثين يوما فعلى قول القاضي : يدخل فيه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة كما لو نذر شهرا ومن لم يوجب التتابع لا يقتضي أن تدخل الليالي فيه إلا أن ينويه فإن نوى التتابع أو شرطه لزمه ودخل الليل فيه ويلزمه ما بين الأيام من الليالي وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمه من الليالي بعدد الأيام إذا كان على وجه الجمع والتثنية يدخل فيه مثله من الليالي والليالي تدخل معها الأيام بدليل قوله تعالى { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } وقال في موضع آخر : { ثلاثة أيام إلا رمزا }
ولنا أن اليوم اسم لبياض النهار والتثنية والجمع تكرار للواحد وإنما تدخل الليالي تبعا لوجوب التتابع ضمنا وهذا يحصل بما بين الأيام خاصة فاكتفى به وأما الآية فإن الله تعالى نص على الليل في موضع النهار في موضع فصارا منصوصا عليهما فإن نذر اعتكاف يومين وليلة بينهما وإن نذر اعتكاف يومين مطلقا فعلى قول القاضي : هو كما لو نذرهما متتابعين لزمه يومان ليلتين لزمه اليوم الذي بينهما وعلى قول أبي الخطاب : لا يلزمه التتابع ولا ما بينهما إلا بلفظه أو نيته
فصل : وإن نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه ويلزمه أن يدخل معتكفه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس وقال مالك : يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم كقولنا في الشهر لأن الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعا
ولنا أن الليلة ليست من اليوم وهي من الشهر قال الخليل : اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وإنما دخل الليل في المتتابع ضمنا ولهذا خصصناه بما بين الأيام وإن نذر اعتكاف ليلة لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر وليس له تفريق الاعتكاف وقال الشافعي : له تفريقه هذا ظاهر كلامه قياسا على تعريف الشهر
ولنا أن إطلاق اليوم يفهم منه التتابع فيلزمه كما لو قال متتابعا : وفارق الشهر كأنه اسم لما بين الهلالين واسم لثلاثين يوما واسم لغير ذلك واليوم لا يقع في الظاهر إلا على ما ذكرناه وإن قال في وسط النهار : لله علي أن أعتكف يوما من وقتي هذا لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله ويدخل في الليل لأنه في خلال نذره فصار كما لو نذر يومين متتابعين وإنما لزمه بعض يومين لتعيينه ذلك بنذره فلعمنا أنه أراد ذلك ولم يرد يوما صحيحا
فصل : وإن نذر اعتكافا مطلقا لزمه ما يسمى به معتكفا ولو ساعة من ليل أو نهار إلا على قولنا بوجوب الصوم في الاعتكاف فيلزمه يوم كامل فأما اللحظة وما لا يسمى به معتكفا فلا يجزئه على الروايتين جميعا
فصل : ولا يتعين شيء من المساجد بنذره الاعتكاف فيه إلا المساجد الثلاثة وهي : المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه و سلم والمسجد الأقصى لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ] متفق عليه ولو تعين لزمه المضي إليه واحتج إلى شد الرحال لقضاء نذره فيه ولأن الله تعالى لم يتعين لعبادته مكانا فلم يتعين غيره وإنما تعينت هذه المساجد الثلاثة للخبر الوارد فيها ولأن العبادة فيها أفضل فإذا عين ما فيه فضيلة لزمته كأنواع العبادة وبهذا قال الشافعي في صحيح قوليه وقال في الآخر : لا يتعين المسجد الأقصى ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] رواه مسلم وهذا يدل على التسوية فيما عدا هذين المسجدين لأن المسجد الأقصى لو فضلت الصلاة فيه على غيره للزم أحد أمرين : إما خروجه من عموم هذا الحديث وإما كون فضيلته بألف مختصا بالمسجد الأقصى
ولنا أنه من المساجد التي تشد الرحال إليها فتعين بالتعيين في النذر كمسجد النبي صلى الله عليه و سلم وما ذكروه لا يلزم فإنه إذا فضل الفاضل بألف فقد فضل بها أيضا
فصل : وإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يكن له الاعتكاف فيما سواه لأنه أفضلها ول [ أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أوف بنذرك ] متفق عليه وإن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام لأنه أفضل منه ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى لأن مسجد النبي صلى الله عليه و سلم أفضل منه وقال قوم : مسجد النبي صلى الله عليه و سلم أفضل من الحرام لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما دفن في خير البقاع وقد نقله الله تعالى من مكة إلى المدينة فدل على أنها أفضل
ولنا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] وروي في خبر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فيما سواه ] رواه ابن ماجة فيدخل في عمومه مسجد النبي صلى الله عليه و سلم فتكون الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة فيما سوى مسجد النبي صلى الله عليه و سلم فأما إن نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجدين الآخرين لأنهما أفضل منه وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رجال من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم يوم الفتح والنبي صلى الله عليه و سلم في مجلس قريبا من المقام فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم وقال : يا نبي الله إني نذرت لئن فتح الله للنبي صلى الله عليه و سلم والمؤمنين مكة لأصلين في بيت المقدس وإني وجدت رجلا من أهل الشام ههنا في قريش مقبلا معي ومدبرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ههنا فصل فقال الرجل قوله هذا ثلاث مرات كل ذلك يقول النبي صلى الله عليه و سلم ههنا فصل ثم قال الرابعة مقالته هذه فقال النبي صلى الله عليه و سلم اذهب فصل فيه فوالذي بعث محمدا بالحق لو صليت هاهنا لقضي عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس ] ومتى نذر الاعتكاف في غير هذه المساجد فانهدام معتكفه ولم يمكن المقام فيه لزم اتمام الاعتكاف في غيره ولم يبطل اعتكافه
فصل : إذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان صح نذره فإن ذلك ممكن فإن قدم في بعض النهار لزمه اعتكاف الباقي منه ولم يلزمه قضاء ما فات قبل شرط الوجوب فلم يجب كما لو نذر اعتكاف زمن ماض لكن إذا قلنا شرط الإعتكاف الصوم لزمه قضاء يوم كامل لأنه لا يمكنه أن يأتي بالإعتكاف في الصوم فيما بقي من النار ولا قضاؤه متميزا مما قبله فلزمه يوم كامل ضرورة كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان ويحتمل أن يجزئه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائما لأنه قد وجد اعتكاف مع الصوم وإن قدم ليلا لم يلزمه شيء لأن ما التزمه بالنذر لم يوجد فإن كان للناذر عذر يمنعه الإعتكاف عند قدوم فلان من حبس أو مرض قضى وكفر لفوات النذر في وقته ويقضي بقية اليوم فقط على حسب ما كان يلزم في الأداء في الرواية المنصورة وفي الأخرى يقضي يوما كاملا بناء على اشتراط الصوم في الإعتكاف

كتاب الحج شرائط وجوب الحج وصفته العمرة وأقسامها
الحج في اللغة القصد وعن الخليل : قال : الحج كثرة القصد إلى من تعظمه قال الشاعر :
( وأشهد من عوف حؤولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا )
أي يقصدون والسب العمامة وفي الحج لغتان : الحج والحج بفتح الحاء وكسرها والحج في الشرع اسم لافعال مخصوصة يأتي ذكرها إن شاء الله وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } روي عن ابن عباس ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب وقال الله تعالى { وأتموا الحج والعمرة } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم [ بني الإسلام على خمس ] وذكر فيها الحج وروى مسلم بإسناده عن أبي هريرة قال : [ خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ] في أخبار كثيرة سوى هذين وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة
مسألة : قال أبو القاسم : ومن ملك زادا وراحلة وهو بالغ عاقل لزمه الحج والعمرة
وجملة ذلك أن الحج إنما يجب بخمس شرائط - الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة لا نعلم في هذا كله اختلافا فأما الصبي والمجنون فليس بمكلفين وقد روى علي بن أبي طالب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل ] رواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي وقال حديث حسن وأما العبد فلا يجب عليه أنه عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة ويضيع حقوق سيده المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد وأما الكافر فغير مخاطب بفروع الدين خطابا يلزمه أداء ولا يوجب قضاء وغير المستطيع لا يجب عليه لأن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه فيختص بالوجوب وقال الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
فصل : وهذا الشروط الخمسة تنقسم أقساما ثلاثة : منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو الإسلام والعقل فلم يجب على كافر ولا مجنون ولا تصح منهما لأنهما ليس من أهل العبادات ومنها ما هو شرط للوجوب والاجزاء وهو البلوغ والحرية وليس بشرط للصحة فلو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزئهما عن حجة الإسلام ومنها ما هو شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد وراحلة فحج كان حجه صحيحا مجزئا كما لو تكلف القيام في الصلاة من يسقط عنه أجزأه

تخلية الطريق وامكان المسير - حج الصبي واحرامه
فصل : واختلفت الرواية في شرطين وهما : تخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من عدو ونحوه وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إليه فروي أنهما من شرائط الوجوب فلا يجب الحج بدونهما لأن الله تعالى إنما يفرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطا كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي وروي أنهما ليسا من شرائط الوجوب وإنما يشترطان للزوم السعي فلو كملت هذا الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته وان أعسر قبل وجودهما بقي في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يذكرهما وذلك لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل ما يوجب الحج قال : الزاد والراحلة ] قال الترمذي هذا حديث حسن وهذا له زاد وراحلة ولأن هذا عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب كالعضب ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات بدليل ما لو ظهرت الحائض أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن اداؤها فيه والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة فيجب المصير إلى تفسيره والفرق بينهما وبين الزاد والراحلة أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع فافترقا

الإستطاعة إلى الحج
فصل : وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة فول أمكنه المسير بأن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز عن تحصيل آلة السفر لم يلزمه السعي وتخلية الطريق هو أن تكون مسلوكة لا مانع فيها بعيدة كانت أو قريبة برا كان أو بحرا إذا كان الغالب السلامة فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه سلوكه فإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة فقال القاضي : لا يلزمه السعي وإن كانت يسيرة لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكبيرة وقال ابن حامد : إن كان ذلك مما لا يجحف بماله لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم
فصل : والاستطاعة المشترطة ملك الزاد والراحلة وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والشافعي وإسحاق قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم وقال عكرمة : هي الصحة وقال الضحاك : إن كان شابا فليؤخر نفسه بأكله وعقله حتى يقضي نسكه وعن مالك إن كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة فوجب الرجوع إلى تفسيره فروى الدارقطني بإسناده عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله نب عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل : ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة ] وروى ابن عمر قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وروى الإمام أحمد حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [ قال رجل : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة ] ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشتراط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه
فصل : ولا يلزمه الحج ببذل غيره له ولا يصير مستطيعا بذلك سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا وسواء بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالا وعن الشافعي أنه إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه و سلم يوجب الحج الزاد والراحلة يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل ما لو كان الباذل أجنبيا ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنها فلم يلزمه الحج كما لو بذل له والده ولا نسلم أنه لا يلزمه منه ولو سلمنا فيبطل ببذل الوالد وبذل من للمبذول له عليه أيادي كثيرة ونعم
فصل : ومن تكلف الحج ممن لا يلزمه فإن أمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة كالخرز أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى : { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } فقدم ذكر الرجال ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله عز و جل وخروجا من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره له الحج لأنه يضيق على الناس ويحصل كلا عليهم في التزام ما لا يلزمه وسئل أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة فقال : لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس
فصل : ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر فأما القريب الذي يمكنه المشي فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها فلزمه كالسعي إلى الجمعة وإن كان ممن لا يمكنه المشي اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي فهو كالبعيد وأما الزاد فلا بد منه فإن لم يجد زادا ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج
فصل : والزاد الذي يشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزلة لم يلزمه حمله وإن لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فإن كان يوجد في المنازل التي ينزلها على حسب العادة وإلا لم يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها لأن هذا يشق ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطرق والطعام بخلاف ذلك ويعتبر أيضا قدرته على الآلات التي يحتاج إليها كالغرائز ونحوها وأوعية الماء وما أشبهها لأنه مما لا سيتغنى عنه فهو كأعلاف البهائم
فصل : وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو بكراء لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثلهن فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط أجزأ وجود ذلك وإن كان لم تجر عادته بذلك ويخشى السقوط عنهما اعتبر وجود محمل وما أشبهه مما لا مشقة في ركوبه ولا يخشى السقوط عنه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي إنما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ههنا ما تدفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله
فصل : ويعتبر أن يكون هذا فاضلا عن ما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤونتهم في مضية ورجوعه لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد وقد روي عن عبد الله بن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] رواه أبو داود وإن بكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لا بد منه وإن يكون فاضلا عن قضاء دينه لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد ولذلك منع الزكاة مع تعلق حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها فالحج الذي هو خالص حق الله أولى وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها وإن احتاج إلى النكاح وخاف على نفسه العنت قدم التزويج لأنه واجب عله ولا غنى به عنه فهو كنفقته وإن لم يخف قدم الحج لأن النكاح تطوع فلا يقدم على الحج الواجب وإن حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح حجه لأنه متعلقة بذمته فلا تمنع صحة فعله
فصل : ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقة نفسه أو عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم يكفهم أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج وإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكين واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحج به لزمه وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج وإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغنى بأحدهما باع ما لا يحتاج إليه فإن كان له دين على ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه لأنه قادر وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه لم يلزمه

العمرة والحج وأدلة الوجوب
وفصل : وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين روى ذلك عن عمر و ابن عباس و زيد بن ثابت و ابن عمر و سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير و عطاء و طاوس و مجاهد و الحسن و ابن سيرين و الشعبي وبه قال الثوري و إسحاق و الشافعي في أحد قوليه : والرواية الثانية ليست واجبة وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : لا وإن تعتمروا فهو أفضل ] أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح و [ عن طلحة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الحج جهاد والعمرة تطوع ] رواه ابن ماجة ولأنه نسك غير موقت فلم يكن واجبا كالطواف المجرد
ولنا قول الله تعالى { وأتموا الحج والعمرة } ومقتضى الأمر الوجوب ثم عطفها على الحج والأصل التساوي بني المعطوف والمعطوف عليه قال ابن عباس : إنها لقرينة الحج في كتاب الله وعن الضبي ابن معبد قال : أتيت عمر فقلت : يا أمير المؤمنين إني أسلمت وإني وجد الحج والعمرة مكتوبين علي فاهللت بهما فقال عمر : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود والنسائي و [ عن أبي رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال : حج عن أبيك واعتمر ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وذكره أحمد ثم قال : وحديث يرويه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن بان عمر قال : [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أوصني قال : تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر ] وروى الأثرم بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيهن عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن وكان في الكتاب إن العمرة هي الحج الأصغر ] ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم نعلمه إلا أن ابن مسعود على اختلاف عنه وأما حديث جابر فقال الترمذي قال الشافعي : هو ضعيف لا تقوم بمثله الحجة وليس في العمرة شيء ثابت بأنها تطوع وقال ابن عبد البر : روي ذلك بأسانيد لا تصح ولا تقوم بمثلها الحجة ثم نحمله على المعهود وهي العمرة التي قضوها حين أحصروا في الحديبية أو على العمرة التي اعتمروها مع حجتهم مع النبي صلى الله عليه و سلم فإنها لم تكن واجبة على من اعتمر أو تحمله على ما زاد على العمرة الواحدة وتفارق الطواف لأن من شرطها الإحرام والطواف بخلافه
فصل : وليس على أهل مكة عمرة نص عليه أحمد وقال : كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول : يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت بهذا قال عطاء وطاوس : قال عطاء : ليس أحد من خلق الله إلا عليه حج وعمرة واجبان لا بد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا إلا أهل مكة فإن عليهم حجة وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت ووجه ذلك أن ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت وهم يفعلونه فاجزأ عنهم وحمل القاضي كلام أحمد على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج والأمر على ما قلناه
فصل : وتجزئ عمرة المتمتع وعمرة القارن والعمرة من أدنى الحل عن العمرة الواجبة ولا نعلم في أجزاء عمرة التمتع خلافا كذلك قال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد : ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وروي عن أحمد أن عمرة القارن لا تجزئ وهو اختيار أبي بكر وعن أحمد أن العمرة من أدنى الحلل لا تجزئ العمرة الواجبة وقال إنما هي من أربعة أميال واحتج على أن عمرة القارن لا تجزئ أن عائشة حين حاضت أعمرها من التنعيم فلو كانت عمرتها قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها
ولنا قول الضبي بن معبد : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما فقال عمر : هديت لسنة نبيك وهذا يدل على أنه أحرم بهما يعتقد أداء ما كتبه الله عليه منهما والخروج عن عهدتهما فصوبه عمر قال : هديت لسنة نبيك وحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم حين حلت منهما : [ قد حللت من حجك وعمرتك ] وإنما أعمرها النبي صلى الله عليه و سلم من التنعيم قصدا لتطيب قلبها وإجابة مسألتها لا لأنها كانت واجبة عليها ثم إن لم تكن أجزأتها عمرة القرآن فقد أجزأتها العمرة من أدنى الحل وهو أحد ما قصدنا الدلالة عليه ولأن الواجب عمرو واحدة وقد أتى بها صحيحة فتجزئه كعمرة المتمتع ولأن عمرة القارن أحد نسكي القرآن فأجزأت كالحج والحج من مكة يجزئ في حق المتمتع فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى وإذا كان الطواف المجرد يجزئ عن العمرة في حق المكي فلأن تجزئ العمرة المشتملة على الطواف وغيره أولى
فصل : ولا بأس أن يعتمر في السنة مرارا روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين ومالك وقال النخعي : ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله
ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه و سلم عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العمرة إلى العمرة كفاره لما بينهما ] متفق عليه وقال علي رضي الله عنه : في كل شهر مرة وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في مسنده وقال عكرمة : يعتمر إذا أمكن الموسى من شعره وقال عطاء : إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه وكذلك قال أحمد : إذا اعتمر فلا بد م أن يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام وقال في رواية الأثرم : إن شاء اعتمر في كل شهر وقال بعض أصحابنا : يستحب الإكثار من الاعتمار وأقوال السلف وأحوالهم تدل على ما قلناه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم ينقل عنهم الموالاة بينهما وإنما نقل عنهم إنكار ذلك والحق في اتباعهم قال طاوس : الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أو يعذبون قيل له : فلم يعذبون قال : لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غيره شيء
وقد اعتمر النبي صلى الله عليه و سلم أربع سفرات لم يزد في كل سفرة على عمرة واحدة ولا أحد ممن معه ولم يبغلنا أن أحدا منهم جمع بين عمرتين في سفر واحد معه إلا عائشة حين حاضت فأعمرها في التنعيم لأنها اعتقدت أن عمرة قرانها بطلت ولهذا قالت : يا رسول الله يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع أنا بحجة فأعمرها لذلك ولو كان في هذا فضل لما اتفقوا على تركه

العمرة في رمضان والمتابعة بين الحج والعمرة وفضلها
فصل : وروى ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عمرة في رمضان تعدل حجة ] متفق عليه قال أحمد : من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان وقال إسحاق : يعني هذا الحديث مثل ما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من قرأ { قل هو الله أحد } فقد قرأ ثلث القرآن ] و [ قال أنس : حج النبي صلى الله عليه و سلم حجة واحدة واعتمر أربع عمر واحدة في ذي القعدة وعمرة الحديبية وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين ] وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه وقال أحمد : حج النبي صلى الله عليه و سلم حجة الوادع قال : وروي عن مجاهد أنه قال : حج قبل حجة أخرى وما هو يثبت عندي وروي عن جابر قال : [ حج النبي صلى الله عليه و سلم ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر ] وهذا حديث غريب
فصل : وروي عن عبد الله بن مسعود قال : [ قال رسول الله عليه وسلم : تابعوا بين الحج و العمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكبر خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه : من أتى هذا البيت فلم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] متفق عليه وهو في الموطأ

من وجب عليه الحج وهو عاجز
مسألة : قال : فإن كن مريضا لا يرجى برؤه أو شيخا لا يستمسك على الراحلة أقام من يحج عنه ويعتمر وقد أجزأ عنه وإن عوفي
وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزا عنه لمانع مأيوس من زواله كزمانه أو مرض لا يرجى زواله أو كان نضو الخلق لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة والشيخ الفاني ومن كان مثله متى وجد ينوب عنه في الحج وما يستنبيه به لزمه ذلك وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا حج عليه إلا أن يستطيع
بنفسه ولا أرى له ذلك لأن الله تعالى قال : { من استطاع إليه سبيلا } وهذا غير مستطيع لأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز الصوم والصلاة
ولنا حديث أبي رزين وروى ابن عباس [ أن امرأة من خثعم قال : يا رسول الله إن فريضة الله على عبادة في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم ] وذلك في حجة الوداع متفق عليه وفي لفظ لمسلم [ قالت : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فحجي عنه ] وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ لا يجد الاستطاعة قال : يجهز عنه ولأن هذه عبادة تجب تجب بإفسادها الكفارة فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله كالصوم إذا عجز عنه افتدى بخلاف الصلاة
فصل : وإن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح لو لم يجد ما يحج به لم يجب عليه فالمريض أولى وإن وجد مالا لم يجد من ينوب عنه فقياس المذهب أنه ينبني على الروايتين في الحج في ذمته هذا يحج عنه بعد موته وإن قلنا من شرائط الوجوب لم يجب عليه شيء
فصل : ومتى أحج هذا عن نفسه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال الشافعي : وأصحاب الرأي وابن المنذر يلزمه لأن هذا بدل اياس فإذا برأ تبينا أن لم يكن مأيوسا منه فلزمه الأصل كالآيسة إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت لا تجزئها تلك العدة
ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ أو نقول أدى حجى الإسلام بأمر الشارع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج نفسه ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة وقولهم : لم يكن مأيوسا من برئة قلنا : لو لم يكن مأيوسا منه لما أبيح له أن يستنيب فإنه شرط الجواز الاستنابة أما الآيسة إذا اعتدت بالشهور فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض ولا يبطل به اعتدادها ولكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا اعتدت سنة ثم عاد حيضها لم يبطل اعتدادها فأما إن عوفي قبل فراغ النائب من الحج فيبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها إذا حاضتا إذا حاضتا قبل إتمام عدتهما بالشهور وكالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصيام ثم قدر على الهدي والمكفر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل وإن برأ قبل احرام النائب لم يجزئه بحال
فصل : ومن يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه ليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : له ذلك ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك لأنه عاجز عن الحج بنفسه أشبه المأيوس من برئه
ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه أنفعل كالفقير وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يقاس عليه إلا من كان مثله فعلى هذا إذا استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه فعليه أن يحج عن نفسه مرة أخرى لأنه استناب في حال لا تجوز له الاستنابه فيها فأشبه الصحيح

الحج عن الغير
فصل : لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فأما حج التطوع فيقسم أقساما ثلاثة
أحدها : أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يجوز أن يستنب في حجة التطوع لأنه لا يصح أن يفعل نفسه فبنائبه أولى
الثاني : أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيصح أن يستنيب في التطوع فإن جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله كالصدقة
الثالث : أن يكون قد أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحجة بنفسه فهل له أن يستنيب في حج التطوع ؟ فيه روايتان :
احدهما : يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب والثانية : لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يتسنيب فيه كالفرض
فصل : فإن كان عاجزا عنه عجزا مرجو الزوال كالمريض مرضا يرجى برؤه والمحبوس جاز له أن يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز له أن يستنيب فيه كالشيخ الكبير والفرق بينه وبين الفرض أن الفرض عبادة العمر فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره ولأن حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل بعد موته وحج التطوع لا يفعل فيفوت
فصل : وفي الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه مما يتعدى نفه ويختص فاعل أن يكون من أهل القربة روايتان
إحداهما : لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة و إسحاق والأخرى : يجوز وهو مذهب مالك و الشافعي وابن المنذر لـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أحق ما أخذتم عليه أجر كتاب الله ] رواه البخاري وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الجعل على الرقية بكتاب الله وأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه و سلم فصوبهم فيه ولأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ووجه الرواية الأولى [ أن عبادة بن الصامت كان يعلم رجلا القرآن فأهدى له قوسا فسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال له : إن سرك أن تتقلد قوسا من نار فتقلدها ] و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لعثمان بن أبي العاص : واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا ] ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليهما كالصلاة والصوم وأما الأحاديث التي في أخذ الجعل والأجرة فإنما كانت في الرقية وهي قضية في عين فتختص بها وأما بناء المساجد فلا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة ويجوز أن يقع قربة وغير قربة فإذا وقع بأجرة لم يكن قربة ولا عبادة ولا يصح ههنا أن يكون غير عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز الأجرة بدليل القضاء والشهادة والإمامة يؤخذ عليها الرزق من بيت المال وهو نفقة في المعنى ولا يجوز أخذ الأجرة عليها وفائدة الخلاف أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون إلا نائبا محضا وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه فلوم مات أو أحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمنا لما أنفق نص عليه أحمد لأنه انفاق بإذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم ينسد وإذا ناب عنه آخر فإنه يحج من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لأنه حصل قطع هذا المسافة بمال المنوب عنه فلم يكن عليه الإنفاق دفعة أخرى كما لو خرج بنفسه فمات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه وينفق على نفسه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشيء منه إلا أن يؤذن له في ذلك قال أحمد في الذي يأخذ دراهم للحج لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف وقال في رجل أخذ حجة عن ميت ففضلت مه فضله يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون سرفا ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال : أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له : حج بهذه فله أن يتوسع فيها وإن فضل شيء فهو له وإذا قال الميت : حجوا عني حجة بألف درهم فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا يجوز الاستئجار على الحج جاز أن يقع الدفع إلى النائب من غير استئجار فيكون الحكم فيه على ما مضى وإن استأجره ليحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الاجارة وما يأخذ أجرة له يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع به في النفقة وغيرها وما فضل فهو له وأن احصر أو ضل الطريق أو ضاعت النفقة منه فهو في ضمانه والحج عليه وإن مات انفسخت الإجارة لأن المعقود عليه تلف فانفسخ العقد كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون الحج أيضا من موضع بلغ إليه النائب وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه
فصل : فأما النائب غير المستأجر فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن له في الجناية فكان موجبا عليه كما لو لم يكن نائبا ودم المتعة والقران وإن أذن له في ذلك على المستنيب لأنه أذن في سببهما وإن لم يؤذن له فعليه لأنه كجنايته ودم الاحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع وإن فسد حجه فالقضاء عليه ويد ما أخذ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته وكذلك إن فاته الحج بتفريطه وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت بفعله فلم يكن مخالفا كما لو مات وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في نفسه كما لو دخل في حج ظن أنه عليه ولم يكن ففاته
فصل : وإذا سلك النائب طريقا يمكنه سلوك أقرب منه ففاضل النفقة في ماله وإن تعجل عجلة يمكنه تركها فكذلك وإن قام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع أنفق من مال نفسه لأنه غير مأذون له فيه فأما من لا يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون له فيه وله نفقة الرجوع وإن أقام بمكة سنين ما لم يتخذها دارا فإن اتخذها دارا ولو ساعة لم يكن له نفقة رجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكيا فسقطت نفقته فلم تعد وإن مرض في الطريق فعاد فله نفقة رجوعه لأنه لا بد له منه حصل بغير تفريطه فأشبه ما لو قطع عليه الطريق أو أحصر وإن قال : خفت أن أمرض فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم وعن أحمد فيمن مرض في الكوفة فرجع يرد ما أخذ وفي جميع ذلك إذا أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يجز شرطه على غيره كما لو شرطه على أجنبي
فصل : يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة والمرأة عن الرجل والمرأة في الحج في قول عامة أهل العلم لا نعلم فيه مخالفا إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل قال ابن المنذر : هذه غفلة عن ظاهر السنة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر المرأة أن تحج عن أبيها وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه
فصل : ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضا كان أو تطوعا لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة فأما الميت فتجوز عنه بغير أذن واجبا كان أو تطوعا لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لا أذن له وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كل ما يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به مثل أن يؤمر بحج فيعتمر أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه يصح عنه من غير إذنه ولا يقع عن الحي لعدم إذنه فيه ويقع عمن فله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي عنه وقع عن نفسه كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به فأشبه ما لو لم يفعل شيئا

فصول في مخالفة النائب
إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز ولا شيء عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وإن أحرم بالحج من مكة فعليه دم لترك ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة وقال القاضي : لا يقع فعله عن الآمر ويرد الجميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة
ولنا أنه إذا أحرم من الميقات فقد أتى بالحج صحيحا من ميقاته وإن أحرم به من مكة فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه وإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئا وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن لأنه مخالف
ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة فصح ولم يضمن كما لو أمره بشراء شاه بدينار فاشترى شاتين تساوي إحداهما دينارا ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها فلا شيء عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها
فصل : وإن أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد أنه لا يرد شيئا من النفقة وهو مذهب الشافعي وقال القاضي : يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمرة مفردة تحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وإن أفرد وقع عن المستنيب أيضا ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمره به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئا
فصل : فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع صح ووقع النسكان عن الآخر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من أحرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره
فصل : وإن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة وأذنا له في القران ففعل جاز لأنه نسك مشروع وإن قرن من غير اذنهما صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما وإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده وقال القاضي : إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد ولم يأت به فكان مخالفا كما لو أمر بحج فاعتمر
ولنا أنه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لا في أصله فأشبه من أمر بالتمتع فقرن ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه لعدم الاذن في سببه وعليهما أن أذنا لوجود الأذن في سببه ولو أذن أحدهما دون الآخر فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب
فصل : وإن أمر بالحج فحج ثم اعتمر لنفسه أو أمره بعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئا من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره جاز لأنهما سواء في الأجزاء إن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل وإن أمره بالإحرام من الميقات فأحرم م بلده جاز لأنه زيادة لا تضر وإن أمره بالحج في سنة أو بالاعتمار في شهر ففعله في غيره جاز لأه مأذون فيه في الجملة
فصل : فإن استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن نفسه لم ينوها فمع نبته أولى وإن أحرم عن أحدهما غير معين احتمل أن يقع عن نفسه أيضا لأن أحدهما ليس أولى من الآخر فأشبه ما لو أحرم عنهما واحتمل أن يصح لأن الإحرام يصح بالمجهول فصح عن المجهول وإلا صرفه إلى من شاء منهما اختاره أبو الخطاب فإن لم يفعل حتى طاف شوطا وقع عن نفسه ولم يكن إلا صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع عن غير معين

حج المرأة والزوجة والمعتدة
مسألة : قال : وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل
ظاهر هذا أن الحج لا يجب على المرأة التي لا محرم لها لأنه جعلها بالمحرم كالرجل في وجوب الحج فمن لا محرم لها لا تكون كالرجل فلا يجب عليها الحج وقد نص عليه أحمد فقال أبو داود : قلت لأحمد امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج ؟ قال : لا وقال أيضا المحرم من السبيل وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد أن المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب فمتى فاتها الحج بعد كمال الشرائط الخمس بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة به قد كملت وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير وعنه رواية ثالثة أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال الأثرم : سمعت أحمد يسأل : هل يكون الرجل محرما لأم امرأته يخرجها إلى الحج ؟ فقال : أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته وأما شرطا في حجها بحال قال ابن سيرين : تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به وقال مالك : تخرج مع جماعة النساء وقال الشافعي : تخرج مع حرة مسلمة ثقة وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول تتخذ سلما تصعد بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطا لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وقال لعدي بن حاتم : يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جواز معها لا تخاف إلا الله ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار
ولنا ما روي أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها محرم ] وعن ابن عباس قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقام رجل فقال : يا رسول الله إني كنت في غزوة كذا وانطلقت امرأتي حاجة فقال النبي صلى الله عليه و سلم انطلق فاحجج مع امرأتك ] متفق عليه وروى ابن عمر وأبو سعيد نحوا من حديث أبي هريرة قال أبو عبد الله : أما أبو هريرة فيقول يوما وليلة ويروى عن أبي هريرة لا تسافر سفرا أيضا وأما حديث أبي سعيد يقول : ثلاثة أيام قلت : ما تقول أنت ؟ قال : لا تسافر سفرا قليلا ولا كثيرا إلا مع ذي محرم وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم ] وهذا صريح في الحكم ولأنها انشأت سفرا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع وحديثهم محمول على الرجل بدليل أنهم اشترطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي صلى الله عليه و سلم في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ويحتمل أنه أراد أن الزاد والراحلة يوجب الحج مع كمال بقية الشروط ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشتراط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم في محل النزاع شرطا من عند نفسه لا من كتاب ولا من سنة فما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض فحديثنا أخص أصح وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها وقد اشترطوا ههنا خروج غيرها معها وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفارة فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حاله الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلا
فصل : والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كأبيها وابنها وأخيها من نسب أو رضاع لما روى أبو سعيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها ] رواه مسلم قال أحمد : ويكون زوج أم المرأة محرما لها يحج بها ويسافر الرجل مع أم ولد جده فإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته : يكون محرما لها في حج الفرض دون غيره قال الأثرم : كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله : { لا يبدين زينتهن } الآية فأما من تحل له في حال كعبدها وزوج أختها فليسا بمحرم لها نص عليه أحمد لأنهما غير مأمونين عليهما ولا تحرم عليهما على التأبيد فهما كالأجنبي وقد روى عن نافع عن ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سفر المرأة مع عبدها ضيعة ] أخرجه سعيد وقال الشافعي : عبدها محرم لها لأنه يباح له النظر إليها فكان محرما لها كذي رحمها والأول أولى ويفارق ذا الرحم لأنه مأمون عليها وتحرم عليه على التأبيد وينتقض ما ذكروه بالقواعد من النساء وغير أولي الاربة من الرجال وأما أم الموطوءة بشبهة أو المزني بها أو ابنتهما فليس بمحرم لهما لأن تحريمهما بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثبت باللعان وليس له الخلوة بهما ولا النظر إليهما لذلك والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته قال أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته : لا يزوجها ولا يسافر معها ليس هو لها بمحرم وقال أبو حنيفة والشافعي : هو محرم لها لأنها محرمة عليه على التأبيد
ولنا ان إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل وما ذكروه يبطل بأم المزني بها وابنتها والمحرمة باللعان وبالمجوسي مع ابنته ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف فإنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها نص عليه أحمد في مواضع ويشترط في المحرم أن يكون بالغا عاقلا قيل لأحمد : فيكون الصبي محرما قال : لا حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف يخرج مع امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل إلا من البالغ العاقل فاعتبر ذلك
فصل : ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زادا وراحلة لها ولمحرمها فإن امتنع محرمها من الحج معها مع بذلها له نفقته فهي كمن لا محرم لها لأنها لا يمكنها الحج بغير محرم وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك ؟ على روايتين نص عليهما والصحيح أنه لا يلزمه الحج معها لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة فلا تلزم أحدا لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة
فصل : وإذا مات محرم المرأة في الطريق فقال أحمد : إذا تباعدت مضت فقضت الحج قيل له : قدمت من خراسان فمات وليها ببغداد فقال : تمضي إلى الحج وإذا كان الفرض خاصة فهو آكد ثم قال : لا بد لها من أن ترجع وهذا لأنها لا بد لها من السفر بغير محرم فمضيها إلى قضاء حجها أولى لكن إن كان حجها تطوعا وأمكنها الإقامة في بلد فهو أولى من سفرها بغير محرم
فصل : وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام وبهذا قال النخعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر له منعها منه بناء على أن الحج على التراخي
ولنا أنه فرض فلم يكن له منعها منه كصوم رمضان والصلوات الخمس ويستحب أن تستأذنه في ذلك نص عليه أحمد فإن أذن وإلا خرجت بغير فأما حج التطوع فله منعها منه قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج التطوع وذلك لأن حق الزوج واجب فليس لها تفويته بما ليس بواجب كالسيد مع عبده وليس له منعها من الحج المنذور لأنه واجب عليها أشبه حجة الإسلام
فصل : ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه أحمد قال : ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق المبتوت وذلك لأن لزوم المنزل والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة وقد على الحج لأنه يفوت والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة وإذا خرجت للحج فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في منزلها وإن تباعدت مضت في سفرها ذكره الخرقي في موضع آخر

من وجب عليه الحج وامكنه فعله وجب عليه على الفور
مسألة : قال : فمن فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة
وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج وأمكنه فعله وجب عليه على الفور ولم يجز له تأخيره وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الشافعي : يجب الحج وجوبا موسعا وله تأخيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة لا محاربا ولا مشغولا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له دل على أن وجبه على التراخي
ولنا قول الله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } والأمر على الفور وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أراد الحج فليعجل ] رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن ماجة وفي رواية أحمد وابن ماجة [ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة ] قال عن أخيه الفضل عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن علي رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ] قال الترمذي : لا نعرقه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا ] وعن عمر نحوه من قوله وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولأنه أحد أركان الإسلام فكن واجبا على الفور كالصيام ولأن وجوبه بصفة التوسع بخروجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر إلى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله فأما النبي صلى الله عليه و سلم فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة أو كهر رؤية المشرطين عراة حول البيت فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفه الجمعة ويكمل الله دينه ويقال أنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين ولم يجتمع قبله ولا بعده فأما تسمية فعل الحج قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى { ثم ليقضوا تفثهم } وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور تسمية القضاء فإن الزكاة تجب على الفور ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يسمى قضاء القضاء ولو غلبت على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة أخرى لم يجز له تأخيره فلو أخره لا يسمى قضاء
إذا ثبت هذا عدنا إلى شرح مسألة الكتاب فنقول : متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث وبهذا قال الشعبي والنخعي : لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت كالصلاة
ولنا ما روى ابن عباس [ أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أبيها مات ولم يحج قال : حجي عن أبيك ] وعنه [ أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن ذلك فقال : أرأيت لو كان على أختك دين أما كنت قاضيه قال : نعم قال : فاقضوا دين الله فهو أحق بالقضاء ] رواهما النسائي وروى هذا أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة فلم تسقط بالموت كالدين ويخرج عليه الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج في القضاء فإنها واجبة وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر فكن من جميع المال كدين الآدمي

النيابة عن الميت وحج الولد عن والديه
فصل : ويستناب من يحج عنه حيث وجب عليه أما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه وبهذا قال الحسن وإسحاق ومالك في النذر وقال عطاء في الناذر إن لم يكن نوى مكانا فمن ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الإسلام يستأجر من يحج عنه من الميقات لأن الإحرام لا يجب من دونه
ولنا أن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان فقال أحمد : بحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه فكذلك نائبه فإن أحج عنه من دون ذلك فقال القاضي : إن كان دون مسافة القصر أجزأه لأنه في حكم القريب وإن كان أبعد لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب بكماله ويحتمل أن يجزئه فيكون مسيئا كمن وجب عليه الإحرام من الميقات فأحرم من دونه
فصل : فإن خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعضما وجب عليه فلم يجب ثانيا وكذلك إن مات نائبه استنيب من حيث مات لذلك ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو لغيره نص عليه ولأنها عبادة تدخلها النيابة فإذا مات بعد فعل بعضها قضى عنه باقيها كالزكاة
فصل : فإن لم يخلف تركة تفي بالحج من بلده حج عنه من حيث تبلغ وإن كان عليه دين لآدمي تحاصا ويؤخذ للحج حصته فيحج بها من حيث يبلغ وقال أحمد في رجل أوصى أن يحج عنه ولا تبلغ النفقة قال : يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وهذا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] ولأنه قدر على أداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة وعن أحمد ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة ولم يخلف ما يتم به حجة : هل يحج عنه من المدينة أو من حيث تتم الحجة ؟ فقال : ما يكون الحج عندي إلا من يحث وجب عليه وهذا تنبيه على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارض بحق الآدمي المؤكد أولى وأحرى ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجها واحدا لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده وحقه حق الله تعالى مع أنه لا يمكن اداؤه على الوجه الواجب
فصل : وإن أوصى بحج تطوع فلم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث بلغ أو يعان به في الحج نص عليه وقال : التطوع ما يبالي من أين كان ويستناب عن الميت ثقة لأقل ما يوجد إلا أن يرضى الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشيء فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث
فصل : يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر ابا رزين فقال : حج عن أبيك واعتمر ] و [ سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أبيها : مات ولم يحج قال : حجي عن أبيك ] ويستحب البداية بالحج عن الأم إن كان تطوعا أو واجبا عليهما نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر قال أبو هريرة : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك ] رواه مسلم و البخاري وإن كان الحج واجبا على الأب دونها بدأ به لأنه واجب فكان أولى من التطوع وروى زيد بن أرقم قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما بعث يوم القيامة مع الأبرار ] وعن جابر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حج عن أبيه أو أمه فقد قضى عنه حجته وكان له فضل عشر حجج ] روى ذلك كله الدارقطني
مسألة : قال : ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ وكانت الحجة عن نفسه
وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام وبهذا قال الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز : يقع الحج باطلا ولا يصح ذلك عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية فمتى نواه لغيره ولم ينو لنفسه لم يقع عن نفسه وقال الحسن وإبراهيم وأيوب السختياني وجعفر بن محمد ومالك وأبو حنيفة : يجوز أن ينجح عن غيره من لم يحج عن نفسه وحكي عن أحمد مثل ذلك وقال الثوري : إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه وإن لم يقدر على الحج عن نفسه حج عن غيره واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة لجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة
ولنا ما روى ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شبرمة ؟ قال : قريب لي قال : هل حججت قط ؟ قال : لا قال : فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة ] رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن ماجة وهذا لفظه ولأنه حج عن غيره قبل الحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقي عليه بعضها وههنا لا يجوز أن يحج عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه ولا يطوف عن غيره من لم يطف عن نفسه إذا ثبت هذا فإن عليه رد ما أخذ من النفقة لأنه لم يقع الحج عنه فأشبه ما لو لم يحج

الإحرام بالتطوع والنذر وممن عليه فرض الحج
فصل : وإن أحرم بتطوع أو نذر من لم يحج حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام وبهذا قال ابن عمر وأنس و الشافعي وقال مالك و الثوري و أبو حنيفة و إسحاق و ابن المنذر يقع ما نواه وهو رواية أخرى عن أحمد وقول أبي بكر لما تقدم
ولنا أنه حرم بالحج وعليه فرضه فوقع عن فرضه كالمطلق ولو أحرم بتطوع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة لأنها واجبة فهي كحجة الإسلام والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين فأشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة الإسلام وقعت عن حجة الإسلام لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه وإن استناب رجلين في حجة الإسلام ومنذرو أو تطوع فأيهما سبق بالإحرام وقعت حجته عن حجة الإسلام وتقع الآخر جاز أن ينوب عن غيره فيما أدى فرضه كالحر البالغ في ذلك وأولى منه ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون الفرض لأنهما من أهل التطوع دون الفرض ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه وعلى هذا لا يلزمها رد ما أخذا لذلك كالبالغ الحر الذي قد حج عن نفسه
إذا حرم بالمنذورة من عليه حجة الإسلام فوقعت عن حجة الإسلام فالمنصوص عن أحمد أن المنذورة لا تسقط عنه وهو قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنهما حجة واحدة فلا تجزئ عن حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة ويحتمل أن يجزئ لأنه قد أتى بالحجة ناويا بها نذره فأجزأته كما لو كان ممن أسقط فرض الحج عن نفسه وقد نقل أبو طالب عن احمد فيمن نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فأحرم عن النذر وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شيء آخر وهذا مثل ما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره على رواية وهذا قول ابن عباس وعكرمة وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس وعكرمة إنهما قالا في رجل نذر أن يحج ولم يكن حج الفريضة قال : يجزئ نذر أن جميعا وسئل عكرمة عن ذلك فقال : يقضي حجة عن نذره وعن حجة الإسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر ومن النذر قال : وذكرت قولي لابن عباس فقال : أصبت أو أحسنت

إذا بلع الصبي وعتق العبد اثناء الحج
مسألة : قال : ومن حج وهو غير بالغ فبلغ أو عبد فعتق فعليه الحج
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعد بقوله خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدوا إليها سبيلا كذلك قال ابن عباس وعطاء و الحسن و النخعي و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي قال الترمذي وقد أجمع أهل العلم لعيه وقال الإمام أحمد عن محمد بن كعب القرظي قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين عهدا : أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج وأيما مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أعتق فعليه الحج ] رواه سعيد في سننه و الشافعي في مسنده عن ابن عباس من قوله ولأن الحج عبادة بدنيه فعلها قبل وقت وجوبها فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها كما لو صلى قبل الوقت وكما لو صلى ثم بلغ في الوقت
فصل : فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين فأحرما ووقفا بعرفة وأتما المناسك أجزأهما عن حجة الإسلام لا نعلم فيه خلافا لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج ولا فعلا شيئا منها قبل وجوبه وإن كان البلوغ والعتق وهما محرمان أجزأهما أيضا عن حجة الإسلام كذلك قال ابن عباس : وهو مذهب الشافعي وإسحاق وقاله الحسن في العبد وقال مالك : لا يجزئهما اختاره ابن المنذر وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ العبد فأما الصبي فإن جدد إحراما بعد أن احتلم قبل الوقوف أجزأه وإلا فلا لأن إحرامهما لم ينعقد واجبا فلا يجزئ عن الواجب كما لو بقيا على حالهما
ولنا أنه أدرك الوقوف حرا بالغا فاجزأه كما لو أحرم تلك الساعة قال أحمد : قال طاوس عن ابن عباس : إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته فإن أعتق بجمع لم تجزئ عنه وهؤلاء يقولون لا تجزئ ومالك يقول أيضا وكيف لا يجزئه وهو لو أحرم تكل الساعة كان حجة تاما وما أعلم أحدا قال : لا يجزئه إلا هؤلاء والحكم فيما إذا أعتق البعد وبلغ الصبي بعد خروجهما من عرفة فعادا إليها قبل طلوع الفجر ليلة النحر كالحكم فيما إذا كان ذلك فيها لأنهما قد أدركا من الوقت ما يجزئ ولو كان لحظة وإن لم يعودا أو كان ذلك بعد طلوع الفجر من يوم النحر لم يجزئهما عن حجة الإسلام ويتمان حجهما تطوعا لفوات الوقوف المفروض ولا دم عليهما لأنهما حجا تطوعا بإحرام صحيح من الميقات فأشبها البالغ الذي يحج تطوعا فإن قيل : فلم لا قلتم إن الوقوف فعلاه يصير فرضا كما قلتم في الإحرام الذي أحرم به قبل البلوغ يصير بعد بلوغه فرضا ؟ قلنا : إنما اعتددنا له بإحرامه الموجود بعد بلوغه وما قبل بلوغه تطوع لم ينقلب فرضا ولا اعتد له به فالوقوف مثله فنظيرة أ يبلغ وهو واقف بعرفة فإنه يعتد له بما أدرك من الوقوف ويصير فرضا دون ما مضى
فصل : وإذا بلغ الصبي أو أعتق العبد قبل الوقوف أو في وقته وأمكنهما الاتيان بالحج لزمهما ذلك لأن الحج واجب على الفور فلا يجوز تأخيره مع إمكانه كالبالغ الحر وإن فاتهما الحج لزمتهما العمرة لأنها واجبة أمكن فعلها فأشبهت الحج ومتى أمكنهما ذلك فلم يفعلا استقر الوجوب عليهما سواء كانا موسرين أو معسرين لأن ذلك وجب عليهما بإمكانه في موضعه فلم يسقط بفوات القدرة بعده
فصل : والحكم في الكافر يسلم والمجنون يفيق حكم الصبي في جميع ما فصلناه إلا أن هذين لا يصح منهما إحرام ولو أحرما لم ينعقد إحرامهما لأنهما من غير أهل العبادات ويكون حكمهما حكم من لم يحرم

في حج العبد
فصل : وقد بقي من أحكام حج العبد فصول : أحدهما : في حكم إحرام الثاني : في حكم نذره للحج الثالث : في حكم ما يلزمه من الجنايات على إحرامه الرابع : حكم إفساده وفواته
الفصل الأول في إحرامه : وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب فإن فعل انعقد إحرامه صحيحا لأنها عبادة بدنية فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده كالصلاة والصوم ولسيده تحليله في إحدى الروايتين لأن في بقائه عليه تفويتا لحقه من منافعه بغير إذنه فلم يلزم ذلك سيده كالصوم المضر ببدنه وهذا اختيار ابن حامد وإذا حلله منه كان حكمه حكم المحصر والثانية : ليس له تحليله وهو اختيار أبي بكر لأنه لا يمكنه التحلل من تطوعه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح لأنه التزم التطوع باختيار نفسه فنظيره أن يحرم عبده بإذنه وفي مسألتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فأما إن احرم بإذن سيده فليس له تحليله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه فكان له الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية
ولنا أنه عقد لازم عقده بإذن سيده فلم يكن لسيده منعه منه كالنكاح ولا يشبه العارية لأنها ليست لازمة ولو أعاره شيئا ليرهنه فرهنه لم يكن له الرجوع فيه ولو باعه سيده بعدما أحرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه سواء لأنه اشتراه مسلوب المنفعة أشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فأشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وإن لم يعلم فله الفسخ لأنه يتضرر بمضي العبد في حجه لفوات منافعه إلا أن يكون إحرامه بغير إذن سيده ونقول : له تحليله فلا يملك الفسخ لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو يعلم حتى أحرم فهل يكون حكمه حكم من أحرم بإذن سيده ؟ على وجهين بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم ؟ على روايتين
الفصل الثاني : إذا نذر العبد الحج صح نذره لأنه مكلف فانعقد نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لأن فيه تفويت حق سيده الواجب فمنع منه كما لو لم ينذر ذكره القاضي و ابن حامد وروي عن أحمد أنه قال : لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة لا على التحريم لما ذكرنا ويحتمل لأنه واجب فلم يملك منع منه كسائر الواجبات والأول أولى فإن أعتق لزمه الوفاء به بعد حجة الإسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة الإسلام كالحر إذا نذر حجا
الفصل الثالث : في جناياته وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا وإذن له في إهدائه وقلنا أنه يملكه فهو كالهدي الواجب لا يتحلل إلا به وإن قلنا لا يملكه ففرضه الصيام وإن أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي أن على سيده تحمل ذلك عنه لأنه بإذنه فكان على من أذن فيه كما لو فعله النائب بإذن المستنيب وليس يجيد لأن الحج لعبد وهذا من موجباته فيكون عليه كالمرأة إذا حجت بإذن زوجها ويفارق من حج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وإن تمتع أو قارن بغير إذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وإن أفسد حجة فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال له فهو كالمعسر من الأحرار
الفصل الرابع : إذا وطئ العبد قبل التحلل الأول فسد ويلزمه المضي في فاسده كالحر لكن إن كان الإحرام مأذونا فيه فليس لسيده إخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه فلم يكن له منعه من فاسده وإن كان الإحرام بغير إذنه فله تحليله منه لأنه يملك تحليله من صحيحه فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح منه كالصلاة والصيام ثم إن كان الإحرام الذي أفسده مأذونا فيه فليس له منعه من قضائه لأن إذنه في الحج الأول إذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه احتمل أن لا يملك منه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل أن له منعه منه لأنه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير إذنه فكذلك هذا فإن اعتق قبل القضاء فليس له فعله قبل حجة الإسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام وبقي القضاء في ذمته وإن عتق في أثناء الحجة الفاسدة وأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لو كان صحيحا أجزأه فكذلك قضاؤه وإن أعتق بعد ذلك لم يجزئه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لا يجزئه فكذلك قضاؤه والمدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه

في الحج بالولد الصغير وما يتعلق به احكام الإحرام ومحظورات الإحرام
مسألة : قال : وإذا حج بالصغير جنب ما يتجنبه الكبير وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه
وجملة ذلك أن الصبي يصح حجه فإن كان مميزا أحرم بإذن ليه وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه فيصير محرما بذلك وبه قال مالك و الشافعي وروي عن عطاء و النخعي وقال أبو حنيفة : لا ينعقد إحرام الصبي ولا يصير محرما بإحرام وليه لأن الإحرام سبب يلزم به حكم فلم يصح من الصبي كالنذر
ولنا ما روى ابن عباس قال : [ رفعت امرأة صبيا فقالت : يا رسول الله ألهذا أحج ؟ قال : نعم ولك أجر ] رواه مسلم وغيره من الأئمة وروي البخاري [ عن السائب بن يزيد قال : حج بي مع النبي صلى الله عليه و سلم وأنا ابن سبع سنين ] ولأن أبا حنيفة قال : يجتنب ما يجتنبه المحرم ومن اجتنب ما يجتنبه المحرم كان إحرامه صحيحا والنذر لا يجب به شيء بخلاف مسألتنا
والكلام في حج الصبي في فصول أربعة في الإحرام عنه أو منه وفيما يفعله بنفسه أو بغيره وفي حكم جناياته على إحرامه وفيما يلزمه من القضاء والكفارة
الفصل الأول في الإحرام : إن كان مميزا أحرم بإذن وليه وإن أحرم بدو إذنه لم يصح لأن هذا عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد من الصبي بنفسه كالبيع وإن كان غير مميز فأحرم عنه من له ولاية على ماله كالأب والوصي وأمين الحاكم صح ومعنى إحرامه عنه أنه يعقد له الإحرام فيصح للصبي دون الولي كما يعقد النكاح له فعلى هذا يصح أن يعقد الإحرام عنه سواء كان محرما أو حلالا ممن عليه حجة الإسلام أو كان قد حج عن نفسه فإن أحرمت أمه عنه صح لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولك أجر ] ولا يضاف الأجر إليها إلا لكونها تبعا لها في الإحرام قال الإمام أحمد في رواية حنبل : يحرم عنه أبوه أو وليه واختاره ابن عقيل وقال : المال الذي يلزم بالإحرام لا يلزم الصبي وإنما يلزم من أدخله في الإحرام في أحد الوجهين وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه لا يحرم عنه إلا وليه لأنه ولا ولاية للأم على ماله والإحرام يتعلق به إلزام مال فلا يصح من غير ذي ولاية كشراء شيء له فأما غير الأم والولي من الأقارب كالأخ والعم وابنه فيخرج فيهم وجهان بناء على القول في الأم أما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا
الفصل الثاني : إن كل ما أمكنه فعله بنفسه لزمه فعله ولا ينوب غيره عنه فيه كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما وما عجز عنه عمله الولي عنه قال جابر : [ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حجاجا ومعنا النساء والصبيان فأحرمنا عن الصبيان ] رواه سعيد في سننه ورواه ابن ماجه في سننه فقال : [ فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ] ورواه الترمذي قال : [ فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان ] قال ابن المنذر : كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك وبه قال عطاء و الزهري و مالك و الشافعي و إسحاق وعن ابن عمر أنه كان يحج صبيانه وهم صغار وهم صغار فمن استطاع منهم أن يرمي رمى ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه وعن أبي إسحاق أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة رواهما الأثرم قال الإمام أحمد : يرمي عن الصبي أبواه وليه قال القاضي : أن امكنه أن يناول النائب الحصى ناوله وإن لم يمكنه استحب أن يوضع الحصى في يده فيرمى عنه وإن وضعها في يد الصغير ورمى بها فجعل يده كالآلة فحسن ولا يجوز أن يرمي عنه إلا من قد رمى عن نفسه لأنه لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه وأما الطواف فإنه ان أمكنه المشي مشى وإلا طيف به محمولا أو راكبا فإن أبا بكر طاف بابن الزبير في خرقة ولأن الطواف بالكبير محمولا لعذر يجوز فالصغير أولى ولا فرق بين أن يكون الحامل له حلالا أو حرما ممن أسقط الفرض عن نفسه أو لم يسقطه لأن الطواف للمحمول لا للحامل ولذلك صح أن يطوف راكبا على بعير وتعتبر النية في الطائف به فإن لم ينو الطواف عن الصبي لم يجزئه لأنه لما لم تعتبر النية من الصبي اعتبرت من غيره كما في الإحرام فإن نوى الطواف عن نفسه وعن الصبي احتمل وقوعه عن نفسه كالحج إذا نوى به عن نفسه وغيره واحتمل أن يقع عن الصبي كما لو طاف بكبير ونوى كل واحد منهما عن نفسه لكون المحمول أولى واحتمل أن يلغو لعدم التعيين لكون الطواف لا يقع عن غير معين
وأما الإحرام فإن الصبي يجرد كما يجرد الكبير وقد روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم قال عطاء : يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير ويشهد به المناسك كلها إلا أنه لا يصلى عنه
الفصل الثالث في محظورات الإحرام : وهي قسمان : ما يختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب وما لا يختلف كالصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار فالأول : لا فدية على الصبي لأن عمده خطأ والثاني : عليه فيه الفدية وإن وطئ أفسد حجة ويمضي في فاسده وفي القضاء عليه وجهان أحدهما : لا يجب لئلا تجب عبادة بدنية على من ليس من أهل التكليف والثاني : يجب لأنه افساد موجب للفدية فأوجب القضاء كوطء البالغ فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام فإن أحرم بالقضاء قبلها انصرف إلى حجة الإسلام وهل تجزئه عن القضاء ؟ ينظر فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئا من الوقوف بعد بلوغه أجزأ عنهما جميعا وإلا لا يجزئه كما قلنا في العبد على ما مضى
الفصل الربع فيما يلزمه من الفدية : قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن جنايات الصبيان لازمة لهم في أموالهم وذكر أصحابنا في الفدية التي تجب بفعل الصبي وجهين أحدهما : هي في ماله لأنها وجبت بجنايته أشبهت الجناية إلى الآدمي والثاني على الولي وهو قول مالك لأنه حصل بعقده أو اذنه فكان عليه كنفقه حجه فأما النفقة فقال القاضي : ما زاد على نفقه الحضر ففي مال الولي لأنه كلفه ذلك ولا حاجة به إليه وهذا اختيار أبي الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن النفقة كلها على الصبي لأن الحج له فنفقته عليه كالبالغ ولأن فيه مصلحة له بتحصيل الثواب له ويتمرن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب والأول أولى فإن الحج لا يجب في العمر إلا مرة ويحتمل أن لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه للتمرن عليه والله أعلم
فصل : إذا أغمي على بالغ لم يصح أن يحرم عنه رفيقه وبه قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يصح ويصير محرما بإحرام رفيقه عنه استحسانا لأن ذلك معلوم من قصده ويلحقه مشقة في تركه فاجزأ عنه إحرام غيره
ولنا أنه بالغ فلم يصر محرما بإحرام غيره كالنائم ولو أنه أذن في ذلك وأجازه لم يصح فمع عدم هذا أولى أن لا يصح
مسألة : قال : ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله
أما إذا طيف به محمولا لعذر فلا يخلو أما أن يقصدا جميعا عن المحمول فيصح عنه دون الحامل بغير خلاف نعلمه أو يقصدا جميعا عن الحامل فيقع عنه أيضا ولا شيء للمحمول أو يقصد كل واحد منهما الطواف عن نفسه فإنه يقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل وقال أبو حنيفة : يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة فاجزأ الطواف عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئا ولأنه لو حمله بعرفات لكان الوقوف عنهما كذا ههنا وهذا القول حسن ووجه الأول أنه طواف أجزأه عن المحمول فلم يقع عن الحامل كما لو نويا جميعا المحمول ولأنه طواف واحد فلا يقع عن شخصين والراكب لا يقع طوافه إلا عن واحد وأما إذا حمله في عرفه فما حصل الوقوف بالحمل فإذا المقصود الكون في عرفات وهما كائنان بها والمقصود ههنا الفعل وهو واحد فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من الطواف لا يقف على حمله فصار المحمول مقصودا لهما ولم يخلص قصد الحامل لنفسه فلم يقع عنه لعدم التعيين قال أبو حفص العكبري في شرحه : لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع عن اثنين وليس أحدهما أولى به من الآخر وقد ذكرنا أن المحمول به أولى لخلوص نيته لنفسه وقصد الحامل له ولا يقع عن الحامل لعدم التعيين فإن نوى أحدهما نفسه دون الآخر صح الطواف له وإن عدمت النية منهما أو نوى كل واحد منهما الآخر لم يصح لواحد منهما

باب ذكر المواقيت
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة وأهل اليمن من يلملم وأهل الطائف ونجد من قرن وأهل المشرق من ذات عرق
وجملة ذلك أن المواقيت المنصوص عليهما الخمسة التي ذكرها الخرقي رحمه الله وقد أجمع أهل العلم على أربعة منها وهي : ذو الحليفة والجدفة وقرن ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فمن ذلك ما روى ابن عباس قال : [ وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم قال : فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن مهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها ] وعن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن ] قال ابن عمر : وذكر لي ولم أسمعه أنه قال : [ وأهل اليمن من يلملم ] متفق عليهما
فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم وهو مذهب مالك وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق احرام من الميقات وروى عن أنس أنه كان يحرم من العقيق واستحسنه الشافعي و ابن المنذر و ابن عبد البر وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة وروي ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن وقد روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وقت لأهل المشرق العقيق ] قال الترمذي : وهو حديث حسن قال ابن عبد البر : العقيق أولى أحوط من ذات عرق وذات ميقاتهم بإجماع واختلف أهل العلم فيمن وقت ذات عرق فروى أبو داود والنسائي وغيرهما بإسنادهم عن القاسم عن عائشة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقت لأهل العراق ذات عرق ] وعن أبي الزبير أنه سمع جابرا سئل عن المهل قال : سمعته وأحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن ] رواه مسلم في صحيحه وقال قوم آخرون : إنما وقتها عمر رضي الله عنه فروي البخاري بإسناده عن ابن عمر قال : لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور عن طريقنا وإنا إن أدرنا قرنا شق علينا قال : فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي صلى الله عليه و سلم ذات عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ووافق قول النبي صلى الله عله وسلم فقد كان كثير الإصابة رضي عنه وإذا ثبت توقيتها عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن عمر فالإحرام منه أولى إن شاء الله تعالى

إذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكن آخر فموضع الإحرام
فصل : وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه وقد رأى سعيد بن جبير رجلا يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذ بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي به المقابر فقال : هذه ذات عرق الأولى

ميقات أهل مكة ومن فيها
مسألة : قال : وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل وإذا أرادوا الحج فمن مكة
أهل مكة ومن كان بها سواء كان مقيما بها أو غير مقيم لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتا له وكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافا ولذلك [ أمر النبي صلى الله عليه و سلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ] متفق عليه وكانت بمكة يومئذ والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ حتى أهل مكة يهلون منها ] يعني للحج وقال أيضا : [ ومن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشيء حتى يأتي ذلك على أهل مكة ] وهذا في الحج
فأما في العمرة فميقاتها في حقهم الحل من أي جوانب الحرم شاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بإعمار عائشة من التنعيم وهو أدنى الحل إلى مكة وقال ابن سيرين : بلغني [ أن النبي صلى الله صلى الله عليه و سلم وقت لأهل مكة التنعيم ] وقال ابن عباس : يا أهل مكة من أتى منكم العمرة فليجعل بينه وبنيها بطن محسر يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروف إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم والعمرة بخلاف ذلك ومن أي الحل أحرم جاز وإنما أعمر النبي صلى الله عليه و سلم عائشة من التنعيم لأنها أقرب الحل إلى مكة وقد روي عن أحمد في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها وأما إن أراد المكي الإحرام بالحج فمن مكة للخبر الذي ذكرنا ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لما فسخوا الحج أمرهم فأحرموا من مكة قال جابر : [ أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح ] رواه مسلم وهذا يدل على أنه لا فرق بين قاطني مكة وبين غيرهم ممن هو بها كالمتمتع إذا حل ومن فسخ حجه بها ونقل عن أحمد فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة أنه يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم والصحيح خلاف هذا لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ويحتمل أن أحمد إنما أراد أن المتمتع يسقط عنه الدم إذا خرج إلى الميقات ولا يسقط إذا أحرم من مكة وهذا في غير المكي أما المكي فلا يجب عليه دم متعة بحال لقول الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وذكر القاضي فيمن دخل مكة يحج عن غيره ثم أراد أن يعتمر بعده لنفسه أو دخل يحج لنفسه ثم أراد أن يعتمر لغيره أو دخل بعمرة لنفسه ثم أراد أن يحج أو يعتمر لغيره أو دخل لغيره ثم أراد أن يحج أو يعتم لنفسه أنه في جميع ذلك يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن لم يفعل فعليه دم قال : وقد قال أحمد في رواية عبد الله : إذا اعتمر عن غيره ثم أراد الحج لنفسه يخرج إلا الميقات أو اعتمر عن نفسه يخرج إلى الميقات وإن دخل مكة بغير إحرام ثم أراد الحج يخرج إلى الميقات واحتج له القاضي بأنه جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم لنفسه فلزمه دم إذا أحرم دونه كمن جاوز الميقات غير محرم وعلى هذا لو حج شخص واعتمر عن آخر هذا كله لما ذكرنا من أن كل من كان بمكة فكذلك وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه الخروج إلى الميقات في هذا كله لما ذكرنا من أن كل من كان بمكة كالقاطن بها وهذا حاصل بمكة على وجه مباح فأشبه المكي وما ذكره القاضي تحكم لا يدل عليه خبر ولا يشهد له أثر وما ذكره من المعنى فاسد لوجوه :
أحدها : أنه لا يلزم أن يكون مريدا للنسك عن نفسه حال مجاوزة الميقات فإنه قد يبدوا له بعد ذلك
والثاني : أن هذا لا يتناول من أحرم عن غيره
الثالث : أنه لو وجب بهذا الخروج إلى الميقات للزم المتمتع والمفرد لأنهما تجاوزا الميقات مريدين لغير النسك الذي أحرما به
الرابع : أن المعنى في الذي يجاوز الميقات غير محرم أنه فعل ما لا يحل له فعله وترك الإحرام الواجب عليه في موضعه فأحرم من دونه
فصل : ومن أي الحرم أحرم بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم وهذا يحصل بالإحرام من أي موضع كان فجاز كما يجوز أن يحرم بالعمرة م نأي موضع كان من الحل ولذلك [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه في حجة الوداع : إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء ] ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت فيه البلدة وغيرها كالنحر
فصل : فإن أحرم من الحل نظرت فإن أحرم من الحل الذي يلي الموقف فعيه دم لأنه أحرم من دون الميقات وإن أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم فلا شيء عليه نص عليه أحمد في رجل أحرم للحج من التنعيم فقال : ليس عليه شيء وذلك لأنه أحرم قبل ميقاته فكان كالحرم قبل بقية المواقيت ولو أرحم من الحل ولم يسلك الحرم فعليه دم لأنه لم يجمع بين الحل والحرم
فصل : وإن أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه بها وعليه دم لتركه الإحرام من الميقات ثم إن خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صح أيضا لأنه قد أتى بأركانها وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها وقد جبره فأشبه من أحرم من دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي والقول الثاني : لا تصح عمرته لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك ويسعى وإن حلق قبل ذلك فعليه دم وكذلك كل ما فعله من محظورات إحرامه فديته وإن وطئ أفسد عمرته ويمضي في فاسدها وعليه دم لإفسادها ويقضيها بعمرة من الحل ثم إن كانت العمرة التي أفسدها عمرة الإسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الإسلام وإلا فلا

ومن كان منزله أو قريته دون الميقات ومن لم يكن على طريقه ميقات
مسألة : قال : ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه
يعني إذا كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته مسكنه هذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك و طاوس و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن مجاهد قال : يهل من مكة ولا يصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال في حديث ابن عباس : [ فمن كان دونهن مهله من أهله ] وهذا صريح والعمل به أولى
فصل : إذا كان مسكنه قرية فالأفضل أن يحرم من أبعد جانبيها وإن أحرم من أقرب جانبيها جاز وهكذا القول في المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كانت قرية والحلة كالقرية فيما ذكرنا وإن كان مسكنه منفردا فميقاته مسكنه أو حذوه وكل ميقات فحذوه بمنزلته ثم إن كان مسكنه في الحل فإحرامه منه للحج والعمرة معا وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل ليجمع بين الحل والحرم كالمكي وأما الحج فينبغي أن يجوز له الإحرام من أي الحرم شاء كالمكي
مسألة : قال : ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم
وجملة ذلك أن من سلك طريقا من ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر : أن قرنا جور عن طريقنا فقال : انظروا حذوها من طريقكم فوقت لهم ذات عرق ولأن هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة
فصل : فإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث يتقين أنه لم يجاوز الميقات إلا محرما لأن الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه لا يجوز فالاحتياط فعل ما لا شك فيه ولا يلزمه الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه لأن الأصل عدم وجوبه فلا يجب بالشك فإن أحرم ثم علم بعد أنه قد جاوز ما يحاذيه من المواقيت غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم في ذلك على ما ذكرنا في المسألة قبلها وإن كانتا متساويتين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما
مسألة : قال : وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة
وجملة ذلك أن من سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته وإن حج من اليمن فميقاته يلملم وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق وهكذا كل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له سأل أحمد عن الشامي يمر بالمدينة يريد الحج : من أين يهل ؟ قال : من ذي الحليفة قيل : فإن بعض الناس يقول : يهل من ميقاته من الجحفة فقال : سبحان الله أليس يروي ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ] وهذا قول الشافعي و إسحاق وقال أبو ثور في الشامي يمر بالمدينة له أن يحرم من الجحفة وهو قول أصحاب الرأي وكانت عائشة إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة ولعلهم يحتدون بأن النبي صلى الله عليه و سلم وقت لأهل الشام الجحفة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ] ولأنه ميقات فلم يجز تجاوزه بغير إحرام لمن يريد انسك كسائر المواقيت وخبرهم أريد به من لم يمر على ميقات آخر بدليل ما لو مر بميقات غير ذي الحليفة لم يجز له تجاوزه بغير إحرام بغير خلاف وقد روى سعيد عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة ولا فرق بين الحج والعمرة في هذا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة ]

الإحرام قبل الميقات من جاوز الميقات وهو غير محرم وحكمه
فصل : فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة سواء كان شاميا أو مدنيا لما روى أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال : سمعته أسحبه رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة ] رواه مسلم لو أنه مر على أحد المواقيت دون غيره فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ويحتمل أن أبا قتادة حين أحرم أصحابه دونه في قصة صيده للحمار الوحشي إنما ترك الإحرام لكونه لم يمر على ذي الحليفة فأخر إحرامه إلى الجحفة إذ لو مر عليها لم يجز له تجاوزها من غير إحرام ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا وأنها لا تمر في طريقها على ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم ولسائر أهل العلم
مسألة : قال : والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته فإن فعل فهو محرم
لا خلاف في أن من أحرم قبل الميقات يصير محرما تثبت في حقه أحكام الإحرام قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ولكن الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله روي نحو ذلك عن عمر وعثمان وبه قال الحسن و عطاء و مالك و اسحاق وقال أبو حنيفة : الأفضل الإحرام من بلده وعن الشافعي كالمذهبين وكان علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم واحتجوا بما روت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - أو - وجبت له الجنة ] شك عبد الله أيهما قال رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجة : [ من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له ] وأحرم ابن عمر من إيليا وروى النسائي و أبو داود بإسناديهما عن الضبي بن معبد قال : أهللت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سليمان ابن ربيعة و زيد بن صوحان وأنا أهل بهما فقال أحدهما : ما هذا بأفقه من بعيره فأتيت عمر فذكرت له ذلك فقال : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه و سلم وهذا إحرام به قبل الميقات وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة } إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل فإذا قيل : إنما فعل هذا لتبين الجواز قلنا : قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤوا على ترك الأفضل واختيار الأدنى وهم أهل التقوى والفضل وأفضل الخلق ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يستمتع أحدكم بحلة ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه ] وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلع ذلك عمر فغضب وقال : يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أحرم من مصره : وقال إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد الأثرم قال البخاري : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ولأنه تغرير بالإحرام وتعرض لفعل محظوراته وفيه مشقة على النفس فكره كالوصال في الصوم قال عطاء : انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعيف يرويه ابن أبي فديك و محمد بن إسحاق وفيهما مقال ويحتمل اختصاص هذا بيت المقدس دون غيرها ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد ولذلك أحرام ابن عمر منه ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات وقول عمر للضبي : هديت لسنة نبيك يعني في القران فالجمع بين الحج والعمرة لا في الإحرام من قبل الميقات فإن سنة النبي صلى الله عليه و سلم الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله وقد بين أنه لم يرد ذلك إنكاره على عمران بن حصين إحرامه من مصره وأما قول عمر وعلي فإنهما قالا : إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك ومعناه أن تنشئ لها سفرا من بلدك تقصد له ليس أن تحرم بها من أهلك قال أحمد كان سفيان يفسره بهذا وكذلك فسهر به أحمد ولا يصح أن يسفر يفسر بنفس الإحرام فإن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم وقد أمرهم الله بإتمام العمرة فلو حمل قولهم على ذلك النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه تاركين لأمر الله ثم إن عمر وعليا ما كانا يحرمان إلا من الميقات افتراهما يريان إن ذلك ليس بإتمام لها يفعلانه ؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره واشتد عليه وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ به افتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل ؟ هذا لا يجوز فيتعين حمل قولهما في ذلك على ما حمله عليه الأئمة والله أعلم
مسألة : قال : ومن أراد الإحرام فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من مكانه فعليه دم وإن رجع محرما إلى الميقات
وجملة ذلك أن من جاوز الميقات مريدا للنسك غير محرم فعليه أن يرجع إليه ليحرم منه أن أمكنه سواء تجاوزه عالما به أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شيء عليه لا نعلم في ذلك خلافا وبه يقول جابر بن يزيد والحسن وسعيد بن جبير والثوري والشافعي وغيرهم : لأنه أحرم من الميقات الذي أمر بالإحرام منه فلم يلزمه شيء كما لو لم يتجاوزه وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع وبهذا قال مالك وابن المبارك وظاهر مذهب الشافعي أنه إن رجع إلى الميقات فلا شيء عليه إلى أن يكون قد تلبس بشيء من أفعال الحج كالوقوف وطواف القدوم فيستقر الدم عليه لأنه حصل محرما في الميقات قبل التلبس بأفعال الحج فلم يلزمه دم كما لو أحرم منه وعن أبي حنيفة إن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم وإن لم يلب يسقط وعن عطاء و الحسن و النخعي : لا شيء على من ترك الميقات وعن سعيد بن جبير : لا حج لمن ترك الميقات
ولنا ما روى ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أنه قال : من ترك نسكا فعليه دم ] روي موقوفا ومرفوعا ولأنه أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الجم كما لو لم يرجع أو كما لو طاف عند الشافعي أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم كما ذكرنا ولأن الدم وجب لتركه الإحرام من الميقات ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه منه فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه
فصل : ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يقسط عنه الدم وبه قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال الثوري وأصحاب الرأي يسقط لأن القضاء واجب
ولنا أنه واجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك وكجزاء الصيد
فصل : فأما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين : ( أحدهما ) : لا يريد دخول لاحرم بل يريد حاجة فيما سواه فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شيء عليه في ترك الإحرام وقد أتى بأسا ثم متى بدا لهذا الإحرام وتجدد له اعزم عليه أحرم من موضعه ولا شيء عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم وبه قال إسحاق : ولأنه أحرم من دون الميقات فلزمه الدم كالذي يريد دخول الحرم والأول أصح وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة ] ولأنه حصل دون ميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك المكان ولأن هذا القول يقضي إلى أن من كان منزله دون الميقات إذا خرج إلى الميقات ثم عاد إلى منزله وأراد الإحرام لزمه الخروج إلى الميقات ولا قائل به وهو مخالف لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ومن كان منزله دون الميقات فمهله من أهله ]
القسم الثاني : من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها فهم على ثلاثة أضرب أحدها : من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الميره والقبح ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ولم نعلم أحدا منهم أرحم يومئذ ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون جميع زمان محرما فسقط للحرج وبهذا الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا أن من كان دون الميقات لأنه يجاوز الميقات مريدا للحرم فلم يجز بغير إحرام كغيره
ولنا ما ذكرناه وقد روى الترمذي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء ] وقال : هذا حديث حسن صحيح ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله وفيه من الخلاف ما فيه
النوع الثاني : من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات أو أعتق العبد وبلغ الصبي وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبهذا قال عطاء و مالك و الثوري و الأوزاعي و إسحاق وهو قول أحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ وقالوا في العبد عليه دم وقال الشافعي في جميعهم على كل واحد منهم دم وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله : ويتخرج في الصبي العبد كذلك قياسا على الكافر يسلم لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام وأحرموا دونه فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل
ولنا أنهم أحرموا من الموضع الذي يوجب عليهم الإحرام منه فاشبهوا المكي ومن قربته دون الميقات إذا أحرم منها وفارق من يجب عليه الإحرام إذا تركه لأنه ترك الواجب عليه
النوع الثالث : المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكرره فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : لا يجب الإحرام عليه وعن أحمد ما يدل على ذلك وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام ولأنه أحد الحرمين فلم يلزم الإحرام لدخوله كحرم المدينة ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل فبقي على الأصل ووجه الأولى أنه لو نذر دخولها لزمه الإحرام ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول كسائر البلدان إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه فإن أحرم من دونه فعله دم كالمريد للنسك
فصل : ومن دخل الحرام بغير إحرام ممن يجب عليه الإحرام فلا قضاء عليه وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : يجب عليه أن يأتي بحجة أو عمرة فإن أتى بحجة الإسلام في سنته أو منذورة أو عمرة أجزأته عن عمرة الدخول استحسانا لأن مروره على الميقات مريدا للحرم يوجب الإحرام فإذا لم يأت به وجب قضاؤه كالمنذور
ولنا أنه مشروع لتحية البقعة فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد فإن قيل : تحية المسجد غير واجبة قلنا إلا أن النوافل المرتبات تقضى وإنما سقط القضاء لما ذكرنا فأما تجاوز الميقات ورجع ولم يدخل الحم فلا قضاء عليه بغير خلاف نعلمه سواء أراد النسك أو لم يرده
فصل : ومن كان منزله دون الميقات خراجا من الحرم فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في هذه الأحوال الثلاث لأن موضعة ميقاته فهو في حقه كالمواقيت الخمسة في حق الآفاقي
مسألة : قال : ومن جاوز الميقات غير محرم فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم
لا خلاف في أن من خشي فوات الحج برجوعه إلى الميقات أنه يحرم من موضعه فيما نعلمه إلا أنه روي عن سعيد بن جبير من ترك الميقات فلا حج له وما عليه الجمهور أولى فإنه لو كان من أركان الحج لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف وإذا أحرم من دون الميقات عند خوف الفوات فعليه دم لا نعلم فيه خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ترك نسكا فعليه دم ] وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لإدراك الحج فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فه مع فواته ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع فهو كخائف الفوات في أنه يحرم من موضعه وعليه دم

باب ذكر الإحرام
مسألة : قال أبو القاسم : ومن أراد الحج وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار له أن يغتسل
قوله : وقد دخل أشهر الحج يدل على أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهر وهذا هو الأول فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحراما به قبل وقته الإحرام به قبل ميقاته ولأن في صحته اختلافا فإن أحرم به قبل أشهره صح وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج جاز نص عليه أحمد وهو قول النخعي و مالك و الثوري و أبي حنيفة و إسحاق وقال عطاء و طاوس و مجاهد و الشافعي : يجعله عمرة لقول الله تعالى : { الحج أشهر معلومات } تقديره وقت الحج أو أشهر الحج أشره معلومات فحذف المضاف وأقام المضاف إلى مقامه ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات
ولنا قول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فدل على أن جميع الأشهر ميقات ولأنه أحد نسكي القرآن فجاز الإحرام به في جميع السنة كالعمرة أو أحد الميقاتين فصح الإحرام قبله كميقات المكن والآية محمولة على أن الإحرام به إنما يستحب فيها
وعلى كل حال فم أراد الإحرام استحب له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم منهم طاوس و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي لما روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه [ أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم تجرد لإهلاله واغتسل ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج وهي حائض ] ولأنه هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة وليس ذلك واجبا في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال : إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره وقال الأثرام : سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة : من ترك الغسل عند الإحرام فعليه دم لقول النبي صلى الله عليه و سلم لأسماء وهي نفساء : اغتسلي فكيف الطاهر ؟ فأظهر التعجب من هذا القول وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل أجزأه ولا يجب الاغتسال ولا نقل الأمر به إلا الحائض أو نفساء ولو كان واجبا لأمر به غيرهما ولأنه لأمر مسقبل فأشبه غسل الجمعة
فصل : فإن لم يجد ماء لم يسن له التيمم وقال القاضي : يتيمم لأنه غسل مشروع فناب عنه التيمم كالواجب ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة وما ذكره منقض بغسل الجمعة ونحوه من الاغسال المسنونة والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب يراد لإباحة الصلاة والتيمم يقول مقامه في ذلك والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثا وتغييرا ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به
فصل : ويستحب التنظيف بإزالة الشعث وقطع الرائحة ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقلم الأظفار فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إله في إحرامه فلا يتمكن منه
مسألة : قال ويلبس ثوبين نظيفين
يعني إزارا ورداء ف [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : وليحرم أحكم في إزار ورداء ونعلين ] قال ابن المنذر : ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت أيضا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ] ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط في شيء من بدنه يعني بذلك ما يخاط على قدر الملبوس لعيه كالقميص والسراويل ولو لبس إزارا أو اتشح بثوب مخيط جاز ويستحب يكونا نظيفين إما جديدين وإما غسيلين لأننا أحببنا له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه كشاهد الجمعة والأولى أن يكونا أبيضين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم ]
مسألة : قال : ويتطيب
جملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس وابن الزبير وسعيد بن أبي وقاص وعائشة وأم حبيبة ومعاوية وروي عن محمد الحنيفة و أبي سعيد الخدري و عروة و القاسم و الشعبي و ابن جريج وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم واحتج مالك بما روى يعلى بن أمية [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم : فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب ؟ فسكت النبي صلى الله عليه و سلم يعني ساعة ثم قال : اغسل الطيب الذي بك - ثلاث مرات - وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك ] متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع استدامته كاللبس
ولنا [ قول عائشة : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه و سلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت قالت : وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو محرم ] متفق عليه وفي لفظ لمسلم [ طيبته بأطيب الطيب ] وقالت بطيب فيه مسك وفي لفظ للنسائي : [ كأني أنظر إلى وبيص طيب المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وحديثهم في بعض ألفاظه عليه وجبه بها أثر خلوق رواه مسلم وفي بعضها وهو متضمخ بالخوق وفي بعضها لعيه درع من زعفران وهذا الألفاظ تدل على أن طيب الرجل كان من زعفران وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روى البخاري [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يتزعفر الرجل ] ولأن حديثهم في سنة ثمان وحديثنا في عشر قال ابن جريج : كان شأن صاحب الجنة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر : لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك أن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل فقد روى محمد بن المنتشر قال : سمعت ابن عمر ينهى عن الطيب عند الإحرام فقال : لأن أطلى بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال : فذكرت ذلك عائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنت أطيب رسول والله صلى الله عليه و سلم فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيبا فإذا صار الخبر حجة على من احتج ابتداءه دون استدامة
فصل : وان طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذلك إن نفل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر افتدى لأنه تطيب في إحرامه وكذا أن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه ثم رده إليه فإما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس فسال من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه لأنه ليس من فعله فجرى مجرى الناسي [ قالت عائشة : كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه و سلم فلا ينهاها ] رواه أبو داود
مسألة : قال : فإن حضر صلاة مكتوب وإلا صلى ركعتين
المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقبيها وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما استحب ذلك عطاء و طاوس و مالك و الشافعي و الثوري و أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقد وروي عن أحمد أنالإحرام عقيب الصلاة وإذا استوت به راحلته وإذا بدأ بالسير سواء لأن الجميع قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم منطرق صحيحة قال الأثرم : سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك : الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : لك ذلك قد جاء : في دبر الصلاة وإذا علا البيداء وإذا استوت به ناقته فوسع في ذلك كله قال ابن عباس : ركب النبي صلى الله عليه و سلم راحلته حتى استوت عن البيداء أهل هو وأصحابه وقال أنس لما ركب راحلته واستوت به أهل وقال ابن عمر : أهل النبي صلى الله عليه و سلم حين استوت به راحلته قائمة رواهن البخاري والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس اهلال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أوجب رسول الله صلى الله عليه و سلم الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب رسول لله صلى الله عليه و سلم راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك مه قوم فقالوا : أهل حين استوت به الراحلة وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ثم سار حتى علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا : أهل حين علا البيداء رواه أبو داود و الأثرم وهذا لفظ الأثرم وهذا فيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جميعا بين الأخبار المختلفة وهذا يدل على سبيل الاستحباب وكيفما أحرم جاز لا نعلم أحدا خالف في ذلك

أنواع الاحرام بالنسك على ثلاثة أنواع : تمتع وإفراد قران
مسألة : قال : فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد الله فيقول : اللهم إني أريد العمرة
وجملة ذلك أن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة تمتع وإفراد وقران فالتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامة والأفراد أن يهل بالحج مفردا والقران أن يجمع بنيهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف فأي ذلك أحرم به جاز [ قالت عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج ] متفق عليه فهذا هو التمتع والإفراد والقران وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الانساك الثلاثة شاء واختلفوا في أفضلها فاختار إمامنا التمتع ثم الإفراد ثم القران وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر وبان عباس وابن الزبير وعائشة و الحسن و عطاء و طاوس و مجاهد و جابر بن زيد و القاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وروى المروذي عن أحمد إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من احل حين ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى [ عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل بها جميعا : لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا ] متفق عليه وحديث الصبي بن معبد حين لبى بهما ثم أتى عمر فسأله فقال : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه و سلم وروي [ عن مروان بن الحكم قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان فسمع عليا يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه فقال : ألم نكن نهينا عن هذا قال : بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبي بهما جميعا فلم أكن أدع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لقولك ] رواه سعيد ولان القران إلى فعل العبادة وإحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى وذهب مالك وابو ثور إلى اختيار الافراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة لما روت عائشة وجابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أفرد الحج ] متفق عليهما وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليهما ولأنه يأتي بالحج تاما من غير احتياج إلى جبر فكان أولى قال عثمان : إلا أن الحج التام من أهليكم والعمرة التامة من أهليكم وقال إبراهيم أن أبا بكر وعمرو ابن مسعود وعائشة كانوا يجدون الحج
ولنا ما روى ابن عباس وجابر وأو موسى وعائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا بالبيت ويجعلوا عمرة فنقلهم من الأفراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل وهذه الأحاديث متفق عليها ولم يختلف [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه وقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ] قال جابر : [ حججنا مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم : حلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا : كيف نجعها متعة وقد سمينا الحج ؟ فقال : افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ] وفي لفظ [ فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد علمتم أني اتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ] فحللنا وسمعنا واطعنا متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك فدل على فضله ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } دون سائر الانساك ولأن التمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك فكان ذلك أولى فأما القران فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وتدخل أفعال العمرة فيه والمفرد فإنما يأتي بالحج وحده وإن اعتمر بعده من التنعيم فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القران ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا فكان أولى فأما حجتهم بفعل النبي صلى الله عليه و سلم والجواب عنه من أوجه الأول : أنا نمنع أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم محرما بغير التمتع ولا يصح الاحتجاج بأحاديثهم لأمور أحدها : أن رواة أحاديثهم قد رووا أن النبي صلى الله عليه و سلم تمتع بالعمرة إلى الحج روى ذلك ابن عمر وجابر وعائشة من طرق صحاح فسقط الاحتجاج بها الثاني : أن روايتهم اختلفت فرووا مرة أنه أفراد ومرة أنه تمتع ومرة أنه قرن والقضية واحدة ولا يمكن الجمع بينهما فيجب اطراحها كلها وأحاديث القران أصحها حديث أنس وقد أنكره ابن عمر قال : يرحم الله أنسا ذهل أنس متفق عليه وفي رواية كان أنس يتولج على النساء يعني أنه كان صغيرا وحديث علي رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ابن أبي ليلى وهو كثير الوهم قاله الدارقطني الثالث : أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه و سلم كان متمتعا روى ذلك عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر ومعاوية وأبو موسى وجابر وعائشة وحفصة بأحاديث صحيحة وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ففي حديث عمر أنه قال : إني لا أنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد صنعها رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني العمرة في الحج وفي حديث علي أنه اختلف هو وعثمان في المتعة وإنها لفي كتاب الله صنعها رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني العمرة في الحج وفي حديث علي أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم تنهى عنه متفق عليه و للنسائي و [ قال علي لعثمان : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم تمتع ؟ قال : بلى ] وعن ابن عمر قال : [ تمتع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ] وعنه [ أن حفصة قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ] متفق عليهما وقال سعيد صنعها رسول الله صلى الله عليه و سلم وصنعناها معه وهذه الأحاديث راجحة لأن رواتها أكثر وأعلم بالنبي صلى الله عليه و سلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بالمتعة عن نفسه في حديث حفصة فلا تعارض بظن غيره ولأن عائشة كانت متمتعة بغير خلاف وهي مع النبي صلى الله عليه و سلم ولا تحرم إلا بأمره ولم يكن ليأمرهم بأمر ثم يخالف إلى غيره ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث بأن يكون النبي صلى الله عليه و سلم أحرم بالعمرة ثم لم يحل منه لأجل هديه حتى أحرم بالحج فصار قارنا وسماه من سماه مفردا لأنه اشتغل بأفعال الحج وحدها بعد فراغه من أفعال العمرة فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض
الوجه الثاني : في الجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الافراد والقران ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل فإنه من المحال أن ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى وهو الداعي إلى الخير الهادي إلى الفضل ثم أكد ذلك بتأسفه على فوات ذلك في حقه وأنه لا يقدر على انتقاله وحله لسوقه الهدي وهذا ظاهر الدلالة
الثالث : إن ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه و سلم وهم يحتجون بفعله وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره كنهيه عن الوصال مع فعله له ونكاحه بغير ولي ولا شهود مع قوله : [ لا نكاح إلا بولي ] فإن قيل قال أبو ذر : كانت متعة الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم خاصة رواه مسلم
قلنا هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقول من هو خير منه وأعلم أما الكتاب فقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } وهذا عام واجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار وإنما اختلفوا في فضله وأما السنة فروى سعيد حدثنا هشيم أنبأنا حجاج عن عطاء عن جابر [ أن سراقة بن مالك سأل النبي صلى الله عليه و سلم المتعة لنا خاصة أو هي للأبد ؟ فقال : بل هي للأبد ] وفي لفظ قال : [ ألعامنا أو للأبد ؟ قال : لا بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ] وفي حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم نحو هذا ومعناه والله أعلم أن أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى قد شرع العمر في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة وقال طاوس : كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور ويقولون : إذا انفسخ صفر وبرا الدبر وعفا الثأر حلت العمر لمن اعتمر فلما كان الإسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة رواه سعيد وقد خالف أبا ذر علي و سعيد و ابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين وسائر الصحابة وسائر المسلمين [ قال عمران : تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل فيه القرآن ولمن ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينسخها شيء فقال فيها رجل برأيه ما شاء ] متفق عليه وقال سعد بن أبي وقاص : فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني المتعة وهذا يومئذ كافر بالعرض يعني الذي نهى عنها والعرش بيوت مكة وقال أحمد حين ذكر له حديث أبي ذر : أفيقول بهذا أحد ؟ المتعة في كتاب الله وقد أجمع المسلمون على جوازها فإن قيل : فقد روى أبو داود بإسناده عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى عمر فشهد عنده أنه [ سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن العمرة قبل الحج ]
قلنا هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع كحال حديث أبي ذر بل هو أدنى حالا فإن في إسناده مقالا : فإن قيل : فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلنا : فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنا وخالفهم في فعلها والحق مع المنكرين عليهم دونهم قد ذكرنا إنكار علي على عثمان واعتراف عثمان له وقول عمران بن حصين منكرا لنهي من نهى وقول سعيد عائبا على معاوية نهيه عنها وردهم عليهم بحجج لم يكن لهم جواب عنها بل قد ذكر بعض من نهى عنها في كلامه ما يرد فقال عمرك والله إني لأنهاكم عنها وإنها لفي كتاب الله وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا خلاف في أن من خالف كتاب الله وسنة رسوله ونهى عما فيهما حقيق بأن لا يقبل نهيه ولا يحتج به مع أه قد سأل سالم بن عبد الله ابن عمر أنهي عمر عن المتعة ؟ قال : لا والله ما نهى عنها وعمر ولكن قد نهى عثمان وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل : إنك تخالف أباك قال : إن عمر لم يقل الذي يقولون ولما نهى معاوية عن المتعة أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها فقال معاوية من هؤلاء ؟ فقيل حشم أو موالي عائشة فأرسل إليها ما حملك على ذلك قالت : أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت وقيل لابن عباس : أن فلانا ينهى عن المتعة قال : انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجودها فقد صدق فأي الفريقين أحب بالاتباع وأولى بالصواب الذين معهم كتاب الله وسنة رسوله أم الذين خالفوهما ؟ ثم قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي قوله حجة على الخلق أجمعين فكيف يعارض بقوله غيره ؟ قال سعيد بن جبير [ عن ابن عباس قال : تمتع النبي صلى الله عليه و سلم فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه و سلم ويقولون نهى عنها أبو بكر وعمر ] وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقال : إنك تخالف أباك فقال : عمر لم يقل الذي يقولون : فلما أكثروا عليه قال : أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر ؟ روى الأثرم هذا كله

نية الإحرام وصفتها وكيفيتها وما يشترط فيها في التمتع
فصل : فمن أراد الإحرام بعمرة فالمستحب أن يقول : اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقلبها منى ومحلي تحبسني فإنه يتسحب للإنسان النطق بما أرحم به ليزول الالتباس فإن لم ينطق بشيء واقتصر على مجرد النية كفاه في قول أمامنا و مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا ينعقد بمجرد النية حتى تنضاف إليها التلبية أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه [ عن رسول الله صلى الله قال : جاءني جبريل فقال : يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ] رواه النسائي وقال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ولأنها عبادة ذات تحريم وتحليل فكان لها نطق واجب كالصلاة ولأن الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك
ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب فلم يكن في أولها كالصيام والخبر المراد به الأستحباب فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في أنه غير واجب فما هو من ضرورته أولى ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطا فإن كثيرا من واجبات الحج غير مشترطة فيه والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة وأما الهدي والأضحية فإيجاب مال فأشبه النذر بخلاف الحج فإنه عبادة بدنية فعلى هذا لو نطق بغير ما نواه نحو أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس انعقد ما نواه دون ما لفظ به قال ابن المنذر : أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية وعليها واللفظ لا عبرة به فلم يؤثر كما لو يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية
فصل : فإن لبى أو ساق الهدي م غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لم ينعقد بدونها كالصوم والصلاة والله أعلم
مسألة : قال : ويشترط فيقول : إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن حبس حل من الموضع الذي حبس ولا شيء عليه
يستحب لمن أحرم بنسك أن يشترط عند إحرامه فيقول : إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني ويفيد هذا الشرط شيئين :
أحدهما : أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل
والثاني : أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم وممن روي أنه رأى الاشتراط عند الإحرام عمر وعلي وابن مسعود وعمار وذهب إليه عبيد السلماني وعلقمة والأسود وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء بن يسار وعكرمة والشافعي إذ هو بالعراق وأنكره ابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير والزهري ومالك وأبو حنيفة : وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كن ينكر الاشتراط ويقول : حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة
ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : [ دخل النبي صلى الله عليه و سلم على ضباعة بنت الزبير فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي صلى الله عليه و سلم : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ] متفق عليه وعن ابن عباس [ أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إني أريد أن الحج فكيف أقول ؟ فقال : قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت ] رواه مسلم ولا قول لأحد مع قول الرسول صلى الله عليه و سلم فيكف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرناه قوله من فقهاء الصحابة أولى من قول ابن عمر وغير هذا اللفظ مما يؤدي معنا يقوم مقامه لأن المقصود المعنى والعبارة إنما تعتبر لتأدية المعنى
قال إبراهيم : خرجنا مع علقمة وهو يرد العمرة فقال : اللهم إني أريد العمرة أن تيسرت وإلا فلا حرج علي وكان شريح يشترط اللهم قد عرفت نيتي وما أريد فإن كان أمرا تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا حرج علي ونحوه عن الأسود وقالت عائشة لعورة قل : اللهم إني أريد الحج وإياه نويت فإن تيسر وإلا فعمرة ونحوه عن عميرة بن زياد
فصل : فإن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الإحرام والإحرام ينعقد بالنية فكذلك تابعه واحتمل أن يعتبر فيه القول أنه اشتراط فاعتبر فيه القول كالاشتراط في النذر والوقف والاعتكاف ويدل عليه ظاهر النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس قولي محلي من الأرض حيث تحبسني
مسألة : قال : وإن أراد الإفراد قال اللهم إني أريد الحج ويشترط
الإفراد هو الإحرام بالحج مفردا من الميقات وهو أحد الانساك الثلاثةوالحكم في إحرامه كالحكم في إحرام العمرة سواء فيما يجب ويستحب وحكم الاشتراط
مسألة : قال : وإن أراد القران قال اللهم إني أريد العمرة والحج ويشترط
معنى القران الإحرام بالعمرة والحج معا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وهو أحد الأنساك المشروعة الثابتة بالنص والإجماع وقد روي أن معاوية قال لأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : هل تعلمون أن رسول الله صلى لله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ قالوا : أما هذا فلا إنها معهن يعني مع المنهيات ولكنكم نسيتم وهذا مما لم يوافق الصحابة معاوية عليه مع ما يتضمنه من مخالفة الأحاديث الصحيحة والإجماع قال الخطابي : ويشبه أن يكون ذهب إلى تأويل قوله عليه السلام حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال وقال : [ لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ] وكان قارنا معاوية على نهي والله أعلم
فصل : ويستحب أن يعين ما أحرم به وبه قال مالك و الشافعي في أحد قوليه : الإطلاق أولى لما روى طاوس قال [ خرج النبي صلى الله عليه و سلم من المدينة لا يسمي حجا ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلوها عمرة ] ولأن ذلك أحوط لأنه لا يأمن الاحصار أو تعذر فعل الحج عليه فيجعلها عمرة
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال : [ من شاء منكم أن يهل بحج وعمرة فليهل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ] والنبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه إنما احرموا بمعين على ما ذكرنا في الأحاديث الصحيحة وأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الذين كانوا معه في حجته مطلعون على أحواله ويقتدون بأفعاله ويقفون على ظاهر أمره وباطنه أعلم به من طاوس وحديثه مرسل و الشافعي لا يحتج بالمراسيل المفردة فكيف يصير إلى هذا مع مخالفته للروايات المستفيضة المتفق عليها والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة فإن شاء كان متمتعا وإن شاء ادخل الحج عليها وكان قارنا
فصل : فإن أطلق الإحرام فنوى الإحرام بنسك ولم يعين حجا ولا عمرة صح وصار محرما لأن الإحرام يصح مع الإبهام فصح مع الإطلاق فإذا أحرم مطلقا فله صرفه إلى أي الأنساك شاء لأن له أن يبتدئ الإحرام بما شاء منها فكان له صرف المطلق إلى ذلك والأولى صرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقد قال أحمد رحمه الله : يجعله عمرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعله عمرة كذا ههنا
فصل : ويصح إبهام الإحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما [ روى أبو موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي : بما أهللت ؟ قلت : لبيك باهلال كاهلال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أحسنت فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال : حل ] متفق عليه
وروى جابر وأنس [ أن عليا قدم من اليمن على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : بم أهللت ؟ قال : أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه و سلم ] قال جابر في حديثه قال : [ فاهد وامكث حراما ] وقال أنس [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لولا أن معي هديا لحللت ] متفق عليهما ثم لا يخلو من أبهم إحرامه من أحوال أربعة :
أحدها : أن يعلم ما أحرم به فلا فينعقد إحرامه بمثله ف [ إن عليا قال له النبي صلى الله عليه و سلم : ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ قال : قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فإن معي الهدي فلا تحل ]
الثاني : أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي على ما سنبينه
الثالث : أن لا يكون فلان أحرم فيكون إحرامه مطلقا حكمه حكم الفصل الذي قبله
الرابع : أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه من لا يحرم لأن الأصل عدم إحرامه فيكون إحرامه ههنا مطلقا يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف فحسن وإن طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لأنه طاف لا في حج ولا في عمرة
فصل : إذا أحرم بنسك ثم نسيه قبل الطواف فله صرفه إلى أي الانساك شاء فإنه إن صرفه إلى عمرة وكان المنسي عمرة فقد أصاب وإن كان حجا مفردا أو قرانا فله فسخهما إلى العمرة على ما سنذكره وإن صرفه إلى القران وكان المنسي قرانا فقد أصاب وأن كان عمرة فإدخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف فيصير قارنا وإن كان مفردا لغا إحرامه بالعمرة وصح بالحج وسقط فرضه وإن صرفه إلى الإفراد وكان مفردا فقد أصاب وإن كان متمتعا فقد أدخل الحج على العمرة فصار قارنا في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى وهو يظن أنه مفرد وإن كان قارنا فكذلك والمنصوص عن أحمد أنه يجعله عمرة قال القاضي : هذا على سبيل الاستحباب لأنه إذا استحب ذلك في حال العلم فمع عدمه أولى وقال أبو حنيفة : يصرفه إلى القران وهو قول الشافعي في الجديد وقال في القديم يتحرى فيبني على غالب ظنه لأنه من شرائط العبادة فيدخله التحري كالقبلة ومنشأ الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة فإنه جائز عندنا وغير جائز عندهم فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع عليه دم المتعة ويجزئه عن الحج والعمرة جميعا وإن صرفه إلى افراد أو قران لم يجزئه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون المنسي حجا مفردا وليس له إدخال العمرة على الحج فتكون صحة العمرة مشكوكا فيها فلا تسقط من ذمته بالشك ولا دم عليه لذلك فإنه لم يثبت حكم القران يقينا ولا يجب الدم مع اشك في سببه ويحتمل أن يجب فإما أن شك بعد الطواف لم يجز صرفه إلا إلى العمرة لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز فإن صرفه إلى حج أو قرن فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه عن واحد من النسكين لأنه يحتمل أن يكون المنسي عمرة فلم يصح إدخال الحج عليها بعد طوافها ويحتمل أن يكون حجا وإدخال العمرة عليه غير جائز فلم يجزئه واحد منهما مع الشك ولا دم عليه للشك فيما يوجب الدم ولا قضاء لعيه للشك فيما يوجبه وإن شك وهو في الوقوف بعد أن طاف وسعى جعله عمرة فقصر ثم أحرم بالحج فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعا وإن كان إفرادا أو قرانا لم ينفسخ بتقصيره وعليه دم بكل حال فإنه لا يخلو م أن يكون متمتعا عليه دم المتعة أو غير متمتع فيلزمه دم لتقصيره وإن شك ولم يكن طاف وسعى جله قرانا لأنه إن كان قارنا فقد أصاب وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارنا وإن كان مفردا لغا إحرامه بالعمرة وصح إحرامه بالحج وإن صرفه إلى الحج جاز أيضا ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع لاحتمال أن يكون مفردا وإدخال العمرة على الحج غير جائز ولا دم عليه للشك في وجود سببه
فصل : وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها ولم يتمها
ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين وعلى هذا ول أفسد حجه أو عمرته لم يلزمه إلا قضاؤها ؟ وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة إحرامه بهما

التلبية حكمها صيغتها والاحوال والمواضع التي تتأكد فيها وعقب الصلوات
مسألة : قال : فإذا استوى على راحلته لبى
التلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعلها وأمر برفع الصوت بهما وأقل أحوال ذلك الاستحباب و [ سئل النبي صلى الله عليه و سلم أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج ] وهذا حديث غريب ومعنى العج رفع الصوت بالتلبية والثج اسالة الدماء بالذبح والنحر وروى سهل بن سعد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا ] رواه ابن ماجة وليست واجبة وبهذا قال الحسن بن حي والشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم وعن الثوري وأبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج } قال ابن عباس : الإهلال وعن عطاء وطاوس وعكرمة هو التلبية ولأن النسك عبادة ذات إحرام وإحلال فلكان فيها ذكر واجب كالصلاة
ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الأذكار وفارق الصلاة فإن النطق يجب في آخرها فوجب في أولها والحج بخلافه ويستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ركب راحلته واستوت به أهل ] رواهما البخاري و [ قال ابن عباس : أوجب رسول الله صلى الله عليه و سلم الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل ] يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت بالتلبية من قولهم : استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذا رؤي الهلال صاحوا فيقال استهل الهلال ثم قيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع الصوت بالتلبية
فصل : ويرفع صوته بالتلبية لما وري [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية ] رواه النسائي و أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح قال أنس : سمعتهم يصرخون بها صراخا وقال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية وقال سالم : كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيه
مسألة : قال : فيقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء في الصحيحين [ عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه و سلم : لبيك اللهم لبيك : لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] رواه البخاري عن عائشة ومسلم عن جابر والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال : أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك هذا أو ما أشبهه وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا اقامة بعد اقامة : كما قالوا : حنانيك أي رحمة بعد رحمة أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه وقال جماعة من أهل العلم : معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج وروي عن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج فقال : رب وما يبلغ صوتي قال : اذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم : أيها الناس كتب عليكم الحج قال : فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون : لبيك إن الحمد ( بكسر الألف ) نص عليه أحمد والفتح جائز إلا أن الكسر أجود قال ثعلب : من قال أن بفتحها فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أن من كسر جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك أي لهذا السبب
فصل : ولا يستحب الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تكره ونحو ذلك قال الشافعي و ابن المنذر : وذلك لقول جابر : [ فأهل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله صلى الله عليه و سلم تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه و سلم ويزيد مع هذا لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر : لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنسا كان يزيد لبيك حقا حقا تعبدا ورقا وهذا يدل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي صلى الله عليه و سلم لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها وقد روي أن سعيدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي : يا ذا المعارج فقال أنه لذو المعارج وما هكذا كما نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل : ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته قال أحمد : إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بالحج والعمرة وإن شئت بعمرة وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة فقلت : لبيك بعمرة وحجة وقال أبو الخطاب : لا يستحب ذلك وهو اختيار ابن عمر وقول الشافعي لأن جابرا قال : ما سمي النبي صلى الله عليه و سلم في تلبيته حجا ولا عمرة وسمع ابن عمر رجلا يقول : لبيك بعمرة فضرب صدره وقال تعلمه ما في نفسك
ولنا ما روى أنس قال [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لبيك عمرة وحجا ] وقال جابر : [ قدمنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ونحن نقول : لبيك بالحج ] وقال ابن عباس : [ قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وهم يلبون بالحج ] وقال ابن عمر [ بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ] متفق على هذه الأحاديث وقال أنس : سمعتهم يصرخون صراخا رواه البخاري وقال سعيد : [ خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم نصرخ بالحج فحللنا فلما كان يوم التروية لبينا بالحج وانطلقنا إلى منى ] وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روى بإسناده عن الضبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا ثم ذكر ذلك لعمر فقال : هديت لسنة نبيك وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله عالم بها
فصل : وإن حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه قال أحمد : لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد : إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي : عن فلان ثم لا يبالي أن يقول بعد وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم للذي سمعه يلبي عن شبرمة : [ لب عن نفسك ثم لبي عن شبرمة ] ومتى أتى بهما جميعا بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد في مواضع وذلك لقول أنس [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لبيك بعمرة وحج ]
مسالة : قال : ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا وإذا التقت الرفاق وإذا غطى رأسه ناسيا وفي دبر الصلوات المكتوبة
يتسحب استدامة التلبية والإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجة عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يضحي لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه ] وهي أشد استحبابا في المواضع التي سمى الخرقي لما روى جابر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي ادبار الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل ] وقال إبراهيم و النخعي : كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك : لا يلبي عند اصطدام الرفاق وقول النخعي يدل على أن السلف رحمهم الله كانوا يستحبون ذلك والحديث يدل عليه أيضا
فصل : ويجزئ من التلبية في دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : ما شيء يفعله العامة يلبون في دبر الصلاة ثلاث مرات ؟ فتبسم وقال : ما أدري من أين جاؤوا به ؟ قلت : أليس التكبير في ادبار الصلوات في أيام الأضحى وأيام التشريق ولا بأس بالزيادة على مرة لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فإن الله وتر يحب الوتر
فصل : ولا يستحب رفع الصوت بالتلبية في الأمصار ولا في مساجدها إلا في مكة والمسجد الحرام لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال : إن هذا المجنون إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك وقال الشافعي : يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته أخذا من عموم الحديث
ولنا قول ابن عباس : ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما إلا الإمام خاصة فوجب ابقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنه محل السنك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضا
فصل : ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع فلا يشرع بغير العربية كالأذان والاذكار المشروعة في الصلاة
فصل : ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم وبه يقول ابن عباس و عطاء بن السائب و ربيعة بن عبد الرحمن و ابن أبي ليلى و داود و الشافعي وروي عن سالم بن عبد الله له أنه قال : لا يلبي حول البيت وقال ابن عيينة : ما رأينا أحدا يقتدي به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب وذكر أبو الخطاب أنه لا يلبي وهو قول الشافعي لأنه مشتغل بذكر بخصه فكان أولى
ولنا أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت ويمكن الجمع بين التلبية الذكر المشروع في الطواف ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم واذكارهم وإذا فرع من التلبية صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ودعا بما أحب من خير الدنيا والآخرة لما روى الدارقطني بإسناده عن خزيمة بن ثابت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه واستعاده برحمته من النار ] وقال القاسم بن محمد : يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على محمد صلى الله عليه و سلم وجاء في التفسير في تأويل قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } لا أذكر إلا ذكرت معي ولأن أكثر المواضع التي شرع فيها ذكر الله تعالى شرع فيها ذكر نبيه عليه السلام كالأذان والصلاة
فصل : ولا بأس أن يلبي الحلال وبه قال الحسن و النخعي و عطاء بن السائب و الشافعي و أبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وكرهه مالك

ما يفعله مريد الإحرام والمرأة كالرجل
مسألة : قال : والمرأة يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام وإن كانت حائضا أو نفساء لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل
وجملة ذلك أن الاغتسال مشروع للنساء عند الإحرام كما يشرع للرجال لأنه نسك وهو في حق الحائض والنفساء آكد لورود الخبر فيهما [ قال جابر : حتى أتينا ذا الخليفة فولدت اسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف أصنع ؟ قال : اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ] رواه مسلم وعن ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : النفساء والحائض إذا أتيا على الوقت يغتسلان ويحرمان ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت ] رواه أبو داود وأرم النبي صلى الله عليه و سلم عائشة أن تغتسل لاهلال الحج وهي حائض وإن رجت الحائض الطهر قبل الخروج من الميقات أو النفساء استحب لها تأخير الاغتسال حتى تطهر ليكون أكمل لها فإن خشيت الرحيل قبله اغتسلت وأحرمت
مسألة : قال : ومن أحرم وعليه قميص ولم يشقه
هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن الشعبي و النخعي و أبي قلابة وأبي صالح ذكوان أنه يشق ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه
ولنا ما روى يعلى بن أمية [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بطيب ؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه و سلم ساعة ثم سكت فجاءه الوحي فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أما الطيب الذي بك فاغسله وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك ] متفق عليه وهذا لفظ مسلم قال عطاء : كنا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول فيمن أحرم وعليه قميص أو جبة فيخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك ولأن في شق الثوب إضاعة ماليته وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعة المال
فصل : وإذا نزع في الحال فلا فدية عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر الرجل بفدية وإن استدام اللبس بعد إمكان نزعه فعليه الفدية لأن استدامة اللبس محرم كابتدائه بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرجل بنزع جبته وإنما لم يأمره بفدية لما مضى فيما نوى لأنه كان جاهلا بالتحريم فجرى مجرى الناسي

أشهر الحج : شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة
مسألة : قال : وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة
هذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير و عطاء و مجاهد و الحسن و الشعبي و النخعي و قتادة و الثوري وأصحاب الرأي وروي عن عمر وابنه وابن عباس أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة وهو قول مالك لأن أقل الجمع ثلاثة وقال الشافعي : آخر أشهر الحج ليلة النحر وليس يوم النحر منها لقوله تعالى : { فمن فرض فيهن الحج } ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : يوم الحج الأكبر ويوم النحر ] رواه أبو داود فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة لأن يوم النحر فيه ركن الحج وهو طواف الزيارة وفيه كثير من أفعال الحج منها رمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف والسعي والرجوع إلى منى
وما بعده ليس من أشهره لأنه ليس بوقت لإحرامه ولا لأركانه فهو كالمحرم ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث فقد قال بعض أهل العربية عشرون جمع عشر وإنما هي عشران وبعض الثالث وقال الله تعالى { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } والقرء الطهر عنده ولو طلقها في طهر احتسبت ببقيته وتقول العرب : ثلاث خلوان من ذي الحجة وهم في الثالثة وقوله فرض فيهن الحج أي في أكثرهن والله أعلم

باب ما يتوفى المحرم وما أبيح له
مسألة : قال أبو القاسم : ويتوقى في إحرامه ما نهاه الله عنه من الرفث وهو الجماع والفسوق وهو السباب والجدال وهو المرء
يعني بقوله : ما نهاه الله عن قوله سبحانه : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وهذا صيغته صيغة النفي أريد به النهي كقوله سبحانه : { لا تضار والدة بولدها } والرفث هو الجماع روي ذلك عن ابن عباس و ابن عمر و عطاء بن أبي رباح و عطاء بن يسار و مجاهد و الحسن و النخعي و الزهري و قتادة وروي عن ابن عباس أنه قال : الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرض لهما بالفحش من الكلام وقال أبو عبيدة : الرفث لغا الكلام وأنشد قول العجاج :
عن اللغا ورفث التكلم
وقيل : الرفث هو ما يكنى عنه من ذكر الجماع وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتا فيه التصريح بما يكنى عنه من الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث ما روجع به النساء وفي لفظ ما قيل من ذلك عند النساء وكل ما يفسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه إلا أنه في الجماع أظهر لما ذكرنا من تفسير الأئمة له بذلك ولأن قد جاء في الكتاب في موضع آخر وأريد به الجماع قال الله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } فأما الفسوق فهو السباب لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سباب المسلم الفسوق ] متفق عليه وقيل الفسوق المعاصي روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وإبراهيم وقالوا أيضا الجدال المراء وقال ابن عباس هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك كله [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] متفق عليه وقال مجاهد في قوله تعالى : { ولا جدال في الحج } أي لا مجادلة ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة وقول الجمهور أولى
مسألة : قال : ويستحب له قله الكلام إلا فيما ينفع وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء
وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل فإن من كثير كلامه كثر سقطه وفي الحديث عن أبي هريرة و [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح متفق عليه وعنه قال : [ قال رسول الله عليه وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ] رواه ابن عيينه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وروي في المسند عن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال أبو داود : أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها وهذا في حال الإحرام أشد استحبابا لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز و جل فيشبه الاعتكاف وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحا رحمه الله كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى أو قراءة القرآن أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو تعليم الجاهل أو يأمر بحاجته أو يسكت أو تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعرا لا يقبح فهو مباح ولا يكثر فقد روي عن عمر ( رض ) أنه كان على ناقة له وهو محرم فجعل يقول :
( كأن راكبها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل )
الله أكبر الله أكبر وهذا يدل على الإباحة والفضيلة الأول
مسألة : قال : ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا
اختلفت الرواية عن أحمد رحمة الله في إباحة قتل القمل فعنه إباحته لأنه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] يدل بمعناه على إباحة قتل كل ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم وعنه أن قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بإزالته عنه فحرم كقطع الشعر ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه فقال له : احلق رأسك ] فلو كان قتل القمل أو إزالته مباحا لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك أو لكان النبي صلى الله عليه و سلم أمره بإزالته خاصة والصئبان كالقمل في ذلك ولا فرق بين قتل القمل أو إزالته بالقائه على الأرض أو قتله بازئبق فإن قتله لم يحرم لحرمته لكن لما فيه من الترفه فعم المنع إزالته كيفما كانت ولا يتفلى فإن التفلي عبارة عن إزالة القمل وهو ممنوع منه ويجوز له حك رأسه ويرفق في الحك كيلا يقطع شعرا أو يقتل قلمه فإن حك فرأى في يده شعرا أحببنا أن يفديه احتياطا ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعه قال بعض أصحابنا : إنما اختلفت الرواية في القمل الذي في شعره فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه فلا فدية فيه
فصل : فإن خالف وتفلى أو قتل قملا فلا فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد أذهب قملا كثيرا ولم يجب عليه لذلك شيء وإنما وجبت الفدية بحلق الشعر ولأن القمل لا قيمة له أشبه البعوض والبراغيث ولأنه ليس بصيد ولا هو مأكول حكي عن ابن عمر قال : هي أهون مقتول وسئل ابن عباس عن محرم ألقى قملة ثم طلبها فلم يجدها فقال : تلك ضالة لا تبتغى وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد فمن قتل قملة قال : يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه سواء قتل كثيرا أو قليلا وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق : تمرة فما فوقها وقال مالك حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر وقال عطاء قبضة من طعام وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قلناه فإنهم لم يردوا بذلك التقدير وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به
فصل : ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وبدنه برفق فعل ذلك عمر وابنه ورخص فيه علي وجابر و سعيد بن جبير و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى أن ذلك ستر له والصحيح أنه لا بأس بذلك وليس ذلك بستر ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة وقد روي عن ابن عباس قال : ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة تعال أباقيك أينا أطوال نفسا في الماء وقال : ربما قاسمت عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون رواهما سعيد ولأنه ليس بستر معتاد أشبه صب الماء عليه أو وضع يديه عليه وقد [ روى عبد الله بن جبير قال : أرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل فسلمت عليه فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطاطاه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء : صب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر قم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل ] متفق عليه وأجمع أهل العلم على أن المحرم يغتسل من الجنابة
فصل : ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقلع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد عليه الفدية به قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه : عليه صدقة لأن الخطمي تستلذ رائحته وتزيل الشعث وتقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المحرم الذي وقصه بعيره : اغسلوه بماء وسدر وكفنونه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع إثبات حكم الإحرام في حقه والخمطي كالسدر ولأنه ليس بطيب فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب وقولهم تستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب وإزالة الشعث تحصل بذلك أيضا وقتل الهوام لا يعلم حصوله ولا يصح قياسه على الورس لأنه طيب ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوب منع منه بخلاف مسألتنا

لبس المحرم وما يباح ولما لا يباح
مسألة : قال : ولا يلبس القمص ولا السراويل ولا البرانس
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القمص والعمائم والسراويلات والخفاف والبرانس
والأصل في هذا ما روى ابن عمر [ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله عليه وسلم : لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحدا لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس ] متفق عليه نص النبي صلى الله عليه و سلم على هذه الأشياء والحق بها أهل العلم ما في معناها مثل الجبة والدراعة والثياب وأشبها ذلك فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك وليس في هذا كله اختلاف قال ابن عبد البر : لا يجوز لباس شيء من المخيط عند جميع أهل العلم وأجموا على أن المراد بهذا الذكور دون النساء
مسألة : قال : فإن لم يجد إزارا لبس السراويل وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولا يقطعهما ولا فداء عليه
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن المحرم أن يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار والخفين إذا لم يجد نعلين وبهذا قال عطاء وعكرمة والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم والأصل فيه ما روى ابن عباس قال : [ سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يخطب بعرفات يقول : من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل للمحرم ] متفق عليه وروى جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك أخرجه مسلم ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك في قول من سمينا إلا مالكا وأبا حنيفة قالا : على من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الإزار وجبت مع عدمه كالقميص
ولنا خبر ابن عباس وهو صريح في الإباحة ظاهر في إسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس وجابر فأما القميص فيمكنه أن يتزر به من غير لبس ويستتر بخلاف السراويل
فصل : وإذا لبس الخفين لعدم النعلين لم يلزمه قطعهما في المشهور عن أحمد ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القداح وعن أحمد أنه يقطعها حتى يكونا أسفل من الكعبين فإن لبسهما من غير قطع افتدى وهذا قول عروة بن الزبير و مالك و الثوري و الشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روي ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ] متفق عليه وهو متضمن لزيادة على حديث ابن عباس وجابر والزيادة من الثقة مقبولة قال الخطابي : العجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقتل سنة لم تبلعه واحتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر من لم يجد نعلين فليلبس خفين مع قول علي رضي الله عنه قطع الخفين فساد يلبسهما كما هما مع موافقة القياس فإنه ملبوس أبيح لعدم غيره فأشبه السراويل وقطعه لا يخرجه عن حالة الخطر فإن لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وفيه إتلاف ماله نقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن اضاعته فأما حديث ابن عمر فق قيل : إن قوله وليقطعها من كلام نافع كذلك رويناه في أمالي أبي القاسم بن بشران بإسناده صحيح أن نافعا قال بعد روايته للحديث : وليقطع الخفين أسفل من الكعبين وروي ابن أبي موسى عن صفية ينت أبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما ] وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية : فلما أخبرته بهذا رجع وروى أبو حفص في شرحه بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف أنه طاف وعليه خفان فقال له عمر : والخفا ن مع القباء فقال : قد لبستهما مع من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله لعيه وسلم ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخا فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعا وقال : انظروا أيهما كان قبل قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري : حديث ابن عمر قبل لأنه قد جاء في بعض رواياته قال : نادى رجل رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الإحرام وفي حديث ابن عباس يقول : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب بعرفات يقول : من لم يجد نعلين فليلبس خفين ] فيدل على تأخيره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخا له لأنه لو كان القطع واجبا لبينه للناس إذ لا يجوز البيان عن وقت الحاجة إليه والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف وأخذا بالاحتياط
فصل : فإن لبس المقطوع مع وجود النعل فعليه الفدية وليس له لبيه نص عليه احمد وبهذا
قال مالك وقال أبو حنيفة : لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرما وفيه فدية لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطعهما لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم شرط في إباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع وجودهم ولأنه مخيط لعضو على قدرة فوجبت على المحرم الفدية بلبسه كالقفازين
فصل : فأما اللالكة والجمجم ونحوهما فقياس قول أحمد أنه لا يلبس ذلك فإنه قال : لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد من النعل التي لها قيد وقد قال في رأس الخف الصغير : لا يلبسه وذلك لأنه يستر القدم وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فإن عدم النعلين كان له لبس ذلك ولا فدية عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى
فصل : فأما النعل فيباح لبسها كيفما كانت ولا يجب قطع شيء منها لأن إباحتها وردت مطلقا وروي عن أحمد في القيد في النعل يفتدي لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال : إذا أحرمت فاقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول : فيه دم وقال ابن أبي موسى في الإرشاد في القيد والعقب الفدية والقيد هو السير المعترض على الزمام وقال القاضي : إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو الصحيح فإنه إذا لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل أولى أن لا يجب ولأن ذلك معتاد في النعل فلم تجب إزالته كسائر سيورها ولأن قطع القيد والعقب ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب كقطع القبال
فصل : وإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لأن ما لا يمكن استعماله كالمعدوم كما لو كانت النعل لغيره أو صغيرة وكالماء في التيمم والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولأن العجز عن لبسها قام مقام العدم في إباحة لبس الخف فكذلك في إسقاط الفدية والمنصوص أن عليه الفدية لقوله : من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وهذا واجد
فصل : وليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره إلا الإزار والهميان وليس له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط لأه في حكم المخيط روى الأثرم عن مسلم بن جندب عن ابن عمر قال : جاء رجل يسأله وأنا معه أخالف بين طرفي ثوبي من ورائي ثم أعقده وهو محرم فقال له : كنت تكره هذا قال : إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص ويرتدي به ويرتدي برداء موصل ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو
فصل : ويجوز أن يعقد إزاره عليه لأنه يحتاج إليه لستر العورة فيباح كاللباس للمرأة وإن شد وسطه بالمنديل أو بحبل أو سراويل جاز إذا لم يعقده قال أحمد : في محرم وعمامة على وسطه لا تعقدها ويدخل بعضها في بعض قال طاوس : رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه فادخلها هكذا ولا يجوز أن يشق أسفل إزاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل ولا يلبس الران لأنه معناه ولأنه معمول على قدر العضو الملبوس فيه فأشبه الخف
مسألة : قال : ويلبس الهميان ويدخل السيور بعضهما في بعض ولا يعقدها
وجملة ذلك أن لبس الهميان مباح للمحرم في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم والنخعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن البر : أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى أمكنه أن يدخل السيور بعضهما في بعض ويثبت بذلك لم يعقده لأنه لا حاجة إلى عقدة وإن لم يثبت إلا بعقدة عقده نص عليه أحمد وهو قول إسحاق وقال إبراهيم : كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة : أوثق عليك نفقتك وذكر القاضي في الشرح أن ابن عباس قال : رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم للمحرم في الهميان أن يربطه إذا كانت فيه نفقته وقال ابن عباس : أوثقوا عليكم نفقاتكم ورخص في الخاتم والهميان للمحرم وقال مجاهد عن ابن عمر : أنه سئل عن المحرم يشد الهميان عليه فقال : لا بأس به إذا كانت فيه نفقته ولأنه مما تدعو الحاجة إلى شدة فجاز كعقد الإزار فإن لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روي عن ابن عمر أنه كره الهميان والمنطقة للمحرم وكرهه نافع مولاه وهو محمول على ما ليس فيه نفقة لما تقدم من الرخصة فيما فيه النفقة وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنقطة من وجع الظهر أو حاجة إليها قال : يفتدي فقيل له : أفلا تكون مثل الهميان ؟ قال : لا وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأنه أباح شد الهميان إذا كانت فيه النفقة والفرق بيهما أن الهميان تكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد ما سوى ذلك فإن كانت فيهما نفقة أو لم يكن فيهما نفقة فهما سواء وقد قالت عائشة في المنطقة : للمحرم أوثق عليك نفقتك فرخصت فيها إذا كانت فيها النفقة ولم يبح أحمد شد المنقطة لوجع الظهر إلا أن يفتدي لأن المنطقة ليست معدة لذلك ولأنه فعل المحظور في الإحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو حلق رأسه لإزالة أذى القمل أو تطيب لأجل المرض

مسألتان : حجامة المحرم وقطع عضوه وتقلد السيف
مسألة : قال : وله أن يحتجم ولا يقطع شعرا
أما الحجامة إذا لم يقطع شعرا فمباحة من غير فدية في قول الجمهور لأنه تداو بإخراج دم فأشبه الفصد وبط الجرح وقال مالك : لا يحتجم إلا من ضرورة وكان الحسن يرى في الحجامة دما
ولنا أن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم وهو محرم متفق عليه ولم يذكر فدية ولأنه لا يترفه بذلك فأشبه شرب الأدوية وكذلك الحكم في قطع العضو عند الحاجة والختان كل ذلك مباح من غير فدية فإن احتاج في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعة لما روى عبد الله بن بحينة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجم بلحي جمل في طريق مكة وهو محرم وسط رأسه ] متفق عليه ومن ضرورة ذلك قطع الشعر ولأنه يباح حلق الشرع لإزالة أذى القمل فكذلك ههنا وعليه الفدية
وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو حنيفة و أبو ثور و ابن المنذر وقال صاحبا أبي حنيفة يتصدق بشيء
ولنا قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية } الآية ولأنه حلق شعر لإزالة ضرر غيره فلزمته الفدية كما لو حلقه لإزالة قمله فأما إن قطع عضوا عليه شعر أو جلدة عليها شعر فلا فدية عليه لأنه زال تبعا لما لا فدية فيه
مسألة : قال : ويتقلد بالسيف عند الضرورة
وجملة ذلك أن المحرم إذا احتاج إلى تقليد السيف فله ذلك وبهذا قال مالك وأباح عطاء و الشافعي و ابن المنذر تقلده وكرهه الحسن والأول أولى لما روى أبو داود بإسناده عن البراء قال : لما صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح ( القراب بما فيه ) وهذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن يقضوا العهد ويخفروا الذمة واشترطوا حمل السلاح في قرابة فأما من غير خوف فإن أحمد قال : لا إلا من ضرورة وإنما منع منه لأن ابن عمر قال : لا يحمل المحرم السلاح في الحرم والقياس إباحته لأن ذلك ليس هو في معنى الملبوس المنصوص على تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه لا يحرم عليه ذلك ولا فدية عليه فيه وسئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في رقبته كهيئة القربة قال : أرجو أن لا يكون به بأس

مسألة : قال : وإن طرح على كتفيه القباء والدواج
مسألة : قال : وإن طرح على كتفيه القباء والدواج فلا يدخل يديه في الكمين
ظاهر هذا اللفظ إباحة لبس القباء ما لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن و عطاء و إبراهيم وبه قال أبو حنيفة قال القاضي : وأبو الخطاب إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية وإن لم يدخل يديه في كمية وهو مذهب مالك والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فلزمته الفدية إذا كان عامدا كالقميص وروى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لبس الأقبية ووجه قول الخرقي ما تقدم من حديث عبد الرحمن ابن عوف في مسألة : إن لم يجد إزارا لبس السراويل وإن لم يجد نعلين لبس الخفين ولأن القباء لا يحيط بالبدن فلم يلزمه الفدية بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كمية كالقميص يتشح به وقياسهم منقوض بالرداء الموصل والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في كميه

مسألة وفصل : استظلال المحرم
مسألة : قال : ولا يظلل على رأسه في المحمل فإن فعل فعليه دم
كره أحمد الاستظلال في المحمل خاصة وما كان معناه كالهودج والعمارية والكبيسة ونحو ذلك على البعير وكره ذلك ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي وأهل المدينة وكان سفيان بن عيينة يقول : لا يستظل البتة ورخص فيه ربيه و الثوري و الشافعي وروي ذلك عن عثمان وعطاء لما [ روت أم الحصين قالت : حججت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه و سلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة ] رواه مسلم وغيره ولأنه يباح له التظلل في البتي والخباء فجاز في حال الركوب كالحلال ولأن ما حل للحلال حل للمحرم إلا ما قام على تحريمة دليل واحتج أحمد بقول ابن عمر روى عطاء قال : رأي ابن عمر على رحل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة عودا يستره من الشمس فنهاه نوعن نافع بن عمر أنه رأى رجلا محرما على رحل قد رفع ثوبا على عود يستتر به من الشمس فقال : اضح لمن أحرمت له ( أي برز للشمس ) رواهما الأثرم ولأنه ستر بما يقصد به الترفه أشبه ما لو غطاه والحديث ذهب إليه أحمد فلم يكره أن يستتر بثوب ونحوه فإن ذلك لا يقصد للاستدامة والهودج بخلاف والخيمة والبيت يرادان لجمع الرحل وحفظه لا للترفه وظهر كلام أحمد أنه إنما كره ذلك كراهة تنزيه لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر ولم ير ذلك حراما ولا موجبا لفدية قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على المحمل ؟ قال : لا وذكر حديث ابن عمر : أضح لمن أحرمت له قيل له فإن فعل يهريق دما ؟ قال : أما الدم فلا قيل : فإن أهل المدينة يقولون عليه دم قال : نعم أهل المدينة يغلطون فيه وقد روي ذلك عن أحمد وهو اختيار الخرقي لأنه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالبا فأشبه ما لو ستره لشيء يلاقيه ويروى عن الرياشي قال : رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم حر شديد وقد ضحى للشمس فقلت له : يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول :
( ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا )
( فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا )
فصل : ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء وإن نزل تحت شجرة فلا بأس أن يطرح عليها ثوبا يستظل به عند جميع أهل العلم وقد صح به النقل فإن جابرا قال في حديث حجة النبي صلى عليه وسلم وأمر بقية من شعر فضربت له بنمرة فأتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس رواه مسلم و ابن ماجة وغيرهما ولا بأس أيضا أن ينصب حياله ثوبا يقيه الشمس والبرد إما أن يمسكه إنسان أو يرفعه على عود على نحو ما روي في حديث أم الحصين أن بلالا أو أسامة كان رافعا ثوبا يستر به النبي صلى الله عليه و سلم من الحر ولأن ذلك لا يقصد به الاستدامة فلم يكن به بأس كالاستظلال بحائط

مسألة وفصل : صيد المحرم جزاؤه
مسألة : قال : ولا يقتل الصيد ولا يصيده ولا يشير إليه ولا يدل عليه حلالا ولا حراما
لا خلاف بن أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد نص الله تعالى عليه في كتابه سبحانه : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقال تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه فإن في حديث أبي قتادة [ لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ] وفي للفظ متفق عليه فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذني واحبوا لو أني أبصرته وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الدلالة علية وسؤال النبي صلى عليه وسلم لهم : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ يدل على تعلق التحريم بذلك لو وجد منهم ولأنه تسبب إلى محرم عليه فحرم كنصبه الأحبولة
فصل : ولا تحل له الإعانة على الصيد بشيء فإن في حديث أبي قتادة متفق عليه : ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح قالوا : والله لا نعينك عليه وفي رواية فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الإعانة والنبي صلى الله عليه و سلم أقرهم على ذلك ولأنه أعانه على محرم فحرم كالإعانة على تقل الآدمي
فصل : ويضمن الصيد بالدلالة فإذا دل المحرم حلالا على الصيد فأتلفه فالجزاء كله على المحرم روي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني و إسحاق وأصحاب الرأي وقال مالك و الشافعي : لا شيء على الدال لأنه يضمن بالجناية فلا يضمن بالدلالة كالآدمي
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأصحاب أبي قتادة : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ] ولأنه سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب أحبولة ولأنه قول علي وابن عباس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة
فصل : فإن دل محرما على الصيد فقتله فالجزاء بينهما وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان وقال الشعبي و سعيد بن جبير و الحارث العكي وأصحاب الرأي على كل واحد جزاء لأن كل واحد من الفعلين يستقل بجزاء كامل إذا كان منفردا فكذلك إذا انضم إليه غيره وقال مالك و الشافعي : لا ضمان على الدال
ولنا أن الواجب جزاء المتلف وهو واحد فيكون الجزاء واحدا وعلى مالك و الشافعي ما سبق ولا فرق في جميع ذلك بين كون المدلول ظاهرا أو خفيا لا يراه إلا بالدلالة عليه ولو دل محرم محرما على صيد ثم دل الآخر آخر ثم كذلك إلى عشرة فقتله العاشر كان الجزاء على جمعيهم وإن قتله الأول لم يضمن غيره لأنه لم يدله عليه أحد فلا يشاركه في ضمانه أحد لو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة فلا شيء على الدال والمشير لأن ذلك لم يكن سببا في تلفه ولأن هذه ليست دلالة على الحقيقة وكذلك إن وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد من ضحك أو استشراف إلى الصيد ففطن له غيره فصاده فلا شيء على المحرم بدليل ما جاء في حديث [ أبي قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش ] وفي لفظ [ فبينا أنا مع أصحابي يضحك بعضهم إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش ] وفي لفظ : [ فلما كنا بالصفاح فإذا هم يتراءون فقلت : أي شيء تنظرون ؟ فلم يخبروني ] متفق عليه
فصل : فإن أعار قاتل الصيد سلاحا فقتله به فهو كما لو دله عليه سواء كان المستعار مما لا يتم قتله إلا به أو أعاره شيئا هو مستغن عنه مثل أن يعيره رمحا ومعه رمح وكذلك لو أعانه عليه بمناولته سوكه أو رمحه أو أمره باصطياد لما ذكرنا من حديث أبي قتادة وقول أصحابه : والله لا نعينك عليه بشيء وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ] وكذلك إن أعاره سكينا فذبحه بها فإن أعاره آلة ليستعملها في غير الصيد فاستعملها في الصيد لم يضمن لأن ذلك غير محرم عليه فأشبه ما لو ضحك عند رؤية الصيد ففطن له إنسان فصاده
فصل : وإن دل الحلال محرما على الصيد فقتله فلا شيء على الحلال لأنه لا يضمن الصيد بالإتلاف فبالدلالة إلا أن يكون ذلك في الحرم فيشاركه في الجزاء لأن صيد الحرم حرام على الحلال والحرام نص عليه أحمد

تطيب المحرم
فصل : وإن صاد المحرم صيدا لم يملكه فإن تلف في يده فعليه جزاؤه وإن أمسكه حتى حل لزمه إرساله وليس له ذبحه فإن فعل أو تلف الصيد ضمنه وحرم أكله لأنه صيد ضمنه بحرمة الإحرام فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال إحرامه ولأنها ذكاة منع منها بسبب الإحرام فأشبهت ما لو كان الإحرام باقيا واختار أبو الخطاب أنه له أكله وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده بعد الحل والفرق ظاهر لأن هذا يلزمه ضمانه والذي صاده بعد الحل لا ضمان عليه فيه
مسألة : قال : ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله
لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه وقد قال الله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وإن صاده حلال وذبحه وكان من المحرم اعانة فيه أو دلالة عليه أو إشارة إليه لم يبح أيضا وأن صيد من أجله لم يبح له أيضا أكله روي ذلك عن عثمان بن عفان وهو قول مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : له أكله لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أبي قتادة : [ هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ قالوا لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها ] متفق عليه فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة والأمر والإعانة ولأنه صيد مذكى لم يحصل في هولا في سببه صنع منه فلم يحرم عله أكله كما لو لم يصد له
وحكي عن علي وابن عمر وعائشة وابن عباس أن لحم الصيد يحرم على المحرم بكل حال وبه قال طاوس : وكرهه الثوري و إسحاق لعموم قوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وروي عن ابن عباس [ عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه و سلم حمارا وحشيا وهو بالإيواء أو بودان فرجه عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآى رسول الله عليه وسلم ما في وجهه قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ] متفق عليه وفي لفظ [ أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه و سلم رجل حمار ] وفي رواية : [ عجز حمار ] وفي رواية [ شق حمار ] روى ذلك كله مسلم وروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع له طعاما وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال : أطعموه قوما حلالا فانا حرم ثم قال علي : أنشد الله من كان ههنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدى إليه رجل حمار وحش فأبى أن يأكله ؟ قالوا : نعم ولأنه لحم صيد فحرم على المحرم كما لو دل عليه
ولنا ما روى جابر قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال : هو أحسن حديث في الباب وهذا صريح في الحكم وفيه جمع بين الأحاديث وبيان المختلف منها فإن ترك النبي صلى الله عليه و سلم للأكل مما أهدي إليه يحتمل أن يكو لعلمه أنه صيد من أجله أو أظنه ويتعين حمله على ذلك لما قدمت من حديث أبي قتادة وأمر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه بأكل الحمار الذي صاده و [ عن طلحة أنه أهدي له طير وهو راقد فأكل بعض أصحابه وهم محرمون وتورع بعض فلما استيقظ طلحة وافق من أكله وقال : أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه مسلم وفي الموطأ [ أن رسول الله وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير فجاء البهزي وهو صاحبه فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق ] وهو حديث صحيح وأحاديثهم إن لم يكن فيها ذكر أنه صيد من أجلهم فتعين ضم هذا القيد إليها وجمعا بين الأحاديث ودفعا للتناقض عنها ولأنه صيد للمحرم فحرم كما لو أمر أو أعان
فصل : وما حرم على المحرم لكونه صيد من أجله أو دل عليه أو أعان عليه لم يحرم على الحلال أكله لقول علي : اطعموه حلالا وقد بينا حمله على أنه صيد أجلهم وحديث الصعب بن جثامة حين رد النبي صلى الله عليه و سلم الصيد عليه ولم ينهه عن أكله ولأنه صيد حلال فأبيح للحلال أكله لكما لو تصيد لهم وهل يباح أكله المحرم آخر ظاهر الحديث إباحته له لقوله : [ صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم ] وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه روي أنه أهدي إليه صيد وهو محرم فقال لأصحابه : كلوا ولم يأكل هو وقال : إنما صيد من أجلي ولأنه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه ويحتمل أن يحرم عليه وهو ظاهر قول علي رضي الله عنه لقوله : اطعموه حلالا فإنا حرم ولقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أبي قتادة : [ هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوه ] فمفهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم
فصل : إذا قتل المحرم الصيد ثم أكله ضمنه للقتل دون الأكل وبه قال مالك و الشافعي وقال عطاء و أبو حنيفة : يضمنه للأكل أيضا لأنه أكل من صيد محرم عليه فيضمنه كما لو أكل مما صيد لأجله
ولنا أنه صيد مضمون بالجزاء فلم يضمن ثانيا كما لو أتلفه بغير الأكل وكصيد الحرم إذا قتله الحلال وأكل وكذلك إن قتله محرم آخر ثم أكل هذا منه لم يجب عليه الجزاء لما ذكرنا ولأن تحريمه لكونه ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء وكذلك ان حرم عليه أكله والإعانة عليه فأكل منه لم يضمن لأنه صيد مضمون بالجزاء مرة فلا يجب به جزاء ثان كما لو أتلفه وإن أكل مما صيد لأجله ضمنه وهو قول مالك وقاله الشافعي في القديم وقال في الجديد لا جزاء عليه لأنه أكل للصيد فلم يجب به الجزاء كما لو قتله ثم أكله ولنا إنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الإحرام فتعلق به الضمان كالقتل أما إذا قتله ثم أكله لا يحرم للإتلاف إنما حرم لكونه ميتة إذا ثبت هذا فإنه يضمنه بمثله من اللحم لأن أصله مضمون بمثله من النعم فكذلك ابعاضه تضمن بمثلها بخلاف حيوان الآدمي فإنه يضمن بقيمته فكذلك ابعاضه
فصل : وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس وهذا قول الحسن والقاسم وسالم و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وقال الحكم و الثوري و أبو ثور : لا بأس بأكله قال ابن المنذر : هو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار و أيوب السختياني : يأكله الحلال وحكي عن الشافعي قول قديم أنه يحل لغيره الأكل منه لأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال
ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحه لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي وبهذا فارق سائر الحيوانات وفارق غير الصيد فإنه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم في صيد الحرم إذا ذبحه الحلال
فصل : وإذا اضطر المحرم فوجد صيدا وميتة أكل الميتة وبهذا قال الحسن و الثوري و مالك وقال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر : يأكل الصيد وهذه المسألة مبينة على أنه إذا ذبح الصيد كان ميتة فيساوي الميتة في التحريم ويمتاز بإيجاب فيأكل الجزاء وما يتعلق به من هتك حرمه الإحرام فلذلك كان أكل الميتة أولى إلا أن لا تطيب نسه بأكله فيأكل الصيد كما لو لم يجد غيره

تطيب المحرم
مسألة : قال : ولا يتطيب المحرم
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في المحرم الذي وقصته راحلته : لا تمسوه بطيب ] رواه مسلم وفي لفظ [ لا تحنطوه ] متفق عليه فلما منع الميت من الطيب لإحرامه فالحي أولى ومتى تطيب فعليه الفدية لأنه استعمل ما حرمه الإحرام فوجبت عليه الفدية كاللباس ومعنى الطيب ما تطيب رائحته ويتخذ للشم كالمسك والعنبر والكافور والغالية والزعفران وماء الورد والأدهان المطيبة كدهن البنسفج ونحوه
فصل : والنبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب
أحدها : ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه كنبات الصحراء من الشيح والقيصوم والخزامي والفواكه كلها من الأتراج والتفاح والسفرجل وغيره وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء والعصفر فمباح شمه ولا فدية فيه ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولان علم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب أشبه سائر نبات الأرض قد روي أن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم كن يحرمن في المعصفرات
الثاني : ما ينبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب كالريحان الفارسي والمرزجوش والبرم ففيه وجهان :
أحدهما : يباح بغير فدية قاله عثمان بن عفان وابن عباس والحسن ومجاهد وإسحاق
والآخر : يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر وابن عمر و الشافعي و أبي ثور لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئا وكلام أحمد فيه محتمل لهذا فإنه قال في الريحان : ليس من آلة المحرم ولم يذكر فديته وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب فأشبه العصفر
الثالث : ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين والخيري فهذا إذا استعمله وشمه ففيه الفدية تجب فيما يتخذ منه فكذلك في أصله وعن أحمد رواية أخرى في الورد لا فدية عليه في شمه لأنه زهر شمه سائر الشجر وذكر أبو الخطاب في هذا والذي قبله روايتين والأولى تحريمه لأنه ينبت للطيب ويتخذ منه أشبه الزعفران والعنبر قال القاضي : يقال إن العنبر ثم شجر وكذلك الكافور
فصل : وإن مس من الطيب ما يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية لأنه مستعمل للطيب وإن مس ما لا يتعلق بيده كالمسك غير المسحوق وقطع الكافور والعنبر فلا فدية لأنه غير مستعمل للطيب فإن شمه فعليه الفدية لأنه يستعمل هكذا وإن شم العود فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا
مسألة : قال : ولا يلبس ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا طيب
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا قول جابر وابن عمر و مالك و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر : لا خلاف في هذا بين العلماء وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس ] متفق عليه فكل ما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر بعود فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ولا النوم عليه نص أحمد عليه وذلك لأنه استعمال له فأشبه لبسه ومتى لبسه أو استعمله فعليه الفدية وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية وإلا فلا لأنه ليس بمتطيب
ولنا أنه منهي عنه الأجل الإحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه ولأنه محرم استعمل ثوبا مطيبا فلزمته الفدية به كالرطب فإن غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء
فصل : وإن انقطعت رائحة الثوب لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه وبهذا قال سعيد بن المسيب والحسن و النخعي و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء و طاوس وكره ذلك إلا أن يغسل ويذهب لونه لأن عين الزعفران ونحوه فيه
ولنا أنه إنما نهي عنه من أجل رائحته وقد ذهبت بالكلية فإما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحا ففيه الفدية لأنه متطيب بطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه والماء لا رائحة له وإنما هي من الصبغ الذي فيه فإما أن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية عليه بالجلوس والنوم عليه وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه
مسألة : قال : ولا بأس بما صبغ بالعصغر
وجملة ذلك أن العصفر ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه ولا بما صبغ به وهذا قول جابر وابن عمر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب وهو مذهب الشافعي و [ عن عائشة وأسماء وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم أنهن كن يحرمن في المعصفرات ] وكرهه مالك إذا كان ينتفض في بدنه ولم يوجب فيه فدية ومنع منه الثوري و أبو حنيفة و محمد بن الحسن وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك
ولنا مما روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الروس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف وروى الإمام أحمد في المناسك بإسناده [ عن عائشة بنت سعد قالت : كنا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم نحرم في المعصفرات ] ولأنه قول من سمينا من الصحابة لم نعرف لهم مخالفا ولأنه ليس بطيب فلم يكره ما صبغ به كالسواد والمصبوغ بالمغرة وأما الورس والزعفران فإنه طيب بخلاف مسألتنا
فصل : ولا بأس بالممشق وهو المصبوغ بالمغرة لأنه مصبوغ بطين لا بطيب وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ سوى ما ذكرنا لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه وما كان في معناه وليس هذا كذلك وأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني على الرياحين في نفسها فما منع المحرم من استعماله منع لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته وإلا فلا

إزالة المحرم شعره
مسألة : قال ولا يقطع شعرا من رأسه ولا جسده
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ عره إلا من عذر والأصل فيه قول الله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } و [ روى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لعلك يؤذيك هوام رأسك قال : نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين أو أنسك شاة ] متفق عليه وهذا يدل على أن الحلق كان قبل ذلك محرما وشعر الرأس والجسد في ذلك سواء
فصل : فإن كان له عذر من مرض أو وقع في رأسه قمل أو غير ذلك مما يضر الشعر فله إزالته للآية والخبر قال ابن عباس { فمن كان منكم مريضا } أي برأسه قروح { أو به أذى من رأسه } أي : قمل ثم ينظر فإن كان الضرر اللاحق به من نفس الشعر مثل أن ينبت في عينه أو طال حاجباه فغطيا عينيه فله قلع ما في العين وقطع ما استرسل على عينيه لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذيته بغير فدية كالصيد إذا صال عليه وإن كان الأذى من غير الشعر لكن لا يتمكن من إزالة الأذى إلا بإزالة الشعر كالقمل والقروح برأسه أو صداع برأسه أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فعليه الفدية لأنه قطع الشعر لإزالة ضرر غيره فأشبه أكل الصيد للمخمصة فإن قيل فالقمل من ضرر الشعر والحر سببه كثرة الشعر قلنا ليس القمل من الشعر وإنما لا يتمكن من المقام في الرأس إلا به فهو محل له لا سبب فيه وكذلك الحر من الزمان بدليل أن الشعر يوجد في زمن البرد فلا يتأذى به والله أعلم

قص المحرم أظفاره
مسألة : قال : ولا يقطع ظفرا إلا أن ينكسر
أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من قلم إظفاره إلا من عذر لأن قطع الأظفار إزالة جزء يترفه به فحرم كإزالة الشعر فإن انكسر فله إزالته من غير فدية تلزمه قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر ولأن ما انكسر يؤذيه ويؤلمه فأشبه الشعر النابت في عينه والصيد الصائل عليه فإن قص أكثر مما أنكسر فعله الفدية لذلك الزائد كما لو قطع من الشعر أكثر مما يحتاج إليه وإن احتاج إلى مدواة قرحة فلم يمكنه إلا بقص أطفاره فعليه الفدية لذلك وقال ابن القاسم صاحب مالك : لا فدية عليه
ولنا أنه أزال ما منع إزالته لضرر في غيره فأشبه حلق رأسه دفعا لضرر قمله وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها لذلك المرض فلا فدية عليه لأنه أزالها لإزالة مرضها فأشبه قصها لكسرها

ولا ينظر في المرآة
مسألة : قال : ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء
يعني لا ينظر فيها لإزالة شعث أو تسوية شعر أو شيء من الزينة قال أحمد : ولا بأس أن ينظر في المرآة ولا يصح شعثا ولا ينفض عنه غبارا وقال أيضا : إذا كان يريد به زينة فلا قيل فكيف يريد زينة ؟ قال : يرى شعرة فيسويها وروي نحو ذلك عن عطاء والوجه في ذلك أنه قد روي في حديث [ إن المحرم الأشعث الأغبر ] وفي آخر [ إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول : يا ملائكتي انظروا إلى عبادي قد أتوني شعثا غبرا ضاحين ] أو كما جاء لفظ الحديث فإن نظر فيها لحاجة كمداواة جرح أو إزالة الشعر ينبت في عينه ونحو وذلك مما أباح الشرع له فعلا فلا بأس ولا فدية عليه بالنظر في المرآة على كل حال وإنما ذلك أدب لا شيء على تاركه لا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا وقد روي عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا ينظران في المرآة وهما محرمان

مسألة وفصل : ولا ياكل الزعفران ما يجد ريحه
وجملة ذلك أن الزعفران وغيره من الطيب إذا جعل في مأكول أو مشروب فلم تذهب رائحته لم يبح للمحرم تناوله نيئا كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي لا يرون بما مست النار من الطعام بأسا سواء ذهب لونه وريحه وطعمه أو بقي ذلك كله لأنه بالطبخ استحال عن كونه طيبا وروي عن ابن عمر و عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير و طاوس أنهم لم يكونوا يرون بأكل الخشكنانج الأصفر بأسا وكرهه القاسم بن محمد و جعفر بن محمد
ولنا أن الإستمتاع به والترفه به حاصل من حيث المباشرة فأشبه ما لو كان نيئا ولأن المقصود من الطيب رائحته وهي باقية وقول من أباح الخشكنانج الأصفر محمول على ما لم يبق فيه رائحة فإن ما ذهبت رائحته وطعمه ولم يبق فيه إلا اللون مما مسته النار لا بأس بأكله لا نعلم فيه خلافا سوى أن القاسم و جعفر بن محمد كرها الخشكنانج الأصفر ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فإن لم تمسه النار لكن ذهبت رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي : وكره مالك و الحميدي وأصحاب الرأي الملح الأصفر وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه
ولنا أن المقصود الرائحة فإن الطيب إنما كان طيبا لرائحته لا للونه فرجب دوران الحكم معها دونه
فصل : فإن ذهبت رائحته وبقي لونه وطعمه فظاهر كلام الخرقي إباحته لما ذكرنا من أنها المقصود فيزول المنع بزوالها وظاهر كلام أحمد في رواية صالح تحريمه وهو مذهب الشافعي قال القاضي : محال أن تنفك الرائحة عن الطعم فمتى بقي الطعم دل على بقائها فلذلك وجبت الفدية باستعماله

ولا يدهن ما فيه طيب ولا يتعمد الشم
مسألة : قال : ولا يدهن بما فيه طيب وما لا طيب فيه
أما المطيب من الادهان كدهن الورد والنفسج والزنبق والخيري واللينوفر فليس في تحريم الأدهان به خلاف في المذهب وهو قول الأوزاعي وكره مالك و أبو ثور وأصحاب الرأي الادهان بدهن البنفسج وقال الشافعي ليس بطيب
ولنا أنه يتخذ للطيب وتقصد رائحته فكان طيبا كماء الورد فأما ما لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج فنقل الأثرم قال : سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج فقال : نعم يدهن به إذا احتج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن المحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل الأثرم جواز ذلك عن ابن عباس و أبي ذر والأسود ابن يزيد وعطاء والضحاك وغيرهم ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال : الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان وهو قول عطاء و مالك و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعا وقد ذكرنا إجماع أهل العلم على إباحته في اليدين وإنما الكراهة في الرأس خاصة لأنه محل الشعر وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان فإن فعله فلا فدية فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه أو غيره إلا أن يكون مطيبا وقد روي عن ابن عمر أنه صدع وهو محرم فقالوا : ألا ندهنك بالسمن ؟ فقال : لا قالوا : أليس تأكله ؟ قال : ليس أكله كالادهان به وعن مجاهد قال : إن تداوى به فعليه الكفارة وقال : الذين منعوا من دهن الرأس فيه الفدية لأنه مزيل للشعث أشبه ما لو كان مطيبا
ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وإن لم يزل شعثا فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولأن مائع لا تجب الفدية باستعماله في اليدين فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء
مسألة : قال : ولا يتعمد لشم الطيب
أي لا يقصد شمه من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك أو يدخل الكعبة حال تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها قال أحمد : سبحان الله كيف يجوز هذا ؟ وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة تكون معه يشمها فإن أصحابه اختلفوا فيها لأنه يشم الطيب من غيره أشبه ما لو لم يقصده
ولنا أنه شم الطيب قاصدا مبتدئا به في الإحرام فحرم كما لو باشره يحققه أن القصد شمه لا مباشرته بدليل ما لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شيء ولو رفعه بخرقه وشمه لوجبت عليه الفدية ولم يباشره فأما شمه من غير قصد كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل الكعبة للتبرك بها ومن يشتري طيبا لنفسه وللتجارة ولا يمسه فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز من هذا فعفي عنه بخلاف الأول

العذر لا يسقط الفدية
مسألة : قال : ولا يغطي شيئا من رأسه والأذنان من الرأس
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تخمير رأسه والأصل في ذلك نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن لبس العمائم والبرانس وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته : [ لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] علل منع تخمير رأسه ببقائه على إحرامه فعلم أن المحرم ممنوع من ذلك وكان ابن عمر يقول : إحرام الرجل في رأسه وذكر القاضي في الشرح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ] وأنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم رأسه بالسير وقول الخرقي والأذنان من الرأس فائدته تحريم تغطيتهما وأباح ذلك الشافعي
وقد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الأذنان من الرأس ] وقد ذكرناه في الطهارة وإذا ثبت هذا فإنه يمنع من تغطية بعض رأسه كما يمنع تغطية جميعه ل [ أن النبي صلى الله قال : لا تخمروا رأسه ] والمنهي عنه يحرم فعل بعضه ولذلك لما قال : { ولا تحلقوا رؤوسكم } حرم حلق بعضه وسواء غطاء بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل أن عصبة بعصابة أو شدة بسير أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء أو لا دواء فيه أو خضبه بحناء أو طلاه بطين أو نوره أو جعل عليه دواء فإن جميع ذلك ستر له وهو ممنوع منه وسواء كان ذلك لعذر أو غيره فإن العذر لا يسقط الفدية بدليل قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية } وقصة كعب بن عجرة وبهذا كله قال الشافعي : وكان عطاء يرخص في العصابة من الضرورة والصحيح أنه لا تسقط الفدية عنه بالعذر كما لو لبس قلنسوة من أجل البرد

ومن حمل على رأسه مكتلا أو طبقا فلا فدية عليه
فصل : فإن حمل على رأسه أو طبقا أو نحره فلا فدية عليه وبهذا قال عطاء و مالك وقال الشافعي عليه الفدية لأنه ستره
ولنا أن هذا لا يقصد به الستر غالبا فلم تجب به الفدية كما لو وضع يده عليه وسواء قصد به الستر أو لم يقصد لأن ما تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك ما لا تجب به الفدية واختار ابن عقيل وجوب الفدية عليه إذا قصد به الستر لأن الحيل لا تحيل الحقوق وإن ستر رأسه بيديه فلا شيء عليه لما ذكرنا ولأن الستر بما هو متصل به لا يثبت له حكم الستر ولذلك لو وضع يديه على فرجه لم تجزئه في الستر ولأن المحرم مأمور بمسح رأسه وذلك يكون بوضع يديه أو إحداهما عليه وإن طلا رأسه بعسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يقع فيه الدبيب جاز وهو التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يهل ملبدا ] رواه البخاري و [ عن حفصة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ] متفق عليهما وإن كان في رأسه طيب مما جعله فيه قبل الإحرام فلا بأس لما روي [ عن عائشة قالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس الرسول الله صلى الله عليه و سلم ] وكان على رأس ابن عباس مثل الرب من الغالية وهو محرم

وفي تغطية المحرم وجهه روايتان
فصل : وفي تغطية المحرم وجهه روايتان
إحداهما : يباح روي ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد ابن أبي وقاص وجابر و القاسم و طاوس و الثوري و الشافعي
والثانية : لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة و مالك لما روي عن ابن عباس [ أن رجلا وقع عن راحلته فأقعصته فقال الرسول الله صلى الله عليه و سلم : اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي ] ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب
ولنا ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا ولقوله عليه السلام : [ إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها ] وحديث ابن عباس المشهور فيه : [ ولا تخمروا رأسه ] هذا متفق عليه وقوله : [ ولا تخمروا وجهه ] فقال شعبة : حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان يحدث إلا أنه قال : [ ولا تخمروا وجهه ورأسه ] وهذا يدل على أنه ضعف هذه الزيادة وقد روي في بعض ألفاظه : [ خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه ] فتتعارض الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين

تغطية المحرمة لوجهها ورأسها
مسألة : قال : والمرأة إحرامها في وجهها فإن احتاجت سدلت على وجهها
وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه لا نعلم في هذا خلافا إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وفي محرمة ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة فلا يكون اختلافا قال ابن المنذر : وكراهية البرقع ثابته عن سعد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحدا خالف فيه وقد روى البخاري وغيره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ] فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها روي عن عثمان وعائشة وبه قال عطاء و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق محمد بن الحسن ولا نعلم فيه خلافا وذلك لما روي [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه ] رواه أبو داود و الأثرم ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شيء عليها كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاة فإن لم ترفعه مع القدرة افتدت لأنها استدامت الستر ولم أر هذا الشرط عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابته البشرة فلو كان هذا شرطا لبين وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه قال أحمد : إنما لا أن تسدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل كأنه يقول أن النقاب من أسفل على وجهها
فصل : ويجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحرمي تغطية الوجه ولا يمكن تغطية جميع الرأس بجزء من الوجه ولا كشف جميع الوجه إلا بكشف جزء من الرأس فعند ذلك ستر الرأس كله أولى لأنه آكد إذ هو عورة لا يختص تحريمه حالة الإحرام وكشف الوجه بخلافه وقد أبحنا ستر جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى

طواف المرأة غير المحرمة
فصل : ولا بأس أن تطوف المرأة منتقبة إذا كانت غير محرمة وطافت عائشة وهي منتقبة وكره ذلك عطاء ثم رجع عنه وذكر أبو عبد الله حديث ابن جريج أن عطاء كان يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة حتى حدثته عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة طافت وهي منقبة فأخذ به

الكحل للمحرمة
مسألة : قال : ولا تكتحل بكحل أسود
الكحل بالأثمد في الإحرام مكروه للمرأة والرجل وإنما خص المرأة بالذكر لأنها محل الزينة وهو في حقها أكثر من الرجل ويروى هذا عن عطاء والحسن ومجاهد قال مجاهد هو زينة وروي عن ابن عمر أنه قال : يكتحل المحرم بكل كحل ليس فيه طيب قال مالك : لا رأس أن يكتحل المحرم من حر يجده في عينيه بالأثمد وغيره وري عن أحمد أنه قال : يكتحل المحرم ما لم يرد به الزينة قيل له الرجال والنساء ؟ قال : نعم والدليل على كراهته ما روي عن جبر [ أن عليا قدم من اليمن فوجد فاطمة ممن حل فلبست ثيابا صبغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت : أبي أمرني بهذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صدقت صدقت ] رواه مسلم وغيره وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك وروي عن عائشة أنها قالت لامرأة : اكتحلي بأي كحل شئت غير الأثمد أو الأسود إذا ثبت هذا فإن الكحل بالأثمد مكروه لا فدية فيه لا أعلم فيه خلافا وروت شميسة عن عائشة قالت : اشتكيت عين وأنا محرمة فسألت عائشة فقال : اكتحلي بأي كحل شئت غير الأثمد أما أنه ليس بحرام ولكنه زينة فنحن نكرهه قال الشافعي : إن فعلا فلا أعلم عليهما فيه فدية بشيء
فصل : فأما الكحل بغير الأثمد فلا كراهية فيه ما لم يكمن فيه طيب لما ذكرنا من حديث عائشة وقول ابن عمر وقد روى مسلم عن نبيه بن وهب قال : خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان ليسأله فأرسل إليه أن اضمدها بالصبر فإن عثمان حدث عن رسول الله صلى الله لعيه وسلم : في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدها بالصبر ففي هذا دليل على إباحة ما في معناه مما ليس فيه زينة ولا طيب وكان إبراهيم لا يرى بالذرور الأحمر بأسا

يستحب للمرأة ما يستحب للرجل في الإحرام والمرأة كالرجل إلا في اللباس
مسألة : قال : وتجتنب كل ما تجتنبه الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوع مما منع منه الرجال إلا بعض اللباس وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القمص والدروع والسرايلات والخمر والخفاف وإنما كان كذلك لأن أمر الرسول الله صلى عليه وسلم المحرم بأمر وحكمة عليه يدخل فيه الرجال والنساء وإنما استثنى منه اللباس للحاجة إلى ستر المرأة لكونها عورة إلا وجهها فتجردها يفضي إلى انكشافها فأبيح لها اللباس للستر كما أبيح للرجل عقد الإزار كيلا يسقط فتنكشف العورة ولم يبح عقد الرداء وقد روى ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف وهذا صريح والمراد باللباس ههنا المخيط من القمص والدروع والسراويلات والخفاف وما يستر الرأس ونحوه
فصل : ويستحب للمرأة ما يستحب للرجل من الغسل عند الإحرام والتطيب والتنظيف لما ذكرنا من حديث [ عائشة أنها قالت : كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه و سلم فلا ينكره عليها ] والشابة والكبيرة في هذا سواء فإن عائشة كانت تفعله في عهد النبي صلى الله عليه و سلم وهي شابة فإن قيل أليس قد كره ذلك في الجمعة قلنا : لأنها في الجمعة تقرب من الرجال فيخاف الافتتان بها بخلاف مسألتنا ولهذا يلزم الحج والنساء ولا تلزمهن الجمعة وكذلك يستحب لها قلة الكلام فيما لا ينفع والإكثار من التلبية وذكر الله تعالى
مسألة : قال : ولا تلبس القفازين ولا الخلخال وما أشبه
القفازين شيء يعمل لليدين تدخلهما فيهما من خرق تسترها من الحر مثل ما يعمل للبرد فيحرم على المرأة لبسه في يديها في حال إحرامها وهذا قول ابن عمر وبه قال عطاء و طاوس و مجاهد و النخعي و مالك و إسحاق كان سعيد بن أبي وقاص يلبس بناته القفازين وهن محرمات ورخص فيه علي وعائشة وعطاء وبه قال الثوري و أبو حنيفة و للشافعي كالمذهبي واحتجوا بما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إحرام المرأة في وجهها ] وأنه عضو يجوز ستره بغير المخيط فجاز ستره به كالرجلين
ولنا ما روى ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين ] رواه البخاري وروي أيضا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والخلخال ] ولأن الرجل لما وجب عليه كشف رأسه تعلق حكم إحرامه بغيره فمنع من لبس المخيط في سائر بدنه كذلك المرأة لما لزمها كشف وجهها ينبغي أن يتعلق حكم الإحرام بغير ذلك البعض وهو اليدان وحديثهم المراد به الكشف فأما الستر بغير المخيط فيجوز للرجل ولا يجوز بالمخيط فأما الخلخال وما أشبه من الحلي مثل السوار والدملوج فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز لبسه وقد قال أحمد : المحرمة والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة ولهما ما سوى ذلك وروي عن عطاء أنه كان يكره للمحرمة الحرير والحلي وكرهه الثوري و أبو ثور وروي عن قتادة أنه كان لا يرى بأسا أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة وكره السوارين والدمليجين والخلخالين وظاهر مذهب احمد الرخصة فيه وهو وقول ابن عمر وعائشة وأصحاب الرأي قال أحمد في رواية حنبل : تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال عن نافع : كان نساء ابن عمر ونباته يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله وروى أحمد في المناسك عن عائشة أنها قالت : تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزها وقزها وحليها وقد ذكرنا حديث ابن عمر أنه [ سمع النبي صلى الله عليه و سلم قال : ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي ] قال ابن المنذر : لا يجوز المنع منه بغير حجة ويحمل كلام أحمد والخرقي في المنع على الكراهية لما في ه من الزينة وشبهه بالكحل بالأثمد ولا فدية كما لا فدية في الكحل وأما لبس القفازين ففيه الفدية لأنها لبست ما نهيت عن لبسه في الإحرام فلزمتها الفدية كالنقاب
فصل : قال القاضي : يحرم عليها شد يديها بخرقه لأنه ستر لبدنها بما يختص بها أشبه القفازين وكما لو شد الرجل على جسده شيئا وإن لفت يديها من غير شد فلا فدية لأن المحرم هو اللبس لا تغطيتهما كبدن الرجل

ما يكره للمحرمة وما تستحب رفع الصوت
مسألة : قال : ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها
قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها وبهذا قال عطاء و مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن سليمان بن يسار قال : السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالاهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها اذان ولا إقامة والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح
فصل : ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء عند الإحرام لما روي عن ابن عمر أنه قال : من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء ولأن هذا من زينة النساء فاستحب عند الإحرام كالطيب ولا بأس بالخضاب في حال إحرامها وقال القاضي : يكره لكونه من الزينة فأشبه الكحل بالأثمد فإن فعلته ولم تشد يديها بالخرق فلا فديه وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وكان مالك ومحمد بن الحسن يكرهان الخضاب للمحرمة وألزماها الفدية
ولنا ما روى عكرمة أنه قال : [ كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم يختضبن بالحناء ] وهن حرم ولأن الأصل الإباحة وليس ههنا دليل يمنع من نص ولا إجماع ولا هي معنى النصوص
فصل : إذا أحرم الخنثى المشكل لم يلزمه اجتناب المخيط لأننا لا نتقن الذكورية الموجبة لذلك وقال ابن المبارك : يغطي رأسه ويكفر والصحيح أن الكفارة لا تلزمه لان الأصل عدمها فلا نوجبها بالشك وإن غطى وجهه وحده لم يلزمه فدية لذلك وإن جمع بين تغطية وجهه بنقاب أو برقع وبين تغطية رأسه أو لبس المخيط على بدنه لزمته الفدية لأنه لا يخلو أن يكون رجلا أو امرأة
فصل : ويستحب للمراة الطواف ليلا لأنه استر لها وأقل للزحام فيمكنها أن تدنو من البيت وتستلم الحجر وقد روى حنبل في المناسك بإسناده عن أبي الزبير أن عائشة كانت تطوف بعد العشاء اسبوعا أو اسبوعين وترسل إلى أهل المجالس في المسجد ارتفعوا إلى أهليكم فإن لهم عليكم حقا وعن محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة أنها أرسلت إلى أصحاب المصابيح أن يطفئوها فاطفؤوها فطفت معها في ستر أو حجاب فكانت كلما فرغت من أسبوع استلمت الركن الأسود وتعوذت بين الركن والباب حتى إذا فرغت من ثلاثة أسابيع ذهبت إلى دير سقاية زمزم مما يلي الناس فصلت ست ركعات كلما ركعت ركعتين انحرفت إلى النساء فكلمتهن تفصل بذلك صلاتها حتى فرغت

فروع في زواج المحرم وتزويجه لغيره ووكالته
مسألة : قال : ولا يتزوج المحرم ولا يزوج فإن فعل فالنكاح باطل
قوله : لا يتزوج أي لا يقبل النكاح لنفسه ولا يتزوج أي لا يكون وليا في النكاح ولا وكيلا فيه ولا يجوز تزويج المحرمة أيضا روي ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنه من وبه قال سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و الزهري و والأزواعي و مالك و الشافعي وأجاز ذلك ابن عباس وهو قول أبي حنيفة لما روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج ميمونة وهو محرم ] متفق عليه ولأنه عقد بملك به الاستمتاع فلا يحرمه الإحرام كشراء الإماء
ولنا ما روى أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ] رواه مسلم ولأن الإحرام يحرم الطيب فيحرم النكاح كالعدة فأما حديث ابن عباس فقد روى يزيد بن الأصم [ عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف في الظلة التي بنى بها فيها ] رواه أبو داود و الأثرم وعن أبي رافع قال : [ تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وميمونة أعلم بنفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا فكيف وقد كان صغيرا ولا يعرف حقائق الأمور ولا يقف عليها وقد أنكر عليه هذا القول وقال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس ما تزوجها النبي صلى الله عليه و سلم إلا حلالا فكيف يعمل بحديث هذا حاله ؟ ويمكن حمل قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو في البلد الحرام كما قيل
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما
وقيل : تزوجها حلالا وأظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم لو صح الحديثان كان تقديم حديثنا أولى لأنه قول النبي صلى الله عليه و سلم وذلك فعله والقول لأنه يحتمل أن يكون مختصا بما فعله وعقد النكاح يخالف شراء الأمة فإنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين وكون المنكوحة أختا له من الرضاع ويعتبر له شروط غير معتبرة في الشراء
فصل : ومتى تزوج المحرم أو تزوج أو زوجت محرمة فالنكاح باطل سواء كان الكل محرمين أو بعضهم لأنه منهي عنه فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها أو خالتها وعن أحمد إن زوج المحرم لم أفسخ النكاح قال بعض أصحابنا : هذا يدل على أنه إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرما لم يفسد النكاح والمذهب الأول وكلام أحمد يحمل على أنه لا يفسخه لكونه مختلفا فيه قال أحمد في رواية أبي طالب : إذا تزوجت بغير ولي لم يكن للولي أن يزوجها من غيره حتى يطلق ولأن تزويجها من غير طلاق يقضي إلى أن يجتمع للمرأة زوجان كل زوجان كل واحد منهما يعتقد حلها
فصل : وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لأنه قد جاء في بعض الفاظ حديث عثمان : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب رواه مسلم ولأنه تسبب إلى الحرام فأشبه الإشارة إلى الصيد والإحرام الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لأن حكمه باق في وجوب ما يجب في الإحرام فكذلك ما يحرم به
فصل : ويكره أن يشهد في النكاح لأنه معاونة على النكاح فأشبه الخطبة وإن شهد أو خطب لم يفسد النكاح وقال بعض أصحاب الشافعي : لا ينعقد النكاح بشهادة المحرمين لأن في بعض الروايات ولا يشهد
ولنا أنه لا مدخل للشاهد في العقد فأشبه الخطبة وهذه اللفظة غير معروفة فلم يثبت بها حكم ومتى تزوج المحرم أو زوج أو زوجت محرمة لم يجب بذلك فدية لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم تجب به فدية كشراء الصيد

إفساد الوطء للحج واحكامه
مسألة : قال : فإن وطىء المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فقد فسد حجمهما وعليه بدنه ان كان استكرهها وإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة
إما فساد الحج بالجماع في الفرج فليس فيه اختلاف قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد باتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله فقال : إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان فقال : أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وكذلك قال ابن عباس وعبد الله بن عمر ولم نعلم لهم في عصرهم مخالفا روى حديثهم الأثرم في سننه : وفي حديث ابن عباس ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما قال ابن المنذر : قول ابن عباس أعلى شيء روي فيمن وطئ في حجه وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال ابن السميب وعطاء و النخعي و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا فرق بين ما قبل الوقوف وبعده وقال أبو حنيفة : إن جامع قبل الوقوف فسد حجه وإن جامع بعده لم يفسد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة ] ولأنه معنى يأمن به الفوات فأمن به الفساد كالتحلل
ولنا أن قول الصحابة الذين روينا قولهم مطلق فيمن واقع محرما ولأن جماع صادف إحراما تاما فإفسده كما قبل الوقوف وقوله عليه السلام : [ الحج عرفة ] يعني معظمة أو أنه ركن متأكد فيه ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد بدليل العمرة إذا ثبت هذا فإنه يجب على المجامع بدنه روي ذلك عن ابن عباس وعطاء و طاوس و مجاهد و مالك و الشافعي و أبي ثور وقال الثوري و إسحاق : عليه بدنه فإن لم يجد فشاة قال أصحاب الرأي : ان جامع قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وإن كان بعده فعليه بدنة وحجه صحيح لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء فلم يجب به بدنة كالفوات
ولنا أنه جماع صادف إحراما تاما فوجبت به البدنة كبعد الوقوف ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يفرقوا بين قبل الوقوف وبعده وأما الفوات فهو مفارق للجماع بالإجماع ولذلك لا يوجبون فيه الشاة بخلاف الجماع وإذا كانت المرأة مكرهة على الجماع فلا هدي عليها ولا على الرجل أن يهدي عنها نص عليه أحمد لأنه جماع يوجب الكفارة فلم تجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة كما في الصيام وهذا قول إسحاق وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى ان عليه أن يهدي عنها وهو قول عطاء ومالك لأن افساد الحج وجد منه في حقها فكان عليه لإفساد حجها هدي قياسا على حجه وعنه ما يدل على أن الهدي عليها لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها فكان الهدي عليها كما لو طاوعت ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليها يتحمله الزوج عنها فلا يكون رواية ثالثة فأما حال المطاوعة فعلى كل واحد منهما بدنة هذا قول ابن عباس و سعيد ابن المسيب و النخعي و الضحاك و مالك والحكم وحماد لأن ابن عباس قال : اهد ناقة ولتهد ناقة لأنها أحد المتجامعين من غير إكراه فلزمتها بدنة كالرجل وعن أحمد أنه قال : أرجو أن يجزئهما هدي واحد وروي ذلك عن عطاء وهو مذهب الشافعي لأنه جماع واحد فلم يجب أكثر من بدنة كحالة الإكراه والنائمة المكرهة في هذا وأما فساد الحج فلا فرق فيه بين حال الإكراه والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا
فصل : ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة وبه قال الشافعي و أبو ثور : ويتخرج في وطء البهيمة أن الحج لا يفسد به وهو قول مالك وأبي حنيفة لأنه لا يوجب الحد فأشبه الوطء دون الفرج وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أن اللواط والوطء في الدبر لا يفسد الحج لأنه لا يثبت به الاحصان فلم يفسد الحج كالوطء دون الفرج
ولنا أنه وطء في فرج يوجب الاغتسال فأفسد الحج كوطء الآدمية في القبل ويفارق الوطء دون الفرج فإنه ليس من الكبائر في الأجنبية ولا يوجب مهرا ولا عدة ولا حدا ولا غسلا إلا أن ينزل فيكون كمسألتنا في رواية
فصل : إذا تكرر الجماع فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة ثانية كالأول وإن لم يكن كفر عن الأول فكفارة واحدة وعنه أن لكل وطء كفارة لأنه سبب للكفارة فأوجبها كالأول والمذهب الأول لأنه جماع موجب للكفارة فإذا تكرر قبل التكفير عن الأول لم يوجب كفارة ثانية كما في الصيام وقال أبو حنيفة عليه للوطء الثاني شاة سواء كفر عن الأول أ لم يكفر إلا أن يتكرر الوطء في مجلس واحد على وجه الرفض للإحرام لأنه وطء صادف إحراما ناقص الحرمة فأوجب شاة كالوطء بعد التحلل الأول وقال مالك : لا يجب بالثاني شيء وروي ذلك عن عطاء لأنه لا يفسد الحج فلا يجب به شيء كما لو كان قبل التكفير وقال الشافعي كقولنا وقريبا من قول أبي حنيفة
ولنا على وجوب البدنة إذا كفر أنه وطئ في إحرام ولم يتحلل منه ولا أمكن تداخل كفارته في غيره فأشبه الوطء الأول ولأن الإحرام الفاسد كالصحيح في سائر الكفارات فكذلك في الوطء ولأنه إذا لم يكفر عن الأول فتتداخل كفاراته كما يتداخل حكم المهر والحد والتحديد بعدم التكفير أولى من التحديد بالمجلس الواحد لما ذكرنا من المهر والحد والتكفير في اليمين والظهار وغيرهما
مسألة : قال : وإن وطئ دون الفرج فلم ينزل فعليه دم وإن أنزل فعليه بدنة وقد فسد حجه
أما إذا لم ينزل فإن حجه لا يفسد بذلك لا نعلم أحدا قال بفساد حجه لأنها مباشرة دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد بها الحج كاللمس أو مباشرة لا توجب الاغتسال اشبهت اللمس وعليه شاة وقال الحسن فيمن ضرب بيده على فرج جاريته عليه بدنة وعن سعيد بن جبير إذا نال منها ما دون الجماع ذبح بقرة
ولنا أنها ملامسة من غير إنزال فأشبهت لمس غير الفرج فأما ان أنزل فعليه بدنة وبذلك قال الحسن و سعيد بن جبير و الثوري و أبو ثور وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر عليه شاة لأنها مباشرة دون الفرج فأشبه ما لو لم ينزل
ولنا أنه جماع أوجب الغسل فأوجب بدنة كالوطء في الفرج وفي فساد حجة بذلك روايتان
إحداهما : يفسد اختارها الخرقي و أبو بكر وهو قول عطاء والحسن والقاسم بن محمد ومالك وإسحاق لأنها عبادة يفسدها الوطء فأفسدها الإنزال عن مباشرة كالصيام
والثانية : لا يفسد الحج وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وهي الصحيحة إن شاء الله لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل ولأنه لا نص فيه ولا جماع ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الوطء في الفرج يجب بنوعه الحد ويتعلق به اثنا عشر حكما ولا يفترق فيه الحال بين الإنزال وعدمه والصيام يخالف الحج في المفسدات ولذلك يفسد بتكرار النظر مع الإنزال والمذي وسائر محظوراته والحج لا يفسد بشيء من محظوراته غير الجماع فافترقا والمرأة كالرجل في هذا إذا كانت ذات شهوة وإلا فلا شيء عليها كالرجل إذا لم يكن له شهوة

ما دون الوطء وإحكامه في الحج والخطأ والنسيان سواء
مسألة : قال : فإن قبل فلم ينزل فعليه دم وإن أنزل فعليه بدنة وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إن أنزل فسد حجه
وجملة ذلك أن الحكم القبلة حكم المباشرة دون الفرج سواء إلا أن الخرقي ذكر في هذه المسألة روايتين في إفساد الحج عند الإنزال ولم يذكر في إفساد الحج في الوطء دون الفرج إلا رواية واحدة وقد ذكرنا أن فيها أيضا روايتين وذكرنا الخلاف فيه لكن نشير إلى الفرق توجيها لقول الخرقي فنقول : إنزال بغير وطء فلم يفسد به الحج كالنظر ولأن اللذة بالوطء فوق اللذة بالقبلة فكانت فوقها في الواجب لأن مراتب أحكام الاستمتاع على وفق ما يحصل به من اللذة فالوطء في الفرج أبلغ الاستمتاع فأفسد الحج مع الإنزال وعدمه والوطء دون الفرج دونه فأوجب البدنة وأفسد الحج عند الإنزال والدم عند عدمه والقبلة دونهما فتكون فيما يجب بها فيجب بها بدنة عند الإنزال من غير إفساد وتكرار النظر دون الجميع فيجب به الدم عند الإنزال ولا يجب عند عدمه شيء ومن جمع بين الوطء دون الفرج والقبلة قال كلاهما مباشرة فاستوى حكمهما في الواجب بهما وقد روى عن ابن عباس أنه قال لرجل قبل زوجته : أفسدت حجتك وروي ذلك عن سعيد بن جبير وقال سعيد بن المسيب و عطاء و ابن سيرين و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي عليه دم وروي ذلك عن الشعبي و سعيد بن جبير وروى الإثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبد الله قبل عائشة بنت طلحة محرما فسأل فأجمع له على أن يهريق دما
الظاهر أنه لم يكن أنزل لأنه لم يذكر وسواء أمذى أو لم يمذ وقال سعيد بن جبير : ان قبل فمذى أو لم يمذ فعليه دم وسائر اللمس كالقبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به فهو كالقبلة قال أحمد فيمن قبض على فرج امرأته وهو محرم فإنه يهريق دم شاة وقال عطاء : إذا قبل المحرم أو لمس فليهرق دما
مسألة : قال : وإن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم وإن كرر النظر حتى أمنى فعله بدنة
وجملة ذلك أن الحج لا يفسد بتكرار النظر أنزل أو لم ينزل روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وروي عن الحسن و عطاء و مالك فيمن ردد النظر حتى أمنى عليه حج قابل لأنه أنزل بفعل محظور أشبه الإنزال بالمباشرة
ولنا أنه أنزل عن غيره مباشرة فأشبه الإنزال بالفكر والاحتلام والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع ثم إن المباشرة أبلغ في اللذة وآكد في استدعاء الشهوة فلا يصح القياس عليه فأما ان نظر ولم يكرر فأمنى فعله شاة وإن كرر فأنزل ففيه روايتان إحداهما : عليه بدنة روي ذلك عن ابن عباس والثانية : عليه شاة وهو قول سعيد بن جبير و إسحاق ورواية ثانية عن ابن عباس وقال أبو ثور : لا شيء عليه وحكي ذلك عن أبي حنيفة و الشافعي لأنه ليس بمباشرة أشبه الفكر
ولنا أنه إنزال بفعل محظور فأوج الفدية كاللمس وقد روى الأثرم عن ابن عباس أنه قال له رجل : فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت لي فكلمني وحدثني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس : أتمم حجك وأهرق دما وروى حنبل في المناسك عن مجاهد أن محرما نظر إلى امرأته حتى أمذى فجعل يشتمها فقال ابن عباس أهرق دما ولا تشتمها
فصل : فإن كرر النظر حتى أمذى فقال أبو الخطاب : عليه دم وقال القاضي ذكره الخرقي قال القاضي : لأنه جزء من المني ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس وإن لم يقترن بالنظر منى أو مذي فلا شيء عليه سواء كرر النظر أو لم يكرره وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد أن عليه شاة وهذا محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يعرى عن اللمس ظاهرا أو على أنه أمنى أو أمذى أما مجرد النظر فلا شيء فيه فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه
فصل : فإن فكر فأنزل فلا شيء عليه فإن الفكر يعرض للإنسان من غير إرادة ولا اختيار فلم يعتلق به حكم كما في الصيام وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم به ] متفق عليه
فصل : والعمد والنسيان في الوطء سواء نص عليه أحمد فقال : إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والنسيان فيها سواء ولم يذكر الخرقي النسيان ههنا لكن ذكره في الصيام
وبين أن الوطء في الفرج أو دون الفرج مع الإنزال يستوي عمده وسهوه وما عداه من القبلة واللمس والمذي بتكرار النظر يختلف حكم عمده وسهوه فههنا ينبغي أن يكون مثله لأن الوطء لا يكاد يتطرق النسيان إليه دون غيره ولأن الجماع مفسد للصوم دون غيره فاستوى مده وسهوه كالفوات بخلاف ما دونه والجاهل بالتحريم والمكره في حكم الناسي لأنه معذور وممن قال : ان عمد الوطء ونسيانه سواء أبو حنيفة ومالك والشافعي في قديم قوليه وقال في الجديد : لا يفسد الحج ولا يجب عليه شيء مع النسيان والجهل لأنها عبادة يجب بإفسادها الكفارة فافترق فيها وطء العامد والناسي كالصوم
ولنا أنه سبب يتعلق به وجوب القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات والصوم ممنوع ثم أن الصوم لا تجب الكفارة فيه بالإفساد بدليل أن إفساده بكل ما عدا الجماع لا يوجب كفارة وإنما تجب بخصوص الجماع فافترقا

إباحة التجارة والصناعة للمحرم
مسألة : قال : وللمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع ويرتجع زوجته
وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل أما التجارة والصناعة فلا نعلم في إباحتهما اختلافا وقد روى ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم
كرهوا ذلك حتى نزلت { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } في مواسم الحج فأما الرجعة فالمشهور إباحتها وهو قول أكثر أهل العلم وفيه رواية ثانية أنها لا تباح لأنها استباحة فرج مقصود بعقد فلا تباح للمحرم كالنكاح وجه الرواية الصحيحة أن الرجعية زوجة والرجعية إمساك بدليل قوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق ولا نسلم أن الرجعية استباحة فإن الرجعية مباحة وإن سلمنا أنها استباحة فتبطل بشرى الأمة للشراء ولأن ما يتعلق به إباحة الزوجة مباح في النكاح كالتكفير في الظهار وأما شراء الاماء فمباح سواء قصد به الشراء أو لم يقصد لا نعلم فيه خلافا فإنه ليس بموضوع الاستباحة في البضع فأشبه شراء العبيد والبهائم ولذلك أبيح شراء من لا يحل وطؤها فلذلك لم يحرم في حالة يحرم فيها الوطء

قتل المحرم للحيوان المؤذي والأهلي
مسألة : قال : وله أن يقتل الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور وكل ما عدا عليه أو آذاه ولا فداء عليه
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وحكي عن النخعي أنه منع قتل الفأرة والحديث صريح في حل قتلها فلا يعول على ما خالفه والمراد بالغراب الأبقع وغراب البين وقال قوم لا يباح من الغربال إلا الأبقع خاصة لأنه قد روي : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب والعقور والحدأة ] رواه مسلم وهذا يقيد المطلق في الحديث الآخر ولا يمكن حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربال لا يحل قتله
ولنا ما روت عائشة قالت : [ أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل خمس فواسق في الحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور ] وعن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن ] وذكر مثل حديث عائشة متفق عليهما وفي لفظ لمسلم في حديث ابن عمر : [ خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام ] وهذا عام في الغراب وهو أصح من الحديث الآخر ولأن غراب البين محرم الأكل بعدو على أموال الناس فلا وجه لإخراجه من العموم وفارق ما أبيح أكله فإنه مباح ليس هو في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه وقول الخرقي وكل ما عدا عليه وآذاه يحتمل أنه أراد ما يبدأ المحرم فيعدوا عليه في نفسه أو ماله فهذا لا جناح على قاتله سواء كان من جنس طبعه الأذى أو لم يكن قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السبع إذا بدأ المحرم فقتله لا شيء عليه ويحتمل أنه أراد ما كان طبعة الأذى والعدوان وإن لم يوجد منه أذى في الحال قال مالك : الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب فعلى هذا يباح لك ما فيه أذى للناس في أنفسهم أو في أموالهم مثل سباع البهائم كلها المحرم أكلها وجوارح الطير كالبازي والعقاب والصقر والشاهين ونحوها والحشرات المؤذية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث والذباب وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : يقتل ما جاء في الخبر والذئب قياسا عليه
ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما هو أعلى منها ودلالة على ما كان في معناها فنصه على الحدأة والغراب تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات وعلى العقرب تنبيه على الحياة وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلى منه ولأن ما لا يضمن بمثله ولا بقيمته لا يضمن كالحشرات
فصل : وما لا يؤذي بطبعه ولا يؤكل كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإحرام فيه ولا جزاء فيه أن قتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك : يحرم قتلها وإن قتلها فداها وكذلك لك سبع لا يعدو على الناس وإذا وطئ الذباب والنمل أو الذر أو قتل الزنبور تصدق بشيء من الطعام
ولنا أن الله تعالى إنما أوجب الجزاء في الصيد وليس هذا بصيد قال بعض أهل اللغة : الصيد ما جميع ثلاثة أشياء فيكون مباحا وحشيا ممتنعا ولأنه لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكو بأحد هذين الشيئين وروى عن عمر أنه قرد بعيره بالسقيا وهو محرم ومعناه أنه نزل القراد عنه ورماه وهذا قول جابر بن زيد عطاء وروي أن ابن عباس قال لعكرمة وهو محرم : قرد البعير فكره ذلك فقال : قم فانحره فنحره فقال له ابن عباس لا أم لك كم قتلت فيها من قراد وحملة وحمنانة ؟ يعني كبار القراد رواه كله سعيد
فصل : ولا تأثير للإحرام لا للحرم في تحريم شيء من الحيوان الأهلي كبهيمة الأنعام ونحوها لأنه ليس بصيد وإنما حرم الله تعالى الصيد وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب إلى الله سبحانه بذلك وقال : أفضل الحج العج والثج يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وليس في هذا اختلاف

ويحل للمحرم صيد البحر
فصل : ويحل للمحرم صيد البحر لقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم و للسيارة } قال ابن عباس وابن عمر : طعامه ما ألقاه وعن ابن عباس طعامه ملحه وعن سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير طعامه الملح وصيده ما اصطدناه وأجمع أهل العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطاده وأكله وبيعه وشراؤه البحر الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض فيه ويفرخ فيه كالسمك والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك وحكي عن عطاء فيما يعيش في البر السلحفاة والسرطان فأشبه طير الماء
ولنا أنه يبيض في الماء ويفرخ فيه فأشبه السمك فأما طير الماء كالبط ونحوه فهو من صيد البر قول عامة أهل العلم وفيه الجزاء وحكي عن عطاء أنه قال : حيث يكون اكثر فهو صيده وقول عامة أهل العلم : أولى لأنه يبيض في البر ويفرخ فيه فكان من صيد البر كسائر طيره وإنما إقامته في البحر لطلب الرزق والمعيشة منه كالصياد فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البحر ونوع في البر كالسلحفاة نوع حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح

صيد الحرم ووجوب الجزاء فيه
مسألة : قال : وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم
الأصل في تحريم صيد الحرم النص والإجماع أما النص فما روى ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها فقال العباس : يا رسول الله إلا الاذخر فإن لقينهم وبيوتهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إلا الاذخر ] متفق عليه وأجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم
فصل : وفيه الجزاء على من يقتله ويجزى بمثل ما يجزى به الصيد في الإحرام وحكي عن داود أنه لا جزاء فيه لأن الأصل براءة الذمة ولم يرد فيه نص فيبقى بحاله
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في حمام الحرم بشاة شاة روي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم فيكون إجماعا ولأنه صيد ممنوع منه لحق الله تعالى أشبه الصيد في حق المحرم

ما يحرم ويضمن في الحرم كالإحرام وما يستثنى
فصل : وما يحرم ويضمن في الإحرام ويحرم ويضمن في الحرم وما لا فلا إلا شيئين
أحدهما : القمل مختلف في قتله في الإحرام وهو مباح في الحرم بلا اختلاف لأنه حرم في الإحرام للترفه بقتله وإزالته لا لحرمته ولا يحرم الترفه في الحل فأشبه ذلك قص الشعر وتقليم الظفر
الثاني : صيد البحر مباح في الإحرام بغير خلاف ولا يحل صيده من آبار الحرم وعيونه وكرهه جابر بن عبد الله لعموم قوله عليه والسلام : [ لا ينفر صيدها ] ولأن الحرمة تثبت للصيد كحرمة المكان وهو شامل لكل صيد ولأنه صيد غير مؤذ فأشبه الظباء وعن أحمد رواية أخرى أنه مباح لأن الإحرام لا يحرمه فأشبه السباع والحيوان الأهلي
فصل : ويضمن صيد الحرم في حق المسلم والكافر والكبير والصغير والحر والعبد لأن الحرمة تعلقت بمحله بالنسبة إلى الجميع فوجب ضمانه كالآدمي
فصل : ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم وقال عطاء : إن ذبحه فعليه الجزاء وروي ذلك عن ابن عمر وممن كره إدخال الصيد الحرم ابن عمر وابن عباس وعائشة و عطاء و طاوس و إسحاق وأصحاب الرأي ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت عنه الكراهة له أخرجه سعيد وقال هشام بن عروة : كان ابن الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص وأصحاب النبي صلى الله عليه و سلم لا يرون به بأسا ورخص فيه سعيد بن جبير و مجاهد و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر لأنه ملكه خارجا وحله له التصرف فيه فجاز له ذلك في الحرم كصيد المدينة إذا أدخله حرمها
ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد ويوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ولأنه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه وصيد المدينة لا جزاء بخلاف صيد الحرم
فصل : ويضمن صيد الحرم بالدلالة والإشارة كصيد الإحرام والواجب عليهما جزاء واحد نص عليه أحمد وظاهر كلامه أنه لا فرق بين كون الدال في الحل أو الحرم وقال القاضي : لا جزاء على الدال إذا كان في الحل والجزاء على المدلول وحده كالحلال إذا دل محرما على صيده
ولنا أن قتل الصيد الحرمي حرم على الدال فيضمنه بالدلالة كما لو كان في الحرم يحققه أن صيد الحرم محرم على كل واحد لقوله عليه السلام : [ لا ينفر صيدها ] وفي لفظ [ لا يصاد صيدها ] وهذا عام في حق كل واحد ولأن صيد الحرم معصوم بمحله فحرم قتله عليهما كالملتجئ إلى الحرم وإذا تثبت تحريمه عليهما فيضمن بالدلالة ممن يحرم عليه قتله كما يضمن بدلالة المحرم عليه
فصل : وإذا رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم فقتله أو أرسل كلبه عليه فقتله أو قتل صيدا على فرع في الحرم أصله في الحل ضمنه وبهذا قال الثوري و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وحكي أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى لا جزاء عليه في جميع ذلك لأن القاتل حلال في الحل وهذا لا يصح فـ [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا ينفر صيدها ] ولم يفرق بين من هو في الحل والحرم وقد أجمع المسلمين على تحريم صيد الحرم وهذا من صيده ولأن صيد الحرم معصوم بمحله بحرمة الحرم فلا يختص تحريمه بمن في الحرم وكذلك الحكم أن أمسك طائرا في الحل فهلك فراخه في الحرم ضمن الفراخ لما ذكرنا ولا يضمن الأم لأنها من صيد الحل وهو حلال وإن انعكست الحال فرمي من الحرم صيدا في الحل أو أرسل كلبه عليه أو قتل صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل فلا ضمان عليه كما في الحل قال أحمد فيمن أرسل كلبه في الحرم فصاد في الحل فلا شيء عليه وحكي عنه رواية أخرى في جميع الصور يضمن وعن الشافعي ما يدل عليه وذهب الثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر فيمن قتل طائرا على غصن في الحل أصله في الحرم لا جزاء عليه وهو ظاهر قول أصحاب الرأي وقال ابن المادشون وإسحاق عليه الجزاء لأن الغصن تابع للأصل وهو في الحرم
ولنا أن الأصل حل الصيد فحرم صيد الحرم بقوله عليه السلام : [ لا ينفر صيدها ] وبالإجماع فبقي ما عداه على الأصل ولأنه صيد حل صاده حلال فلم يحرم كما لو كانا في الحل ولان الجزاء إنما يجب في صيد الحرم أو صيد المحرم وليس هذا بواحد منهما
فصل : فإن كان الصيد والصائد في الحل فرمى الصيد بسهمه أو أرسل عليه كلبه فدخل الحرم ثم خرج فقتل الصيد في الحل فلا جزاء فيه وبهذا قال أصحاب الرأي و أبو ثور و ابن المنذر وحكي أبو ثور عن الشافعي أن عليه الجزاء
ولنا ما ذكرناه قال القاضي : لا يزيد سهمه على نفسه ولو عدا بنفسه فسلك الحرم في طريقه ثم قتل صيدا في الحل لم يكن عليه شيء فسهمه أولى
فصل : وإن رمى من الحل صيدا في الحل فقتل صيدا في الحرم فعليه جزاؤه وبهذا قال الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : لا جزاء عليه وليس بصحيح لأنه قتل صيدا حرميا فلزمه جزاؤه كما لو رمى حجرا في الحرم فقتل صيدا يحققه أن الخطأ كالعمد في وجوب الجزاء وهذا لا يخرج عن كونه واحدا منهما فأما أن أرسل كلبه على صيد في الحل فدخل الكلب الحرم فقتل صيدا آخر لم يضمنه وهذا قول الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي و أبي ثور و ابن المنذر لأنه لم يرسل الكلب على ذلك الصيد وإنما دخل باختيار نفسه فهو كما لو استرسل بنفسه من غير إرسال وإن أرسله على صيد فدخل الصيد الحرم ودخل الكلب خلفه فقتله في الحرم فكذلك نص عليه أحمد وهو قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال عطاء و أبو حنيفة وصاحباه عليه الجزاء لأنه قتل صيدا حرميا بإرسال كلبه عليه فضمنه كما لو قتله بسهمه واختاره أبو بكر عبد العزيز وحكى صالح عن أحمد أنه قال : إن كان الصيد قريبا من الحرم ضمنه لأنه فرط بإرساله في موضع يظهر أنه يدخل الحرم وإن كان بعيدا لم يضمن لعدم التفريط وهذا قول مالك
ولنا أنه أرسل الكلب على صيد مباح فلم يضمن كما لو قتل صيدا سواه وفارق السهم لأن الكلب له قصد واختيار ولهذا يسترسل بنفسه ويرسله إلى جهة فيمضي إلى غيرها والسهم بخلافه إذا ثبت هذا فإنه لا يأكل الصيد في هذه المواضع كلها ضمنه أو لم يضمنه لأنه صيد حرمي قتل في الحرم فحرم كما لو ضمنه ولأننا إذا قطعنا فعل الآدمي صار كأن الكلب استرسل بنفسه فقتله ولكن لو رمى الحلال من الحل صيدا في الحل فجرحه وتحامل الصيد فدخل فمات فيه حل أكله ولا جزاء فيه لأن الزكاة حصلت في الحل فأشبه ما لو جرح صيدا ثم أحرمت فمات الصيد بعد إحرامه ويكره أكله لموته في الحرم
فصل : وإن وقف صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فقتله قاتل ضمنه تغليبا للحرم وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن نفر صيدا من الحرم فأصابه شيء في حال نفوره ضمنه لأنه تسبب إلى اتلافه فأشبه ما لو تلف بشركة أو شبكته وإن سكن من نفوره ثم أصابه شيء فلا شيء على نم نفره نص عليه أحمد وهو قول الثوري : لأنه لم يكن سببا لاتلافه وقد روي عن عمر أنه وقعت على ردائه حمامة فأطارها فوقعت على واقف فانتهزتها حية فاستشار في ذلك عثمان ونافع بن عبد الحارث فحكما عليه بشاة وهذا يدل على أنهم رأوا عليه الضمان بعد سكوته لكن لو انتقل عن المكان الثاني فأصابه شيء فلا ضمان عليه لأنه خرج عن المكان الذي طرد إليه وقول الثوري و أحمد : إنما يدل على هذا لأن سفيان قال : إذا طردت في الحرم شيئا فأصاب شيئا قبل أن يقع أو حين وقع ضمنت وإن وقع من ذلك المكان إلى مكان آخر فليس عليك شيء فقال أحمد : جيد

قطع نبات الحرم وجزاؤه
مسألة : قال : وكذلك شجره ونباته إلا الاذخر وما زرعه الإنسان
أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم وإباحة أخذ الاذخر وما أنبته الآدمي من القبول والزروع الرياحين حكى ذلك ابن المنذر والأصل فيه ما روينا من حديث ابن عباس وروى أبو شريح وأبو هريرة نحوا من حديث ابن عباس وكلها متفق عليها وفي حديث أبي هريرة [ الا وإنها ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها ] وفي حديث أبي شريح أنه [ سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر إن يسفك بها دما ولا يعضد شجرة ] روي الأثرم حديث أبي هريرة في سننه وفيه : لا يعضد شجرها ولا يحتش حشيشها ولا يصاد صيدها فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب وابن عقيل : له قلعة من غير ضمان كالزرع وقال القاضي : ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم فلا جزاء فيه وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال وقال الشافعي في شجر الحرم الجزاء بكل حال أنبته الآدميون أو نبت بنفسه لعموم قوله عليه السلام : [ لا يعضد شجرها ] ولأنها شجرة نابتة في الحرم أشبه ما لم ينبته الآدميون وقال أبو حنيفة : لا جزاء فيما ينبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه ولا يجب فيما ينبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم والعضاه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشيا من الصيد كذلك الشجر وقول الخرقي وما زرعه الإنسان يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر فيكون كقول الشافعي ويحتمل أن يعمم جميع ما يزرع فيدخل فيه الشجر ويحتمل أن لا يريد ما ينبت الآدميون جنسه والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله بقوله عليه السلام : [ لا يعضد شجرها ] إلا ما أنبته الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله انسيا دون ما تأنس من الوحشي كذا ههنا
فصل : ويحرم قطع الشوك والعوسج وقال القاضي وأبو الخطاب : لا يحرم وروي ذلك عن عطاء و مجاهد و عمرو بن دينار و الشافعي لأنه يؤذي بطبعه فأشبه السباع من الحيوان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يعضد شجرها ] وفي حديث أبي هريرة : لا يختلى شوكها وهذا صريح ولأن الغالب في شجر الحرم الشوك فلما حرم النبي صلى الله عليه و سلم قطع شجرها والشوك غالبه كان ظاهرا في تحريمه
فصل : ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت ولا يقطع ما انكسر ولم يبن لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل الآدمي ولا ما سقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن الخبر إنما ورد في القطع وهذا لم يقطع فأما إن قطعه آدمي فقال أحمد : لم أسمع إذا قطع ينتفع به وقال في الدوحة تقلع من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها وذلك لأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به كالصيد يذبحه المحرم ويحتمل أن يباح لغير القاطع الانتفاع به لأنه انقطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو قطعه حيوان بهيمي ويفارق الصيد الذي ذبحه لأن الذكاء تعتبر لها الأهلية ولهذا لا يحصل بفعل بهيمة بخلاف هذا
فصل : وليس له أخذ ورق الشجر وقال الشافعي : له أخذه لأنه لا يضربه وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله ورخص فيه معمرو بن دينار
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها ] رواه مسلم ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطائر وقولهم : لا يضر به لا يصح فإنه يضعفها وربما آل إلى تلفها
فصل : ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الاذخر وما أنبته الآدميون واليابس لقوله عليه السلام : [ لا يختلى خلاها ] وفي لفظ [ لا يحتش حشيشها ] وفي استثناء النبي صلى الله عليه و سلم الاذخر دليل على تحريم ما عداه وفي جواز رعية وجهان
أحدهما : لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد
والثاني : يجوز وهو مذهب عطاء و الشافعي لأن الهدايا كانت تدخل الحرم فتكثر فيه فلم ينقل أنه كانت تسد أفواهها ولأن بهم حاجة إلى ذلك أشبه قطع الأذخر
فصل : ويباح أخذا الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لأنه لا أصل له فأشبه الثمرة وروى حنبل قال : يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس
فصل : ويجب في إتلاف الشجر والحشيش الضمان وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أبن عباس وعطاء وقال مالك و أبو ثور و داود و ابن المنذر : لا يضمن لأن المحرم لا يضمنه في الحل فلا يضمن في الحرم كالزرع وقال ابن المنذر : لا أجد دليلا أوجب به في شجر الحرم فرضا من كتاب ولا سنة ولا إجماع وأقول كما قال مالك : نستغفر الله تعالى
ولنا ما روى أبو هشيمة قال : رأيت عمر بن الخطاب بشجر كان في المسجد يضر بأهل الطواف فقطع وفدا قال : وذكر البقرة رواه حنبل في المناسك وعن ابن عباس أنه قال في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة وعن عطاء نحوه ولأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فكان مضمونا كالصيد ويخالف المحرم فإنه لا يمنع من قطع شجر الحل ولا زرع الحرم إذا ثبت هذا فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما نقص وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : يضمن الكل بقيمته لأنه لا مقدر فيه فأشبه الحشيش
ولنا قول ابن عباس و عطاء ولأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد فإن قطع غصنا أو حشيشا فاستخلف احتمل سقوط ضمانه كما إذا جرح صيدا فاندمل شعر آدمي فنبت واحتمل أن يضمنه لأن الثاني غير الأول
فصل : ومن قلع شجرة من الحرم فغرسها في مكان آخر فيبست ضمنها لأنه أتلفها وإن غرسها في مكان من الحرم فنبتت لم يضنها لأنه لم يتلفها ولم يزل حرمتها وإن غرسها في الحل فنبتت فعليه ردها إليه لأنه زال حرمتها فإن تعذر ردها أو ردها فيبست ضمنها وإن قلعها غيره من الحل فقال القاضي : الضمان على الثاني لأنه المتلف لها فإن قيل : فلم لا يجب على المخرج كالصيد إذا نفره من الحرم فقتله إنسان في الحل فإن الضمان على المنفر
قلنا الشجر لا ينتقل بنفسه ولا تزول حرمته بإخراجه ولهذا وجب على قالعه رده والصيد يكون في الحرم تارة وفي الحل أخرى فمن نفره فقد فوت حرمته فلزمه جزاؤه وهذا لم يفوت حرمته بالإخراج فكان الجزاء على متلفه لأنه أتلف شجرا حرميا محرما إتلافه
فصل : وإذا كانت شجرة في الحرم وغصنها في الحل فعلى قاطعه الضمان لأنه تابع لأصله وإن كانت في الحل وغصنها في الحرم فقطعه ففيه وجهان

صيد حرم المدينة وبناتها صيد وج
أحدهما : لا ضمان فيه وهو قول القاضي أبي يعلى لأنه تابع لأصله كالتي قبلها
والثاني : يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم فإن كن بعض الأصل في الحل وبعضه في الحرم ضمن الغصن بكل حال سواء كان في الحل أو في الحرم تغليبا لحرمة الحرم كما لو وقف صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم
فصل : ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها وبهذا قال مالك والشافعين وقال أبو حنيفة : لا يحرم لأنه لو كان محرما لبينه النبي صلى الله عليه و سلم بيانا عاما ولوجب فيه الجزاء كصيد الحرم
ولنا ما روى علي رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال المدينة حرم ما بين ثور إلى عير ] متفق عليه وروى تحريم المدينة أبو هريرة ورافع وعبد الله بن زيد متفق عليه على أحاديثهم رواه مسلم عن سعد وجابر وأنس وهذا يدل على تعميم البيان وليس هو في الدرجة دون اخبار تحريم الحرم وقد قلبوه وأثبتوا أحكامه على أنه ليس بمتنع أن يبينه بيانا خاصا أو يبينه بيانا عاما نقلا خاصا كصفة الأذان والوتر والإقامة
فصل : وحرم المدينة ما بين لابتيها لما روى أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بين لابتيها حرام ] وكان أبو هريرة يقول : لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها متفق عليه واللابة الحرة وهي أرض فيها حجارة سود قال أحمد : ما بين لابتيها حرام في بريد كذا فسره مالك بن أنس وروى أبو هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعل حول المدينة اثني عشر ميلا حمى ] رواه مسلم فأما قوله ما بين ثور إلى عير فقال أهل العلم بالمدينة لا نعرف ولا عيرا وإنما هما جبلان بمكة فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم أراد قدر ما بين ثور وعير ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة وسماهما ثورا وعيرا تجوزا
فصل : فمن فعل مما حرم عليه شيئا ففيه روايتان
إحداهما : لا جزاء فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وهو قول مالك و الشافعي في الجديد لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فلم يجب فيه جزاء كصيد وج
الثانية ك يجب فيه الجزاء روي ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي في القديم و ابن المنذر ل [ ن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني أحرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة ] ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ طيرها فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذ لم يظهر بنيهما فرق وجزاؤه اباحة سلب القاتل لمن أخذه لما روى مسلم بإسناده عن عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاء أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو لعيهم فقال : معاذ الله أن أراد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبى أن يرد عليهم وعن سعد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أخذ بصيد فيه فليسلبه ] رواه أبو داود فعلى هذا يباح لمن وجد آخذ الصيد أو قاتله أو قاطع الشجر سلبه وهو أخذ ثيابه حتى سراويله فإن كان على دابة لم يملك أخذها لأن الدابة ليست من السلب وإنما أخذها قاتل الكافر في الجهاد لأنه يستعان بها على الحرب بخلاف مسألتنا وإن لم يسلبه أحد فلا شيء لعيه سوى الاستغفار والتوبة
فصل : ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين
أحدهما : أنه لا يجوز أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف لما روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حرم المدينة قالوا : يا رسول الله : إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضا فرخص لنا فقال : القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء ] قال إسماعيل ابن ابي أويس قال خارجة : المسند مرود البكرة فاستنثى ذلك وجعله مباحا كاستثناء الاذخر بمكة وعن علي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن يقطع منه شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره ] وعن جابر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن يهش هشا رفيقا ] رواهما أبو داود ولأن المدنية يقرب منها شجر وزرع فلو منعنا من احتشاشها مع الحاجة أفضى إلى الضرر بخلاف مكة
الثاني : أن من صاد صيدا خارج المدينة ثم أدخله إليها لم يلزمه إرساله نص عليه أحمد ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : يا أبا عمير ما فعل النغير ] وهو طائر صغير فظاهر هذا أنه أباح امساكه بالمدنية إذ لم ينكر ذلك وحرمة مكة أعظم من حرمة المدينة بدليل أنه لا يدخلها إلا محرم
فصل : صيد وج شجرة مباح وهو واد بالطائف وقال أصحاب الشافعي هو محرم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صيد وج وعضاهها محرم ] رواه أحمد في المسند
ولنا أن الأصل الإباحة والحديث ضعيف أحمد ذكره أبو بكر الخلال في كتاب العلل

التحلل من الإحرام وزوال الاحصار من المحرم
مسألة : قال : وإن حصر بعدو نحر ما معه من الهدي وحل
أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدو من المشركين أو غيرهم فمنعوه الوصول إلى البيت ولم يجد طريقا آمنا فله التحلل وقد نص الله تعالى عليه بقوله : ( فإن احصرتم فما استيسر من الهدي ) وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه يوم حصورا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما في قول إمامنا و أبي حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوات وليس بصحيح لأن الآية إنما أنزلت في حصر الحديبية وكان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه محرمين بعمرة فحلوا جميعا وعلى من تحلل بالإحصاء الهدي في قول أكثر أهل العلم وحكي عن مالك : ليس عليه هدي لأنه تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه وليس بصحيح لأن الله تعالى قال : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } قبل إتمام نسكه فان عليه الهدي كالذي فاته الحج وبهذا فارق من أتم حجه
فصل : ولا فرق بين الحصر العام في حق الحاج كله وبين الخاص في حق شخص واحد مثل أن يحبس بغير حق أو أخذته اللصوص وحده لعموم النص ووجود المعنى في الكل فأما من حبس بحق عليه يمكنه الخروج منه لم يكن له التحلل لأنه لا عذر له في المجلس وإن كان معسرا به عاجز عن أدائه فحسبه بغير حق فله التحلل كمن ذكرنا وإن كان عليه دين مؤجل يحل قبل قدوم الحاج فمنعه صاحبه من الحج فله التحلل الحج فله التحلل أيضا لأنه معذور ولو أحرم العبد بغير إذن سيده أو المرأة للتطوع بغير إذن زوجها فلهما منعهما وحكمهما حكم المحصر
فصل : فإن أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل ولزمه سلوكها بعدت أو قربت خشي الفوات أو لم يخشه فإن كان محرما بعمرة لم يفت وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى خلي عنه لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج لتحلل بعمرة ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج ؟ فيه روايتان
إحداهما : يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق
والثانية : لا تجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقا أخرى بخلاف المخطئ
فصل : فأما من لم يجد طريقا أخرى فتحلل فلا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا فعله بالوجوب السابق في الصحيح من المذهب وبه قال الشافعي وعن أحمد أن عليه القضاء روى ذلك عن مجاهد و عكرمة و الشعبي وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته الحج
ووجه الأولى أنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الوقت له فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب فلم يكن فما الخبر فأن الذي صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا مع النبي صلى الله عليه و سلم كانوا نفرا يسيرا ولم ينقل إلينا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أحدا بالقضاء وأما تسميتها عمرو القضية فإنما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها واتفقوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا عمرة القضاء ويفارق الفوات فإنه مفرط بخلاف مسألتنا
فصل : وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى : فما استيسر من الهدي وله نحره في موضع حصره من حل أو حرم نص عليه أحمد وهو قول مالك و الشافعي إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم ففيه وجهان
أحدهما : يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه
والثاني : ينحره في موضعه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه في موضعه وعن أحمد ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه ويواطئ رجلا على نحره في وقت بتحلل فيه وهذا يروى عن ابن مسعود فين لدغ في الطريق وروي نحو ذلك عن الحسن و الشعبي و النخعي و عطاء وهذا والله أعلم فيمن كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله ولأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية هي من الحل قال البخاري : قال مالك وغيره إن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف ويقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أحدا أن يقضي شيئا ولا أن يعدوا له وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان ] وهي من الحل باتفاق أهل السيرة والنقل قال الله تعالى : { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } ولأنه موضع حله فكان موضع نحره كالحرم وسائر الهدي يجوز للمحصر نحرها في موضع تحلله فإن قيل فقد قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقال : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ولأنه ذبح يتعلق بالإحرام فلم يجز في غير الحرم كدم الطيب واللباس قلنا : الآية فيحق غير المحصر ولا يمكن قياس المحصر عليه لأنه تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم فكل منهما ينحر في موضع تحلله وقيل في قوله : { حتى يبلغ الهدي محله } أي حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم
فصل : ومتى كان المحصر محرما بعمرة فله التحلل ونحر هديه وقت حصره لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم بها قبل يوم النحر وإن كان مفردا أو قارنا فكذلك في إحدى الروايتين لأن الحج أحد النسكين فجاز الحل منه ونحر هديه وقت حصره كالعمرة ولأن العمرة لا تفوت وجميع الزمان وقت لها فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى
والرواية الثانية : لا يحل ولا ينحر هديه إلى يوم النحر نص عليه في رواية الأثرم و حنبل لأن للهدي محل زمان ومحل مكان فإذا عجز عن محل المكان فسقط بقي محل الزمان واجبا لإمكانه وإذا لم يجز له نحر الهدي قبل يوم النحر لم يجز له التحلل لقوله سبحانه : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وإذا قلنا بجواز التحلل قبل يوم النحر لم يجز فالمستحب له مع ذلك الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر فمتى زال قبل تحلله فعليه المضي لإتمام نسكه بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر : قال كل من أحفظ عنه من أهل العلم إن من يئس أن يصل إلى البيت فجاز له أن يحل فلم يفعل حتى خلي سبيله أن عليه أن يقضي مناسكه وإن زال الحصر بعد فوات الحج تحلل بعمل عمرة فإن فات الحج قبل زوال الحصر تحلل بهدي وقيل عليه ههنا هديا : هدي لفوات وهدي للاحصار ولم يذكر أحمد في رواية الأثرم هديا ثانيا في حق من لا يتحلل إلا يوم النحر
فصل : فإن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التحلل لأن الحصر يفيده التحلل من جميعه فأفاد التحلل من بعضه وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحج كالرمي وطواف الوداع والمبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لأن صحة الحج لا تقف على ذلك ويكون عليه دم لتركه ذلك وحجه صحيح كما لو تركه من غير حصر وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلل أيضا لأن إحرامه إنما هو عن النساء والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام الذي يحرم جميع محظوراته فلا يثبت بما ليس مثله ومتى زال الحصر أتى بالطواف وقد تم حجه
فصل : فأما من يتمكن من البيت ويصد عن عرفة فله أن يفسخ نية الحج ويجعله عمرة ولا هدي عليه لأننا أبحنا له ذلك من غير حصر فمع الحصر أولى فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم أحصر أو مرض حتى فاته الحج تحل بطواف وسعي آخر لأن الأول لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها وليس عليه أن يجدد إحراما وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال الزهري : لا يد أن يقف بعرفة وقال محمد بن الحسن لا يكون محصورا بمكة وروي ذلك عن أحمد فإن فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حجر وقال مالك : يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحد جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه ولا يجوز في حج الفرض إلا إن يئس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله
فصل : وإذا تحلل المحصر من الحج فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة الإسلام أو قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجة واجبة في الجملة لأن الحج يجب على الفور وإن لم تكن الحجة واجبة ولا قلنا بوجوب القضاء فلا شيء عليه كمن لم يحرم
فصل : وإن أحصر في حج فاسد فله التحلل لأنه إذا أبيح له التحلل في الحج الصحيح فالفاسد أولى فإن حل ثم زال الحصر وفي الوقت سعة فله أن يقضي في ذلك العام وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد الحد فيه في غير هذه المسألة

تحلل من الإحرام
مسألة : قال : فإن لم يمكن معه هدي ولا يقدر عليه صام عشرة أيام ثم حل
وجملة ذلك أن المحصر إذا عجز عن الهدي انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حل وبهذا قال الشافعي في أحد قوليه وقال مالك و أبو حنيفة : ليس له بدل لأنه لم يذكر في القرآن
ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل كدم التمتع والطيب واللباس وترك النص عليه لا يمنع قياسه على غيره في ذلك ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام كبدل هدي التمتع وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام كما لا يتحلل واجد الهدي وإلا بنحره وهو يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي أو الصيام ؟ ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه لأنه لم ذكره وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى ذكر الهدي وهده ولم يشترط سواه
والثانية : عليه الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه و سلم حلق يوم الحديبية وفعل ه في النسك دال على الوجوب ولعل هذا ينبني على أن الحلاق نسك أو إطلاق من محظور على ما ذكر في موضعه إن شاء الله
فصل : لا يتحلل إلا بالنية مع ما ذكرنا فيحصل الحل بشيئين : النحر أو الصوم والنية إن قلنا الحلاق ليس بنسك وإن قلنا : هو نسك حصل بثلاثة أشياء الحلاق مع ما ذكرنا فإن قيل فلم اعتبرتم النية ههنا وهي في غير المحصر غير معتبرة ؟ قلنا لأن من أتى بأفعال النسك فقد أتى بما عليه فيحل منها بإكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصورة فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقر إلى قصده ولأن الذبح قد يكون لغير الحل فلم يتخصص فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها فافتقر إلى قصده ولأن الذبح قد يكون لغير الحل فلم يتخصص إلا قصده بخلاف الرمي فإنه لا يكون إلا للنسك فلم يحتج إلى قصده
فصل : فإن نوى التحلل قبل الهدي أو الصيام لم يتحلل وكان على إحرامه حتى ينحر الهدي أو صوم لأنهما أقيما مقام أفعال الحج فلم يحل فلم يحل قبلهما كما لا يتحلل القادر على أفعال الحج قبلها وليس عليه في نية الحل فدية لأنها لم تؤثر في العبادة فإن فعل شيئا من محظورات الإحرام قبل ذلك فعليه فديته كما لو فعل القادر ذلك قبل أفعال الحج

الحجاج من قبل العدو
فصل : وإذا كان العدو الذي حصر الحاج مسلمين فأمكن الانصراف كان أولى من قتالهم لأن في قتالهم مخاطرة بالنفس والمال وقتل مسلم فكان تركه أولى ويجوز قتالهم لأنهم تعدوا على المسلمين بمنعهم طريقهم فأشبهوا سائر قطاع الطريق وإن كانوا مشركين لم يجب قتالهم لأن إنما يجب بأحد أمرين إذا بدأوا بالقتال أو وقع النفير فاحتيج إلى مدد وليس ههنا واحد منهما لكن إن غلب على ظنه المسلمين الظفر بهم استحب قتالهم لما فيه من الجهاد وحصول النصر وإتمام النسك وإن غلب على ظنهم ظفر الكفار فالأولى الانصراف لئلا يغروا بالمسلمين ومتى احتاجوا في القتال إلى لبس ما تجب فيه الفدية كالدرع والمغفر فعلوا وعليهم الفدية لأن لبسهم لأجل أنفسهم فأشبه ما لو لبسوا للاستدفاء من دفع برد
فصل : فإن أذن لهم العدو في العبور فلم يثقوا بهم فلهم الانصراف لأنهم خائفون على أنفسهم فكأنهم لم يأمنوهم وإن وثقوا بأمانهم وكانوا معور فيه بالوفاء لزمهم المضي على إحرامهم لأنه قد زال حصرهم وإن طلب العدو خفارة على تخلية الطريق وكان ممن لا يوثق بأمانه لم يلزمهم بذله لأن الخوف باق مع البذل وإن كان موثوقا بأمانه والخفارة كثيرة لم يجب بذله بل يكره أن كان العدو كافرا لأن فيه صغرا وتقوية للكفار وإن كانت يسيره فقياس المذهب وجوب بذله كالزيادة في ثمن الماء للوضوء وقال بعض أصحابنا : لا يجب بذل خفارة بحال وله التحلل كما أنه في ابتداء الحج لا يلزمه إذا لم يجد طريقا آمنا من غير خفارة

الإحصار بغير العدو
مسألة : قال : وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة بعث بهدي إن كان معه ليذبحه بمكة وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت
المشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت بغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة ونحوه أنه لا يجوز له التحلل بذلك روي ذلك عن ابن عمر و ابن عباس ومروان وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق وعن أحمد رواية أخرى له التحلل بذلك روي نحوه عن ابن مسعود وهو قول عطاء و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي و أبي ثور ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى ] رواه النسائي ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } يحققه أن لفظ الاحصار إنما هو للمرض ونحوه يقال : أحصره المرض احصارا فهو محصر وحصره العدو حصرا فهو محصور فيكون اللفظ صريحا في محل النزاع وحصر العدو مقيس عليه ولأنه مصدود عن البيت أشبه من صده عدو ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت : إني أريد الحج وأنا شاكية فقال : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ] فلو كان المرض يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا فإن حملوه على أنه يبيح التحلل حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك على أن في حديثهم كلاما فإنه يرويه ابن عباس ومذهبه خلافه فإن قلنا : يتحلل فحكمه حكم من أحصر بعدو على ما مضى وإن قلنا لا يتحلل فإنه يقيم على إحرامه ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل فإن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض

وإن شرط عند إحرامة أن يحل متى مرض
فصل : وإن شرط في ابتداء إحرامه أن يحل متى مرض أو أضاعت نفقته أو نفذت أو نحوه أو قال : إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني فله الحل متى وجد ذلك ولا شيء عليه لا هدي ولا قضاء ولا غيره فإن للشرط تأثيرا في العبادات بدليل أنه لو قال إن شفى الله مريضي صمت شهرا متتابعا أو متفرقا كان على ما شرطه وإنما لم يلزمه الهدي والقضاء لأنه إذا شرط شرطا كان إحرامه الذي فعله إلى حين وجود الشطر فصار بمنزلة من أكمل أفعال الهج ثم ينظر في صيغة الشرط فإن قال : إن مرضت فلي أن أحل وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني فإذا حبس كان بالخيار بين الحل وبين البقاء على الإحرام وإن قال : إن مرضت فأنا حلال فمتى وجد الشرط حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط

ما يلزم بإفساد الحج وكيف يقضي الحج من أفسده
مسألة : قال : فإن قال أنا أرفض إحرامي فلبس الثياب وذبح الصيد وعمل ما يعمله الحلال كان عليه في كل فعل فعله دم وإن كان وطئ فعليه للوطء بدنة مع ما يجب عليه من الدماء
وجملة ذلك أن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء : كما أفعاله أو التحلل عند الحصر أو بالعذر إذا شرط وما عدا هذا فليس له أن يتحلل به فإن نوى التحلل لم يحل ولا يفسد الإحرام برفضه لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد فلا يخرج منه برفضها بخلاف سائر العبادات ويكون الإحرام باقيا في حقه تلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل جناية جناها عليه وإن وطئ أفسد حجه وعليه لذلك بدنة مع ما وجب عليه من الدماء سواء كان الوطء قبل الجنايات أو بعدها فإن جناية على الإحرام الفاسد توجب الجزاء كالجناية على الصحيح وليس عليه لرفضه الإحرام شيء لأنه مجرد نية لم تؤثر شيئا
مسألة : قال : ويمضي في الحج الفاسد ويحج من قابل
وجملة ذلك أن الحج لا يفسد إلا بالجماع فإذا فسد فعليه إتمامه وليس له الخروج منه روي ذلك عن عمر و علي و أبي هريرة و ابن عباس رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال الحسن و مالك ويجعل الحجة عمرة ولا يقيم على حجة فاسدة وقال داود يخرج بالإفساد من الحج والعمرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ]
ولنا عموم قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا لأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج به منه كالفوات والخبر لا يلزمنا لأن المضي فيه بأمر الله وإنما وجب القضاء لأنه لم يأت به على الوجه الذي يلزمه بالإحرام ونخص مالكا بأنها حجة لا يمكنه الخروج منها بالإخراج فلا يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة إذا ثبت هذا فإنه لا يحل من الفاسد بل يجب عليه أن يفعل بعد الإفساد كل ما يفعله قبله ولا يسقط عنه توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة والرمي ويجتنب بعد الفاسد كل ما يجتنبه قبله من الوطء ثانيا وقتل الصيد والطيب واللباس ونحوه وعليه الفدية في الجناية على الإحرام الفاسد كالفدية في الجناية على الإحرام الصحيح فأما الحج من قابل فيلزمه بكل حال لكن إن كانت الحجة التي أفسدها واجبة بأصل الشرع أو النذر أو قضاء كانت الحجة من قابل مجزئه قضاؤها لأنه بالدخول في الإحرام صار الحج عليه واجبا فإذا أفسده وجب قضاؤه كالمنذور ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه مخالفا لأن الحج الأصلي واجب على الفور فهذا أولى لأنه قد تعين بالدخول فيه والواجب بأصل الشرع لم يتعين بذلك
فصل : ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين الميقات أو موضع إحرامه الأول لأنه إن كان الميقات أبعد فلا يجوز له تجاوز الميقات بغير إحرام وإن كان موضع إحرامه أبعد فعليه الإحرام بالقضاء منه نص عليه أحمد وروي ذلك عن ابن عباس و سعيد بن المسيب و الشافعي و إسحاق واختاره ابن المنذر وقال النخعي يحرم من موضع الجماع لأنه موضع الفساد
ولنا إنها عبادة فكان قضاؤها على حسب أدائها كالصلاة
فصل : وإذا قضيا تفرقا من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس وروى سعيد و الأثرم باسناديهما عن عمر أنه سئل عن رجل وقع بامرأته وهما محرمان فقال : أتما حجكما فإذا كان عام قابل فحجا واهديا حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا حتى تحلا ورويا عن ابن عباس مثل ذلك وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء و النخعي و الثوري و الشافعي وأصحابه الرأي وروي عن أحمد أنهما يتفرقان من حيث يحرمان حتى يحلا ورواه مالك في الموطأ عن علي رضي الله عنه وروي عن ابن عباس وهو قول مالك لأن التفريق بينهما خوفا من معاودة المحظور وهو يوجد في جميع إحرامهما ووجه الأول أن قبل موضع الإفساد إحرامهما فيه صحيحا فلم يجب التفريق فيه كالذي لم يفسد وإنما اختص التفريق بموضع الجماع لأنه ربما يذكره برؤية مكانه فيدعوه ذلك إلى فعله ومعنى التفرق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال أحمد : يتفرقان في النزول وفي المحمل والفسطاط ولكن يكون بقربها وهل يجب التفريق أو يستحب ؟ فيه وجهان : أحدهما لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يجب الفريق في قضاء رمضان إذا أفسداه كذلك الحج والثاني : يجب لأنه روي عمن سمينا من الصحابة الأمر به ولم نعرف لهم مخالفا ولأن الإجماع في ذلك الموضع يذكر الجماع فيكون من دواعيه والأول أولى لأن حكمة التفريق الصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه وهذا وهم بعيد لا يقضي الإيجاب
فصل : والعمرة فيما ذكرناه كالحج فإن كان المعتمر مكيا - أحرم بها من الحل - أحرم للقضاء من الحل وإن كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل ولا فرق بين المكي ومن حصر بها من المجاورين وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فاسدها فأتمها فقال أحمد : يخرج إلى الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم فإذا فرغ من حجة خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعلي هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسده من عمرته ولو أفسد الحاج حجته وأتمها فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل كالمكيين
فصل : وإذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن الحج الأول كما لو أفسد الصلاة كالصيام وجب القضاء للأصل دون القضاء كذا ههنا وذلك لأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجبا في الذمة على ما كان عليه فيؤديه القضاء

باب ذكر الحج ودخول مكة
يستحب الاغتسال لدخول مكة لأن عبد الله بن عمر كان يغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله متفق عليه و للبخاري أن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعل ذلك وأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة والمرأة كالرجل وإن كانت حائضا أو نفساء [ لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة وقد حاضت : افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ] ولأن الغسل يراد للتنظيف وهذا يحصل مع الحيض فاستحب لها ذلك وهذا مذهب الشافعي وفعله عروة و الأسود ابن يزيد و عمرو بن ميمون و الحارث بن سويد

دخول مكة وآداب رؤية الكعبة ودخول المسجد الحرام
فصل : ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها متفق عليهما ولا بأس أن يدخلها ليلا أو نهارا لأن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة ليلا ونهارا رواهما النسائي
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : فإذا دخل المسجد فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر
إنما استحب دخول المسجد من بابا بني شيبة لأن النبي صلى الله عليه و سلم دخل منه وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره [ أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل مسجد ]
ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت وري ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال الثوري و ابن المبارك و الشافعي و إسحاق وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما روي عن المهاجر المكي قال : [ سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أيرفع يديه ؟ قال : ما كنت أظن أحدا يفعل هذا إلا اليهود حججنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يكن يفعله ] رواه النسائي
ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين ] وهذا من قول النبي صلى الله عليه و سلم وذاك من قول جابر وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء
فصل : ويستحب أن يدعو عند رؤية البيت فيقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا وزد من عظمية وشرفه ممن حجة واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه عز جلاله الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا والحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل منه واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت
قال الشافعي في مسنده : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وبرا وزد من شرفه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا ] وروى بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا السلام قال بعض أصحابنا : يرفع صوته بذلك

إلا إذا ذكر فريضة أو فاتته أو أقيمت الصلاة المفروضة
فصل : وإذا دخل المسجد فذكر فريضة أو فائتة أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف لأن ذلك فرض والطواف تحية ولأنه لو أقيمت الصلاة أثناء طوافه قطعه لأجلها فلأن يبدأ بها أولى وإن خاف فوت ركعتي الفجر أو الوتر أو أحضرت جنازة قدمها لأنها سنة يخاف فوتها والطواف لا يفوت
مسألة : قال : ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع وقبله
معنى استلمه أي مسحه بيده أي مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا مسح الحجر قيل استلم أي مس السلام قاله ابن قتيبة والمستحب لمن دخل المسجد لأن لا يعرج على شيء قبل الطواف بالبيت اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان يفعل ذلك قال جابر في حديثه الصحيح حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا وعن عمرة بن الزبير عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت ] متفق عليه وروى ذلك عروة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر ومعاوية وابن الزبير والمهاجرين وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ولأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد أن يصلي ركعتين ويبتدئ الطواف بالحجر الأسود فيستلمه وهو أن يمسحه بيده ويقبله [ قال أسلم : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال : إني لأعلم إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبلك ما قبلتك ] متفق عليه وروى ابن ماجة عن ابن عمر قال : [ استقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال : يا عمر ههنا تسكب العبرات ] وقول الخرفي : إن كان يعني إن كان الحجر في موضعه لم يذهب به كما ذهب به القرامطة مرة حين ظهروا على مكة فإذا كان ذلك والعياذ بالله فإنه يقف مقابلا لمكانه ويستلم الركن وإن كان الحجر موجودا في موضعه استلمه وقبله فإن لم يمكنه استلامه وتقبيله قام حياله أي بحذائه واستقبله بوجهه فكبر وهلل وهكذا إن كان راكبا فقد روى البخاري عن ابن عباس قال : [ طاف النبي صلى الله عليه و سلم على بعير كلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبر ] وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعمر : إنك لرجل شديد تؤذي الضعيف إذا طفت بالبيت فإذا رأيت خلوة من الحجر فادن منه وإلا فكبر ثم امض ] فإن أمكنه استلام الحجر بشيء في يده كالعصا ونحوها فعل فقد روى ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طاف في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن ] وهذا كله مستحب ويقول عند استلام الحجر باسم الله والله أكبر إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه و سلم رواه عبد الله بن السائب عن النبي صلى الله عليه و سلم

استلام الركنين الحجر واليماني استلام
فصل : ويحاذي الحجر بجميع بدنه فإن حاذاه ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن فأجزأه فيه بعضه كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه و سلم استقبل الحجر واستلمه وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنه ولأن ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه كالقبلة فإذا قلنا بوجوب ذلك فلم يفعله أو بدأ بالطواف من دون الركن كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه على جميعه فإذا أكمل سبعة أشواط غير الأول صح طوافه وإلا لم يصح
فصل : والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهارا فأمنت الحيض والنفاس استحب لها تأخير الطواف إلى الليل ليكون أسترلها ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه كما روى عطاء قال : كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت : انطلقي عنك وأبت وإن خافت حيضا أو نفاسا استحب لها تعجيل الطواف كي لا يفوتها

الاضطباع والرمل في الطواف
مسألة : قال : ويضطبع بردائه
معنى الأضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفيه اليمنى ويرد طرفيه اليسرى ويبقي كتفه اليمنى مكشوفة وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنه قبلت طاء ويستحب الاضطباع في طواف القدوم لما روى أبو داود و أبن ماجة عن يعلى بن أمية [ أن النبي صلى الله عليه و سلم طاف مضطبعا ] ورويا أيضا عن ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى ] وبهذا الشافعي وكثير من أهل العلم وقال مالك : ليس الاضطباع بسنة وقال : لم أسمع أحدا من أهل العلم بيدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقال : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وقد روى أسلم عن عمر بن الخطاب أنه اضطبع ورمل وقال : ففيم الرمل ولم نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين ؟ بلى لن ندع شيئا فعلناه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود وإذا فرغ من الطواف سوى رداءه لأن الاضطباع غير متسحب في الصلاة وقال الأثرم : إذا فرغ من الأشواط التي يرمل فيها سوى رداءه والأول أولى لأن قوله : طاف النبي صلى الله عليه و سلم مضطبعا ينصرف إلى جميعه ولا يضطبع في غير هذا الطواف ولا يضبطع في السعي وقال الشافعي : يضبطع فيه لأنه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يضطبع فيه والسنة في الاقتداء به قال أحمد : ما سمعناه فيه شيئا والقياس لا يصح إلا فيما عقل معناه وهذا تعبد محض
مسألة : قال : ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود
معنى الرمل اسراع المشي مع مقاربة من غير وثب هو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم ولا نعلم بين أهل العلم خلافا وقد ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رمل ثلاثا ومشى أربعا ] رواه جابر وابن عباس وابن عمر وأحاديثهم متفق عليهما فإن قيل : إنما رمل النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لاظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى إذ بقى الله المشركين فلم قلتم إن الحكم يبقى بعد زوال علته ؟ قلنا قد رمل النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس رمل النبي صلى الله عليه و سلم في عمره كلها وفي حجة وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده رواه أحمد في المسند وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت هذا فإن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه يمشي في شيء منها روي ذلك عن عمر وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال عروة و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس و عطاء و الحسن و سعيد بن جبير و القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله يمشي ما بين الركنين لما روى ابن عباس قال : [ قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي الحجر فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فلما رأوهم رملوا قال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا قال ابن عباس : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الابقاء عليهم ] متفق عليه
ولنا ما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رمل من الحجر إلى الحجر ] وفي مسلم عن جابر قال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه ] وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات ومنها أن وراية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعل في حجة الوداع فيكون متأخرا فيجب العمل به وتقديمه الثالث : أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا لا يضبط مثل وجابر وابن عمر كانا رجلين يتبعان أفعال النبي صلى الله عليه و سلم ويحرصان على حفظهما فهما أعلم ولأن جلة الصحابة علموا بما ذكرنا ولو علموا من النبي صلى الله عليه و سلم ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ويحتمل أن يكون ما رواه ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس
فصل : يستحب الدنو من البيت لأنه هو المقصود فإن كان قرب البيت زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحدا وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمل فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضا أو يختلط بالنساء فالدنو أولى ويطوف كيفما أمكنه وإذا وجد فرجه رمل فيها وإن تباعد من البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد سواء حال بينه وبين البيت حائل من قبة أو غيره أو لم يحل لأن الحائل في المسجد لا يضر كما لو صلى في المسجد مؤتما بالإمام من وراء حائل وقد [ روت أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أني أشتكي فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت : فطفت ورسول الله صلى الله عليه و سلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت ] متفق عليه
مسألة : قال : لا يرمل في جميع طوافه إلا هذا
وجملة ذلك أن الرمل لا يسن في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم أو طواف العمرة فإن ترك الرمل فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لأنها هيئة فات موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأولتين ولأن المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيئة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة الأخيرة كان تاركا للهيئة في جميع طوافه كتارك الجهر في الركعتين الأولتين من العشاء إذا جهر في الآخرين ولا يسن الرمل والاضطباع في طواف سوى ما ذكرنا لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى كسنن الصلاة وهذا لا يصح لما ذكرنا فيمن تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه في الأربعة وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضه في صلاة الظهر ولا يقتضي القياس أن تقضي هيئة عبادة في عبادة أخرى
قال القاضي : ولو طاف فرمل واضطبع ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد ذلك للزيارة رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده وهو تبع للطواف فلو قلنا لا يرمل في الطواف أفضى إلى أن يكون التبع أكمل من المتبوع وهذا قول مجاهد و الشافعي وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف فإن المتبوع لا تتغير هيئته تبعا لتبعه ولو كانا متلازمين لكان ترك الرمل في السعي تبعا لعدمه في الطواف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي
فأن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الأول أتى به في الاثنين الباقيين وإن تركه في اثنين أتى به في الثالث كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : وإن تركه في الثلاثة سقط لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يسقطها بقية محلها كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا يسقطه في الثانية
مسألة : قال : وليس على أهل مكة رمل
وهذا قول ابن عباس وابن عمر رحمة الله عليهما وكان ابن عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل وهذا لأن الرمل إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد وهذا المعنى معدوم في أهل البلد والحكم فيمن أحرم من مكة حكم أهل لما ذكرنا عن ابن عمر ولأنه أحرم من مكة أشبه أهل البلد والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد وقلنا يشرع في حقه طواف القدوم لم يرمل فيه قال أحمد : ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة
مسألة : قال : ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه
إنما كان كذلك لأن الرمل هيئة فلا يجب بتركه إعادة ولا شيء كهيئات الصلاة وكالاضطباع في الطواف ولو تركه عمدا لم يلزمه شيء أيضا وهذا قول عامة الفقهاء إلا ما حكي عن الحسن والثوري وعبد الملك الماجشون أن عليه دما لأنه نسك وقد جاء في حديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم من ترك نسكا فعليه دم ] ولنا أمه هيئة غير واجبة فلم يجب بتركها شيء كالاضطباع والخبر إنما يصح عن ابن عباس وقد قال ابن عباس : من ترك الرمل فلا شيء عليه ثم هو مخصوص بما ذكرنا ولأن طواف القدوم لا يجب بتركه شيء فترك صفة فيه أولى أن لا يجب بها لأن ذلك لا يزيد على تركه

شرائط صحة الطواف والكلام والذكر
مسألة : قال : ويكون طاهرا في ثياب طاهرة
يعني في الطواف وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك و الشافعي وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطا فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده جبره بدم وكذلك بخرج في الطهارة من النجس والستارة وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شيء عليه وقال أبو حنيفة : ليس شيء من ذلك شرطا واختلف أصحابه فقال بعضهم هو واجب وقال بعضهم هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم يشترط له الطهارة كالوقوف
ولنا ما روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ] رواه الترمذي و الأثرم وعن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل حجة الوداع يوم النحر يؤذن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة والستارة فيها شرطا كالصلاة وعكس ذلك الوقوف
فصل : ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف وبذلك قال عطاء و مجاهد و الثوري و ابن المبارك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه يكره وروي ذلك عن عروة و الحسن و مالك
ولنا أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في طوافه : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } وكان عمر وعبد الرحمن بن عوف يقولان ذلك في الطواف وهو قرآن ولأن الطواف صلاة ولا تكره القراءة في الصلاة قال ابن المبارك : ليس شيء أفضل من قراءة القرآن ويستحب الدعاء في الطواف والإكثار من ذكر الله تعالى لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى ويستحب أن يدع الحديث إلا ذكر الله تعالى أو قراءة القرآن أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ما لا بد منه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الطواف بالبيت صلاة فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ] ولا بأس بالشرب في الطواف لأن النبي صلى الله عليه و سلم شرب في الطواف رواه ابن المنذر وقال : لا أعلم أحدا منع منه
فصل : إذا شك في الطهارة وهو في الطواف لم يصح طوافه ذلك لأنه في شرط العبادة قبل الفراغ منها فأشبه ما لو شك في الطهارة في الصلاة وهو فيها وإن شك بعد الفراغ منه لم يلزمه شيء لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر فيها أن شك في عدد الطواف بنى على اليقين قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ولأنها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصلاة وإن أخبره ثقة عن عدد طوافه رجع إليه إذا كان عدلا وإن شك في ذلك بعد فراغه من الطواف لم يلتفت إليه كما لو شك في عدد الركعات بعد فراغ الصلاة قال أحمد : إذا كان رجلان يطوفان فاختلفا في الطواف بنيا على اليقين وهذا محمول على أنهما شكا فأما إن كان أحدهما تيقن حال نفسه لم يلتفت إلى قول غيره
فصل : وإذا فرغ المتمتع ثم علم أنه كان على غيره طهارة في أحد الطوافين لا بعينه بنى الأمر على الأشد وهو أنه كان محدثا في طواف العمرة فلم يصح ولم يحل منها يلزمه دم للحلق ويكون قد ادخل الحج على العمرة فيصير قارنا ويجزئه الطواف للحج عن النسكين ولو قدرناه من الحج لزمه إعادة الطواف ويلزمه إعادة السعي على التقديرين لأنه وجد بعد طواف غير معتد به وإن كان وطئ بعد حلة من العمرة حكمنا بأنه أدخل حجا على عمرة فاسدة ولا تصح ويلغوا ما فعله من أفعال الحج ويتحلل بالطواف الذي قصده للحج من عمرته الفاسدة وعليه دم للحق ودم للوطء في عمرته ولا يحصل له حج ولا عمرة ولو قدرناه من الحج لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي ويحصل له الحج والعمرة

ولا يستلم من الأركان إلا الأسود واليماني
مسألة : قال : ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني :
الركن اليماني قبلة أهل اليمن ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه وذلك أنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان فيستلمه ويقبله ثم يأخذ على يمين نفسه ويجعل البيت على يساره فإذا انتهى إلى الركن الثاني وهو العراقي لم يستلمه فإذا مر بالثالث وهو الشامي لم يستلمه أيضا وهذان الركنان يليان الحجر فإذا وصل إلى الرابع وهو الركن اليماني استلمه قال الخرقي : ويقبله والصحيح عن أحمد أنه لا يقبله وهو قول أكثر أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يستلمه قال ابن عبد البر جائز عند أهل العلم أن يستلم الركن اليماني والركن الأسود لا يختلفون في شيء من ذلك وإنما الذي فرقوا به بينهما التقبيل فرأوا التقبيل الأسود ولم يروا تقبيل اليماني وأما استلامهما فأمر مجمع عليه وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا استلم الركن قبله ووضع خده الأيمن عليه ] قال : وهذا لا يصح وإنما يعرف التقبيل في الحجر الأسود وحده وقد روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني ] و [ قال ابن عمر : ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستلمهما في شدة ولا رخاء ] رواهما مسلم ولأن الركن اليماني مبنى على قواعد إبراهيم عليه السلام فسن استلامه كالذي فيه الحجر وأما تقبيله فلم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم فلا يسن وأما الركنان اللذان يليان الحجر فلا يسن استلامهما في قول أكثر أهل العلم وروي عن معاوية وجابر وابن الزبير والحسن والحسين وأنس وعروة استلامهما وقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجورا
ولنا قول ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني وقال : ما أراه - يعني النبي صلى الله عليه و سلم - لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك وروي عن ابن عباس أن معاوية طاف فجعل يستلم الأركان كلها فقال له ابن عباس : لم تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يستلمها ؟ فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عباس : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فقال معاوية : صدقت ! ولأنهما لم يتما على قواعد إبراهيم فلم يسن استلامهما كالحائط الذي يلي الحجر
فصل : ويستلم الركنين الأسود واليماني في كل طوافه لأن ابن عمر قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه ] قال نافع : وكان ابن عمر يفعله رواه أبو داود وإن لم يتمكن من تقبيل الحجر استلمه وقبل يده وممن رأى تقبيل اليد عند استلامه ابن عمر وجابر وأبو هريرة وأبو سعيد وابن عباس و سعيد بن جبير و عطاء و عروة و أيوب و الثوري و الشافعي و إسحاق وقال مالك : يضع يده على فيه من غير تقبيل وروي أيضا عن القاسم بن محمد
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم استلمه وقبل يده أخرجه مسلم وفعله أصحاب النبي صلى الله وسلم وتبعهم أهل العلم على ذلك فلا يعتد بمن خالفهم وإن كان في يده شيء يمكن أن يستلم الحجر به استلمه وقبله لما روي [ عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن ] رواه مسلم فإن لم يمكنه استلامه أشار إليه وكبر لما روى البخاري بإسناده عن ابن عباس قال : [ طاف النبي صلى الله عليه و سلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر ]
فصل : ويكبر كلما أتى الحجر أو حاذاه لما رويناه ويقو بين الركنين : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } لما روى الإمام أحمد في المناسك [ عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : بين ركن بني جمح والركن الأسود : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ]
وعن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وكل به - يعني الركن اليماني - سبعون ألف ملك فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والأخرة : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } قالوا آمين ] وعن ابن عباس أنه كان إذا جاء الركن اليماني قال : اللهم قنعني بما رزقتني واخلف لي على كل غائبة بخير
ويستحب أن يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وكان عبد الرحمن بن عوف يقول : رب قني شح نفسي وعن عروة قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقولون : لا إله إلا أنتا وأنت تحيي بعدما أمتا ومهما أتى به من الدعاء والذكر فحسن قالت عائشة : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ] رواه الأثرم و ابن المنذر

على الطائف أن يطوف من وراء الحجر
مسألة : قال : ويكون الحجر داخلا في طوافه لأن الحجر من البيت
إنما كان كذلك لأن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت جميعه بقوله : { وليطوفوا بالبيت العتيق } والحجر منه فمن لم يطف به لم يعتد بطوافه وبهذا قال عطاء و مالك و الشافعي و أبو ثور وابن المنذر وقال أصحاب الرأي : إن كان بمكة قضي ما بقي وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم ونحوه قال الحسن
ولنا أنه من البيت بدليل ما [ روت عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه عن الحجر فقال : هو من البيت ] وعنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه : إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منها فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منها فأراها قريبا من سبعة أذرع ] رواهما مسلم وعنها رضي الله عنهما [ قالت : قلت يا رسول الله إني نذرت أن أصلي في البيت قال : صلي في الحجر فإن الحجر من البيت ] وفي لفظ قالت : [ كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي فأدخلني الحجر وقال : صلي في الحجر إن أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت ] قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح فمن ترك الطواف بالحجر لم يطف بجميع البيت فلم يصح كما لو ترك الطواف ببعض البناء ولأن النبي صلى الله عليه و سلم طاف من وراء الحجر وقد قال عليه السلام : [ لتأخذوا عني مناسككم ]
فصل : ولو طاف على جدار الحجر وشاذروان الكعبة وهو ما فضل من حائطها لم يجز لأن ذلك من البيت فإذا لم يطف به فلم يطف بكل البيت ولأن النبي صلى الله عليه و سلم طاف من وراء ذلك
فصل : ولو نكس الطواف فجعل البيت على يمينه لم يجزئه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة : يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك هيئة فلم تمنع الأجزاء كما لو ترك الرمل والاضطباع
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل البيت في الطواف على يساره وقال عليه السلام : [ لتأخذوا عني مناسككم ] ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكان الترتيب فيها واجبا كالصلاة وما قاسوا عليه مخالف لما ذكرنا كما اختلف حكم هيئة وترتيبها

ركعتا الطواف موالاة الطواف
مسألة : قال : ويصلي ركعتين خلف المقام
وجملة ذل كأنه يسن للطائف أن يصلي بعد فراغه ركعتين ويستحب أن يركعها خلف المقام لقوله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ويستحب أ يقرأ فيهما : { قل يا أيها الكافرون } في الأولى { قل هو الله أحد } في الثانية ف [ إن جابرا روى في صفة حجة النبي صلى الله عليه و سلم قال : حتى أتينا البيت معه أستلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ : { واتخذوا من مقام إبراهيم } فجعل المقام بنيه وبين البيت ] قال محمد بن علي : ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الركعتين : { قل هو الله أحد } و { قل يا أيها الكافرون } وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما جاز فإن عمر ركعهما بذي طوى وروي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأم سلمة : إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ] ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت ولا بأس أن يصليهما إلى غيره سترة ويمر بين يديه الطائفون من الرجال والنساء فإن النبي صلى الله عليه و سلم صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شيء وكان ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه فتمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى ترفع رجلها ثم يسجد وكذلك سائر الصلوات في مكة لا يعتبر لها سترة وقد ذكرنا ذلك
فصل : وركعتا الطواف سنة مؤكدة غير مواجبة وبه قال مالك و الشافعي قولان : أحدهما : أنهما واجبتان لأنهما تابعتان للطواف فكانا واجتين كالسعي
ولنا قوله عليه السلام : [ خمس صلوات كتبهن الله على العبد من حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخل الجنة ] وهذا ليست منها ولما سأل الأعرابي النبي صلى الله عليه و سلم عن الفرائض ذكر الصلوات الخمس قال : فهل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع ولأنها صلاة لم تشرع لها جماعة فلم تكن واجبة كسائر النوافل والسعي ما وجب لكونه تابعا ولا مشروع مع كل طواف ولو طاف الحاج طوافا كثيرا لم يجب عليه إلا سعى واحد فإذ أتى به مع طواف القدوم لم يأت به بعد ذلك بخلاف الركعتين فإنهما يشرعان عقيب كل طواف
فصل : وإذا صلى المكتوبه بعد طوافه أجزأئه عن ركعتي الطواف روي نحو ذلك عن ابن عباس و عطاء و جابر بن زيد و الحسن و سعيد بن جبير و إسحاق وعن أحمد أنه يصلي ركعتي الطواف بعد المكتوبة قال أبو بكر عبد العزيز هو أقيس وبه قال الزهري ومالك وأصحاب الرأي لأنه سنة فلم تجز عنها المكتوبة كركعتي الفجر
ولنا أنهما ركعتان شرعتا للنسك فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الإحرام
فصل : ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين فعل ذلك عائشة والمسور بن مخرمة وبه قال عطاء و طاوس و سعيد بن جبير و إسحاق وكرهه ابن عمر و الحسن و الزهري و مالك و أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله ولأن تأخير الركعتين عن طوافهما يخل بالموالاة بينهما
ولنا أن الطواف يجري الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما بينها فيصليها بعدما كذلك ههنا وكون النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله لا يوجب كراهة فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة وذلك غير مكروه بالأتفاق والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين بدليل أن عمر صلاهما بذي طوى وأخرت أم سلمة ركعتي طوافهما حين طافت راكبة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخر عمر بن العزيز ركوع الطواف حتى طلعت الشمس وإن ركع لكل أسبوع عقيبه كان أولى وفيه اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم وخروج من الخلاف
فصل : وإذا فرغ من الركوع وأدرا الخروج إلا الصفا استحب أن يعود فيستلم الحجر نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك ذكره جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم وكان ابن عمر يفعله وبه قال النخعي و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي : ولا نعلم فيه خلافا

السعي بين الصفا والمروة
مسألة : قال : ويخرج إلى الصفا من بابه فيقف عليه فيكبر الله عز و جل ويهلله ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه و سلم
وجملة ذلك أنه إذا فرغ من طوافه وصلى ركعتين واستلم الحجر فيستحب أن يخرج إلا الصفا من بابه فيأتي الصفا فيرقي عليه حتى يرى الكعبة ثم يستقبلها فيكبر الله عز و جل ويهلله ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم وما أحب من خير الدنيا والآخرة [ قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم : بعد ركعتي الطواف ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبر وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك وقال : مثل هذا ثلاث مرات ] قال أحمد : ويدعو بدعاء ابن عمر ورواه عن إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى الصفا من الباب الأعظم فيقوم عليه فيكبر سبع مرارا ثلاثا ثلاثا يكبر ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يدعو فيقول : اللهم اعصمني بدينك وطواعتيك وطواعيه رسولك اللهم جنبني حدودك اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطئيتي يوم الدين اللهم قلت قولك الحق { ادعوني أستجب لكم } وإنك لا تخلف الميعاد اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى توفاني على الإسلام اللهم لا تقدمني إلى العذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن قال : ويدعو دعاء كثيرا حتى أنه ليملنا وأنا لشباب وكان إذا أتى على المسعى سعى وكبر وكل ما دعا به فهو جائز
فصل : فإن لم يرق على الصفا فلا شيء عليه قال القاضي : لكن يجب عليه أن يستوعب ما بين الصفا والمروة فيلصق عقيبة بأسفل الصفا ثم يسعى إلى المروة فإن لم يصعد عليها ألصق أصابع رجليه بأسفل المروة والصعود عليها هو الأولى اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه و سلم فإن ترك مما بينهما شيئا ولو ذراعا لم يجزئه حتى يأتي به والمرأة لا يسن له أن ترقى لئلا تزاحم الرجال وترك ذلك أستر لها ولا ترمل في طواف ولا سعي والحكم في وجوب استيعابها ما بينهما بالمشي كحكم الرجل
مسألة : قال : ثم ينحدر من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي فيرمل من العلم إلى العلم ثم يمشي حتى يأتي فيقف عليها ويقول كما قال على الصفا وما دعا به أجزأه ثم ينزل ماشيا إلى العلم ثم يرمل حتى يأتي العلم يفعل ذلك سبع مرات يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختم بالمروة
هذا وصف السعي وهو أن ينزل من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم ومعناه يحاذي العم وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد فإذا كان منه نحوا من ستة أذرع سعي سعيا شديدا حتى يحاذى العلم الآخر وهو الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يترك السعي ويمشي حتى يأتي المروة فيستقبل القبلة ويدعو بمثل دعائه على الصفا وما دعا به فجائز في الدعاء مؤقت ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعية ويكثر ن لادعاء والذكر فيما بين ذلك قال أبو عبد الله : كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال : رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الاكرم و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية وحكى عن ابن جرير وبعض أصحاب الشافعي أنهم قالوا : ذهابه ورجوعه سعية وهذا غلط ل [ أن جابرا قال في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم : ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا فلما كان آخر طوافه على المروة قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ] وهذا يقتضي أنه آخر طوافه ولو كان على ما ذكروه كان آخر طوافه عند الصفا في الموضع الذي بدأ منه ولأنه في كل مرة طائف بهما فينبغي أن يحتسب بذلك مرة كما أنه إذا طاف بجميع البيت احتسب به مرة
مسألة : قال : ويفتتح بالصفا ويختتم بالمروة
وجملة ذلك أن الترتيب شرط في السعي وهو أن يبدأ بالصفا فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط فإذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم بدأ بالصفا وقال : نبدأ بما بدا الله به ] وهذا قول الحسن و مالك و الشافعي و الأوزاعي وأصحاب الرأي وعن ابن عباس قال : قال الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } فبدأ بالصفا وقال : اتبعوا القرآن فما بدا الله فابدأوا به
مسألة : قال : ومن نسي الرمل في بعض سعية فلا شيء عليه
وجملة ذلك أن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي صلى الله عليه و سلم سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسعى بين الصفا والمروة ويقول : لا يقطع الأبطح إلا شدا ] وليس ذلك بواجب ولا شيء على تاركه فإن ابن عمر قال : إن أسع بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسعى وإن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي وأنا شيخ كبير رواهما ابن ماجة وروى هذا أبو داود ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى
فصل : واختلفت الرواية في السعي فروي عن احمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به وهو قول عائشة و عروة و مالك و الشافعي لما روي [ عن عائشة قالت : طاف رسول الله صلى الله عليه و سلم وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة ] رواه مسلم و [ عن حبيبة بنت أبي شجراء إحدى نساء بني عبد الدار قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه حتى إني لأقول إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ] رواه ابن ماجة ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما كالطواف بالبيت وروي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم روي ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه فإن هذا رتبة المباح وإنما تثبت سنيته بقوله : من شعائر الله وروي أن مصحف أبي وابن مسعود : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه نسك ذو عدد لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركنا كالرمي وقال القاضي هو واجب وليس بركن إذا تركه وجب عليه دم وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة والثوري وهو أولى لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على كوه لا يتم الحج إلا به وقول عائشة في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة وحديث بنت أبي شجرة قال ابن المنذر يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه ثم هو يدل على انه مكتوب وهو الواجب وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة كذلك قالت عائشة

السعي تبع للطواف لا يجوز إلا أن يتقدمه
فصل : والسعي تبع للطواف لا يصح إلا أن يتقدمه طواف فإن سعى وبذلك قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال عطاء يجزئه وعن أحمد يجزئه إن كان ناسيا وإن عمد لم يجزئه سعيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال : لا حرج ووجه الأول أن سعيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما سعى بعد طوافه وقد قال : [ لتأخذوا عني مناسككم ] فعلى هذا أن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك ومتى سعى المفرد والقارن بعد طواف القدوم لم يلزمهما بعد ذلك سعي وإن لم يسعيا معه سعيا مع طواف الزيارة ولا تجب الموالاة بين الطواف والسعي قال أحمد : لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح و إلى العشي وكان عطاء والحسن لا يريان بأسا لمن طاف بالبيت أول النهار أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي وفعله القاسم وسعيد بن جبير لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي ففيهما بينه وبين الطواف أولى

التحلل من الإحرام
مسألة : قال : فإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا قصر شعره ثم قد حل
المتمتع الذي أحرمك بالعمرة من الميقات فإذا فرغ من أفعالها وهي الطواف والسعي قصر أو حلق ودق حل من عمرته إن لم يكن معه هدي لما روي ابن عمر قال : [ تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة قال للناس : من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكمن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ] متفق عليه ولا نعلم فيه خلافا ولا يستحب تأخير التحلل قال أبو داود : سمعت أحمد سئل عمن دخل مكة معتمرا فلم يقصر حتى كان يوم التروية عليه شيء ؟ قال هذا لم يحل بعد يقصر ثم يهل بالحج وليس عليه شيء وبئس ما صنع
فصل : فأما من معه هدي فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا نص عليه أحمد وهو وقل أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة ولا يمس من أظفاره وشاربه شيئا وروي عن ابن عمر وهو قول عطاء لما روي [ عن معاوية قال : قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم بمشقص عند المروة ] متفق عليه قال مالك و الشافعي في قول له التحلل ونحر هديه ويستحب نحره عند المروة وكلام الخرقي يحتمله لإطلاقه ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عمر و [ روت عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جمعيا ] و [ عن حفصة أنها قالت : يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ] متفق عليه والأحاديث كثيرة وعن أحمد رواية ثالثة فيمن قدم متمتعا في أشهر الحج وساق الهدي قال : إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم لنحر وإن قدم قبل العشر نحر الهدي وهذا يدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وإن قدم في العشر لم يحل وهذا قول عطاء رواه حنبل في المناسك وقال فينم لبد أو ضفر هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى لما فيها من الحديث الصحيح الصريح وهو أولى بالإتباع
فصل : فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن سواء كان في أشهر الحج أو غيرها لأن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة وقبل كلهن في ذي القعدة فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من الحرم جاز ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم : كل فجاج مكة طريق ومنحر ] رواه أبو داود و ابن ماجة
فصل : وقول الخرقي قصر من شعره ثم قد حل على أن المستحب في حق المتمتع عند حلة من عمرته التقصير ليكون الحلق للحج قال أحمد في رواية أبي داود : ويعجبني إذا دخل متمتعا أن يقصر ليكون الحلق للحج ولم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه إلا بالتقصير فقال في حديث جابر : [ حلوا من إحرامكم بطواف بين الصفا والمروة وقصروا ] وفي صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم فحل الناس كلهم وقصروا وفي حديث ابن عمر أنه قال : [ من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل ] متفق عليه وإن حلق جاز لأنه أحد النسكين فجاز فيه كل واحد منهما ويدل أيضا على أنه لا يحل إلا بعد التقصير وهذا ينبني على أن التقصير نسك وهو المشهور فلا يحل إلا به وفيه رواية أخرى أنه إطلاق من محظور فيحل بالطواف والسعي حسب وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فإن ترك التقصير أو الحلق وقلنا هو نسك فعليه دم وإن وطئ قبل التقصير فعليه دم وعمرته صحيحة وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وحكي عن الشافعي أن عمرته تفسد لأنه وطئ قبل حلة من عمرته وعن عطاء قال : يستغفر الله تعالى
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة معتمرة وقع بها زوجها قبل أن تقصر قال : من ترك من مناسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما قيل إنها موسرة قال : فلتنحر ناقة ولأن التقصير ليس بركن فلا يفسد النسك بتركه ولا بالوطء قبله كالرمي في الحج قال أحمد فيمن وقع على امرأته قبل تقصيرها من عمرتها تذبح شاة قيل عليه أو عليها ؟ قال : عليها هي وهذا محمول على أنها طاوعته فإن أكرهها فالدم عليه وإن أحرم بالحج قبل التقصير فقد أدخل على العمرة فيصير قارنا
فصل : يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره وكذلك المرأة نص عليه وبه قال مالك وعن أحمد : يجزئه البعض مبنيا على اسمح في الطهارة وكذلك قال ابن حامد وقال الشافعي : يجزئه التقصير من ثلاث شعرات واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له
ولنا قول الله تعالى : { محلقين رؤوسكم } وهذا عام في جميعه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم حلق جميع رأسه تفسيرا لمطلق الأمر به فيجب الرجوع إليه ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح فإن كن الشعر مضفورا قصر من رؤوس ضفائره كذلك قال مالك : تقصر المرأة من جميع قرونها ولا يجب التقصير من كل شعره لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه
فصل : وأي قدر قصر منه أجزأه لأن الأمر به مطلق فيتناول الأقل وقال أحمد : يقصر قدر الأنملة وهو قول ابن عمر الشافعي و إسحاق و أبي ثور وهذا محمول على الاستحباب لقول ابن عمر : وبأي شيء قصر الشعر أجزأه وكذلك لو نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته والأمر به مطلق فيتناول ما يقع عليه الاسم ولكن السنة الحلق أو التقصير اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ويستحب البداية بالشق الأيمن نص عليه لما روى أنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس ] رواه مسلم و [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يعجبه التيامن في شأنه كله ] متفق عليه قال أحمد : يبدأ بالشق الأيمن حتى يجاوز العظمين وإن قصر من شعره رأسه ما نزل عن حد الرأس أو مما يحاذيه جاز لأن المقصود التقصير وقد حصل بخلاف السمح في الضوء فإن الواجب المسح على الرأس وهو ما ترأس وعلا

وطواف النساء وسعيهن مشي كله
مسألة : قال : وطواف النساء وسعيهن مشي كله
وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا يبن الصفا والمروة وليس عليهن اضطباع وذلك لأن الأصل فيهما اظهار الجلد ولا يقصد ذلك في حق النساء ولأن النساء يقصد فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف

كراهية السعي على غير طهارة
مسألة : قال : ون سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وأجزأه
أكثر أهل العلم يرون أن لا يشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة وممن قال ذلك عطاء و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وكان الحسن يقول أن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف وإن ذكر بعدما حل فلا شيء عليه
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة حين حاضت : إقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ] ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف قال أبو داود : سمعت أحمد يقول : إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت وروي عن عائشة وأم سلمة أنهما قالتا : إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة رواه الأثرم والمستحب مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهرا وكذلك يستحب أن يكون طاهرا في جميع مناسكه ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف ولا يعول عليه

الموالاة بين الطواف والسعي محمولا أو راجلا
مسألة : قال : وإن أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى فإذا صلى بنى
وجملة ذلك أنه إذا تلبس بالطواف أو بالسعي ثم أقيمت المكتوبة فإنه يصلي مع الجمعة في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر وسالم وعطاء والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي روي ذلك عنهم في السعي وقال مالك : يمضي في طوافه ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر الوقت الصلاة لأن الطواف صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ] والطواف صلاة فيدخل تحت عموم الخبر وإذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده ففي السعي بين الصفا والمروة أولى مع أنه قول ابن عمر ومن سميناه من أهل العلم ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا وإذا صلى بنى على طوافه وسعيه في قول من سمينا من أهل العلم قال ابن المنذر : ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا الحسن فإنه قال : يستأنف وقول الجمهور أولى لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف فلم يقطعه كاليسير وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلي عليها ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها قال أحمد : ويكون ابتداؤه من الحجر يعني أنه يبتدئ الشوط الذي يقطعه من الحجر حين شرع في البناء
فصل : فإن ترك الموالاة لغير ما ذكرنا وطال الفصل ابتدأ الطواف وإن لن يطل بنى ولا فرق بين ترك الموالاة عمدا أو سهوا مثل من يترك شوطا من الطواف يحسب أنه قد أتمه وقال أصحاب الرأي فيمن طاف ثلاثة أشواط من طواف الزيارة ثم رجع إلى بلده لعيه أن يعود فيطوف ما بقي
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم والى بين طوافه وقال : خذوا عني مناسككم ] ولأنه صلاة فيشترط كسائر الصلوات أو نقول عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة ويرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف من غير تحديد وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إذا كان له عذر يشغله بنى وإن قطعه من غير عذر أو لحاجة استقبل الطواف وقال : إذا أعيا في الطواف لا بأس أن يستريح وقال : الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله فلما أفاق أتمه قال أبو عبد الله : فإن شاء أتمه وإن شاء استأنف وذلك لأنه قطعه لعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه لصلاة
فصل : فأما السعي بين الصفا والمروة فظاهر كلام أحمد أن الموالاة غير مشترطة فيه فإنه قال في رجل كان بين الصفا والمروة فلقيه فإذا يعرفه يقف فيسلم عليه ويسائله ؟ قال : نعم أمر الصفا سهل إنما كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت فأما بين الصفا والمروة فلا بأس وقال القاضي : تشترط الموالاة فيه قياسا على الطواف وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق وقد روي الأثرم أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة وكان عطاء لا يرى بأسا أن يستريح بينهما ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت وهو صلاة وتشترط له الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة بخلاف السعي
مسألة : قال : وإن أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إذا كان فرضا
أما إذا أحدث عمدا فإنه يبتدئ الطواف لأن الطهارة شرط له فإذا أحدث عمدا أبطله كالصلاة وإن سبقه الحدث ففيه روايتان
إحداهما : يبتدئ أيضا وهو قول الحسن و مالك قياسا على الصلاة والرواية الثانية : يتوضأ ويبنى وبها قال الشافعي و إسحاق قال حنبل عن أحمد فيمن طاف ثلاثة أشواط أو اكثر يتوضأ بنى وإن شاء استأنف قال أبو عبد الله : يبني إذا لم يحدث حدثا إلا الوضوء فإن عمل عملا غير ذلك استقبل الطواف وذلك لأن الموالاة تسقط عد العذر في إحدى الروايتين وهذا معذور فجاز البناء وإن اشتغل بغير الوضوء فقد ترك الموالاة لغير عذر فلزمه الابتداء إذا كان الطواف فرضا فأما المسنون فلا يجب إعادته كالصلاة المسنونة إذا بطلت
مسألة : قال : ومن طاف وسعى محمولا لعلة أجزأه
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر فإن ابن عباس روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ] و [ عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أني أشتكي فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ] متفق عليهما وقال جابر : [ طاف النبي صلى الله عليه و سلم على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه فإن الناس غشوه ] والمحمول كالراكب فيما ذكرناه
فصل : فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى الروايات عن أحمد ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الطواف بالبيت صلاة ] ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة
والثانية : يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل غروب الشمس
والثالثة : يجزئه ولا شيء عليه اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي و ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه و سلم طاف راكبا قال ابن المنذر : لا قول لأحد مع فعل النبي صلى الله عليه و سلم ولأن الله تعالى أمر الطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل ولا خلاف في أن الطواف راجلا أفض لأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم طافوا مشيا والنبي صلى الله عليه و سلم في غير حجة الوداع طاف مشيا وفي [ قول أم سلمة : شكوت إلى النبي صلى الله عليه و سلم أني أشتكي فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ] دليل على أن الطواف إنما يكون مشيا وإنما طاف النبي صلى الله عليه و سلم راكبا لعذر فإن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يضرب الناس بين يديه فما كثروا عليه ركب رواه مسلم وكذلك في حديث جابر : فإن الناس غشوة وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم طاف راكبا لشكاة به وبهذا يعتذر من منع الطواف راكبا عن طواف النبي صلى لله عليه وسلم والحديث الأول أثبت فعلى هذا يكون كثرة الناس وشدة الزحام وعذرا ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قصد تعليم الناس مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب والله أعلم
فصل : إذا طاف راكبا أو محمولا فلا رمل عليه وقال القاضي : يخب به بعيره والأول أصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يفعله ولا أمر به ولأن معنى الرمل لا يتحقق فيه
فصل : فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه

والمفرد والقارن إذا كان معه هدى
مسألة : قال : ومن كان مفردا أو قارنا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه
أما إذا كان معه هدي فليس له أن يحل من إحرام الحج ويجعله عمرة بغير خلاف نعلمه وقد روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ] متفق عليه وأما من لا هدي معه ممن كان مفردا أو قارنا فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعا إن لم يكن وقف بعرفة وكان ابن عباس يرى أن من كاف بالبيت وسعى فقد حل وإن لم ينو ذلك وبما ذكرناه قال الحسن و مجاهد و داود وأكثر أهل العلم على أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة فروى ابن ماجة بإسناده [ عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه أنه قال : يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن أتى ؟ قال : لنا خاصة ] وروي أيضا عن الموقع الأسدي [ عن أبي ذر قال : كان ما أذن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرة ونحل من كل شيء أن تكك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله صلى الله عليه و سلم دون جميع الناس ]
ولنا أنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي وثبت ذلك في أحاديث كثيرة متفق عليهن بحي يقرب من التواتر والقطع ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي صلى الله عليه و سلم أحمد من أهل العلم علمناه وذكر أبو حفص في شرحه قال : سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول : سمعت أبا بكر بن أيوب يقول : سمعت إبراهيم الحربي يقول : وسئل عن فسخ الحج فقال : قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة فقال ما هي ؟ قال : تقول بفسخ الحج فقال أحمد : قد كنت أرى أن لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج اتركها لقولك وقد وروى فسخ الحج ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة وأحاديثهم متفق عليه ورواه غيرهم وأحاديثهم كلها صحاح قال أحمد : روي الفسخ عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث جابر وعائشة وأسماء والبراء وابن عمر وسبرة الجهني وفي لفظ حديث جابر قال : [ أهللنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحج خالصا وحده ليس معه عمرة فقدم النبي صلى الله عليه و سلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فلما قدمنا أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم أن نحل قال : أحلوا وأصيبوا من النساء قال : فبلغه عنا أنا نقول لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس ليال أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني قال : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قد علمتم أني اتقاكم له وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون فحلوا ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت قال : فحللنا وسمعنا وأطعنا قال : فقال سراقة بن مالك ابن جعشم المدلجي متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد ؟ ] فظنه محمد بن بكر أنه قال : للأبد متفق عليه فأما حديثهم فقال أحمد : روى هذا الحدي الحراث بن بلال ؟ يعني أنه مجهول ولم يروه إلا الدراوردي وحديث أبي ذر رواه مرقع الاسدي فمن مرقع الاسدي ؟ شاعر من أهل الكوفة ولم يلق أبا ذر فقيل له أفليس قد روى الاعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال : كانت متعة الحج لنا خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أفيقول بهذا أحد ؟ المتعة في كتاب الله وقد أجمع الناس على أنها جائزة قال الجوزاجاني مرقع الأسدي ليس بمشهور ومثل هذه الأحاديث في ضعفها وجهالة روايتها لا تقبل إذا انفردت فكيف تقبل في رد حكم ثابت بالتواتر مع أن قول أبي ذر من رأيه وقد خالفه من هو أعلم منه وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يلتفت إلى هذا وقد اختلفت لفظه ففي أصح الطريقين عنه قوله مخالف لكتاب الله تعالى وقول رسول الله وإجماع المسلمين وسنن رسول الله صلى الله عليه و سلم الثابتة الصحيحة فلا يحل الاحتجاج به وأما قياسهم في مقابلة قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يقبل على أن قياس الحج والعمرة في هذا لا يصح فإنه لا يجوز قلب الحج إلى العمرة في حق من فاته الحج ومن حصر عن عرفة والعمرة لا تصير حجا بحال ولأن فسخ الحج إلى العمرة بصير به متمتعا فتحصل الفضيلة وفسخ العمرة إلى الحج يفوت الفضيلة ولا يلزم من مشروعية ما يحصل الفضيلة مشروعية تفويتها

وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعا
فصل : وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعا حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره وقال القاضي : لا يجب الدم لأن من شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة أو في أثنائها أنه متمتع وهذه دعوى لا دليل عليه تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة فإن الله تعالى قال : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وفي حديث ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه وسل قال : من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ] متفق عليه ولأن وجوب الدم في المتعة للترفه بسقوط أحد السفرين وهذا المعنى لا يختلف بالنية وعدمها فوجب أن لا يختلف وجوب الدم على أنه لو ثبت أن النية شرط فقد وجدت فإنه ما حل حتى نوى أنه يحل ثم يحرم بالحج

ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل البيت
مسألة : قال : ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت
قال أبو عبد الله : يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن وهو معنى قول الخرقي : إذا وصل إلى البيت وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون و طاوس و النخعي و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن عمر وعروة والحسن : يقطعها إذا دخل الحرم وقال سعيد بن المسيب يقطعها حين يرى عرش مكة وحكي عن مالك أنه إن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت
ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث : كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم : اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وإشعار للإقامة عليها وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها وهو التحلل منها والتحلل يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فينبغي أن يقطع التلبية كالحاج يقطعها إذا شرع في رمي جمرة العقبة لحصول التحلل بها وأما قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها والله تعالى أعلم

باب صفة الحج
نذكر في هذا الباب صفة الحج بعد حل المتمتع عن عمرته بذكر حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه و سلم ونقتصر منه على ما يختص بهذا الباب وقد ذكرنا بعضه مفرقا في الأبواب الماضية وهو حديث جامع صحيح رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر الحديث قال [ فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه و سلم ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى منى فصل بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال : إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى : أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبرها وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول صلى الله عليه و سلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه و سلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال : انزعوا نبي عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه ] قال عطاء : كان منزل النبي صلى لله عليه وسلم بمنى بالخيف

إحرام المتمتع والمكي بالحج
مسألة : قال : وإذا كان يوم التروية أهل بالحج ومضى إلى منى
يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء فيه يعدونه ليوم عرفة وقيل سمي بذلك لأن إبراهيم عليه السلام رأى ليلتئذ في المنام ذبح ابنه فأسبح يروي في نفسه أهو حلم أم من الله تعالى ؟ فسمي يوم التروية فما كان ليلة عرفة رأى ذلك أيضا فعرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة والله أعلم
والمستحب لمن كن بعرفة حلالا من المتمتعين الذين حلوا من عمرتهم أو من كان مقيما بمكة من أهلها أو من غيرهم أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى وبهذا قال ابن عمر و ابن عباس و عطاء و طاوس و سعيد بن جبير و إسحاق وقد روي ع عمر رضي الله عنه أه قال لأهل مكة : مالكم يقدم الناس عليكم شعثا ؟ إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج وهذا مذهب ابن الزبير وقال مالك : من كان بمكة فأحب أن يهل من المسجد لهلال ذي الحجة
ولنا قول جابر فما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وفي لفظ [ عن جابر قال : أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح حتى إذا كان يوم التروية جعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج ] رواه مسلم وعن عبيد بن جريج أنه قال لبعد الله بن عمر : رأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله بن عمر : أما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يهل حتى تنبعث به راحلته متفق عليه ولأنه ميقات للإحرام فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم كميقات المكان وإن أحرم قبل ذلك كان جائزا
فصل : ومن حيث أحرم من مكة جاز ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في المواقيت : حتى أهل مكة يهلون منها ] وإن أحرم خارجا منها من الحرم جاز لقول جابر : فأهللنا من الأبطح ويستحب أن يفعل عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظيف وتيجرد عن المخيط ويطوف سبعا ويصلي ركعتين ثم يحرم عقيبهما وممن استحب ذلك عطاء ومجاهد و سعيد بن جبير و الثوري و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر ولا يسن أن يطوف بعد إحرامه قال ابن عباس : لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا وهذا مذهب عطاء ومالك وإسحاق وإن طاف بعد إحرامه ثم سعى لم يجزئه عن السعي الواجب وهو قول مالك وقال الشافعي يجزئه وفعله ابن الزبير وأجازه القاسم بن محمد وابن المنذر لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه كما لو سعى بعد رجوعه من منى
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه أن يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى و [ قالت عائشة : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فطاف الذين أهلوا بعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ] ولو شرع لهم الطواف قبل الخروج لم يتفقوا على تركه

استحباب المبيت يوم التروية وليلة عرفة بمنى
مسألة : قال : ومضى إلى منى فصلى بها الظهر إن أمكنه لأنه روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه صلى بمنى خمس صلوات ]
وجملة ذلك أن المستحب أن يخرج محرما من مكة يوم التروية فيصلي الظهر بمنى ثم يقيم حتى يصلي بها الصلوات الخمس ويبيت بها لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك كما جاء في حديث جابر وهذا قول سفيان و مالك و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وليس ذلك واجبا في قولهم جميعا قال ابن المنذر : ولا أحفظ عن غيره خلافهم وتخلفت عائشة ليلة التروية حتى ذهب ثلثا وصلى ابن الزبير بمكة

فإذا صادف يوم التروية يوم الجمعة
فصل : فإن صادف يوم التروية يوم الجمعة فيمن أقام بمكة تزول الشمس ممن تجب عليه الجمعة لم يخرج حتى يصليها لأن الجمعة فرض والخروج إلى منى في ذلك الوقت غير فرض فأما قبل الزوال فإن شاء خرج وإن شاء أقام حتى يصلي فقد روي أن ذلك وافق أيام عمر بن العزيز فخرج إلى منى وقال عطاء كل من أدركت يصنعونه أدركتهم يجمع بمكة إمامهم ويخطب ومرة لا يجمع ولا يخطب فعلى هذا إذا خرج الإمام أمر بعض من تخلف أن يصلي بالناس والجمعة وقال أحمد : إذا كان والي مكة بمكة يوم الجمعة يجمع بهم قيل له يركب من منى فيجيء إلى مكة فيجمع بهم ؟ قال : لا إذا كان هو بعد بمكة

الوقوف بعرفة
مسألة : قال : فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة فأقام بها حتى يصلي الظهر والعصر بإقامة لكل صلاة وإن أذن فلا بأس وإن فاته مع الإمام صلى في رحله
وجملة ذلك أن المستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس يوم عرفة فيقيم بنمرة وإن شاء بعرفة حتى تزول الشمس ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف ووقته والدفع من عرفات ومبيتهم بمزدلفة وأخذ الحصا لرمي الجمار لما تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم فعل ذلك ثم يأمر بالأذان فينزل فيصلي الظهر والعصر يجمع بينهما ويقيم لكل كصلاة إقامة وقال أبو ثور : يؤذن المؤذن إذا صعد الإمام المنبر فجلس فإذا فرغ المؤذن قام الإمام فخطب وقيل : يؤذن في آخر خطبة الإمام وحديث جابر يدل على أنه أذن بعد فراغ النبي صلى الله عليه و سلم من خطبته وكيفما فعل فحسن وقوله وإن أذن فلا بأس كأنه ذهب إلى أنه مخير بين أن يؤذن للأولى أو لا يؤذن وكذا قال أحمد : لأن كلا مروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والأذان أولى وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك : يؤذن لكل صلاة واتباع ما جاء في السنة أولى وهو مع ذلك موافق للقياس كما في سائر المجموعات والفوائت وقول الخرقي : فإنه مع الإمام صلى في رحله يعني أن المفرد يجمع كما يجمع مع الإمام فعله ابن عمر وبه قال عطاء و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وصاحبا أبي حنيفة وقال النخعي و الثوري و أبو حنيفة : لا يجمع إلا مع الإمام فإذا لم يكن إمام رجعنا إلى الأصل
ولنا أن ابن عمر كان إذا فاته الجمع بين الظهر والعصر مع الإمام بعرفة جمع بينهما منفردا ولأن كل جميع جاز مع الإمام جاز منفردا كالجميع بين العشاء ين يجمع وقولهم : إنما جاز الجمع في الجماعة لا يصح لأنهم قد سلموا أن الإمام يجمع وإن كان منفردا
فصل : والسنة تعجيل الصلاة حين تزول الشمس وأن يقصر الخطبة ثم يروح إلى الموقف لما روى سالم أنه قال للحاج يوم عرفة : إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة فقال ابن عمر : صدق رواه البخاري ولأن تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال والسنة التعجيل في ذلك فقد روى سالم [ أن الحجاج أرسل إلى ابن عمر : أية ساعة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يروح في هذا اليوم قال : إذا كان ذاك رحنا فلما أراد ابن عمر أن يروح قال : أزاغت الشمس ؟ قالوا : لم تزغ فلما قد زاغت أرتحل ] رواه أبو داود وقال ابن عمر : [ غدا رسول الله صلى الله عليه و سلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه و سلم ] مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة وقد ذكرنا حديث جابر في هذا قال ابن عبد البر : هذا كله لا خلاف فيه بين علماء المسلمين
فصل : ويجوز الجمع لكل من بعرفة من مكي وغيره قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك من صلى مع الإمام وذكر أصحابنا أنه يجوز الجمع إلا لمن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخا إلحاقا له بالقصر وليس بصحيح لأن النبي صلى الله عليه و سلم جمع فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم ولم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم القصر حين قال : أتموا فانا سفر ولو حرم الجميع لبينه لهم إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يقر النبي صلى الله عليه و سلم على الخطأ وقد كان عثمان يتم الصلاة لأنه اتخذ أهلا ولم يترك الجمع وروي نحو ذلك عن ابن الزبير قال ابن أبي ملكية : وكان ابن الزبير يعلمنا المناسك فذكر أنه قال : إذا أفاض فلا صلاة إلا يجمع رواه الأثرم وكان عمر بن عبد العزيز والي مكة فخرج فجميع بين الصلاتين ولم يبلغنا عن أحمد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة ومزدلفة بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره والحق فيما أجمعوا عليه فلا يعرج على غيره
فصل : فأما الصلاة فلا يجوز لأهل مكة وبهذا قال عطاء و مجاهد و الزهري و ابن جريج و الثوري و يحيى و القطان و الشافعي وأصحاب الرأي وبان المنذر وقال القاسم بن محمد وسالم ومالك و الأوزاعي : لهم القصر لأن لهم الجمع فكان لهم العصر كغيرهم
ولنا أنهم في غير سفر بعيد فلم يجز لهم القصر كغير من في عرفة ومزدلفة قيل لأبي عبد الله : فرجل أقام بمكة ثم خرج إلى الحج قال : إن كان لا يريد أن يقيم بمكة إذا رجع صلى ثم ركعتين وذكر فعل ابن عمر قال : لأن خروجه إلى منى وعرفة ابتداء سفر فإن عزم على أن يرجع فيقيم بمكة أتم بمنى وعرفة
مسألة : قال : ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل وعرفة كلها موقف ويرفع عن بط عرنة فإن لا يجزئه الوقوف فيه
يعني إذا صلى الصلاتين صار إلى الوقوف بعرفة ويستحب أن يغتسل للوقوف كان ابن مسعود يفعله وروي عن علي وبه ويقول الشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر : لأنه مجمع للناس فاستحب الاغتسال لها كالعيد والجمعة وعرفة كلا موقف ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قد وقفت ههنا وعرفه كلها موقف ] رواه أبو داود وابن ماجة و [ عن يزيد بن شيبان قالب : أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال : إني رسول الله صلى الله عليه و سلم إليكم يقول : كونوا على مشاعركم فإنكم على ارث من ارث أبيكم إبراهيم ] وحد عرفة من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر وليس وادي عرنة من المواقف ولا يجزئه الوقوف فيه قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن وقف به لا يجزئه وحكي عن مالك أنه يهريق دما وحجه تام
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل عرفة موقف وارفعوا على بطن عرنة ] رواه ابن ماجة ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزئه كما لو وقف بمزدلفة والمستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبل القبلة لما جاء في حديث جبار أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة
فصل : والأفضل أن يقف راكبا على بعيره كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم فإن ذلك أعون له على الدعاء قال أحمد حين سئل عن الوقوف راكبا فقال : النبي صلى الله عليه و سلم وقف على راحتله وقيل الراجل أفضل لأنه أخف على الراحلة ويحتمل التسوية بينهما
فصل : والوقوف ركن لا يتم الحج إلا به إجماعا وقد روى الثوري عن بكير بن عطاء الليثي عن عبد الرحمن بن نعم الديلي قال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد فقالوا : يا رسول الله كيف الحج ؟ قال : الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه ] رواه أبو داود و ابن ماجة قال محمد بن يحيى : ما أرى للثوري حديثا أشرف منه
مسألة : قال : فيكبر ويهلل ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس
يستحب الاكثار من ذكر الله تعالى والدعاء يوم عرفة فإن يوم ترجى فيه الإجابة : ولذلك أحببنا له الفطر يومئذ ليتقوى على الدعاء مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين وروى ابن ماجة في سننه قال : قالت عائشة رضي الله عنها [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة فإنه ليدنو عز و جل ثم يباهي بكم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ] رواه مسلم ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة لا إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ] وكان ابن عمر يقول : الله أكبر ولله الحمد الله أكقبر ولله الحمد الله أكبر الله أكبر ولله الحمد لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد اللهم اهدني بالهدى وقني بالتقوى واغفر لي في الآخرة والأولى ويرد يديه ويسكت كقدر ما كان إنسان قارئا فاتحة الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك ولم يزل يفعل مثل ذلك حتى أفاض وسئل سفيان بن عيينه عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فقيل له : هذا ثناء وليس بدعاء فقال : أما سمعت قو الشاعر :
( أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك أن شيمتك الحباء )
( إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء )
وروى من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة : [ اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي تعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليه ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خشعت لك رقبته وذل لك جسده وفاضت لك عينه ورغم لك أنفه ] روينا عن سفيان الثوري أنه قال : سمعت أعرابيا وهو مستلق بعرفة يقول : إلهي من أولى بالزلل والتقصير منى وقد خلقتني ضعيفا ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق وأمرك بي محيط أطعتك بإذنك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ولم أسئ حتى قضيت علي اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك شهادة إن له إله إلا الله ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك الشرك بك فاغفر لي ما بينهما اللهم أنت أنس المؤنسين لأوليائك وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك تشاهدهم في ضمائرهم وتطلع على سرائرهم وسري اللهم لك مكشوف وأنا إليك ملهوف إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك وإذا أصمت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك عليما بأن أزمة الأمور بيدك ومصدرها عن قضائك وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول : الهم قد آوتني من ضناي وبصرتني من عماي وأنقذتني من جهلي وجفائي أسألك ما يتم به فوزي وما أؤمل في عاجل دنياي وديني ومأمول أجلي ومعادي ثم ما لا أبلغ أداء شكره ولا أنال إحصاءه وذكره إلا بتوفيك وإلهامك إن هيجت قلبي القاسي على الشخص إلى حرمك وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك ونقلت بدني لاشهادي مواقف حرمك اقتداء بسنة خليلك واحتذاء على مثال رسولك واتباعا لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك صلى الله عليهم وأدعوك في مواقف والأنبياء عليهم السلام ومناسك السعداء ومساجد الشهداء دعاء من أتاك لرحمتك راجيا وعن وطنه نائيا ولقضاء نسكه مؤديا ولفرائضك قاضيا ولكتابك تاليا ولربه عز و جل داعيا ملبيا ولقلبه شاكيا ولذنبه خاشيا ولحظة مخطئا ولرهنه مغلقا ولنفسه ظالما وبجرمه عالما دعاء من عمت عيوبه وكثرت ذنوبه وتصرمت أيامه واشتدت فاقته وانقطعت مدته دعاء من ليس لذنبه سواك غافرا ولا لعيبه غيرك مصلحا ولا لضعفه غيرك مقويا ولا لكسره غيرك جابرا ولا لمأمول خير غيرك معطيا ولا لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقا اللهم وقد أصبحت في بلد حرام في شهر حرام في قيام من خير الانام أسألك أن تجعلني أشقي خلقك المذنبين عند ولا أخيب الراجين لديك لا أحرم الآملين لرحمتك الزائرين لبيتك ومن مظالمي ما قد أحصيت من بلادك اللهم وقد كان تقصيري ما قد عرفت ومن توبيقي نفسي ما قد فرجت ودعاء قد استجيبت وشدة قد أزلت ورخاء قد أنلت منك النعماء وحسن القضاء ومني الجفاء وطول الاستقصاء والتقصير عن أداء شكرك لك النعماء يا محمود فلا يمنعنك يا محمود من اعطائي مسألتي من حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤالي ما تعرف من تقصيري وما تعلم من ذنوبي وعيوبي اللهم فأدعوك راغبا وأنصب لك وجهي طالبا وأضع لك خدي مذنبا راهبا فتقبل دعائي وارحم ضعفي واصلح الفساد من أمري واقطع من الدنيا همي وحاجتي واجعل فيما عند رغبتي اللهم واقلبي منقلب المدركين لرجائهم المقبول منقلب من لا يعصي لك بعده أمرا ولا يأتي من بعده مأثما ولا يركب بعده جهلا ولا يحمل بعده وزرا منقلب من عمرت قلبه بذكرك ولسانه بشكرك وطهرت الأدناس من بدنه واستودعت الهدي قلبه وشرحت بالإسلام صدره وأقررت بعفوك قبل الممات عينه وأغضضت عن المآثم بصره واستشهدت في سبيلك نفسه يا أرحم الراحمين وصلى لله علي سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا كما تحب وبنا وترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وقول الخرقي : إلى غروب الشمس معناه ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسل موقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر وفي حديث علي وأسامة أن النبي صلى الله عليه و سلم دفع حين غابت الشمس فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء إلا مالكا قال : لا حج له قال ابن اعبد البر : لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك وحجته ما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل ]
ولنا ما [ روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت : يا رسول الله إني جئت من جبل وطي أكللت راحلتي وأتبعت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أونهارا فقد تم حجه وقضي تفثه ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ولأنه وقف في زمن الوقوف فأجزأه كالليل فأما خبره فإنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار فهو آخر وقت الوقوف كما [ قال عليه السلام : من أدرك ركعت من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ]
وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم وقال ابن جريج عليه بدنة وقال الحسن البصري عليه هدي من الإبل ولنا أنه واجب لا يفسد الحج بفواته فلم يوجب البدنة كالإحرام من الميقات
فصل : فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس فلا دم عليه وبهذا قال مالك والشافعي وقال الكوفيون وأبو ثور عليه دم لأنه بالدفع لزمه الدم فلم يسقط برجوعه كما لو عاد بعد غروب الشمس
ولنا أنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الميقات غير محرم ثم رجع فأحرم منه فإن لم يعد حتى غربت الشمس فعله دم لأن عليه الوقوف حال الغروب وقد فاته بخروجه فأشبه من تجاوز الميقات غير محمر فأحرم دونه ثم عاد إليه ومن لم يدرك جزءا من النهار ولا جاء عرفة حتى غابت الشمس فوقف ليلا فلا شيء عليه وحجه تام لا نعلم مخالفا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك عرفات بليل ] ولأنه لم يدرك جزءا من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه
فصل : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر م يوم النحر لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر قال جابر : لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع قال أبو الزبير : فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك ؟ قال : نعم رواه الأثرم وأما أوله فمن طلوع الفجر يوم عرفة فمن أدرك عرفة في شيء من هذا الوقت وهو عاقل فقد تم حجه وقال مالك و الشافعي أول وقته زوال الشمس من يوم عرفة واختاره أبو حفص العكبري وحمل عليه كلام الخرقي وحكى ابن عبد البر ذلك إجماعا وظاهر كلام الخرقي ما قلناه فإنه قال : ولو وقف بعرفة نهارا ودفع قبل الإمام فعليه دم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ] ولأنه يم يوم عرفة فكان وقتا للوقوف كبعد الزوال وترك الوقوف لا يمنع كونه وقتا للوقوف كبعد العشاء وإنما وقفوا في وقت الفضيلة ولم يستوعبوا جميع وقت الوقوف
فصل : وكيفما حصل بعرفة وهو عاقل أجزأه قائما أو جالسا أو راكبا أو نائما وإن مر بها مجتازا فلم يعلم أنها عرفة أجزأه أيضا وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وقال أبو ثور لا يجزئه لأنه لا يكون واقفا إلا بإرادة
ولنا عموم قوله صلى الله عليه و سلم : [ وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا ونهارا ] ولأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف وهو عاقل فأجزأه كما لو علم وإن وقف وهو مغمى عليه أو مجنون ولم يفق حتى خرج منها لم يجزئه وهو قول الحسن و الشافعي و أبي ثور و إسحاق و ابن المنذر وقال عطاء في المغمى عليه يجزئه وهو قول مالك وأصحاب الرأي وقد توقف أحمد رحمه الله في هذه المسألة وقال : الحسن يقول : بطل حجه وعطاء يرخص فيه وذلك لأنه لا يعبر له نية ولا طهارة ويصح من النائم فصح من المغمى عليه كالمبيت بمزدلفة ومن نصر الأول قال : ركنا من أركان الحج فلم يصح من المغمى عليه كسائر أركانه قال ابن عقيل : والسكران كالمغمى عليه لأنه زائل العقل بغير نوم فأشبه المغمى عليه وأما النائم فيجزئه الوقوف لأنه في حكم المستيقظ
فصل : ولا يشترط للوقوف طهارة ولا ستارة ولا استقبال ولا نية ولا نعلم في ذلك خلافا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوقوف بعرفة غير طاهر يندرك للحج ولا شيء عليه وفي [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة : افعلي ما يفعله الحاج غير الطواف بالبيت ] دليل على أن الوقوف بعرفة على غير طهارة جائز ووقفت عائشة رضي الله عنها بها حائضا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم ويستحب أن يكون طاهرا قال أحمد : يستحب له أن يشهد المناسك كلها على وضوء كان عطاء يقول : لا يقضي شيئا من المناسك إلا على وضوء

المبيت بمزدلفة
مسألة : قال : فإذا دفع الإمام دفع معه إلى مزدلفة
الإمام هنا الوالي الذي إليه أمر الحج من قبل الإمام ولا ينبغي للناس أن يدفعوا حتى يدفع قال أحمد : ما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام وسئل عن رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس فقال : ما وجدت عن أحد أنه سهل فيه كلهم يشدد فيه والمستحب أي يقف حتى يدفع الإمام ثم يسير نحو المزدلفة على سكينة ووقار لقول النبي صلى الله عليه و سلم حين دفع وقد شنق لناقته القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده المينى : [ أيها الناس السكينة السكينة ] هذا في حديث جابر وروي [ عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم عرفة فسمع النبي صلى الله عليه و سلم ورأى زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بصوته إليهم وقال : أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بإيضاع الإبل ] رواه البخاري و [ قال عروة : سئل أسامة وأنا جالس : كيف كان رسول الله يسير في حجة الوداع ؟ قال : كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ] قال هشام بن عروة : النص فوق العنق متفق عليه
مسألة : قال : ويكبر في الطريق ويذكر الله تعالى
ذكر الله تعالى يستحب في الأوقات كلها وهو في هذا الوقت أشد تأكيدا لقوله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } ولأنه زمن الاستشعار والتلبيس بعبادته والسعي إلى شعائره ويستحب التلبية وذكر وقم أنه لا يلبي
ولنا ما روى الفضل بن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة ] متفق عليه وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : شهدت ابن مسعود يوم عرفة وهو يلبي فقال له رجل كلمة فسمعته زاد في تلبيته شيئا لم أسمعه قبل ذلك قالها : لبيك عدد التراب ويستحب أن يمضي على طريق المأزمين لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه و سلم سلكها وإن سلك الطريق الأخرى جاز
مسألة : قال : ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة بإقامة لكل صلاة فإن جمع بينهما بإقامة واحدة فلا بأس
وجملة ذلك أن السنة لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء لا خلاف في هذا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم إن السنة أن يجمع الحاج بين المغرب والعشاء والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم جميع بينهما رواه جابر و ابن عمر و أبو أيوب وغيرهم وأحاديثهم صحاح ويقيم لكل صلاة إقامة لما [ روى أسامة بن زيد قال : دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فقلت له : الصلاة يا رسول الله الصلاة أمامك فركب فما جاء مزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما ] متفق عليه وروي هذا القول عن ابن عمر وبه قال سالم والقاسم بن محمد و الشافعي و إسحاق وإن جمع بينهما بإقامة الأولى فلا بأس يروى ذلك عن ابن عمر أيضا وبه قال الثوري لما روى ابن عمر قال : [ جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المغرب والعشاء بجمع صلى المغرب ثلاث والعشاء ركعتين بإقامة واحدة ] رواه مسلم وإن أذن للأولى وأقام ثم أقام للثانية فسحن فإنه يروى في حديث جابر وهو متضمن للزيادة وهو معتبر بسائر الفوائت والمجموعات وهو قول ابن المنذر وأبي ثور والذي أختار الخرقي إقامة لكل صلاة من غير أذان قال ابن المنذر : وهو آخر قولي أحمد لأنه رواية أسامة وهو أعلم بحال النبي صلى الله عليه و سلم فإنه كان رديفه وقد اتفق هو وجابر في حديثهما على إقامة لكل صلاة واتفق أسامة وابن عمر على الصلاة بغير أذان مع أن حديث ابن عمر المتفق عليه قال بإقامة قال : وإنما لم يؤذن للأولى ههنا لأنها في غير وقتها بخلاف المجوعتين بعرفة وقال مالك يجمع بينهما بأذان وإقامتين وروي ذلك عن عمر وابن عمر وابن مسعود واتباع السنة أولى قاب ابن عبد البر لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا بوجه من الوجوه وقال قوم : إنما أمر عمر بالتأذين للثانية لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم فأذن لجمعهم وكذلك ابن مسعود فإنه يجعل العشاء بالمزدلفة بين الصلاتين
مسألة : قال : وإن فاته مع الإمام صلى وحده
معناه أنه يجمع منفردا كما يجمع الإمام ولا خلاف في هذا لأن الثانية مهما تصلي في وقتها بخلاف العصر مع الظهر وكذلك إن فرق بينهما لم يبطل الجمع كذلك ولما روى أسامة قال : ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها وروى البخاري [ عن عبد الرحمن بن يزيد قال : حج عبد الله فأتينا إلى مزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب ثم صلى بعدها ركعتين ثم عاد بعشائه ثم أمر - أرى - فإذن وأقام ثم صلى العشاء ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعله ] ولأن الجمع متى كان في وقت الثانية لم يضر التفريق شيئا
فصل : والسنة التعجيل بالصلاتين وإن يصلي قبل حط الرحال لما ذكرنا من حديث أسامة وفي بعض ألفاظة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا ] رواه مسلم والسنة أن لا يتطوع بينهما قال ابن المنذر : ولا أعلمهم يختلفون في ذلك وقد روي عن ابن مسعود أنه تطوع بينهما رواه عن النبي صلى الله عليه و سلم
ولنا حديث أسامة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يصل بينهما وحديثهما أصح وقد قدم في ترك التفريق بينهما
فصل : فإن صلى المغرب قبل أن يأتي مزدلفة ولم يجمع خالف السنة وصحت صلاته وبه قال عطاء و عروة و القاسم بن محمد و سعيد بن جبير و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو يوسف و ابن المنذر وقال أبو حنيفة و الثوري : لا يجزئه ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جمع بين الصلاتين فكان نسكا وقد قال : خذوا عني مناسككم ]
ولنا أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق بينهما كالظهر العصر بعرفة وفعل النبي صلى الله عليه و سلم محمول على الأولى والأفضل ولئلا ينقطع سيره ويبطل ما ذكروه بالجمع بعرفة
مسألة : قال : فإذا صلى الفجر وقف عند المشعر الحرام فدعا
يعني أنه يبيت بمزدلفة حتى يطلع الفجر الصبح والسنة أن يعجلها في أول وقتها ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام وفي حديث جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى حين تبين له الصبح ] وفي حديث ابن مسعود [ أنه صلى الفجر حين طلع الفجر ] قائل يقول : قد طلع الفجر وقائل يقول : لم يطلع ثم قال في آخر الحديث : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يفعله رواه البخاري نحو هذا ثم إذا صلى الفجر وقف عند المشعر الحرام وهو فزح فيرقي عليه إن أمكنه وإلا وقف عنده فذكر الله تعالى ودعا واجتهد قال الله تعالى : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى المشعر الحران فرقي عليه فدعا الله وهلله وكبره ووحده ويستحب أن يكون من دعائه : اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا فوقفنا لذكرك كما هديتنا واغفر لها وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } ويقف حتى يسفر جدا لما في حديث جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا ]
فصل : وللمزدلفة ثلاثة أسماء : مزدلفة وجمع المشعر والحرام وحدها من مأزمي عرفة إلى قرن محسر وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ففي أي موضع وقف منها أجزأه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المزدلفة موقف ] رواه أبو داود و ابن ماجة وعن جابر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : وقفت ههنا بجمع وجمع كلها موقف ] وليس وادي محسر من مزدلفة لقوله : [ وارفعوا عن بطن محسر ]
فصل : والمبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم هذا قول عطاء و الزهري و قتادة و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال علقمة و النخعي و الشعبي : من فاته جمع فاته الحج لقول الله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ]
ولنا [ قول النبي صلى لله عليه وسلم : الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه ] يعني من جاء عرفة وما احتجوا به من الآية والخبر فالمنطوق فيهما ليس بركن في الحج إجماعا فإنه لو بات بجمع ولم يذكر الله تعالى ولم يشهد الصلاة فيها صح حجة فما هو من ضرورة ذلك أولى ولأن المبيت ليس من الضرورة ذكر الله تعالى بها وكذلك شهود صلاة الفجر فإنه لو أفاض من عرفة في آخر ليلة النحر أمكنه ذلك فيتعين حم ذلك على مجرد الإيجاب أو الفضيلة أو الاستحباب
فصل : ومن بات بمزدلفة لم يجز له الدفع قبل النصف الليل فإن دفع بعده فلا شيء عليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك : إن مر بها ولم ينزل فعليه دم فإن لنزل فلادم عليه متى ما دفع
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم بات بها وقال : [ خذوا عني مناسككم ] وإنما أبيح الدفع بعد النصف الليل بما ورد من الرخصة فيه فـ [ روى ابن عباس قال : كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه و سلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى ] وعن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند دار المزدلفة فقامت تصلي فصلت ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم قالت : فارتحلوا فارتحنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها قلت لها : أي هنتاه ما أرانا إلا غلسنا قالت : كلا يا بني إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لظعن متفق عليهما و [ عن عائشة قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمر قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ] رواه أبو داود فمن دفعه من جمع قبل نصف الليل ولم يعد في الليل فعليه دم فإن عاد فيه فلا دم عليه كالذي دفع من عرفة نهارا ولم يوافق مزدلفة إلا في النصف الأخير من الليل فلا شيء عليه لأنه لم يدرك جزءا من النصف الأول فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار والمستحب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم في المبيت إلى أن يصبح ثم يقف حتى يسفر ولا بأس بتقديم الضعفة والنساء وممن كن يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة وبه قال عطاء و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ولأن فيه رفقا بهم ودفعا لمشقة الزحام عنه واقتداء بفعل نبيهم صلى الله عليه و سلم

الذهاب من مزدلفة
مسألة : قال : ثم يدفع قبل طلوع الشمس
لا نعلم خلافا في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يفعله [ قال عمر : إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير وإن رسول الله صلى لله عليه وسلم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس ] رواه البخاري والسنة أن يقف حتى يسفر جدا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وكان مالك يرى الدفع قبل الاسفار
ولنا ما روى جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس ] وعن نافع أن ابن الزبير أخر في الوقت حتى كادت الشمس تطلع قال ابن عمر : إني أراه يريد أن يصنع كما يصنع كما صنع أهل الجاهلية فدفع ودفع الناس معه وكان ابن مسعود يدفع كانصراف القوم المسفرين من صلاة الغداة انصرف ابن عمر حين أسفر وأبصرت الإبل موضع أخفافها ويستحب أن يسير وعليه السكينة كما ذكرنا في سيرة من عرفات [ قال ابن عباس ثم أردف النبي صلى الله عليه و سلم الفضل بن عباس وقال : يا أيها الناس إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل فعليكم بالسكينة فما رأيتها رافعة حتى أتى منى ]
مسألة : قال : فإذا بلغ محسرا أسرع ولم يقف حتى يأتي منى وهو مع ذلك ملبيا
يستحب الإسراع في وادي محسر وهو ما بين جمع ومنى فإن كان ماشيا أسرع وإن كان راكبا حرك دابته لأن جابراقال في صفة تحج النبي صلى الله عليه و سلم : أنه لما أتى بطن محسر حرك قليلا ويروى أن عمر رضي الله عنه لما أتى محسر أسرع وقال
إليك تعدو قلقا وضينها مخالفا دين النصارى دينها معترضها في بطنها جنينها
وذلك قدر رمية يحجر ويكون ملبيا في طريقه فإن الفضل بين عباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة ] متفق عليه وفي لفظ عنه قال : [ شهدت الافاضتين مع رسول الله صلى عليه وسلم وعليه السكينة وهو كاف بعيره ولبى حتى رمى جمرة العقبة ] وعن الأسود قال : أفاض عمر عشية عرفة وهو يلبي بثلاث : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك ولأن التلبية من شعار الحج فلا يقطع إلا بالشروع في الإحلال وأوله رمي جمرة العقبة

حصار الجمار
مسألة : قال : ويأخذ حصى الجمار من طريقة أو من مزدلفة
إنما يستحب ذلك لئلا يشتغل عند قدومه بشيء قبل الرمي فإن الرمية تحته له كما أنا الطواف تحية المسجد فلا يبدأ بشيء قبله وكان ابن عمر يأخذ الحصى من جمع وفعله سعيد بن جبير وقال : كانوا يتزودون الحصى من جمع واستحبه الشافعي وعن أحمد قال : خذ الحصى من حيث شئت وهو قول عطاء و ابن المنذر وهو أصح إن شاء الله تعالى لأن الله تعالى ل [ أن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة العقبة وهو على ناقته : القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل يقبضهن في كفه ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ثم قال : أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ] رواه ابن ماجة وكان ذلك بمنى ولا خلاف في إنه يجزئه أخذه من حيث كان والتقاط الحصى ألوى من تكسيره لهذا الخبر ولأنه لا يؤمن في التكسير أن يطير إلى وجهه شيء يؤذيه ويستحب أن تكون الحصيات كحصى الخذف لهذا الخبر ولقول جابر في حديه : كل صحة منها مثل حصى الخذف وروى سليمان بن عمرو الأحوص عن أمه قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا أيها الناس إذا رأيتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف ] رواه أبو داود قال الأثرم : يكون أكبر من الحمص ودون البندق وكان ابن عمر يرمي بمثل بعر الغنم فإن رمى بحجر كبير فقد روي عن أحمد أنه قال : لا تجزئه حتى يأتي بالحصى على ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بهذا القدر ونهى عن تجاوزه والأمر يقتضى الوجوب والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولأن الرمي بالكبير ربما آذى من يصيبه وقال بعض أصحابنا : يجزئه مع تركه للسنة لأنه قد رمى بالحجر وكذلك الحكم في الصغير
فصل : ويجزئ الرامي بكل ما يسمى حصا وهي الحجارة الصغر سواء كان أسود أو أبيض أو أحمر من المرمر أو البرام أو المرور وهو الصوان أو الرخام أو الكذان أو حجر السمن وهو قول مالك و الشافعي وقال القاضي : لا يجزئه الرخام ولا البرام والكذان ويقتضي قوله أن لا يجزئ المرو ولا حجر المسن وقال أبو حنيفة : يجوز بالطين والمدر وما كان من جنس الأرض ونحوه قال الثوري وروي عن سكينة بنت الحسين أنه رمت الجمرة ورجل يناولها الحصا وتكبر مع كل حصاة وسقطت حصاة فرمت بخاتمها
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم رمى بالحصا وأرم بالرمي مثل حصى الخذف فلا يتناول غير الحصى ويتناول جميع أنواعه فلا يجوز تخصيصه بغير دليل ولا إلحاق غيره به لأنه موضع لا يدخل القياس فيه
فصل : إن رمي بحجر أخذ من المرمى لم يجزه وقال الشافعي : يجزئه لأنه حصى فيدخل في العموم
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ من غير المرمى وقال : خذوا عني مناسككم ] ولأنه لو جاز الرمي بما رمى به لما احتاج أحد إلى أخذ الحصى من غير مكان ولا تكسره والإجماع على خلافه ولأن ابن عباس قال : ما يقبل منها يرفع وإن رمى بخاتم فضة حجرا لم يجزه في أحد الوجهين لأنه تبع والرمي بالمتبوع لا التابع
مسألة : قال : والإستحباب أن يغسله
اختلف عن أحمد في ذلك فروي عنه أنه مستحب لأنه روي عن ابن عمر أنه غسله وكان طاوس يفعله وكان ابن عمر يتحرى سنة النبي صلى الله عليه و سلم وعن أحمد أنه لا يستحب وقال : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم وهذا صحيح وهو قول عطاء و مالك وكثير من أهل العلم فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما لقطت له الحصيات وهو راكب على بعيره يقبضهن في يده لم يغسلهن ولا أمر بغسلهن ولا فيه معنى يقتضبه فإن رمى بحجر نجس أجزأه لأنه حصاة ويحتمل أن لا يجزئه لأنه يؤذي به العبادة فاعتبرت طهارته كحجر الاستجمار وتراب التيمم وإن غسله ورمى به أجزأه وجها واحدا
وعدد الحصى سبعون حصاة يرمي منها بسبع يوم النحر وسائرها في أيام منى والله أعلم

رمي جمرة العقبة
مسألة : قال : فإذا وصل منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة ولا يقف عندها
حد منى ما بين جمرة العقبة ووادي محسر كذلك قال عطاء والشافعي : وليس محسر والعقبة من منى ويستحب سلوك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبر فإن النبي صلى الله عليه و سلم سلكها كذا في حديث جابر فإذا وصل منى بدأ بجمرة العقبة وهي آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة وكذلك سميت جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي ويستقبل القبة ثم ينصرف ولا يقف وهذا بجملته قول من علمنا قوه من أهل العلم وإن رماها من فوقها جاز لأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة فرماها من فوقها والأول أفضل لما روى عبد الرحمن بن يزيد أنه مشى مع عبد الله وهو يرمي الجمرة فما كان في بطن الوادي أعرضها فرماها فقيل له : إن ناسا يرمونها من فوقها فقال من ههنا والذي لا إله إلا هو رأيت أنزلت عليه سورة البقرة رماها متفق عليه وفي لفظ لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمي بسبع حصيات ثم قال : والله الذي لا إله غيره من ههنا رمي الذي أنزلت عليه سورة البقرة قال الترمذي : وهذا حديث صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن عمر وابن عباس رويا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف ] رواه ابن ماجة ويكبر مع كل حصاة لأن جابرا قال : فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة وإن قال : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا مشكورا فحسن فإن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان نحو ذلك وروى حنبل في المناسك بإسناده [ عن زيد ابن أسلم قال : رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة : الله أكبر الله أكبر ثم قال : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا مشكورا فسألته عما صنع فقال : حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه و سلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى حصاة مثل ما قلت ] : وقال إبراهيم النخعي : كانوا يحبون ذلك
فصل : ويرميها راكبا أو راجلا كيفما شاء لأن النبي صلى الله عليه و سلم رماها على راحلته رواه جابر وابن عمر وأم أبي الأحوص وغيرهم [ قال جابر : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ] رواه مسلم وقال نافع : كان ابن عمر يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا ذاهباص وراجعا وزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا أو راجعا رواه أحمد في المسند وفي هذا بيان للتفريق بين هذه الجمرة وغيرها ولأن رمي هذه الجمرة مما يستحب البداية به في هذا اليوم عند قدومه ولا يسن عندها وقوف ولو سن له المشي إليها لشغله النزول عن البداية بها والتعجيل إليها بخلاف سائرها
فصل : ولرمي هذه الجمرة وقتان : وقت فضيلة ووقت أجزاء فأما وقت الفضيلة فبعد طلوع الشمس قال ابن عبد البرك أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما رماها ضحى ذلك اليوم وقال جابر : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس ] أخرجه مسلم و [ قال ابن عباس : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أغيلمة بني عبد المطلب على أحمرات لنا من جمع فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول : أبني عبد المطلب لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ] رواه ابن ماجة وكان رميها بعد طلوع الشمس يجزئ بالإجماع وكان أولى وأما وقت الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر وبذلك قال عطاء و ابن أبي ليلى و عكرمة بن خالد و الشافعي وعن أحمد أنه يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس وهو قول مالك وأصحاب الرأي وإسحاق وابن المنذر وقال مجاهد و الثوري و النخعي لا يرميها إلا بعد طلوع الشمس لما روينا من الحديث
ولنا ما روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أم سليمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مشت فأفاضت ] ! وروي أنه أمرها أن تعجل الإفاضة وتوافي مكة بعد صلاة الصبح واحتج به أحمد وقد ذكرنا في حديث أسماء أنها رمت ثم رجعت فصلت الصبح وذكرت أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن للظعن ولأنه وقت للدفع من مزدلفة وكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب وإن أخر الرمي إلى آخر النهار جاز قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن ذلك مستحبا لها وروى ابن عباس قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يسأل يوم النحر بمنى قال رجل : رميت بعدما أمسيت فقال : لا حرج ] رواه البخاري فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى يزول الشمس من الغد وبهذا قال أبو حنيفة و إسحاق وقال الشافعي و محمد بن المنذر و يعقوب يرمي ليلا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ارم ولا حرج ]
ولنا أن ابن عمر قال : من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ارم ولا حرج ] إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم النحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس وقال مالك : يرمي ليلا وعليه دم ومرة قال : لا دم عليه
فصل : ولا يجزئه الرمي إلا أن يقع الحصا في المرمي فإن وقع دونه لم يجزئه في قولهم جميعا لأنه مأمور بالرمي ولم يرم وإن طرحها طرحا أجزأه لأنه يسمى رميا وهذا قول أصحاب الرأي وقال ابن القاسم لا يجزئه وإن رمى حصاة فوقعت في غير المرمى فأطارت حصاة أخرى فوقعت في المرمي لم يجزه لأن التي رماها لم تقع في المرمى وإن رمى حصاة فالتقهما طائر قبل وصولها لم يجزه لأنها لم تقع في المرمى وإن وقعت على موضع صلب في غير المرمي ثم تدحرجت على المرمي أو على ثوب إنسان ثم طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأن حصوله بفعله وإن نفضها ذلك الإنسان عن ثوبه فوقعت في المرمى فعن أحمد رحمه الله أنها تجزئه لأنه انفرد برميها وقال ابن عقيل : لا يجزئه لأن حصولها في المرمى بفعل الثاني فأشبه ما لو أخذها بيده فرمى بها وإن رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمى أو لا يجزئه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك وإن كان الظاهر أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل وإن رمى الحصاة دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة نص عليه أحمد وهو قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال عطاء : يجزئه ويكبر لكل حصاة
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رمى سبع رميات وقال : خذوا عني مناسككم ] قال بعض أصحابنا : ويستحب أن يرفع يديه في الرمي حتى يرى بياض أبطه

قطع التلبية عند رمي جمرة العقبة
مسألة : قال : ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي
وممن قال : يلبي حتى يرمي الجمرة ابن مسعود وابن عباس وميمونة وبه قال عطاء و طاوس و سعيد بن جبر و النخعي و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن سعد بن أبي وقاس وعائشة يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف وعن علي وأم سلمة أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة وهذا قريب من قول سعيد وعائشة وكان الحسن يقول : يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة ومالك : يقطع التلبية إذا راح إلى المسجد
ولنا أن الفضل بن عباس روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وكان رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره وقول النبي صلى الله عليه و سلم وفعله مقدم على كل من خالفه واستحب قطع التلبية عند أول حصاة رواه حنبل في المناسك وهذا بيان يتعين الأخذ به وفي رواية من روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكبر مع كل حصاة ] دليل على أنه لم يكن يلبي ولأنه يتحلل بالرمي فإذا شرع فيه قطع التلبية كالمعتمر يقطع التلبية بالشروع في الطواف

نحر الهدي وتوزيعه النحر للإبل والذبح لسواها
مسألة : قال : ثم ينحر إن كان معه هدي
وجملة ذلك أنه إذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر لم يقف وانصرف فأول شيء يبدأ به نحر الهدي إن كان معه هدي واجبا أو تطوعا فإن لم يكن معه هدي وعليه هدي واجب اشتراه وإن لم يكن عليه واجب فأحب أن يضحي اشترى ما يضحي به وينحر الإبل ويذبح ما سواها والمستحب أن يتولى ذلك بيده وإن استناب غيره جاز هذا قول مالك و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وذلك لما [ روى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم أنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ] وقال أنس [ نحر النبي صلى الله عليه و سلم بيده سبع بدنات قياما ] رواه البخاري
فصل : والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيضربها بالحرية في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ممن استحب ذلك مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر واستحب عطاء نحرها باركة وجوز الثوري وأصحاب الرأي كل ذلك
ولنا ما روى دينار بن جبير قال : رأيت ابن عمر أتى رجل أناخ بدنته لينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه وروى أبو داود بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها وفي قول الله تعالى : { فإذا وجبت جنوبها } دليل على أنها تنحر قائمة ويروى في تفسير قوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } أي قياما وتجزئه كيفما نحر قال أحمد : ينحر البدن معقولة على ثلاث قوائم وإن خشي عليها أن تنفر أناخها
فصل : ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة ويقول : بسم الله والله أكبر وإن قال : ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم فحسن قال ابن المنذر : ثبت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا ذبح يقول : بسم الله والله أكبر ] وكذلك يقول ابن عمر وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ذبح يوم العيد كبشين ثم قال حين وجهها : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين بسم الله والله أكبر والله هذا منك ولك عن محمد وأمته ] رواه أبو داود وإن اقتصر على التسمية ووجه الذبيحة إلى غير القبلة ترك الأفضل وأجزأه هذا قول القاسم بن محمد و النخعي و الشافعي و ابن المنذر وكان ابن عمر وابن سيرين يكرهان الأكل من الذبيحة توجه لغير القبلة والصحيح أن ذلك غير واجب ولم يقيم على وجوبه دليل
فصل : وقت نحر الأضحية والهدي ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده نص عليه أحمد وقال : هو عن غير واحد من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه و سلم ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس وبه قال مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر : وقال ابن سيرين يوم واحد وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد في الأمصار يوم واحد وبمنى ثلاثة
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الأكل من النسك فوق ثلاث وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل ثم نسخ تحريم الأكل وبقي وقت الذبح بحاله ولأن اليوم الرابع لا يجب فيه الرمي فلم يجز فيه الذبح كالذي بعد فأما الليالي المتخللة لأيام النحر فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ فيها ذبح الهدي والأضحية لأن اله تعالى قال : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } فذكر الأيام دون الليالي وقال غيره : من أصحابنا يجوز ليلتي يومي التشريق الأولتين وهو قول أكثر الفقهاء لأن هاتين الليلتين داخلتان في مدة الذبح فجاز الذبح فيهما كالأيام
فصل : وإذا نحر الهدي فرقة على المساكين من أهل الحرم وهو من كان في الحرم فإن أطلقها لهم جاز كما روى أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نحر خمس بدنات ثم قال : من شاء فليقتطع ] رواه أبو داود وإن فسلمنها فهو أحسن وأفضل ولا يعطي الجازر باجرته شيئا منا لما روي عن علي رضي الله عنه قال : أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن أقوم على بدنه وإن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها وإن لا أعطى الجازر منها شيئا وقال نحن نعطيه من عندنا متفق على معناه ولأنه بقسمها يكون على يقين من افضائها إلى مسحقها ويكفي المساكين مؤنة النهب والزحام عليها وإنما لم يعط الجازر باجرته منها لأنه ذبحها فعوضه عليه دون المساكين ولأن دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعة ولا يجوز بيع شيء منها وإن كان الجازر فقيرا فأعطاه لفقره سوى ما يعطيه أجره جاز لأنه مستحق الأخذ منها لفقره لا لأجره فجاز كغيره ويقسم جلودها وجلالها كما جاء في الخبر لأنه ساقها لله تعلى تلك الصفة فلا يأخذ شيئا مما جعل لله وقال بعض أصحابنا : لا يلزمه إعطاء جلالها لأه إنما أهدى الحيوان دون ما عليه
فصل : والسنة النحر بمنى لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر بها ؟ وحيث نحر من الحرم أجزأه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وطريق ] رواه أبو داود
فصل : وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك روي عن ابن عباس وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه عن سعيد بن جبير وقال مالك : أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم فإن ابتاعه من دون ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة جاز وقال في الهدي المجامع : إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه إلى مكة
ولنا أن المراد من الهدي نحره ونفع المساكين بلحمه بهذا لا يقف على شيء مما ذكروه ولم يرد بما قالوه دليل يوجبه فبقي على أصله

الحلق والتقصير وامرأة لا تحلق رأسها ولكن تقصر
مسألة : قال : ويحلق أو يقصر
وحملة ذلك أنه إذا نحر هدية فإنه يحلق رأسه أو يقصر منه لأن النبي صلى الله عليه و سلم حلق رأسه فروى أنس [ أن رسول الله صلى اله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحقله فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه ثم قال : ههنا أبو طلحة فدفعه إلى أبي طلحة ] رواه أبو داود والسنة أن يبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر لهذا الخبر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعجبه التيامن في شأنه كله فإن لم يفعل أجزأه لا نعلم فيه خلافا وهو مخير بين الحلق والتقصير أيهما فعل أجزأه في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه إلا أنه يروى عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة حجها ولا يصح هذا لأن الله تعالى قال : محلقين رؤوسكم ومقصرين ولم يفرق النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ رحم الله المحلقين والمقصرين ] وقد كان مع النبي صلى الله عليه و سلم من قصر فلم يعب عليه ولو لم يكن مجزيا لأنكر عليه الحلق أفضل ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رحم الله المحلقين قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : رحم الله المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال رحم الله المحلقين والمقصرين ] رواه مسلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم حلق واختلف أهل العلم فيمن لبد أو عقص أو ضفر فقال أحمد من فعل ذلك فليحلق وهو قول النخعي مالك و الشافعي و إسحاق وكان ابن عباس يقول : من لبد أو ضفر أو عقد أو فتل أو عقص فهو على ما نوى يعني إن نوى الحلق فليحلق وإلا يلزمه وقال أصحاب الرأي : هو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي التخيير على العموم ولم يثبت في خلاف ذلك دليل واحتج من نصر القول الأول بأنه روى [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من لبد فليحلق ] وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لبد رأسه وأه حلقه والصحيح أنه مخير إلا أن يثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم وقول عمر وابن قد خالفهما فيه ابن عباس وفعل النبي صلى الله عليه و سلم له لا يدل على وجوبه بعدما بين لهم جواز الأمرين
فصل : والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر مذهب أحمد وقول الخرقي وهو قول مالك و أبي حنيفة و الشافعي وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام فأطلق فيه عند الحل كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام فعلى هذه رواية لا شيء على تاركه ويحصل الحل بدونه ووجهها أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالحل من العمرة قبله ف [ روى أبو موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي : بم أهللت ؟ قلت : لبيك باهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أحسنت فأمرني فطفت بالبيت بين الصفا والمروة ثم قال لي : أحل ] متفق عليه وعن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سعى بين الصفا والمروة قال : من كان معه هدي فليحل وليجعلهما عمرة ] رواه مسلم وعن سراقة وعن سراقة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي ] رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم ولأن ما كان محرما في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقا من محظور كسائر محرماته والرواية الأولى أصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به فروى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل ] وعن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أحلوا إحرامكم بطواف البيت والمروة وقصروا ] وأرمه يقتضي الوجوب ولأن الله تعالى وصفهم به بقوله سبحانه : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد ولأن النبي صلى الله عليه و سلم ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصين مرة ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات ولأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم ولم يخلو به ولو لم يكن نسكا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة ولا فيه فضل لفضه وأما أمره بالحل فإنما معناه - والله أعلم - الحل بفعله لأن ذلك كان مشهورا عندهم فاستغنى عن ذكره ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيها كالسلام من الصلاة
فصل : ويجوز تأخير الحلق والتقصير إلى آخر النحر لأنه إذا جاز تأخير النحر المقدم عليه فتأخيره أولى فإن أخره عن ذلك ففيه روايتان إحداهما : لا دم عليه وبه قال عطاء و أبو يوسف و أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ولم يتبين آخره فمتى أتى به أجزأه كطواف الزيارة والسعي ولأنه نسك أجزأه إلى وقت جواز فعله فأشبه السعي وعن أحمد عليه دم بتأخيره وهو مذهب أبي حنيفة لأنه نسك أخره عن محله ومن ترك نسكا فعليه دم ولا فرق في تأخير بين القليل والكثير والعامد والساهي وقال مالك و الثوري و إسحاق و أبو حنيفة ومحمد ابن الحسن : من تركه حتى حل فعليه دم لأنه نسك فيأتي به في إحرام الحج كسائر مناسكه ولنا ما تقدم
فصل : والأصلع الذي لا شعر على رأسه يستحب أن يمر الموصى على رأسه روي ذلك عن ابن عمر وبه قال مسروق و سعيد بن جبير و النخعي و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الأصلع يمر الموسى على رأسه وليس ذلك واجبا وقال أبو حنيفة يجب ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] فهذا لو كان ذا شعر وجب عليه إزالته وامرار الموسى على رأسه فإذا سقط أحدهما لتعذره وجب الآخر
ولنا أن الحلق محله الشعر فسقط بعدمه كما يسقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده ولأنه امرار لو فعله في الإحرام لم يجب به دم فلم يجب عند التحلل كامراره على الشعر من غير حلق
فصل : ويستحب لمن حلق أو قصر تقليم إظفاره والأخذ ن شاربه لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله قال ابن المنذر ثبت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حلق رأسه قلم أظفاره ] وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره وكان عطاء و طاوس و الشافعي يحبون لو أخذ من لحيته شيئا ويستحب إذا حلق أن يبلغ العظم الذي عند منقطع الصدغ من الوجه كان ابن عمر يقول للحالق : ابلغ العظمين افصل الرأس من اللحية وكان عطاء يقول من السنة إذا حلق رأسه أن يبلغ العظمين
مسألة : قال : ثم قد حل له كل شيء إلا النساء
وجملة ذلك أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حل له كل ما كان محظورا بالإحرام إلا النساء هذا الصحيح من مذهب أحمد رحمه الله نص عليه في رواية جماعة فيبقى ما كان محرما عليه من النساء من الوطء والقبلة واللمس لشهوة وعقد النكاح ويحل له ما سواه هذا قول ابن الزبير وعائشة وعلقة و سالم و طاوس و النخعي وعبد الله بن الحسين و خارجة بن زيد و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وروي أيضا عن ابن عباس وعن أحمد أه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أغلظ المحرمات ويفسد انسك بخلاف غيره وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يحل له كل شيء إلا النساء والطيب وروي ذلك عن ابن عمر وعروة بن الزبير وعباد بن عبد الله بن الزبير لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة وعن عروة أنه لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب وروى في ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم حديثا
ولنا ما روت عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء ] رواه سعيد وفي لفظ [ إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء ] رواه السعيد وفي لفظ [ إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء ] رواه الأثرم و أبو داود إلا أن أبا داود قال : هو ضعيف رواه الحجاج عن الزهري ولم يلقه والذي أخرجه سعيد رواه الحجاج عن أبي بكر بن محمد بن عمرة عن عائشة [ قالت عائشة : طيبت رسول الله صلى الله عليه و سلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ] متفق عليه وعن سالم عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب : إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والسناء فقالت عائشة رضي الله عنها : أنا طبيب رسول الله صلى الله عليه و سلم فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع رواه سعيد وعن أم سلمة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم النحر : إن هذا يوم رخص لكم إذا رميتم أن تحلوا ] يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساء رواه أبو داود وعن عبد الله بن عباس أنه قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء فقال له رجل والطيب قال : أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يضمخ رأسه بالمسك أفطيبت ذلك أم لا ؟ رواه ابن ماجة وقال مالك : لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقوله الله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وهذا حرام وقد ذكرنا ما يرد هذا القول ويمنع أنه محرم وإنما بقي بعض أحكام الإحرام
فصل : ظاهر كلام الخرقي ها هنا أن الحل إنا يحصل بالرمي والحلق معا وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ] وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما ولأنهما نسكان يتعقبها الحل فكان حاصلا بهما كالطواف والسعي في العمرة وعن أحمد إذا رمى الجمرة فقد حل وإذا وطئ بعد جمرة العقبة فعليه دم ولم يذكر الحلق وهذا يدل على أن الحل بدون الحلق وهذا قول عطاء ومالك وأبي ثور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة : [ إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ] وكذلك قال ابن عباس قال بعض أصحابنا : هذا يبنى على الخلاف في الحلق هل هو نسك أ لا ؟ فإن قلنا نسك حصل الحل به وإلا فلا
مسألة : قال : والمرأة تقصر من شعرها مقدرا الأنملة
والأنملة رأس الأصبع من المفصل الأعلى والمشروع للمرأة والتقصير دون الحلق لا خلاف في ذلك قال ابن المنذر : أجمع على هذا أهل العلم وذلك لأن الحلق في حقهن مثله وقد روى ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير ] رواه أبو داود وعن علي قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تحلق المرأة رأسها ] رواه الترمذي وكان أحمد يقول : تقصر من كل قرن قدر الأنملة وهو قول ابن عمر و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها قال : نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسه ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة والرجل الذي يقصر في ذلك كالمرأة وقد ذكرنا في ذلك خلافا فيما مضى

طواف الزيارة الافاضة
مسألة : قال : ثم يزور البيت فيطوف به سبعا وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج ثم يصلي ركعتين إن كان مفردا أو قارنا
وجملة ذلك أه إذا رمى ونحر وحلق وأفاض إلى مكة طاف طواف الزيارة لأنه يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى ويسمى طواف الإفاضة لأنه يأتي به عند إفاضته من منى إلى مكة وهو ركن للحج لا بتم إلا به لا نعلم فيه خلافا ولأن الله عز و جل قال : وليطوفوا بالبيت العتيق قال ابن عبد البر هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء وفيه عند جميعهم قال الله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } و [ عن عائشة قالت : حججنا مع النبي صلى الله عليه و سلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه و سلم منها ما يريد الرجل من أهله فقلت : يا رسول الله إنها حائض قال : أحابستنا هي ؟ قالوا : يا رسول الله أنها قد أفاضت يوم النحر قال : اخرجوا ] متفق عليه فدل على أن هذا الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به ولأن الحج أحد النسكين فكان الطواف ركنا كالعمرة
فصل : ولهذا الطواف وقتان وقت فضيلة ووقت أجزاء فأما وقت الفضيلة فيوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق لقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم ويم النحر فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر وفي حديث عائشة الذي ذكر فيه حيض صفية قالت : فأفضنا يوم النحر وقال ابن عمر : [ أفاض النبي صلى الله عليه و سلم يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر ] متفق عليهما فإن أخره إلى الليل فلا بأس فإن ابن عباس وعائشة رويا أن النبي صلى الله عليه و سلم أخر الطواف الزيارة إلى الليل رواهما أبو داود و الترمذي وقال في كل واحد منهما حديث حسن وأما وقت الجواز فأوله من نصف الليل من ليلة النحر وبهذا قال الشافعي وقال أ [ و حنيفة : أوله طلوع الفجر من يوم النحر وآخره آخر أيام النحر وهذا مبني على أول وقت الرمي وقد مضى الكلام فيه محدود فإنه وقته فاحتج بأنه نسك يفعل في الحج فكن آخره محدودا كالوقوف والرمي والصحيح أن آخر وقته غير محدود فإنه متى أتى به صح بغير خلاف وإنما الخلاف في وجوب الدم فيقول : إنه طاف فيما بعد أيام النحر طوافا بفواته وليس كذلك الطواف فإنه متى أتى به صح
فصل : وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم سوى أنه ينوي به طواف الزيارة ويعينه بالنية ولا رمل فيه ولا اضطباع قال ابن عباس إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه والنية شرط في هذا الطواف وهذا قول إسحاق وابن القاسم صاحب مالك و ابن المنذر وقال الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي : يجزئه وإن لم ينو الفرض الذي عليه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم سماه صلاة والصلاة لا تصح إلا بالنيات اتفاقا
مسألة : قال : ثم قد حل من كل شيء
يعني إذا طاف للزيارة بعد الرمي والنحر والحلق حل له كل شيء حرمه الإحرام وقد ذكرنا أنه لم يكن بقي عليه من المحظورات سوى النساء فهذا الطواف حلل له النساء قال ابن عمر : لم يحل النبي صلى الله عليه و سلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرمه وعن عائشة مثله متفق عليهما ولا نعلم خلافا في حصول الحل بطواف الزيارة على الترتيب الذي ذكر الخرقي وأنه كان قد سعى مع طواف القدوم وإن لم يكن سعى لم يحل حتى يسعى إن قلنا أن السعي ركن وإن قلنا هو سنة فهل يحل قبله على وجهين أحدهما : يحل لأن لم يبق عليه شيء من واجباته والثاني : لا يحل لأنه من أفعال الحج فيأتي به في إحرام الحج كالسعي في العمرة فإنما خص الخرقي المفرد والقارن بهذا لكونهما سعيا مع طواف القدوم والمتمتع لم يسع
مسألة : قال : وإن كان متمتعا فيطوف بالبيت سبعا وبالصفا والمروة سبعا كما فعل بالعمرة ثم يعود فيطوف طوافا ينوي به الزيارة وهو قوله عز و جل { وليطوفوا بالبيت العتيق }
فأما الطواف الأول الذي ذكره الخرقي هاهنا فهو طواف القدوم لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك والطواف الذي طافه في العمرة كان طوافها ونص أحمد على أنه مسنون للمتمتع في رواية الأثرم قال : قلت لأبي عبد الله رحمه الله فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى ؟ قال : يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافا آخر للزيارة - عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضا واحتج بما روت عائشة قال : فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم حلوا فطافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا فحمل أحد قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع فلم يكن تعين طواف الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض ولم أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي بل المشروع طواف واحد للزيارة كم دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي صلى الله عليه و سلم أحدا وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت : طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منة لحجهم وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافا آخر ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لا يتم الحج إلا به وذكرت ما يستغني عنه وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافا واحدا فمن أين يستدل به على طوافين ؟ وأيضا فإنه لما حاضت قرنت الحج إلى العمرة بأمر النبي صلى الله عليه و سلم ولم تكن طافت للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه و سلم وقد ذكر الخرقي في موضع آخر في المرأة إذا حاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتبر طواف للقدوم مع طواف العمرة ولأنه أول قدومه إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به وفي الجملة أن هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب وإنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد في أنه ركن الحج لا يتم إلا به ولا بد من تعيينه فلو نوى به طواف الوداع أو غيره لم يجزه

الأطوافة المشروعة في الحج ثلاثة
فصل : والأطوفة المشروعة في الحج ثلاثة : طواف الزيارة وهو ركن الحج لا يتم إلا به بغير خلاف طواف القدوم وهو سنة لا شيء على تاركه وطواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا تركه وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وقال مالك على تارك طواف القدوم دم ولا شيء على تارك طواف الوداع وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع في طواف القدوم وما زاد على هذه الأطوفة فهو نقل ولا يشرع في حقه أكثر من سعي بغير خلاف علمناه قال جابر : لم يطف النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا - طوافه الأول رواه مسلم ولا يكون السعي إلا بعد طواف فإن سعى مع طواف القدوم لم يسع بعده وإن لم يسع معه سعى مع الطواف الزيارة

يستحب لمن حج أن يدخل الكعبة
فصل : ويستحب أن يدخل البيت فيكبر في نواحيه ويصلي ركعتين ويدعوا الله عز و جل [ قال ابن عمر دخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت وبلال وأسامة بن زيد فقلت لبلال : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال نعم قلت أين هو ؟ قال : بين العمودين تلقاء وجهه ] ونسيت أن أسأله كم صلى ؟ [ قال ابن عباس : أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج ] متفق عليهما فقدم أهل العلم رواية بلال على رواية أسامة لأنه مثبت وأسامة ناف ولأن أسامة كان حديث السن فيجوز أن يكون اشتغل بالنظر إلى ما في الكعبة عن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم وإن دخل البيت فلا بأس فإن إسماعيل بن أبي خال قال : قلت لعبد الله بن أبي أوفى : أدخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت في عمرته ؟ قال : لا متفق عليه وعن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع وهو كئيب فقال : إني دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما دخلتها إني أخاف أن يكون قد شققت على أمتي ] رواه أبو دواد

الشرب من زمزم والشرب في الطواف
فصل : ويستحب أن يأتي زمزم فيشرب من مائة لما أحب ويتضلع منه [ قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم : ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون فناولوه دلوا فشرب منه ] وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ماء زمزم لما شرب ] وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : كنت عند ابن عباس جالسا فجاءه رجل فقال من أين جئت ؟ قال : من زمزم قال : فشربت منها كما ينبغي ؟ قال فكيف ؟ قال : إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا من زمزم وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله تعالى ف [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم ] رواهما ابن ماجة ويقول عند الشرب : بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء وغسل به قلبي واملأه من حكمتك
فصل : ويسن أن يخطب الإمام بمنى يوم النحر خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم من النحر والإفاضة والرمي نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي و ابن المنذر وذكر بعض أصحابنا أنه لا يخطب يومئذ وهو مذهب مالك لأنها تسن في اليوم قبله فلم تسن فيه
ولنا ما روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب الناس يوم النحر ] يعني بمنى أخرجه البخاري وعن رافع بن عمر والمزني قال : [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء وعلي يعبر عنه والناس بين قائم وقاعد ] وقال أبو إمامة : سمعت خطبة النبي صلى الله عليه و سلم بمنى يوم النحر وقال الهرباس بن زياد الباهلي [ رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى بمنى ] وقال عبد الرحمن بن معاذ : [ خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار ] وروي هذه الأحاديث كلها أبو داود إلا حديث ابن عباس ولأنه يوم تكثر فيه أفعال الحج ويحتاج إلى تعليم الناس أحكام ذلك فاحتيج إلى الخطبة من أجله كيوم عرفة

يوم الحج الأكبر هو يوم النحر
فصل : يوم الحج الأكبر يوم النحر ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يوم النحر : هذا يوم الحج الأكبر ] رواه البخاري وسمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه من الوقوف بالمشعر والدفع منه إلى منى والرمي والنحر والحلق وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره مثله وهو مع ذلك يوم عيد ويوم يحل فيه من إحرام الحج

أعمال يوم النحر
فصل : وفي يوم النحر أربعة أشياء الرمي ثم النحر ثم الخلق ثم الطواف والسنة ترتيبها هكذا فإن النبي صلى الله عليه و سلم رتبها كذلك وصفة جابر في حج النبي صلى الله عليه و سلم وروى أنس [ أن النبي صلى عليه وسلم رمى ثم نحر ثم حلق ] رواه أبو داود فإن أخل بترتيبها ناسيا أو جاهلا بالسنة فيها فلا شيء عليه في قول كثير من أهل العلم منهم الحسن و طاوس و مجاهد و سعيد بن جبير و عطاء والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود ومحمد بن جرير الطبري وقال أبو حنيفة إن قدم الحلق على الرمي أول على النحر فعليه دم فإن كان قارنا فعليه دمان وقال زفر : عليه ثلاثة دماء لأنه لم يوجد التحلل فلزمه الدم كما لو حلق قبل يوم النحر
ولنا ما روى عبد الله بن عمر قال : [ قال رجل يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح قال : اذبح ولا حرج فقال آخر : ذبحت قبل أن أرمي قال : ارم ولا حرج ] متفق عليه وفي لفظ قال : [ فجاء رجل فقال : يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح ] وذكر الحديث [ قال : فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسيء المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعضها وأشباهها إلا قال : افعلوا ولا حرج عليكم ] رواه مسلم وعن ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج ] متفق عليه ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمر وفيه فحلقت قبل أن أرمي وتابعة على ذلك محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عيسى عن عبد الله بن عمر قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأتاه رجل فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي قال : ارم لا حرج قال : وأتاه آخر فقال : إني أفضت قبل أن أرمي ؟ قال : أرم ولا حرج ] وعن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل يوم النحر عن رجل حلق قبل أن يرمي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا حرج لا حرج ] رواه الدارقطني كله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع على أنه لا يلزم من سقوط الدم بفقد الشيء في وقته سقوطه قبل وقته فإنه لو حلق في العمرة بعد السعي لا شيء عليه وإن كان الحل ما حصل قبله وكذلك في مسألتنا إذا قلنا إن الحل يحصل باحلق فقد حلق قبل التحلل ولا دم عليه فإما أن فعله عمدا عالما بمخالفة السنة في ذلك ففيه روايتان إحداهما : لا دم عليه وهو عطاء و إسحاق لإطلاق حديث ابن عباس وكذلك حديث عبد الله بن عمرو من رواية سفيان بن عيينة والثانية : عليه دم روي نحو ذلك عن سعيد بن جبير و جابر بن زيد و قتادة وا لنخعي لأن الله تعالى قال : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم رتب وقال : [ خذوا عني مناسككم ] والحديث المطلق قد جاء مقيدا فيحمل المطلق على المقيد قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال : إن كان جاهلا فليس عليه فأما التعمد فلا لأن النبي صلى الله عليه و سلم سأله رجل فقال : لم أهر قيل لأبي عبد الله سفيان بن عيينة لا يقول لم أشعر فقال : نعم ولكن مالكا والناس عن الزهري لم أشهر قيل لأبي عبد اله وهو في الحديث وقال مالك : إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء علي لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة فأما الرمي فجائز لأن الهدي قد بلغ محله
ولنا الحديث فإنه لم يفرق بينهما فإن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له في الحلق والنحر والتقديم والتأخير فقال : [ لا حرج ] ولا نعلم خلافا بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الأجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا والله أعلم
فصل : فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزأه طوافه وبهذا قال الشافعي وقال مالك : لا تجزئه الإفاضة فليرم ثم لينحر ثم ليفض
ولنا ما روى عطاء [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له رجل : أفضت قبل أن أرمي قال : ارم ولا حرج ] وعنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج ] رواهما سعيد في سننه وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي ولأنه أتى بالرمي في وقته فأجزأه كما لو رتب ومقتضى كلام أصحابنا أنه يحصل له بالإفاضة قبل الرمي التحلل الأول كمن رمى ولم يفض فعلى هذا لو واقع أهله قبل الرمي فعليه دم ولم يفسد حجة وكذلك قال الأوزاعي : فإن رجع إلى أهله ولم يرم فعليه دم لترك الرمي وحجة صحيح قال ابن عباس : من نسي أو ترك شيئا من نسكه فليهرق لذلك دما وقال عطاء : من نسي من النسك شيئا حتى رجع إلى أهل فليهرق لذلك دما

المبيت بمنى
مسألة : ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى
السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى لما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى ] متفق عليه وقالت عائشة رضي الله عنها : [ أفاض رسول الله صلى الله عليه و سلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق ] رواه أبو داود وظاهر كلام الخرقي أن المبيت بمنى ليالي منى واجب وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقال ابن عباس : لا يبيتن أحد من وراء العقبة من منى ليلا وهو قول عروة و إبراهيم و مجاهد و عطاء وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عن وهو قول مالك و الشافعي والثانية ليس بواجب روي ذلك عن ابن عباس إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه قد حل من حجة فلم يجب عليه المبيت بموضع معين كليلة الحصبة والرواية الأولى أن ابن عمر روى أن رسول الله صلى الله عليه رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته متفق عليه وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره وعن ابن عباس قال : لم يرخص النبي صلى الله عليه و سلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته رواه ابن ماجه وروى الأثرم عن ابن عمر قال : لا يبيتن أحد من الحاج إلا بمنى وكان يبعث رجلا لا يدعون أحدا يبيت وراء العقبة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله نسكا وقد قال : [ خذوا عني مناسككم ]
فصل : فإن ترك المبيت بمنى فعن أحمد لا شيء عليه وقد أساء وهو قول أصحاب الرأي لأن الشرع لم يرد فيه بشيء وعنه يطعم شيئا وخففه ثم قال : قد قال بعضهم ليس عليهم وقال إبراهيم عليه دم وضحك ثم قال دم بمرة ثم شدد بمرة قلت : ليس إلا أن يطعم شيئا قال : نعم يطعم شيئا تمرا أو نحوه فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه ولا فرق بين ليلة وأكثر ولا تقدير فه وعنه في الليالي الثلاث دم لقول ابن عباس : من ترك من نسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما وفيما دون الثلاث روايات وهو قول الشافعي وهذا لا نظير له فإننا لا نعلم في ترك شيء من المناسك درهما ولا نصف درهم فإيجابه بغير نص تحكم لا وجه له والله أعلم

رمى الجمرات أيام التشريق
مسألة : قال : فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عندها ويرمي ويدعو ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضا ويدعو ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ولا يقف عندها
قد ذكرنا أن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة سبعة منها يرمي يوم النحر بعد طلوع الشمس وسائرها في أيام التشريق الثلاثة بعد زوال الشمس كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات رافعا يديه ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها وبهذا قال الشافعي : ولا نعلم في جميع ما ذكرنا خلافا إلا أن مالكا قال : ليس بموضع لرفع اليدين وقد ذكرنا الخلاف فيه عند رؤية البيت وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل : أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى ؟ قال : أي لعمري شديدا ويطيل القيام أيضا قيل : فإلى أين يتوجه في قيامه ؟ قال : إلى القبلة ويرميها في بطن الوادي والأصل في هذا ما روت عائشة قالت : [ أفاض رسول الله صلى الله عليه و سلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها ] رواه أبو داود و [ عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم ويستهل ويقوم قياما طويلا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ بذات الشمال فيستهل ويقوم مستقبل القبلة قياما طويلا ثم ينصرف ويقول : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعله ] رواه البخاري وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي دعا به بعرفة ويزيد : وأصلح وأتم لنا مناسكنا وقال ابن المنذر : كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وكان ابن عمر وابن عباس يرفعا أيديهما إذا رميا الجمرة ويطيلان الوقوف وروي عن عبد الرحمن بن زيد قال : أفضت مع عبد الله فرمي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة واستبطن والوادي حتى إذا فرغ قال : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ثم قال : هكذا رأيت الذي أنزلت عليه سورة القبرة صنع رواه الأثرم وعن عطاء قال : كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة رواه الأثرم

وقت الرمي
فصل : ولا يرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال فإن الرمي قبل الزوال أعاد نص عليه وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وروي عن الحسن و عطاء إلا أن إسحاق وأصحاب الرأي رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال ولا ينفر إلا بعد الزوال وعن أحمد مثله ورخص عكرمة في ذلك أيضا وقال طاوس : يرمي قبل الزوال وينفر قبله
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما رمى بعد الزوال لقول عائشة : يرمي الجمرة إذا زالت الشمس وقول جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه و سلم [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس ] وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : خذوا عني مناسككم ] وقال ابن عمر : كنا نتحين إذا زالت الشمس رمينا وأي وقت رمى بعد الزوال اجزأه إلا أن المستحب المبادرة إليها حين الزوال كما قال ابن عمر وقال ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر ] رواه ابن ماجة

الترتيب في رمي الجمرات
فصل : والترتيب في هذه الجمرات واجب على ما ذكرنا فإن نكس فبدأ بجرمة العقبة ثم الثانية ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى نص عليه أحمد وإن رمى القصوى ثم الأولى ثم الوسطى أعاد القصوى وحدها وبهذا قال مالك و الشافعي وقال الحسن و عطاء لا يجب الترتيب وهو قول أبي حنيفة فإنه قال : إذا رمى منكسا يعيد فإن لم يفعل أجزأه واحتج بعضهم بما روى [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج ] ولأنها مناسك متكررة في أمكنة متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعا لبعض فلم يشترط الترتيب فيها كالرمي والذبح
ولنا أن النبي صلىالله عليه وسلم رتبها في الرمي وقال : [ خذوا عني مناسككم ] ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي وحديثهم إنما جاء فيمن يقدم نسكا على نسك لا في تقديم بعض النسك على بعض وقياسهم يبطل بالطواف والسعي

ترك الوقوف والدعاء عند الرمي
فصل : وإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شيء عليه وبذلك قال الشافعي و أبو حنيفة و إسحاق و أبو ثور ولا نعلم فيه مخالفا إلا الثوري قال : يطعم شيئا وإن أراق دما أحب إلي لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله فيكون نسكا
ولنا أنه دعاء وقوف مشروع له فلم يجب بتركه شيء كحالة رؤية البيت وكسائر الأدعية ولأنها إحدى الجمرات فلم يجب الوقوف عندها والدعاء كالأولى والنبي صلى الله عليه و سلم يفعل الواجبات والمندوبات وقد ذكرنا الدليل على أن هذا ندب

ترك رمي الجمار
فصل : والأولى أن لا ينقص في الرمي عن سبع حصيات لأن النبي صلى الله عليه و سلم رمى سبع حصيات فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه وهو قول مجاهد و إسحاق وعنه أن رمي بست ناسيا فلا شيء عليه ولا ينبغي أن يتعمده فإن تعمد ذلك تصدق بشيء وكان ابن عمر يقول : ما أبالي رميت بست أو سبع وقال ابن عباس : ما أدري رماها النبي صلى الله عليه و سلم بست أو سبع وعن أحمد أن عدد السبع شرط ونسبه إلى مذهب الشافعي وأصحاب الرأي لأن النبي صلى اله عليه وسلم رمى بسبع وقال أبو حية : لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى فقال عبد الله بن عمرو : صدق أبو حية وكان أبو حية بدريا ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال : سئل طاوس عن رجل ترك حصاة قال : يتصدق بتمرة أو لقمة فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد [ قال سعد : رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعضنا يقول رميت بست وبعضنا يقول بسبع فلم يعب ذلك بعضنا على بعض ] رواه الأثرم وغيره ومتى أخل بحصاة واجب ةمن الأولى لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى فإن لم يدر من أي الجمار تركها بنى على اليقين وإن أخل بحصاة غير واجبة غير واجبة لم يؤثر تركها
مسألة : قال : ويفعل في اليوم الثاني كما يفعل بالأمس فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس فإن غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي من غد بعد الزوال كما رمى بالأمس
وجملته أن الرمي في اليوم الثاني كالرمي في اليوم الأول في وقته وصفته وهيئته ولا نعلم فيه خلافا فإن أحب التعجيل في يومين خرج قبل الغروب وأجمع أهل العلم على أن من أراد الخروج من منى شاخصا عن الحرم غير مقيم بمكة أن ينفر بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق فإن أحب الإقامة بمكة فقال أحمد : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة وكان مالك يقول في أهل مكة : من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا ويحتج من ذهب إلى هذا بقول عمر رضي الله عنه : من شاء من الناس كلهم أن ينفر الأول إلا آل خزيمة فلا ينفر إلا في النفر الآخر
وجعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر إلا آل خزيمة أي أنهم أهل حرم مكة والمذهب جواز النفير في النفر الأول لكل أحد وهو قول عامة العلماء لقول الله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } قال عطاء : هي للناس عامة وروى أبو داود و ابن ماجة عن عبد الرحمن بن يعمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أيام منى ثلاثة فيمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ] قال ابن عيينة : هذا أجود حديث رواه سفيان وقال وكيع : هذا حديث أم المناسك وفيه زيادة أنا اختصرته ولأنه دفع من مكان استوى فيه أهل مكة وغيرهم كالدفع من عرفة ومن مزدلفة وكلام أحمد في هذا أراد به الاستحباب موافقة لقول عمر لا غير فمن أحب التعجيل في النفر الأول خرج قبل غروب الشمس فإن غربت قبل خروجه من منى لم ينفر سواء كان ارتحل أو كان مقيما في منزله لم يجز له الخروج هذا قول عمر و جابر بن زيد و عطاء و طاوس و مجاهد و أبان بن عثمان و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث لأنه لم يدخل اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب
ولنا قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه واليوم اسم للنهار فيمن أدركه الليل فما تعجل في يومين قال ابن المنذر : وثبت عن عمر أنه قال : من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس وما قاسوا عليه لا يشبه ما نحن فيه فإنه تعجل في اليومين

تأخير رمي الجمار
فصل : إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة ولا شيء عليه إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وبذلك قال الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة : إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثا إلى الغدر رماها وعليه كل حصاة نصف صاع وإن ترك أربعا رماها وعليه دم
ولنا أن أيام التشريق وقت للرمي فإذا أخره من أول وقته إلى آخر لم يلزمه شيء كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته ولأنه وقت يجوز الرمي فيه فجاز لغيرهم كاليوم الأول قال القاضي : ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء لأنه وقت واحد وإن كن قضاء فالمراد به الفعل كقوله : { ليقضوا تفثهم } وقولهم قضيت الدين والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد إنما قلنا : يلزمه الترتيب بنية لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب ترتيبها مجموعة كالصلاتين المجموعتين والفوائت

الصلاة بمسجد الخيف بمنى
مسألة : قال : ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام
يعني مسجد الخيف فإن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كانوا يصلون بمنى قال ابن مسعود : صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر وعثمان ركعتين صدرا من إمارته وهذا إذا كان الإمام مرضيا فإن لم يكن مرضيا صلى المرء برفقته في رحله

خطبة اليوم الثامن من أيام التشريق
فصل : ويستحب أن يخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلم الناس فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر : وقال أبو حنيفة : لا يستحب قياسا على اليومين الآخرين
ولنا ما [ روي عن رجلين من بني بكر قالا : رأينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب بين أوساط أيام التشريق ونحن عند راحلته ] رواه أبو داود و [ عن سراء بنت نبهان قالت : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الرؤوس فقال : أي يوم هذا ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أليس أوسط أيام التشريق ؟ ] روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب أوسط أيام التشريق ] يعني يوم النفر الأول ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم كيف يتعجلون وكيف يدعون بخلاف اليوم الأول

ويكبر الحاج دبر كل صلاة من صلاة ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق
مسألة : قال : ويكبر في دبر كل صلاة من صلاة الظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق
إنما خص المحرم بالتكبير من يوم النحر ظهرا لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية فلا يقطعها إلا عند رمي جمرة العقبة كما بيناه فيما قبل وليس بعدها صلاة قبل الظهر فيكبر حينئذ بعدها كالمحل ويستوي هو والحلال في آخر مدة التكبير وصفة التكبير ما ذكرنا في صلاة العيد وهو أن يقول : الله أكبر الله لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد

النزول بالأبطح
فصل : قال بعض أصحابنا : يستحب لمن نفر أن يأتي المحصب وهو الأبطح وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يضطجع يسيرا ثم يدخل مكة وكان ابن عمر يرى التحصيب سنة قال ابن عمر : يصلي بالمحصب الظهر والعصر والمغرب والعشاء وكان كثير الاتباع لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكان طاوس يحصب في شعب الجور وكان سعيد بن جبير يفعله ثم تركه وكان ابن عباس وعائشة لا يريان ذلك سنة قال ابن عباس : التحصيب ليس بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن عائشة أن نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله رسول الله ليكون اسمح لخروجه إذا خرج متفق عليهما ومن استحب ذلك فلاتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كان ينزله قال نافع : كان ابن عمر يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ويذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه وقال ابن عمر : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وعثمان ينزلون الأبطح ] قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ولا خلاف في أنه ليس بواجب ولا شيء على تاركه

طواف الوداع
مسألة : قال : فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت
وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع لأن الوداع من المفارق لا من الملازم سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط ولا يصح لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر وإنما [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] وهذا ليس بنافر فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع وهو واجب من تركه لزمه دم وبذلك قلا الحسن و الحكم و حماد و الثوري و إسحاق و أبو ثور وقال الشافعي في قول له : لا يجب بتركه شيء لأنه يسقط عن الحائض فلم يكن واجبا كطواف القدوم ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم
ولنا ما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه ولمسلم قال : [ كان الناس ينصرفون كل وجه فقال الرسول الله صلى الله عليه وسل : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غريها بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف وذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت وطواف الصدر لأنه عند صدور لانا من مكة يسقط طواف الزيارة ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت وطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ولذلك [ قال النبي صلى الله عليه و سلم حتى يكون آخر عهده بالبيت ]
فصل : ومن كان منزله في الحرم لهو كالمكي لا وداع عليه ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم
ولنا عموم قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد
فصل : فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج فيه روايتان : إحداهما : يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالمبيت وقد فعل ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة وعنه لا يجزئه عن طواف الودع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجز إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين
مسألة : قال : فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته وبهذا قال عطاء و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي : إذا طاف للوداع أو طاف تطوعا بعدما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع إن قام شهرا أو أكثر لأن طاف بعدما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه
ولنا قوله عليه السلام : [ لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده لأن ذلك ليس بإقامة تحرج طوافه عن أن يطوف آخر عهده بالبيت وبهذا قال مالك و الشافعي ولا نعلم مخالفا لهما
مسألة : قال : فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم
هذا قول عطاء و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي ثور والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر والبعيد من بلغ مسافة القصر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وكان عطاء يرى الطائف قريبا وقال الثوري : حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ووجه القول الأول أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام وقد وري أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت رواه سعيد وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن علي أكثر من دم ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور ويغره كسائر واجباته فإن رجع البعيد فطف للوداع فقال القاضي : لا يسقط عند الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه وإن رجع القريب فطاف فلا دم لعيه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب
فصل : إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما لأنه ليس من أهل الأعذار فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي وطواف لوداعه وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه فأما إن رجع القرب فظاهر قول من ذكرنا قوله أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة فإن ودع خرج ثم دخل مكة لحاجة فقال أحمد : أحب إلي ألا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف وهذا لأنه لم يدخل لإتمام السنك إنما دخل غير متكررة فأشبه من يدخلها للإقامة بها
مسألة : قال : والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية
هذا قول عامة فقهار الأمصار وقد روي عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع وكان زيد بن ثابت يقول به ثم رجع فروى مسلم أن زيد ين ثابت خالف ابن عباس في هذا قال طاوس : كنت مع ابن عباس إذا قال زيد بن ثابت يفتي : أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت فقال له ابن عباس : إما لا تسأل فلانه الأنصارية هل أخرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك ؟ قال : فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك وهو يقول : ما أراك إلا قد صدقت وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين [ قالوا : يا رسول الله إنها حائض فقال : أحابستنا هي ؟ قالوا : يا رسول الله إنه قد أفاضت يوم النحر قال فلتنفر إذا ] ولا أمرها بفدية ولا غيرها وفي حديث ابن عباس إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والحكم في النفساء كالحكم في الحائض لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط
فصل : وإذا نفرت الحائض بغير وداع فطهرت قبل مفارقة البنيان رجعت فاغتسلت وودعت لأنه في حكم الإقامة بدليل أنها لا تسبيح الرخص فإن لم يمكنها الإقامة فمضت أو مضت لغير عذر فعليها دم وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة كالخارج من غير عذر قلنا هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول وها هنا لم يكن واجبا ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما
فصل : ويستحب أن يقف المودع في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيلزمه يلصق به صدره ووجهه ويدعو الله عز و جل لما روى أبو داود [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : طفت مع عبد الله فلما جاء دبر الكعبة قلت : ألا تتعوذ ؟ قال : نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه كفيه هكذا وبسطها بسطا وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعله ] و [ عن عبد الرحمن بن صفوان قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه قد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه و سلم وسطهم ] رواه أبو داود وقال منصور : سألت مجاهدا إذا أردت الوداع كيف أصنع ؟ قال : تطوف بالبيت سبعا وتصلي ركعتين خلف المقام ثم تأتي زمزم فتشرب من مائها ثم تأتي الملتزم ما بين الحجر والباب فتستلمه ثم تدعو ثم تسأل حاجتك ثم تستلم الحجر وتنصرف قال بعض أصحابنا : ويقول في دعائه : اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني نعمتك إلى بيتك واعتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي في غي مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك للهم فاصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحس منقلبي وارزقني طاعتك أبدا ما أبقيني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير وعن طاوس قال : رأي إعرابيا أتى الملتزم فتعلق باستار الكعبة فقال : بك أعود وبك ألوذ اللهم فاجعل لي في اللهف إلى جودك والرضاء بضمانك مندوحا عن منع الباخلين وغني عما في أيدي المستأثرين اللهم بفرجك القريب ومعروفك القديم وعادتك الحسنة ثم أضلني في الناس فلقيته بعرفات قائما وهو يقول ك اللهم إن كنت لم تقبل حجتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم مصيبة ممن ورد حوضك وانصرف محروما من وجه رغبتك وقال آخر : يا خير موفود إلهي قد ضعفت قوتي وذهبت منتي وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها البحار أستجير برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك رب ارحم من شملته الخطايا وغمرته الذنوب وظهرت منه العيوب ارحم أسير ضر وطريد فقر أسألك أن تهب لي عظيم جرمي يا مستزادا ومستعاذا من نقمة ارحم صة حزين دعاك بزفير وشهيق اللهم إن كنت بسطت إليك يدي داعيا فطالما كفيتني ساهيا فبنعمتك التي تظاهرت علي عند الغفلة لا أيأس منها عند التوبة فإن تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف وهب لي الإصلاح في الولد والأمن في البلد والعافية في الجسد إنك سميع مجيب اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها علي وللناس قبلي تبعات فتحملها عني وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة اللهم إن سائلك عند بابك من ذهبت أيامه وبقيت آثامه وانقطعت شهوته وبقيت تبعته فارض عنه وإن لم ترض عنه فاعف عنه فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راض ثم يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم والمرأة إذا كانت حائضا لم تدخل المسجد ووقفت على بابه فدعت بذلك
فصل : قال أحمد : إذا ودع البيت يقوم عند الباب إذا خرج ويدعو فإذا ولى لا يقف ولا يلتفت بالبيت ويصلي فإذا انصرف خرج ثم استقبل القبلة فقام فقال : ما كنت أحسب يصنع هذا اليهود والنصارى قال أبو عبد الله أكره ذلك وقول أبي عبد الله إن التفت رجع فودع على سبيل الاستحباب إذ لا نعلم لإيجاب ذلك عليه دليلا وقد قال مجاهد : إذا كدت تخرج من باب المسجد فالتفت ثم انظر إلى الكعبة ثم قل : اللهم لا تجعله آخر العهد
مسألة : قال : ومن ترك طواف الزيارة رجع من بلده حراما حتى يطوف بالبيت
وجملة ذلك أن طواف الزيارة ركن الحج لا يتم إلا به ولا يحل من إحرامه حتى يفعله فإن رجع إلى بلده قبله لم ينفك إحرامه ورجع متى أمكنه محرما لا يجزئه غير ذلك وبذلك عطاء و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر : وقال الحسن : يحج من العام المقبل وحكي نحو ذلك عن عطاء قولا ثانيا وقال : يأتي عاما قابلا من حج أو عمرة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم حين ذكر له أن صفية حاضت [ قال : أحابستنا هي ؟ قيل إنها قد أفاضت يوم النحر قال : فلتنفر إذا ] يدل على أن هذا الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به فإن نوى التحلل ورفض إحرامه لم يحل بذلك لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج ومتى رجع إلى مكة فطاف بالبيت حل بطوافه لأن الطواف لا يفوت وقته على ما أسلفناه
فصل : فإن ترك بعض الطواف فهو كما لو ترك جميعه فيما ذكرنا وسواء ترك شوطا أو أقل أو أكثر وهذا قول عطاء ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال أصحاب الرأي : من طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة أو طواف العمرة وسعى بين الصفا والمروة ثم رجع إلى الكوفة إن سعيه يجزئه وعليه دم لما ترك من الطواف بالبيت
ولنا ما أتى به لا يجزئه إذا كان بمكة فلا يجزئه إذا خرج منها كما لو طاف دون الأربعة أشواط
فصل : وإذا ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة فلم يبق محرما إلا عن النساء خاصة لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة فلم يبق محرما إلا عن النساء خاصة وإن وطئ لم يفسد حجه ولم تجب عليه بدنه لكن عليه دم ويجدد إحرامه ليطوف في إحرام صحيح قال أحمد : من طاف للزيارة أو أخترق الحجر في طوافه ورجع إلى بغداد فإنه يرجع لأه على بقية إحرامه فإن وطئ النساء أحرم من التنعيم على حديث ابن عباس وعليه دم وهذا كما قلنا
مسألة : قال : وإن كان طاف للوداع لم يجزئه لطواف الزيارة
وإنما لم يجزه عن طواف الزيارة لأن تعيين النية شرط فيه على ما ذكرناه فمن طاف للوداع فلم يعين النية له فكذلك لم يصح

القرآن القارن كالمفرد حكم القارن في صيده وإفساد نسكه
مسألة : قال : وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد إلا أن عليه دما فإن لم يجد صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع
المشهور عن أحمد أن القارن بين الحج والعمرة لا يلزمه من العمل إلا ما يلزم المفرد وأنه يجزئه طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته نص عليه في رواية جماعة من أصحابه وهذا قول ابن عمر وجابر بن عبد الله وبه قال عطاء و طاوس و مجاهد و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وعن أحمد رواية ثانية أن عليه طوافين وسعيين ويروي ذلك عن شعبي وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود وبه قال الثوري والسحن بن صالح وأصحاب الرأي وقد روي عن علي ولم يصح عنه واحتج بعض من اختار ذلك بقوله الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وتمامهما أن يأتي بأفعالها على الكمال ولم يفرق بين القارن وغيره وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من جمع يبن الحج والعمرة فعليه طوافان ] ولأنهما نسكن فكان لهما طوافان كما لو كانا منفردين
ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة فإنهم طافوا لهما طوافا واحدا متفق عليه وفي مسلم [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة : يسعك طوافك لحجك وعمرتك ] وعن ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما جميعا ] وعن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قرن بني الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا ] رواهما الترمذي وقال في كل واحد منهما حديث حسن وروى ليث عن طاوس و عطاء و مجاهد عن جابر وابن عمر وابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يطف بالبيت هو وأصحابه لعمرتهم وحجهم إلا طوافا واحدا ] رواه الأثرم و ابن ماجة وعن سلمة قال : حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم للحج والعمرة إلا طوافا واحدا ولأنه ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد وسعي واحد كالمفرد ولأنهما عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعا دخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين وأما الآية فإنه الأفعال إذا وقعت لهما فقد تما و أما الحديث الذي احتجوا به فلا نعلم صحته ورواه الدارقطني من طرق ضعيفة في بعضها الحسن بن عمارة وفي بعضها عمر بن يزيد وفي بعضها حفص بن أبي داود وكلهم ضعفاء وكفى به ضعفا معارضته لما روينا من الأحاديث الصحيحة وإن صح فيحتمل أنه أراد عليه طواف وسع فسماها طوافين فإن السعي يسمى طوافا قال الله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ويحتمل أنه أراد عليه طوافان الزيارة وطواف الوداع
فصل : وإن قتل القارن صيدا فعليه جزاء واحد نص عليه أحمد فقال : إذا قتل القارن في الحل اثنان ففي الحرم ينبغي أن يكون ثلاثة وهذا قول مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي : عليه جزاءان قال القاضي : وإذا قلنا عليه طوافان لزمه جزاءان
ولنا قول الله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا مثل ما قتل من النعم ومن أوجب جزاءان فقد أوجب مثلين ولأنه صيد واحد فلم يجب فيه جزاءان كما لو قتل المحرم صيدا ولأه لا يزيد على محرمين قتلا صيدا وليس عليهما إلا فداء واحد وكذلك محرم وحلال قتلا صيدا حرميا
فصل : وإن أفسد القارن نسكه بالوطء فعله فداء واحد وبذلك قال عطاء و ابن جريج و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ولا يسقط دم القران وقال الحكم عليه هديان ويتخرج لنا أن يلزمه بدنة وشاة إذا قلنا يلزمه طوافان وقال أصحاب الرأي : إن وطئ قبل الوقوف فسد نسكه وعليه شاتان للحج والعمرة ويسقط عنه دم القران
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم الذين سئلوا عمن أفسد نسكه لم يأمروه إلا بفداء واحد ولم يفرقوا ولأنه أحد الانساك الثلاثة فلم يجب في إفساده أكثر من فدية واحد كالآخرين وسائر محظورات الإحرام من اللبس والطيب وغرهما لا يجب في كل واحد منها أكثر من فداء واحد كما لو كان مفردا والله أعلم
مسألة : قال : إلا أن عليه دما فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
هذا استثناء منقطع معناه لكن عليه دم فإن وجوب الدم ليس في الأفعال المنفيه بقوله وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافا إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه وروي ذلك عن طاوس وحكى ابن المنذر أن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن هل يجب عليه دم ؟ فقال : لا فجر برجله وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم
ولنا قول الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } والقارن متمتع بالعمرة إلى الحج بدليل أن عليا رضي الله عنه لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالحج والعمرة ليعلم الناس أنه ليس بمنى عنه وقال ابن عمر : إنما القران لأهل إلى فاق وتلا قوله تعالى : ذلك لمن لم أهله حاضري المسجد الحرام وقد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما ] ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع وإذا عدم الدم فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع كالمتمتع سواء
فصل : ومن شرط وجوب الدم عليه أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام في قول جمهور العلماء وقال ابن الماجشون عليه دم لأن الله تعالى إنما أسقط الدم وليس هذا متمتعا وليس هذا بصحيح فإننا قد ذكرنا أنه متمتع وإن لم يكن متمتعا فهو فرع عليه ووجوب الدم على القارن إنما كان بمعنى النص على المتمتع فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله

المتمتع وصوم المتمتع إن عجز عن الهدي
مسألة : قال : ومن اعتمر في أشهر الحج فطاف وسعى ثم أحرم بالحج من عامه ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة فهو متمتع عليه دم
فصل : الكلام في هذه المسألة في فصول : أحدها : وجوب الدم على المتمتع في الجملة وأجمع أهل العلم عليه قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها وحج من عامه أنه متمتع وعليه الهدي إن وجد وإلا فالصيام وقد نص الله تعالى بقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية وقال ابن عمر : [ تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للناس : من لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ] متفق عليه و [ قال جابر : كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعمرة إلى الحج فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها ] رواه مسلم وعن أبي جمرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال : فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك من دم متفق عليه والدم الواجب شاة أو سبع بقرة أو سبع بدنة فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة فقد زاد خيرا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك لا يجزئ إلا بدنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما تمتع ساق بدنة وهذا ترك لظاهر قوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } واطراح للآثار الثابتة وما احتجوا به فلا حجة فيه فإن اهداء النبي صلى الله عليه و سلم للبدنة التي يذبحها على صفة بدن النبي صلى الله عليه و سلم ثم أنهم يقولون أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مفردا في حجته وكذلك ذهبوا إلى تفضيل الإفراد كيف يكون سوقه للبدن دليلا لهم في المتمتع ولم يكن متمتعا ؟
الفصل الثاني : في الشروط التي يجب الدم على من اجتمعت فيه وهي خمسة الأول : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعا سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غير أشهره نص عليه أحمد قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل عمن أهل بعمرة في غير أشهر الحج ثم في شوال أو يكون متمتعا ؟ فقال : لا يكون متمتعا واحد بحديث جابر وذكر إسناده عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن امرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر مسمى ثم تحل إلا ليلة واحدة ثم تحيض قال : لتخرج ثم لتهل بعمرة ثم لتنتظر حتى تطهر ثم لتطف بالبيت قال أبو عبد الله : فجعل عمرتها في الشهر الذي أهلت فيه لا في الشهر الذي حلت فيه ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من اعتمر في غير أشهر الحج عمرة وحل منها قبل أشهر الحج إنه لا يكون متمتعا إلى قولين شاذين إحداهما : عن طاوس أنه قال : إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى الحج فأنت متمتع والثاني : عن الحسن أنه قال : من اعتمر بعد النحر فهي متعة قال ابن المنذر : لا نعمل أحدا قال بواحد من هذين القولين فأما إن أحرم بالعمرة في غير شهر الحج ثم حل منها في أشهر الحج فذهب أحمد أنه لا يكون متمتعا ونقل معنى ذلك عن جابر وأبي عياض وهو قول إسحق واحد قولي الشافعي : وقال طاوس عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم وقال الحسن والحكم و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي في أحد قوليه : عمرته في الشهر الذي يطوف فيه وقال عطاء عمرته في الشهر الذي يحل فيه وهو قول مالك وقال أبو حنيفة : إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس بمتمتع وإن طاف الأربعة أشهر في الحج فهو متمتع لأن العمرة صحت في أشهر الحج بدليل أنه لو وطئ أفسدها أشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج
الثاني : أن يحج من عامة فإن اعتمر في أشهر الحج ولم يحج ذلك العام بل حج من العام القابل فليس بمتمتع لا نعلم فيه خلافا إلا قولا شاذا عن الحسن فيمن اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع حج أو لم يحج والجمهور على خلاف هذا لأن الله تعالى قال : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استسير من الهدي وهذا يقتضي الموالاة بينهما ولأنهم إذا اجتمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامة ذلك فليس بمتمتع فهذا أولى فإن التباعد بينهما أكثر
الثالث : أن لا يسافر بين العمرة والحج سفرا بعيدا تقصر في مثله الصلاة نص عليه وروي ذلك عن عطاء والمغيرة المديني و إسحاق وقال الشافعي : إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه وقال أصحاب الرأي إن رجع إلى مصيره بطلت متعته وإلا فلا وقال مالك إن رجع إلى مصيره أو إلى غيره أبعد من مصره بطلت متعته وإلا فلا وقال الحسن : هو متمتع وإن رجع إلى بلده واختاره ابن المنذر لعموم قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي }
ولنا ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قالب : إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع فإن خرج ورجع فليس بمتمتع وعن ابن عمر نحو ذلك ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزمه الإحرام منه فإن كان بعيدا فقد أنشأ سفرا بعيدا لحجة فلم يترفه بأحد السفرين فلم يلزمه كموضع الوفاق والآية تناولت المتمتع وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر
الرابع : أن يحل من إحرام العمر قبل إحرامه بالحج فإن دخل الحج على العمرة قبل حله منها كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم والذين كان معهم الهدي من أصحابه فهذا يصير قارنا ولا يلزمه دم المتعة [ قالت عائشة : خرجنا مع رسول الله النبي صلى الله عليه عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة فقدمت مكة وأن حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال : هذه مكان عمرتك ] قال عروة : فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة متفق عليه ولكن عليه دم للقران لأنه صار قارنا وترفه بسقوط أحد السفرين وقول عروة لم يكن في ذلك هدي يحتمل أنه أراد لم يكن فيه
هدي للمتعة إذ قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذبح عن نسائه بقرة بينهن
الخامس : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولا خلاف بين أهل العلم في أن دم المتعة لا يجب على حاضري المسجد الحرام إذ قد نص الله تعالى في كتابه بقوله سبحانه : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ولأن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة فلم يحصل له الترفه بأحد السفرين ولأنه أحرم بالحج من ميقاته فأشبه المفرد
فصل : وحاضري المسجد الحرام : أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر نص عليه أحمد وروي ذلك عن عطاء وبه قال الشافعي وقال مالك أهل مكة وقال مجاهد : أهل الحرم وروي ذلك عن طاوس وقال مكحول وأصحاب الرأي : من دون الميقات لأنه موضع شرع فيه النسك فأشبه الحرم
ولنا أن حاضر الشي من دنا منه ومن دون مسافة قريب في حكم الحاضر بدليل أنه إذا قصده لا يترخص رخص السفر فيكون من حاضريه وتحديده بالميقات لا يصح لأنه قد يكون بعيدا يثبت له حكم السفر البعيد إذا فقده ولأن ذلك يفضي إلى جعل البعيد من حاضريه والقريب من غير حاضريه في المواقيت قريبا وبعيدا واعتبارنا أولى لأن الشارع حد الحاضر بدون مسافة القصر بنفي أحكام المسافرين عنه فالاعتبار به أولى من الاعتبار بالنسك لوجود لفظ الحضور في الآية
فصل : إذا كان للمتمتع قريبان قريبة وبعيدة فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه إذا كان بعض أهله قريبا فلم يوجد فيه الشرط وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولأن له أن يحرم من القرية فلم يكن بالتمتع مترفها بترك أحد السفرين وقال القاضي : له حكم القرية التي يقيم بها أكثر فإن استويا فمن التي ماله بها أكثر فإن استويا فمن التي ينوي الإقامة بها أكثر فإن استويا حكم للقرية التي أحرم منها وقد ذكرنا الدليل لما قلناه
فصل : فإن دخل الآفاقي مكة متمتعا ناويا للإقامة بها بعد تمتعه فعليه دم المتعة قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ولو كن الرجل منشؤه ومولده بمكة فخرج عنها منتقلا مقيما بغيره ثم عاد إليها متمتعا ناويا للإقامة بها أو غير ناو لذلك فعليه دم المتعة لأنه خرج بالانتقال عنها عن أن يكون من أهلها وبذلك قال مالك و الشافعي و إسحاق : وذلك لأن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بنيه الإقامة وفعلها وهذا إنما نوى الإقامة إذا فرغ من أفعال الحج لأنه إذا فرغ من عمرته فه ناو للخرج إلى الحج فكأنه إنما نوى أن يقيم بعد أن يجب عليه الدم فأما ان خرج المكي مسافرا غير منتقل ثم عاد فاعتمر من الميقات أو قصر وحج من عامة فلا دم عليه لأنه لم يخرج بهذا السفر عن كون أهل من حاضري المسجد الحرام
فصل : وهذا الشرط لوجوب الدم عليه وليس بشرط لكونه متمتعا فإن متعة المكي صحيحة لأن المتمتع بأحد الأنساك الثلاثة فصح من المكي كالنسكين الآخرين ولأن حقيقة التمتع هو أن يعتمر في أشهر الحج ثم بحج من عامة وهذا موجود في المكي وقد نقل عن أحمد : ليس على أهل مكة متعة ومعناه ليس عليهم دم المتعة لأن المتعة له لا عليه فيتعين حمله على ما ذكرناه
فصل : وإذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات أو أحرم من دونه بعمرة ثم حل منها وأحرم بالحج من مكة من عامة فهو متمتع عليه دمان : دم المتعة ودم لإحرامه من دون ميقاته قال ابن المنذر وبان عبد البر : أجمع العلماء على أن من أحرم من أشهر الحج بعمرة وحل منها ولم يكن من حاضري المسجد الحرام ثم أقام بمكة حلالا ثم حج من عامة أنه متمتع عليه دم وقال القاضي : إذا تجاوز الميقات حتى صار بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر فأحرم منه فلا دم عليه للمتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام وليس هذا بجيد فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به وهذا لم يحصل منه الإقامة ولا نيتها ولأن الله تعالى قال : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهذا يقتضي أن يكون المانع من الدم السكنى به وهذا ليس بساكن إن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة فاعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحج من عامة فهو متمتع عليه دم نص عليه أحمد وفي تنصيصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى وذكر القاضي أن من شرط وجوب الدمن أن ينوي في ابتداء العمرة أو في اثنائها أنه متمتع وظاهر النص يدل على أن هذه غير مشترط فإنه لم يذكره وكذلك الإجماع الذي ذكرناه مخالف لهذا القول ولأنه قد حصل له الترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه الدم كمن لم ينو
الفصل الثالث : في وقت وجوب الهدي ووقت ذبحه أما وقت وجوبه فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأن اله تعالى قال : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وهذا قد فعل ذلك ولأن ما جع غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ولأنه متمتع أحرم بالحج من دون الميقات فلزمه الدم كما لو وقف أو تحلل وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة وهو قول مالك واختيار القاضي لأن التمتع بالعمرة في الحج إنما يحصل بعد وجود الحج منه ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ الحج عرفة ] ولأنه قبل ذلك بعرض الفوات فلا يحصل التمتع ولأه لو أحرم بالحج ثم أحصر أو فاته الحج فلم يلزمه دم المتعة ولا كان متمتعا ولو وجب الدم لما سقط وقال عطاء : يجب إذا رمى الجمرة ونحوه قول أبي الخطاب قال : يجب إذا طلع الفجر يوم النحر لأنه وقت ذبحه فكان وقت وجوبه فأما وقت اخراجه فيوم النحر وبه قال مالك و أبو حنيفة لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية فلا يجوز فيه ذبح هدي كمثل التحلل من العمرة وقال أبو طالب : سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي ! قال : ينحر بمكة وإن قدم قبل العشر نحره لا يضيع أو يموت أو يسرق وكذلك قال عطاء : وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا وقال الشافعي : يجوز نحره بعد الإحرام بالحج قولا واحدا فيما قبل ذلك بعد حله من العمرة احتمالان ووجه جوازه أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عند الصيام فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب واللباس ولأنه يجوز بدالة قبل يوم النحر فجاز أداؤه قبله كسائر الفديات
مسألة : قال : فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع تلك عشرة كاملة وتعتبر القدرة في موضعه فمتى عدمه في موضعه جاز له الانتقال إلى الصيام وإن كان قادرا عليه في بلده لأن وجوبه موقت وما كان وجوبه موقتا اعتبرت القدرة عليه في موضعه كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه انتقل إلى التراب
فصل : ولكل واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتا نوقت جواز ووقت استحباب فأما وقت الثلاثة فوت الاختيار لها أن يصومها ما بين إحرامه ويوم عرفة ويكون آخر الثلاثة يوم عرفة قال طاوس : يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وروي ذلك عن عطاء و الشعبي و مجاهد و الحسن و النخعي و سعيد ابن جبير و علقمة و عمرو بن دينار وأصحاب الرأي ابن عمر وعائشة أن يصومون ما بين اهلاله بالحج ويوم عرفة وظاهر هذا أن يجعل آخرها يوم التروية وهو قول الشافعي لأن صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحب وكذلك ذكر القاضي في المحرر والمنصوص عن أحمد الذي وقفنا عليه مثل قول الخرقي أنه لكون آخرها يوم عرفة وهو قو من سمينا من العلماء وإنما أحببنا له صوم ويم عرفة ههنا لموضع الحاجة وهذا القول يستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل يوم التروية ليصومها في الحج وإن صام منها شيئا قبل إحرامه بالحج جاز نص عليه وأما وقت جواز صومها فإذا أحرم بالعمرة وهذا قول أبي حنيفة وعن أحمد أنه إذا حل من العمرة وقال مالك و الشافعي : لا يجوز إلا بعد إحرام الحج ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول إسحاق وابن المنذر لقول الله تعالى : { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ولأنه صيام واجب فلم يجز تقديمه على وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب ولأن ما قبله وقت لا يجوز فيه المبدل فلم يجز البدل كقبل الإحرام بالعمرة وقال الثوري و الأوزاعي : يصومهن من أول العشر إلى يوم عرفة
ولنا أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كإحرام الحج فأما قوله : { فصيام ثلاثة أيام في الحج } فقيل معنا في أشهر الحج فإنه لا بد من إضمار إذ كان الحج أفعال لا يام فيها إنما يصام في وقتها أو في شهرها فهو في قوله تعالى : { الحج أشهر } وأما تقدميه على وقت الوجوب فيجوز إذا وجد السبب كتقديم الكفارة على الحنث وزهوق النفس وأما كونه بدلا فلا يقدم على المبدل فقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على إحرام الحج فكذلك الصوم وأما تقديم الصوم على إحرام العمر فغير جائز ولا نعلم قائلا بجوازه إلا رواية حكاها بعض أصحابنا عن أحمد وليس بشيء لأنه لا يقدم الصوم على سببه ووجوه ويخالف قول أهل العلم وأحمد ينزه عن هذا أما السبعة أيضا وقتان وقت اختيار ووقت جواز فأما وقت الاختيار فإذا رجع إلى أهله لما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إلى رجع إلى أهله ] متفق عليهن وأما وقت الجاز فمنذ تضمي أيام التشريق قال الأثرم : سئل أحمد هل يصوم في الطريق أو بمكة ؟ قال : كيف شاء وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وعن عطاء و مجاهد يصومها في الطريق وهو قول إسحاق قال المنذر : يصومها إذا رجع إلى أهله للخبر ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول الشافعي وقيل عنه كقولنا وكقول إسحاق
ولنا أن كل صوم لزمه وجاز في وطنه جاز قبل ذلك كسائر الفروض وأما الآية فإن الله تعالى جوز له تأخير الصيام الواجب فلا ينع ذلك الأجزاء قبله كتأخير صوم رمضان في السفر والمرض بقوله سبحانه : { فعدة من أيام أخر } ولأن الصوم وجد من أهله بعد سببه فأجزأه كصوم المسافر والمريض
فصل : ولا يجب التتابع وذلك لا يقض جمعا ولا تفريقا وهذا قول الثوري وإسحاق وغرهما ولا نعلم فيه مخالفا
مسألة : قال : فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى لا يصوم أيام منى ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم
وجملة ذلك أن المتمتع إذا لم يصم الثلاثة أيام في الحج فإنه يصومها بعد ذلك وبهذا قال علي وابن عمر وعائشة وعروة والزبير وعبيد بن عمير والحسن و عطاء و الزهري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي ويروى عن ابن عباس و سعيد بن جبير و طاوس و مجاهد إذا فاته الصوم في العشر وبعده استقر الهدي في ذمته لأن الله تعالى قال : { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } ولأنه بدل موقت فيسقط بخروج وقته كالجمعة
ولنا أنه صوم واجب فلا يسقط بخروج وقته كصوم رمضان والآية تدل على وجوبه لا على سقوطه والقياس منتقض بصوم الظهار إذا قدم المسيس عليه والجمعة ليست بدلا وإنما هي الأصل وإنما سقطت لأن الوقت جعل شرطا لها كالجماعة إذا ثبت هذا فإنه يصوم أيام منى وهذا قول ابن عمر وعائشة وعروة و عبيد بن عمير و الزهري و مالك و الأوزاعي و إسحاق و الشافعي في القديم لما روى ابن عمر وعائشة قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري وهذا ينصرف إلى ترخيص النبي صلى الله عليه و سلم ولأن الله تعالى أمر بصيام الثلاثة في الحج ولم يبق من أيام الحج إلا هذه الأيام فيتعين الصوم فيها فإذا صام هذه الأيام فحكمه من صام قبل يوم النحر وعن أحمد رواية أخرى : لا يصوم أيام منى روي ذلك عن علي و الحسن و عطاء وهو قول ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صوم ستة أيام ذكر منها أيام التشريق و [ قال عليه السلام : إنها أيام أكل وشرب ] ولأنها لا يجوز فيها صوم النفل فلا يصومها عن الهدي كيوم النحر فعلى هذه الرواية يصوم بعد ذلك عشرة أيام وكذلك الحكم إذا قلنا يصوم أيام منى فلم يصمها واختلفت الرواية عن أحمد في وجوب الدم عليه فعنه عليه دم لأنه أخر الواجب من مناسك الحج عن وقته فلزمه دم كرمي الجمار ولا فرق بين المؤخر لعذر أو لغيره لما ذكرناه وقال القاضي : أن أخر لعذر ليس عليه إلا قضاءه لأن الدم الذي هو المبدل لو أخره لعذر لا دم عليه لتأخيره فالبدل أولى وروي عن أحمد لا يلزمه مع الصوم دم يحال وهاذ اختيار أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته كصوم رمضان فأما الهدي الواجب إذا أخره لعذر مثل ضاعت نفقته فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا الواجبة وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان إحداهما : ليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا والأخرى عليه هدي آخر لأه نسك مؤقت فلزم الدم بتأخيره عن وقته كرم الجمار قال أحمد : من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين كذا قال ابن عباس
فصل : وإذا صام عشرة الأيام لم يلزمه التفريق بين الثلاثة والسبعة وقال أصحاب الشافعي : عليه التفريق لأنه وجب من حيث الفعل وما وجب التفريق فيه من حيث الفعل لم يسقط بفوات وقته كأفعال الصلاة من الركوع والسجود
ولنا أنه صام أيام منى في زمن يصح الصوم يه فلم يجب تفريقه كسائر الصوم ولا نسلم وجوب الفريق في الأداء فإنه إذا صام أيام منى وأتبعها السبعة فما حصل التفريق وإن سلمنا وجوب التفريق في الأداء فإن كان من حيث الوقت فإذا فات الوقت سقط كالتفريق بين الصلاتين
فصل : ووقت وجوب الصوم وقت وجوب الهدي لأنه بدل فكان وقت وجوبه وقت وجوب المبدل كسائر الإبدال فإن قيل : فكيف جوزتم الانتقال إلى الصوم قبل زمان وجوب المبدل ولم يتحقق العجز عن المبدل لأنه إنما يتحقق المجوز للانتقال إلى البدل زمن الوجوب وكيف جوزتم الصوم قبل وجوبه ؟ قلنا : إنا جوزنا له الانتقال إلى المبدل بناء على العجز الظاهر فإن الظاهر من المعسر استمرار إعساره وعجزه كما جوزنا التكفير بالبدل قبل وجوب المبدل وأما تجويز الصوم قبل وجوبه فقد ذكرناه
مسألة : قال : ومن دخل في الصيام ثم قدر على الهدي لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء
وبهذا قال الحسن و قتادة و مالك و الشافعي وقال ابن أبي نجيح و حماد و الثوري : أن أيسر قبل أن تكمل الثلاثة فعليه الهدي وإن أكمل الثلاثة صام السبعة وقيل متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام أو لم يصم وإن وجده بعد أن مضت أيام النحر أجزأه الصيام قدر على الهدي أو لم يقدر لأنه قدر على المبدل في زمن وجوبه فلم يجزئه البدل كما لو لم يصم
ولنا أنه صوم دخل فيه لعدم الهدي لم يلزمه الخروج إليه كصوم السبعة وعلى هذا يخرج الأصل الذي قاسوا عليه وإنه ما شرع في الصيام
فصل : وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع حتى قدر على الهدي ففيه روايتان : إحداهما : لا يلزمه الانتقال إليه قال في رواية المروذي : إذا لم يصم في الحج فليصم إذا رجع إلى الدم وقد انتقل فرضه إلى الصيام وذلك لأن الصيام استقر في ذمته لوجوبه حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم الهدي والثانية : يلزمه الانتقال إليه قال يعقوب : سألت أحمد عن المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر ؟ قال : عليه هديان يبعث بهما إلى مكة أوجب عليه الهدي الأصلي وهديا لتأخيره الصوم عن وقته ولأنه قدر على المبدل قبل شروعه في البدل فلزمه الانتقال إليه كالمتيمم إذا وجد الماء
فصل : ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به لعذر منعه عن الصوم فلا شيء عليه وإن كان لغير عذر أطعم عنه كما يطعم عن صوم أيام رمضان ولأنه صوم وجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان

ادخال العمرة على الحج وبالعكس
مسألة : قال : والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج أهلت بالحج وكانت قارنة ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم
وجملة ذلك أن المتمتعة إذا حاضت قبل الطواف للعمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأن الطواف بالبيت صلاة ولأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها ما لم تطف بالبيت فإن خشيت فوات الحج أحرمت بالحج من عمرتها وتصير قارنة وهذا قول مالك و الأوزاعي و الشافعي وكثير من أهل العلم وقال أبو حنيفة : ترفض العمرة وتهل بالحج قال أحمد : قال أبو حنيفة : قد رفضت العمرة فصار حجا وما قال هذا أحد غير أبي حنيفة واحتج بما روى عروة [ عن عائشة قالت : أهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت : ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال : هذه عمرة مكان عمرتك ] متفق عليه وهذا يدل على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه ثلاثة أحدها : قوله : [ دعي عمرتك ] والثاني : قوله [ وامتشطي ] والثالث : قوله : [ هذه عمرة مكانك عمرتك ]
ولنا ما روى جابر قال : [ أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على عائشة فوجدها تبكي فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال : إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال : قد حللت من حجك وعمرتك قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي إني لم أطف بالبيت حتى حججت قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ] وروى طاوس [ عن عائشة أنها قالت : أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت ونسكت المناسك كلها وقد أهللت بالحج فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم يوم النفر : يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم ] رواهما مسلم وهما يدلان على ما ذكرنا جميعه ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشية الفوات أولى قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عه من أهل العلم أن لمن أهل بعمرة أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة ولا يجوز رفضها لقول الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ولأنها متمكنة من إتمام عمرتها بلا ضرر فلم يجز رفضها كغير الحائض فأما حديث عروة فإن قوله : [ انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة ] انفرد به عروة خالف به سائر من روى عن عائشة حين حاضت وقد روي عن طاوس والقاسم والأسود وعمرة وعائشة ولم يذكروا ذلك وحديث جابر و طاوس مخالفان لهذه الزيادة وقد روى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة حديث حيضها فقال فيه : حدثني غير واحد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لها دعي العمرة وانقضي رأسك وامتشطي ] وذكر تمام الحديث وهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة وهو مع ذكرنا من مخالفته بقية الرواة يدل على الوهم مع مخالفتها الكتاب والأصول إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها ويحتمل أن قوله : [ دعي العمرة ] أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج وأما اعمارها من التنعيم فلم يأمرها به النبي صلى الله عليه و سلم وإنما [ قالت له صلى الله عليه و سلم : إني أجد في نفسي إني لم أطف بالبيت حتى حججت قال : فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم ] وروى الأثرم بإسناده عن الأسود عن عائشة قلت : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : ولله ما كانت عمرة ما كانت إلا زيارة زرت البيت إما هي مثل نفقتا قال أحمد : إنما أعمر النبي صلى الله عليه و سلم عائشة حين ألحت عليه فقالت : يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك فقال : يا عبد أعمرها فنظر إلى أدنى الحرم فأعمرها منه وقول الخرقي ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم ولأن طواف القدوم سنة لا يجب قضاؤها ولم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم عائشة بقضائه ولا فعلته هي
فصل : وكل متمتع خشي فوات الحج فإنه يحرم بالحج ويصير قارنا وكذلك المتمتع الذي معه هدي فإنه لا يحل من عمرته بل يهل بالحج معها فيصير قارنا ولو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف من غير خوف الفوات جاز وكان قارنا بغير خلاف وقد فعل ذلك ابن عمر ورواه عن النبي صلى الله عليه و سلم فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارنا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وروي عن عطاء وقال مالك يصير قارنا وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأنه أدخل الحج على إحرام العمرة فصح كما قبل الطواف
ولنا أنه شارع في التحلل من العمر فلم يجز إدخال الحج عليها كما لو سعى بين الصفا والمروى
فصل : فأما إدخال العمرة على الحج فغير جائز فإن فعل لم يصح ولم يصر قارنا روي ذلك عن علي وبه قال مالك و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : يصح ويصير قارنا لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر قياسا على إدخال الحج على العمرة ولنا ما روى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن نصر عن أبيه قال : خرجت أريد الحج فقدمت المدينة فإذا علي قد خرج حاجا فأهللت بالحج ثم خرجت فأدركت عليا في الطريق وهو يهل بعمرة وحجة فقلت : يا أبا الحسن إنما خرجت من الكوفة لاقتدي بك وقد سبقتني فأهللت بالحج أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه ؟ فقال : لا إنما ذلك لو كنت أهللت بعمرة ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيده إلا ما أفاده العقد الأول فلم يصح كما لو استأجره على عمل ثم استأجره عليه ثانيا في المدة وعكسه إدخال الحج والعمرة

من وطئ قبل رمي جمرة العقبة
مسألة : قال : ومن وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجهما وعليه بدنة إن كان استكرهها ولا دم عليها
في هذه المسألة ثلاثة فصول :
الفصل الأول : أن الوطء قبل جمرة العقبة يفسد الحج ولا فرق بين ما قبل الوقوف وبعده وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي : إن وطئ بعد والوقوف لم يفسد حجة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك عرفة فقد تم حجه ] ولأنه أمن الفوات فأن الفساد كما بعد التحلل الأول
ولنا أن رجلا سأل ابن عباس وعبد الله بن عمرو فقال : وقعت بأهلي ونحن محرمان فقالا له : أفسدت حجك ولم يستفصلوا السائل رواه الأثرم ولأنه وطء صادف إحراما تاما فأفسده كقبل الوقوف ويخالف ما بعد التحلل الأول فإن الإحرام غير تام والمراد نم اخبر الأمن من الفوات ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد وبدليل العمرة يأمن فواتها ولا يأمن فسادها قال أحمد : لا أعلم أحدا قال : إن حجة تام غبر أبي حنيفة يقول الحج عرفات فمن وقف بها فقد تم حجة وإنما هذا مثل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ] أي أدرك فضل الصلاة ولم تفته كذلك الحج إذا ثبت هذا فإنه يفسد حجهما جميعا لأن جماع وبجد منهما وسواء في ذلك الناسي والعامد والمستكرهة والمطاوعة والمستيقظة علاما كان الرجل أو جاهلا وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يفسد حج الناسي لأنه معذور
ولنا أنه معنى يوجب القضاء فاستوت فيه الأحوال كلها كالفوات ولا فر بين ما بعد يوم النحر أو قبله لأنه وطئ قبل التحلل الأول ففسد حجة كما لو وطئ يوم النحر
الفصل الثاني : أنه يلزمه بدنة وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : إن وطئ قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وإن وطئ بعده لم يفسد حجه وعليه بدنة لأن الوطء قبل الوقوف معنى يتعلق به وجوب القضاء فلم يوجب بدنة كالفوات
ولنا أنه قد روي عن عمر وابن عباس مثل قولنا ولأنه وطء صادف إحراما تاما فأوجب البدنة كما بعد الوقوف ولأن ما يفسد الحج الجناية به أعظم فكفارته يجب أن تكون أغلظ وأما الفوات فإنهم يوجبون به بدنة فكيف يصح القياس عليه ؟
الفصل الثالث : أن لا دم عليها في حال الإكراه وهو قول عطاء و مالك و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وقال أصحاب الرأي : عليها دم آخر لأنه قد فسد حجها فوجبت البدنة كما لو طاوعت
ولنا أنها كفارة تجب بالجماع فلم تجب على المرأة في حال الإكراه كما لو وطئ في الصوم
فصل : ومن وطئ قبل التحلل من العمرة فسدت عمرته وعليه شاة مع القضاء وقال الشافعي : عليه القضاء وبدنة لأنها عبادة تشتمل على طواف وسعي فأشبهت الحج وقال أبو حنيفة : إن وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط كقولنا وإن وطئ بعد ذلك فعله شاة ولا تفسد عمرته ولنا على الشافعي أنها عبادة لا وقوف فيها فلم يجب فيها بدنة كما لو قرنها بالحج ولأن العمرة دون الحج فيجب أن يكون حكمها دون حكمه وبهذا يخرج الحج ولنا على أبي حنيفة أن الجماع من محظورات الإحرام فاستوى فيه ما قبل الطواف وبعده كسائر المحضورات ولأنه وطء صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الطواف
فصل : إذا أفسد القارن والمتمتع نسكها ولم يسقط الدم عنهما وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يسقط وعن أحمد مثله لأنه لم يحصل له الترفه بسقط بالإفساد كالدم الواجب لترك الميقات
فصل : وإذا افسد القارن نسكه ثم قضى مفردا لم يلزمه في القضاء دم وقال الشافعي يلزمه لأنه يجب في القضاء ما يجب في الأداء وهذا كان واجبا في الأداء ولنا أن الأفراد أفضل من القران مع الدم فإذا أتى بهما فقد أتى بما هو أولى فلا يلزمه شيء كمن لزمته الصلاة بتيمم فقضى بالوضوء

وإن وطئ قبل رمي جمرة العقبة
مسألة : قال : وإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة فعليه دم ويمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف وهو محرم
وفي هذه المسألة ثلاثة فصول :
فصل : أحدها : أن الوطء بعد الجمرة لا يفسد الحج وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء و الشعبي و ربيعة و مالك و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وقال النخعي و الزهري وحماد : عليه حج من قابل لأن والوطء صادف إحراما من الحج فأفسده كالوطء قبل الرمي ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ] ولأنه قول ابن عباس فإنه قال في رجل أصاب أهل قبل أن يفيض يوم النحر : ينحران جزورا بينها وليس عليه الحج من قابل ولا نعرف له مخالفا في الصحابة ولأن الحج عبادة لها تحللان فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها كبعد التسليمة الأولى في الصلاة وبهذا فارق ما قبل التحلل الأول
الفصل الثاني : أو الواجب عليه بالوطء شاة هذا ظاهر كلام الخرقي ونص عليه أحمد وقول عكرمة و ربيعة و مالك و إسحاق وقال القاضي : فيه رواية أخرى أن عليه بدنة وهو قول ابن عباس و عطاء و الشعبي و الشافعي وأصحاب الرأي لأنه وطئ في الحج فوجبت عليه بدنة كما قبل رمي جمرة العقبة ولنا أنه وطء لم يفسد فلم يوجب كالوطء دون الفرج إذا ينزل ولأن حكم الإحرام خف بالتحلل الأول فينبغي أن يكون موجبه الإحرام التام
الفصل الثالث : أنه يفسد الإحرام بالوطء بعد رمي الجمرة ويلزمه أن يحرم من الحل وبذلك قال عكرمة و ربيعة و إسحاق وقال ابن عباس و عطاء و الشعبي و الشافعي : حجة صحيح ولا يلزمه الإحرام لأنه إحرام لا يفسد جميعه فلم يفسد بعضه كما لو وطئ بعد التحلل الثاني
ولنا أنه وطء صادف إحراما فأفسده كالإحرام التام وإذا فسد إحرامه فعليه أن يحرم ليأتي بالطواف في إحرام صحيح لأن الطواف ركن فيجب أن يأتي به في الإحرام من الحرم لم يجمع بينهما لأن أفعاله كلها تقع في الحرم فأشبه المعتمر وإذا أحرم من الحل طاف للزيارة وسعى إن كان لم يسع في حجه وإن كان سعى طاف للزيارة وتحلل هذا ظاهر كلام الخرقي لأن الذي بقي عليه بقية أفعال الحج وإنما وجب عليه الإحرام ليأتي بها ف إحرام صحيح والمنصوص عن أحمد ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر فيحتمل أنهم أرادوا هذا أيضا وسموه عمرة لأن هذا هو أفعال العمر ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقة فيلزمه سعى وتقصير والأول أصح لما ذكرنا وقول الخرقي : يحرمن التنعيم لم يذكره لتعيين الإحرام منه بل لأنه حل فمن أحل وإحرام جاز كالمعتمر
فصل : ولا فرق بين من حلق ومن لم يحلق في أنه لا يفسد حجه بالوطء بعد الرمي وعليه دم وإحرام من الحل هذا ظاهر كلام أحمد والرخي ومن سميناه من الأئمة لترتيبهم هذا الحكم على الوطء بعد مجرد الرمي من غير اعتبار أمر زائد
فصل : فإن طاف للزيارة ولم يرم ثم وطئ لم يفسد حجه بحال لأن الحج قد تم أركانه كلها ولا يلزمه إحرام من الحل فإن الرمي ليس بركن وهل يلزمه دم ؟ يحتمل أنه لا يلزمه شيء لما ذكرنا ويحتمل أنه يلزمه لأنه وطئ قبل وجود ما يتم به التحلل فأشبه من وطئ بعد الرمي وقبل الطواف
فصل : والقارن كالمفرد فإنه إذا وطئ بعد الرمي لم يفسد حجه ولا عمرته لأن الحكم للحج ألا ترى أنه لا يحل من عمرته قبل الطواف ويفعل ذلك إذا كان قارنا ولأن الترتيب للحج دونها والحج لا يفسد قبل الطواف كذلك العمرة وقال أحمد : من وطئ بعد الطواف يوم النحر قبل أن يركع ما عليه شيء قال أبو طالب : سألت أحمد عن الرجل يقبل بعد رمي جمرة العقبة قبل أن يزور البيت قال : ليس عليه شيء قد قضى المناسك فعلى هذا ليس عليه فيما دون الوطء في الفرج شيء

مبيت أهل الأعذار بمنى ورميهم أهل السقاية والرعاء
مسألة : قال : ومباح لأهل السقاية والرعاة أن يرموا بالليل
تروى هذه اللفظة الرعاة بضم الراء وإثبات الهاء مثل الدعاة والقضاء والرعاء بكسر الراء والمد من غير هاء وعما لغتان صحيحتان قال الله تعالى : { حتى يصدر الرعاء } وفي بعض الحديث أرخص للرعاة أن يرموا يوما ويدعوا يوما وأنا أبيح لهؤلاء الرمي بالليل لأنهم يشتغلون بالنهار برعي المواشي وحفظها وأهل السقاية هم الذين يسقون من بئر زمزم للحاج فيشتغلون بسقايتهم نهارا فأبيح لهم الرمي في وقت فراغهم تخفيفا عليهم فيجوز لهم رمي كل يوم في الليلة المستقبلة فيرمون جمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني ورمي الثاني في ليلة الثالث والثالث إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم كسقوطه عن غيرهم قال عطاء : لا يرمي بالليل إلا رعاء الإبل فأما التجار فلا وكان مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولن : من نسي الرمي إلى الليل رمي ولا شيء عليه من الرعاة ومن غيرهم
مسألة : قال : ومباح للرعاء أن يؤخروا فيقضوه في الوقت الثاني
وجملة ذلك أنه يجوز للرعاة ترك المبيت بمنى ليالي منى ويؤخرون رمي اليوم الأول ويرمون يوم النفر الأول عن الرميين جميعا لما عليهم من المشقة في المبيت والإقامة للرمي وقد روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه قال : رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم لرعاء الإبل في البيتوته أن يرموا يوم النحر ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما قال مالك : ظننت أنه في أول يوم منهما ثم يرمون يوم النفر رواه ابن ماجة وا لترمذي وقال حديث حسن صحيح رواه ابن عيينه قال : رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج وقد روى ابن عمر [ أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه و سلم ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ] متفق عليه إلا أن الفرق بين الرعاء وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس فقد انقضى وقت الرعي وأهل السقاية يشتغلون ليلا ونهارا فافترقا وصار الرعاء كالمريض الذي يباح له ترك الجمعة لمرضه فإذا حضرها تعينت عليه والرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي فإذا فات وقته وجب المبيت
فصل : وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه و سلم رخص لهؤلاء تنبيها على غيرهم أو تقول نص عليه لمعنى وجد في غيرهم فوجب إلحاقه بهم
فصل : إذا كان الرجل مريضا أو محبوسا أو له عذر جاز أن يستنيب من يرمي عنه قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : إذا رمى عنه الجمار يشهد هو ذاك أو يكون في رحله ؟ قال : يعجبني أن يشهد ذلك ان قدر حين يرمى عنه قلت : فإن ضعف عن ذلك أيكون في رحله ويرمي عنه ؟ قال نعم قال القاضي : المستحب أن يضع الحصا في يد النائب ليكون له عمل في الرمي وإن أغمي على المستنب لم تنقطع النيابة وللنائب عنه كما لو استنابه في الحج ثم أغمي عليه وبما ذكرنا في هذه المسألة قال الشافعي : ونحوه قال مالك : إلا أنه قال يتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات
فصل : ومن ترك الرمي من غير عذر فعليه دم قال أحمد : أعجب إلي إذا ترك الأيام كلها كن عليه دم وفي ترك جمرة واحدة دم أيضا نص عليه أحمد وبهذا قال عطاء و الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن ما لم أن عليه في جمرة أو جمرات كلها بدنة قال الحسن : من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين
ولنا قول ابن عباس من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم ولأنه ترك من مناسكه ما لا يفسد الحج بتركه فكان الواجب عليه شاة كالمبيت وإن ترك أقل من جمرة فالظاهر عن أحمد أنه شيء عليه في حصاة ولا في حصاتين وعنه أنه يجب الرمي بسبع فإن ترك شيئا من ذلك تصدق بشيء أي شيء كان وعنه أن في حصاة دما وهو مذهب مالك والليث لأن ابن عباس قال : من ترك شيئا من مناسكه فعليه دم وعنه في الثلاثة دم وهو مذهب الشافعي وفيما دون ذلك في كل حصاة مد وعنه درهم وعنه نصف درهم وقال أبو حنيفة : إن ترك جمرة العقبة أو الجمار كلها فعله دم وإن ترك غير ذلك فعله في كل حصاة نصف صاع إلى أن يبلغ دما وقد ذكرنا ذلك وآخر وقت الرمي آخر أيام التشريق فمتى خرجت قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء الواجب في ترك الرمي هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن عطاء فيمن رمى جمرة العقبة ثم خرج إلى ابله في ليلة أربع عشرة ثم رمى قبل طلوع الفجر فإن لم يرم هراق دما والأول أولى لأن محل الرمي النهار فيخرج وقت الرمي بخروج النهار والله أعلم

باب الفدية وجزاء الصيد
مسألة : قال : ومن حلق أربع شعرات فصاعدا عامدا أو مخطئا فعليه صيام ثلاثة أيام أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين أو ذبح شاة أي ذلك فعل أجزأه
الفصل الأول : إن على المحرم فدية إذا حلق رأسه ولا خلاف في ذلك قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم بغير علة والأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لكعب بن عجرة : لعلك أذاك هوامك ؟ قال : نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة ] متفق عليه وفي لفظ [ أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر ] ولا فرق في ذلك بين إزالة الشعر بالحلق أو النورة أو قصبة أو غير ذلك لا نعلم فيه خلافا
الفصل الثاني : إنه لا فرق بين العامد والمخطئ ومن له عذر ومن لا عذر له في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي : ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر لا فديه على الناسي وهو قول إسحاق و ابن المنذر لقوله عليه السلام : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] ولنا أنه إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كقتل الصيد ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير المعذور ودليلا علو وجوبها على المعذور بنوع آخر مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه أو شعرا عن شجته وفي معنى الناسي النائم الذي يقلع شعره أو يصوب شعره إلى تنور فيحرق لهب النار شعره ونحو ذلك
الفصل الثالث : أن الفدية هي إحدى الثلاثة المذكورة في الآية والخبر أيها شار فعل لأنه أمر بها بلفظ التخيير ولا فرق في ذلك بين المعذور وغيره والعامد والمخطئ وهو مذهب مالك و الشافعي وعن أحمد أنه إذا حلق لغير عذر فعليه الدم من غير تخيير وهو مذهب أبي حنيفة لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإذا عدم الشرط وجب زوال التخيير ولنا أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه تبعا له والتبع لا يخالف أصله ولأن كل كفارة ثبت التخيير فيها إذا كان سببها مباحا ثبت كذلك إذا كان محظورا كجزاء الصيد ولا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله أو لغير ذلك وإنما الشرط لجواز الحلق لا التخيير
الفصل الرابع : القدر الذي يجب به الدم أربع شعرات فصاعدا وفيه رواية أخرى يجب في الثلاث ما في حلق الرأس قال القاضي : هو المذهب وهو قول الحسن و عطاء و ابن عيينة و الشافعي و أبي صور لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن يتعلق به الدم كالربع وقال أبو حنيفة : لا يجب الدم بدون ربع الرأس لأن الربع يقوم مقام الكل ولهذا إذا رأى رجلا يقول : رأيت فلانا وإنما رأى إحدى جهاته وقال مالك : إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم ووجه كلام الخرقي أن الأربع كثير فوجب به الدم كالربع فصاعدا أما الثلاثة فيه آخر القلة وآخر الشيء منه فأشبه الشعرة والشعرتين الاستبدال بأن الربع يقع عليه اسم الكل غير صحيح فإن ذلك لا يتقيد بالربع وإنا هو مجاز يتناول الكثير والقليل
الفصل الخامس : إن شعر الرأس وغيره سواء في وجوب الفدية لأن شعر غير الرأس يحصل بحلقه والترفه والتنظيف فأشبه الرأس فإن حلق من شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة وإن كثير وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنة شعرتين فعله دم واحد هذا ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي الخطاب ومذهب أكثر الفقهاء وذكر أبو الخطاب إن فيها روايتين إحداهما : كما ذكرنا والثانية : إذا قلع من شعر رأسه وبدنه ما يجب الدم بكل واحد منهما منفردا ففيهما دمان وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل به دون البدن ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن وكاللباس ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإن يجب كشف الرأس دون غيره والجزاء في اللبس فيهما واحد
الفصل السادس : إن الفدية الواجب وبحلق الشعر هي المذكورة في حديث كعب بن عجرة بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو انسك شاة ] وفي لفظ : [ أو أطعم فرقا بين ستة مساكين ] متفق عليه وفي لفظ : [ أو أطعم ستة مساكين بين كل مسكين صاع ] وفي فلفظ : [ فصم ثلاثة أيام وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين ] رواه كله أبو داود وبهذا قال مجاهد و النخعي و أبو مجاز و الشافعي و مالك وأصحاب الرأي وقال الحسن وعكرمة ونافع : الصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين ويروى ذلك عن الثوري وأصحاب الرأي قالوا : يجزئ من البر نصف صاع لكلك مسكين ومن التمر والشعير صاع صاع واتباع السنة أولى
فصل : ويجزئ البر والشعير والزبيب في الفدية لأن كل موضع أجزأ فيه التمر أجزأ فيه أجزأ فيه ذلك كالفطرة وكفارة اليمين وقد روى أبو داود في حديث [ كعب بن عجرة قال : فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي : احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة ] رواه أبو داود ولا يجزئ من هذه الأصناف أقل من ثلاثة آصع إلا البر ففيه روايتان إحداهما : مد من بر لكل مسكين مكان نصف صاع من غيره كما في كفارة اليمين والثانية : لا يجزئ إلا نصف صاع لأن الحكم ثبت فيه بطريق التنبيه أو القياس والفرع يماثل أصله ولا يخالفه وبهذا قال مالك و الشافعي
فصل : وإذا حلق ثم حلق فالواجب فدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني فإن فعل الثاني فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانيا فعليه للثاني كفارة أيضا وكذلك الحكم فيما إذا لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب أو كرر من محظورات الإحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها ولا يتقدرها فأما ما يتقدر الواجب بقدره وهو اتلاف الصيد ففي كل واحد جزاؤه وسواء فعله مجتمعا أو متفرقا ولا تداخل فيه ففعل المحظورات متفرقا كفعلها مجتمعة في الفدية ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني وعن أحمد أنه إن كرره لأسباب مثل أن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض فكفارات وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحدة قلت له : فإن اعتل فلبس جبة ثم برأ اعتل فلبس جبة فقال : هذا الآن عليه كفارتان وعن الشافعي كقولنا وعنه لا يتداخل وقال مالك : تتداخل كفارة الوطء دون غيره وقال أبو حنيفة : إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس فكفارات لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد بخلاف غيره
ولنا أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقيب بعض يجب أن يتداخل وإن تفرق كالحدود وكفارة الإيمان ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو في دفعات والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء
فصل : فأما جزاء الصيد فلا يتداخل ويجب في كل صيد جزاؤه سواء وقع متفرقا أو في حال واحدة وعن أحمد أنه يتداخل قياسا على سائر المحظورات ولا يصح لأن الله تعالى قال : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } ومثل الصيدين لا يكون أحدهما ولأنه لو قتل صيدين دفعة واحدة وجب جزاؤهما فإذا تفرقا أولى أن يجب لأن حالة التفريق لا تنقص عن حالة الاجتماع كسائر المحظورات
فصل : إذا حلق المحرم رأس حلال أو قلم أظفاره فلا فدية عليه وبذلك قال عطاء و مجاهد و عمرو بن دينار و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال : يتصدق بدرهم وقال أبو حنيفة : يلزمه صدقة لأنه اتلف شعر آدمي فأشبه شعر المحرم ولنا أنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب بإتلافه شيء كشعر بهيمة الأنعام
فصل : وإن حلق محرم رأس محرم بإذنه فالفدية على من حلق رأسه وكذلك أن حلقه حلال بإذن لأن الله تعالى قال : { ولا تحلقوا رؤوسكم } وقد علم أن غيره هو الذي يحلقه فأضاف الفعل إليه وجعل الفدية وعليه وإن حلقه مكرها أو نائما فلا فدية على المحلوق رأسه وبهذا قال إسحاق و أبو ثور و ابن القاسم صاحب مالك و ابن المنذر وقال أبو حنيفة على المحلوق رأسه الفدية وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أنه حلق رأسه ولم يحلق بإذنه فأشبه ما لو انقطع الشعر بنفسه إذا ثبت هذا فإن الفدية على الحالق حراما كان أو حلالا وقال أصحاب الرأي : على الحلال صدقة وقال عطاء عليهما الفدية ولنا أنه أزال ما منع من إزالته لأجل الإحرام فكانت عليه فدية كالمحرم يحلق رأس نفسه
فصل : إذا قلع جلده عليها شعر فلا فدية عليه لأنه زال تابعا لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع اشفار عيني إنسان فإنه لا يضمن اهدابهما
فصل : وإذا خلل شعره فسقطت شعره فإن كانت ميتة فلا فدية فيه وإن كانت من شعره النابت ففيها الفدية وإن شك فلا فدية فيها لأن الأصل نفي الضمان إلى أن يحصل يقين
مسألة : قال : وفي كل شعرة من الثلاث مد من طعام
يعني إذا حلق دون الأربع فعليه في كل شعرة مد من طعام وهذا قول الحسن و ابن عيينة و الشافعي فيما دون الثلاث وعن أحمد في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهما وعنه في كل شعرة قبضة من طعام وروي ذلك عن عطاء ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي قال مالك : عليه فيما قل من الشعر اطعام طعام وقال أصحاب الرأي : يتصدق بشيء لأنه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم الصدقة وعن مالك فيمن أزال شعرا لا ضمان عليه لأن النص إنما أوجب الفدية في حلق الرأس كله فألحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد والأولى أن يجب الإطعام لأن الشارع إنما عدل عن الحيوان إلى الطعام في جزاء الصيد وههنا أوجب الإطعام مع الحيوان على وجه التخيير فيجب أن يرجع إليه فيما لا يجب فيه الدم ويجب مد لأه أقل ما وجب بالشرع فدية فكان واجبا في أقل الشعر والطعام الذي يجزئ فيه اخراجه وهو ما يجزئ في حلق الرأس ابتداء من البر والشعير والتمر والزبيب كالذي يجب في الأربع
فصل : ومن أبيح له حلق رأسه لأذى به فهو مخير في الفدية قبل الحلق وبعده نص عليه أحمد لما روي أن الحسين بن علي اشتكى رأسه فأتى علي فقيل له : هذا الحسين يشير إلى رأسه فدعا بجزور فنحرها ثم حلقه وهو بالسعياء رواه أبو إسحاق الجوزجاني ولأنها كفارة فجاز تقديمها على وجوبها ككفارة الظهار واليمين

قص المحرم أظفاره
مسألة : قال : قال وكذلك الأظفار
قال ابن المنذر وأجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره وعليه الفدية يأخذ في قول أكثرهم وهو قول حماد و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عطاء وعنه لا فديه عليه لأن الشرع لم يرد فيه بفدية
ولنا أن أزال ما منع إزالته الترفه فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر وعدم النص فيه لا يمنع قياسه عليه كشعر البدن مع شعر الرأس والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء في أربعة منها دم وعنه في ثلاثة دم وفي الظفر الواحد دم من طعام وفي الظفرين مدان على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه وقول الشافعي و أبي ثور كذلك وقال أبو حنيفة : لا يجب الدم إلا بتقليم أظفار يد كاملة حتى لو قلم من كل يد أربعة لا يجب عليه الدم لأن لم يستكمل منفعة اليد أشبه الظفر والظفرين ولنا أنه قلم ما يقع عليه اسم الجمع أشبه ما لو قلم خمسا من يد واحدة وما قالوه يبطل بما إذا حلق ربع رأسه فإنه لم يستوف منفعة العضو ويجب به الدم وقولهم يؤدي إلى أن يجب به الدم في القليل دون الكثير إذا ثبت هذا فإنه يتخير من قلم ما يجب به الدم بين الثلاثة أشياء كما قلنا في الشعر لأن الاجاب في الأظفار بالإلحاق بالشعر فيكون حكم الفرع حكم أصله ولا يجب فيما دون الأربعة أو الثلاثة بقسطه من الدم لأن العبادة إذا وجب فيها الحيوان لم يجب فيها جزء منه كالزكاة
فصل : وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وكذلك في قطع بعض الشعرة مثل ما في قطع جميعها لأن الفدية تجب في الشعرة والظفر سواء أطال أو قصر وليس بمقدر بمساحة فيتقدر الضمان عليه بل هو كالموضحة يجب في الصغيرة منه مثلما يجب في الكبيرة وخرج ابن عقيل وجها أنه يجب بحساب المتلف كالاصبع يجب في أنملتها ثلث ديتها والله أعلم

فدية اللباس والتطيب على المحرم
مسألة : قال : وإن تطيب المحرم عامدا غسل الطيب وعليه دم وكذلك إن لبس المخيط أو الخف عامدا وهو يجد النعل خلع وعليه دم
لا خلاف في وجوب الفدية على المحرم إذا تطيب أو لبس عامدا لأنه ترفه بمحظور في إحرامه فلزمته الفدية كما لو ترفه بحلق شعره أو قلم ظفره والواجب عليه أن يفديه بدم ويستوي في ذلك قليل الطيب وكثيره وقليل اللبس وكثيره وبذلك قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب الدم إلا بتطيب عضو كامل وفي اللباس بلباس يوم وليلة ولا شيء فيما دون ذلك لأنه لم يلبس لبسا معتادا فأشبه ما لو ائتزر بالقميص ولنا أنه متى حصل به الاستمتاع بالمحظورات فاعتبر مجرد الفعل كالوطء محظورا فلا تتقدر فديته بالزمن كسائر المحظورات وما ذكروه غير صحيح فإن الناس يختلفون في اللبس ف العادة ولأن ما ذكروه تقدير والتقديرات بابها التوقيف وتقديرهم بعضو ويوم وليلة تحكم محض وأما إذا ائتزر بقميص فليس ذلك بلبس مخيط ولهذا لا يحرم عليه والمختلف فيه محرم
فصل : ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس لأنه فعل محظورا فيلزمه إزالته وقطع استدامته كسائر المحظورات والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه ويجوز أن يليه بنفسه ولا شيء عليه ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا : اغسل عنك الطيب ] ولأه تارك له فإن لم يجد ما يغسله به مسحه بخرقة أو حكمه بتراب أو ورق أو حشيش لأن ذلك الذي لعيه إزالته بحسب القدرة وهذا نهاية قدرته
فصل : إذا احتاج إلى الوضوء وغسل الطيب ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما قدم غسل الطيب ويتيمم للحديث لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل وتوضأ لأن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته فلا يتعين الماء والوضوء بخلافه
فصل : إذا لبس قميصا وعمامة وسراويل وخفين لم يكن عليه إلا فدية واحدة لأنه محظور من جنس واحد فلم يجب فيه أكثر من فدية واحدة كالطيب في بدنه ورأسه ورجليه
فصل : وإن فعل محظورا من أجناس فحلق ولبس وتطيب ووطئ فعليه لكل واحد فدية سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحق فدية واحدة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد فعله لكل واحد دم وهو قول إسحاق وقال عطاء و عمرو بن دينار : إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما ففعل ذلك فليس عليه إلا فدية وقال الحسن : إن لبس القميص وتعمم وتطيب فعل ذلك جميعا فليس عله إلا كفارة واحدة ونحو ذلك عن مالك ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس فلم تتداخل أجزأؤها كالحدود المختلفة والإيمان المختلفة وعكسه ما إذا كان من جنس واحد

ولو لبس أو تطيب ناسيا
مسألة : قال : وإن لبس أو تطيب ناسيا فلا فدية عليه ويخلع اللباس ويغسل الطيب ويفرغ إلى التلبية
المشهور في المذهب أن المتطيب أواللابس ناسيا أو جاهلا لا فدية عليه وهو مذهب عطاء و الثوري و إسحاق و ابن المنذر : وقال أحمد قال سفيان : ثلاثة في الجهل والنسيان سواء إذا أتى أهله وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه قال أحمد : وإذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء
وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكره ألقاه عن رأسه وليس عليه شيء أو لبس خفا نزعه وليس عليه شيء وعنه رواية أخرى أن عليه الفدية في كل حال وهو مذهب مالك و الليث و الثوري و أبي حنيفة لأنه هتك حرمة الإحرام فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأظفار
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وروى يعلي بن أمية [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق أو قال أثر صفرة فقال : يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر هذا الخلوق أو قال : أثر الصفرة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك ] متفق عليه وفي لفظ [ قال : يا رسول الله أحرمت بالعمرة وعلي هذه الجبة ] فلم يأمره بالفدية مع مسألته عما تصنع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز إجماعا دل على أنه عذره لجهله والجاهل والناسي واحد ولأن الحج عبادة يجب بإفسادها الكفارة فكان من محظوراته أنه ما يفرق بين عمدة وسهوه كالصوم فأما الحلق وقتل الصيد فهو إتلاف لا يمكن رد تلافيه بإزالته إذا ثبت هذا فإن الناسي متى ذكر فعليه غسل الطيب وخلع اللباس في الحال فإن أخر ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية فإن قيل : فلم لا يجوز له استدامة الطيب ههنا كالذي يتطيب قبل إحرامه قلنا لأن ذلك فعل مندوب إليه فكان له استدامته وههنا هو محرم وإنما سقط حكمه بالنسيان أو الجهل فإذا زال ظهر حكمه وإن تعذر عليه إزالته لإكراه أو علة نلم يجد من يزيله وما أشبه ذلك فلا فدية عليه وجرى مجرى المكره على الطيب ابتداء وحكم الجاهل إذا علم حكم الناسي إذا ذكر وحكم المكره حكم الناسي فإما عفي بالنسيان عفى عنه بالإكراه لأنهما في الحديث الدال على العفو عنهما وقول الخرقي : ينزع إلى تلبية أي يلبي حين ذكر استذكارا للحج أنه نسيه واستشعارا فإقامته عليه ورجوعه إبراهيم وهذا قول يروى عن إبراهيم النخعي

حكم من دفع بعرفة نهارا أو قبل الإمام
مسألة : قال : ولو وقف بعرفة نهارا أو دفع قبل الإمام فعليه دم
وجملة ذلك أن من وقف بعرفة يوم عرفة نهارا وجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف فإن دفع قبل الغروب ولم يعد حتى غربت الشمس فعليه دم وقال الشافعي : لا يجب ذلك ولا دم عليه أن دفع قبل الغروب احتجاجا بحديث عروة بن مضرس ولأنه أدرك من الوقوف ما أجزأه أشبه ما لو أدرك الليل منفردا
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم وقف حتى غربت الشمس بغير خلاف وقد قال : [ خذوا عني مناسككم ] فإذا تركه لزمه دم لقوله ابن عباس ولأنه ركن لم يأت به على الوجه المشروع فلزمه دم كما لو أحرم من دون الميقات وحديثهم دل على الأجزاء والكلام في وجوب الدم فأما إذا وقف في الليل خاصة فإنه يجزئه ولا يلزمه دم لأن من أدرك الليل وحده لا يمكنه الوقوف نهارا فلا يتعين عليه ولا يجب عليه بتركه دم بخلاف من أدرك نهارا وأما قوله : أو دفع قبل الإمام فظاهر أنه أوجب بذلك دما وإن دفع قبل الغروب قول روى الأثرم عن أحمد قال : سمعته يسأل عن رجل دفع قبل الإمام من عرفة بعدما غابت الشمس فقال : ما وجدت أحدا سهل فيه كلهم يشدد فيه قال : وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام وعن عطاء عليه شاة إذا دفع قبل الإمام قيل فيدفع من مزدلفة قبل الإمام ؟ فقال : المزدلفة عندي غير عرفة وذكر حديث ابن عمر أنه دفع قبل ابن الزبير وغير الخرقي من أصحابنا لم يوجب بذلك شيئا ولا عد الدفع مع الإمام من الواجبات وهو الصحيح فإن اتباع الإمام وأفعال النسك معه ليس بواجب في سائر مناسك الحج فكذا ههنا وإنما وقع دفع الصحابة مع النبي صلى الله عليه و سلم بحكم العادة فلا يدل على الوجوب كالدفع معه من مزدلفة والافاضة من منى وغير ذلك وليس ذلك فعلا للنبي صلى الله عليه و سلم فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه و سلم : [ خذوا عني مناسككم ]

ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل
مسألة : قال : من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل من غير الرعاة وأهل سقاية الحاج فعليه دم
وجملة ذلك أن المبيت بمزدلفة واجب يجب بتركه دم سواء تركه عمدا أو خطأ عالما جاهلا لأنه ترك نسكا وللنسيان أثره في ترك الموجود كالمعدوم لا في جعل المعدوم كالموجود إلا أنه رخص لأهل السقاية ورعاة الإبل في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه و سلم رخص للرعاة في ترك البيتوتة في حديث عدي وأرخص للعباس في المبيت لأجل سقايته ولأن عليهم مشقة في المبيت لحاجتهم إلى حفظ مواشيهم وسقي الحاج فكان فهم ترك المبيت فلها كليالي منى ولأنها ليلة يرمى في غدها فكان لهم ترك المبيت فيها كليالي منى وروي عن أحمد أن المبيت بمزدلفة غير واجب ولا شيء على تاركه والأول المذهب

صيد المحرم وجزاؤه وفروع في الصيد وفدية والهدي والأضاحي
مسألة : قال : ومن قتل وهو محرم من صيد البر عامدا أو مخطئا فداه بنظيره من النعم إن كان المقتول دابة
في هذه المسألة فصول ستة :
الفصل الأول : في وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الجملة وأجمع أهل العم على وجوبه ونص الله تعالى عليه بقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } ولا نعلم أحدا خالف في الجزاء في القتل الصيد متعمدا إلا الحسن ومجاهدا قالا : إذا قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه لا جزاء عليه وإن كان مخطئا أو ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء وهذا خلاف النص فإن الله تعالى قال : { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } والذاكر لإحرامه متعمد وقال في سياق الآية : { ليذوق وبال أمره } والمخطيء والناسي لا عقوبة عليه وقتل الصيد نوعان : مباح ومحرم فالمحرم قتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء والمباح ثلاثة أنواع : أحدها : أن يضطر إلى أكله فيباح له ذلك بغير خلاف نعلمه فإن الله تعالى قال : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وترك الأكل مع القدرة عند الضرورة إلقاء بيده إلى التهلكة ومتى قتله ضمنه سواء وجد غيره أن لم يجد وقال الأوزاعي : لا يضمنه لأنه مباح أبه صيد البحر
ولنا عموم الآية ولأنه قتله من غير معنى يحدث من الصيد يقتضي قتله فضمنه كغيره ولأنه أتلفه لدفع الأذى عنه لا لمعنى فيه أشبه حلق الشعر لأذى برأسه
النوع الثاني : إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر عليه الجزاء وهو قول أبي حنيفة لأنه قتله لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله
ولنا أنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي الصائل لأنه التحق بالمؤذيات طبعا فصار كالكلب العقور ولا فرق بين أن يخشى منه التف أن يخشى مضى كجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته
النوع الثالث : إذا خلص صيدا من سبع أو شبكة صياد أو أخذه ليخلص من رجله خيطا ونحوه فتلف بذلك فلا ضمان عليه وبه قال عطاء : وقيل عليه الضمان وهو قول قتادة لعموم الآية ولأن غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله فأشبه قتل الخطأ
ولنا أنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي الصبي فمات بذلك وهذا ليس بمعتمد فلا تتناوله الآية
الفصل الثاني : أنه لا فرق بين الخطأ والعمد في قتل الصيد في وجوب الجزاء على إحدى الروايتين وبه قال الحسن و عطاء و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي قال الزهري : على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة والرواية الثانية : لا كفارة في الخطأ وهو قول ابن عباس و سعيد بن جبير و طاوس و ابن المنذر و داود لأن الله تعالى قال : { ومن قتله منكم متعمدا } فدليل خطابه أنه لا جزاء على الخاطئ لأن الأصل براءة ذمته فلا يشغلها إلا بدليل ولأنه محظور للإحرام لا يفسده فيدب التفريق بين خطئه وعمده كاللبس والطيب ووجه الأولى قول جابر [ جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم في الضبع يصيده المحرم كبشا ] وقال عليه السلام في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه ولم يفرق رواهما ابن ماجة ولأنه ضمان إتلاف استوى عمده وخطؤه كمال الآدمي
الفصل الثالث : إن الجزاء لا يجب إلا على المحرم ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة لعموم النص فيهما ولا خلاف في ذلك ولا فرق بين الإحرام بنسك واحد وبين الإحرام نسكين وهو القارن لأن الله تعالى لم يفرق بينهما
الفصل الرابع : إن الجزاء لا يجب إلا بقتل الصيد لأنه الذي ورد به النص بقوله تعالى : { لا تقتلوا الصيد } والصيد ما جمع ثلاثة أشياء وهو أن يكون مباحا أكله لا مالك له ممتنعا فيخرج بالوصف الأول كل ما ليس بمأكول لا جزاء فيه كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات قال أحمد : إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله وقال : كل ما يؤذي إذا أصابه المحرم يؤكل لحمه وهذا قول أكثر أهل العلم إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسبع المتولد من الضبع والذئب تغليبا لتحريم قتله كما عقلوا التحريم في أكله وقال بعض أصحابنا في أم حبين : جدي وأم حبين دابة منتفخة البطن فهذا خلاف القياس فإن أم حبين لا تؤكل لكونها مستخبثة عند العرب
حكي أن رجلا من العرب سئل ما تأكلون ؟ قال : ما دب ودرج إلا أم حبين فقال السائل ليهن أم حبين العافية وإنما تبعوا فهيا قضية عثمان رضي الله عنه فإنه قضي فيها بحلاق وهو الجدي والصحيح أنه لا شيء فيها وفي القمل روايتان ذكرناهما فيما مضى والصحيح أنه لا شيء فيه لأنه غير مأكول وهو من المؤذيات ولا مثل له ولا قيم قال ميمون بن مهران : كنت عند عبد الله بن عباس فسأله رجل فقال أخذت قملة فألقيتها ثم طلبتها فلم أجدها فقال ابن عباس : تلك ضالة لا نبتغي وقال القاضي : إنما الروايتان فيما أزاله م نشعره فأما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه فلا شيء عليه رواية واحدة ومن أوجب فيه الجزاء قال : أي شيء تصدق به فهو خير واختلفت الرواية في الثعلبي فعنه فيه الجزاء وبه قال طاوس و قتادة و مالك و الشافعي وقال : هو صيد يؤكل وفيه الجزاء وعن أحمد لا شيء فيه وهو قول الزهري و عمرو بن دينار و ابن أبي نجيح و ابن المنذر واختلف فيه عن عطاء لأنه سبع وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن كل ذي ناب من السباع وإذا أوجبنا فيه الجزاء ففيه شاة لأنه روي ذلك عن عطاء واختلفت الرواية في السنور أهليا كان أو وحشيا والصحيح أنه لا جزاء فيه وهو اختيار القاضي لأنه سبع وليس بمأكول وقال الثوري وإسحاق في الوحشي حكومة ولا شيء في الأهلي لأن الصيد ما كان وحشيا واختلفت الرواية في الهدهد والصرد لاختلاف الروايتين في إباحتهما وكل ما اختلفت في إباحته في جزائه فأما ما يحرم فالصحيح أنه لا جزاء فيه لأنه مخالف للقياس ولا نص فيه
الوصف الثاني : أن يكون وحشيا وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم ذبحه ولا أكله كبهيمة الأنعام كلها والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء وكذلك وجب الجزاء في الحمام أهلية ووحشية اعتبارا بأصله ولو توحش الأهلي لم تجب فيه شيء قال أحمد في بقرة صارت وحشية : لا شيء فيها لأن الأصل فيها الانسي وإن تولد من الوحشي والأهلي ولد ففيه الجزاء تغلبيا للتحريم كقولنا في المتولد بين المباح والمحرم واختلفت الرواية في الدجاج السندي هل فيه جزاء ؟ على روايتين وروى مهنا عن أحمد في البط يذبحه المحرم إذا لم يكن صيدا والصحيح أنه يحرم عليه ذبحه وفيه الجزاء لأن الأصل فيه الوحشي فهو كالحمام
الفصل الخامس : إن الجزاء إنما يجب في صيد البر دون صيد البر بغير خلاف لقول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } قال ابن عباس طعامه ما لفظه ولا فرق بين حيوان البحر الملح وبين ما في الأنهار والعيون فإن اسم البحر يتناول الكل قال الله تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا } ولأن الله تعالى قابله بصيد البر بقوله : { وحرم عليكم صيد البر } فدل على أن ما ليس من صيد البر فهو من صيد البحر وحيوان البحر ما كان يعيش في الماء ويفرخ ويبيض فيه فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء كالسمك ونحوه فهذا مما لا خلاف فيه وإن كان مما يعيش في البر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لا جزاء فيه وقال عطاء فيه الجزاء وفي الضفدع وكل ما يعيش في البر
ولنا أنه يفرخ في الماء ويبيض فيه فكان من حيوانه كالسمك فأما طير الماء فيه ففيه الجزاء في قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم لا نعلم فيه مخالفا غير ما حكي عن عطاء أنه قال : حيثما يكون أكثر فهو من صيده ولنا أن هذا إنما يفرخ في البر ويبيض فيه وإنما يدخل الماء ليعيش فيه ويكتسب منه فهو كالصياد من الآدميين واختلفت الرواية في الجراد فعنه هو من صد البحر لاجزاء فيه وهو مذهب أبي سعيد قال ابن المنذر قال ابن عباس وكعب : هو من صيد البحر وقال عروة : هو نثرة حوت وروي [ عن أبي هريرة قال : أصابنا ضرب من جراد فكان رجل منا يضرب بسوطه وهو محرم فقيل : إن هذا لا يصلح فذكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : هذا من صيد البحر ] وعنه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الجراد من صيد البحر ] رواهما أبو داود وروي عن أحمد أنه من صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الأكثرين لما روي إن عمر رضي الله عنه قال لكعب في جرادتين : ما جعلت في نفسك ؟ قال : درهمان قال بخ درهما خير من مائة جرادة رواه الشافعي في مسنده ولأنه طير يشاهد طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه فأشبه العصافير فأما الحديثان اللذان ذكرناهما للرواية الأولى فوهم قاله أبو داود فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه لا مثل له وهذا قول الشافعي وعن أحمد يتصدق بتمرة عن الجرادة وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر وقال ابن عباس : قبضه من طعام قال القاضي : هذا محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك بتقدير وإنما أرادوا أن فيه أقل شيء : وإن افترش الجراد في طريقته فقتله بالمشي عليه على وجه لم يمكنه التحرز منه ففيه وجهان أحدهما : وجوب جزائه لأنه أتلفه لنفع نفسه فضمنه كالمضطر يقتل صيدا يأكله والثاني : لا يضمنه لأنه اضطره إلى إتلافه أشبه ما لو صال عليه
الفصل السادس : إن جزاء ما كان دابة من الصيد نظيره من النعم هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وقال أبو حنيفة : الواجب القيمة ويجوز فيها المثل لأن الصيد ليس بمثلي ولنا قول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وجعل النبي صلى الله عليه و سلم في الضبع كبشا وأجمع الصحابة على إيجاب المثل فقال عمر و عثمان و علي و زيد و ابن عباس و معاوية في النعامة بدنة وحكم أبو عبيدة وابن عباس في حمار الوحش ببدنة وحكم عمر فيه ببقرة وحكم عم ر وعلي في الظبي بشاة وإذا حكموا بذلك في الأزمنة المختلفة والبلدان المتفرقة دل ذلك على أنه ليس على وجه القيمة ولأنه لو كان على وجه القيمة لاعتبروا صفة المتلف التي تختلف بها القيمة إما برؤية أو اخبار ولم ينقل عنهم السؤال عن ذلك حال الحكم ولأنهم حكموا في الحمام بشاة ولا يبلغ قيمة شاة في الغالب إذا ثبت هذا فليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريدت المماثلة من حيث الصورة والمتلف من الصيد قسمان أحدهما : قضت فيه الصحابة فيجب فيه ما قضت وبهذا قال عطاء و الشافعي و إسحاق وقال مالك : يستأنف الحكم فيه لأن الله تعالى قال : { يحكم به ذوا عدل منكم } ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ] وقال : [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ] ولأنهم أقرب إلى الصواب وأبصر بالعلم فكن حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي والذي بلغنا قضاؤهم في الضبع كبش قضي به عمر وعلي وجابر وابن عباس وفيه عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشا ] رواه أبو داود و ابن ماجة وروي عن جابر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : في الضبع كبش إذا أصاب المحرم وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ] قال أبو الزبير الجفرة التي قد فطمت ورعت رواه الدارقطني قال أحمد : حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الضبع بكبش وبه قال عطاء و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال الأوزاعي : إن كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ويكرهون أكله وهو القياس إلا أن اتباع السنة والآثار أولى وفي حمار الوحش بقرة روي ذلك عمر رضي الله عنه وبه قال عروة ومجاهد والشافعي وعن أحمد فيه بدنة روي ذلك عن أبي عبيدة وابن عباس وبه قال عطاء و النخعي وفي بقرة الوحش بقرة وري ذلك عن ابن مسعود و عطاء و عروة و قتادة و الشافعي والإبل فيه بقرة قاله ابن عباس قال أصحابنا في الوعل والتيثل بقرة كالإبل وإلا روى فيه بقرة قال ذلك ابن عمر وقال القاضي : فيها عصب وهي من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه ولم يبلغ أن يكون جذعا وحكي ذلك عن الأزهري وفي الظبي شاة ثبت ذلك عن عمر وروي عن علي وبه قال عطاء و عروة و الشافعي و ابن المنذر ولا نحفظ من غيرهم خلافهم وفي الوبر شاة روي ذلك عن مجاهد و عطاء وقال القاضي : فيه جفرة لأنه ليس بأكبر منها وكذلك قال الشافعي : إن كانت العرب تأكله والجفرة من أولاد المعز ما أتى عليها أربعة أشهر وفصلت عن أمها والذكر جفر وفي اليربوع جفرة قال ذلك عمر رضي الله عنه وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال عطاء و الشافعي و أبو ثور وقال النخعي فيه ثمنه وقال مالك قيمته طعاما وقال عمر بن دينار ما سمعنا أن الضب واليربوع يوديان واتباع الآثار أولى وفي الضب جدي به عمر وأربد وبه قال الشافعي وعن أحمد فيه شاة لأن جابر ابن عبد اله وعطاء قالا فيه ذلك وقال مجاهد حفنة من طعام وقال قتادة : صاع وقال مالك قيمته من طعام والأول أولى فإن قضاء عمر أولى من قضاء غيره والجدي أقرب إليه من الشاة وفي الأرنب عناق قضي به عمر وبه قال الشافعي وقال ابن عباس : فيه حمل وقال عطاء فيه شاة وقضاء عمر أولى والعناق الأنثى من ولد المعز في أول سنة والذكر جدي
القسم الثاني : ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع إلى قول عدلين من أهل الخبرة لقول الله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من حيث الخلقة لا من حيث القيمة بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة وليس من شرط الحكم أن يكون فقيها لأن ذلك زيادة على أمر الله تعالى به وقد أمر عمر أن يحكم في الضب ولم يسأل أفقيه هو أم لا لكن تعتبر العدالة لأنها منصوص عليها ولأنها شرط في قبول القول على الغير في سائر الأماكن وتعتبر الخبرة لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا من له خبرة ولأن الخبرة بما يحكم به شرط في سائر الحكام ويحوز أن يكون القاتل أحد العدلين وبهذا قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال النخعي : ليس له ذلك لأن الإنسان لا يحكم لنفسه ولنا عموم قوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } والقتل مع يغره ذوا عدل منا وقد روى سعيد في سننه و الشافعي في مسنده عن طارق بن شهاب قال : خرجنا حجاجا فوطئ رجل منا يقال له أربد ضبا ففزر ظهره فقدمنا على عمر رضي الله عنه فسأل أربد فقال له : احكم يا أربد فيه قال : أنت خبر مني يا أمير المؤمنين قال : إنما أمرتك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني فقال أربد : أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر قال عمر فذلك فيه فأمره عمر أن يحكم فيه وهو القاتل وأمر أيضا كعب الأحبار أن يحكم على نفسه في الجرادتين اللتين صادرهما وهو محرم ولأنه مال يخرج في حق الله تعالى فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة

صيد المحرم وفروع في الصيد وفدية الهدي والأضاحي
فصل : قال أصحابنا في كبير الصيد مثله من النعم وفي الصغير وفي الذكر ذكر وفي الأنثى أنثى وفي الصحيح صحيح وفي المعيب معيب وبهذا قال الشافعي وقال مالك في الصغير كبير وفي المعيب صحيح لأن الله تعالى قال : { هديا بالغ الكعبة } ولا يجزئ في الهدي صغير ولا معيب ولأنها كفارة متعلقة بقتل حيوان فلم تختلف صغيرة وكبيرة كقتل الآدمي
ولنا قول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } ومثل الصغير صغير ولأن ما ضمن باليد والجناية اختلف ضمانه بالصغر والكبر كالبهيمة والهدي في الآية معتبر بالمثل وقد أجمع الصحابة على الضمان بما لا يصح هديا كالجفرة والعناق والجدي كفارة الآدمي ليست بدلا عنه ولا تجزي مجرى الضمان بدليل أنها لا تتبعض في أبعاضه فإن فدى المعيب بصحيح فهو أفضل وإن فداه بمعيب مثله جاز وإن اختلف العيب مثل أن فدى الأعرج بأعور والأعور بأعرج لم يجز لأنه ليس بمثله وإن فدى أعور من إحدى العينين بأعور من أخرى أو أعرج من قائمة بأعرج من أخرى جاز لأن هذا اختلاف يسير ونوع العيب واحد وإنما اختلف محله وإن فدى الذكر بأنثى جاز لأن لحمها أطيب وأرطب وإن فداها بذكر جاز في أحد الوجهين لأن لحمه أوفر فتساويا والآخر لا يجوز لأن زيادته عليها ليس هي من جنس زيادتها فأشبه فداء المعيب من نوع بمعيب من نوع
فصل : فإن قتل ماخضا فقال القاضي : يضمنها بقيمة مثلها وهو مذهب الشافعي لأن قيمته أكثر من قيمة لحمه وقال أبو الخطاب يضمنها بما خض مثلها لأن الله تعالى قال : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وإيجاب القيمة عدول عن المثل مع إمكانه فإن فداها بغير ماخض احتمل الجواز لأن هذه الصفة لا تزيد في لحمها بل ربما نقصها فلا يشترط وجودها في المثل كاللون والعيب وإن جنى على ماخض فأتلف جنينها وخرج ميتا ففيه ما نقضت أمه كما لو جرحها وإن خرج حيا لوقت يعيش لمثله ثم مات ضمنه بمثله وإن كان لوت لا يعيش لمثله فهو كالميت كجنين الآدمية
فصل : وإن أتلف جزءا من الصيد وجب ضمانه لأن جملته مضمونة فكان بعضه مضمونا كالآدمي والأموال ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا ينفر صيدها ] فالجرح أولى بالنهي والنهي يقتضي تحريمة وما كان محرما من الصيد وجب ضمانه كنفسه يضمن بمثله من مثله في أحد الوجهين لأن ما وجب ضمان جملته بالمثل وجب في بعضه مثله كالمكيلات والآخر يجب قيمة مقداره من مثله لأن الجزاء يشق إخراجه فيمنع إيجابه ولهذا عدل الشارع عن إيجاب جزء من بعير في خمس من الإبل إلى إيجاب شاة من غير جنس الإبل والأول أولى لأن المشقة ههنا غير ثابتة لوجود الخيرة له في العدول عن المثل إلى عدله من الطعام أو الصيام فيبقى المانع فيثبت مقتضى الأصل وهذا إذا اندمل الصيد ممتنعا فإن اندمل غير ممتنع ضمنه جميعه لأنه عطلة فصار كالتالف ولأنه مفض إلى تلفه فصار كالجارح له جرا يتيقن به موته وهذا مذهب أبي حنيفة ويتخرج إن يضمنه بما نقض لأنه لا يضمن ما لت يتلف ولم يتلف جميعه بدليل ما لو قتله محرم آخر لزمه الجزاء ومن أصلنا أن على المشتركين جزاء واحد وضمانه بجزاء كامل يفضي إلى إيجاب جزاءين وإن غاب غير مندمل ولم يعلم خبره والجراحة موجبة فعليه ضمان جميعه كما لو قتله وإن كان غير موجبة فعليه ضمان ما نقص ولا يضمن جميعه لأننا لا نعلم حصول التلف بفعله فمل يضمن كما لو رمى سهما إلى صيد فلم يعلم أوقع به أم لا وكذلك إن وجده ميتا ولم يعلم أمات من الجناية أم من غيرها ويحتلم أن يلزمه ضمانه ههنا لأنه وجد سبب اتلافه منه ولم يعلم له سبب آخر فوجب إحالته على السبب المعلوم كما لو وقع في الماء نجاسة فوجده متغيرا تغيرا يصلح أن يكون منها فإننا نحكم بنجاسته وكذلك لو رمى صيدا فغاب عن عينه ثم وجده ميتا لا أثر به غير سهمه حل أكله وإن صيرته الجناية غير ممتنع فلم يعلم أصار ممتنعا أم لان فعليه ضما جميعه لأن الأصل عدم الامتناع
فصل : وإذا جرح صيدا فتحامل فوقع في شيء تلف به ضمنه لأنه تلف بسببه وكذلك إن نفره فتلف في حال نفوره ضمنه فإن سكن في مكان وأمن من نفوره ثم تلف لم يضمنه وقد ذكرنا وجها آخر أنه يضمنه في المكان الذي انتقل إليه لما روى الشافعي في مسنده عن عمر رضي الله عنه أنه دخل دار الندوة فألقى رداءه على واقف في البيت فوقع عليه طير من هذا الحمام فأطاره فوقع على واقف فانتهزته حية فقتلته فقال لعثمان بن عفان ونافع بن عبد الحارث : إني وجدت في نفسي إني أطرته من منزل كان فيه آمنا إلى موقعه كان فيها حتفه فقال نافع لعثمان : كيف ترى في غير تنبيه عقرا يحكم بها على أمير المؤمنين فقال : عثمان أ { ى ذلك فأمر بها عمر رضي الله عنه
فصل : وكل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد من مباشرة أو بسب وما جنت عليه دابته بيدها أو فمها من الصيد فالضمان على راكبها أو قائدها أو سائقها وما جنت برجلها فلا ضمان عليه لأنه لا يمكن حفظ رجلها وقال القاضي : يضمن السائق جميع جنايتها لأن يده عليها ويشاهد رجلها وقال ابن عقيل : لا ضمان عليه في الرجل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الرجل جبار وإن انقلبت فأتلفت صيدا لم يضمنه لأنه لا يد له عليها وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم العجماء جبار وكذلك لو أتلفت آدميا لم يضمنه ولو نصل المحرم شبكة أو حفر بئرا فوقع فيها صيد ضمنه لأنه بسببه كما يضمن الآدمي إلا أن يكون حفر البئر بحق كحفرة في داره أو في طريق واسع ينتفع بها المسلمون فينبغي أن لا يضمن ما تلف به كما لا يضمن الآدمي وإن نصب شبكة قبل إحرامه فوقع فيها صيد بعد إحرامه لم يضمنه لأنه لم يوجد منه بعد إحرامه تسبب إلى إتلافه أشبه ما لو صاده قبل إحرامه وتركه في منزله فتلف بعد إحرامه أو باعه وهو حلال فذبحه المشتري
مسألة : قال : وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه
قوله : بقيمته في موضعه يعني يجب قيمته في المكان الذي أتلفه فيه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب ضمان الصيد من الطير إلا ما حكي عن داود أنه لا يضمن ما كان أصغر من الحمام لأن الله تعالى قال : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وهذا لا مثل له ولنا عموم قوله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقيل في قوله تعالى : { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم } يعني الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد ورماحكم يعني الكبار وقد روى عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما حكما في الجراد بجزاء ودلالة الآية على وجوب جزاء غيره لا يمنع من وجوب الجزاء في هذا بدليل آخر وضمان غير الحمام من الطير قيمته لأن الأصل في الضمان أن يضمن بقيمته أو بما يشتمل عليها بدليل سائر المضمونات لكن تركنا هذا الأصل بدليل ففيما عداه تجب القيمة بقضية الدليل وتعتبر القيمة في موضع إتلافه كما لو أتلف مال آدمي في موضع الإتلاف كذا ههنا
فصل : ويضمن بيض الصيد بقيمته أي صيد كان قال ابن عباس في بيض النعام قيمته وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وبه قال النخعي و الزهري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يروى [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : في بيض النعام قيمته ] مع أن النعام من ذوات الأمثال فغيره أولى ولأن البيض لا مثل له فيجب قيمته كصغار الطير فإن لم يكن له قيمته لكونه مذرا أو لأن فرخه ميت فلا شيء فيه قال أصحابنا : إلا بيض النعام فإن القشرة قيمة الصحيح أنه لا شيء فيه لأنه إذا لم يكن فيه حيوان ولا مآله إلى أن يصير منه حيوان صار كالأحجار والخشب وسائر ما له قيمة من غير الصيد ألا ترى أنه لو نقب بيضه فأخرج ما فيها لزمه جزاء جميعها ثم لو كسرها هو أو غيره لم يلزمه لذلك شيء ومن كسر بيضة فخرج منها فرخ حي فعاش فلا شيء فيه وإن مات فهي ما في صغار أولاد المتلف بيضه ففي فرخ الحمام صغير أولاد الغنم وفي فرخ النعمة حوار وفيما عداها قيمته ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا كسره هو أو محرم سواه وإن كسره حلال فهو كلحم الصيد إن كان أخذه لأجل المحرم لم يبح له أكله ولا أبيح وإن كسر بيض صيد لم يحرم على الحلال لأن حله له لا يقف على كسره ولا يعتبر له أهليه بل لو كسره مجوسي أو وثني أو بغير تسمية لم يحرم فأشبه قطع اللحم وطبخه وقال القاضي : يحرم على الحلال أكله كما لو ذبح الصد لأن كسره جرى مجرى الذبح حله للمحرم بكسر الحلال له وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر أو ترك مع بيض الصيد بيضا آخر أو شيئا نفره عن بيضه حتى فسد فعليه ضما لأنه تلف بسببه وإن صح وفرخ فلا ضمان عليه وإن باض الصيد على فراشه فنقله برفق ففسد ففيه وجهان بناء على أن الجراد إذا انفرش في طريقه وحكم بيض الجراد وإن احتلب لبن صيد ففيه قيمت كما لو حلب لبن حيوان مغصوب
فصل : وإن نتف محرم ريش طائر ففيه ما نقص وبها قال الشافعي وأبو ثور وأوجب مالك و أبو حنيفة فيه الجزاء جميعه ولنا أنه نقصه نقصا يمكن زواله فلم يضمنه بكماله كما لو جرحه فإن حفظه وأطعمه وسقاه حتى عاد ريشه فلا ضمان عليه لأن النقص زال فأشبه ما لو اندمل الجرح وقيل : عليه قيمته الريش لأن الثاني غير الأول فإن صار غير ممتنع بنتف ريشه واندمل غير ممتنع فعليه جزاء جميعه كالجرح فإن غاب مندمل ففيه ما نقص كالجرح سواء وقد ذكرنا ثم احتمالا فههنا مثله
مسألة : قال : إلا أن تكون نعامة فيكون فيها بدنة أو حمامة وما أشبهها فيكون في كل واحد منها شاة
هذا متعلق بقوله : وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه واستثنى النعامة من الطائر لأنها ذات جناحين وتبيض فهي كالدجاج والأوز وأوجب فيه بدنه لأن عمر وعليا وعثمان وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم حكموا فيها ببدنة وبه قال عطاء و مجاهد و مالك و الشافعي وأكثر أهل العلم وحكي عن النخعي أن فيها قيمتها وبه قال أبو حنيفة وخالفه صاحباه واتباع النص في قوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } والآثار أولى ولأن النعامة تشبه البعير في خلقته فكن مثلا فها فيدخل في عموم النص في الحمام شاة حكم به عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ونافع بن الحارث في حمام الحرم وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و عروة و قتادة و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة و مالك : فيه قيمته إلا أن مالكا وافق في حمام الحرم لحكم الصحابة ففيما عداه يبقى على الأصل قلنا : روى عن ابن عباس في الحمام حال الإحرام كمذهبنا ولأنها حمامة مضمونة لحق الله تعالى فضمنت بشاة كحمامة الحرم ولأنها متى كانت الشاة مثلا لها في الحرم فكذلك في الحل فيجب ضمانها بها لقول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وقياس الحمام على الحمام أولى من قياسه على غيره وقول الخرقي : وما أشبهها يعني ما يشبه الحمامة في أنه يعب الماء أي يضع منقاره فيه فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخذ قطرة قطرة كالدجاج والعصافير وإنما أوجبوا فيه شاة لشبه بها في كرع الماء مثلها ولا يشرب مثل شرب بقية الطيور قال أحمد في رواية أبي القاسم وشندي : كل طير يعب الماء ويشرب مثل الحمام ففيه شاة فيدخل في هذا الفواخت والوراشين والساقين والقمري والدبسي والقطا لأن كل واحد من هذه تسميه العرب حماما وقد روي عن الكسائي أنه قال : كل مطوق حمام وعلى هذا القول الحجل حمام لأنه مطوق
فصل : وما كان أكبر من الحمام كالحباري والكركي والكروان والحجل والأوز الكبير من طير الماء ففيه وجهان أحدهما : فيه شاة لأنه روي عن ابن عباس و جابر و عطاء أنهم قالوا في الحجلة والقطاة والحباري شاة شاة وزاد عطاء في الكركي والكروان وابن الماء ودجاج الحبش والحرب شاة شاة - والحرب هو فرخ الحباري - لأن إيجاب الشاة في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه والوجه الثاني : فيه قيمته وهو مذهب الشافعي لأن القياس يقتضي وجوبها في جميع الطير تركناه في الحمام لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ففي غيره يرجع إلى الأصل
مسألة : قال : وهو مخير إن شاء فداه بالنظير أو قوم النظير بدراهم ونظركم يجيء به طعاما فأطعم كل مسكين مدا أو صام عن كل مد يوما معسرا كان أو موسرا
في هذه المسألة أربعة فصول :
الفصل الأول : إن قاتل الصيد مخير في الجزاء بأحد هذه الثلاثة بأيها شاء كفر موسرا كان أو معسرا وبهذا قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية ثانية أنها على الترتيب فيجب المثل أولا فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام وروي هذا عن ابن عباس والثوري لأن هدي المتعة على الترتيب وهذا أوكد منه لأنه بفعل محظور وعنه رواية ثالثة أنه لا اطعام في الكفارة وإنما ذكر في الآية ليعدل الصيام لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح هكذا قال ابن عباس وهذا قول الشعبي وأبي عياض
ولنا وقل الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } وأو في الأمر للتخيير وري عن ابن عباس أنه قال : كل شيء أو أو فهو مخير وأما ما كان فإن لم يوجد فهو الأول الأول ولأن عطف هذه الخصال بعضها على بعض بأو فكان مخيرا بين ثلاثتها كفدية الأداء وقد سمى الله الطعام كفارة ولا يكون كفارة ما لم يجب إخراجه وجعله طعاما للمساكين وإلا يجوز صرفه إليهم لا يكون طعاما لهم وعطف الطعام على الهدي ثم عطف الصيام إليه ولو ملم يكن خصلة من خصالها لم يجز ذلك فيه ولأنها كفارة ذكر فيها الطعام فكان من خصالها كسائر الكفارات وقولهم : إنها وجبت بفعل محظور يبطل بفدية الأذى على أن لفظ النص صريح في التخيير فليس ترك قياسا على هدي المتعة بأولى من العكس فلا يجوز قياس هدي المتعة في التخيير على هذا لما يتضمنه من ترك النص كذا هذا
الفصل الثاني : إذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم لأن الله تعالى قال : { هديا بالغ الكعبة } ولا يجزئه أن يتصدق به حيا على المساكين لأن الله تعالى سماه هديا والهدي يجب ذبحه وله ذبحه أي وقت شاء ولا يختص ذلك بأيام النحر
الفصل الثالث : أن متى اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين وبهذا قال الشافعي وقال مالك : يقوم الصيد لا مثل لأن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف قوم المتلف كالذي لا مثل له ولنا أن كل ما تلف وجب فيه المثل إذا قوم لزمت قيمة مثله كالمثلي من مال الآدمي ويعتبر قيمة المثل في الحرم لأنه يحل إحرامه ولا يجزئ إخراج القيمة لأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ليست القيمة منها والطعام المخرج هو الذي يخرج في الفطرة وفدية الأذى وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب ويحتمل أن يجزئ كل ما يسمى طعاما لدخوله في إطلاق اللفظ ويعطي كل مسكين مدا من البر كما يدفع إليه في كفارة اليمين فأما بقية الأصناف فنصف صاع لكل مسكين نص عليه أحمد فقال في إطعام المساكين في الفدية وجزاء كفارة اليمين إن أطعم برا فمد طعام لكل مسكين نص عليه أحمد فقال في إطعام المساكين في الفدية وجزاء كفارة اليمين إن أطعم برا فمد طعام لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع لكل مسكين وأطلق الخرقي لكل مسكين ولم فرق والأولى أنه لا يجزئ من غير البر أقل من نصف صاع إذ لم يرد الشرع في موضع بأقل من ذلك في طعمه المساكين ولا توقيف فيه فيرد إلى طائره ولا يجزئ إخراج المساكين الحرم لأن قيمة الهدي الواجب لهم فيكون أيضا لهم كقيمة المثلي من مال الآدمي
الفصل الرابع في الصيام : فعن أحمد أنه يصوم عن كل مد يوما وهو ظاهر قول عطاء و مالك و الشافعي لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار وعن أحمد أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما وهو قول ابن عقيل والحسن و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر قال القاضي : المسألة رواية واحدة واليوم عن مد بر أو نصف صاع من غيره وكلام أحمد في الروايتين محمول على اختلاف الحالين لأن صوم اليوم مقابل بإطعام المسكين وإطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من غبره ولأن الله تعالى جعل اليوم في كفارة الظهار في مقابلة إطعام المسكين فكذا ههنا وروي عن أبي ثور أن جزاء الصيد من الطعام والصيام مثل كفارة الأذى وروي ذلك عن ابن عباس ولنا أنه جزاء عن متلف فاختلف باختلافه كبدل مال الآدمي وإذا بقي ما لا يعدل كدون المد صام يوما كاملا كذلك قال عطاء و النخعي و حماد و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم لأن الصوم لا يتبعض فيجب تكميله لا يجب التتابع في الصيام وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن الله تعالى أمر به مطلقا فلا يتقيد بالتتابع من غير دليل ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعض نص عليه أحمد وبه قال الشافعي و الثوري و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وجوزه محمد بن الحسن إذا عجز عن بعض الإطعام ولا يصح لأنها كفارة واحدة فلا يؤدي بعضها بالإطعام وبعضها بالصيام كسائر الكفارات
فصل : وما لا مثل له من الصيد يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعاما فيطعمه للمساكين وبين أن يصوم وهل يجوز إخراج القيمة ؟ فيه احتمالان أحدهما : لا يجوز وهو ظهر قول أحمد في رواية حنبل فإنه قال : إذا أصاب المحرم صيدا ولم يصب له عدلا يحكم به عليه قوم طعاما إن قدر على طعام وإلا صام كلن صف صاع يوما هكذا يروى عن ابن عباس ولأنه جزاء صيد فلم يجز إخراج القيمة لأن عمر رضي الله عنه قال لكعب : ما جعلت على نفسك ؟ قال درهمين قال اجعل ما جعلت على نفسك وقال عطاء في العصفور نصف درهم وظاهره إخراج الدراهم الواجبة
مسألة : قال : وكلما قتل صيدا حكم عليه
ومعناه أنه يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني كما يجب عليه إذا قتله ابتداء وفي هذه المسألة عن أحمد ثلاث روايات إحداهن : أنه يجب في كل صيد جزاء وهذا ظاهر المذهب قال أبو بكر : هذا أولى القولين بأبي عبد الله وبه قال الثوري و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وأصحاب الرأي والثانية : لا يجب إلا في المرة الأولى وري ذلك عن ابن عباس وبه قال شريح و الحسن و سعيد بن جبر و مجاهد و النخعي و قتادة لأن الله تعالى قال : { ومن عاد فينتقم الله منه } ولم يوجب جزاء والثالثة : إن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وإلا فلا شيء للثاني لأنها كفارة تجب بفعل محظور في الإحرام فيدخل جزاؤها قبل التكفير كاللبس والطيب ولنا أنها كفارة عن قتل فاستوى فيه المبتدئ والعائد كقتل الآدمي ولأنها بدل متلف يجب به المثل أو القيمة فأشبه لدل مال الآدمي قال أحمد : روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ وفيمن قتل ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أو لا ؟ وإنما هذا يعني لتخصيص الإحرام ومكانه والآية اقتضت الجزاء على العائد بعمومها وذكر العقوبة في الثاني لا يمنع الوجوب كما قال الله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى الله ولا يصح قياس جزاء الصيد على غيره ولان جزاءه مقدر به ويختلف بصغره وكبره ولو أتلف صيدين معا وجب جزاؤها فكذلك إذا تفرقا بخلاف غيره من المحظورات
فصل : ويجوز إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته نص عليه أحمد لأنها كفارة فجاز تقديمها على الموت ككفارة قتل الآدمي ولأنها كفارة فأشبهت كفارة الظهار واليمين
مسألة : قال : ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد
يروى عن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات إحداهن : إن الواجب جزاء واحد وهو الصحيح ويروى هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال عطاء و الزهري و النخعي و الشعبي و الشافعي و إسحاق والثانية : على كل واحد جزاء رواهما ابن أبي موسى واختارها أبو بكر وبه قال مالك و الثوري و أبو حنيفة ويروى عن الحسن لأنها كفارة قتل يدخلها الصوم أشبهت كفارة قتل الآدمي والثالثة : إن كان صوما صام كل واحد صوما تاما وإن كان غير ذلك فجزاء واحد ن وإن كان أحدهما هدي والآخر صوم فعلى المهدي بحصته وعلى الآخر صوم تام لأن الجزاء ليس بكفارة وإنما هو يدل بدليل أن الله تعالى عطف عليه الكفارة فقال تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } والصوم كفارة ككفارة قتل الآدمي ولنا قول الله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } والجماعة قد قتلوا صيدا فيلزمهم مثله والزائد خارج عن المثل فلا يجب ومتى ثبت اتخاذ الجزاء في الهدي وجب اتخاذه في الصيام لأن الله تعالى قال : { أو عدل ذلك صياما } والاتفاق حاصل على أنه معدول بالقيمة إما قيمة المتلف وأما قيمة مثله فإيجاب الزائد على عدل القيمة خلاف النص وأيضا ما روى عمن سمينا من الصحابة إنهم قالوا كمذهبنا ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه فكان واحدا كالدية أو كما لو كان القاتل واحدا أو بدل المحل فاتحدت باتحاده الدية وكفارة الآدمي لنا فيها منع ولا يتبعض في إبعاضه ولا يختلف باختلافه فلا يتبعض على الجماعة بخلاف مسألتنا
فصل : فإن كان شريك المحرم حلالا أو سبعا فلا شيء على الحلال ويحكم على الحرام ثم إن كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحا وإن كان السابق المحرم فعليه جزاء جره على ما مضى وإن كان جرحها في حال واحدة ففيه وجها أحدهما : على المحرم بقسطه كما لو كان شريكه محرما لأنه أتلف البعض والثاني : عليه جزاء جميعه لأنه تعذر إيجاب الجزاء على شريكه فأشبه ما لو كان أحدهما دالا والآخر مدلولا أو أحدهما ممسكا والآخر فإن الجزاء على المحرم أيهما كان لتعذر إيجاب الجزاء على الآخر
فصل : وإن اشترك حرام وحلال في صيد حرمي فالجزاء بينهما نصفين لأن الإتلاف ينسب إلى كل واحد منهما نصفه ولا يزداد الواجب على المحرم باجتماع حرمه الإحرام فيكون الواجب على كل واحد منهما النصف وهذا الاشتراك الذي هذا حكمه هو الذي يقع به الفعل منهما معا وإن سبق أحدهما صاحبه فحكمه ما ذكرناه فيما ما مضى
فصل : إذا أحرم الرجل وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن يكون في بلده أو في يد نائب له في غير مكانه ولا شيء عليه إن مات وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرها ومن غصبه لزمه رده ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه ومعناه إذا كان في قبضته أو رحلة أو خيمته أو قفص معه أو مربوطا بحبل معه لزمه إرساله وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال الثوري : هو ضامن لما في بيته أيضا
وحكي نحو ذلك عن الشافعي وقال أبو ثور : ليس عليه إرسال ما في يده وهو أحد قولي الشافعي لأنه في يده أشبه ما لو كان في يده الحكمية ولأنه لا يلزم من منع ابتداء الصيد المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم ولنا على أنه لا يلزمه إزالة يده الحكمية أنه لم يفعل في الصيد فعلا قلم يلزمه شيء كما لو كان في ملك غيره وعكس هذا إذا كن في يده المشاهدة فإنه فعل الإمساك في الصيد فكان ممنوعا منه كحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك بدليل أنه لو حلف لا يمسك شيئا فاستدام امساكه حنث إذا ثبت هذا فإنه متى أرسله لم يزل ملكه عنه ومن أخذه رجه إلى حل ومن قتله ضمنه له لأن ملكه كان عليه وإزالة الأثر لا يزيل الملك بدليل الغصب والعارية فإن تلف في يده قبل إرساله بعد إمكانه ضمنه لأنه تلف تحت اليد العادية فلزمه الضما كمال الآدمي وإن كان قبل إمكان إرسال إنسان من يده فلا ضمان عليه لأنه فعل ما يلزمه فعله ولأن اليد قد زال حكمها وحرمتها فإن أمسكه حتى حل فملكه باق عليه لأن ملكه لم يزل بالإحرام وإنما زال حكم المشاهدة فصار كالعصير يتخمر ثم يتخلل قبل إراقته
فصل : ولا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الأسباب ف [ إن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حمارا وحشيا فرده عليه وقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ] فإن أخذه بأحد هذه الأسباب ثم تلف فعليه جزاؤه وإن كان مبيعا فعليه القيمة أو رده إلى مالكه فإن أرسله فعليه ضمانه كما لو أتلفه وليس عليه جزاء وعليه در المبيع أيضا ويحتمل أن يلزمه إرساله كما لو كان مملوكا له لأنه لا يجوز له إثبات يده الشاهدة على الصيد وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال مختار ولا عيب في ثمنه ولا غيرهما لأنه ابتداء ملك على الصيد وهو ممنوع منه وإن رده المشتري عليه بعيب أو خيرا فله ذلك لأن سبب الرد متحقق ثم لا يدخل في ملك المحرم ويلزمه إرساله
فصل : وإن ورث المحرم صيدا ملكه لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته وإنما يدخل في ملكه حكما اختار ذلك أو كرهه ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون ويدخل به المسلم في ملك الكافر فجزى مجرى الاستدامة ويحتمل أن لا يملك به لأنه من جهات التملك فأشبه البيع وغيره فعلى هذا يكون أحق به من غير ثبوت ملكه عليه فإذا حل ملكه =

6

مجلد 6 . المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 -----------
 فوات الوقوف بعرفة ووجوب الهدي
مسألة : قال : ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر تحلل بعمرة وذبح إن كان معه هدي وحج من قابل وأتى بدم
الكلام في هذه المسألة في أربعة فصول :
فصل الأول : إن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر فمن لم يدرك الوقوف حتى طلع الفج يومئذ فاته الحج لا نعلم فيه خلافا [ قال جابر : لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع قال أبو الزبير فقلت له : أقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك ؟ قال : نعم ] رواه الأثرم بإسناده وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه ] يدل على فواته بخروج ليلة جمع وروي ابن عمر [ أن رسول الله قال : من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل ] رواه الدارقطني وضعفه
الفصل الثاني : إن من فاته الحج يتحلل بطواف وسعي وحلاق هذا الصحيح من المذهب وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس وابن الزبير ومروان بن الحكم وهو قول مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن أبي موسى في المسألة روايتان إحداهما : كما ذكرنا والثانية : يمضي في حج فاسد وهو قول المزني قال : يلزمه جميع أفعال الحج لأن سقوط ما فات وقته لا يمنع ما لم يفت ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا فكان إجماعا وروى الشافعي في مسنده أن عمر قال لأبي أيوب حين فاته الحج : اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإن أدركت الحج قابلا فحج واهد ما استيسر من الهدي وروي أيضا عن ابن عمر نحو ذلك وروى الأثرم بإسناده عن سليمان بن يسار أن هبار ابن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر : ما حسبك ؟ قال : حسبت أن اليوم يوم عرفة قال : فانطلق إلى البيت فطف به سبعا وإن كان معك هدية فانحرها ثم إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فاهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى وروى النجاد بإسناده عن عطاء [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة وليحج من قابل ] ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى إذا ثبت هذا فإنه يجعل إحرامه بعمرة وهذا ظاهر كلام الخرقي ونص عليه أحمد واختاره أبو بكر وهو قول ابن عباس وابن الزبير و عطاء وأصحاب الرأي وقال ابن حامد لا يصير إحرامه بعمرة بل بتحلل لطواف وسعي وحلق وهو مذهب مالك و الشافعي لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر كما لو أحرم بالعمرة ويحتمل أن من قال : يجعل إحرامه عمرة أراد به يفعل المعتمر وهو الطواف والسعي ولا يكون بين القولين خلاف ويحتمل أن يصير إحرام الحج إحراما بعمرة بحيث يجزئه عن عمرة الإسلام إن لم يكن اعتمر ولو أدخل الحج عليها لصار قارنا إلا أنه لا يمكنه الحج بذلك الإحرام إلا أن يصير محرما به في غير أشهره فيصير كمن أحرم بالحج في غير أشهره ولأن قلب لحج إلى العمرة يجوز من غير سبب على ما قررناه في فسخ الحج فمنع الحاجة أولى ويخرج على هذا قلب العمرة إلى الحج فإنه لا يجوز ولأن العمرة لا يفوت وقتها فلا حاجة إلى انقلاب إحرامها بخلاف الحج
الفصل الثالث : أنه يلزمه القضاء من قابل سواء كان الفائت واجبا أو تطوعا روي ذلك عن عمر وابنه وزيد وابن عباس وابن الزبير ومروان وهو قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد لا قضاء عليه بل إن كانت فرضا فعلها بالوجوب السابق وإن كانت نفلا سقطت وروي هذا عن عطاء وهو أحدى الروايتين عن مالك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة قال : بل مرة واحدة ولو أوجبنا القضاء كان أكثر من مرة ولأنه معذور في ترك إتمام حجة فلم يلزمه القضاء كالمحرم ولأنها عبادة تطوع فلم يجب قضاؤها كسائر التطوعات ووجه الرواية الأولى ما ذكرنا من الحديث وإجماع الصحابة وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من فاته عرفات فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج قابل ] ولأن الحج يلزم بالشروع فيه فيصير كالمنذر بخلاف سائر التطوعات وأما الحديث فإنه أراد الواجب بأصل الشرع حجة واحدة وهذه إنما تجب بإيجابه لها بالشروع فيها كالمنذورة وأما المحصر فإنه غير منسوب إلى التفريط بخلاف من فاته الحج وإذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم في هذا خلافا لأن الحجة المقضية لو تمت لأجزأت عن الواجبة عليه فكذلك قضاؤها لأن القضاء يقوم مقام الأداء
الفصل الرابع : إن الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين وهو قول من سمينا من الصحابة والفقهاء إلا أصحاب الرأي فإنهم قالوا : لا هدي عليه وهي الرواية الثانية عن أحمد لأنه لو كان الفوات سببا لوجوب الهدي للزم المحرم هديان للفوات والإحصار ولنا حديث عطاء وإجماع الصحابة ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي كالمحرم ولم يفت حجه فإنه يحل قبل فواته إذا ثبت هذا فإنه يخرج الهدي في سنة القضاء إن قلنا بوجوب القضاء وإلا أخرجه في عامة وإذا كان معه هدي قد ساقه نحره ولا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء بل عليه في السنة الثانية هدي أيضا نص عليه أحمد وذلك لحديث عمر الذي ذكرناه والهدي ما استيسر مثل هدي المتعة لحديث عمر أيضا والمتمتع والمفرد والقارن والمكي وغيره سواء فيما ذكرنا لأن الفوات يشمل الجميع
فصل : فإن اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج م نقابل فله ذلك روي ذلك عن مالك لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه كالعمرة والمحرم بالحج في غيره أشهره ويحتمل أنه ليس له ذلك وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر ورواية عن مالك لظاهر الخبر وقول الصحابة رضي الله عنهم لأن إحرام الحج يصير في غره أشهره فصار كالمحرم بالعبادة قبل وقتها
فصل : وإذا فات القارن الحد حل وعليه مثل ما أهل به من قابل نص عليه أحمد وهو قول مالك و الشافعي و أبي ثور و إسحاق ويحتمل أن يجزئه ما فعل عن عمرة الإسلام ولا يلزمه إلا قضاء الحج لأنه لم يفته غيره وقال أصحاب الرأي و الثوري : يطوف ويسعى لعمرته ثم لا يحل حتى يطوف ويسعى لحجة إلا أن سفيان قال : يهريق دما والوجه الأول أن يذبح القضاء على حسب الأداء في صورته ومعناه فيجب أن يكون هنا كذلك ويلزمه هديان لقرانه وفواته وبه قال مالك و الشافعي وقيل يلزمه هدي ثالث القضاء وليس بشيء فإن القضاء لا يجب له هدي وإنما يجب الهدي الذي في سنة القضاء للفوات وكذلك لم يأمر الصحابة بأكثر من هدي واحد والله أعلم
فصل : إذا أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير ليلة عرفة أجزأهم ذلك لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال : [ قال رسول الله صلى عليه وسلم : يوم عرفة الذي يعرف فيه الناس ] فإن اختلفوا فأصاب بعضهم وأخطأ بعض وقت الوقوف لم يجزئهم لأنهم غير معذورين في هذا وروى أبو هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ] رواه الدارقطني وغيره

فدية العبد
مسألة : قال : وإن كان عبدا لم يكن له أن يذبح وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيم الشاة يوما ثم يقصر ويحل
يعني أن العبد لا يلزمه هدي لأنه لا مال له فهو عاجز عن الهدي فلم يلزمه كالمعسر وظاهر كلام الخرقي أنه لو أذن له سيده في الهدي لم يكلن له أن يهدي ولا يجزئه إلا الصيام وهذا قول الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ذكره ابن المنذر عنهم في الصيد وعلي قياس هذا كل دم لزمه الإحرام لا يجزئه عنه إلا الصيام وقال غير الخرقي إن ملكه السيد هديا وأذن له في ذبحه خرج على الروايتين إن قلنا إن العبد يملك بالتمليك لزمه أن يهدي ويجزئ عنه لأنه قادر على الهدي مالك له فلزمه كالحر وإن قلنا لا يملك لم يجزئه إلا الصيام لأنه ليس بمالك ولا سبيل إلى الملك فصار كالمعسر الذي لا يقدر على غير الصيام وإذا صام فإنه يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما وينبغي أن يخرج فيه من الخلاف ما ذكرناه في الصيد ومتى بقي من قيمتها أقل من مد صام عنه يوما كاملا لأن الصوم لا يتبعض فيجب تكميله كم نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم في بعض النهار لزمه صوم يوم كامل والأولى أن يكون الواجب من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة كما جاء في حديث عمر أنه قال لهبار بن الأسود فإن وجدت سعة فاهد فإن لم تجد سعة فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى وروى الشافعي في مسنده عن ابن عمر مثل ذلك وأحمد ذهب إلى حديث عمر واحتج به لأن صوم وجب لحله من إحرامه قبل إتمامه فكان عشرة أيام كصوم المحرم والمعسر في الصوم كالعبد ولذلك عال عمر لهبار بن يسار : إن وجدت سعة فاهد فإن لم تجده فصم ويعتبر اليسار والإعسار في زمن الوجوب وهو في سنة القضاء إن قلنا بوجوبه أو سنة الفوات إن قلنا لا يجب القضاء وقول الخرقي ثم يقصر ويحل يريد أن العبد لا يحلق ههنا ولا في موضع آخر لأن الحلق إزالة الشعر الذي يزيد في قيمته وماليته وهو ملك لسيده ولم يتعين إزالته فلم يكن له إزالته كغير حالة الإحرام وإن أذن له السيد في الحلق جاز لأنه إنما منع منه لحقه

ليس للزوج منع زوجت من حجة الإسلام وكذلك ليس للرجل منع ولده من الحج والواجب
مسألة : قال : وإذا أحرمت المرأة لواجب لم يكن لزوجها منعها
وجملة ذلك أن المرأة إذا أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة وهي حجة الإسلام وعمرته أو المنذور منهما فليس لزوجها منعها من المضي فيها ولا تحليلها في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي و إسحاق وأصحاب الرأي الشافعي في أصح القولين له وقال في الآخر : له منعها لأن الحج عنده على التراخي فلم يتعين بالشروع فيه فيصير كالصلاة إذا أحرمت بها في وقتها وقضاء رمضان إذا شرعت فيه ولأن حق الزوج مستمر على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام لملكه في كل عام فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام بخلاف العدة فإنها لا تستمر فأما إن أحرمت بتطوع فله تحليلها ومنعها منه في ظاهر قول الخرقي وقال القاضي : ليس له تحليلها لأن الحج يلزم بالشروع فيه فلا يملك الزوج تحليلها كالحج المنذور وحكي عن أحمد في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج ولها زوج لها أن تصوم بغير إذن زوجها ما تصنع ؟ قد ابتليت وابتلي زوجها ولنا أنه تطوع يفوت حق غيرها منها أحرمت به بغير إذنه فملك تحليلها منه كالأمة تحرم بغير إذن سيدها والمدنية تحرم بغير إذن غريمها على وجه يمنعه إيفاء دينه الحال عليها ولأن العدة تمنع المضي في الإحرام لحق الله تعالى فحق الآدمي أولى لأن حقه أضيق لشحه وحاجته وكرم الله تعالى وغناه وكلام أحمد لا يتناول محل النزاع وهو مخالف له من وجهين أحدهما : أنه في الصوم وتأثير الصوم في منع الزوج يسير فإنه في النهار دون الليل ولو حلقت بالحج فله منعها لأن الحج لا يتعين في نذر اللجاج والغضب بل هو مخير بين فعله والتكفير فله منعها منه قبل إحرامها بكل حال بخلاف الصوم والثاني : إن الصوم إذا وجب صار كالمنذور بخلاف ما نحن فيه والشروع هاهنا على وجه غير مشروع فلم يكن له حرمه بالنسبة إلى صاحب الحق فأما إن كانت الحجة حجة الإسلام لكن لم تكمل شروطها لعدم الاستطاعة فإن له منعها من الخروج إليها والتلبس بها لأنه غير واجبة عليها وإن أحرمت بغير إذن لم يملك تحليلها لأن ما أحرمت به يقع عن حجة الإسلام الواجبة بأصل الشرع كالمريض إذا تكلف حضور الجمعة ويحتمل أنله تحليها لأنه فقد شرط وجوبها فأشبهت حجة الأمة والصغيرة فإنه لما فقدت الحرية أو البلوغ ملك منعها ولأنها ليست واجبة عليها فأشبهت سائر التطوع
فصل : وأما قبل الإحرام فليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها إذا كملت شروطه وكانت مستطيعة ولها محرم يخرج معها لأنه واجب وليس له منعها من الواجبات كما ليس له منعها من الصلاة والصيام وإن لم تكمل شروطه فله منعها من المضي إليه والشروع فيه ولأنها تفوت حقه لما ليس بواجب عليها فملك منعها كمنعها من صيام التطوع وله منعها من الخروج إلى حج التطوع والإحرام به بغير خلاف قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على أن للرجل منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع ولأنه تطوع يفوت حق زوجها فكان لزوجها منعها منه كالاعتكاف فإن أذن لها فيه فله الرجوع ما لم تتلبس بإحرامه فإن تلبست بالإحرام لم يكن له الرجوع فيه ولا تحليلها منه لأنه يلزم بالشروع فصار كالواجب الأصلي فإن رجع قبل إحرامها ثم أحرمت به فهو كمن لم يأذن وإذا قلنا بتحليلها فحكمها حكم المحصر يلزمها الهدي فإن لم تجد صامت ثم حلت
فصل : وإن أحرمت بواجب فحلف زوجها بالطلاق الثلاث أن لا تحج العام فليس لها أن تحل لأن الطلاق مباح فليس لها ترك فرائض الله خوفا من الوقوع فيه ونقل مهنا عن أحمد أنه سئل عن هذه المسألة فقال : قال عطاء : الطلاق هلاك هي بمنزلة المحصر وروى عنه ابن منصور أن أفتى السائل أنها بمنزلة المحصر واحتج بقول عطاء فرواه والله أعلم ذهب إلى هذا لأن ضرر الطلاق عظيم لما فيه من خروجها من بيتها ومفارقة زوجها وولدها وربما كان ذلك أعظم عندها من ذهاب آمالها وهلاك سائر أهلها ولذلك سماه عطاء هلاكا ولو منعها عدو من الحج إلا أن تدفع إليه مالها كان ذلك حصرا فههنا أولى والله أعلم
فصل : وليس للوالد منع ولده من الحج الواجب ولا تحليله من إحرامه وليس للولد طاعته في تركه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طاعة لمخلوق في معصية الله تعالى ] وله منعه من الخروج إلى التطوع فإن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات فالتطوع أولى فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله لأنه واجب بالدخول فيه فصار كالواجب ابتداء أو كالمنذور

حكم عطب الهدي الواجب وغير الواجب
مسألة : قال : ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء وعليه مكانه
الواجب من الهدي قسمان : أحدهما وجب بالنذر في ذمته والثاني : وجب بغيره كدم التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور وجميع ذلك ضربان : أحدهما أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك لأنه يتعلق حق غيره به وله نماؤه وإن عطب تلف من ماله وإن تعيب لم يجزئه ذبحه وعليه الهدي الذي كان واجبا فإن وجوبه في الذمة فلا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد بدفعه إليه فتلف قبل أن يوصله إليه الضرب الثاني : أن يعين الواجب عليه بالقول فيقول : هذا الواجب علي فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه لأنه لو أوجب هديا ولا هدي عليه لتعين فإذا كان واجبا فعينه فكذلك إلا أنه مضمون عليه فإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته كما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به منه مكيلا فتلف قبل قبضه انفسخ البيع وعاد الدين إلى ذمته ولأن ذمته لم تبرأ من الواجب بتعيينه وإنما تعلق الوجوب بمحل آخر فصار كالدين يضمنه ضامن أو يرهن به رهنا فإنه يتعلق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة المدين فمتى تعذر استيفاؤه من الضامن أو تلف ارهن بقي الحق في الذمة بحاله وهذا كله لا نعلم فيه مخالفا وإن ذبحه فسرق أو عطب فلا شيء عليه قال أحمد : إذا نحر فلم يطعمه حتى سرق لا شيء عليه لأنه إذا نحر فقد فرغ وبهذا قال الثوري و ابن القاسم صاحب مالك وأصحاب الرأي وقال الشافعي : عليه الاعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه فأشبه ما لو لم يذبحه
ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه ودليل أنه أدى الواجب لأنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه ولذلك لما نحر النبي صلى الله عليه و سلم البدنات قال : [ من شاء اقتطع ] وإذا عطب هذا المعين أو تعيب عيبا يمنع الأجزاء لم يجزه ذبحه عما في الذمة لأن عليه هديا سليما ولم يوجد وعليه مكانه ويرجع هذا الهدي إلى ملكه فيصنع به ما شاء من أكل أو بيع وهبة وصدقة وغيره هذا ظاهر كلام الخرقي وحكاه ابن المنذر عن أحمد و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وأصحاب الرأي ونحوه عن عطاء وقال مالك يأكل ويطعم من أحب من الأغنياء والفقراء ولا يبيع منه شيئا ولنا ما روى سعيد ثنا سفيان عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال : إذا أهديت هديا تطوعا فعطب فانحره ثم غمس النعل في دمه ثم اضرب بها صفحته فإن أكلت أو أمرت به عرفت وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره ثم كله إن شئت واهده إن شئت وبعه إن شئت وتقو به في هدي آخر ولأنه متى كان له أن يأكل ويطعم الأغنياء فله أن يبيع لأنه ملكه روري عن أحمد أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعا ولا يرجع المعين إلى ملكه لأنه تعلق بحق الفقراء بتعيينه فلزم ذبحه كما لو عينه بنذره ابتداء
فصل : وإن ضل المعين فذبح غيره ثم وجده أو عين غير الضال بدلا عما في الذمة ثم وجد الضال ذبحها معا روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وفعلته عائشة وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فإن له أن يصنع به ما شاء أو يرجع إلى ملك أحدهما لأنه قد ذبح ما في الذمة فلم يلزمه شيء آخر كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي ووجه الأول ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما وقالت هذه سنة الهدي رواه الدارقطني وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر
فصل : وإن عين معيبا عما في ذمته لم يجزئه ولزمه ذبحه على قياس قوله في الأضحية إذا عينها معيبة لزمه ذبحها ولم يجزه وإن عين صحيحا فهلك أو تعيب بغير تفريطه لم يلزمه أكثر مما كان واجبا في الذمة لأن الزائد لم يجب في الذمة وإنما تعلق بالعين فسقط بتلفها لأصل الهدي إذا لم يجب بغير التعيين وإن أتلفه أو تلف بتفريطه لزمه مثل المعين لأن الزائد تعلق به حق الله تعالى وإذا فوته لزمه ضمانه كالهدي المعين ابتداء
فصل : ويحصل الإيجاب بقوله هذا هدي أو بتقليده وإشعاره ناويا به الهدي وبهذا قال الثوري و إسحاق ولا يجب بالشراء مع النية ولا بالنية المجردة في قول أكثر أهل العلم قولا أبو حنيفة : يجب بالشراء مع النية ولنا أنه إزالة ملك على ووجه القربة فلم يجب بالنية كالعتق والوقف
فصل : إذا غصب شاة فذبحها عن الواجب عليه لم يجزه سواء رضي مالكها أو لم ير أو عوضه عنها أو لم يعوضه وقال أبو حنيفة : يجزئه إن رضي مالكها ولن أن هذا لم يكن قربة في ابتدائه فلم يصر قربة في أثنائه كما لو ذبحه للأكل ثم نوى التقرب وكما لو أعتق ثم نواه عن كفارته
مسألة : قال : وإن كان ساقه تطوعا نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه
وجملة ذلك أن من تطوع بهدي غير واجب ولم يخل من حالين أحدهما : أن ينويه هديا ولا يوجب بلسانه ولا بإشعاره وتقليده فهذا لا يلزمه امضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم الثاني : أن يوجب بلسانه هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك اهداءه فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بيعنيه دون ذمة صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله فإن تلف بغير تفريط منه أو سوق أو ضل لم يلزمه شيء لأن لم يجب في الذمة إنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها بغير تفريط كالوديعة وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء فإن كان نذرا فعليه البدل ] وفي رواية قال : [ من أهدى تطوعا ثم عطب فإن شاء أبدل وإن شاء أكل وإن كان نذرا فليبدل ] فأما أن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه لأنه أتلف واجبا لغيره فضمنه كالوديعة وإن خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبه الرفاق نحره موضعه وخلى بين وبين المساكين ولم يبح له أكل شيء منه ولا لأحد من صحابته وإن كانوا فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عقنه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي وليس بميتة فيأخذوه وبهذا قال الشافعي و سعيد بن جبير وروي عن ابن عمر أن أكل من هدية الذي عطب ولم يقض مكانه قوال مالك : يباح برفقته ولسائر الناس غير صاحب أو سائقه ولا يأمر أحدا يأكل منه فإن أكل أو أمر من أكل أو حز شيئا من لحمه ضمنه واحتج ابن عبد البر لذلك بما روى هشام بن عورة عن أبيه [ عن ناجية بنت كعب صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ قال : انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه ثم حل بنيه وبين الناس ] قال وهذا أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء ويدخل في عموم قوله : وخل بينه وبين الناس رفقته غيرهم
لونا ما [ روى ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث معه البدن ثم يقول : إن عطب منها شيء فخشيت عليها فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ] رواه مسلم وفي لفظ رواه الإمام أحمد : [ ويخليها والناس ولا يأكل منها هو ولا أحد من أصحابه ] وقال سعيد : حدثنا اسماعيل بن إبراهيم عن أبي التياح عن موسى بن سلمة [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه بعث بثماني عشرة بدنة مع رجل وقال : إن ازدحف عليك منها شيء فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اضرب بها في صفحتها ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك ] وهذا صحيح متضمن للزيادة ومعنى خاص فيجب تقديمه على عموم ما خالفه ولا تصح التسوية بين رفقته وبين سائر الناس لأن الإنسان يشفق على رفقته يوجب التوسعة عليهم وربما وسع عليهم من مؤنته وإنما منع السائق ورفقته من الأكل منها لئلا يقصر في حفظها فيعطبها ليأكل هو ورفقته منها فتحلقه التهمة في عطبها لنفسه ورفقته فحرموها لذلك فإن أكل منها أو باع أو أطعم غنيا أو رفقته ضمنه بمثله لحما وإن أتلفها أو تلف بتفريطه أ خاف عطبها فلم ينحرها حتى هلكت فعلي ضمانها بما يوصله إلى فقراء الحرم لأنه لا يتعذر عليه إيصال الضمان إليهم بخلاف العاطب وإن أطعم منها فقيرا أو أمره بالأكل منها فلا ضمان عليه لأنه أوصله إلى المستحق فأشبه ما لو أطعم فقيرا بعد بلوغه محله وإن تعيب ذبحه وأجزأه وقال أبو حنيفة : لا يجزئه إلا أن يحدث العيب به بعد اضجاعه للذبح ولنا أنه لو عطب لم يلزمه شيء فالعيب أولى لأن العطب يذهب بجميعه والعيب ينقصه ولأنه عيب حدث بعد وجوبه فأشبه ما لو حدث بعد اضجاعه وإن تعيب بفعل آدمي فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به وقال أبو حنيفة : يباع جميعه ويشترى هدي وبنى ذلك على أنه لا يجزئ وقد بينا أنه مجزئ

إبدال الهدي الواجب بأحسن منه
فصل : وإذ أوجب هديا فله إبداله بخير منه وبيعه ليشتري بثمنه خيرا منه نص عليه أحمد وهو اختيار أكثر الأصحاب ومذهب أبي حنيفة وقال أبو الخطاب : يزول ملكه عنه وليس له بيعه ولا إبداله وهو قول مالك و الشافعي لأنه حق متعلق بالرقبة ويسري إلى الولد فمنع البيع كالاستيلاد ولأنه لا يجوز له إبداله بمثله فلم يجز بخير منه كسائر ما لا جوز بيعه ووجه الأول أن النذور محموله على أصولها في الفرض وهو الزكاة يجوز الابدال كذلك هذا ولأنه لو زال ملكه لم يعد إليه بالهلاك كسائر الأملاك إذا زالت وقياسهم ينتقضب المدبرة يجوز بيعها وقد دل على جواز بيع المدبر أن النبي صلى الله عليه و سلم باع مدبرا أما إبدالها بمثلها أو دونها فلم يجز لعدم الفائدة في ذلك

منافع الهدي وزوائده
فصل : إذا ولدت الهدية فولدها بمنزلها إن أمكن سوقه وإلا حمله على ظهرها وسقاه من لبنها فإن لم يمكن سوقه ولا حمله صنع به ما يصنع بالهدي إذا عطب ولا فرق في ذلك بين ما عينه ابتداء وبين ما عينه بدلا عن الواجب في ذمته وقال القاضي في المعين بدلا عن الواجب يحتمل أن لا يتبعها ولدها لأن ما في الذمة واحد فلا يلزمه اثنان والصحيح أنه يتبع أمه في الوجوب لأنه ولد هدي واجب فكان واجبا كالمعين ابتداء وقال المغيرة بن حدف : أتى رجل عليا ببقرة قد أولدها فقال له : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم الأضحى ضحيت بها وولدها عن سبعة رواه سعيد و الأثرم وإن تعينت المعينة عن الواجب في الذمة وقلنا بذبحها ذبح ولدها معها لأنه تبع لها واحتمل أن لا يبطل ويكون للفقراء لأن تبعها في الوجوب حال اتصاله ولم يتبعها في زواله لأنه منفصل عنها كالولد المبيع المعيب إذا ولد عند المشتري ثم رده لم يبطل البيع في ولده والمدبرة إذا قلت سيدها فبطل تدبيرها لا يبطل في ولدها
فصل : وللمهدي شرب لبن الهدي لأن بقاءه في الضرع يضر به بالأم أو ما لا يفضل عن الولد إلا ما فضل عن ولده لما ذكرنا من خبر علي رضي الله عنه فإن شرب ما يضر بالأم أو ما لا يفضل عن الولد ضمنه لأنه تعدى بأخذه وإن كان صوفها يضر بها بقاؤه جزها وتصدق به على الفقراء والفرق بينه وبين اللبن أ الصوف كان وجودا حال إيجابها فكان واجبا معها واللبن متجدد فيها شيئا فشيئا فهو كنفعها وركوبها
فصل : وله ركوبه عند الحاجة على وجه لا يضر به قال أحمد : لا يركبه إلا عند الضرورة وهو قول الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي ل [ أن الرسول الله عليه وسلم قال : اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا ] رواه أبو داود ولأنه لا تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم فأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان إحداهما : لا يجوز لما ذكرنا والثانية يجوز لما روى أبو هريرة وأنس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها فقال : يا رسول الله إنها بدنة فقال : اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة ] متفق عليه

نحر الهدي وتوزيع لحمه والتخلية للفقراء ومساكين الحرم
فصل : ولا يبرأ من الهدي إلا بذبحه أو نحره هديه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه فإن نحره بنفسه أو وكل من نحره أو نحره إنسان بغير إذنه في وقته أجزأ عنه وإن دفعه إلى الفقراء سليما فنحروه أجزأ عنه لأنه حصل المقصود بفعلهم فأجزأه كما لو ذبحه غيرهم وإن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم وينحره فإن لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لأنه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليما
فصل : ويستحب للمهدي أن يتولى نحر الهدي بنفسه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هدية بيده وروي [ عن غرفة بن الحارث الكندي قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال : ادع لي أبا الحسن فدعي له علي فقال له خذ بأسفل الحربة وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بأعلاها ثم طعنا بها البدن ] رواه أبو داود وإنما فعلا ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم أشرك عليا في بدنه وقال جابر : [ نحر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ] وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نحر خمس بدنات ثم قال : من شاء اقتطع ] رواه أبو داود فإن لم يذبح بيده فالمستحب أن يشهد ذبحها لما روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها ] ويستحب أن يتولى تفريق اللحم بنفسه لأنه أحوط وأقل للضرر على المساكين وإن خلى بينه وبين المساكين جاز لقوله عليه السلام : [ من شاء اقتطع ]
فصل : ويباح للفقراء الأخذ من الهدي إذا لم يدفعه إليهم بأحد شيئين أحدهما : الأذن فيه لفظا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من شاء اقتطع ] والثاني : دلالة على الأذن كالتخلية بينهم وبينه وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يباح إلا باللفظ وقول النبي صلى الله عليه و سلم لسائق البدن : [ اصبغ نعلها في دمها واضرب به صفحتها ] دليل على أن ذلك وشبهه كاف من غير لفظ ولولا ذلك لم يكن هذا مفيدا
مسألة : قال : ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع
المذهب أنه يأكل من هدي التمتع والقران دون سواهما نص عليه أحمد ولعل الخرقي ترك ذكر القران لأنه متعة أو اكتفى بذكر المتعة لأنهم سواء في المعنى فإن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع وهذا قول أصحاب الرأي وعن أحمد أنه لا يأكل من المنذور وجزءا الصيد ويأكل مما سواهما وهو قول ابن عمر و عطاء و الحسن و إسحاق لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله لله تعالى بخلاف غيرهما وقال ابن أبي موسى : لا يأكل من الكفارة ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ونحوه مذهب مالك لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع وقال الشافعي : لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة ولنا أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم تمتعن معه حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارئة ثم ذبح عنهن النبي صلى الله عليه و سلم البقرة فأكلن من لحومها قال أحمد : قد أكل من البقر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عائشة خاصة و [ قالت عائشة : إن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا ؟ فقيل : ذبح النبي صلى الله عليه و سلم عن أزواجه ] وروى أبو داود و ابن ماجة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذبح عن آل محمد في حجة الوداع بقرة ] وقال ابن عمر : [ تمتع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة ] متفق عليه وقد ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر من كل بدنة ببضعه فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها ] رواه مسلم ولأنهما دما نسك فأشبها التطوع ولا يؤكل من غيرهما لأنه يجب بفعل محظور فأشبه جزاء الصيد
فصل فأما هدي التطوع هو ما أوجبه بالتعين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه فيستحب أن يأكل من بدنه وقال جابر : [ كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث فرخص لنا النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا ] رواه البخاري وإن لم يأكل فلا بأس ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم لما نحر البدنات الخمس قال : من شاء اقتطع ] ولم يأكل منهن شيئا والمستحب أن يأكل اليسير منها كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم وله الأكل كثيرا والتزود كما جاء في حديث جابر وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية فإن أكلها ضمن المشروع للصدقة منها كما في الأضحية
فصل : وإن أكل منها ما منع من أكله ضمنه بمثله لحما لأن الجميع مضمون عليه بمثله حيوانا فكذلك ابعاضه وكذلك إن أعطى الجازر منها شيئا ضمنه بمثله وإن أطعم غنيا منها على سبيل الهدية جاز كما يجوز له ذلك في الأضحية لأن ما ملك أكله ملك هديته وإن باع شيئا منها أو أتلفه ضمنه بمثله لأنه ممنوع من ذلك فأشبه عطيته للجازر وإن أتلف أجنبي منه شيئا ضمنه بقيمته لأن المتلف من غير ذوات الأمثال فلزمته قيمته كما لو أتلف لحما لآدمي معين
فصل : والهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين : منصوص عليه ومقيس على المنصوص فأما المنصوص عليه فأربعة : اثنان على الترتيب والواجب فيهما ما استيسر من الهدي وأقله شاة أو سبع بدنة أحدهما دم المتعة قال الله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } والثاني : دم الإحصار قال الله تعالى : { فما استيسر من الهدي } وهو على الترتيب أيضا أن لم يجده انقل إلى صيام عشرة أيام وإنما وجب ترتيبه لأن الله تعالى أمر به معينا من غير تخيير فاقتضى تعيينه الوجوب وإن لا يتنقل عنه إلا عند العجز كسائر الواجبات المعينة فإن لم يجده انتقل إلى صيام عشرة أيام بالقياس على دم المتعة إلا أنه لا يحل حتى يصومها وهذا قول الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة : لا بدل له لأنه لم يذكر في القرآن وهذا لا يلزم فإن عدم ذكره لا يمنع قياسه على نظيره واثنان مخيران أحدهما : فدية الأذى قال اله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } القاني : جزاء الصيد وهو على التخيير أيضا بقوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما }
القسم الثاني : ما ليس بمنصوص عليه فيقاس على أشبه المنصوص عليه به فهدي المتعة وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين سفر واحد ويقاس عليه أيضا دم الفوات فيجب عليه من دم المتعة وبدله مثل بدله وهو صيام عشرة أيام إلا أنه لا يمكن أن يكون ثلاثة قبل يوم النحر لأن الفوات إنما يكون بفوات ليلة النحر لأنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه فصار كالتارك لأحد السفرين فإن قيل : فهلا ألحقتموه الإحصار فإن أشبه به إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه قلنا : أما الهدي فهما فيه سواء وأما البدل فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه وإنما يثبت قياسا فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه على أن الصيام ههنا مثل الصيام عن دم الإحصار وهو عشرة أيام أيضا إلا أن صيام الإحصار يجب أن يكون قبل حله وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده وهو أيضا مقارن لصوم المتعة لأن الثلاثة في المتعة يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة وهذا يكون بعد فوات عرفة والخرقي إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم عن جزاء الصيد عن كل مد يوما والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا ويقاس عليه أيضا كل دم وجب لترك واجب كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها وطواف الوداع فالواجب فيه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام وأما من أفسد حجه بالجماع فالواجب فيه بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع كصيام المتعة كذلك قال عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ولم يظهر في الصحابة خلافهم فيكون إجماعا فيكون إجماعا فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة وقال أصحابنا : يقوم البدنة بدراهم ثم يشتري بها طعاما فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما فتكون محلقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد ويقاسم على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور يترفه به كتقليم الأظفار واللبس والطيب وكل استمتاع من النساء يوجب الشاة كالوطء في العمرة أو في الحج بعد رمي الجمرة فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرناه فيقاس عليه ويحلق به فقد قال ابن عباس لامرأة وقع عليه زوجها قبل أن تقصر عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك رواه الأثرم
مسألة : قال : وكل هدي أو اطعام فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه
أما فدرية الأذى فتجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد وقال الشافعي : لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية ولم يأمر ببعثه إلى الحرم وروى الأثرم و إسحاق الجوجاني في كتابهما عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال : مكنت مع عثمان وعلي وحسين بن علي رضي الله عنهم حجاجا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا هذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف والآية وردت في الهدي وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بفدية الشعر وما عداه من الدماء فبمكة وقال القاضي في الدماء الواجبة بفعل محظور كاللباس والطيب هي كدم الحلق وفي الجميع روايتان إحداهما : يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم وأما جزاء الصيد فهو لمساكين الحرم نص عليه أحمد فقال : أما ما كان بمكة أو كان من الصيد فكل بمكة لأن الله تعالى قال : { هديا بالغ الكعبة } وما كان من فدية الرأس فحيث حلقه وذكر القاضي في قتل الصيد رواية أخرى أنه يفدي حيث قتله وهذا يخالف نص الكتاب ونص الإمام أحمد في التفرقة بينه وبين حلق الرأس فلا يعول عليه وما وجب لترك نسك أو فوات فهو لمساكين الحرم دون غيرهم لأنه هدي وجب لترك نسك فأشبه هدي القرآن وإن فعل المحظور لغير سبب يبيحه فذكر ابن عقيل أنه يختص ذبحه وتفرقة لحمه بالحرم كسائر الهدي
فصل : وما وجب نحره بالحرم وجب تفرقة لحمه به وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقة لحمها في الحل ولنا أنه أحد مقصودي النسك فلم يجز في الحل كالذبح ولأن المعقول من ذبحه بالحرم التوسعة على مساكينه وهذا لا يحصل بإعطاء غيرهم ولأنه نسك يختص بالحرم فكان جميعه مختصا به كالطواف وسائر المناسك
فصل : والطعام كالهدي يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي وقال عطاء و النخغي ما كان من هدي فبمكة وما كان من طعام وصيام فحيث شاء وهذا يقتضيه مذهب مالك و أبي حنيفة ولنا قول ابن عباس : الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين فاختص بالحرم كالهدي
فصل : ومساكين أهل الحرم من كان فيه من أهل أو وارد إليه من الحاج ويغرهم وهم اللذين يجوز دفع الزكاة إليهم ولو دفع إلى من ظاهرة الفقر فبان غنيا خرج فيه وجهان كالزكاة وللشافعي فيه قولان وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وجوزه أصحاب الرأي ولنا أنه كافر يجز الدفع إليه كالحربي

نذر الهدي ومكان ذبحه
فصل : وإذا نذر هديا وأطلق فأقل ما يجزئه شاة أو سبع بدنة أو بقرة لأن المطلق في المنذر يجب حمله على المعهود شرعا والهدي الواجب في الشرع إنما هو من النعم واقله ما ذكرناه فحمل عليه ولهذا لما قال الله تعالى في المتعة : { فما استيسر من الهدي } حمل على ما قلنا فإن اختار إخراج بدنة كاملة فهو أفضل وهل تكون كلها واجبة على وجهين أحدهما تكون واجبة اختاره ابن عقيل لأنه اختار الأعلى لأداء فرضه فكان كله واجبا كما لو اختار الأعلى من خصال كفارة اليمين أو كفارة الوطء في الحيض الثاني يكون سبعها واجبا والباقي تطوعا له أكله وهديته لأن الزائد على السبع يجوز تركه من غير شرط ولا بدل فأشبه ما لو ذبح شاتين وإن عين الهدي بشيء لزمه ما عينه وأجزأه سواء كان من بهيمة الأنعام أو غيرها وسواء كان حيوانا أو غيره مما ينقل أو مما لا ينقل ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من راح - يعني إلى الجمعة - في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح إلى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ] فذكر الدجاجة والبيضة في الهدي وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم لأنه سماه هديا وأطلق فيحمل على محل الهدي المشروع وقد قال الله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } فإن كان مما لا ينقل كالعقار باعه وبعث ثمنه إلى الحرم فيتصدق به فيه
فصل : وإن نذر هديا مطلقا أو معينا مكانه وجب عليه إيصاله إلى مساكين الحرم وجوز أبو حنيفة ذبحه حيث شار كما لو نذر الصدقة بشاة ولنا قوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ولأن النذر يحمل على المعهود شرعا والمعود في الهدي الواجب بالشروع كهدي المتعة والقران وأشباههما أن ذبحها يكون في الحرم كذا هاهنا وإن عين نذره بموضع يغر الحرم لزمه ذبحه به وتفرقه لحمه على مساكين الحرم وإطلاقه لهم لما روي [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني نذرت أن أنحر ببوانة قال : أبها صنم ؟ قال : لا قال : أوف بنذرك ] رواه أبو داود وإن نذر الذبح بموضع به صنم أو شيء من أمر الكفر أو المعاصي كبيوت النار أو الكنائس والبيع وأشباه ذلك لم يصح نذره بمفهوم هذا الحدي ولأنه نذر معصية فلا يوفى به لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا نذر في معصية الله تعالى ولا فيما لا يملك ابن آدم ] وقوله : [ من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ]

ذبح الهدي عند الإحصار
فصل : وقول الخرقي : إن قدر على إيصاله إليهم يدل على أن العاجز عن إيصاله لا يلزمه إيصاله فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فإن منع النذر الوصول بنفسه وأمكنه تنفيذه لزمه قال ابن عقيل : إذا حصر عن الخروج خرج في ذبح هذا الهدي المنذور في موضع حصره روايتان كدماء الحج واختيار أن الصحيح جواز ذبحه في موضع حصره لأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر هديه بالحديبية والثانية : إن أمكن إرساله مع غيره فلا يجوز له ذبحه في موضعه لأنه أمكنه إيصال المنذور إلى محله فلزمه كغير المحصور

مكان صيام الفدية في الحج
مسألة : قال : وأما الصيام فيجزئه بكل مكان
لا نعلم في هذا خلافا كذلك قال ابن عباس و عطاء و النخعي وغيرهم وذلك لأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والإطعام فإن نفعه يتعدى إلى من يعطاه

تقليد الهدي وإشعاره وما يجوز أن يهدي من الحيوان وسبعا من الغنم يجزئ البدنة
فصل : ويسن تقليد الهدي وهو أن يجعل في أعناقها النعال وآذان القرب وعراها أو علاقة اداوة سواء كانت إبلا أو بقرا أو غنما وقال مالك و أبو حنيفة لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل في الإبل ولنا [ أن عائشة قالت : كنت أفتل القلائد للنبي صلى الله عليه و سلم فيقلد الغنم ويقيم في أهله حلالا ] وفي لفظ [ كنت أفتل قلائد الغنم للنبي صلى الله عليه و سلم ] رواه البخاري ولأنه هدي فيسن تقليده كالإبل ولأنه إذا سن تقليده الإبل مع إمكان تعريفها بالإشعار فالغنم أولى وليس التساوي في النقل شرطا لصحة الحديث ولأنه كان يهدي الإبل أكثر فكثر نقله
فصل : ويسن إشعار الإبل والبقر وهو أن يشق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها في قول عامة أهل العلم وقال أبو حنيفة : هذا مثله غير جائز لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن تعذيب الحيوان ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه وقال مالك : إن كنت البقرة ذات سنام فلا بأس بأشعارها وإلا فلا ولنا ما [ روت عائشة رضي الله عنها قالت : فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه و سلم ثم أشعرها وقلدها ] متفق عليه رواه ابن عباس وغيره وفعله الصحابة فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به وبأنه إيلام لغرض صحيح فجاز كالكي والوسم والفصد والحجامة والغرض أن لا نختلط بغيرها وأن يتوقاها اللص ولا يحصل ذلك بالتقليد لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب وقياسهم والغرض أن لا تختلط بغرها وأن يتوقاها اللص ولا يحص لذلك بالتقليد لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب وقياسهم منتقض بالكي والوسم وتشعر البقرة لأنه من البدن فتشعر كذات السنام وأما الغنم فلا يسن أشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع اشعارها إذا ثبت هذا فالسنة الاشعار في صفحتها اليمنى وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال مالك و أبو يوسف بل تشعر في صفحتها اليسرى وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله ولنا ما روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها بيده ] رواه مسلم وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري ثم فعل النبي صلى الله عليه و سلم أولى من قول ابن عمر وفعله بلا خلاف ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعجبه التيمن في شأنه كله وإذا ساق الهدي من قبل الميقات استحب اشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس وإن ترك الأشعار والتقليد فلا بأس لأن ذلك غير واجب
فصل : ولا يسن الهدي إلا من بهيمة الأنعام لقول الله تعالى : { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } وأفضله الإبل ثم البقر ثم الغنم لما روى أبو هريرة [ أن رسول صلى الله عليه و سلم قال : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ] متفق عليه وقال ابن عباس لامرأة أصابها زوجها في العمرة : عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك قالت : أي النسك قالت : أي النسك أفضل ؟ قال : إن شئت فناقة وإن شئت فبقرة قالت : أي ذلك أفضل ؟ قال : انحري ناقة رواه الأثرم ولأن ما كان أكثر لحما كان أنفع للفقراء ولذلك أجزأت البدنة مكان سبع من الغنم والشاة أفضل من سبع بدنة لأن لحمها أطيب من المعز لذلك
الفصل : والذكر والأنثى في الهدي سواء وممن أجاز ذكران الإبل ابن المسيب و عمر بن عبد العزيز و مالك و عطاء و الشافعي وعن ابن عمر أنه قال : ما رأيت أحدا فاعلا ذلك وإن أنحر أنثى أحب إلي والأول أولى لأن الله تعالى قال : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } ولم يذكر ذكرا ولا أنثى وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم أهدي جملا لأبي جعل في أنفه برة من فضة رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه يجوز من سائر أنواع بهيمة الأنعام ولذلك [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : فكأنما قرب كبشا أقرن ] فكذلك من الإبل ولأن القصد اللحم ولحم الذكر أوفر ولحم الأنثى أرطب فيتساويان قال أحمد الخصي أحب إلينا من النعجة وذلك لأن لحمه أوفر وأطيب
مسألة : قال : ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه
ظاهر هذا أن سبعا من الغنم يجزئ عن البدنة مع القدرة عليها سواء كانت الدبنة واجبة بنذر أو جزاء صيد أو كفارة وطء وقال ابن عقيل : إنما يجزئ ذلك عنها عند عدمها في ظاهر كلام احمد لأن ذلك بدل عنها فلا يصار إليه مع وجودها كسائر الإبدال فأما مع عدمها فيجوز لما روى ابن عباس قال : [ أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل فقال : إن علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها فاشتريها ؟ فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن ] رواه ابن ماجة ولنا أن الشاة معدولة بسبع بدنة وهي أطيب لحما فإذا عدل عن الأدنى إلى الأعلى جاز كما لو ذبح بدنة مكان شاة
فصل : ومن وجب عليه سبع من الغنم في جزاء الصيد لم يجزئه بدنة في الظاهر لأن سبعا من الغنم أطيب لحما فلا يعدل عن الأعلى إلى الأدنى وإن كان ذلك في كفارة محظور أجزأه بدنة لأن الدم الواجب فيه ما استيسر من الهدي وهو شاة أو سبع بدنة وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يتمتعون فيذبحون البقرة عن سبعة قال جابر : [ كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها ] وفي لفظ [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة ] رواه مسلم
فصل : ومن وجبت عليه البقرة أجزأته بدنة لأنها أكثر لحما وأوفر ويجزئه سبع من الغنم لأنها تجزئ عن البدنة فعن القبرة ألوى ومن أولى ومن لزمه بدنة في غير النذر وجزاء الصيد أجزأته بقرة لما روى أبو الزبير عن جابر قال : كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة ؟ فقال : وهل هي إلا من البدن فأما في النذر فال ابن عقيل : يلزمه ما نواه فإن أطلق فعنه روايتان إحداهما : تجزئه البقرة لما ذكرنا من الخبر والأخرى لا تجزئه إلا أن يعدم البدنة وهذا قول الشافعي لأنها بدل فاشترط عدم المبدل والأولى للخبر ولا ما أجزأ عن سبعة في الهدايا ودم المتعة أجزأ في النذر بلفظ البدنة كالجزور
فصل : ويجوز أن يشترط السبعة في البدنة ولا بقرة سواء كان واجبا أو تطوعا وسواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم وأراد الباقون اللحم وقال مالك : لا يجوز الاشتراك في الهدي وقال أبو حنيفة يجوز إذا كانوا متفرقين كلهم ولا يجوز إذا لم يرد بعضهم القربة وحديث جابر يرد قول مالك ولنا على أبي حنيفة أن الجزء المجزى لا نقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت جهات القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر القران ويجوز أن يقتسموا اللحم لأن القسمة افراز حق وليست بيعا

وما لزم من الدماء في غير جزاء الصيد يجزئه
مسألة : قال : وما لزم من الدماء فلا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من غيره
هذا في غير جزاء الصيد فأما جزاء الصيد فمنه جفرة وعناق وجدي وصحيح ومعيب وأما في غيره مثل هدي المتعة وغيره فلا يجزئ لا الجذع من الضأن وهو الذي له ستة أشهر والثني من غره وثني المعز ماله سنة وثني البقر له سنتان وثني الإبل له خمس سنين وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عمر والزهري : لا يجزئ إلا الثني من كل شيء وقال عطاء و الأوزاعي يجزئ الجذع م الكل إلا المعز ولنا على الزهري ما روي عن أم بلال بنت هلال عن أبيها [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يجوز إلا الجذع من الضأن أضحية ] وعن عاصم بن كليب قال : كنا مع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقال له : مجاشع من بني سليم فعزت الغنم فأمر مناديا فنادى إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول : [ إن الجذع يوفي ما توفي منه الثنية ] وعن جابر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعا من الضأن ] رواهن ابن ماجة وروي جابر و مسلم و أبو داود وهذا حجة على عطاء و الأوزاعي وحديث [ أبي بردة بن نيار حين قال : يا رسول الله إن عندي عناقا جذعا هي خير من شاتي لحم ؟ فقال : تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك ] أخرجه أبو داود و النسائي وفي لفظ أن عندي داجنا جذعة من المعز قال أبو عبيد الهروي قال إبراهيم الحربي إنما يجزئ الجذع من الضأن في الأضاحي لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يصير ثنيا
فصل : ويمنع من العيوب في الهدي ما يمنع في الأضحية [ قال البراء بن عازب قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لا تنقى قال قلت : إني أكره أن يكون في السن نقص قال : ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد ] رواه أبو داود و النسائي وبهذا قال عطاء قال : أما الذي سمعناه فالأربع وكل شيء سواهن جائز ومعنى قوله : [ البين عورها ] أي انخسفت عينها وذهبت فإن ذلك ينقصها لأن شحمة العين عضو مستطاب فلو كان على عينها بياض ولم تذهب العين جازت التضحية بها لأن ذلك لا ينقصها في اللحم والعرجاء البين عرجها متفاحش يمنعها السير مع الغنم ومشاركتهن في العلف ويهزلها والتي لا تنقى التي لا مخ لها لهزالها والمريضة قيل هي الجرباء لأن الجرب يفسد اللحم وظاهر الحديث أن كل مريضة مرضا يؤثر في هزالها أو في فساد لحمها يمنع التضحية بها وهذا أولى لتناول اللفظ له والمعنى فهذا الأربع لا نعلم بين أهل العلم خلافا في منعها ويثبت الحكم فيما فيه نقص أكثر من هذه العيوب بطري التنبيه فلا يجوز العمياء لأن العمى أكثر من العور ولا يعتبر مع العمى انخساف العين لأنه يخل بالمشي مع الغنم والمشاركة في العلف أكثر من اخلال العرج ولا يجوز ما قطع منها عضو مستطاب كالالية لأن ذلك أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين فأما العضباء وهي ما ذهب نصف أذنها أو قرنها فلا تجزئ وبه قال أبو يوسف محمد في عضباء الأذن وعن أحمد لا تجزئ ما ذهب ثلث أذنها وبه قال أبو حنيفة وروي عن علي وعمار وسعيد بن المسيب والحسن تجزئ المكسورة القرن لأن ذهاب ذل لا يؤثر في اللحم فأجزأت كالجماء وقال مالك : إن كان يدمى لم يجز والاجاز ولنا ما روى علي رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يضحى بأعضب الأذن والقرن رواه النسائي و ابن ماجة قال قتادة : فسأتل سعيد بن المسيب فقال : نعم العضب النصف فأكثر من ذلك ويحمل قول علي رضي الله عنه ومن وافقه على أن كسر ما دون النصف لا يمنع
فصل : ويجزئ الخصي سواء كان مما قطعت خصيتاه أو مسلولا وهو الذي سلت بيضتاه و موجوءا وهو الذي رضت بيضتاه لان النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين أملحين موجوءين والمرضوض كالمقطوع ولأن ذلك العضة غير مستطاب وذهابه يؤثر في سمنه وكثرة اللحم وطيبه وهو المقصود ولا نعلم في هذا خلافا وتجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن وحكي عن ابن حامد أنها لا تجزئ لأن عدم القرن أكثر من ذهاب نصفه والأولى أنها تجزئ لأن القرن ليس بمقصود ولا ورد النهي عما عدم فيه وتجزئ الصمعاء وهي التي لم يخلق لها أذن أو خلقت لها أذن صغيرة كذلك وتجزئ البتراء وهي المقطوعة الذنب كذلك
فصل : ويكره أن يضحي بمشقوقه الأذن أو ما قطع منها شيء أو ما فيها عيب من هذه العيوب التي لا تمنع الأجزاء لقول علي رضي الله عنه أمرنا أن نستشرف العين والأذن ولا يضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء قال زهير : قلت لأبي إسحاق ما المقابلة ؟ قال : يقطع طرف الأذن قلت فما المدابرة ؟ قال : يقطع مؤخر الأذن قلت : فما الخرقاء ؟ قال : يشق الأذن قلت : فما الشرقاء ؟ قال : يشق أذنها للسمة رواه أبو داود والنسائي قال القاضي : الخرقاء التي انثقبت أذنها والشرقاء التي تشق أذنها وتبقى كالشاختين وهذا ينهى تنزيه ويحصل الأجزاء بها لا نعلم في هذا خلافا

يستحب لمن أتى مكة أن يطوف ولمن حج أن يدخل البيت الحرام
فصل : ويستحب لمن أتى مكة أن يطوف بالبيت لأن الطواف بالبيت صلاة والطواف أفضل م الصلاة والصلاة بعد ذلك يروى عن ابن عباس قال : الطواف لكم يا أهل العراق والصلاة لأهل البلد قال : ومن الناس من يقول : يزور البيت كل يوم مكة وقال عطاء : الطواف للغرباء والصلاة لأهل البلد قال : ومن الناس من يقول : يزور البيت كل يوم من أيام منى ومنهم مني يختار الإقامة بمنى لأنها أيام منى واحتج أبو عبد الله بحديث أبي حسان عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفيض كل ليلة ]
فصل : ويستحب لمن حج أن يدخل البيت ويصلي فليه ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يدخل البيت بنعليه ولا خفيه ولا الحجر أيضا لأن الحجر من البيت ولا يدخل الكعبة بسلاح قال وثياب الكعبة إذا نزعت يتصدق بها وقال : إذا أراد أن يستشفي بشيء من طيب الكعبة فليأت بطيب من عنده فليلزمه على البيت ثم يأخذه ولا يأخذ من طيب البيت شيئا ولا يخرج من تراب الحرام ولا يدخل فيه من الحل كذلك قال عمر وابن عباس رضي الله عنهما ولا يخرج من حجارة مكة وترابها إلى الحل ويخرج أشد إلا أن ماء زمزم أخرجه كعب
فصل : قال أحمد : كيف لنا بالجوار بمكة [ قال النبي صلى الله عليه و سلم إنك لأحب البقاع إلى الله عز و جل ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ] وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها وجابر بن عبد الله جاور بمكة وجميع أهل البلاد ومن كان من أهل اليمن ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به وابن عمر كان يقيم بمكة قال : والمقام بالمدينة أحجب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه لأنها مهاجر المسلمين و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة ]

ويستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه و سلم وصاحبيه وما يقال عند الزيارة
فصل : ويستحب زيارة قبل النبي صلى الله عليه و سلم لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي ] وفي رواية [ من زار قبري وجبت له شفاعتي ] رواه اللفظ الأول سعيد ثنا حفص سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر وقال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من أحد يسلم علي عند قبري إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ] وإذا حج الذي لم يحج قط يعني من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطريق ولا يتشاغل بغيره ويروى عن العتبي قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فجاء إعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :
( يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم )
( نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم )
ثم انصرف الإعرابي فحملتني عين فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال : عتبي الحق الإعرابي فبشره أن الله قد غفر له ويستحب لم دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى ثم يقول : بسم الله والصلاة على رسول الله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال مثل ذلك وقال وافتح لي أبواب فضلك لما روى عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و
Bها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علمها أن يقول ذلك إذا دخلت المسجد
ثم تأتي القبر فتولى ظهره القبلة وتستقبل وتقول : السلام عليك أيها النبي صلى ورحمة الله وبركاته السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى اله عليك كثيرا كما يحب رنا ويرضى اللهم أجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل علي محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم أنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم إنك قلت وقولك الحق : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الآخرين والأولين برحمتك يا أرحم الراحمين ثم يدعوا لوالديه ولإخوانه وللمسلمين أجمعين ثم يتقدم قليلا ويقول : السلام عليك يا أبا بكر الصديق السلام عليك يا عمر الفاروق السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه و سلم وضجيعيه وزيريه ورحمة الله وبركاته اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام نخيرا سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك صلى الله عليه و سلم ومن حرم مسجد يا أرحم الراحمين
فصل : ولا يستحب التسمح بحائط قبر النبي صلى الله عليه و سلم ولا تقبيله قال أحمد : ما أعرف هذا قال الأثرم : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي صلى الله عليه و سلم يقومون من ناحية فيسلمون قال أبو عبد الله : هكذا كان ابن عمر يفعل قال : أما المنبر فقد جاء فيه يعني ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه و سلم من المنبر ثم يضعها على وجهه
فصل : ويستحب لمن رجع من الحج أن يقول ما روى البخاري عن عبد الله بن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصره عبده وهزم الأحزاب وحده ]

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب البيوع
البيع مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكا واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه أي يصافحه عند البيع ولذلك سمي البيع صفقة وقال بعض أصحابنا : هو الإيجاب والقبول إذا تضمن عينين للتمليك وهو حد قاصر لخروج بيع المعاطاة منه ودخول عقود سوى البيع فيه والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { وأحل الله البيع } وقوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وروى البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا فيه فأنزلت { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } يعني في مواسم الحج وعن الزبير نحوه وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] متفق عليه و [ روى رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال : يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال : إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وروى أبو سعيد [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ] قال الترمذي : هذا حديث حسن - في أحاديث كثيرة سوى هذه وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة والحكمة تقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه وصاحبه لا يبذله بغير عوض ففي شرع البيع وتجويزه شرع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته

البيع على ضربين خيار المتبايعين
فصل : والبيع على ضربين أحدهما : الإيجاب والقبول فالإيجاب أن يقول : بعتك أو ملكتك أو لفظ يدل على عليهما والقبول أن يقول : اشتريت أو قبلت ونحوهما فإن تقدم القبول على الإيجاب بلفظ الماضي فقال : ابتعت منك فقال : بعتك صح لأن لفظ الإيجاب والقبول وجد منهما على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما به فصح كما لو تقدم الإيجاب وإن تقدم بلفظ الطلب فقال : بعني ثوبك فقال : بعتك ففيه روايتان أحداهما : يصح كذلك وهو قول مالك و الشافعي والثانية : لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأنه لو تأخر عن الإيجاب لم يصح به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام ولأنه عقد عري عن القبول فلم ينعقد كما لو لم يطلب وحكى أبو الخطاب فيما إذا تقدم بلفظ الماضي روايتين أيضا فأما إن تقدم بلفظ الإستفهام مثل أن يقول أتبيعني ثوبك بكذا فيقول بعتك لم يصح بحال نص عليه أحمد وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأن ذلك ليس بقبول ولا استدعاء
الضرب الثاني : المعاطاة مثل أن يقول أعطني بهذا الدينار خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه فهذا بيع صحيح نص عليه أحمد فيمن قال لخباز كيف تبيع الخبز قال كذا بدرهم قال زنه وتصدق به فإذا وزنه فهو عليه وقول مالك نحو من هذا فإنه قال : يقع البيع بما يعتقده الناس بيعا وقال بعض الحنفية : يصح في خسائس الأشياء وحكي عن القاضي مثل هذا قال يصح في الأشياء اليسيرة دون الكبيرة مذهب الشافعي رحمه الله أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا
ولنا أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ولأن البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم وإنما علق الشرع عليه أحكاما وبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلا شائعا ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ولم يتصور منهم إهماله والغفلة عن نقله ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول لبينه صلى الله عليه و سلم بيانا عاما ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال الباطل ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا أحد من أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان ذلك إجماعا وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة والهدية والصدقة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه وقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من الحبشة وغيرها وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة متفق عليه وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أتي بطعام سأل عنه : أهدية أم صدقة ؟ فإن قيل : صدقة قال لأصحابه : كلوا ولم يأكل وإن قيل : هدية ضرب بيده وأكل معهم ] وفي حديث [ سلمان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بتمر فقال : هذا شيء من الصدقة رأيتك أنت وأصحابك أحق الناس به فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : كلوا ولم يأكل ثم أتاه ثانية بتمر فقال : رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا شيء أهديته لك فقال النبي صلى الله عليه و سلم بسم الله وأكل ] ولم ينقل قبول ولا أمر بإيجاب وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب ولا قبول وليس إلا المعاطاة والتفرق عن تراض يدل على صحته ولو كان الإيجاب والقبول شرطا في هذه العقود لشق ذلك ولكانت عقود المسلمين فاسدة وأكثر أموالهم محرمة ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه

خيار المجلس خيار المتبايعين
أي باب خيار المتبايعين فحذف اخصارا
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما
فصل : أحدها : أن البيع يقع جائزا ولكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ماداما مجتمعين لم يتفرقا وهو قول أكثر أهل العلم يروى ذلك عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي برزة وبه قال سعيد بن المسيب و شريح و الشعبي و عطاء و طاوس و الزهري و الأوزاعي و ابن أبي ذئب و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وقال مالك وأصحاب الرأي : يلزم العقد بالإيجاب والقبول ولا خيار لهما لأنه روي عن عمر رضي الله عنه : البيع صفقة أو خيار ولأنه عقد معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع ولنا ما روى ابن عمر [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن لم لم يتفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ] متفق عليه و [ قال صلى الله عليه و سلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] رواه الأئمة كلهم ورواه عبد الله بن عمر و عبد الله و حكيم بن حزام و أبو برزة الأسلمي واتفق على حديث ابن عمر و حكيم ورواه عن نافع عن ابن عمر مالك و أيوب و عبيد الله بن عمر و ابن جريج و الليث بن سعد و يحيى بن سعيد وغيرهم وهو صريح في حكم المسألة وعاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته للحديث مع روايته له وثبوته عنده وقال الشافعي رحمه الله : لا أدري هل أتهم مالك نفسه أو نافعا ؟ وأعظم أن أقول عبد الله بن عمر وقال ابن أبي ذئب : يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث فإن قيل المراد : بالتفرق ههنا التفرق بالأقوال كما قال الله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] أي بالأقوال والاعتقادات قلنا : هذا باطل لوجوه منها : أن اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف فيه الثاني : إن هذا يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه الثالث : إنه قال في الحديث : [ إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ] فجعل لهما الخيار بعد تبايعهما وقال : [ وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ] الرابع : أنه يرده تفسير ابن عمر للحديث بفعله فإنه كان إذا بايع رجلا مشى خطوات ليلزم البيع وتفسير أبي برزة له بقوله على مثل قولنا وهما راويا الحديث وأعلم بمعناه وقول عمر : البيع صفقة أو خيار معناه أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشترط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه فإنه روى عنه أبو إسحاق الجوزجاني مثل مذهبنا ولو أراد ما قالوه لم يجز أن يعارض به قول النبي صلى الله عليه و سلم فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان عمر إذا بلغه قول النبي صلى الله عليه و سلم رجع عن قوله فكيف يعارض قوله بقوله ؟ على أن قول عمر ليس بحجة إذا خالفه بعض الصحابة وقد خالفه ابنه و أبو برزة وغيرهما ولا يصح قياس البيع على النكاح لأن النكاح لا يقع غالبا إلا بعد روية ونظر وتمكث فلا يحتاج إلى الخيار بعده ولأن في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد وذهاب حرمتها بالرد وإلحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت فيه خيار لذلك ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط ولا خيار الرؤية والحكم في هذه المسألة ظاهر لظهور دليله ووهاء ما ذكره المخالف في مقابلته والله أعلم
الفصل الثاني : أن البيع يلزم بتفرقهما لدلالة الحديث عليه ولا خلاف في لزومه بعد التفرق والمرجع في التفريق إلى عرف الناس وعادتهم فيما يعدونه تفرقا لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز فإن كنا في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء فبأن يمشي أحدهما مستديرا لصاحبه خطوات وقيل : هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة قال أبو الحارث : سئل أحمد عن تفرقه الأبدان فقال : إذا أخذ هذا كذا وهذا كذا فقد تفرقا وروى مسلم عن نافع قال : فكان ابن عمر إذا بايع فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ثم رجع وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فالمفارقة من بيت إلى بيت أو إلى مجلس أو صفة أو من مجلس إلى بيت أو نحو ذلك فإن كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه وإن كانا في سفينته صغيرة خرج أحدهما منها ومشى وإن كانت كبيرة صعد أحدهما على أعلاها ونزل الآخر في أسفلها وهذا كله مذهب الشافعي فإن كان المشتري هو البائع مثل أن يشتري لنفسه من مال ولده أو اشترى لولده من مال نفسه لم يثبت فيه خيار المجلس لأنه تولى طرفي العقد فلم يثبت له خيار كالشفيع ويحتمل أن يثبت فيه ويعتبر مفارقة مجلس العقد للزومه لأن الافتراق لا يمكن ههنا لكون البائع هو المشتري ومتى حصل التفرق لزم العقد قصدا ذلك أو لم يقصداه علماه أو جهلاه لأن النبي صلى الله عليه و سلم علق الخيار على التفرق وقد وجد ولو هرب أحدهما من صاحبه لزم العقد لأنه فارقه باختياره ولا يقف لزوم العقد على رضاهما ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع ولو أقاما في المجلس وسدلا بينهما سترا أو بنيا بينهما حاجزا أو ناما أو قاما فمضيا جميعا ولم يتفرقا فالخيار بحاله وإن طالت المدة لعدم التفرق وروى أبو داود و الأثرم بإسنادهما عن أبي الرضى قال : غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد فحضر الرحيل قام إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفع إليه فقال : بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له هذه القصة فقال : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] ما أراكما افترقتما فإن فارق أحدهما الآخر مكرها احتمل بطلان الخيار لوجود غايته وهو التفرق ولأنه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه وقال القاضي : لا ينقطع الخيار لأنه حكم علق عليه الطلاق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خيار صاحبه كما لو هرب منه وفارقه بغير رضاه ويكون الخيار للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه فيه الإكراه حتى يفارقه وإن أكرها جميعا انقطع خيارهما لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه وذكر ابن عقيل من صور الإكراه ما لو رأيا سبعا أو ظالما خشياه فهربا فزعا منه أو حملهما سيل أو فرقت ريح بينهما
فصل : وإن خرس أحدهما قامت إشارته مقام لفظه إن لم تفهم إشارته أو جن أو أغمي عليه قام وليه من الأب أو وصيه أو الحاكم مقامه وهذا مذهب الشافعي وإن مات أحدهما بطل خياره لأنه قد تعذر منه الخيار والخيار لا يورث وأما الباقي منهما فيبطل خياره أيضا لأنه يبطل بالتفرق والتفرق بالموت أعظم ويحتمل أن لا يبطل لأن التفرق بالأبدان لم يحصل فإن حمل الميت بطل الخيار لأن الفرقة حصلت بالبدن والروح معا
فصل : وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله ] رواه النسائي و الأثرم و الترمذي وقال : حديث حسن وقوله : إلا أن تكون صفقته خيار يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار فإنه لا يلزم بتفرقهما ولا يكون تفرقهما غاية للخيار فيه لكونه ثابتا بعد تفريقهما ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرطا فيه أن لا يكون بينهما فيه خيار فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمر وحديث عمرو بن شعيب فقال : هذا الآن قول النبي صلى الله عليه و سلم وهذا اختيار أبي بكر وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد جواز ذلك لأن ابن عمر كان إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه متفق عليه والأول أصح لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم يقدم على فعل ابن عمر والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه لما خالفه
الفصل الثالث : أن ظاهر كلام الخرقي أن الخيار يمتد إلى التفرق ولا يبطل بالتخاير قبل العقد ولا بعده وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] من غير تقييد ولا تخصيص وهكذا رواه حكيم بن حزام و أبو برزة وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمر والرواية الثانية : أن الخيار يبطل بالتخاير اختارها الشريف ابن أبي موسى وهذا مذهب الشافعي وهو أصح لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عمر : [ فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ] يعنى لزم وفي لفظ : [ المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع ] متفق عليه والأخذ بالزيادة أولى والتخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد فالتخاير في ابتدائه أن يقول بعتك ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك فلا يكون لهما خيار والتخاير بعده أن يقول كل واحد منهما بعد العقد اخترت امضاء العقد أو ألزمه أو اخترت العقد أو أسقطت خياري فيلزم العقد من الطرفين وإن اختار أحدهما دون الآخر لزم في حقه وحده كما لو كان خيار الشرط لهما فاسقط أحدهما خياره دون الآخر وقال أصحاب الشافعي : في التخاير في ابتداء العقد قولان أظهرهما لا يقطع الخيار لأنه إسقاط للحق قبل سببه فلم يجز كخيار الشفعة فعلى هذا هل يبطل العقد بهذا الشرط ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة
ولنا قوله عليه السلام : [ فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ] وقوله : [ إلا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار وجب البيع ] وهذا صريح في الحكم فلا يعول على ما خالفه ولأن ما أثر في الخيار في المجلس أثر فيه مقارنا للعقد كاشتراط الخيار ولأنه أحد الخيارين في البيع فجاز إخلاؤه عنه كخيار الشرط وقولهم : إنه إسقاط للخيار قبل سببه ليس كذلك فإن سبب الخيار البيع المطلق فأما البيع مع التخاير فليس بسبب له ثم لو ثبت أنه سبب الخيار لكن المانع مقارن له فلم يثبت حكمه وأما الشفيع فإنه أجنبي من العقد فلم يصح اشتراط إسقاط خياره في العقد بخلاف مسألتنا فإن قال أحدهما لصاحبه : اختر ولم يقل الآخر شيئا فالساكت منهما على خياره لأنه لم يوجد منه ما يبطل خياره وأما القائل فيحتمل أن يبطل خياره لما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] أو يقول أحدهما لصاحبه اختر رواه البخاري و أبو داود و النسائي ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار فسقط خياره وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يبطل خياره لأنه خيره فلم يختر فلم يؤثر فيه كما لو جعل لزوجته الخيار فلم تختر شيئا ويحتمل الحديث على أنه خيره فاختار والأول أولى لظاهر الحديث ولأنه جعل الخيار لغيره ويفارق الزوجة لأنه ملكها ما لا تملك فإذا لم تقبل سقط وههنا كل واحد منهما يملك الخيار فلم يكن قوله تمليكا إنما كان إسقاطا فسقط

تلف المبيع في مدة الخيار
مسألة : قال : فإن تلفت السلعة أو كان عبدا فأعتقه المشتري أو مات بطل الخيار
أما إذا تلفت السلعة في مدة الخيار لا يخلو إما أن تكون قبل القبض أو بعده فإن كان قبل القبض وكان مكيلا أو موزونا انفسخ البيع وكان من مال البائع ولا أعلم في هذا خلافا إلا أن يتلفه المشتري فيكون من ضمانه ويبطل خياره وفي خيار البائع روايتان وإن كان المبيع غير المكيل والموزون ولم يمنع البائع المشتري من قبضه فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري ويكون كتلفه بعد القبض وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار فهو من ضمن المشتري ويبطل خياره وفي خيار البائع روايتان إحداهما : يبطل وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه خيار فسخ فبطل بتلف المبيع كخيار الرد بالعيب إذا تلف المعيب
: والرواية الثانية : لا يبطل وللبائع أن يفسخ ويطالب المشتري بقيمته وهذا اختيار القاضي و ابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] ولأنه خيار فسخ فلم يبطل بتلف المبيع كما لو اشترى ثوبا بثوب فتلف أحدهما ووجد الآخر بالثوب عيبا فإنه يرده ويرجع بقيمته ثوبه كذا ههنا وأما إذا أعتقه المشتري فإن خياره يبطل لأنه أتلفه وفي بطلان خيار البائع روايتان كما لو تلف المبيع وخيار المجلس وخيار الشرط في هذا كله سواء

تلف المبيع وانتقاله ونماؤه وضمانه والتصرف به في مدة الاختيار
فصل : ومتى تصرف المشتري في المبيع في مدة الخيار تصرفا يختص الملك بطل خياره كإعتاق العبد وكتابته وبيعه وهبته ووطء الجارية أو مباشرتها أو لمسها لشهوة ووقف المبيع وركوب الدابة لحاجته أو سفر أو حمله عليها أو سكنى الدار ورمها وحصاد الزرع وقصل منه فما وجد من هذا فهو رضاء بالمبيع ويبطل به خياره لأن الخيار يبطل بالتصريح بالرضاء وبدلالته ولذلك يبطل خيار المعتقة بتمكينها الزوج من وطئها وقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن وطئك فلا خيار لك ] وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي فأما ركوب الدابة لينظر سيرها والطحن على الرحى ليعلم قدر طحنها وحلب الشاة ليعلم قدر لبنها ونحو ذلك فليس برضا بالمبيع ولا يبطل خياره لأن ذلك هو المقصود بالخيار وهو اختيار المبيع وذكر أبو الخطاب وجها في أن تصرف المشتري لا يبطل خياره ولا يبطل إلا بالتصريح بالرضا ولا يصح لأن هذا يتضمن إجازة البيع ويدل على الرضا به فبطل به الخيار كصريح القول ولأن التصريح إنما أبطل الخيار لدلالته على الرضا به فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات الطلاق تقوم مقام صريحه وإن عرضه على البيع أو باعه بيعا فاسدا أو عرضه على الرهن أو غيره من التصرفات أو وهبة فلم يقبل الموهوب له بطل خياره لأن ذلك يدل على الرضا به قال أحمد : إذا اشترط الخيار فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه وجب عليه حين عرضه وإن استخدم المشتري المبيع ففيه روايتان إحداهما : لا يبطل خياره وقال أبو الصقر : قلت لأحمد : رجل اشترى جارية وله الخيار فيها يومين فانطلق بها فغسلت رأسه أو غمزت رجله أو طحنت له أو خبزت هل يستوجبها بذلك ؟ قال : لا حتى يبلغ منها مالا يحل لغيره قلت : فإن مشطها أو خضبها أو حفها هل يستوجبها بذلك ؟ قال : قد بطل خياره لأنه وضع يده عليها وذلك لان الاستخدام لا يختص الملك ويراد لتجربة المبيع فأشبه ركوب الدابة ليعلم سيرها ونقل حرب عن أحمد أنه يبطل خياره لأنه انتفاع بالمبيع أشبه لمسها لشهوة ويمكن أن يقال ما قصد به من الاستخدام تجربة المبيع لا يبطل الخيار كركوب الدابة ليعلم سيرها وما لا يقصد به ذلك يبطل الخيار كركوب الدابة لحاجته وإن قبلت الجارية المشتري لم يبطل خياره وهذا مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب : يحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها لأن إقراره لها على ذلك يجري مجرى استمتاعه بها وقال أبو حنيفة : إن قبلته لشهوة بطل خياره لأنه استمتاع يختص الملك فأبطل خياره كقبلته لها ولنا أنها قبلة لأحد المتعاقدين فلم يبطل خياره كما لو قبلت البائع ولأن الخيار له لا لها فلو ألزمناه بفعلها لألزمناه بغير رضاه ولا دلالة عليه وفارق ما إذا قبلها فإنه وجد منه ما يدل على الرضا بها و متى بطل خيار المشتري بتصرفه فخيار البائع باق بحاله لأن خياره لا يبطل برضا غيره إلا أن يكون تصرف المشتري بإذن البائع فإنه يبطل خيارهما معا لوجود الرضا منهما بإبطاله وإن تصرف البائع في المبيع بما يفتقر إلى الملك كان فسخا للبيع وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي لما ذكرناه في المشتري ولأنه أحد المتعاقدين فتصرفه في المبيع اختيار له كالمشتري وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينفسخ البيع بذلك لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه فيه استرجاعا له كمن وجد ماله عند مفلس فتصرف فيه
فصل : وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد في ظاهر المذهب ولا فرق بين كون الخيار لهما أو لأحدهما أيهما كان وهذا أحد أقوال الشافعي وعن أحمد أن الملك لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي وبه قال أبو حنيفة : إذا كان الخيار لهما أو للبائع وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع فلم يدخل في ملك المشتري لأن البيع الذي فيه الخيار عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض والقول الثالث : للشافعي أن الملك موقوف مراعى فإن امضينا البيع تبينا أن الملك للمشتري وإلا تبينا أنه لم ينتقل عن البائع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] رواه مسلم وقوله : [ من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] متفق عليه فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه وهو عام في كل بيع ولأنه بيع صحيح فنقل عقيبه كالذي لا خيار له ولأن البيع تمليك بدليل قوله ملكتك فيثبت به الملك كسائر البيع ويحققه أن التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري ويقتضيه لفظه والشرع قد اعتبره وقضى بصحته فيجب أن يعتبره فيما يقتضيه ويدل عليه لفظه وثبوت الخيار فيه لا ينافيه كما لو باع عرضا بعرض فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبا وقولهم : إنه قاصر غير صحيح وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك كبيع المعيب وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق الغير فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون والمبيع قبل القبض وقولهم : إنه يخرج من ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري لا يصح لأنه يفضي إلى موجود ملك لا مالك له وهو محال ويفضي أيضا إلى ثبوت الملك للبائع في الثمن من غير حصول عوضه للمشتري إلى نقل ملكه عن المبيع من غيره ثبوته في عوضه وكون العقد معاوضة يأبى ذلك وقول أصحاب الشافعي إن الملك موقوف إن أمضيا البيع تبينا أنه انتقل وإلا فلا غير صحيح أيضا فإن انتقال الملك إنما ينبني على سببه الناقل له وهو البيع وذلك لا يختلف بإمضائه وفسخه فإن إمضاءه ليس من المقتضي ولا شرطا فيه إذ لو كان كذلك لما ثبت قبله والفسخ ليس بمانع فإن المنع لا يتقدم المانع كما أن الحكم لا يسبق سببه ولا شرطه ولأن البيع مع الخيار سبب يثبت عقيبه فيما إذا لم يفسخ فوجب أن يثبته وإن فسخ كبيع المعيب وهذا ظاهر إن شاء الله
فصل : وما يحصل من غلات المبيع ونمائه المنفصل في مدة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه قال أحمد فيمن اشترى عبدا فوهب له مال قبل التفرق ثم اختار البائع العبد للمشتري وقال الشافعي : إن امضيا العقد وقلنا : الملك للمشتري أو موقوف فالنماء المنفصل له وإن قلنا : الملك للبائع فالنماء له وإن فسخا العقد وقلنا : الملك للبائع أو موقوف فالنماء له وإلا فهو للمشتري ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] قال الترمذي : هذا حديث صحيح وهذا من ضمان المشتري فيجب أن يكون خراجه له ولأن الملك ينتقل بالبيع على ما ذكرنا فيجب أن يكون نماؤه له كما بعد انقضاء الخيار ويتخرج أن يكون النماء المنفصل للبائع إذا فسخا العقد بناء على الرواية التي قلنا أن الملك لا ينتقل فأما النماء المتصل فهو تابع للمبيع امضيا العقد أو فسخاه كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة
فصل : وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه ولم يكن مكيلا ولا موزونا فإن تلف أو نقص أو حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمانه لأنه ملكه وغلته له فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار ومؤنته عليه وإن كان عبدا فهل هلال شوال ففطرته عليه لذلك فإن اشترى حاملا فولدت عنده في مدة الخيار ثم ردها على البائع لزمه رد ولدها لأنه مبيع حدثت فيه زيادة متصلة فلزمه رده بزيادته كما لو اشترى عبدين فسمن أحدهما عنده وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يرد الولد لأن الحمل لا حكم له لأنه جزء متصل بالأم فلم يأخذ قسطا من الثمن كأطرافها ولنا أن كل ما يسقط عليه الثمن كأطرافها ولنا أن كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان منفصلا يقسط عليه إذا كان متصلا كاللبن وما قالوه يبطل بالجزء المشاع كالثلث والربع والحكم في الأصل ممنوع ثم يفارق الحمل الأطراف لأنه يؤول إلى الانفصال وينتفع به منفصلا ويصح إفراده بالعتق والوصية به وله ويرث إن كان من أهل الميراث ويفرد بالدية ويرثها ورثته ولا يصح قولهم إنه لا حكم للحمل لهذه الأحكام وغيرها مما ذكرناه في غير هذا الموضع
فصل : وإن تصرف أحد المتبايعين في مدة الخيار في المبيع تصرفا ينقل المبيع كالبيع والهبة والوقف أو يشغله كالإجارة والتزوج والرهن والكتابة ونحوها لم يصح تصرفه إلا العتق سواء وجد من البائع أو المشتري لأن البائع تصرف في غير ملكه والمشتري يسقط حق البائع من الخيار واسترجاع المبيع فلم يصح تصرفه فيه كالتصرف في الرهن إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه ويبطل خياره لأنه لا حق لغيره فيه وثبوت الخيار له لا منع تصرفه فيه كالمعيب قال أحمد : إذا اشترط الخيار فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه قد وجب عليه حين عرضه يعني بطل خياره ولزمه وهذا والله أعلم فيما إذل اشترط الخيار له وحده وكذلك إذا قلنا : إن البيع لا ينقل الملك وكان الخيار لهما أو للبائع وحده فتصرف فيه البائع نفذ تصرفه وصح لأنه ملكه وله إبطال خيار غيره وقال ابن أبي موسى في تصرف المشتري في المبيع قبل التفرق ببيع أو هبة روايتان إحداهما : لا يصح لأن في صحته إسقاط حق البائع من الخيار والثانية : هو موقوف فإن تفرقا قبل الفسخ صح وإن اختار البائع الفسخ بطل بيع المشتري قال أحمد في رواية أبي طالب إذا اشترى ثوبا بشرط فباعه بربح قبل انقضاء الشرط يرده إلى صاحبه إن طلبه فإن لم يقدر على رده فللبائع قيمة الثوب لأنه استهلك ثوبه أو يصالحه فقوله يرده إن طلبه يدل على أن وجوب رده مشروط بطلبه وقد روى البخاري [ عن ابن عمر أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فكان على بكر صعب وكان يتقدم النبي صلى الله عليه و سلم فيقول له أبوه لا يتقدم النبي صلى الله عليه و سلم أحد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم بعنيه فقال عمر هو لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت ] وهذا يدل على أن التصرف قبل التفرق جائز وذكر أصحابنا في صحة تصرف المشتري بالوقف وجها آخر لأنه تصرف يبطل الشفعة فأشبه العتق والصحيح أنه لا يصح شيء من هذه التصرفات لأن المبيع يتعلق به حق البائع تعلقا يمنع جواز التصرف فمنع صحته كالرهن ويفارق الوقف العتق لأن العتق مبني على التغليب والسراية بخلاف الوقف وأما حديث ابن عمر فليس فيه تصريح بالبيع فإن قول عمر هو لك يحتمل أنه أراد هبة وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمنا والهبة لا يثبت فيها الخيار وقال الشافعي : تصرف البائع في المبيع بالبيع والهبة ونحوهما صحيح لأنه إما أن يكون على ملكه فيملك بالعقد عليه وإما أن يكون للمشتري والبائع يملك فسخه فجعل البيع والهبة فسخا وأما تصرف المشتري فلا يصح إذا قلنا الملك لغيره فإذا قلنا الملك له ففي صحة تصرفه وجهان
ولنا على إبطال تصرف البائع أنه تصرف في ملك غيره بغير ولاية شرعية ولا نيابة عرفيه فلم يصح كما بعد الخيار وقولهم يملك الفسخ قلنا إلا أن ابتداء التصرف لم يصادف ملكه فلم يصح كتصرف الأب فيما وهب لولده قبل استرجاعه وتصرف الشفيع في الشقص المشفوع قبل أخذه
فصل : وإن تصرف المشتري بإذن البائع أو البائع بوكالة المشتري صح التصرف وانقطع خيارهما لأن ذلك يدل على تراضيهما بإمضاء البيع فيقطع به خيارهما كما لو تخايرا ويصح تصرفهما لأن قطع الخيار حصل بالإذن في البيع فيقع البيع بعد انقطاع الخيار وإن تصرف البائع بإذن المشتري احتمل أن يقع صحيحا لأن ذلك دليل على فسخ البيع أو استرجاع المبيع فيقع تصرفه بعد استرجاعه ويحتمل أن لا يصح لأن البائع لا يحتاج إلى إذن المشتري في استرجاع المبيع فيصير كتصرفه بغير إذن المشتري وقد ذكرنا أنه لا يصح كذا ههنا وكل موضع قلنا إن تصرف البائع لا ينفذ ولكن ينفسخ به البيع فإنه متى أعاد ذلك التصرف أو تصرف تصرفا سواه صح لأنه بفسخ البيع عاد إليه الملك فصح تصرفه فيه كما لو فسخ البيع بصريح قوله ثم تصرف فيه وكذلك إن تقدم تصرفه ما ينفسخ به البيع صح تصرفه لما ذكرنا
فصل : وإن تصرف أحدهما بالعتق نفذ عتق من حكمنا بالملك له وظاهر المذهب أن الملك للمشتري فينفذ عتقه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لأنه عتق من مالك جائز التصرف فنفذ كما بعد المدة وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا عتق فيما لا يملك ابن آدم ] يدل بمفهومة على أنه ينفذ في الملك وملك البائع للفسخ لا يمنع نفوذ العتق كما لو باع عبدا بجارية معينه فإن مشتري العبد ينفذ عتقه مع أن للبائع الفسخ ولو وهب رجل ابنه عبدا فأعقته نفذ عتقه مع ملك الأب لاسترجاعه ولا ينفذ عتق البائع في ظاهر المذهب وقال أبو حنيفة و الشافعي و مالك : ينفذ عتقه لأنه ملكه وإن كان الملك انتقل فإنه يسترجعه بالعتق ولنا أنه اعتاق من غير مالك فلم ينفذ كعتق الأب عبد ابنه الذي وهبه إياه وقد دللنا على أن الملك انتقل إلى المشتري وإن قلنا بالرواية الأخرى وإن الملك لم ينتقل إلى المشتري نفذ عتق البائع دون المشتري وإن أعتق البائع جميعا فإن تقدم عتق المشتري فالحكم على ما ذكرنا وإن تقدم عتق البائع فينبغي أن لا ينفذ عتق واحد منهما لأن البائع لم ينفذ عتقه لكونه أعتق غير مملوكه ولكن حصل بإعتاقه فسخ البيع واسترجاع العبد فلم ينفذ عتق المشتري ومتى أعاد البائع الإعتاق مرة ثانية نفذ إعتاقه لأنه عاد العبد إليه فأشبه ما لو استرجعه بصريح قوله ولو اشترى من يعتق عليه جرى مجرى إعتاقه بصريح قوله وقد ذكرنا حكمه وإن باع عبدا بجارية بشرط الخيار فأعتقهما نفذ عتق الأمة دون العبد وإن أعتق أحدهما ثم أعتق الآخر نظرت فإن أعتق الأمة أولا نفذ عتقها وبطل خياره ولم ينفذ عتق العبد وإن أعتق العبد أولا انفسخ البيع ورجع إليه العبد ولم ينفذ إعتاقه ولا ينفذ عتق الأمة لأنها خرجت بالفسخ عن ملكه وعادت إلى سيدها البائع لها

الخيار في البيع وخيار الشرط
فصل : إذا قال لعبده إذا بعتك فأنت حر ثم باعه صار حرا نص عليه أحمد وبه قال الحسن و ابن أبي ليلى و مالك و الشافعي وسواء شرطا الخيار أو لم يشرطاه وقال أبو حنيفة و الثوري : لا يعتق لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه فلم ينفذ إعتاقه له
ولنا أن زمن انتقال الملك زمن الحرية لأن البيع سبب لنقل الملك وشرط للحرية فيجب تغليب الحرية كما لو قال لعبده إذا مت فأنت حر ولأنه علق حريته على فعله للبيع والصادر منه في البيع إنما هو الإيجاب فمتى قال للمشتري بعتك فقد وجد شرط الحرية فيعتق قبل قبول المشتري وعلله القاضي بأن الخيار ثابت في كل بيع فلا ينقطع تصرفه فيه فعلى هذا لو تخايرا ثم باعه لم يعتق ولا يصح هذا التعليل على مذهبنا فإننا ذكرنا أن البائع لو أعتق في مدة الخيار لم ينفذ إعتاقه
فصل : ولا يجوز للمشتري وطء الجارية في مدة الخيار إذا كان الخيار لهما أو للبائع وحده لأنه يتعلق بها حق البائع فلم يبح له وطؤها كالمرهونة ولا نعلم في هذا اختلافا فإن وطئها فلا حد عليه لأن الحد يدرأ بشبهة الملك فبحقيقته أولى ولا مهر لها لأنها مملوكته وإن علقت منه فالولد حر يلحقه نسبه لأنه من أمته ولا يلزمه قيمته أم ولد له وإن فسخ البائع البيع رجع بقيمتها لأنه تعذر الفسخ فيها ولا يرجع بقيمة ولدها لأنه حدث في ملك المشتري وإن قلنا إن الملك لا ينتقل إلى المشتري فلا حد عليه أيضا لأن له فيها شبهة لوجود سبب نقل الملك إليه واختلاف أهل العلم في ثبوت الملك له والحد يدرأ بالشبهات وعليه المهر وقيمة الولد يكون حكمها حكم نمائها وإن علم التحريم وأن ملكه غير ثابت فولده رقيق وأما البائع فلا يحل له الوطء قبل فسخ البيع وقال بعض أصحاب الشافعي له وطؤها لأن البيع يفسخ بوطئه فإن كان الملك انتقل رجعت إليه وإن لم يكن انتقل انقطع حق المشتري منها فيكون واطئا لمملوكته التي لا حق لغيره فيها
ولنا أن الملك انتقل عنه فلم يحل له وطؤها لقول الله تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } ولأن ابتداء الوطء يقع في غير ملكه فيكون حراما ولو انفسخ البيع قبل وطئه لم تحل له حتى يستبرئها ولا يلزمه حد وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال بعض أصحابنا : إن علم التحريم وإن ملكه قد زال ولا ينفسخ بالوطء فعليه الحد وذكر أن أحمد نص عليه لأن وطأه لم يصادف ملكا ولا شبهة ملك
ولنا أن ملكه يحصل بابتداء وطئه فيحصل تمام الوطء في ملكه مع اختلاف العلماء في كون الملك له وحل الوطء له ولا يجب الحد مع واحدة من هذه الشبهات فيكف إذا اجتمعت ؟ مع أنه يحتمل أن يحصل الفسخ بالملامسة قبل الوطء فيكون الملك قد رجع إليه قبل وطئه ولهذا قال أحمد في المشتري إنها قد وجبت عليه حين وضع يده عليها فيما إذا مشطها أو خضبها أو حفها فبوضع يده عليها للجماع ولمس فرجها بفرجه أولى فعلى هذا يكون ولده منها حرا ونسبه لاحق به ولا يلزمه قيمته ولا مهر عليه وتصير الأمة أم ولده وقال أصحابنا : إن علم التحريم فولده رقيق ولا يلحقه نسبه فإن لم يعلم لحقه النسب وولده حر وعليه قيمته يوم الولادة وعليه المهر ولا تصير الأمة أم ولده لأنه وطئها في غير ملكه

قبض الثمن في مدة خيار الشرط
فصل : ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وكرهه مالك قال لأنه في معنى بيع وسلف إذا أقبضه الثمن ثم تفاسخا البيع صار كأنه أقرضه إياه ولنا أن هذا حكم من أحكام البيع فجاز في مدة الخيار كالإجارة وما ذكره لا يصح لأننا لم نجز له التصرف فيه

بطلان خيار الشرط بالموت
فصل : قول الخرقي أو مات الظاهر أنه أراد العبد ورد الضمير إليه وهو في معنى قوله أو تلفت السلعة ويحتمل أنه رد الضمير إلى المشتري وأراد إذا مات المشتري بطل الخيار لأن موت العبد قد تناوله بقوله أو تلفت السلعة والحكم في موت البائع والمشتري واحد والمذهب أن خيار الميت منهما يبطل بموته ويبقى خيار الآخر بحاله إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته فيه فيكون لورثته وهو قول الثوري و أبي حنيفة ويتخرج أن الخيار لا يبطل وينتقل إلى ورثته لأنه حق مالي فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب ولأنه حق فسخ للبيع فينتقل إلى الوارث كالرد بالعيب والفسخ بالتحالف وهذا قول مالك و الشافعي ولنا أنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة

خيار المجلس وشرط الخيار بالعقد
مسألة : قال : وإذا تفرقا من غير فسخ لم يكن لأحدهما رده إلا بعيب أو خيار
لا خلاف في أن البيع يلزم بعد التفرق ما لم يكن سبب يقتضي جوازه وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ] وقوله : [ البيعان بالخيار حتى يتفرقا ] جعل التفرق غاية للخيار وما بعد الغاية يجب أن يكون مخالفا لما قبلها إلا أن يجد بالسلعة عيبا فيردها به أو يكون قد شرط الخيار لنفسه مدة معلومة فيملك الرد أيضا ولا خلاف بين أهل العلم في ثبوت الرد بهذين الأمرين وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : المؤمنون على شروطهم ] استشهد به البخاري وفي معنى العيب أن يدلس المبيع بما يختلف به الثمن أو يشترط في المبيع صفة يختلف بها الثمن فيتبين بخلافه فيثبت له الخيار أيضا ويقرب منه ما لم أخبره في المرابحة في الثمن أنه حال فبان مؤجلا ونحو هذا ونذكر هذا في مواضعه
فصل : ولو ألحقا في العقد خيارا بعد لزومه لم يلحقه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه : يلحقه لأن لهما فسخ العقد فكان لها إلحاق الخيار به كحالة المجلس ولنا أنه عقد لازم فلم يصر جائزا بقولهما كالنكاح وفارق حال المجلس لأنه جائز

بيع السلعة الغائبة والبيعة بالصفة وخيار الرؤية
فصل : وكلام الخرقي يحتمل أن يريد به بيوع الأعيان المرئية فلا يكون فيه تعرض لبيع الغائب ويحتمل أنه أراد كل ما يسمى خيارا فيدخل فيه خيار الرؤية وغيره وفي بيع الغائب روايتان أظهرهما أن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه وبهذا قال الشعبي و النخعي و الحسن و الأوزاعي و مالك و إسحاق وهو أحد قولي الشافعي وفي رواية أخرى أنه يصح وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي وهل يثبت للمشتري خيار الرؤية ؟ على روايتين أشهرهما ثبوته وهو قول أبي حنيفة واحتج من أجازه بعموم قول الله تعالى : { أحل الله البيع } وروي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا داريهما بالكوفة والأخرى بالمدينة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال : ما أبالي لأني بعت ما لم أره وقيل لطلحة فقال : لي الخيار لأنني اشتريت ما لم أره فتحاكما إلى جبير فجعل الخيار وهذا اتفاق منهم على صحة البيع ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح ولنا ما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الغرر ] رواه مسلم ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى في التمر ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآية مخصوصة بالأصل الذي ذكرناه وأما حديث عثمان وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة على أنه قول صحابي وفي كونه حجة خلاف ولا يعارض به حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم والنكاح لا يقصد منه المعارضة ولا يفسد العوض ولا بترك ذكره ولا يدخله شيء من الخيارات وفي اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات واضرار بهن على أن الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع فإن قيل فقد روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه ] والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح قلنا : هذا يرويه عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه
إذا ثبت هذا فإنه يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب وشعر الجارية ونحوهما فلو باع ثوبا مطويا أو عينا حاضرة لا يشاهد منها ما يختلف الثمن لأجله كان كبيع الغائب وإن حكمنا بالصحة فللمشتري الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ والإمضاء ويكون على الفور فإن اختار الفسخ فله ذلك وإن لم يفسخ لزم العقد لأن الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها وقيل يتقيد بالمجلس الذي وجدت الرؤية فيه لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد من غير شرط فتقيد بالمجلس كخيار المجلس وإن اختار الفسخ قبل الرؤية انفسخ لأن العقد غير لازم في حقه فملك الفسخ كحالة الرؤية وإن اختار إمضاء العقد لم يلزم لأن الخيار يتعلق بالرؤية ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد على المجهول فيفضي إلى الضرر وكذلك لو تبايعا بشرط أن لا يثبت الخيار للمشتري لم يصح الشرط لذلك وهل يفسد البيع بهذا الشرط ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع
فصل : ويعتبر لصحة العقد الرؤية من البائع والمشتري جميعا وإن قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية وإن لم يره المشتري فلكل واحد منهما الخيار وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ليس له الخيار لحديث عثمان وطلحة ولأننا لو جعلنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار وكذلك لو باع شيئا على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت له الخيار ولنا أنه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري فأما الخبر فإنه قول جبير وطلحة وقد خالفهما عثمان وقوله أولى لأن البيع يعتبر فيه الرضا منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضا منهما
فصل : وإذا وصف المبيع المشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم صح بيعه في ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم وعن أحمد لا يصح حتى يراه لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم ولا نسلم أنه لا تحصل به معرفة المبيع فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي تختلف بها الثمن ظاهرا وهذا يكفي بدليل أنه يكفي في السلم وأنه لا يعتبر في الرؤية الإطلاع على الصفات الخفية وأما ما لا يصح السلم فيه فلا يصح بيعه بالصفة لأنه لا يمكن ضبطه بها إذا ثبت هذا فإنه متى وجده على الصفة لم يكن له الفسخ وبهذا قال محمد بن سيرين و أيوب و مالك و العنبري و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال الثوري و أبو حنيفة وأصحابه : له الخيار بكل حال لأنه يسمى بيع خيار الرؤية ولأن الرؤية من تمام العقد فأشبه غير الموصوف ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولنا أنه سلم له المعقود عليه بصفاته فلم يكن له الخيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم وقولهم إنه يسمى بيع خيار الرؤية لا نعرف صحته فإن ثبت فيحتمل أن يسميه من يرى ثبوت الخيار ولا يحتج به على غيره فأما إن وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالسلم وإن اختلفا فقال البائع لم تختلف الصفة وقال المشتري قد اختلفت فالقول قول المشتري لأن الأصل براءة ذمته من الثمن فلا يلزمه ما لم يقر به أو يثبت ببينة أو ما يقوم مقامها
فصل : والبيع بالصفة نوعان أحدهما : بيع عين معينة مثل أن يقول بعتك عبدي التركي ويذكر سائر صفاته فهذا ينفسخ العقد عليه برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكون المعقود عليه معينا فيزول العقد بزوال محله ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر
الثاني : بيع موصوف غير معين مثل أن يقول بعتك عبدا تركيا ثم يستقصي صفات السلم فهذا في معنى السلم فمتى السلم إليه عبدا على غير ما وصف فرده أو على ما وصف فأبدله لم يفسد العقد لأن العقد لم يقع على غير هذا فلم ينفسخ العقد برده كما لو سلم إليه في السلم غير ما وصف له فرده ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبض المبيع أو قبض ثمنه وهذا قول الشافعي لأنه بيع في الذمة فلم يجز التفرق فيه قبل قبض أحد العوضين كالسلم وقال القاضي : يجوز التفرق فبه قبل القبض لأنه بيع حال فجاز التفرق فيه قبل القبض كبيع العين
فصل : إذا رأيا المبيع ثم عقدا البيع بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه جاز في قول أكثر أهل العلم وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يجوز حتى يرياها حاله العقد وحكي ذلك عن الحكم و حماد لأن ما كان شرطا في صحة العقد يجب أن يكون موجودا حال العقد كالشهادة في النكاح ولنا أنه معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حالة العقد والشرط إنما هو العلم وإنما الرؤية طريق للعلم ولهذا اكتفى بالصفة المحصلة للعلم والشهادة في النكاح تراد لحل العقد والاستيثاق عليه فلهذا اشترطت حال العقد ويقرر ما ذكرناه ما لو رأيا دارا ووقفا في بيت منها أو أرضا ووقفا في طريقها وتبايعاها صح بلا خلاف مع عدم المشاهدة للكل في الحال ولو كانت الرؤية المشروطة للبيع مشروطة حال العقد لاشترط رؤية جميعه ومتى وجد المبيع بحاله لم يتغير لزم البيع وإن كان ناقصا ثبت له الخيار لأن ذلك كحدوث العيب وإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه يلزمه الثمن فلا يلزمه ما لم يعترف به فأما إن عقد البيع بعد رؤية المبيع بمدة يتحقق فيها فساد المبيع لم يصح البيع لأنه مما لا يصح بيعه وإن لم يتغير فيها لم يصح بيعه لأنه مجهول وكذلك إن كان الظاهر تغيره فأما إن كان يحتمل التغير وعدمه وليس الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلامة ولم يعارضه ظاهر فصح بيعه كما لو كانت الغيبة يسيرة وهذا ظاهر مذهب الشافعي

الخيار للغبن يثبت الخيار في البيع في مواضع
فصل : ويثبت الخيار في البيع في مواضع أحدها : تلقي الركبان إذا تلقاهم فاشترى منهم وباعهم وغبنهم الثاني : بيع النجش ويذكران في مواضعهما الثالث : المسترسل إذا غبن غبنا يخرج عن العادة فله الخيار بين الفسخ والإمضاء وبهذا قال مالك وقال ابن أبي موسى : وقد قيل قد لزمه البيع وليس له فسخه وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد كبيع غير المسترسل وكالغبن اليسير
ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان فأما غير المسترسل فإنه دخل على بصيرة الغبن فهو كالعالم بالعيب وكذا لو استعجل فجهل ما لو ثبت لعلمه لم يكن له خيار لأنه انبنى على تقصيره وتفريطه والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة قال أحمد : المسترسل الذي لا يحسن أن يماكس وفي لفظ : لا يماكس فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما أعطاه من غير مماكسه ولا معرفة بغبنه فأما العالم بذلك والذي لو توقف لعرف إذا استعجل في الحال فغبن فلا خيار لهما ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد وحده أبو بكر في التنبيه و ابن أبي موسى في الإرشاد بالثلث وهو مالك لأن الثلث كثير بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم والثلث كثير ] وقيل بالسدس وقبل ما لا يتغابن الناس به في العادة لأن ما لا يرد الشرع بتحديد يرجع فيه إلى العرف

بيع غير المعين
فصل : وإذا وقع البيع على غير معين كقفيز من صبرة ورطل زيت من دن فمقتضى قول الخرقي إذا تفرقا م نغير فسخ لم يكن لأحدهما رده إلا بعيب أو خيار لأن البيع ههنا يلزم بالتفرق سواء تقابضا أو لم يتقابضا وقال القاضي : البيع لا يلزم إلا بالقبض كالمكيل والموزون وهذا تصريح بأنه لا يلزم قبل قبضه وذكر في موضع آخر : من اشترى قفيزين فتلفت إحداهما قبل القبض بطل العقد في التالف دون الباقي رواية واحدة ولا خيار للبائع وهذا يدل على اللزوم في حق البائع قبل القبض فإنه لو كان جائزا كان له الخيار سواء تلفت إحداهما أو لم تتلف ووجه الجواز أنه مبيع لا يملك بيعه ولا التصرف فيه فكان البيع فيه جائزا كما قبل التفرق ولأنه لو تلف لكان من ضمان البائع ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم [ وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ] وما ذكرناه للقول الآخر ينتقض ببيع ما تقدمت رؤيته وبيع الموصوف والسلم فإن ذلك لازم مع ما ذكرناه وكذلك سائر المبيع على إحدى الروايتين

مدة خيار الشرط
مسألة : قال : والخيار يجوز أكثر من ثلاث
يعني ثلاث ليلا بأيامها وإنما ذكر الليالي لأن التاريخ يغلب فيه التأنيث قال الله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة } وقال تعالى : { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وفي حديث حبان [ ولك الخيار ثلاثا ] ويجوز اشتراط ما يتفقان عليه من المدة المعلومة قلت مدته أو كثرت وبذلك قال أبو يوسف ومحمد وابن المنذر وحكي ذلك عن الحسن بن صالح و العنبري و ابن أبي ليلى و إسحاق و أبي ثور وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة مثل قرية لا يصل إليها في أقل من أربعة أيام لأن الخيار لحاجته فيقدر بها وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا يجوز أكثر من ثلاث لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم لحبان جعل له الخيار ثلاثة أيام إن رضي أخذ وإن سخط ترك ولأن الخيار ينافي مقتضى البيع لأنه يمنع الملك واللزوم وإطلاق التصرف وإنما جاز لموضع الحجة فجاز القليل منه وآخر القلة ثلاث قال الله تعالى : { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } - بعد قوله - { فيأخذكم عذاب قريب }
ولنا أنه حق يعتمد الشرط فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل أو نقول مدة ملحقه بالعقد فكانت إلى تقدير المتعاقدين كالأجل ولا يثبت عندنا ما روي عن عمر رضي الله عنه وقد روي عن أنس خلافه وتقدير مالك بالحاجة لا يصح فإن الحاجة لا يمكن ربط الحكم بها لخفائها واختلافها وإنما يربط بمظنتها وهو الأقدم فإنه يصلح أن يكون ضابطا وربط الحكم به فيما دون الثلاث وفي السلم والأجل وقول الآخرين إنه ينافي مقتضى البيع لا يصح فإن مقتضى البيع نقل الملك والخيار لا ينافيه وإن سلمنا ذلك لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل وجب تعديه الحكم لتعدي ذلك المعنى

من يصح اشتراط الخيار له
فصل : ويجوز شرط الخيار لكل واحد من المتعاقدين ويجوز لأحدهما دون الآخر ويجوز أن يشترطا لأحدهما مدة وللآخر دونها لأن ذلك حقهما وإنما جوز رفقا بهما فكيفما تراضيا به جاز ولو اشترى شيئين وشرط الخيار في أحدهما بعينه دون الآخر صح لأن أكثر ما فيه أنه جمع بين مبيع فيه الخيار ومبيع لا خيار فيه وذلك جائز بالقياس على شراء ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه فإنه يصح ويحصل كل واحد منهما مبيعا بقسطه من الثمن فإن فسخ البيع مما فيه الخيار رجع بقسطه من الثمن كما لو وجد أحدهما معيبا فرده وإن شرط الخيار في أحدهما لا بعينه أو شرط الخيار لأحد من المتعاقدين لا بعينه لم يصح لأنه مجهول فأشبه ما لو اشترى واحدا من عبدين لا بعينه ولأنه يفضي إلى التنازع وربما طلب كل واحد من المتعاقدين ضد ما يطلبه الآخر ويدعي أنني المستحق للخيار أو يطلب من له الخيار رد أحد المبيعين ويقول الآخر ليس هذا الذي شرطت لك الخيار فيه ويحتمل أن لا يصح شرط الخيار في أحد المبيعين بعينه كما لا يصح بيعه بقسطه من الثمن كله مذهب الشافعي
فصل : وإن شرط الخيار لأجنبي صح وكان اشترطا لنفسه وتوكيلا لغيره وهذا قول أبي حنيفة و مالك و للشافعي فيه قولان أحدهما : لا يصح وكذلك قال القاضي : إذا أطلق الخيار لفان أو قال لفلان دوبي لم يصح لأن الخيار شرط لتحصيل الحظ لكل واحد من المتعاقدين وبنظره فلا يكون لمن لاحظ له فيه وإن جعل الأجنبي وكيلا صح
ولنا أن الخيار يعتمد شرطهما ويفوض إليهما وقد أمكن تصحيح شرطهما وتنفيذ تصرفهما على الوجه الذي ذكرناه فلا يجوز إلغاؤه مع إمكان تصحيحه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ المسلمون على شروطهم ] فعلى هذا يكون لكل واحد من المشترط ووكيله الذي شرط الخيار له الفسخ ولو كان المبيع عبدا فشرط الخيار له صح سواء شرطه له البائع أو المشتري لأنه بمنزلة الأجنبي وإن كان العاقد وكيلا فشرط الخيار لنفسه صح فإن النظر في تحصيل الحظ مفوض إليه وإن شرطه للمالك صح لأنه هو المالك والحظ له وإن شرطه لأجنبي لم يصح لأنه ليس له أن يوكل غيره ويحتمل الجواز بناء على الرواية التي تقول : للوكيل التوكيل

فإن شرط الخيار
فصل : ولو قال بعتك على أن استأمر فلانا وحدد ذلك بوقت معلوم فهو خيار صحيح وله الفسخ قبل أن يستأمره لأنا جعلنا ذلك كناية عن الخيار وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وإن لم يضبطه بمدة معلومة فهو خيار مجهول حكمه حكمه
فصل : وإن شرط الخيار يوما أو ساعات معلومة اعتبر ابتداء مدة الخيار من حين العقد في أحد الوجهين والآخر من حين التفرق لأن الخيار ثابت في المجلس حكما فلا حاجة إلى إثباته بالشرط ولأن حالة المجلس كحاله العقد لأن لهما فيه الزيادة والنقصان فكان كحالة العقد في ابتداء مدة الخيار بعد انقضائه والأول أصح لأنها مدة ملحقة بالعقد فكان ابتداؤها منه كالأجل ولأن الاشتراط سبب ثبوت الخيار فيجب أن يتعقبه حكمه كالملك في البيع ولأنا لو جعلنا ابتداءه من حين التفرق أدى إلى جهالته لأننا لا نعلم متى يتفرقا فلا نعلم متى ابتداؤه ولا متى انتهاؤه ولا يمنع ثبوت الحكم بسببين كتحريم الوطء بالصيام والإحرام والظهار وعلى هذا لو شرطا ابتداءه من حين التفرق لم يصح لذلك إلا على الرواية التي تقول بصحة الخيار المجهول وإن قلنا ابتداؤه من حين التفرق فشرطا ثبوته من حين العقد صح لأنه معلوم الابتداء والانتهاء ويحتمل أن لا يصح لأن الخيار في المجلس يغني عن خيار آخر فيمنع ثبوته والأول أولى ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كما ذكرنا

وإن شرط الخيار إلى الليل أو الغد
فصل : وإن شرطا الخيار إلى الليل أو الغد لم يدخل الليل والغد في مدة الخيار وهذا مذهب الشافعي ويتخرج أن يدخل وهو مذهب أبي حنيفة لأن إلى تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } والخيار ثابت بيقين فلا نزيله بالشك ولنا أن موضوع إلى لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها كقوله سبحانه { ثم أتموا الصيام إلى الليل } وكالأجل ولو قال أنت طالق من واحدة إلى ثلاث أو له علي من درهم إلى عشرة لم يدخل الدرهم العاشر والطلقة الثالثة وليس ههنا شك فإن الأصل حمل اللفظ على موضوعه فكأن الواضع قال متى سمعتهم هذه اللفظة فافهموا منها انتهاء الغاية وفي المواضع التي استشهدوا بها حملت على معنى مع بدليل أو لتعذر حملها على موضوعها كما تصرف سائر حروف الصلاة عن موضوعها لدليل والأصل حملها على موضوعها ولأن الأصل لزوم العقد وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط فيثبت ما يتيقن منه وما شككنا فيه رددناه إلى الأصل

وإن شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو غروبها
فصل : وإن شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو إلى غروبها صح وقال بعض أهل العلم لا يصح توقيته بطلوعها لأنها قد تتغيم فلا يعلم وقت طلوعها ولنا أنه تعليق للخيار بأمر ظاهر معلوم فصح كتعليقه بغروبها وطلوع الشمس بروزها من الأفق كما أن غروبها سقوط القرص ولذلك لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بطلوع الشمس وقع ببروزها من الأفق وإن عرض غيم يمنع المعرفة بطلوعها فالخيار ثابت حتى يتقين طلوعها كما لو علقه بغروبها فمنع الغيم المعرفة بوقته ولو جعل الخيار إلى طلوع الشمس من تحت السحاب أو إلى غيبتها تحته كان خيارا مجهولا لا يصح في الصحيح من المذهب

وإن شرط الخيار أبدا أو لمدة مجهولة
فصل : وإذا شرطا الخيار أبدا أو متى شئنا أو قال أحدهما ولي الخيار ولم يذكر مدته أو شرطاه إلى مدة مجهولة كقدوم زيد أو هبوب ريح أو نزول مطر أو مشاورة إنسان ونحو ذلك لم يصح في الصحيح من المذهب وهذا اختيار القاضي و ابن عقيل ومذهب الشافعي وعن أحمد أنه يصح وهما على خيارهما أبدا أو يقطعان أو تنتهي مدته إن كان مشروطا إلى مدة وهو قول ابن شبرمة لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ المسلمون على شروطهم ] وقال مالك : يصح وتضرب لهما مدة يختبر المبيع في مثلها في العادة لأن ذلك مقدر في العادة فإذا أطلقا حمل عليه وقال أبو حنيفة إن أسقطا الشرط قبل مضي الثلاث أ حذفا الزائد عليها وبينا مدته صح لأنهما حذفا المفسد قبل اتصاله بالعقد فوجب أن يصح كما لو لم يشرطاه
ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة كالأجل ولأن اشتراط الخيار أبدا يقتضي المنع من التصرف على الأبد وذلك ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو قال بعتك بشرط أن لا تتصرف وقول مالك إنه يرد إلى العادة لا يصح فإنه لا عادة في الخيار يرجع إليها واشتراطه مع الجهالة نادر وقول أبي حنيفة لا يصح فإن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد ولأن العقد لا يخلو من أن يكون صحيحا أو فاسدا فإن كان صحيحا مع الشرط لم يفسد بوجود ما شرطاه فيه وإن كان فاسدا لم ينقلب صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم حذف أحدهما وعلى قولنا الشرط فاسد هل يفسد به البيع على روايتين
إحداهما : وهو مذهب الشافعي لأنه عقد قارنه شرط فاسد فأفسده كنكاح الشغار والمحلل ولأن البائع إنما رضي ببذله بهذا الثمن مع الخيار في استرجاعه والمشتري إنما رضي ببذل هذا الثمن فيه مع الخيار في فسخه فلو صححناه لازلنا ملك كل واحد منهما عنه بغير رضاه وألزمناه ما لم يرض به ولأن الشرط يأخذ قسطا من الثمن فإذا حذفناه وجب رد ما سقط من الثمن من أجله وذلك مجهول فيكون الثمن مجهولا فيفسد العقد
والثانية : لا يفسد العقد به وهو قول ابن أبي ليلى لحديث بريرة ولأن العقد قد تم بأركانه والشرط زائد فإذا فسد وزال سقط الفاسد وبقي العقد بركنيه كما لو لم يشترط

وإن شرط الخيار إلى الحصاد أو الجذاذ
فصل : وإن شرطه إلى الحصاد أو الجذاذ احتمل أن يكون كتعليقه على قدوم زيد لأن ذلك يختلف ويتقدم ويتأخر فكان مجهولا واحتمل أن يصح لأن ذلك يتقارب في العادة ولا يكثر تفاوته وإن شرطه إلى العطاء وأراد وقت العطاء وكان معلوما صح كما لو شرطه إلى يوم معلوم وإن أراد نفس العطاء فهو مجهول لأنه يختلف

إن شرط الخيار لمدة شهر
فصل : وإن شرط الخيار شهرا يوما يثبت ويوما لا يثبت فقال ابن عقيل يصح في اليوم الأول لإمكانه ويبطل فيما بعده لأنه إذا لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز ويحتمل بطلان الشرط كله لأنه شرط واحد تناول الخيار في أيام فإذا فسد في بعضه فسد جميعه كما لو شرط إلى الحصاد

جواز الفسخ لمن له الخيار
ويجوز لمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و زفر وقال أبو حنيفة : ليس له الفسخ إلا بحضرة صاحبه لأن العقد تعلق به حق كل واحد من المتعاقدين فلم يملك أحدهما فسخه بغير حضور صاحبه كالوديعة ولنا أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق وما قالوه ينقض بالطلاق والوديعة لا حق للمودع فيها ويصح فسخها مع غيبته

بطلان الخيار بانقضاء المدة
وإذا انقضت مدة الخيار ولم يفسخ أحدهما بطل الخيار ولزم العقد وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وقال القاضي : لا يلزم بمضي المدة وهو قول مالك لأن مدة الخيار ضربت لحق له لا لحق عليه فلم يلزم الحكم بنفس مرور الزمان كمضي الأجل في حق المولي ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل ولأن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة التي شرطاه فيها والشرط سبب الخيار فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله ولأنه حكم مؤقت ففات بفوات وقته كسائر المؤقتات ولأن البيع يقتضي اللزوم وإنما تخلف موجبه بالشرط ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت موجبه لزوال المعارض كما لو أمضوه وأما المولي فإن المدة إنما ضربت لاستحقاق المطالبة وهي تستحق بمضي المدة والحكم في هذه المسألة ظاهر

اشتراط أن لا خدعة في البيع لا خلابة
فصل : فإن قال أحد المتعاقدين عند العقد لا خلابة فقال أحمد : أرى ذلك جائزا وله الخيار إن كان خلبه وإن لم يكن خلبه فليس له خيار وذلك ل [ أن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه و سلم أنه يخدع في البيوع فقال : إذا بايعت فقل لا خلابة ] متفق عليه و لمسلم [ من بايعت فقل لا خلابة ] فكان إذا بايع يقول لا خلابة ويحتمل أن لا يكون له الخيار ويكون هذا الخبر خاصا لحبان لأنه روي أنه عاش إلى زمن عثمان رضي الله عنه فكان يبايع الناس ثم يخاصمهم فيمر بهم بعض الصحابة فيقول لمن يخاصمه ويحك إن النبي صلى الله عليه و سلم جعل له الخيار ثلاثا وهذا يدل على اختصاصه بهذا لأنه لو كان للناس عامة لقال لمن يخاصمه إن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الخيار لمن قال لا خلابة وقال بعض أصحاب الشافعي : إن كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار الثلاث ثبت وإن علم أحدهما دون الآخر فعلى وجهين لأنه [ روي أن حبان بن منقذ بن عمرو كان لا يزال يغبن فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال له : إذا أنت بايعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت أمسكت وإن سخطت فارددها على صاحبها ] وما ثبت في حق واحد من الصحابة يثبت في حق سائر الناس ما لم يقم على تخصيصه دليل
ولنا أن هذا اللفظ لا يقتضي الخيار مطلقا ولا يقتضي تقييده بثلاث والأصل اعتبار اللفظ فيما يقتضيه والخبر على الوجه الذي احتجوا به إنما رواه ابن ماجة مرسلا وهم لا يرون المرسل حجة ثم لم يقولوا بالحديث على وجه إنما قالوا به حق من يعلم أن مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثا ولا يعلم ذلك أحد لأن اللفظ لا يقتضيه فكيف يعلم أن مقتضاه ما ليس بمقتضاه وعلى أنه إنما كان خاصا لحبان بدليل ما رويناه ولأنه كان يثبت له الرد على من لم يعلم مقتضاه

اتخاذ خيار الشرط حيله للاقتراض بفائدة
فصل : إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار فيه لأنه من الحيل ولا يحل الآخذ الثمن الانتفاع به في مدة الخيار ولا التصرف فيه قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يشتري من الرجل الشيء ويقول لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار قال : هو جائز إذا لم يكن حيلة أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار فيستغله ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرضه بهذه الحلية فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس قيل لأبي عبد الله فإن أراد ارفاقه أراد أن يقرضه مالا يخاف أن يذهب فاشترى منه شيئا وجعل له الخيار ولم يرد الحيلة فقال أبو عبدالله : هذا جائز إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع لا ينتفع به إلا بإتلافه أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة

اشتراط البائع الخيار إن لم يقبض الثمن
فصل : فإن قال بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث أو مدة معلومة وإلا فلا بيع بيننا فالبيع الصحيح نص عليه وبه قال أبو حنيفة و الثوري و إسحاق و محمد بن الحسن وبه قال أبو ثور إذا كان الشرط إلى ثلاث وحكي مثل قوله عن ابن عمر وقال مالك يجوز في اليومين والثلاثة ونحوها وإن كان عشرين ليلة فسخ البيع وقال الشافعي و زفر : البيع فاسد لأنه علق فسخ البيع على غرر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد
ولنا أن هذا يروى عن عمر رضي الله عنه ولأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة الخيار فجاز كما لو شرط الخيار ولأنه نوع بيع فجاز أن يفسخ بتأخير القبض كالصرف ولأن هذا بمعنى شرط الخيار لأنه كما يحتاج إلى التروي في البيع - هل يوافقه أو لا - يحتاج إلى التروي في الثمن هل يصير منقودا أو لا فهما سيان في المعنى متغايران في الصورة إلا أنه في الخيار يحتاج إلى الفسخ وههنا ينفسخ إذا لم ينقذ لأنه جعله كذلك

العقود التي يثبت الخيار فيها
فصل : والعقود على أربعة أضرب أحدها : عقد لازم يقصد منه العوض وهو البيع وما في معناه هو نوعان أحدهما : يثبت فيه الخياران خيار المجلس وخيار الشرط وهو البيع فيما لا يشترط فيه القبض في المجلس والصلح بمعنى البيع والهبة بعوض على إحدى الروايتين والإجازة في الذمة نحو أن يقول أستأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه فهذا يثبت فيه الخيار لأن الخيار ورد في البيع وهذا في معناه فأما الإجارة المعينة فإن كانت مدتها من حين العقد دخلها المجلس دون خيار الشرط لأن دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها أو إلى استيفائها في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز وهذا مذهب الشافعي وذكر القاضي مرة مثل هذا ومرة قال : يثبت فيها الخياران قياسا على البيع وقد ذكرنا ما يقتضي الفرق بينهما وأما الشفعة فلا خيار فيها لأن المشتري يؤخذ منه المبيع قهرا والشافعي مستقل بانتزاع المبيع من غير رضا صاحبه فأشبه فسخ البيع بالرد بالعيب ونحوه ويحتمل أن يثبت للشفيع خيار المجلس لأنه قبل المبيع بثمنه فأشبه المشتري النوع الثاني : ما يشترط فيه القبض في المجلس كالصرف والسلم وبيع مال الربا بجنسه فلا يدخله خيار الشرط رواية واحدة لأن موضعها على أن لا يبقى بينهما علقة بعد التفرق بدليل اشتراط القبض وثبوت الخيار يبقي بينهما علقة ويثبت فيها خيار المجلس في الصحيح من المذهب لعموم الخبر ولأن موضوعه للنظر في الحظ في المعاوضة وهو موجود فيها وعنه لا يثبت فيها الخيار إلحاقا بخيار الشرط
الضرب الثاني : لازم لا يقصد به العوض كالنكاح والخلع فلا يثبت فهما خيار لأن الخيار إنما يثبت لمعرفة الحظ في كون العوض جائزا لما يذهب من ماله والعوض ههنا ليس فهو المقصود وكذلك الوقف والهبة ولأن في ثبوت الخيار في النكاح ضررا ذكرناه قبل هذا
الضرب الثالث : لازم من أحد طرفيه دون الآخر كالرهن لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن فلا يثبت فيه خيار لأن المرتهن يستغني بالجواز في حقه عن ثبوت خيار آخر والراهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض وكذلك الضامن والكفيل لا يخار لهما لأنهما دخلا متطوعين راضيين بالغبن وكذلك المكاتب
الضرب الرابع : عقد جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة والجعالة والوكالة والوديعة والوصية فهذه لا يثبت فيها خيار استغناء بجوازها والتمكن من فسخها بأصل وضعها
الضرب الخامس : وهو متردد بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة والظاهر أنهما جائزان فلا يدخلهما خيار وقد قيل هما لازمان ففي ثبوت الخيار فيهما وجهان والسبق والرمي الظاهر أنها جعالة فلا يثبت فيهما خيار وقيل هما إجارة وقد مضى ذكرها
الضرب السادس : لازم يستقل به أحد المتعاقدين كالحوالة والأخذ بالشفعة فلا خيار فيهما لأن من لا يعتبر رضاه لا خيار له وإذا لم يثبت في أحد لطرفيه لم يثبت في الآخر كسائر العقود ويحتمل أن يثبت الخيار للمحيل والشفيع لأنها معاوضة يقصد فيها العوض فأشبهت سائر البيع

باب الربا والصرف
الربا في اللغة هو الزيادة قال الله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } وقال : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي أكثر عددا يقال أربى فلان على فلان إذا زاد عليه وهو في الشرع الزيادة أشياء مخصوصة وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى { وحرم الربا } وما بعدها من الآيات
وأما السنة فروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله ما هي ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ] وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ] متفق عليهما في أخبار سوى هذين كثيرة وأجمعت الأمة على أن الربا محرم

نوعا الربا : الفضل والنسيئة
فصل : والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة فحكي عن ابن عباس و أسامة بن زيد و زيد بن أرقم و ابن الزبير أنهم قالوا : إنما الربا في النسيئة لقوله عليه السلام : [ لا ربا إلا في النسيئة ] رواه البخاري والمشهور من ذلك قول ابن عباس ثم أنه رجع إلى قول الجماعة روى ذلك الأثرم بإسناده وقاله الترمذي و ابن المنذر وغيرهم وقال سعيد بإسناده عن أبي صالح قال : صحبت ابن عباس حتى مات فوالله ما رجع عن الصرف وعن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن التصرف فلم ير به بأسا وكان يأمر به
والصحيح قول الجمهور لحديث أبي سعيد الخدري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا بناجز ] وروي أبو سعيد أيضا قال : [ جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه و سلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : من أين هذا يا بلال ؟ قال : كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به ] متفق عليهما قال الترمذي : على حديث أبي سعد العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ربا إلا في النسيئة ] محمول على الجنسين

كل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا
قوله من سائر الأشياء يعني من جميعها وضع سائر موضع جميع تجوزا وموضوعها الأصلي لباقي الشيء وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في الربا أحاديث كثيرة ومن أتمها ما روى عبادة بن الصامت [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد ] رواه مسلم فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع واختلف أهل العلم فيم سواها فحكي عن طاوس و قتادة أنها قصرا الربا عليها وقالا لا يجري في غيرها وبه قال داود ونفاه القياس وقالوا : ما عداها على أصل الإباحة لقول الله تعالى : { وأحل الله البيع } واتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة وإنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها لأن القياس دليل شرعي فيجب استخراج علة هذا الحكم وإثباته في كل موضع وجدت علته فيه وقول الله تعالى : { وحرم الربا } يقتضي تحريم كل زيادة إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه وهذا يعارض ما ذكروه ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير فإنه قال : كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كالحنطة بالشعير والتمر بالزبيت والذرة بالدهن لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم ] فلا يعول عليه ثم يبطل بالذهب بالفضة فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة وعلة الأعيان الأربعة واحدة ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس نقلها عن أحمد الجماعة وذكرها الخرقي و ابن أبي موسى وأكثر الأصحاب وهو قول النخعي و الزهري و الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه مطعوما كان أو غير مطعوم كالحبوب والأشنان والنورة والقطن والصوف والكتان والورس والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحو ذلك ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن لما روى ابن عمر قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الرماء وهو الربا فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل ؟ فقال : لا بأس إذا كان يدا بيد ] رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن حيان عن أبيه عن ابن عمر
وعن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا ] رواه الدارقطني ورواه عن ابن صاعد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أحمد بن محمد بن أيوب عن أبي بكر بن عياش عن صبيح عن الحسن عن عبادة وأنس عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال : لم يروه عن أبي بكر هكذا غير محمد بن أحمد بن أيوب وخالفه غيره فرواه بلفظ آخر وعن عمار أنه قال : العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين فما كان يدا بيد فلا بأس به إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن ولأن قضية البيع المساواة والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا تساويا في الكيل
والرواية الثانية : أن العلة في الأثمان الثمنية وفيما عداها كونه مطعوم جنس فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها قال أبو بكر : روى ذلك عن أحمد جماعة ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال العلة الطعم والجنس شرط والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمينة غالبا فيختص بالذهب والفضة لما روى معمر بن عبد الله [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل ] رواه مسلم ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضي التعليل بهما ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء والرواية الثالثة : العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالتفاح والرمان والخوخ والبطيخ والكمثرى والأترج والسفرجل والأجاص والخيار والجوز والبيض ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأشنان والحديد والرصاص ونحوه ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب وهو قديم قولي الشافعي لما روي عن سعيد بن المسيب [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب ] أخرجه الدراقطني وقال : الصحيح أنه من قول سعيد ومن رفعه فقد وهم ولأن لكل واحد من هذه الأصناف أثرا والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه فلا يجوز حذفه ولأن الكيل والوزن والجنس لا يقتضي وجوب المماثلة وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لا ما تحقق شرطه والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به لعدم المعيار الشرعي فيه وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا فوجب أن يكون الطعم معتبرا في المكيل الموزون دون غيرهما والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينهما وتقييد كل واحد منها بالآخر فنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي وهو الكيل والوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه وقال مالك : العلة أو القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات وقال ربيعة : يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة دون غيره وقال ابن سيرين : الجنس الواحد علة وهذا القول لا يصح لقول النبي صلى الله عليه و سلم في بيع الفرس والأفراس والنجيبة بالإبل [ لا بأس به إذا كان يدا بيد ] و [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ابتاع عبدا بعبدين ] رواه أبو داود و الترمذي وقال هو حديث حسن صحيح وقول مالك ينتقض بالحطب والادام يستصلح به القوت ولا ربا فيه عنده وتعليل ربيعة ينعكس بالملح والعكس لازم عند اتحاد العلة
والحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة كالأرز والدخن والذرة والقطنيات والدهن والخل واللبن واللحم ونحوه وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث سوى قتادة فإنه بلغني أنه شذ عن جماعة الناس فقصر تحريم التفاضل على الستة الأشياء وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربا فيه رواية واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كالتين والنوى والقت والماء والطين الأرمني فإنه يؤكل دواء فيكون موزونا مأكولا فهو إذا من القسم الأول وما عداه إنما يؤكل سفها فجرى مجرى الرمل والحصا وقد [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة : لا تأكلي الطين فإنه يصفر اللون ] وما وجد فيه الطعم وحده أن الكيل أو الوزن من جنس واحد ففيه روايتان واختلف أهل العلم فيه والأولى إن شاء الله تعالى حله إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوي التمسك به وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا فوجب اطراحها أو الجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا كالأزر والذرة والدخن أو أدما كالقطنيات واللبن واللحم أو تفكها كالثمار أو تداوما كالأهليج والسقمونيا فإن الكل في باب الربا واحد

جريان الربا في القليل والكثير مكيلا أو موزونا
فصل : وقوله ما كيل أو وزن أي ما كان جنسه مكيلا أو موزونا وإن لم يتأت فيه كيل ولا وزن إما لقلته كالحبة والحبتين والحفنة والحفنتين وما دون الأرزة من الذهب والفضة أو لكثرته كالزبرة العظيمة فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل ويحرم التفاضل فيه وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتين وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله ووافق في الموزون واحتج بأن العلة الكيل ولم يوجد في اليسير
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى ] ولأن ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله كالموزون
فصل : ولا يجوز بيع تمرة بتمرة ولا حفنة بحفنة وهذا قول الثوري ولا أعلمه منصوصا عليه ولكنه قياس قولهم لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره

المواد الربوية إذا دخلتها الصناعة
فصل : فأما ما لا وزن للصناعة فيه كمعمول الحديد والرصاص والنحاس والقطن والكتان والصوف والبرايسم فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية أنه لا يجري فيها الربا فإنه قال : لا بأس بالثوب بالثوبين والكساء بالكساءين وهذا قول أكثر أهل العلم وقال : لا يباع الفلس بالفلسين ولا السكين بالسكينين ولا إبرة بإبرتين أصله الوزن ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى فجعل فيهما جميعا روايتين إحداهما : لا يجري في الجميع وهو قول الثوري و أبي حنيفة وأكثر أهل العلم لأنه ليس بموزون ولا مكيل وهذا هو الصحيح إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النقص والإجماع فيه والثانية : يجري الربا في الجميع اختارها ابن عقيل لأن أصله الوزن فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز وذكر أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالاسطال ففيه الربا ومالا فلا

الربا في لحم الطير
فصل : ويجري الربا في لحم الطير وعن أبي يوسف لا يجري فيه لأنه يباع بغير وزن ولنا أنه لحم فجرى فيه الربا كسائر اللحمان وقوله لا يوزن قلنا هو من جنس ما يوزن ويقصد ثقله وتختلف قيمته بثقله وخفته فأشبه ما يباع من الخبز بالعدد

الجيد والرديء من المال الربوي
فصل : والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه وحكي بعض أصحابنا عن أحمد رواية لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة ولأن للصناعة قيمة بدليل حالة الإتلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل ] وعن عبادة بن الصامت [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها ] رواه أبو داود وروى مسلم عن أبي الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس فبلغ عبادة فقال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى ] وروى الأثرم عن عطاء بن يسار [ أن معاوية باع سقاية من ذهب أو روق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل ] ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معاوية لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن ولأنهما تساويا في الوزن فلا يؤثر اختلافهما في القيمة كالجيد والرديء فأما إن قال لصائغ : صغ لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل وزنه وأجرتك درهما فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين وقال أصحابنا : للصائغ أخذ الدرهمين أحدهما : في مقابلة الخاتم والثاني : أجرة له

ما تحرم فيه النسيئة
فصل : وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه ويحرم التفرق قبل القبض لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عينا بعين ] وقوله : [ يدا بيد ] ولأن تحريم النساء آكد ولذلك جرى في الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم
مسألة : قال : وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد ولا يجوز نسيئة
لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين نعلمه إلا عن سعيد بن جبير أنه قال : ما يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز التفاضل بهما وهذا يرده قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالشعير كيف شئتم يدا بيد ] وفي لفظ : [ إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ] رواه مسلم و أبو داود ولأنهما جنسان فجاز التفاضل فيهما كما لو تباعدت منافعهما ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب بالفضة مع تقارب منافعهما فأما النساء فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة كالمكيل والموزون بالموزون والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه وذلك لقوله عليه السلام : [ فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ] وفي لفظ [ لا بأس ببيع الذهب بالفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما النسيئة فلا ] رواه أبو داود إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف لأن الشرع أرخص في السلم والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير فلو حرم النساء هنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان إحداهما : يحرم النساء فيهما وهو الذي ذكره الخرقي ههنا لأنهما مالان من أموال فحرم النساء فيهما كالمكيل والثانية : يجوز النساء فيهما وهو قول النخعي لأنهما يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان
فصل : وإذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه وعلة ربا الفضل فيهما واحدة لا يجز التفرق قبل القبض فإن فعلا بطل العقد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا وكبيع ذلك بأحد النقدين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ] رواه مسلم و [ قال عليه السلام : فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ] وروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه التمس صرفا بمائة دينار قال فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف منى فأخذ يقبلها في يديه ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة وعمر يسمع ذلك فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ] متفق عليه والمراد به القبض بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة ولهذا فسره عمر به ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما فقال أبو خطاب يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة لأن علتهما مختلفة فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالثمن وبهذا قال الشافعي : إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض على كل حال لقوله [ يدا بيد ]
مسألة : قال : وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يدا بيد ولا يجوز نسيئة
اختلفت الرواية في تحريم النساء في غير المكيل والموزون على أربع روايات إحداهن : لا يحرم النساء في شيء من ذلك سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويا أو متفاضلا إلا على قولنا أن العلة الطعم فيحرم النساء في المطعوم ولا يحرم في غيره وهذا مذهب الشافعي واختار القاضي هذه الرواية لما روى أبو داود [ عن عبد الله ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ] رواه أبو داود وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد أن عليا باع بعيرا له يقال له عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل ولأنهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار ولأن السناء أحد نوعي الربا فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الآخر والرواية الثانية : يحرم النساء في كل مال بيع بجنسه كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب ولا يحرم في غير ذلك وهذا مذهب أبي حنيفة وممن كره بيع الحيوان نساء ابن الحنفية و عبد الله بن عمير و عطاء و عكرمة بن خالد و ابن سيرين و الثوري وروي ذلك عن عمار و ابن عمر لما روى سمرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ولأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل فحرم النساء كالكيل والوزن والثالثة : لا يحرم النساء إلا فيما بيع بجنسه متفاضلا فأما مع التماثل فلا لما روى جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى ابن عمر [ أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل ؟ فقال : لا بأس إذا كان يدا بيد ] من المسند وهذا يدل على إباحة النساء مع التماثل بمفهومة والرابعة : يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر سواء كان من جنسه أو من غير جنسه وهذا ظاهر كلام الخرقي ويحتمل أنه أراد الرواية الثالثة لأنه بيع عرض بعرض فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا قال القاضي : فعلى هذا لو باع عرضا بعرض ومع أحدهما دراهم العروض نقدا والدراهم نسيئة جاز وإن كانت الدراهم نقدا والعروض نسيئة لم يجز لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض وهذه الرواية ضعيفة جدا لأنه إثبات حكم يخالف الأصل بغير نص ولا إجماع ولا قياس صحيح فإن في المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافا لها أثر في تحريم الفضل فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار وما هذا سبيله لا يجوز إثبات الحكم فيه وإن لم يخالف أصلا فكيف يثبت مع مخالفة الأصل في حل البيع ؟ وأصح الروايات هي الأولى لموافقتها الأصل والأحاديث المخالفة لها قال أبو عبد الله ليس فيها حديث يعتمد عليه ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال هما مرسلان وحديث سمرة يرويه الحسن عن سمرة قال الأثرم قال أبو عبد الله : لا يصحح سماع الحسن من سمرة وحديث جابر قال أبو عبد الله : هذا حجاج زاد فيه نساء و ليث بن سعد سمعه من أبي الزبير ولا يذكر فيه نساء وحجاج هذا هو حجاج بن أرطاة قال يعقوب بن شيبة : هو واهي الحديث وهو صدوق وإن كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه والآخر في ربا كالمكيل بالمعدود ففيه روايتان إحداهما : يحرم النساء فيهما والثانية : لا يحرم كما لو باع معدودا بمعدود من غير جنسه

بيع الرطب بيابس من جنسه
مسألة : قال : ولا يباع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا العرايا
أرادالرطب مما يجري فيه الربا كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب واللبن بالجبن والحنطة المبلولة أو الرطبة باليابسة أو المقلية بالنيئة ونحو ذلك وبه قال سعد بن أبي وقاص و سعيد بن المسيب و الليث و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف و محمد قال ابن عبد البر : جمهور علماء المسلمين على أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز بحال من الأحوال وقال أبو حنيفة يجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون من جنسه فيجوز ذلك لأنه لا يخلو إما أن يكون من جنسه فيجوز لقوله عليه السلام : [ التمر بالتمر مثلا بمثل ] أو من غير جنسه فيجوز لقوله عليه السلام : [ فإذا اختلفت هذا الأصناف فبيعوا كيف شئتم ] ولنا قوله عليه السلام [ لا تبيعوا التمر بالتمر ] وفي لفظ [ نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا ] متفق عليه وعن سعد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا نعم فنهى عن ذلك ] رواه مالك و أبو داود و الأثرم و ابن ماجة ولفظ رواية الأثرم قال : [ فلا إذن ] نهى وعلل بأنه ينقص إذا يبس وروى مالك عن نافع عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة ] والمزابنة بيع الرطب بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا ولأنه جنس فيه الربا بيع بعضه ببعض على وجه ينفرد أحدهما بالنقصان فلم يجز كبيع المقلية بالنيئة ولا يلزم الحديث بالعتيق لأن التفاوت يسير قال الخطابي : وقد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص في بيع الرطب بالتمر وقال زيد : أبو عياش راويه ضعيف وليس الأمر على ما توهمه وأبو عياش مولى بني زهرة معروف وقد ذكرناه مالك في الموطأ وهو لا يروي عن متروك الحديث
فصل : فأما بيع الرطب بالرطب والعنب بالعنب ونحوه من الرطب بمثله فيجوز مع التماثل في قول أكثر أهل العلم ومنع منه الشافعي فيما ييبس فأما مالا ييبس كالقثاء والخيار ونحوه فعلى قولين لأنه لا يعلم تساويهما حالة الادخار فأشبه الرطب بالتمر وذهب أبو حفص العكبري من أصحابنا إلى هذا وحمل كلام الخرقي عليه لقوله في اللحم : لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا ويجوز إذا تناهي جفافه مثلا بمثل ومفهوم كلام الخرقي ههنا إباحة ذلك لأن مفهوم نهيه عليه السلام عن بيع التمر بالتمر إباحة بيع كل واحد منهما بمثله ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع اللبن باللبن والتمر بالتمر ولأن قوله تعالى : { وأحل الله البيع } عام خرج منه المنصوص عليه وهو بيع التمر بالتمر وليس هذا في معناه فبقي على العموم وما ذكره لا يصح فإن التفاوت كثير وينفرد أحدهما بالنقصان بخلاف مسألتنا ولا بأس ببيع الحديث بالعتيق لأن التفاوت في ذلك يسير ولا يمكن ضبطه فيعفى عنه

لا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزنا ولا بيع الموزون بالموزون كيلا
مسألة : قال : ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا ولا ما أصله الوزن كيلا
لا خلاف بين أهل العلم في وجوب المماثلة في بيع الأموال التي يحرم التفاضل فيها وأن المساواة المرعية هي المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا ومتى تحققت هذه المساواة لم يضر اختلافهما فيما سواها وإن لم يوجد لم يصح البيع وإن تساويا في غيرهما وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور أهل العلم لا نعلم أحدا خالفهم إلا مالكا قال : يجوز بيع الموزونات بعضها ببعض جزافا
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالذهب وزنا بوزن والفضة بالفضة وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل ] رواه الأثرم في حديث عبادة ورواه أبو داود ولفظه [ البر بالبر مدي بمدي والشعير بالشعير مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ] فأمر بالمساواة في الموزونات المذكورة في الوزن كما أمر بالمساواة في المكيلات في الكيل وما عدا الذهب والفضة من الموزونات مقيس عليهما ومشبه بهما ولأنه جنس يجري فيه الربا فلم يجز بيع بعضه ببعض جزافا كالمكيل ولأنه موزون من أموال الربا فأشبه الذهب بالفضة ولأن حقيقة الفضل مبطلة للبيع ولا نعلم عدم ذلك إلا بالوزن فوجب ذلك كما في المكيل والأثمان إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزنا ولا بيع الموزون بالموزون كيلا لأن التماثل في الكيل مشترط في المكيل وفي الوزن في الموزون فمتى باع رطلا من المكيل برطل حصل في الرطل من الخفيف أكثر مما يحصل من الثقيل فيختلفان في الكيل وإن لم يعلم الفضل لكن يجهل التساوي فلا يصح كما لو باع بعضه ببعض جزافا وكذلك لو باع الموزون بالموزون بالكيل فلا يتحقق التماثل في الوزن فلم يصح كما ذكرنا في المكيل

جواز بيع مالا ربا فيه جزافا
فصل : ولو باع بعضه ببعض جزافا أو كان جزافا من أحد الطرفين لم يجز قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن ذلك غير جائز إذا كانا من صنف واحد وذلك لما روى مسلم عن جابر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر ] وفي قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالذهب وزنا بوزن ] إلى تمام الحديث دليل على أنه لا يجوز بيعه إلا كذلك ولأن التماثل شرط والجهل به يبطل البيع كحقيقة التفاضل

يكره بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون جزافا
فصل : وما لا يشترط التماثل فيه كالجنسين وما لا ربا فيه يجوز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا وجزافا وهذا ظاهر كلام الخرقي لتخصيصه ما يكال بمنع بيعه بشيء من جنسه وزنا وما يوزن بمنع بيعه من جنسه كيلا وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة لا يدري كم كيل هذه ولا كيف هذه من صنف واحد غير جائز ولا بأس به من صنفين استدلالا بقوله عليه السلام : [ فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ] وذهب جماعة من أصحابنا إلى منع بيع المكيل بالمكيل جزافا وبيع الموزون بالموزون جزافا وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم : أكره ذلك
قال ابن موسى : لا خير فيما يكال بما جزافا ولا فيما يوزن بما يوزن جزافا اتفقت الأجناس أو اختلفت ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافا وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة ولأنه بيع مكيل بمكيل أشبه الجنس الواحد ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ] ولأن قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } عام خصصناه في الجنس الواحد الذي يجب التماثل فيه ففيهما عداه يجب البقاء على العموم ولأنه يجوز التفاضل فيه فجاز جزافا من الطرفين كالمكيل بالموزون يحققه أنه إذا كان حقيقة الفضل لا يمنع فاحتماله أولى أن لا يكون مانعا وحديثهم أراد به الجنس الواحد ولهذا جاء في بعض ألفاظه [ نهى أن تباع الصبرة لا يعلم مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من التمر ] ثم هو مخصوص بالمكيل والموزون فنقيس عليه محل النزاع وما ذكر من القياس غير صحيح لأن المكيل من جنس واحد يجب التماثل فيه فمنع من بيعه مجازفة لفوات المماثلة المشروطة وفي الجنسين لا يشترط التماثل ولا يمنع حقيقة التفاضل فاحتماله أولى أن لا يكون مانعا

جواز قسم المكيل وزنا وقسم الموزون كيلا
فصل : ولو قال : بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة وهما من جنس واحد ولا يعلمان كيلهما لم يصح لما ذكرنا وإن علما كيلهما وتساويهما صح البيع لوجود التماثل المشترط وإن قال بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلا بمثل فكيلتا فكانتا سواء صح البيع وإلا فلا وإن باع صبرة بصبرة من غير جنسها عند من يجوز بيع المكيل بالمكيل جزافا وإن قال بعتك هذه الصبرة بهذه مثلا بمثل فكيلتا فكانتا سواء صح البيع
وإن زادت إحداهما فرضي صاحب الناقصة بها مع نقصها أو رضي صاحب الزائدة برد الفضل على صاحبه جاز وإن امتنعا فسخ البيع بينهما ذكر هذا الفصل القاضي وهو مذهب الشافعي
فصل : ويجوز قسم المكيل وزنا وقسم الموزون كيلا وقسم الثمار خرصا وقسم ما لا يجوز بيع بعضه ببعض لأن القسمة إفراز حق وليست بيعا ونقل عن ابن بطة ما يدل على أنها بيع فيثبت فيها أحكام البيع ويمنع فيها ما ذكرناه لأن كل جزء من ذلك مشترك بينهما فإذا تعين لكل واحد منهما حق فقد اشترى نصيب شريكه مما تعين له بنصيبه فيما تعين لشريكه و للشافعي قولان كالمذهبين والظاهر أنها إفراز حق بدليل اعتبار تعديل السهام ودخول القرعة فيها ولزومها بها والإجبار عليها وأنها لا تفتقر إلى لفظ بيع ولا تمليك ولا يدخلها خيار ولا تجوز إلا بقدر الحقين ولا يثبت فيها شفعة وتختص باسم وتغاير الأحكام والأسماء دليل على اختلافهما وروي عن ابن عباس أنه قال : قسمت الصحابة رضي الله عنهم الغنائم بالحجف وذلك كيل الأثمان بمحضر من جماعة كثيرة منهم وانتشر في بقيتهم فلم ينكر فصار إجماعا على ما قلناه

المرجع في معرفة المكيل والموزون
فصل : في معرفة المكيل والموزون والمرجع في ذلك إلى العرف بالحجاز في عهد النبي صلى الله عليه و سلم وبهذا قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أن الاعتبار في كل بلد بعادته ولنا ما روى عبد الله بن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة ] والنبي صلى الله عليه و سلم إنما يحمل كلامه على بيان الأحكام ولأن ما كان مكيلا بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه و سلم انصرف التحريم في تفاضل الكيل إليه فلا يجوز أن يتغير بعد ذلك وهكذا الموزون وما لا عرف له بالحجاز يحتمل وجهين أحدهما : يرد إلى أقرب الأشياء شبها به بالحجاز كما أن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس والثاني : يعتبر عرفه في موضعه فإن لم يكن له في الشرع حد كان المرجع فيه إلى العرف كالقبض والإحراز والتفرق وهذا قول أبي حنيفة وعلى هذا إن اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فإن لم يكن غالب بطل هذا الوجه وتعين الأول ومذهب الشافعي على هذين الوجهين فالبر والشعير مكيلان منصوص عليهما بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البر بالبر كيلا بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل ] وكذلك سائر الحبوب والأبازير والأشنان والجص والنورة وما أشبهها والتمر مكيل وهو من المنصوص عليه وكذلك سائر تمر النخل من الرطب والبسر وغيرهما وسائر ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق والعناب والمشمش والبطم والزيتون واللوز والملح مكيل وهو من المنصوص عليه بقوله عليه السلام : [ الملح بالملح مدي بمدي ] والذهب والفضة موزونان ثبت ذلك بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالذهب وزنا بوزن والفضة بالفضة وزنا بوزن ] وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد والنحاس والصفر والرصاص والزجاج والزئبق ومنه الابريسم والقطن والكتان والصوف وغزل ذلك وما أشبهه ومنه الخبز واللحم والشحم والجبن والزبد والشمع وما أشبهه وكذلك الزعفران والعصفر والورس وما أشبه ذلك
فصل : والدقيق والسويق مكيلان لأن أصلهما مكيل ولم يوجد ما ينقلهما عنه ولأنهما يشبهان ما يكال وذكر القاضي في الدقيق أنه يجوز بيع بعضه ببعض بالوزن ولا يمتنع أن يكون أصله مكيلا وهو موزون كالخبز ولنا ما ذكرناه ولأنه يقدر بالصاع بدليل أنه يخرج في الفطرة صاع من دقيق وقد جاء في الحديث والصاع إنما يقدر به المكيلات وعلى هذا يكون الأقط مكيلا لأن في حديث صدقة الفطر صاع من أقط
فصل : فأما اللبن وغيره من المائعات كالأدهان من الزيت والشيرج والعسل والخل والدبس ونحو ذلك فالظاهر أنها مكيلة قال القاضي في الأدهان هي مكيلة وفي اللبن يصح السلم فيه كيلا وقال أصحاب الشافعي لا يباع اللبن بعضه ببعض إلا كيلا وقد روي عن أحمد أنه سئل عن السلف في اللبن فقال : نعم كيلا أو وزنا وذلك لأن الماء مقدر بالصاع ولذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ويغتسل هو وبعض نسائه من الفرق وهذه مكاييل قدر بها الماء وكذلك سائر المائعات و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع ما في ضروع الأنعام إلا بالكيل ] رواه ابن ماجة وأما غير المكيل الموزون فما لم يكن له أصل بالحجاز في كيل ولا وزن ولا يشبه ما جرى فيه العرف بذلك كالثياب والحيوان والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار وسائر الخضروات والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى ونحوها فهذه المعدودات إذا اعتبرنا التماثل فيها فإنه يعتبر التماثل في الوزن لأنه أخصر ذكره القاضي في الفواكه الرطبة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر قالوا يعتبر ما أمكن كيله بالكيل ولأنه الأصل الأعيان الأربعة وهي مكيلة ومن شأن الفرع أن يرد إلى أصله بحكمه والأصل حكمه تحريم التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعها ولنا أن الوزن أخصر فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي لا يمكن كيله وإنما اعتبر الكيل في المنصوص عليه لأنه يقدر به في العادة وهذا بخلافه

تحديد الجنس والنوع من الربويات
مسألة : قال : والتمور كلها جنس وإن اختلفت أنواعها
الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها والنوع الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها وقد يكون النوع جنسا بالنسبة إلى ما تحته نوعا بالنسبة إلى ما فوقه والمراد هنا الجنس الأخص والنوع الأخص فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهما جنس كأنواع التمر وأنواع الحنطة فالتمور كلها جنس واحد لأن الاسم الخاص يجمعها وهو التمر وإن كثرت أنواعه كالبرني والعقلي والابراهيمي والخاستوي وغيرها وكل شيئين اتفقا في الجنس ثبت فيهما حكم الشرع بتحريم التفاضل وإن اختلفت الأنواع لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل ] الحديث بتمامه فاعتبر المساواة في جنس التمر بالتمر والبر بالبر ثم قال : [ فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ] وفي لفظ [ فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ] وفي لفظ [ إلا ما اختلفت ألوانه ] ولا خلاف بين أهل العلم علمناه في وجوب المساواة في التمر بالتمر وسائر ما ذكر في الخبر مع اتفاق الأنواع واختلافهما
فصل : فإن كان المشتركان في الاسم الخاص من أصلين مختلفين فهما جنسان كالأدقة والأخبار والخلول والأدهان وعصير الأشياء المختلفة كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها وحكي عن أحمد أن خل التمر وخل العنب جنس وحكي ذلك عن مالك لأن الاسم الخاص يجمعهما والصحيح أنهما جنسان لأنهما من أصلين مختلفين فكانا جنسين كدقيق الحنطة ودقيق الشعير وما ذكر للرواية الأخرى منتقض بسائر فروع الأصول التي ذكرناها وكل نوع مبني على أصله فإذا كان شيئان من أصلين فهما جنسان فزيت الزيتون وزيت البطم وزيت الفجل أجناس ودهن السمك والشيرج ودهن الجوز ودهن اللوز والبرز أجناس وعسل القصب جنسان وتمر النخل وتمر الهند جنسان وكل شيئين أصلهما واحد فهما جنس واحد وإن اختلفت مقاصدهما فدهن الورد والبنفسج والزئبق ودهن الياسمين إذا كانت من دهن واحد فهي جنس واحد وهذا الصحيح من مذهب الشافعي وله قول آخر لا يجري الربا فيها لأنها لا تقصد للأكل وقال أبو حنيفة هي أجناس لأن مقاصدها مختلفة ولنا أنها كلها شريج وإنما طيبت بهذه الرياحين فنسبت إليها فلم تصر أجناسا كما لو طيب سائر أنواع الأجناس وقولهم لا تقصد الرياحين للأكل قلنا هي صالحة للأكل وإنما تعد لما هو أعلى منه فلا تخرج عن كونها مأكولة بصلاحها لغيره وقولهم أنها أجناس لا يصح لأنها من أصل واحد ويشملها اسم واحد فكانت جنسا كأنواع التمر والحنطة
فصل : وقد يكون الجنس الواحد مشتملا على جنسين كالتمر يشتمل على النوى وغيره وهما جنسان واللبن يشتمل على المخيض والزبد وهما جنسان فما داما متصلين اتصال الخلقة فهما جنس واحد فإذا ميز أحدهما من الآخر جنسين حكمهما حكم الجنسين الأصليين

بيع التمر والعنب بجنسيهما ومشقاتها
فصل : في بيع التمر بالتمر وفروعه يجوز بيع التمر بالتمر كيلا بكيل بغير خلاف وسواء تساويا في الجودة والرداءة وفي كونهما ينكبسان في المكيال أو اختلفا في ذلك قيل لأحمد صاع تمر بصاع تمر وأحد التمرين يدخل في المكيال منه أكثر فقال : إنما هو صاع بصاع وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمر بالتمر مدي بمدي - ثم قال - من زاد أو ازداد فقد أربى ] فإن كان في كل واحد منهما نواه جاز بيعه متساويا بغير خلاف لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد علم أن التمر يكون فيه النوى وإن نزع من كل واحد منهما نواه جاز أيضا وقال أصحاب الشافعي : لا يجوز في أحد الوجهين لأنهما لم يتساويا في حال الكمال ولأنه يتجافى في المكيال
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التمر بالتمر مدي بمدي ] ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كما لو كان في كل واحد منهما نواه ويجوز بيع النوى بالنوى كيلا لذلك وإذا باع تمرا منزوع النوى بتمر نواه لم يجز لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه دون الآخر وإن نزع النوى ثم باع النوى والتمر بنوى وتمر لم يجز لأنه زالت التبعية بنزعه فصار كبيع تمر وحنطة بتمر وحنطة وإن باع النوى بتمر منزوع النوى جاز متفاضلا ومتساويا لأنهما جنسان وإن باع النوى بتمر نواه فيه فعلى روايتين منه في رواية مهنا و أحمد بن القاسم لأن في التمر نوى فيصير كمد عجوة وكما لو باع تمرا فيه نواه بتمر منزوع النوى وأجاز ذلك في رواية ابن منصور ولأن النوى في التمر غير مقصود ولذلك جاز بيع التمر بالتمر في كل واحد منهما نواه وصار هذا كبيع دار مموه سقفها بالذهب بذهب فعلى هذا يجوز بيعه متفاضلا ومتساويا لأن النوى الذي في التمر لا عبرة به فصار كبيع النوى بمنزوع النوى
فصل : ويصنع من التمر الدبس والخل والناطف والقطارة ولا يجوز بيع التمر بشيء منها لأن مع بعضها من غير جنسه وبعضهما مائع والتمر جامد ولا يجوز بيع الناطف بعضه ببعض ولا بغيره من المصنوع من التمر لأن معها شيئا مقصودا من جنسهما فينزل منزلة مد عجوة ويجوز بيع القطارة والدبس والخل كل نوع بعضه ببعض متساويا قال أحمد في رواية مهنا في خل الدقل يجوز بيع بعضه ببعض متساويا وذلك لأن الماء في كل واحد منهما غير مقصود وهو من مصلحته فلم يمنع جواز البيع كالخبز بالخبز والتمر بالتمر في كل واحد منهما نواه ولا يباع نوع بنوع آخر لأن في كل واحد منهما من غير جنسه يقل ويكثر فيفضي إلى التفاضل
فصل : والعنب كالتمر في ما ذكرناه إلا أنه لا يباع خل العنب بخل الزبيب لانفراد كل واحد منهما بما ليس من جنسه ويجوز بيع خل الزبيب بعضه ببعض كما يجوز بيع خل التمر بعضه ببعض

والبر والشعير جنسان
مسألة : قال : والبر والشعير جنسان
هذا هو المذهب وبه يقول الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد أنهما جنس واحد وحكي ذلك عن سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث و ابن معيقيب الدوسي و الحكم و حماد و مالك و الليث لما روي عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فلما جاء معمرا أخبره بذلك فقال له معمر : لم فعلت ذلك ؟ انطلق فرده ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير قيل فإنه ليس بمثله قال : إني أخاف أن يضارع أخرجه مسلم ولأن أحدهما يغتش بالآخر فكانا كنوعي الجنس
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد ] وفي لفظ [ لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ] وفي لفظ [ فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ] وهذا صريح صحيح لا يجز تركه بغير معارض مثله ولأنهما لم يشتركا في الاسم الخاص فلم يكونا جنسا واحدا كالتمر والحنطة ولأنهما مسميان في الأصناف الستة فكانا جنسين كسائرها وحديث معمر لا بد فيه من اضمار الجنس بدليل سائر أجناس الطعام ويحتمل أنه أراد الطعام المعهود عندهم وهو الشعير فإنه قال في الخبر وكان طعامنا يومئذ الشعير ثم لو كان عاما لوجب تقديم الخاص الصريح عليه وفعل معمر وقوله لا يعارض به قول النبي صلى الله عليه و سلم وقياسهم ينتقض بالذهب والفضة

في الحنطة وفروعها وحكم الشعير وسائر الحبوب كالحنطة
فصل : في الحنطة وفروعها وفروعها نوعان أحدهما : ما ليس فيه غيره كالدقيق والسويق والثاني : ما فيه غيره كالخبز والهريسة والفالوذج والنشاء وأشباهها ولا يجوز بيع الحنطة بشيء من فروعها وهي ثلاثة أقسام أحدها : السويق فلا يجوز بيعه بالحنطة وبهذا قال الشافعي وحكي عن مالك و أبي ثور جواز ذلك متماثلا ومتفاضلا ولنا أنه بيع الحنطة ببعض أجزائها متفاضلا فلم يجز كبيع مكوك حنطة بمكوكي دقيق ولا سبيل إلى التماثل لأن النار قد أخذت من أحدهما دون الآخر فأشبهت المقلية القسم الثاني : ما معه غيره فلا يجوز بيعها به أيضا وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز ذلك بناء على مسألة مد عجوة وسنذكر الدليل على ذلك إن شاء الله تعالى : القسم الثالث : الدقيق فلا يجوز بيعها به في الصحيح وهو مذهب سعيد بن المسيب و الحسن و الحكم و حماد و الثوري و أبي حنيفة ومكحول وهو المشهور عن الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه جائز وبهذا قال ربيعة و مالك وحكي ذلك عن النخعي و قتادة و ابن شبرمة و إسحاق و أبي ثور لأن الدقيق نفس الحنطة وإنما تسكرت أجزاؤها فجاز بيع بعضها ببعض كالحنطة المكسرة بالصحاح فعلى هذا إنما تباع الحنطة بالدقيق وزنا لأنها قد تفرقت أجزاؤها بالطحن وانتشرت فتأخذ من المكيال مكانا كبيرا والحنطة تأخذ مكانا صغيرا والوزن يسوي بينهما وبهذا قال إسحاق
ولنا أن بيع الحنطة بالدقيق بيع للحنطة بجنسها متفاضلا فحرم كبيع مكيلة بمكيلتين وذلك لأن الطحن قد فرق أجزاءها فيحصل في مكيالها دون ما يحصل في مكيال الحنطة وإن لم يتحقق التفاضل فقد جهل التماثل والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل فيما يشترط التماثل فيه ولذلك لم يجز بيع بعضها ببعض جزافا وتساويهما في الوزن لا يلزم منه التساوي في الكيل والحنطة والدقيق مكيلان لأن الأصل الكيل ولم يوجد ما ينقل عنه ولأن الدقيق يشبه المكيلات فكان مكيلا كالحنطة ثم لو كان موزونا لم يتحقق التساوي بين المكيل والموزون لأن المكيل لا يقدر بالوزن كما لا يقدر الموزون بالكيل
فصل : فأما بيع بعض فروعها ببعض فيجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بنوعه متساويا وبه قال أبو حنيفة والمشهور عن الشافعي المنع من ذلك لأنه يعتبر تساويهما حالة الكمال وهو حال كونها حنطة وقد فات ذلك لأن أحد الدقيقين قد يكون من حنطة رزينة والآخر من حنطة خفيفة فيستويان دقيقا ولا يستويان حنطة ولنا أنهما تساويا حال العقد على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع التمر بالتمر إذا ثبت هذا فإنما يباع بعضه ببعض كيلا لأن الحنطة مكيلة ولم يوجد في الدقيق والسويق ما ينقلهما عن ذلك ويشترط أن يتساويا في النعومة ذكره أبو بكر وغيره من أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة لأنهما إذا تفاوتا في النعومة تفاوتا في ثاني الحال فيصير كبيع الحنطة بالدقيق وذكر القاضي أن الدقيق يباع بالدقيق وزنا ولا وجه له وقد سلم في السويق أنه يباع بالكيل والدقيق مثله فأما بيع الدقيق بالسويق فالصحيح أنه لا يجوز وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد أنه يجوز لأن كل واحد منهما أجزاء حنطة ليس معه غيره فأشبه الدقيق والسويق بالسويق
ولنا أن النار قد أخذت من أحدهما فلم يجز بيع بعضه ببعض كالمقلية بالنيئة وروي عن مالك و أبي يوسف و محمد و أبي ثور أنه لا بأس ببيع الدقيق بالسويق متفاضلا لأنهما جنسان ولنا أنهما أجزاء جنس واحد فلم يجر التفاضل بينهما كالدقيق والسويق بالسويق
فصل : فأما ما فيه غيره كالخبز وغيره فهو نوعان أحدهما : أن يكون ما فيه من غيره غير مقصود في نفسه إنما جعل فيه لمصلحته كالخبز والنشاء فيجوز بيع كل واحد منهما بنوعه إذا تساويا في النشافة والرطوبة ويعتبر التساوي في الوزن لأنه يقدر به العادة ولا يمكن كيله وقال مالك : إذا تحرى أن يكون مثلا بمثل فلا بأس به وإن لم يوزن به قال الأوزاعي و أبو ثور وحكي عن أبي حنيفة لا بأس به قرصا بقرصين وقال الشافعي لا يجوز بيع بعضه ببعض بحال إلا أن ييبس ويدق دقا ناعما ويباع بالكيل ففيه قولان لأنه مكيل يجب التساوي فيه ولا يمكن كيله فتعذرت المساواة فيه ولأن في كل واحد منهما من غير جنسه فلم يجز بيعه به كالمغشوش من الذهب والفضة وغيرهما ولنا على وجوب التساوي أنه مطعوم موزون فحرم التفاضل فيهما كاللحم واللبن ومتى وجب التساوي وجبت معرفة حقيقة التساوي في المعيار الشرعي كالحنطة بالحنطة والدقيق بالدقيق ولنا على الشافعي أن معظم نفعه في حال رطوبته فجاز بيعه به كاللبن باللبن ولا يمتنع أن يكون موزونا أصله غير موزون كاللحم والأدهان ولا يجوز بيع الرطب باليابس لانفراد أحدهما بالنقص في ثاني الحال فأشبه الرطب بالتمر ولا يمنع زيادة أخذ النار في أحدهما أكثر من الآخر حال رطوبتهما إذا لم يكثر لأن ذلك يسير ولا يمكن التحرز منه أشبه بيع الحديثة بالعتيقة ولا يلزم ما فيه من الملك والماء لأن ذلك ليس بمقصود فيه ويراد لمصلحته فهو كالملح في الشيرج وإن يبس الخبز فدق وجعل فتيتا بيع بمثله كيلا لأنه أمكن كيله فرد إلى أصله وقال ابن عقيل فيه وجه آخر أنه يباع بالوزن لأنه انتقل إليه النوع الثاني : ما فيه غيره مما هو مقصود كالهريسة والخزيرة والفالوذح وخبز الأبازير والخشكنانج والسنبوسك ونحوه فلا يجوز بيع بعضه ببعض ولا بيع نوع بنوع آخر لأن كل واحد منهما يشتمل على ما ليس من جنسه وهو مقصود كاللحم في الهريسة والعسل في الفالوذج والماء والدهن في الخزيرة ويكثر التفاوت في ذلك فلا يتحقق التماثل فيه وإذا لم يمكن التماثل في النوع الواحد ففي النوعين أولى
فصل : والحكم في الشعير وسائر الحبوب كالحكم في الحنطة ويجوز بيع الحنطة والمصنوع منها بغيرها من الحبوب والمصنوع منها لعدم اشتراط المماثلة بينهما والله أعلم

بيع اللحم باللحم وبالحيوان واللبن باللبن ومشتقاته
مسألة : قال : وسائر اللحمان جنس واحد
أراد جميع اللحم وجمعه - وهو اسم جنس - لاختلاف أنواعه ظاهر كلام الخرقي أن اللحم كله جنس واحد وذكره أبو الخطاب و ابن عقيل رواية عن أحمد وهو قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد وقال : الأنعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس يجوز التفاضل فيها رواية واحدة وإنما في اللحم روايتان إحداهما : أنه أربعة أجناس كما ذكرنا وهو مذهب مالك إلا أنه يجعل الأنعام والوحش جنسا واحدا فيكون عنده ثلاثة أصناف والثانية : أنه أجناس باختلاف أصوله وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهي أصح لأنها فروع أصول هي أجناس فكانت أجناسا كالأدقة والأخباز وهذا اختيار ابن عقيل واختيار القاضي أنها أربعة أجناس وحمل كلام الخرقي عليها واحتج بأن لحوم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها والقصد إلى أكلها فكانت أجناسا وهذا ضعيف جدا لأن كونها أجناسا لا يوجب حصرها في أربعة أجناس ولا نظير لهذا فيقاس عليه ولا يصح حمل كلام الخرقي عليه لعدم احتمال لفظه له وتصريحه في الأيمان بأنه إذا حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث فيتعين حمل كلامه على عمومه في أن جميع اللحم جنس لأنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه فكان جنسا واحدا كالطلع والصحيح أنه أجناس باختلاف أصوله وهذا الدليل ينتقض بالتمر الهندي والتمر البرني وعسل القصب وعسل النحل وغير ذلك فعلى هذا لحم الإبل كله صنف بخاتيها وعرابها والبقر عرابها وجواميسها صنف والغنم ضأنها ومعزها صنف ويحتمل أن يكونا صنفين لأن الله تعالى سماها في الأزواج الثمانية فقال : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } ففرق بين الإبل والبقر فقال : { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } والوحش أصناف بقرها صنف وغنمها صنف وظباؤها صنف وكل ماله اسم يخصه فهو صنف والطيور أصناف كل ما انفراد باسم وصفة فهو صنف فيباع لحم صنف بلحم صنف آخر متفاضلا ومتماثلا ويباع بصفة متماثلا ومن جعلها صنفا واحدا لم يجز عنده بيع لحم بلحم إلا متماثلا
مسألة : قال : ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل
اختار الخرقي أنه لا يباع بعضه ببعض إلا في حال جفافه وذهاب رطوبته كلها وهو مذهب الشافعي وذهب أبو حفص في شرحه إلى هذا قال القاضي والمذهب جواز بيعه ونص عليه وقوله في الرطب بالرطب بجواز البيع ينبه على إباحة بيع اللحم باللحم من حيث كان اللحم حال كماله ومعظم نفعه في حال رطوبته دون حال يبسه فجرى مجرى اللبن بخلاف الرطب فإن حال كماله ومعظم نفعه في حال يبسه فإذا جاز فيه البيع ففي اللحم أولى ولأنه وجد التماثل فيهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص فجاز كبيع اللبن باللبن فأما بيع رطبه بيابسه أو نيئه بمطبوخه أو مشويه فغير جائز لانفراد أحدهما بالنقص في الثاني فلم يجز كالرطب بالتمر
فصل : قال القاضي : ولا يجوز بيع بعضه ببعض إلا منزوع العظام كما لا يجوز بيع العسل بالعسل إلا بعد التصفية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وكلام أحمد رحمه الله يقتضي الإباحة من غير نزع عظامه ولا جفافه قال في رواية حنبل : إذا صار إلى الوزن مثلا بمثل رطلا برطل فاطلق ولم يشترط شيئا وذلك لأن العظم تابع للحم بأصل الخلقة فلم يشترط نزعه كالنوى في التمر وفارق العسل من حيث إن اختلاف الشمع بالعسل من فعل النحل لا من أصل الخلقة
فصل : واللحم والشحم جسنان والكبد صنف والطحال صنف والقلب صنف والمخ صنف ويجوز بيع كل صنف بصنف آخر متفاضلا وقال القاضي : لا يجوز بيع اللحم بالشحم وكره مالك ذلك إلا أن يتماثلا وظاهر المذهب إباحة البيع فيهما متماثلا ومتفاضلا وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنهما جنسان فجاز التفاضل فيهما كالذهب والفضة وإن منع منه لكون اللحم لا يخلو من شحم لم يصح لأن الشحم لا يظهر وإن كان فيه شيء فهو غير مقصود فلا يمنع البيع ولو منع لذلك لم يجز بيع لحم بلحم لاشتمال كل واحد منهما على ما ليس من جنسه ثم لا يصح هذا عند القاضي لأن السمين الذي يكون مع اللحم لحم عنده فلا يتصور اشتمال اللحم على الشحم وذكر القاضي أن اللحم الأبيض الذي على ظاهر اللحم الأحمر هو الأحمر جنس واحد وإن الألية والشحم جنسان وظاهر كلام الخرقي خلاف هذا لقوله أن اللحم لا يخلو من شحم ولو لم يكن هذا شحما لم يختلط لحم بشحم فعلى قوله كل أبيض في الحيوان يذوب بالإذابة ويصير دهنا فهو جنس واحد وهذا أصح لقول تعالى : { حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } فاستثنى ما حملت الظهور من الشحم ولأنه يشبه الشحم في ذوبه ولونه مقصده فكان شحما كالذي في البطن
فصل : وفي اللبن روايتان إحداهما : هو جنس واحد لما ذكرنا في اللحم والثانية : هو أجناس باختلاف أصوله كاللحم وهذا مذهب الشافعي وبه قال مالك لأن الأنعام كلها جنس واحد وقال ابن عقيل : لبن البقر الأهلية والوحشية جنس واحد على الروايات كلها لأن اسم البقر يشملهما وليس بصحيح لأن لحمها جنسان فكان لبنها جنسين كالإبل والبقر ويجوز بيع اللبن بغير جنسه متفاضلا وكيف شاء يدا بيد وبجنسه متماثلا كيلا قال القاضي : هو مكيل لا يباع إلا بالكيل لأنه العادة فيه ولا فرق بين أن يكونا حليبين أو حامضين أو أحدهما حليب والآخر حامض لأن تغيير الصفة لا يمنع جواز البيع كالجودة والرداءة وإن شيب أحدهما بماء أو غيره لم يجز بيعه بخالص ولا بمشوب من جنسه لأن معه من غير جنسه ليغير مصلحته
فصل : ويتفرع من اللبن قسمان ما ليس فيه غيره كالزبد والسمن والمخيض واللبأ وما فيه غيره وكلامهما لا يجوز بيعه باللبن لأنه مستخرج من اللبن فلم يجز بيعه بأصله الذي فيه منه كالحيوان باللحم والسمسم بالشيرج وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد أنه يجوز بيع اللبن بالزبد إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن وهذا يقتضي جواز بيعه به متفاضلا ومنع جوازه متماثلا قال القاضي : وهو الرواية لا تخرج على المذهب لأن الشيئين إذا دخلهما الربا لم يجز بيع أحدهما بالآخر ومعه من غير جنسه كمدة عجوة ودرهم بمدين والصحيح أن هذه الرواية دالة على جواز البيع في مسألة مدة عجوة وكونها مخالفة لروايات أخر لا يمنع كونها رواية كسائر الروايات المخالفة لغيرها لكنها مخالفة لظاهر المذهب والحكم في السمن كالحكم في الزبد وأما اللبن بالمخيض الذي فيه زبده فلا يجوز نص عليه أحمد فقال : اللبن بالمخيض لا خير فيه ويتخرج الجواز كالتي قبلها وأما اللبن باللبأ فإن كان قبل أن تمسه النار جاز متماثلا لأنه لبن بلبن وإن مسته النار لم يجز وذكر القاضي وجها أنه يجوز وليس بصحيح لأن النار عقدت أجزاء أحدهما وذهبت ببعض رطوبته فلم يجز بيعه بما لم تمسه النار كالخبز بالعجين والمقلية بالنيئة وهذا مذهب الشافعي وأما بيع النوع من فروع اللبن بنوعه فما فيه خلط من غير اللبن كالكشك والكامخ ونحوهما لا يجوز بيعه بنوعه ولا بغيره لأنه مختلط بغيره فهو كمسألة مد عجوة وما ليس فيه غيره أو فيه غيره إلا أن ذلك الغير لمصلحته فيجوز بيع كل نوع منه بعضه ببعض إذا تساويا في النشافة والرطوبة فيبيع المخيض بالمخيض واللبأ باللبأ والجبن بالجبن والمصل بالمصل والاقط بالاقط والزبد بالزبد والسمن بالسمن متساويا ويعتبر التساوي بين الاقط بالاقط بالكيل لأنه قدر بالصاع في صدقة الفطر وهو يشبه المكيلات وكذلك المصل والمخيض ويباع الخبز بالخبز بالوزن لأنه موزون ولا يمكن كيله فأشبه الخبز وكذلك الزبد والسمن ويتخرج أن يباع السمن بالكيل ولا يباع ناشف من ذلك برطب كما لا يباع الرطب بالتمر ويحتمل كلام الخرقي أن لا يباع رطب من ذلك برطب كاللحم وأما بيع ما نزع من اللبن بنوع آخر كالزبد والسمن والمخيض فظاهر المذهب أنه يجوز بيع الزبد والسمن بالمخيض مماثلا ومتفاضلا لأنهما جنسان وذلك لأنهما شيئان من أصل واحد أشبها اللحم بالشحم وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض الثوري و الشافعي و إسحاق ولأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود وهو يسير فأشبه الملح في الشيرج وبيع السمن بالمخيض أولى بالجواز لخلو السمن من المخيض ولا يجوز بيع الزبد بالسمن لأن في الزبد لبنا يسيرا ولا شيء في السمن فيختل التماثل ولأنه مستخرج من الزبد فلم يجز بيعه به كالزيتون بالزيت وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي : عندي يجوز لأن اللبن في الزبد غير مقصود فوجوده كعدمه ولذلك جاز بيعه بالمخيض وبزبد مثله وهذا لا يصح لأن التماثل واجب بينهما وانفراد أحدهما بوجود اللبن فيه يخل بالتماثل فلم يجز بيعه به كتمر منزوع النوى بتمر فيه نواه ولأن أحدهما ينفرد برطوبة لا توجد في الآخر فأشبه الرطب بالتمر والعنب بالزبيب وكل رطب بيابس من جنسه ولا يجوز بيع شيء من الزبد والسمن والمخيض بشيء من أنواع اللبن كالجبن واللبأ ونحوهما لأنه هذه الأنواع لم ينتزع منها شيء فيكون حكمها حكم اللبن الذي فيه زبده فلم يجز بيعها بها كبيع اللبن بها وأما بيع الجبن بالاقط فلا يجوز مع رطوبتهما أو رطوبة أحدهما كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر وإن كانا يابسين احتمل أن لا يجوز أيضا لأن الجبن موزون والاقط مكيل فلم يجزز بيع أحدهما بالآخر كالخبز بالدقيق ويحتمل الجواز إذا تماثلا كبيع الخبز بالخبز
مسألة : قال : ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه وهو مذهب مالك و الشافعي وقول فقهاء المدينة السبعة وحكي عن مالك أنه لا يجوز بيع اللحم ويجوز بغيره وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه أشبه بيع اللحم بالدراهم أو بلحم من غير جنسه ولنا ما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان ] رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ابن عبد البر : هذا أحسن أسانيده و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى أن يباع حي بميت ] ذكره الإمام أحمد وروي عن ابن عباس أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزاء بهذا العناق فقال أبو بكر : لا يصلح هذا قال الشافعي لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك وقال أبو الزناد وكل من ادركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع السمسم بالشيرج وبهذا فارق ما قاسوا عليه وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يجوز فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم فقال : لا يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يباع حي بميت واختار القاضي جوازه و للشافعي فيه قولان واحتج من منعه بعموم الأخبار وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه قال : مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز كما لو باعه بالأثمان وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا وهو قول عامة الفقهاء

لا يجوز بيع شيء من مال الربا بأصله الذي فيه منه
فصل : ولا يجوز بيع شيء من مال الربا بأصله الذي فيه منه كالسمسم بالشيرج والزيتون بالزيت وسائر الأدهان بأصولها والعصير كعصير العنب والرمان والتفاح والسفرجل وقصب السكر لا يباع شيء منها بأصله وبه قال الشافعي و ابن المنذر وقال أبو ثور : يجوز لأن الأصل مختلف والمعنى مختلف
وقال أبو حنيفة : يجوز إذا علم يقينا أن ما في الأصل من الدهن والعصير أقل من المنفرد وإن لم يعلم لم يجز
ولنا أنه مال ربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان وقد أثبتنا ذلك بالنص

أما بيع شيء معتصراته بجنسه فيجوز متماثلا ويغير جنسه
فصل : فأما بيع شيء من هذه المعتصرات بجنسه فيجوز متماثلا وجوز بيعه بغير جنسه متفاضلا وكيف شاء لأنهما جنسان ويعتبر التساوي فيهما بالكيل لأنه يقدر به ويباع به عادة وهذا مذهب الشافعي وسواء كانا مطبوخين أو نيئين وقال أصحاب الشافعي : لا يجوز بيع المطبوخ بجنسه لأن النار تعقد أجزاؤهما فيختلف ويؤدي إلى التفاضل ولنا أنهما متساويان في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص فأشبه النيء بالنيء فأما بيع النيء بالمطبوخ من جنس واحد فلا يجوز لأن أحدهما ينفرد بالنقص في ثاني الحال فلم يجز بيعه به كالرطب بالتمر وإن باع عصير شيء من ذلك بثلفه فإن كان فيه بقية من المستخرج منه لم يجز بيعه به فلا يجوز بيع الشيرج بالكسب ولا الزيت بثفله الذي فيه بقية من الزيت إلا على الرواية التي يجوز فيها مسألة مد عجوة فإن لم يبق فيه شيء من عصيره جاز بيعه به متفاضلا ومتماثلا لأنهما جنسان

بيع الربوي مضمونا إلى غيره بربوي من جنسه أو ما كان مشتملا على جنسين من أصله
فصل : وإن باع شيئا فيه الربا بعضه ببعض ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كمد ودرهم بمد ودرهم أو بمدين أو بدرهمين أو باع شيئا محلى بجنس حليته فهذه المسألة تسمى مسألة مد عجوة والمذهب أنه لا يجوز ذلك نص على ذلك أحمد في مواضع كثيرة وذكره قدماء الأصحاب قال ابن أبو موسى : في السيف المحلى بالمنطقة والمراكب المحلاة بجنس ما عليها لا يجوز قولا واحد وروي هذا عن سالم ابن عبد الله و القاسم بن محمد و شريح و ابن سيرين وبه قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه فإن مهنا نقل عن أحمد في بيع الزبد باللبن يجوز إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن وروى حرب قال : قلت لأحمد دفعت دينارا كوفيا ودرهما وأخذت دينارا شاميا وزنهما سواء لكن الكوفي أوضع قال : لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضه وكذلك روى عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائي وروي الميموني أنه سأله لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها ؟ فقال : لا يشتريها حتى يفصلها إلا أن هذا أهون من ذلك لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله وفيه غير النوع الذي يشتري به فإذا كان من فضل الثمن إلا أن من ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حتى يفصله قيل له فما تقول أنت ؟ قال : هذا موضع نظر وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن الدراهم المسيبية بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم ؟ قال : لا أقول فيه شيئا قال أبو بكر : روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة عشر نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل إلا الميموني ونقل مهنا كلاما آخر وقال حماد بن أبي سليمان و أبو حنيفة : يجوز هذا كله إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه وقال الحسن : لا بأس ببيع السيف المحل بالفضة بالدراهم وبه قال الشعبي و النخعي واحتج من أجاز ذلك بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد لأنه لو اشترى لحما من قصاب جاز مع احتمال كونه غير ميتة ولكن وجب حمله على أنه مذكى تصحيحا للعقد ولو اشترى من إنسان شيئا جاز مع احتمال كونه غير ملكه ولا إذن له في بيعه تصحيحا للعقد أيضا وقد أمكن التصحيح ههنا بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل
ولنا ما [ روى فضالة بن عبيد قال : أتي النبي صلى الله عليه و سلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا حتى تميز بينهما قال : فرده حتى ميز بينهما ] رواه أبو داود وفي لفظ رواه مسلم قال : [ فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : الذهب بالذهب وزنا بوزن ] ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه فإذا اختلفت القيمة اختلفت ما يأخذه من العوض بيانه أنه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة كان ثمن أحدهما ثلثها فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن ولذلك إذا اشترى شقصا وسيفا بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما ومدا قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث فهذا إذا تفاوتت القيم ومع التساوي يجهل ذلك لأن التقويم ظن وتخمين والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه في باب الربا ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص وقولهم يجب تصحيح العقد ليس كذلك بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد ولذلك لو باع بثمن وأطلق وفي البلاد نقود بطل ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه أما إذا اشترى من إنسان شيئا فإنه يصح لأن الظاهر أنه ملكه لأن اليد دليل الملك وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة
فصل : فأما إن باع نوعين مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس كدينار مغربي ودينار سابوري بدينارين مغربيين أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين أو قراضتين أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء أو تمرا برنيا ومعقليا بابرحيمي فإنه يصح قال أبو بكر وأومأ إليه أحمد واختار القاضي أبو يعلى أن الحكم فيها كالتي قبلها وهو مذهب مالك و الشافعي لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا وروي عن أحمد منع ذلك في النقد وتجويزه في الثمن نقله أحمد بن القاسم لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلافهما ويشق تمييزها فعفي عنها بخلاف الأثمان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل ] وهذا يدل على إباحة البيع عند وجود المماثلة المراعية وهي المماثلة في الموزون وزنا وفي المكيل كيلا ولأن الجودة ساقطة في باب الربويات فيما قوبل بجنسه فيما لو اتحد النوع في كل واحد من الطرفين فكذلك إذا اختلفا واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة ولأنه باع ذهبا بذهب متساويا في الوزن فصح كما لو اتفق النوع وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات بدليل ما لو باع نوعا يشتمل على جيد ورديء
فصل : وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به إلا أنه غير مقصود كدار مموه سقفها بالذهب جاز لا أعلم فيه خلافا وكذلك لو باع دارا بداره مموه سقف كل واحدة منها بذهب أو فضة جاز لأن ما فيه الربا غير مقصود بالبيع فوجوده كعدمه وكذلك لو اشترى عبدا له مال فاشترط ماله وهو من جنس الثمن جاز إذا كان المال غير مقصود ولو اشترى عبدا بعبد واشترط كل واحد منهما مال العبد الذي اشتراه جاز إذا لم يكن ماله مقصودا لأنه غير مقصود بالبيع فأشبه التمويه في السقف ولذلك لا تشترط رؤيته في صحة البيع ولا لزومه وإن باع شاة ذات لبن بلبن أو عليها صوف بصوف أو باع لبونا بلبون وذات صوف بمثلها ففيه وجهان أحدهما : الجواز اختاره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة لأن ما فيه الربا غير مقصود فلم يمنع كالدار المموه سقفها والثاني : المنع وهو مذهب الشافعي لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه أشبه الحيوان باللحم والفرق بينهما أن اللحم في الحيوان مقصود بخلاف اللبن ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن وجها واحدا لأن اللبن لا أثر له ولا يقابله شيء من الثمن فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن وحبات الشعير في الحنطة ولا نعلم فيه أيضا خلافا وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز بكل حال ولو باع نخلة عليها تمر بتمر أو بنخلة عليها تمر ففيه أيضا وجهان أحدهما : الجواز اختاره أبو بكر لأن التمر غير مقصود بالبيع والثاني : لا يجوز ووجه الوجهين ما ذكرناه في المسألة قبلها واختار القاضي أنه لا يجوز وفرق بينها وبين الشاة ذات اللبن بكون الثمرة يصح إفراده كالسيف المحلى يباع بجنس حليته وما لا يمنع وإن جاز إفراده كمال العبد
فصل : وإن باع جنسا فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فذلك ينقسم أقساما أحدها : أن يكون غير المقصود يسيرا لا يؤثر في كيل ولا وزن كالملح فيما يعمل فيه وحبات الشعير في الحنطة فلا يمنع لأنه يسير لا يخل بالتماثل وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع لذلك ولو باع ذلك بجنس غير المقصود الذي معه مثل أن يبيع الخبز بالملح جاز لأن وجود ذلك كعدمه الثاني : أن يكون غير المقصود كثيرا إلا أنه لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر فهذا يجوز بيع الشيء منه بمثله ويتنزل خلطه منزلة رطوبته لكونه من مصلحته فلا يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب لإفضائه إلى التفاضل فجرى مجرى بيع التمر بالرطب ومنع الشافعي ذلك لكل إلا بيع الشيرج بالشيرج لكون الماء لا يظهر في الشيرج الثالث : أن يكون غير مقصود كثيرا وليس من مصلحته كاللبن المشوب بالماء والأثمان المغشوشة بغيرها فلا يجوز بيع بعضها ببعض لأن خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل المقصود فيه وإن باعه بجنس غير المقصود كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم احتمل الجواز لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في الأصل وإن باع دينارا مغشوشا بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز لأنه يخل بالتماثل المقصود وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على الوجهين أولاهما الجواز لأنهما تماثلا في المقصود وفي غيره ولا يقضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له
فصل : ولو دفع إليه درهما فقال : أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم وبنصفه فلوسا أو حاجة أخرى جاز لأنه اشترى نصفا بنصف وهما متساويان فصح كما لو دفع إليه درهمين وقال : بعني بهذا الدرهم فلوسا وأعطني بالآخر نصفين وإن قال : أعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا جاز أيضا لأن معناه بذلك ولأن ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة فإن قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة النصف الذي مع الفلوس يقينا وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء
فصل : وما كان مشتملا على جنسين بأصل الخلقة كالتمر الذي اشتمل على النوى وما عليه والحيوان المشتمل على لحم وشحم وغيره وأشباه ذلك فهذا إذا قوبل بمثله جاز بيعه به ولا نظر إلى ما فيه فإن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز بيع التمر بالتمر والحيوان بالحيوان وقد علم اشتمالهما على ما فيهما ولو باع ذلك بنوع غير مقصود فيه كبيع التمر الذي فيه النوى بالنوى ففيه عن أحمد روايتان قد ذكرناهما فيما مضى فأما العسل قبل تصفيته فقال أصحابنا : لا يجوز بيع بعضه ببعض لاشتماله على عسل وشمع وذلك بفعل النحل فأشبه السيف المحلى

التعامل بالربا في دار الحرب
فصل : ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام وبه قال مالك و الأوزاعي و أبو يوسف و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة : لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب : لا ربا بينهما لما روى مكحول [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب ] ولأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام فما لم يكن كذلك كان مباحا ولنا قول الله تعالى : { وحرم الربا } وقوله : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل وقوله : [ من زاد أو ازداد فقد أربى ] عام وكذلك سائر الأحاديث ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب كالربا بين المسلمين وخبرهم مرسل لا نعرف صحته ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به وهو مع ذلك مرسل محتمل ويحتمل أن المراد بقوله : [ لا ربا ] النهي عن الربا كقوله : { لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل وهو محرم بالإجماع فكذا ههنا

وجود عيب في أحد عوضي الصرف
مسألة : قال : وإذا اشترى ذهبا بورق عينا بعين فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا فله الخيار بين أن يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه وكان العيب يدخل عليه من غير جنسه
معنى قوله عينا بعين هو أن يقول بعتك هذا الدينار بهذه الدراهم ويشير إليهما وهما حاضران وبغير عينه أن يوقع العقد على موصوف غير مشار إليه فيقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم ناصرية وإن وقع القبض في المجلس وقد يكون أحد العوضين معينا دون الآخر وكل ذلك جائز والمشهور في المذهب أن النقود تتعين بالتعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها فعلى هذا إذا تبايعا ذهبا بفضة مع التعيين فيهما ثم تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا لم يخل من قسمين أحدهما : أن يكون العيب غشيا من غير جنس المبيع مثل أن يجد الدراهم رصاصا أو نحاسا أو فيه شيء من ذلك أو الدينار مسا فالصرف باطل نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وذكر أبو بكر فيها ثلاث روايات إحداهن : البيع باطل والثانية : البيع صحيح لأن البيع وقع على عينه وللمشتري الخيار بين الإمساك أو الرد وأخذ البدل والثالثة : يلزمه العقد وليس له رده ولا بدله
ولنا أنه باعه غير ما سمى له فلم يصح كما لو قال بعتك هذه البغلة فإذا هو حمار أو هذا الثوب القز فوجده كتابا وأما القول بأنه المبيع فغير صحيح فإن اشتري معيبا لم يعلم عيبه فلم يلزمه ذلك بغير أرش كسائر المبيعات ثم إن أبا بكر يقول فيمن دلس العيب لا يصح بيعه مع وجود ذات المسمى في البيع فههنا مع اختلاف الذات أولى القسم الثاني : أن يكون العيب من جنسه مثل كون الفضة سوداء أو خشيه تتفطر عند الضرب أو سكتها مخالفه لسكة السلطان فالعقد صحيح والمشتري مخير بين الإمساك وبين فسخ العقد والرد وليس له البدل لأن العقد واقع على عينه فإذا أخذ غيره أخذ ما لم يشتره وإن قلنا إن النقد لا يتعين بالتعيين في العقد فله أخذ البدل ولا يبطل العقد لأن الذي قبضه ليس هو المعقود عليه فأشبه السلم إذا قبضه فوجد به عيبا وإن كان العيب في بعضه فله رد الكل أو إمساكه وهل له رد المعيب وإمساك الصحيح ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة والحكم فيما إذا كان العوضان من جنس واحد كالحكم في الجنسين على ما ذكرنا لكن يتخرج على قول من منع بيع النوعين بنوع واحد من ذلك الجنس أنه إذا وجد بعض العوض معيبا أن يبطل العقد في الجميع لأن الذي يقابل المعيب أقل من الذي يقابل الصحيح فيصير كمسألة مد عجوة ومذهب الشافعي مثل ما ذكرنا في هذا الفصل سواء

وإذا أراد أخذ أرش العيب والعوضان في الصرف من جنس واحد
فصل : ولو أراد أخذ أرش العيب والعوضان في الصرف من جنس واحد لم يجز لحصول الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد وخرج القاضي وجها بجواز أخذ الأرش في المجلس لأن الزيادة طرأت بعد العقد وليس لهذا الوجه وجه فإن أرش العيب من العوض يجبر به في المرابحة ويأخذ به الشفيع ويرد به إذا رد المبيع بفسخ أو إقالة ولو لم يكن من العوض فبأي شيء استحقه المشتري فإنه ليس بهبة على أن الزيادة في المجلس من العوض ولو لم يكن أرشا فالأرش أولى وإن كان الصرف بغير جنسه فله أخذ الأرش في المجلس لأن المماثلة غير معتبرة وتخلف قبض بعض العوض عن بعض ما داما في المجلس لا يضر فجاز كما في سائر البيع وإن كان بعد التفرق لم يجز لأنه يفضي إلى حصول التفرق قبل القبض لأحد العوضين إلا أن يجعلا الأرش من غير جنس الثمن كأنه أخذ أرش عيب الفضة قفيز حنطة فيجوز وكذلك الحكم في سائر أموال الربا فيما بيع بجنسه أو بغير جنسه مما يشترط فيه القبض فإذا كان الأرش مما لا يشترط قبضه كمن باع قفيز حنطة بقفيزي شعير فوجد أحدهما عيبا فأخذ أرشه درهما جاز وإن كان بعد التفرق لأنه لم يحصل التفرق قبل قبض ما شرط فيه القبض
فصل : قول الخرقي إذا كان بصرف يومه يعني الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته يوم اصطرفا فإن نقصت قيمته كأن أخذ عشرة بدينار فصارت أحد عشر بدينار فظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يملك الرد لأن المبيع تعيب في يده لنقص قيمته وإن كانت قيمته قد زادت مثل أن صارت تسعة بدينار لم يمنع الرد لأنه زيادة وليس بعيب والصحيح أن هذا لا يمنع الرد لأن تغير السعر ليس بعيب ولهذا لا يضمن في الغصب ولا يمنع من الرد بالعيب في القرض ولو كان عيبا فإن ظاهر المذهب أنه إذا تعيب المبيع عند المشتري ثم ظهر على عيب قديم فله رده ورد أرش العيب الحادث عنده وأخذ الثمن

جواز الصرف بغير وزن إذا علما قدر العوضين
فصل : وإن تلف العوض في الصرف بعد القبض ثم علم عيبه فسخ العقد ورد الموجود وتبقى قيمة العيب في ذمة من تلف في يده فيرد مثلها أو عوضها إن اتفقا على ذلك سواء كان الصرف بجنسه أو بغير جنسه ذكره ابن عقيل وهو قول الشافعي قال ابن عقيل : وقد روي عن أحمد جواز أخذ الأرش والأول أولى إلا أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين
فصل : إذا علم المصطرفان قدر العوضين جاز أن يتبايعا بغير وزن وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدقه فإذا باع دينارا بدينار كذلك وافترقا فوجد أحدهما ما قبضه بطل الصرف لأنهما تبايعا ذهبا بذهب متفاضلا فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار نظرت في العقد فإن كان قال : بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل لأنه باع ذهبا بذهب متفاضلا وإن قال : بعتك دينارا بدينار ثم تقابضا كان الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لأنه قبضه على أنه عوض ولم يفسد العقد لأنه إنما باع دينارا بمثله وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه فإن أراد دفع عوض الزائد جاز سواء كان من جنسه أو غير جنسه لأنه معاوضة مبتدأة وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلفا بغيره معيبا بعيب الشركة ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه إلا أن يكونا في المجلس فيرد الزائد ويدفع بدله ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير فوفاه عشرة عددا فوجدها أحد عشر كان هذا الدينار الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه لأنه قبضه على أنه عوض عن ماله فكان مضمونا بهذا القبض ولمالكه التصرف فيه كيف شاء
فصل : والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في النقد بمعنى أنه يثبت الملك بالعقد فيما عيناه ويتعين عوضا فيه فلا يجوز إبداله وإن خرج مغصوبا بطل العقد وبهذا قال مالك و الشافعي وعن أحمد أنها لا تتعين بالعقد فيجوز إبدالها ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجوز إطلاقها في العقد فلا تتعين بالتعيين فيه كالمكيال والصنجة ولنا أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين كسائر الأعواض ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر ويفارق ما ذكروه فإنه ليس بعوض وإنما يراد لتقدير العقود عليه وتعريف قدره ولا يثبت فيها الملك بحال بخلاف مسألتنا

أخذ بدل العيب في المصارفة
مسألة : قال : وإذا تبايعا ذلك بغير عينه فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا فله البدل إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه كالوضوح في الذهب والسواد في الفضة
يعني اصطرفا في الذمة نحو أن يقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم فيقول الآخر قبلت فيصح البيع سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أو لم يكونا إذا تقابضا قبل الافتراق بأن يستقرضا أو غير ذلك وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك لا يجوز الصرف إلا أن تكون العينان حاضرتين وعنه لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين وعن زفر مثله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبيعوا غائبا منها بناجز ] ولأنه إذا لم يعين أحد العوضين كان بيع دين بدين وهو غير جائز ولنا أنهما تقابضا في المجلس فصح كما لو كانا حاضرين والحديث يراد به أن لا يباع عاجل بآجل أو مقبوض بغير مقبوض بدليل ما لو عين أحدهما فإنه يصح وإن كان الآخر غائبا والقبض في المجلس جرى مجرى القبض حالة العقد ألا ترى إلى قوله : [ عينا بعين يدا بيد ] والقبض يجري في المجلس كذا التعين إذا ثبت هذا فلا بد من تعيينهما بالتقابض في المجلس ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا قبل التفرق فله المطالبة بالبدل سواء كان العيب من جنسه أو من غير جنسه ولأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه فله المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه وإن رضيه بعينه والعيب من جنسه جاز كما لو رضي بالمسلم فيه معيبا وإن اختار أخذ الأرش فإن كان العوضان من جنس واحد لم يجز لإفاضائه إلى التفاضل فيما يشترط فيه التماثل وإن كانا من جنسين جاز فأما إن تقابضا وافترقا ثم وجد العيب من جنسه فله إبداله في إحدى الروايتين اختارها الخلال و الخرقي وروي ذلك عن الحسن و قتادة وبه قال أبو يوسف و محمد وهو أحد قولي الشافعي لأن ما جاز إبداله قبل التفرق جاز بعده كالمسلم فيه
والرواية الثانية : ليس له ذلك وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي لأن يقبضه بعد التفرق ولا يجوز ذلك في الصرف ومن صار إلى رواية الأولى قال : قبض الأول صح به العقد وقبض الثاني يدل على الأول ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس الرد فإن تفرقا من غير قبض بطل العقد وإن وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الأولى له البدل وعلى الثانية يبطل في المردود وهل يصح فيما لم يرد ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولا فرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين وقال مالك : إن وجد درهما زيفا فرضي به جاز وإن رده انتقض الصرف في دينار وإن رد أحد عشر درهما انتقض الصرف في دينارين وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر
ولنا أن ما لا عيب فيه لم يرد فلم ينتقض الصرف فيما يقابله كسائر العوض وإن اختار واجد العيب الفسخ فعلى قولنا له البدل ليس له الفسخ إذا أبدل له لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب وعلى الرواية الأخرى له الفسخ أو الإمساك في الجميع لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع إبقاء العقد فإن اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق لم يكن له ذلك لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف إلا على الرواية الأخرى

شرط جواز المصارفة في الذمة
فصل : ومن شرط المصارفة في الذمة أن يكون العوضان معلومين إما بصفة يتميزان بها وإما أن يكون للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الإطلاق إليه ولو قال : بعتك دينارا مصريا بعشرين درهما من نقد عشرة بدينار لم يصح إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار إلا نوع واحد فتنصرف تلك الصفة إليه وكذلك الحكم في البيع
فصل : إذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح وبهذا قال الليث و الشافعي وحكى ابن عبد البر عن مالك و أبي حنيفة جوازه لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدنانير من غير تعيين ولنا أنه بيع دين بدين ولا يجوز ذلك بالإجماع قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز وقال أحمد : إنما هو إجماع وقد روى أبو عبيد في الغريب [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ] وفسره بالدين إلا أن الأثرم روى عن أحمد أنه سئل أيصح في هذا الحديث ؟ قال : لا وإنما صح الصرف بغير تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد ولو كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئا بعد شيء نظرت فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار صح نص عليه أحمد وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد ذلك فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز نص عليه أيضا لأن الدنانير والدراهم صارت دينا فيصير بيع دين بدين وإن قبض أحدهما من الآخر ما له عليه ثم صارفه بعين وذمة صح وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شيء ولم يقضه ذلك وقت دفعها إليه ثم أحضرها وقوماها يحتسب بقيمتها يوم القضاء لا يوم دفعها إليه لأنها قبل ذلك لم تصرف في ملكه إنما هي وديعة في يده فإن تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها ويحتمل أن تكون من ضمان القابض لها إذا قبضها بنية الاستيفاء لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء والمقبوض في عقد فاسد كالمقبوض في العقد الصحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ منه دراهم إدرارا لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك بل كل واحد منهما في ذمة من قبضه فإذا أرادا التصارف أحضر أحدهما واصطرفا بعين وذمة

اقتضاء أحد النقدين من الآخر بالصرف
فصل : ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة وروي ذلك عن ابن مسعود لأن القبض شرط وقد تخلف ولنا ما روى أبو داود و الأثرم في سننهما [ عن ابن عمر قال : كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم في بيت حفصة فقلت : يا رسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع الدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا بأس أن يأخذها بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شيء ] قال أحمد : إنما يقضيه إياها بالسعر لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر إلا ما قال أصحاب الرأي : إنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضا عليه إذا اختلف الجنس كما لو كان العوض عرضا ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ] وروي عن ابن عمر أن بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كرى لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر : اعطوه بسعر السوق ولأن هذا جرى مجرى القضاء فيقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس والتماثل ههنا من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة قيل لأبي عبد الله فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه فقال : إذا كان مما يتغابن الناس به فسهل فيه ما لم يكن حيلة ويزاد شيئا كثرا

حكم المقضي في الذمة إذا كان مؤجلا
فصل : فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف أحمد فيه : وقال القاضي : يحتمل وجهين أحدهما : المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه فكان القبض ناجزا في أحدهما والناجز يأخذ قسطا من الثمن والآخر : الجواز وهو قول أبي حنيفة لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل والصحيح الجواز إذا قضاه بسعر يومها ولم يجعل للمقضي فضلا لأجل تأجيل ما في الذمة لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض فأشبه ما لو قضاه من نجنس الدين ولم يستفصل النبي صلى الله عليه و سلم ابن عمر حين سأله ولو افترق الحال لسأل واستفصل

قضاء ما في الذمة هل يدخل فيه الربا
فصل : قال أحمد : ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا فقال : استوف حقك منه فاستوفاه بعد يومين جاز ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره واستيفاء حقه من ثمنها فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه ولأنه متهم ولو باع جارية بدنانير فأخذ بها دراهم فردت الجارية بعيب أو إقالة لم يكن للمشتري إلا الدنانير لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف نص أحمد على هذه المسائل
فصل : إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد و سعيد بن المسيب و سالم و الحسن و حماد و الحكم و الشافعي و مالك و الثوري و هشيم و ابن علية و إسحاق و أبو حنيفة وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلاكما قد أذن بحرب من الله ورسوله وروي عن ابن عباس أنه لم ير به بأسا وروي ذلك عن النخعي و أبي ثور لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالا وقال الخرقي : لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته ولنا أنه بيع الحلول فلم يجز كما لو زاده الذي له الدين فقال له : أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده وهو يبيع بعض ماله ببعض فدخلت المسامحة فيه ولأنه سبب العتق فسومح فيه بخلاف غيره

حكم صرف وانفقا المغشوش
مسألة : قال : فإن كان العيب دخيلا عليه من غير جنسه كان الصرف فيه فاسدا
يعني إذا وجد أحدهما ما قبضه مغشوشا بغش من غير جنسه فينظر فيه فإن كان الصرف عينا بعين فهو فاسد لما أسلفناه وإن كان بغير عين وعلم ذلك في المجلس فرده وأخذ بدله فالصرف صحيح لأنه عين المعقود عليه وإن افترقا قبل رده فالصرف فيه فاسد أيضا لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه ولم يقبض ما يصلح عوضا عن المعقود عليه وهذا ظاهر كلام الخرقي وقيل عن أحمد إنه إذا أخذ البدل في مجلس الرد لم يبطل كما لو كان العيب من جنسه وهذا فيما إذا لم يكن مشتري المعيب عالما بعيبه فأما إن علم بعيبه فاشتراه على ذلك والعيب من جنسه جاز ولا خيار له ولا بدل وإن كان من غير جنسه وكان الصرف ذهبا بذهب أو فضة بمثلها فالصرف فيه فاسد لأنه يخل بالتماثل إلا أن يبيع ذهبا أو فضة مغشوشا بمثل غشه كبيعه دينارا صوريا بمثله مع علمه بتساوي غشهما وقد ذكرنا أن الظاهر جوازه وإن باع مغشوشا بغير مغشوش لم يجز إلا أن يكون للغش قيمة فيخرج على مسألة مد عجوة وإن كان الصرف في جنسين بفضه انبنى على انفاق المغشوشة
فصل : وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان أظهرهما الجواز نقل صالح عنه في دراهم يقال لها المسيبية عامتها نحاس إلا شيئا فيها فضة فقال : إذا كان شيئا اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا عليها فأرجو أن لا يكون بها بأس والثانية : التحريم نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مس ونحاس يشتري بها ويباع فلا يجوز أن يبتاع بها أحد كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام وقال أصحاب الشافعي : إن كان الغش مما لا قيمة له جاز الشراء بها وإن كان مما له قيمة ففي جواز انفاقها وجهان واحتج من منع انفاق المغشوش بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من غشنا فليس منا ] وبأن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع نفاية بيت المال ولأن المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة والأولى أن يحمل كلام أحمد في جواز على الخصوص فيما ظهر غشه واصطلح عليه فإن المعاملة به جائزة إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا مميزين ولأن هذا مستفيض في الأعصار جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر وليس شراؤه بها غشا للمسلمين ولا تغريرا لهم والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين وقد أشار أحمد إلى هذا في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف ما يصنع بها ؟ قال يسبكها قيل له فبيعها بدنانير ؟ قال : لا قيل يبيعها بفلوس ؟ قال : لا فبسلعه ؟ قال : لا إني أخاف أن يغر بها مسلما قيل لأبي عبد الله أيتصدق بها ؟ قال إني أخاف أن يغر بها مسلما وقال : ما ينبغي له لأنه يغر بها المسلمين ولا أقول إنه حرام لأنه على تأويل وذلك إنما كرهته لأنه يغر بها مسلما فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وعلى هذا يحمل منع عمر نفاية بيت المال لما فيه من التغرير بالمسلمين فإن مشتريها ربما خلطها بدارهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانا مما اصطلح على انفاقه لم يكن نفاية فإن قيل فقد روي عن عمر أنه قال من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع فليشتر بها سحق الثياب وهذا دليل على جواز انفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا قد قال أحمد : معنى زافت عليه دراهمه أي نفيت ليس أنها زيوف فيتعين حمله على هذا جمعا بين الروايتين عنه ويحتمل أنه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على أحد ولا يحصل بها تغرير وإن تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى ولا فرق بين ما كان غشه ذا بقاء وثبات كالرصاص والنحاس وما لا ثبات له كالزرنيخية والاندرانية وهو زرنيخ يطلى عليه فضة فإذا دخل النار استهلك الغش وذهب

تفرق المتصارفين قبل القبض فلا بيع بينهما
مسألة : قال : ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما
الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لحثته بغير خلاف قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ] وقوله عليه السلام : [ بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد ] ونهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الذهب بالورق دينا ونهى أن يباع غائب منها بناجز كلها أحاديث صحاح ويجزئ القبض في المجلس وإن طال ولو تماشيا مصطبين إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز وبهذا قال الشافعي وقال مالك : لا خير في ذلك لأنهما فارقا مجلسهما ولنا أنهما لم يفترقا قبل التقابض فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما أو راكبين على دابة واحدة تمشي بها وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي للذين مشيا إليه من جانب العسكر : وما أراكما افترقتما وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف لفوات شرطه وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما لم يقبض وفيما يقابله من العوض وهل يصح في المقبوض ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولو وكل أحدهما وكيلا في القبض فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز وقام قبض وكيله مقام قبضه سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل لأن القبض في المجلس شرط وقد فات وإن تخابرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك لأنهما لم يفترقا قبل القبض ويحتمل أن يبطل إذا قلنا بلزوم العقد وهو مذهب الشافعي لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض أشبه ما لو افترقا والصحيح الأول فإن الشرط التقابض في المجلس وقد وجد واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا فإن الصرف بقع لازما صحيحا قبل القبض ثم يشترط القبض في المجلس
فصل : ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم وليس معه إلا خمسة دراهم لم يجز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصرف في نصف الدينار وهل يبطل فيما يقابل الخمسة المقبوضة ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وإن أرادا التخلص فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه أو يفسخان العقد كله ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ثم يأخذ الدينار كله فيكن ما اشتراه منه له وما بقي أمانة في يده ثم يفترقان ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار أو اشترى به منه شيئا أو جعله سلما في شيء أو وهبه له جاز وكذلك أن وكله فيه ولو اشترى فضه بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين وقال : أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر جاز وإن طال ويكون الزائد أمانة في يده لا شيء عليه في تلفه نص أحمد على أكثر هذه المسائل فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم فاشترى بها نصف دينار وقبض دينارا كاملا ودفع إليه دراهم ثم اقترضها منه فاشترى بها النصف الباقي أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه ودفعها إليه عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة فلا بأس

بيع الربوي بثمن ثم يشتري بالثمن من جنس الربوي الأول
فصل : وإذا باع مدي تمر رديء بدرهم ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم وتقابضاها ثم اشترى منه قراضة من غير مواطأة ولا حيلة فلا بأس به وقال ابن أبي موسى : لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع فيبتاع منه وقال أحمد في رواية الأثرم يبيعها من غيره أحب إلي قلت له قال : لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها منه ؟ فقال : يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه فإنه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب ولا يحكم الوزن ولا يستقصي يقول هي ترجع إليه قيل لأبي عبد الله فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره فلم يجدها فرجع إليه ؟ فقال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم فظاهر أن هذا على وجه الإستحباب لا الإيجاب ولعل أحمد إنما اجتناب المواطأة على هذا ولهذا قال : إذ كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم وقال مالك : إن فعل ذلك مرة جاز وإن فعله أكثر من مرة لم يجز لأنه يضارع الربا
ولنا ما روي أبو سعيد قال : [ جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه و سلم بتمر فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : من أين هذا ؟ قال بلال : كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به ] وروى أيضا أبو سعيد وأبو هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تفعل بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا ] متفق عليهما ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه ولو كان ذلك محرما لبينه له وعرفه إياه ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز كما لو باعه من غيره ولأن ما جاز من البياعات مرة جاز على الإطلاق كسائر البياعات فأما إن تواطآ على ذلك لم يجز وكان حيلة محرمة وبه قال مالك وقال أبوحنيفة و الشافعي يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد ولنا أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة والحيل محرمة على ما سنذكره

فصل : تحريم جميع الحيل بالشرع
فصل : والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين وهو أن يظهر مباحا يريد به محرما مخادعا وتوسلا إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته إو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك قال أيوب السختياني : إنهم ليخادعون صبيا لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة صحاح ومع الآخر خمسة عشر مكسرة فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة ثم وهبه الخمسة الزائدة أو اشترى منه بها أوقية صابون أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير وهكذا لو أقرضه شيئا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة و الشافعي : ذلك كله وأشباهه جائز إذا لم يكن مشروطا في العقد وقال أصحاب الشافعي : يكره أن يدخلا في البيع على ذلك لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه
ولنا أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : { وموعظة للمتقين } أي لأمة محمد صلى الله عليه و سلم فروى أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة ويتركونها إلى يوم الأحد ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمعة فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد ثم يأخذها ويقول ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه فهذه حيلة و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ] رواه أبو داود وغيره فجعله قمارا مع إدخاله الفرس الثالث لكونه لا يمنع معنى القمار وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا أو مأخوذا منه وإنما دخل الحاصل منها ولا تزول مفسدتها مع إبقاء معناها بإظهارهما صورة غير صورتها فوجب أن لا يزول التحريم كما لو سمى الخمر بغير اسمها لم يبح ذلك شربها وقد جاء [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ليستحلن قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ] ومن الحيل في غير الربا أنهم يتوصلون إلى بيع الشيء المنهي عنه أن يستأجر بياض أرض البستان بأمثال أجرته ثم على ثمر شجرة بجزء من ألف جرء للمالك وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ولا يأخذ منه المالك شيئا ولا يريد ذلك وإنما قصد بيع الثمرة قبل مقابلتها ومتى لم يخرج الثمر أو أصابته جائحة جاء المستأجر يطلب الجائحة ويعتقد أنه إنما بذل ماله في مقابلة الثمرة لا غير ورب الأرض يعلم ذلك

حكم الشراء بالنقود المكسرة وبيع تراب الصاغة
فصل : ولو اشترى شيئا بمكسرة لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها قال أحمد هذا هو الربا المحض وذلك لأنه يأخذ عوض الفضة أقل منها فيحصل التفاضل بينهما ولو اشتراه بصحيح لم يجز أن يعطيه مكسرة أكثر منها كذلك فإن تفاسخا البيع ثم عقدا بالصحاح أو بالمكسرة جاز ولو اشترى ثوبا بنصف دينار لزمه نصف دينار شق إن عاد فاشترى شيئا آخر بنصف آخر لزمه نصف شق أيضا فإن وفاه دينارا صحيحا بطل العقد الثاني لأنه تضمن اشتراط زيادة ثمن العقد الأول وإن كان ذلك قبل لزوم العقد الأول بطل أيضا لأنه وجد ما يفسده قبل انبرامه وإن كان بعد تفرقهما فلزومه لم يؤثر ذلك فيه ولا يلزمه أكثر من ثمنه الذي عقد البيع به ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا
فصل : إذا كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون صح الصرف وإن ظن أنه غير موجود لم يصح الصرف لأن حكمه حكم المعدوم وإن شك فيه فقال ابن عقيل يصح وهو قول بعض الشافعية وقال القاضي : لا يصح لأنه غير معلوم البقاء وهو منصوص الشافعي ووجه الأول أن الأصل بقاؤه فصح البناء عليه عند الشك فإن الشك لا يزيل اليقين ولذلك صح بيع الحيوان الغائب المشكك في حياته فإن تبين أنه كان تالفا حين العقد تبينا أن العقد وقع باطلا
فصل : ولا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشيء من جنسه لأنه مال ربا بيع بجنسه على وجه لا تعلم المماثلة بينهما فلم يصح كبيع الصبرة بالصبرة وإن بيع بغير جنسه فحكى ابن المنذر عن أحمد كراهة بيع تراب المعادن وهو قول عطاء و الشافعي و الشعبي و الثوري و الأوزاعي و إسحاق لأنه مجهول وقال ابن أبي موسى في الإرشاد : يجوز ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن الحسن و النخعي و ربيعة و الليث قالوا : فإن اختلط أو اشكل فليبعه بعرض ولا يبعه بعين ولا ورق لأنه باعه بما لا ربا فيه فجاز كما لو اشترى ثوبا بدينار ودرهم

شروط بيع العرايا وحكمها
مسألة : قال : والعرايا التي أرخص فيها الرسول الله صلى الله عليه و سلم هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أو سق فيبيعها بخرصها من التمر لمن يأكلها رطبا
فصل : أولها : في إباحة بيع العرايا في الجملة وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة و الأوزاعي وأهل الشام و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : لا يحل بيعها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع المزابنة و المزابنة بيع الثمر بالثمر متفق عليه ولأنه يبيع الرطب بالتمر من غير كيل أحدهما فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض أو فيما زاد على خمسة أوسق ولنا ما روى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق ] متفق عليه ورواه زيد بن ثابت وسهل بن أبي حثمة وغيرهما وخرجه أئمة الحديث في كتبهم وحديثهم في سياقة إلا العرايا كذلك في المتفق عليه وهذه زيادة تجب الأخذ بها ولو قدر تعارض الحديثين وجب تقديم حديثنا لخصوصه جمعا بين الحديثين وعملا بكلا النصين وقال ابن المنذر : الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص في العرايا وطاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى والقياس لا يصار إليه مع النص مع أن في الحديث أنه أرخص في العرايا والرخصة المحظور مع وجود السبب الحاظر فلو منع وجود السبب من الاستباحة لم يبق لنا رخصة بحال
الفصل الثاني : إنها لا تجوز في زيادة على خمسة أوسق بغير خلاف نعلمه وتجوز فيما دون خمسة أوسق بغير خلاف بين القائلين بجوازها فأما في خمسة أوسق فلا يجوز عند أمامنا رحمه الله وبه قال ابن المنذر و الشافعي في أحد قوليه وقال مالك و الشافعي في قول يجوز ورواه إسماعيل بن سعيد عن أحمد لأن في حديث زيد وسهل أنه رخص في العرية مطلقا ثم استثنى ما زاد على الخمسة في حديث أبي هريرة وشك في الخمسة فاستثنى اليقين وبقي المشكوك فيه على مقتضى الإباحة
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة والمزابنة بيع الرطب بالتمر ] ثم أرخص في العرية فيما دون خمسة أوسق وشك في الخمسة فيبقى على العموم في التحريم ولأن العرية رخصة بنيت على خلاف النص والقياس يقينا فيما دون الخمسة والخمسة مشكوك فيها فلا تثبت إباحتها مع الشك وروى ابن المنذر بإسناده أن النبي صلى الله عليه و سلم رخص في بيع العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة والتخصيص بهذا يدل على أنه لا يجوز الزيادة في العدد عليه كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة على الخمسة لتخصيصه إياها بالذكر وروى مسلم عن سهل [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين ] ولأن خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها بدليل وجوب الزكاة فيها دون ما نقص عنها ولأنها قدر تجب الزكاة فيه فلم يجز بيعه عرية كالزائد عليها فأما قولهم : أرخص في العرية مطلقا فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها بل الرخصة واحدة رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة فيجب حمل المطلق على المقيد ويصير القيد المذكور في أحد الحديثين كأن مذكور في الآخر ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقا
فصل : ولا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق فيما زاد على صفقة سواء اشتراها من واحد أو من جماعة وقال الشافعي : يجوز للإنسان بيع جميع ثمر حائطه عرايا م نرجل واحد ومن رجال في عقود متكررة لعموم حديث زيد وسهل ولأن كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر كسائر البيوع ولنا عموم النهي عن المزابنة استثنى منه العرية فيما دون خمسة أوسق فما زاد يبقى على العموم في التحريم ولأن ما لا يجوز عليه العقد مرة إذا كان نوعا واحدا لا يجوز في عقدين كالذي على وجه الأرض وكالجمع بين الأختين فأما حديث سهل فإنه مقيد بالنخلة والنخلتين بدليل ما روينا فيدل على تحريم الزيادة عليهما ثم إن المطلق يحمل على المقيد كما في العقد الواحد فأما إن باع رجل عريتين من رجلين فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز وقال أبو بكر و القاضي : لا يجوز لما ذكرنا في المشتري
ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري بدليل ما روى محمود بن لبيد قال قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبياعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطبا وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع أفضى إلى أن لا يحصل الارفاق إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين فتسقط الرخصة فإن قلنا لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني وإن اشترى عريتين أو باعهما وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجها واحدا
الفصل الثالث : أنه لا يشترط في بيع العرية أن تكون موهوبة لبائعها هذا ظاهر كلام أصحابنا وبه قال الشافعي وظاهر قول الخرقي أنه شرط وقد روى الأثرم قال : سمعت أحمد سئل عن تفسير العرايا فقال العرايا أن يعري الرجل لجار أو القرابة للحاجة أو المسكنة فللمعري أن يبيعها ممن شاء وقال مالك : بيع العرايا الجائز هو أن يعري الرجل لرجل نخلات من حائطه ثم يكره صاحب الحائط دخول الرجل المعري لأنه ربما كان مع أهله في الحائط فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز أن يشتريها منه واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما قال أبو عبيد : الاعراء أن يجعل الرجل لرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال الشاعر الأنصاري يصف النخل :
( ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح )
يقول إنا نعريها الناس فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسه أو سق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخيل الكثير يعريه الناس إنه لا يعجز عن أداء ثمن العرية وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب ولا ثمن معه سوى التمر فمتى وجد ذلك جاز البيع ولأن اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبا ولا ثمن معه يفصي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبا جاز وإن لم يكن موهوبا كسائر الأموال وما جاز بيعه لواهبه جاز لغيره كسائر الأموال وإنما سمي عرية لتعريه عن غيره وافراده بالبيع
الفصل الرابع : إنه إنما يجوز بيعها بخرصها من التمر لا أقل منه ولا أكثر ويجب أن يكون التمر الذي يشترى به معلوما بالكيل ولا يجوز جزافا لا نعلم في هذا عند من أباح بيع العرايا اختلافا لما روى زيد بن ثابت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أرخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا ] متفق عليه ولمسلم أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا ولأن الأصل اعتبار الكيل من الطرفين سقط في أحدهما للتعذر فيجب في الآخر بقضية الأصل ولأن ترك الكيل من الطرفين يكثر الغرر وفي تركه من أحدهما يقلل الغرر ولا يلزم من صحته مع قلة الغرر صحته مع كثرته ومعنى خرصها بمثلها من التمر أن يطيف الخارص بالعرية فينظركم يجيء منها تمرا وبهذا قال الشافعي ونقل حنبل عن أحمد أنه قال : يخرصها رطبا ويعطي تمرا رخصه وهذا يحتمل الأول ويحتمل أنه يشتريها بتمر مثل الرطب الذي عليها لأنه بيع اشترطت المماثلة فيه فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال وأن لا يباع الرطب بالتمر خولف الأصل في بيع الرطب بالتمر فيبقى فيما عداه على قضية الدليل وقال القاضي : الأول أصح لأنه يبنى على خرص الثمار في العشر والصحيح ثم خرصه تمرا ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادخار وبيع الرطب بمثله تمرا يفضي إلى فوات ذلك فأما إن اشتراها بخرصها رطبا لم يجز وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والثاني : يجوز والثالث : لا يجوز مع اتفاق النوع ويجوز مع اختلافه ووجه جوازه ما روى الجوزجاني عن أبي صالح بن الليث عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالطرب أو التمر ولم يرخص في غير ذلك ولأنه إذا جاز بيع الرطب بالتمر مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى
ولنا ما روى مسلم بإسناده عن زيد بن ثابت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أرخص في العرايا أن تؤخذ بمثل خرصها تمرا ] وعن سهل بن أبي حثمة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع التمر بالتمر وقال : ذلك الربا تلك المزابنة ] إلا أنه رخص في العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمرا فلم يجز بيعه بمثله رطبا كالتمر الجاف ولأن من ما رطب فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه وحديث ابن عمر شك في الرطب والتمر فلا يجوز العمل به مع الشك سيما وهذه الأحاديث تنبيه وتزيل الشك
فصل : ويشترك في بيع العرايا التقابض في المجلس وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا لأنه بيع تمر بتمر فاعتبر فيه شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لا يمكن اعتباره في بيع العرايا والقبض في كل واحد منهما على حسبه ففي التمر اكتياله أو نقله وفي الثمرة التخلية وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل بل لو تبايعا بعد معرفة التمر بالثمرة ثم مضيا جميعا إلى النخلة فسلمها إلى مشتريها ثم مشيا إلى التمر فتسلمه من مشتريها أو تسلم التمر ثم مضيا إلى النخلة جميعا فسلمها إلى مشتريها أو سلم النخلة ثم مضيا إلى التمر فتسلمه جاز لأن التفرق لا يحصل قبل القبض إذا ثبت هذا فإن بيع العرية يقع على وجهين أحدهما : أن يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا وكذا من التمر ويصفه والثاني : أن يكيل من التمر بقدر خرصها ثم يقول بعتك هذا بهذا أو يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بهذا التمر ونحو هذا وإن باعه بمعين فقبضه بنقله وأخذه وإن باعه بموصوف فقبضه باكتياله
الفصل الخامس : أنه لا يجوز بيعها إلا المحتاج إلى أكلها رطبا ولا يجوز بيعها لغني وهذا أحد قول الشافعي وأباحها في القول الآخر مطلقا لكل واحد لأن كل بيع جاز للمحتاج جاز للغني كسائر البياعات ولأن حديث أبي هريرة وسهل مطلقان ولنا حديث زيد بن ثابت حين سأله محمود بن لبيد : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر يأكلونه رطبا ومتى خولف الأصل بشرط لم تجز مخالفته بدون ذلك الشرط ولأن ما أبيح للحاجة لم يبح مع عدمها كالزكاة للمساكين والترخص في السفر فعلى هذا متى كان صاحبها غير محتاج إلى أكل الرطب أو كان محتاجا ومعه من الثمن ما يشتري به العرية لم يجز له شراؤها بالتمر وسواء باعها لواهبها تحرزا من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك أو لغيره فإنه لا يجوز وقال ابن عقيل يباح ويحتمله كلام أحمد لأن الحاجة وجدت من الجانبين فجاز كما لو كان المشتري محتاجا إلى أكلها ولنا حديث زيد الذي ذكرناه والرخصة لمعنى خاص لا تثبت مع عدمه ولأن في حديث زيد وسهل [ يأكلها أهلها رطبا ] ولو جاز لتخليص المعري لما شرط ذلك فيشترط إذا في بيع العرية شروط خمسة : أن يكون فيما دون خمسة أو سق وبيعها بخرصها من التمر وقبض ثمنها قبل التفرق وحاجة المشتري إلى أكل الرطب وأن لا يكون معه ما يشتري به سوى التمر واشترط القاضي وأبو بكر شرطا سادسا وهو حاجة البائع إلى البيع واشترط الخرقي كونها موهوبة لبائعها واشترط أصحابنا بناء العقد أن يأكلها أهلها رطبا فإن تركها حتى تصير تمرا بطل العقد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى

بطلان العرية بترك الرطب حتى يثمر
مسألة : قال : فإن تركه المشتري حتى يتمر بطل العقد
يعني إن لم يأخذها المشتري رطبا بطل العقد خلافا للشافعي في قوله لا يبطل وعن أحمد مثله لأن كل ثمرة جاز بيعها رطبا لا يبطل العقد إذا صارت تمرا كغير العرية ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يأكلها أهلها رطبا ] ولأن شراءها إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب فإذا أتمرت تبينا عدم الحاجة فيبطل العقد ثم لا فرق بين تركه لغناه عنها أو مع حاجته إليها أو تركها لعذر أو لغير عذر للخبر ولو أخذا رطبا فتركها عنده فأتمرت أو شمسها حتى صارت تمرا جاز لأنه قد أخذها ونقل عن أحمد رواية أخرى فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها حتى بدا صلاحها لا يبطل البيع فيخرج ههنا مثله فإن أخذ بعضها رطبا وترك باقيها حتى أتمر فهل يبطل البيع في الباقي على وجهين
فصل : ولا يجوز بيع العرية في غير النخيل وهو اختيار ابن حامد وقول الليث بن سعد إلا أن يكون مما ثمرته لا يجري فيها الربا فيجوز بيع رطبها بيابسها لعدم جريان الربا فيها ويحتمل أن يجوز في العنب والرطب دون غيرهما وهو قول الشافعي لأن العنب كالرطب في وجوب الزكاة فيهما وجواز خرصهما وتوسيقهما وكثرة تيبيسهما واقتياتهما في بعض البلدان والحاجة إلى أكل رطبهما والتنصيص على الشيء يوجب ثبوت الحكم في مثله ولا يجوز في غيرهما لاختلافهما في أكثر هذه المعاني فإنه لا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها بالأوراق ولا يقتات يابسها فلا يحتاج إلى الشراء به وقال القاضي : يجوز في سائر الثمار وهو قول مالك و الأوزاعي قياسا على ثمرة النخيل
ولنا ما روى الترمذي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم وعن بيع العنب بالزبيب وكل ثمرة بخرصها ] وهذا حديث حسن وهذا يدل على تخصيص العرية بالتمر وعن زيدبن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك و [ عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزابنة والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلا وعن كل ثمر بخرصه ] ولأن الأصل يقتضي تحريم ببيع العرية وإنما جازت في ثمره النخيل رخصه ولا يصح قياس غيرها عليها لوجهين أحدهما : أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها وسهولة خرصها وكون الرخصة في الأصل لأهل المدنية وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره الثاني : أن القياس لا يعمل به إذا خالف نصا وقياسهم يخالف نصوصا غير مخصوصه وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص ونهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع العنب بالزبيب لم يدخله تخصيص فيقاس عليه وكذلك سائر الثمار والله أعلم

باب بيع الأصول والثمار
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : ومن باع نخلا مؤبرا وهو ما قد تشقق طلعه فالثمرة للبائع متروكة في النخل إلى الجزاز إلا أن يشترطها المبتاع
أصل الا بار عند أهل العلم التلقيح قال ابن عبد البر : إلا أن يكون حتى يتشقق الطلع وتظهر الثمرة فعبر به عن ظهور الثمرة للزومه منه والحكم متعلق بالظهور دون نفس التلقيح بغير اختلاف بين العلماء يقال : أبرت النخلة بالتخفيف والتشديد فهي مؤبرة ومأبورة ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خير المال سكة مأبورة ] والسكة النخل المصفوف وأبرت النخلة آبرها وإبارا وأبرتها تأبيرا وتأبرت النخلة وائتبرت ومنه قول الشاعر :
( تأبري يا خيره الفسيل )
وفسر الخرقي المؤبر بما قد تشقق طلعه لتعلق الحكم بذلك دون نفس التأبير قال القاضي : وقد يتشقق الطلع بنفسه فيظهر وأيهما كان فهو التأبير المراد ههنا وفي هذه المسألة فصول ثلاثة
الفصل الأول : أن البيع متى وقع على نخل مثمر ولم يشترط الثمرة كانت الثمرة مؤبرة فهي للبائع وإن كانت غير مؤبرة فهي للمشتري وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي وقال ابن أبي ليلى : هي للمشتري في الحالين لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقه فكانت تابعه له كالأغصان وقال أبو حنيفة و الأوزاعي : هي للبائع في الحالين لأن هذا نماء له حد فلم يبتع أصله في البيع كالزرع في الأرض ولناقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع ] متفق عليه وهذا صريح في رد قول ابن أبي ليلى وحجة على أبي حنيفة و الأوزاعي بمفهومه لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري وإلا لم يكن حدا ولا كان ذكر التأبير مفيدا ولأنه نماء كامن لظهوره غاية فكان تابعا لأصله قبل ظهروه وغير تابع له بعد ظهروه كالحمل في الحيوان فأما الأغصان فإنه تدخل في اسم النخل وليس لانفصالها غاية والزرع ليس من نماء الأرض وإنما هو مودع فيها
الفصل الثاني : إنه متى اشترطها أحد المتبايعين فهي له مؤبرة كانت أو غير مؤبرة البائع فيه والمشتري سواء وقال مالك : إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز لأنه بمنزلة شرائها مع أصلها وإن اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز لأن اشتراطه لها بمنزلة شرائه لها قبل بدو صلاحها بشرط تركها
ولنا أنه استثنى عبض ما وقع عليه العقد وهو معلوم فصح كما لو باع حائطا واستثنى نخله بعينها ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ولأنه أحد المتبايعين فصح اشتراطه للثمرة كالمشتري وقد ثبت الأصل بالاتفاق عليه وبقوله عليه السلام : [ إلا أن يشترطها المبتاع ] ولو اشترط أحدهما جزءا من الثمرة معلوما كان ذلك كاشتراط جميعها في الجواز في قول جمهور الفقهاء وقول أشهب من أصحاب مالك وقال ابن القاسم : لا يجوز اشتراط بعضها لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها ولنا أن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه كمدة الخيار وكذلك القول في مال العبد إذا اشترط بعضه
الفصل الثالث : إن الثمرة إذا بقيت للبائع فله تركها في الشجر إلى أوان الجزاز سواء استحقها بشرطه أو بظهورها وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمه قطعها وتفريغ النخل فيها لأنه مبيع مشغول بملك البائع فلزم نقله وتفريغه كما لو باع دارا فيها طعام أو قماش له ولنا أن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة كما لو باع دارا فيها طعام لم يجب نقله إلا على حسب العادة في ذلك وهو أن ينقله نهارا شيئا بعد شيء ولا يلزمه النقل ليلا ولا جمع دواب البلد لنقله وكذلك ههنا يفرغ النخل من الثمرة في أوان تفريغها وهو أوان جزازها وقياسه حجة لنا لما بيناه إذا تقرر هذا فالمرجع في جزه إلى ما جرت به العادة فإذا كان المبيع نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره إلا أن يكون مما بسره خير من رطبه أو ما جرت العادة بأخذه بسرا فإنه يجزه حين تستحكم حلاوة بسره لأن هذا هو العادة فإذا استحكمت حلاوته فعليه نقله وإن قيل بقاؤه في شجره خير له وأبقى فعليه النقل لأن العادة في النقل قد حصلت وليس به إبقاؤه بعد ذلك وإن كان المبيع عنبا أو فاكهة سواه فأخذه حين يتناهى إدراكه وتستحكم حلاوته ويجز مثله وهذا قول مالك و الشافعي
فصل : فإن أبر بعضه دون بعض فالمنصوص عن أحمد أن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري وهو قول أبي بكر للخبر الذي عليه مبنى هذه المسألة فإن صريحه أن ما أبر البائع ومفهومه أن ما لم يؤبر للمشتري وقال ابن حامد : الكل للبائع وهو مذهب الشافعي لأنا إذا لم نجعل الكل للبائع أدى إلى الأضرار باشتراك الأيدي في البستان فيجب أن يجعل ما لم يؤبر تبعا لما أبر كثمر النخلة الواحدة فإنه لا خلاف في أن تأبير بعض النخلة يجعل جميعها للبائع وقد يتبع الباطن الظاهر منه كأساسات الحيطان تتبع الظاهر منه ولأن البستان إذا بدا صلاح ثمرة منه جاز بيع جميعها بغير شرط القطع كذا ههنا وهذا من النوع الواحد لأن الظاهر أن النوع الواحد يتقارب ويتلاحق فأما إن أبر لم يتبعه النوع الآخر ولم يفرق أبو الخطاب بين النوع والجنس كله وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي كما في النوع الواحد ولنا أن النوعين يتباعدان ويتميز أحدهما من الآخر ولا يخشى اختلاطهما واشتباههما فأشبها الجنسين وما ذكره يبطل بالجنسين ولا يصح القياس على النوع الواحد لافتراقهما فيما ذكرناه ولو باع حائطين قد أبر أحدهما لم يبتعه الآخر لأنه يفضي إلى سواء المشاركة واختلاف الأيدي لانفراد كل واحد منهما عن صاحبه ولو أبر بعض الحائط فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فللمبيع حكم نفسه ولا يتبع غيره وخرج القاضي وجها في أنه يتبع غير المبيع ويكون البائع لأنه قد ثبت للحائط كله حكما التأبير وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولا يصح هذا لأن المبيع لم يؤبر منه شيء فوجب أن يكون للمشتري بمفهوم الخبر وكما لو كان منفردا في بستان وحده ولأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ولا اختلاف الأيدي ولا إلى ضرر فبقي على حكم الأصل فإن بيعت النخلة وقد أبرت كلها أو بعضها فأطلعت بعد ذلك فالطلع للمشتري لأنه حدث في ملكه فكان له كما لو حدث بعد جزاز الثمرة ولأن ما أطلع بعد تأبير غيره لا يكاد يشتبه به لتباعد ما بينهما
فصل : وطلع الفحال كطلع الإناث وهو ظاهر كلام الشافعي ويحتمل أن يكون طلع الفحال للبائع قبل ظهوره لأنه يؤخذ للأكل قبل ظهوره فهو كثمرة لا تخلق إلا ظاهرة كالتين ويكون ظهور طلعه كظهور ثمرة غيره ولنا أنها ثمرة نخل إذا تركت ظهرت فهي كالإناث أو يدخل في عموم الخبر وما ذكر للوجه الآخر لا يصلح فإن أكله ليس هو المقصود منه وإنما يراد للتلقيح به وهو يكون بعد ظهوره فأشبه طلع الإناث فإن باع نخلا فيه فحال وإناث لم يشقق منه شيء فالكل للمشتري إلا على الوجه الآخر فإن طلع الفحال يكون للبائع وإن كان قد تشقق طلع أحد النوعين دون الآخر فما تشقق فهو للبائع وما لم يتشقق للمشتري إلا عند من سوى بين الأنواع كلها وإن تشقق طلع بعض الإناث أو بعض الفحال فالذي قد ظهر للبائع وما لم يظهر على ما ذكرنا من الاختلاف فيه
فصل : وكل عقد معاوضة يجري مجرى البيع في أن الثمرة المؤبرة تكون لمن انتقل عنه الأصل وغير المؤبرة لمن انتقل إليه مثل أن يصدق المرأة نخلا أو يخلعها به أو يجعله عوضا في إجارة أو عقد صلح لأنه عقد معاوضة فجرى مجرى البيع وإن انتقل بغير معاوضة كالهبة والرهن أو فسخ لأجل العيب أو فلس المشتري أو رجوع الأب في هبته لولده أو تقايلا المبيع أو كان صداقا رجع إلى الزوج لفسخ المرأة النكاح أو نصفه لطلاق الزوج فإنه في الفسخ يتبع الأصل سواء أبر أو لم يؤبر لأنه نماء متصل فأشبه السمن وفي الهبة والرهن حكمهما حكم البيع في أنه يتبع قبل التأبير ولا يتبع فيما بعده لأن الملك زال عن الأصل بغير فسخ فكان الحكم فيه ما ذكرناه كالبيع وأما رجوع البائع لفلس المشتري أو الزوج لانفساخ النكاح فيذكران في بابيهما

ملكية الثمر والزهر في بيع الأصل
مسألة : قال : وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد
وجملة ذلك أن الشجر على خمسة أضرب أحدها : ما يكون ثمره في أكمامه ثم تفتح الأكمام فيظهر كالنخل الذي وردت السنة فيه وبينا حكمه وهو الأصل وما عداه مقيس عليه ومحلق به ومن هذا الضرب القطن وما يقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس والبنفسج فإنه تظهر أكمامه ثم تتفتح فيظهر فهو كالطلع أن تفتح جنبذه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري الثاني : ما تظهر ثمرته بارزة لا قشر عليه ولا نور كالتين والتوت والجميز فهي للبائع لأن ظهورها من شجرها بمنزلة ظهور الطلع من قشره الثالث : ما يظهر في قشره ثم يبقى فيه إلى حين الأكل كالرمان والموز فهو للبائع أيضا بنفس الظهور لأن قشره من مصلحته ويبقى فيه إلى حين الأكل فهو كالتين ولأن قشره ينزل منزلة أجزائه للزومه إياه وكونه من مصلحته الضرب الرابع : ما يظهر في قشرين كالجوز واللوز فهو للبائع أيضا بنفس الظهور لأن قشره لا يزول عنه غالبا إلا بعد جزازه فأشبه الضرب الذي قبله ولأن قشر اللوز يؤكل معه فأشبه التين وقال القاضي : أن تشقق القشر الأعلى فهو للبائع وإن لم يتشقق فهو للمشتري كالطلع ولو اعتبر هذا لم يكن للبائع إلا نادرا ولا يصح قياسه على الطلع لأن الطلع لا بد من تشققه وتشققه من مصلحته وهذا بخلافه فإنه لا يتشقق على شجرة وتشققه قبل كماله يفسده الخامس : ما يظهر نوره ثم يتناثر فتظهر الثمرة كالتفاح والمشمش والإجاص والخوخ فإذا تفتح نوره وظهرت الثمرة فيه فهي للبائع وإن لم تظهر فهي للمشتري وقيل ما تناثر نوره فهو للبائع وما لا فهو للمشتري لأن الثمرة لا تظهر حتى يتناثر النور وقال القاضي : يحتمل أن تكون للبائع بظهور نوره لأن الطلع إذا تشقق كان كنور الشجر فإن العقد التي في جوف الطلع ليست عين الثمرة وإنما هي أوعية لها تكبر الثمرة في جوفها وتظهر فتصير العقدة في طرفها وهي قمع الرطبة وقول الخرقي يقتضي ما قلناه لأنه علق استحقاق البائع لها يكون الثمر باديا لا ببدو نوره ولا يبدوا الثمر حتى يتفتح نوره وقد يبدوا إذا كبر قبل أن ينقر النور فيتعلق ذلك بظهوره والعنب بمنزلة ماله نور لأنه يبدو في قطوفه شيء صغار كحب الدخن ثم يتفتح ويتناثر كتناثر النور فيكون من هذا القسم والله أعلم وهذا يفارق الطلع لأن الذي في الطلع عين الثمرة ينمو ويتغير والنور في هذه الثمار يتساقط ويذهب وتظهر الثمرة ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه كما ذكرنا ههنا أو قريبا منه وبينهما اختلاف على حسب ما ذكرنا من الخلاف أو قريبا منه

فروع في بيع الشجر المثمر
فصل : فأما الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر فهو للمشتري بكل حال لأنه من أجزائها خلق لمصلحتها فهو كأجزاء سائر المبيع ويحتمل أن يكون ورق التوت الذي يقصد أخذه لتربيه دود القز إن تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه بمنزلة الجنبذ الذي يتفتح فيظهر نوره من الورد وغيره وهذا في المواضع التي عادتهم أخذ الورق وإن لم تكن عادتهم ذلك فهو للمشتري كسائر ورق الشجر والله أعلم
فصل : وإذا كانت الثمرة للبائع مبقاة في شجر المشتري فاحتاجت إلى سقي لم يكن للمشتري منعه منه لأنه يبقى به فلزمه تمكينه منه كتركه على الأصول وإن أراد سقيها من غير حاجة فللمشتري منعه منه لأن بسقيه يتضمن التصرف في ملك غيره ولأن الأصل منعه من التصرف في ملك غيره وإنما أباحته الحاجة فإن لم توجد الحاجة يبقى على أصل المنع فإن احتاجت إلى السقي وفيه ضرر على الشجر أو احتاج الشجر إلى سقي يضر بالثمرة فقال القاضي : أيهما طلب السقي لحاجته أجبر الآخر عليه لأنه دخل في العقد على ذلك فإن المشتري اقتضى عقده تبقيه الثمرة والسقي من تبقيتها والعقد اقتضى تمكين المشتري من حفظ الأصول وتسليمها فلزم كل واحد منهما ما أوجبه العقد للآخر وإن أضر به وإنما له أن يسقي بقدر حاجته فإن اختلفا في قدر الحاجة رجع إلى أهل الخبرة وأيهما التمس السقي فالمؤنة عليه لأنه لحاجته
فصل : فإن خيف على الأصول الضرر بتبقية الثمرة عليها لعطش أو غيره والضرر يسير لم يجبر على قطعها لأنها مستحقة للبقاء فلم يجبر على إزالتها لدفع ضرر يسير عن غيره وإن كان كثيرا فخيف على الأصول الجفاف أو نقص حملها ففيه وجهان أحدهما : لا يجبر أيضا لذلك الثاني : يجبر على القطع لأن الضرر يلحقها وإن لم تقطع والأصول تسلم بالقطع فكان القطع أولى وللشافعي قولان كالوجهين
فصل : وإذا باع شجرا فيه ثمر للبائع فحدثت ثمرة أخرى أو اشترى ثمرة في شجرها فحدثت ثمرة أخرى فإن تميزتا فلكل واحد ثمرته وإن لم تتميز إحداهما من الأخرى فهما شريكان فيهما كل واحد بقدر ثمرته فإن لم يعلم قدر كل واحدة منهما اصطلحا عليها ولا يبطل العقد لأن المبيع لم يتعذر تسليمه وإنما اختلط بغيره فهو كما لو اشترى طعاما في مكان فانثال عليه طعام للبائع أو انثال هو على طعام للبائع ولم يعرف قدر كل واحد منهما ويفارق هذا ما لو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها أو اشترى عريه فتركها حتى أتمرت فإن العقد يبطل في إحدى الروايتين لكون اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب النهي وكونه يتخذ حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها أو شراء الرطب بالتمر من غير كيل من غير حاجة إلى أكله رطبا وههنا ما ارتكب نهيا ولا يجعل هذا طريقا إلى فعل المحرم وجمع أبو الخطاب بينهما فقال في الجميع روايتان إحداهما : يبطل العقد والأخرى : لا يبطل وقال القاضي : إن كانت الثمرة للبائع فحدثت ثمرة أخرى قيل لكل واحد : اسمح بنصيبك لصاحبك فإن فعله أحدهما أقررنا العقد وأجبرنا الآخر على القبول لأنه يزول به النزاع وإن امتنعا فسخنا العقد لتعذر وصول كل واحد منهما إلى قدر حقه وإن اشترى ثمره فحدثت ثمرة أخرى لم نقل للمشتري اسمح بنصيبك لأن الثمرة كل المبيع فلا يؤمر بتخليته كله ونقول للبائع ذلك فإن سمح بنصيبه للمشتري أجبرناه على القبول وإلا فسخ البيع بينهما وهذا مذهب الشافعي قال ابن عقيل : لعل هذا قول لبعض أصحابنا فإنني لم أجده معزيا إلى أحمد والظاهر أن هذا اختيار القاضي وليس بمذهب لأحمد ولو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى لم ينفسخ البيع والحكم فيه كالحكم في الثمرة معها أخرى والله أعلم

ملكية الزرع في بيع الأرض
فصل : إذا باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة كالحنطة والشعير والقطاني وما المقصود منه مستتر كالجزر والفجل والبصل والثوم وأشباهها فاشترطه المشتري فهو له قصيلا كان أو ذا حب مستترا أو ظاهرا معلوما أو مجهولا لكونه دخل في البيع للأرض فلم يضر جهله وعدم كماله كما لو اشترى شجرة فاشترط ثمرتها بعد تأبيرها وإن أطلق البيع فهو للبائع لأنه مودع في الأرض فهو كالكنز والقماش ولأنه يراد للنقل فأشبه الثمرة المؤبرة وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا ويكون للبائع مبقى في الأرض إلى حين الحصاد بغير أجره لأن المنفعة حصلت مستثناة له وعليه حصاده في أول وقت حصاده وإن كان بقاؤه أنفع له كقولنا في الثمرة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة عليه نقله عقيب البيع كقوله في الثمرة وقد مضى الكلام فيها وهكذا قال الحكم في القصب الفارسي لأن له وقتا يقطع فيه إلا أن العروق تكون للمشتري لأنها تترك في الأرض للبقاء فيها والقصب نفسه كالثمرة وإن لم يظهر منه شيء فهو للمشتري وأما قصب السكر فإنه يؤخذ مرة واحدة فهو كالزرع فإن حصده قبل الحصاد لينتفع بالأرض في غيره لم يملك الانتفاع بها لأن منفعتها إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد ضرورة بقاء الزرع فتقدر ببقائه كالثمرة على الشجرة وكما لو كان المبيع طعاما لا ينتقل مثله عادة إلا في شهر لم يكلف إلا ذلك فإن تكلف نقله في يوم واحد لينتفع بالدار في غيره لم يجز كذلك ههنا ومتى حصد الزرع وبقيت له عروق تستضر بها الأرض كعروق القطن والذرة فعلى البائع إزالتها وإن تحفرت الأرض فعليه تسويه حفرها لأنه استصلاح لملكه فصار كما لو باع دارا فيها خابية كبيرة لا تخرج إلا بهدم باب الدار فهدمها كان عليه الضمان وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح ملك الآخر من غير إذن الأول ولا فعل صدر عنه النقص واستند إليه كان الضمان على مدخل النقص
فصل : وإن باع أرضا وفيها زرع يجز مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع سواء كان مما يبقى سنة كالهندبا والبقول أو أكثر كالرطبة وعلى البائع قطع ما يستحقه منه في الحال فإنه ليس لذلك حد ينتهي إليه ولأن ذلك يطول ويخرج غير ما كان ظاهرا والزيادة من الأصول التي هي ملك للمشتري وكذلك إن كان الزرع مما تكرر ثمرته كالقثاء والخيار والبطيخ والباذنجان وشبهه فهو للمشتري والثمرة الظاهرة عند البيع للبائع لأن ذلك مما تتكرر الثمرة فيه فأشبه الشجر ولو كان مما تؤخذ زهرته وتبقى عروقه في الأرض كالبنفسج والنرجس فالأصول للمشتري لأنه جعل في الأرض للبقاء فيها فهو كالرطبة وكذلك أوراقه وغصونه لأنه لا يقصد أخذه فهو كورق الشجر وأغصانه وأما زهرته فإن كانت قد تفتحت فهي للبائع وإلا هي للمشتري على ما ذكرناه فيما مضى واختار ابن عقيل في هذا كله أن البائع إن قال : بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها وإن لم يقل بحقوقها فهل يدخل ؟ على وجهين كالشجر

ملكية البذر في الأرض المبيعة
فصل : وإذا اشترى أرضا فيها بذر فاستحق المشتري أصله كالرطبة والنعناع والبقول التي تجز مرة بعد أخرى فهو له لأنه ترك في الأرض للتبقية فهو كأصول الشجر ولأنه لو كان ظاهرا كان له فالمستتر أولى سواء علقت عروقه في الأرض أو لا فإن كان بذرا لما يستحقه البائع فهو له إلا أن يشترطه المبتاع فيكون له وقال الشافعي : البيع باطل لأن البذر مجهول وهو مقصود
ولنا أن البذر يدخل تبعا في البيع فلم يضر جهله كما لو اشترى عبدا فاشترط ماله ويحوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع كبيع اللبن في الضرع مع الشاة والحمل مع الأم والسقوف في الدار وأساسات الحيطان تدخل تبعا في البيع ولا تضر جهالتها ولا تجوز مفردة وإن لم يعلم المشتري بذلك له الخيار في فسخ البيع وإمضائه لأنه يفوت عليه منفعة الأرض عاما فإن رضي البائع بتركه للمشتري أو قال أنا حوله وأمكنه ذلك في زمن يسير لا يضر بمنافع الأرض فلا خيار للمشتري لأنه أزال العيب بالنقل أو زاده خيرا بالترك فلزمه قبوله لأن فيه تصحيحا للعقد وهذا مذهب الشافعي وكذلك لو اشترى نخيلا فيه طلع فبان أنه مؤبر فله الخيار لأنه يفوت المشتري ثمره عامة ويضر بقاؤها بنخلة فإن تركها له البائع لم يكن له خيار فإن قال : أنا أقطعها الآن لم يسقط خياره بذلك لأن ثمرة العام تفوت سواء قطعها أو تركها وإن اشترى أرضا فيها زرع للبائع أو شجرا فيه ثمر للبائع والمشتري جاهل بذلك يظن أن الزرع والثمر له فله الخيار أيضا كما لو جهل وجوده لأنه رضي ببذل ماله وعرضا عن الأرض والشجر بما فيهما فإذا بان خلاف ذلك ينبغي أن يثبت له الخيار كالمشتري للمعيب يظنه صحيحا وإن اختلفا في جهله لذلك فالقول قول المشتري إذا كان ممن يجهل ذلك لكونه عاميا فإن هذا مما يجهله كثير من الناس وإن كان ممن يعلم ذلك لم يقبل قوله لأن الظاهر أنه لا يجهله

ما يعتبر من المبيع أرض العرية المعادن الجامدة بئر أو عين الماء
فصل : إذا باعه أرضا بحقوقها دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع وكذلك إذا قال : رهنتك هذه الأرض دخل في الرهن غراساها وبناؤها وإن لم يقل بحقوقها فهل يدخل الغراس والبناء فيهما ؟ على وجهين ونص الشافعي على أنهما يدخلان في البيع دون الرهن واختلف أصحابه في ذلك فمنهم من قال فيهما جميعا قولان ومنهم من فرق بينهما بكون البيع أقوى فيستتبع البناء والشجر بخلاف الرهن ومنهم من قال : إنما سواء لأن ما تبع في البيع تبع في الرهن كالطرق والمنافع جميعا وجهان أحدهما : يدخل البناء والشجر لأنهما من حقوق الأرض ولذلك يدخلان إذا قال بحقوقها وما كان من حقوقها يدخل فيها بالإطلاق كطرقها ومنافعها والثاني : لا يدخلان لأنهما ليسا من حقوق الأرض فلا يدخلان في بيعها ورهنها كالثمرة المؤبرة ومن نصر الأول فرق بينهما بكون الثمرة تراد للنقل وليست من حقوقها بخلاف الشجر والبناء فإن قال : بعتك هذا البستان فيه الشجر لأن البستان اسم للأرض والشجر والحائط ولذلك لا تسمى الأرض المكشوفة بستانا قال ابن عقيل : ويدخل فيه البناء لأن ما دخل فيه الشجر دخل فيه البناء ويحتمل أن لا يدخل
فصل : وإن باعه شجرا لم تدخل الأرض في البيع ذكره أبو إسحاق بن شاقلا لأن الاسم لا يتناولها ولا هي تبع للمبيع
فصل : وإن قال : بعتك هذه القرية فإن كانت في اللفظ قرينة مثل المساومة على أرضها أو ذكر الزرع والغرس فيها وذكر حدودها أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها وفي أرضها دخل في البيع لأن الاسم يجوز أن يطلق عليها مع أرضها والقرينة صارفة إليه ودالة عليه فأشبه ما لو صرح به وإن لم يكن قرينة تصرف إلى ذلك فالبيع يتناول البيوت والحصن الدائر عليها فإن القرية اسم لذلك وهو مأخوذ من الجمع لأنه يجمع الناس وسواء قال : بحقوقها أو لم يقل وأما الغراس بين بنيانها فحكمه حكم الغراس في الأرض أن قال : بحقوقها دخل وإن لم يقل فعلى وجهين
فصل : ومن باعه دارا بحقوقها تناول البيع أرضها وبناءها وما هو متصل بها مما هو من مصلحتها كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة والأوتاد المغروزة والحجر المنصوب من الرحى وأشباه ذلك ولا يدخل في البيع ما ليس من مصالحها كالكنز والأحجار المدفونة لأن ذلك مودع فيها للنقل عنها فأشبه الفرش والستور ولا ما كان منفصلا عنها يختص بمصلحتها كالفرش والستور والطعام والرفوف الموضوعة على الأوتاد بغير تسمير ولا غرز في الحائط والدلو والبكرة والقفل وحجر الرحى إذا لم يكن واحد منهما منصوبا والخوابي الموضوعة من غير أن يطين عليها ونحوه لأنه منفصل عنها لا يختص بمصلحتها فأشبه الثياب وأما ما كان من مصالحها لكنه منفصل عنها كالمفتاح والحجر الفوقاني من الرحى إذا كان السفلاني منصوبا فيحتمل وجهين أحدهما : يدخل في البيع لأنه لمصلحتها فأشبه المنصوب فيها والثاني : لا يدخل لأنه منفصل عنها فأشبه السفلاني إذا لم يكن منصوبا والقفل والدلو ونحوهما ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا سواء
فصل : وما كان في الأرض من الحجارة المخلوقة فيها أو مبني فيها كأساسات الحيطان المتهدمة فهي للمشتري بالبيع لأنه من أجزائها فهي كحيطانها وترابها والمعادن الجامدة فيها والآجر كالحجارة في هذا وإذا كان المشتري عالما بذلك فلا خيار له وإن لم يكن عالما به وكان ذلك يضر بالأرض وينقصها كالصخر المضر بعروق الشجر فهو عيب وللمشتري الخيار بين الفسخ وأخذ الثمن أو الإمساك وأخذ أرش العيب كما في سائر المبيع فأما إن كانت الحجارة أو الآجر مودعا فيها للنقل عنها فهي للبائع كالكنز وعليه نقلها وتسوية الأرض إذا نقلها وإصلاح الحفر لأنه ضرر لحق لاستصلاح ملكه فكان عليه إزالته وإن كان قلعها يضر بالأرض أو تتطاول مدته ولم يكن المشتري عالما فله الخيار كما ذكرنا لأنه عيب وإن لم يكن في نقلها ضرر ويمكن نقلها في أيام يسيرة كالثلاثة فما دون فلا خيار له وله مطالبة البائع بنقلها في الحال لأنه لا عرف في تبقيتها بخلاف الزرع وإن كان عالما بالحال فلا خيار له ولا أجرة في الزمان الذي نقلت فيه لأنه علم بذلك ورضي فأشبه ما لو اشترى أرضا فيها زرع وإن لم يعلم واختار إمساك المبيع فهل له أجرة لزمان النقل على وجهين أحدهما : له ذلك لأن المنافع مضمونة على المتلف فكان عليه بدلها كالأجزاء والثاني : لا يجب لأنه لما رضي بإمساك المبيع بتلف المنفعة في زمان النقل فإن لم يختر الإمساك فقال البائع : أنا أدع ذلك لك وكان مما لا ضرر في بقائه لم يكن له خيار لأن الضرر زال عنه
فصل : فإن كان في الأرض معادن جامدة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص ونحوها دخلت في البيع وملكت بملك الأرض التي هي فيها لأنها من أجزائها فهي كترابها وأحجارها ولكن لا يباع معدن الذهب بذهب ولا معدن الفضة بفضة ويجوز بيعها بغير جنسها وإن ظهر في الأرض معدن لم يعلم البائع به فله الخيار لأنه زيادة لم يعلم بها فأشبه ما لو باعه ثوبا على أنه عشرة فبان أحد عشر هذا إذا كان قد ملك الأرض بإحياء أو اقطاع وقد روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضا فظهر فيها معدن فقالوا إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن وأتوا عمر بن عبد العزيز بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه و سلم لأبيهم فأخذه عمر فقبله ورد عليهم المعدن وإن كان البائع ملك الأرض بالبيع احتمل أن لا يكون له خيار لأن الحق لغيره وهو المالك الأول واحتمل أن يكون له الخيار كما لو اشترى معيبا ثم باعه ولم يعلم عيبه فإنه يستحق الرد عليه وإن كان قد باعه مثل ما اشتراه وقد روى أبو طالب عن أحمد أنه إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه وظاهر هذا أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خيارا لأنه من أجزاء الأرض فأشبه ما لو ظهر فيها حجارة لها قيمة كبيرة
فصل : وإذا كان في الأرض بئر أو عين مستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض والماء الذي فيها غير مملوك لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه فأشبه الماء الجاري في النهر إلى ملكه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر : يدخل في الملك لأنه نماء الملك وقد روي عن أحمد ما يدل على أنه يملك فإنه قال رجل له أرض ولآخر ماء فيشترك صاحب الأرض وصاحب الماء في الزرع ويكون بينهما فقال : لا بأس اختاره أبو بكر وهذا يدل على أن الماء مملوك لصاحبه وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك كالقار والنفط والمومياء والملح وكذلك الحكم في النابت في أرضه من الكلأ والشوك ففي كل ذلك يخرج على الروايتين في الماء والصحيح أن الماء لا يملك فكذلك هذه قال أحمد : لا يعجبني بيع الماء البتة قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضوهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه بالحصص فجاء يومي ولا احتاج إليه أكريه بدراهم ؟ قال ما أدري أما النبي صلى الله عليه و سلم فنهى عن بيع الماء قيل : أنه ليس يبيعه إنما يكريه قال : إنما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شيء هذا إلا البيع ؟ وروى الأثرم بإسناده عن جابر وإياس بن عبد الله المزني [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يباع الماء ] وروى أيضا عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : قال : [ المسلمون شركاء في ثلاث : في الماء والنار والكلأ ] رواه أبو عبيد في كتاب الأموال فإذا قلنا لا يملك فصاحب الأرض أحق به من غيره لكونه في ملكه فإن دخل غيره بغير إذنه فأخذه ملكه لأنه مباح في الأصل فأشبه ما لو عشش في أرضه طائر أو دخل فيها ظبي أو نضبت عن سمك فدخل إليه داخل فأخذه وأما ما يجوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحوزه في رحله أو يأخذه من المعادن فإنه يملكه بذلك وله بيعه بلا خلاف بين أهل العلم ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لأن يأخذ أحدكم حبلا فيأخذ حزمة من حطب فيبيع فيكف الله به وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع ] رواه البخاري وروى أبو عبيد في الأموال عن المشيخة أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلأ من غير نكير وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ ولا يأخذ إلا بإذن مالكه وكذلك لو وقف على بئره أو بئر مباح فاستقى بدلوه أو بدولاب أو نحوه فما يرقيه من الماء فهو ملكه وله بيعه لأنه ملكه بأخذه في إنائه قال أحمد : إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ويجوز بيع البئر نفسها والعين ومشتريها أحق بمائها وقد [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة ؟ أو كما قال فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه و سلم وسبلها للمسلمين وكان اليهودي يبيع ماءها ] وروي أن عثمان اشترى منه نصفها باثني عشر ألفا ثم قال لليهودي : اختر إما أن تأخذها يوما وآخذها أنا يوما وأما أن تنصب لك عليها دلوا وأنصب عليها دلوا فاختار يوما ويوما فكان الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين فقال اليهودي : أفسدت علي بئري فاشتر باقهيا فاشتراه بثمانية آلاف وفي هذا دليل على صحة بيعها وتسبيلها وصحة بيع ما يستقيه منها وجواز قسمه مائها بالمهايأة وكون مالكها أحق بمائها وجواز قسمه ما فيه حق وليس بمملوك فأما المياه الجارية فما كان نابعا في غير ملك كالأنهار الكبار وغيرها لم تملك بحال ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك كالطير يدخل إلى أرضه ولكل واحد أخذه ولا يملكه إلا أن يجعل له في أرضه مستقرا كالبركة والقرار أو يحتفر ساقية يأخذ فيها من ماء النهر الكبير فيكون أحق بذلك الماء من غيره كنقع البئر وإن كان ما يستقر في البركة لا يخرج منها فالأولى أنه يملكه بذلك على ما سنذكره في مياه الأمطار وما كان نابعا أو مستبطا كالقني فهو كنقع البئر وفيه من الخلاف ما فيه فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أنه يملك ماءها ويصح بيعه إذا كان معلوما لأنه مباح حصله بشيء معد له فملكه كالصيد يحصل في شبكته والسمك في بركة معدة له ولا يجوز أخذ شيء منه إلا بإذن مالكه

بيع الثمرة التي بدا صلاحها
مسألة : قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك إلى الجزاز لم يجز وإن اشتراها على القطع جاز
لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام أحدها : أن يشتريها بشرط التبقية فلا يصح البيع إجماعا لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع متفق عليه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث
القسم الثاني : أن يبيعها بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع لأن المنع إنما كان خوفا من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها بدليل ما روى أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قال : أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ ] رواه البخاري وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه
القسم الثالث : أن يبيعها مطلقا ولم يشترط قطعا ولا تبقيه فالبيع باطل وبه قال مالك و الشافعي وأجازه أبو حنيفة لأن إطلاق العقد يقتضي القطع فهو كما لو اشترطه قال : ومعنى النهي أن يبيعها مدركة قبل إدراكها بدلالة قوله : [ أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ ] فلفظه المنع تدل على أن العقد يتناول معنى هو مفقود في الحال حتى يتصور المنع ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع واستدلالهم بسياق الحديث يدل على هدم قاعدتهم التي قرروها في أن إطلاق العقد يقتضي القطع ويقرر ما قلنا من إطلاق العقد يقتضي التبقية فيصير العقد المطلق كالذي شرطت فيه التبقية يتناولهما النهي جميعا ويصح تعليلهما بالعلة التي علل بها النبي صلى الله عليه و سلم من منع الثمرة وهلاكها
فصل : وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع على ثلاثة أضرب أحدها : أن يبيعها مفردة لغير مالك الأصل فهذا الضرب الذي ذكرنا حكمه وبينا بطلانه الثاني : أن يبيعها مع الأصل فيجوز بالإجماع لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اتباع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع ] ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعا في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها كما احتملت الجهالة في بيع اللبن في الضرع مع بيع الشاة والنوى في التمر مع التمر وأساسات الحيطان في بيع الدار الثالث : أن يبيعها مفردة لمالك الأصل نحو أن تكون للبائع ولا يشترطها المبتاع فيبيعها له بعد ذلك أو يوصي لرجل بثمرة نخلة فيبيعها لورثة الموصي ففيه وجهان أحدهما : يصح البيع وهو المشهور من قول مالك وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري فيصح كما لو اشتراهما معا ولأنه إذا باعها لمالك الأصل حصل التسليم إلى المشتري على الكمال لكونه مالكا لأصولها وقرارها فصح كبيعها مع أصلها والثاني : لا يصح وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن العقد يتناول الثمرة خاصة والغرر فيما يتناوله العقد أصلا يمنع الصحة كما لو كانت الأصول لأجنبي ولأنها تدخل في عموم النهي بخلاف ما إذا باعهما معا فإنه مستثنى بالخبر المروي فيه ولأن الغرر فيما يتناوله العقد أصلا يمنع الصحة وفيما إذا باعها معا تدخل الثمرة تبعا ويجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع كما يجوز بيع اللبن في الضرع والحمل مع الشاة وغيرهما وإن باعه الثمرة بشرط القطع في الحال صح وجها واحدا ولا يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له
فصل : ولا يجوز بيع الزرع الأخضر في الأرض إلا بشرط القطع في الحال كما ذكرنا في الثمرة على الأصول لما روى مسلم عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع النخل حتى يزهي وعن بيع السنبل حتى يبيض ] ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا يعدل عن القول به وهو قول مالك وأهل المدينة وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي فإن باعه مع الأرض جاز كبيع الثمرة مع الأصل وإن باعه لمالك الأرض ففيه وجهان على ما ذكرنا في الثمرة تباع من مالك الأصل وقال أبو الخطاب : يجوز وإن باعه إياه بشرط القطع جاز وجها واحدا ولم يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له فهو كبيع الثمرة من مالك الأصل بشرط القطع وإذا اشتد حب الزرع جاز بيعه مطلقا وبشرط التبقية لقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث : [ حتى يبيض ] فجعل ذلك غاية المنع من بيعه فيدل على الجواز بعده وفي رواية نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد ولأنه إذا اشتد حبه بدا صلاحه فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها وإذا اشتد شيء من حبه جاز بيع جميع ما في البستان من نوعه كالشجرة إذا بدا الصلاح في شيء منها
فصل : ذكره القاضي في الصلح قال : وإذا اعترف لرجل بزرع ثم صالحه منه بعوض صح فيما يصح في البيع وبطل فيما يبطل فيه ولو ادعى اثنان زرعا في يد آخر فأقر لهما به فالزرع بينهما نصفان فإن صالح أحدهما عن حقه منه قبل اشتداد حبه لم يجز سواء شرط القطع أو أطلق لأنه إن أطلق بطل للنهي عن بيع المحاضرة وإن شرط القطع لم يمكنه قطع نصيبه إلا بقطع الزرع كله وإن كانت الأرض للمقر احتمل أن يصح واحتمل أن لا يصح بناء على الوجهين فيما إذا اشترى زرعا أخضر في أرض مملوكة له ولو كانت الأرض لرجل والزرع لآخر فقال أحدهما : صالحني من نصف أرضي على نصف زرعك فيكون الزرع والأرض بيننا نصفين فإن كان بعد اشتداد حبه جاز لأنه يجوز بيعه وإن كان قبل ذلك فهل يجوز ؟ على وجهين بناء على بيع الزرع من مالك الأرض وذلك لأنه يبيع نصف الزرع لمالك الأرض ويشتري منه نصف الأرض التي له فيها الزرع وإن شرطا في البيع أن يقطعا الزرع جميعه وسلم الأرض فارغة ففيه وجهان أيضا أحدهما : يصح لاشتراطهما قطع كل الزرع وتفريغ الأرض منه واحتمل أن يبطل لأن صاحب الأرض باعه نصف الأرض بشرط قطع زرع غيره ليسلم إليه أرضه وإن قلنا يصح لم يلزم الوفاء بالشرط لأن كل واحد منهما حصل زرعه في أرضه فلم يلزم قطعه
فصل : وإذا اشترى رجل نصف الثمرة قبل بدو صلاحها أو نصف الزرع قبل اشتداد حبه مشاعا لم يجز سواء اشتراه من رجل أو من أكثر منه وسواء شرط القطع أو لم يشترطه لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع ما لا يملكه فلم يصح اشتراطه
فصل : والقطن ضربان أحدهما : ما له أصل يبقى في الأرض أعواما كالشجر تتكرر ثمرته فهذا حكمه حكم الشجر في أنه يصح إفراده بالبيع وإذا بيعت الأرض بحقوقها دخل في البيع وثمره كالطلع أن تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري والثاني : ما يتكرر زرعه كل عام فحكمه الزرع ومتى كان جوزه ضعيفا رطبا لم يقوما فيه لم يجز بيعه إلا بشرط القطع كالزرع الأخضر وإن قوي جوزه واشتد جاز بيعه بشرط التبقية كالزرع الذي اشتد حبه وإذا بيعت الأرض لم يدخل في البيع إلا أن يشترطه المبتاع والباذنجان نوعان أحدهما : ما له شجر تبقى أصوله وتتكرر ثمرته فهو كالشجر والثاني : ما يتكرر زرعه كل عام فهو كالحنطة والشعير

فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع
مسألة : قال : فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها فنقل عنه حنبل وأبو طالب أن البيع يبطل قال القاضي : هي أصح فعلى هذا يرد المشتري الثمرة إلى البائع ويأخذ الثمن ونقل أحمد بن سعيد أن البيع لا يبطل وهو قول أكثر الفقهاء لأن أكثر ما فيه أن المبيع اختلط بغيره فأشبه ما لو اشترى ثمرة فحدثت ثمرة أخرى ولم تتميز أو حنطة فانثالث عليها أخرى أو ثوبا فاختلط بغيره ونقل عند أبو داود فيمن اشترى قصيلا فمرص أو توابا حتى صار شعيرا قال : إن أراد به حيلة فسد البيع وإلا لم يفسد والظاهر أن هذه ترجع إلى ما نقله ابن سعيد فإنه يتعين حمل ما نقله أحمد بن سعيد في صحة البيع على من لم يرد حيلة فإن أراد الحلية وقصد بشرطه القطع الحيلة على إبقائه لم يصح بحال إذ قد ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة ووجه الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فاستثنى منه ما اشتراه بشرط القطع فقطعه بالإجماع فيبقى ما عداه على أصل التحريم ولأن التبقية معنى حرم الشرع اشترطه لحق الله تعالى فأبطل العقد وجوده كالنسيئة فيما يحرم فيه النساء وترك التقابض فيما يشترط فيه القبض أو الفضل فيما يجب التساوي فيه ولأن صحة البيع تجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها ووسائل الحرام حرام كبيع العينة ومتى حكمنا بفساد البيع فالثمرة كلها للبائع وعن أنهما يتصدقان بالزيادة قال القاضي : هذا مستحب لوقوع الخلاف في مستحق الثمرة فاستحبت الصدقة بها وإلا فالحق أنها للبائع تبعا للأصل كسائر نماء المبيع المتصل إذا رد على البائع بفسخ أو بطلان ونقل ابن أبي موسى في الإرشاد أن البائع والمشتري يكونان شريكين في الزيادة وأما إن حكمنا بصحة العقد فقد روي أنها يشتركان في الزيادة لحصولها في ملكها فإن ملك المشتري الثمرة وملك البائع الأصل وهو سبب الزيادة وقال القاضي : الزيادة للمشتري كالعبد إذا سمن وحمل قول أحمد يشتركان على الاستحباب والأول أظهر لما ذكرنا فإن الزيادة حصلت من أصل البائع من غير استحقاق تركها فكان فيها حق له بخلاف العبد إذا سمن فإنه لا يتحقق فيه هذا المعنى ولا يشبهه ولا يصح حمل قول أحمد على الاستحباب فإنه لا يستحب للبائع أن يأخذ من المشتري ما ليس بحق له بل ذلك حرام عليه فكيف يكون مستحبا ؟ وعن أحمد أنهما يتصدقان بالزيادة وهو قول الثوري و محمد بن الحسن لأن عين المبيع زاد بجهة محظورة قال الثوري : إذا اشترى قصيلا يأخذ رأس ماله ويتصدق بالباقي ولأن الأمر اشتبه في هذه الزيادة وفي مستحقها فكان الأولى الصدقة بها ويشبه أن يكون هذا استحبابا لأن الصدقة بالشبهات مستحبة وإن أبيا الصدقة بها اشتركا فيها والزيادة هي ما بين قيمتها حين الشراء وقيمتها يوم أخذها قال القاضي : ويحتمل أنه ما بين قيمتها قبل بدو صلاحها وقيمتها بعده لأن الثمرة قبل بدو صلاحها كانت للمشتري بتمامها لا حق للبائع فيها وقال الثوري : يأخذ المشتري رأس ماله ويتصدق بالباقي وكذلك الحكم في الرطبة إذا طالت والزرع الأخضر إذا أدجن وهذا فيما إذا لم يقصد وقت الشراء تأخيره ولم يجعل شراءه بشرط القطع حيلة على المنهي عنه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها ليتركها حتى يبدو صلاحها فأما إن قصد ذلك فالبيع باطل من أصله لأنه حيلة محرمة وعند أبي حنيفة و الشافعي لا حكم لقصده والبيع صحيح قصد أو لم يقصد وأصل هذا الخلاف في تحريم الحيل وقد سبق الكلام في هذا

فإذا بدا صلاحها جاز بيعها وبدو الصلاح في البعض صلاح لجمعه
مسألة : قال فإن اشتراها بعد أن بدا صلاحها على الترك إلى الجزاز جاز
وجملة ذلك أنه بدا الصلاح في الثمرة جاز بيعها مطلقا وبشرط التبقية إلى حال الجزاز وبشرط القطع وبذلك قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز بشرط التبقية لا أن محمدا قال : إذا تناهى عظمها جاز واحتجوا بأن هذا شرط الانتفاع بملك البائع على وجه لا يقتضيه العقد فلم يجز كما لو شطر تبقيه الطعام في كندوجه ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها فمفهومة إباحة بيعها بعد بدو صلاحها والمنهي عنه قبل بدو الصلاح عندهم البيع بشرط التبقية فيجب أن يكون ذلك جائزا بعد بدو الصلاح وإلا لم يكن بدو الصلاح غاية ولا فائدة في ذكره ولـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وتأمن العاهة ] وتعليله بأمن العاهة يدل على التبقية لأن ما يقطع في الحال لا يخاف العاهة عليه وإذا بدا الصلاح فقد أمنت العاهة فيجب أن يجوز بيعه مبقي لزوال علة المنع ولأن النقل والتحويل يجب في المبيع بحكم العرف فإذا شرطه جاز كما لو شرط نقل الطعام من ملك البائع حسب الإمكان وفي هذا انفصال عما ذكروه
فصل : ولا يختلف المذهب أن بدو الصلاح في بعض ثمرة النخلة أو الشجرة صالح لجمعيها أعني أنه يباح بيع جميعها بذلك ولا أعلم فيه اختلافا وهل يجوز بيع سائر ما في البستان من ذلك النوع ؟ فيه روايتان أظهرهما جوازه وهو قول الشافعي و محمد بن الحسن وعنه لا يجوز إلا بيع ما بدا صلاحه لأن ما لم يبد صلاحه داخل في عموم النهي ولأنه لم يبد صلاحه فلم يجز بيعه من غير شرط القطع كالجنس الآخر وكالذي في البستان الآخر ووجه الأولى أنه بدا الصلاح في نوعه من البستان الذي هو فيه فجاز بيع جميعه كالشجرة والواحدة ولأن اعتبار بدو الصلاح في الجميع يشق ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي فوجب أن يتبع ما لم يبد صلاحه من نوعه لما بدا على ما ذكرنا فيما أبر بعضه دون البعض فأما نوع آخر من ذلك الجنس فقال القاضي : لا يتبعه وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال محمد بن الحسن : ما كان متقارب الإدراك فبدو صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه و وإن كان يتأخر إدراك البعض تأخيرا كثيرا فالبيع جائز فيما أدرك ولا يجوز في الباقي وقال أبو الخطاب : يجوز بيع ما في البستان من ذلك الجنس وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن الجنس الواحد يضم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة فيتبعه في جواز البيع كالنوع الواحد والأول أولى لأن النوعين قد يتباعد إدراكهما فلم يتبع أحدهما الآخر في بدو الصالح كالجنسين ويخالف الزكاة فإن القصد هو الغني من جنس ذلك المال لتقارب منفعته وقيام كل نوع مقام النوع الآخر في المقصود والمعنى ههنا هو تقارب إدراك أحدهما من الآخر ودفع الضرر الحاصل بالاشتراك واختلاف الأيدي ولا يحص ذلك في النوعين فصارا في هذا كالجنسين
فصل : فأما النوع الواحد من بستانين فلا يتبع أحدهما الآخر في جواز البيع حتى يبدو الصلاح في أحدهما متجاورين كانا أو متباعدين وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أحمد رواية أخرى أن بدو الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه وبهذا قال مالك لأنهما يتقاربان في الصلاح فأشبها القراح الواحد ولأن المقصود الأمن من العاهة وقد وجد والمذهب الأول لأنه إنما جعل ما لم يبد صلاحه بمنزلة ما بدا وتابعا له دفعا لضرر الاشتراك واختلاف الأيدي وإلا فالأصل اعتبار كل شيء بنفسه وما في قراح آخر لا يوجد فيه هذا الضرر فوجب أن لا يتبع الآخر كما لو تباعدا وما ذكروه ينتقض بما لم يجاوره من ذلك النوع ولو بدا صلاح بعض النوع والواحد فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه من بقية النوع من ذلك البستان لم يجز لدخوله تحت عموم النهي ويقدر قياسه على الصورة المخصوصة من العموم وهي ما إذا باعه مع ما بدا صلاحه لأنه دخل في جواز البيع تبعا دفعا لمضرة الاشتراك واختلاف الأيدي ولا يوجد ذلك ههنا ولأنه قد يدخل في البيع تبعا ما يجوز إفراده كالثمرة تباع مع الأصل والزرع مع الأرض واللبن في الضرع مع الشاة ويحتمل الجواز لأن الكل في حكم ما بدا صلاحه ولأنه يجوز بيعه مع غيره فجاز بيعها مفردا كالذي بدا صلاحه
فصل : إذا احتاجت الثمرة إلى سقي لزم البائع ذلك لأنه يجب عليه تسليم الثمرة كاملة وذلك يكون بالسقي فإن قيل فلم قلتم إنه إذا باع الأصل وعليه ثمرة للبائع لا يلزم المشتري سقيها ؟ قلنا لأن المشتري لا يجب عليه تسليم الثمرة لأنه لم يملكها من جهته وإنما بقي ملكه عليها بخلاف مسألتنا فإن امتنع البائع من السقي لضرر يلحق بالأصل أجبر عليه لأنه دخل على ذلك
فصل : ويجوز لمشتري الثمرة بيعها في شجرها روي ذلك عن الزبير بن العوام و زيد بن ثابت و الحسن بن أبي الحسن البصري و أبي حنيفة و الشافعي و ابن المنذر وكرهه ابن عباس و عكرمة و أبو سلمة لأنه بيع له قبل قبضه فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض فلم يقبضه ولنا أنه يجوز له التصرف فيه فجاز له بيعه كما لو جزه وقولهم لم يقبضه لا يصح فإن قبض كل شيء بحسبه وهذا قبضه التخلية وقد وجدت

الأمور التي يحصل فيها بدو الصلاح في النخل والكرم
مسألة : قال : فإن كانت لا ثمرة نخل فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة وإن كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيها النضج
وجملة ذلك أن ما كان ن الثمرة بتغير لونه عند صلاحه كثمرة النخل العنب الأسود والإجاص فبدو صلاحه بذلك وإن كان العنب أبيض فصلاحه بتموهه وهو أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفر لونه وإن كان مما لا يتلون كالتفاح ونحوه فبأن يحلو أو يطيب وإن كان بطيخا أو نحوه فبأن يبدو فيه النضج وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيبا صغارا وكبارا كالقثاء والخيار فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادة وقال القاضي وأصحاب الشافعي : بلوغه أن يتناهى عظمه وما قلناه أشبه بصلاحه مما قالوه فإن بدو صلاح الشيء ابتداؤه وتناهي عظمه آخر صلاحه ولأن بدو الصلاح في الثمر يسبق حال الجزاز فلا يجوز أن يجعل بدو الصلاح فيم يقاس عليه بسبقه قطعه عادة إلا أن يريدوا بتناهي عظمته انتهاءه إلى الحال التي جرت العادة بأخذه فيها فيكون كما ذكرنا وما قلنا في هذا الفصل فهو مالك و الشافعي وكثير من أهل العلم أو مقارب له وقال عطاء : لا يباع حتى يؤكل من الثمر قليل أو كثير وروي نحوه عن ابن عمر وابن عباس ولعلهم أرادوا صلاحه للأكل فيرجع معناه إلى ما قلنا فإن ابن عباس قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل ] متفق عليه وإن أرادوا حقيقة الأكل كان ما ذكرنا أولى لأن ما رووه يحتمل صلاحه للأكل فيحمل على ذلك موافقة لأكثر الأخبار وهو ما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب ] متفق عليه و [ نهى أن تباع الثمرة حتى تزهو قيل وما تزهو ؟ قال : تحمار أو تصفار ] رواه البخاري و [ نهى عن بيع العنب حتى يسود ] رواه الترمذي و ابن ماجة والأحاديث في هذا كثيرة كلها تدل على هذا المعنى

بيع البقول والنبات المستتر والنبات الذي يقطع مرة واحدة
مسألة : قال : ولا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان وما أشبهه إلا لقطة لقطة
وجملة ذلك أنه إذا باع ثمرة شيء من هذه البقول لم يجز إلا بيع الموجود منها دون المعدوم وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يجوز بيع الجميع لأن ذلك يشق تمييزه فجعل ما لم يظهر تبعا لما ظهر كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا ولنا أنها ثمرة لم تخلق فلم يجز بيعها كما لو باعها قبل ظهور شيء منها والحاجة تندفع ببيع أصوله ولأن ما لم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع بخلاف ما لم يخلق ولأن ما لم يخلق من ثمرة النخل لا يجوز بيعه تبعا لما خلق وإن كان ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا إذا تقرر هذا فإن باعها قبل بدو صلاحها لم يجز إلا بشرط القطع فإن كان بعد بدو صلاحها جاز مطلقا وبشرط القطع والتبقية على ما ذكرنا في ثمرة الأشجار وقد بينا بماذا يكون بدو صلاحه
فصل : قال القاضي : ويصح بيع أصول هذه البقول التي تتكرر ثمرتها من غير شرط القطع وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي ولا فرق بين كون الأصول صغار أو كبارا مثمرة أو غيره مثمرة لأنه أصل تكرر فيه الثمر فأشبه الشجر فإن باع المثمر منه فثمرته الظاهرة للبائع متروكة إلى حين بلوغها إلا أن يشترطها المبتاع فإن حدثت ثمرة أخرى فهي للمشتري فإن اختلطت بثمرة البائع ولم تتميز كان الحكم فيها كثمرة الشجرة إذا اختلطت بثمرة أخرى على ما مر حكمه
فصل : ولا يجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض كالجزر والفجل والبصل والثوم حتى يقلع ويشاهد وهذا قول الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي وأباحه مالك و الأوزاعي و إسحاق لأن الحاجة داعية إليه فأشبه بيع ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا ولنا أنه مبيع مجهول لم يره ولم يوصف له فأشبه بيع الحمل ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الغرر ] رواه مسلم وهذا غرر وأما بيع ما لم يبد صلاحه فإنما جاز بيعه لأن الظاهر أنه يتلاحق في الصلاح ويتبع بعضه بعضا فإن كان مما تقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر والحيطان التي لها أساسات مدفونة ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا فلا تضر جهالته كالحمل في البطن واللبن في الضرع مع الحيوان وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب فإن تساويا لم يجز لأن الأصل اعتبار الشرط في الجميع وإنما سقط اعتباره فيما كان معظم المقصود منه ظاهرا تبعا ففيما عداه يبقى على الأصل
فصل : ويجوز بيع الجوز واللوز والباقلا الأخضر في قشرته وفي شجره وبيع الحل المشتد في سنبله وبيع الطلع قبل تشققه مقطوعا على وجه الأرض وفي شجره وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي : لا يجوز حتى ينزع عنه قشره الأعلى إلا في الطلع والسنبل في أحد القولين واحتج بأنه مستور بما لا يدخر عليه ولا مصلحة فيه فلم يجز بيعه كتراب الصاغة والمعادن وبيع الحيوان المذبوح في سلخه
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ] فمفهومة إباحة بيعه إذا بدا صلاحه وأبيض سنبله ولأنه مستور بحائل من أصل خلقته فجاز بيعه كالرمان والبيض والقشر الأسفل ولا يصح قولهم ليس من مصلحته فإنه لا قوام له في شجرة إلا به والباقلا يؤكل رطبا وقشرة يحفظ رطوبته ولأن الباقلا يباع في أسواق المسلمين من غير نكير فكان ذلك إجماعا وكذلك الجوز واللوز في شجرها والحيوان المذبوح يجوز في سلخه فإنه إذا جاز بيعه قبل ذبحه وهو يراد للذبح فكذلك إذا ذبح كان أن الرمانة إذا جاز بيعها قبل كسرها فكذلك إذا كسرت فكذلك إذا كسرت وأما تراب الصاغة والمعدن فلنا فيهما منع وإن سلم فليس ذلك من أصل الخلقة في تراب الصاغة ولا بقاؤه فيه من مصلحته بخلاف مسألتنا
مسألة : قال : وكذلك الرطبة كل حزة
وجملة ذلك أن الرطبة وما أشبهها مما تثبت أصوله في الأرض ويؤخذ ما ظهر منه بالقطع دفعة بعد دفعة كالنعناع والهدبا وشبههما لا يجوز بيعه إلا أن يبيع الظاهر منه بشرط القطع في الحال وبذلك قال الشافعي وروي ذلك عن الحسن و عطاء ورخص مالك في أن يشتري جزتين وثلاثا ولا يصح لأن ما في الأرض من مستور وما يحد منه معدوم فلا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع ما يحدث من الثمرة فإذا ثبت هذا فمتى اشتراها قيل لم يحجز له إبقاؤها لأن ما لم يظهر منها أعيان لم يتناولها البيع فيكون ذلك للبائع إذا ظهر فيفضي إلى اختلاط المبيع بغيره والثمرة بخلاف ذلك فإن أخرها حتى طالت فالحكم فيها كالثمرة إذا اشتراها قبل بدو صلاحها ثم تركها حتى بدا صلاحها
فصل : وإن اشترى قصيلا من شعير ونحوه فقطعه ثم عاد فنبت فهو لصاحب الأرض لأن المشتري ترك الأصل على سبيل الرفض لها فسقط حقه منها كما يسقط حق صاحب الزرع من السنابل التي يخلفها ولذلك أبيح لكل التقاطها ولو سقط من الزرع حب ثم نبت من العام المقبل فهو لصاحب الأرض نص أحمد على هاتين المسألتين ومما يؤكد ما قلنا أن البائع لو أراد التصرف في أرضه بعد فصل الزرع بما يفسد الأصول ويقلعها كان له ذلك ولم يملك المشتري منعه منه ولو كان الباقي مستحقا له الملك منعه منه

الزرع الذي يباع بشرط القطع كون الحصاد على المشتري
مسألة : قال : والحصاد على المشتري فإنه شرطه على البائع بطل البيع
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أن من اشترى زرعا أو جزة من الرطبة ونحوها أ ثمرة في أصولها فإن حصاد الزرع وجز الرطبة وجزاز الثمرة وقطعها على المشتري لأن نقل المبيع وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع ويفارق الكيل والوزن فإنهما على البائع لأنهما من مؤنة التسليم إلى المشتري والتسليم على البائع وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع بدليل جواز بيعها والتصرف فيها وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي ولا أعلم مخالفا
الفصل الثاني : إذا شرطه على البائع فاختلف أصحابنا فقال الخرقي : يبطل البيع وقال ابن أبي موسى لا يجوز وقيل : يجوز فإن قلنا : لا يجوز فهل يبطل البيع لبطلان الشرط ؟ على روايتين وقال القاضي : المذهب جواز الشرط ذكره ابن حامد وأبو بكر ولم أجد هذا الذي ذكره الخرقي رواية في المذهب واختلف أصحاب الشافعي أيضا فقال بعضهم : إذا شرط الحصاد على البائع فسد البيع قولا واحدا وقال بعضهم : يكون على قولين فمن أفسد قال : لا يصح لثلاثة معان أحدها : أنه شرط العمل في الزرع قبل أن يملكه والثاني : أنه شرط ما لا يقتضيه العقد والثالث : أنه شرط تأخير التسليم لأن معنى ذلك تسليمه مقطوعا ومن أجازه قال : هذا بيع وإجارة لأنه باعه الزرع وآجره نفسه على حصاده وكل واحد منهما يصح إفراده بالعقد فإذا جمعهما جاز كالعينين وقولهم شرط العمل فما لا يملكه يبطل بشرط رهن المبيع على الثمن في البيع والثاني يبطل بشرط الرهن والكفيل والخيار والثالث ليس بتأخير لأنه يمكنه تسليمه قائما ولأن الشرط من المتسلم فليس ذلك بتأخير التسليم فإذا فسدت هذه المعاني صح لما ذكرناه فإن قيل فالبيع يخالف تحكمه حكم الإجارة لأن الضمان ينتقل في البيع بتسلم العين بخلاف الإجارة فكيف يصح الجمع بينهما ؟ قلنا كما يصح بيع الشقص والسيف وحكمهما مختلف فإن الشفعة تثبت في الشقص دون السيف ويجوز بيع الجمع بينهما وقول الخرقي إن العقد ههنا يبطل يحتمل أن يختص بهذه المسألة وشبهها مما يفضي الشرط فيه إلى التنازع فإن البائع ربما أراد قطعها من أعلاها ليبقى له منها بقية والمشتري يريد الاستقصاء عليها ليزيد له ما يأخذه فيفضي إلى التنازع وهو مفسدة فيبطل البيع من أجله ويحتمل أن يقاس عليه ما أشبهه من اشتراط منفعة البائع في المبيع لما ذكرنا في صدر المسألة والأول أولى لوجهين أحدهما : أنه قال في موضع آخر : و لا يبطل البيع بشرط واحد
والثاني : أن المذهب أنه يصح اشتراط منفعة البائع في المبيع مثل أن يشتري ثوبا ويشترط على بائعه خياطته قميصا أو قلعة ويشترط حذروها نعلا أو جرزة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم نص عليه أحمد في رواية مهنا وغيره حتى قال القاضي : لم أجد بما قال الخرقي رواية في أنه لا يصح واحتج أحمد ابن محمد ابن مسلمة أشترى من نبطي جرزة حطب وشارطه على حملها وبه قال إسحاق و أبو عبيد وقال أبو حنيفة : يجوز أن يشتري قلعة ويشترط على البائع تشريكها وحكي عن أبي ثور و الثوري أنهما أبطلا العقد بهذا الشرط لأنه شرط فاسد فأشبه سائر الشروط الفاسدة و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع وشرط ]
ولنا ما تقدم ولم يصح أن النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع وشرط إنما الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن شرطين في بيع ] كذا ذكره الترمذي وهذا دال بمفهومه على جواز الشرط الواحد قال أحمد : إنما النهي عن شرطين في بيع أما الشرط الواحد فلا بأس به

اشتراط منفعة لأحد المتعاقدين
فصل : ولا بد من كون المنفعة معلومة لهما ليصح اشتراطها لأننا نزلنا ذلك منزلة الإجارة فلو اشترط حمل الحطب إلى منزله والبائع لا يعرف منزله لم يصح ولو اشترط حذوها نعلا فلا بد من معرفة صفتها كما لو استأجره على ذلك ابتداء قال أحمد : في الرجل يشتري النعل على أن يحذوها جائز إذا أراد الشراك وإن تعذر العمل بتلف المبيع قبله أو بموت البائع انفسخت الإجارة ورجع المشتري عليه بعوض ذلك وإن تعذر بمعرض أقيم مقامه من يعمل العمل والأجرة عليه كقولنا في الإجارة
فصل : ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن يبيع دارا ويستثنى سكناها شهرا أو جملا ويشترط ظهره إلى مكان معلوم أو عبدا ويستثنى خدمته سنة نص على هذا أحمد وهو قول الأوزاعي و إسحاق و أبي ثور و ابن المنذر وقال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يصح الشرط لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع وشرط ولأنه ينافي مقتضى البيع فأشبه ما لو شرط أن لا يسلمه وذلك لأنه شطر تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفي البائع منفعته ولأن مقتضى البيع ملك المبيع ومنافعه وهذا الشرط ينافيه وقال ابن عقيل : فيه رواية ثانية أنه يبطل البيع والشرط نقلها عبد الله بن محمد الفقيه في الرجل يشتري من الرجل جارية ويشترط أن تخدمه فالبيع باطل وهذا الرواية لا تدل على محل النزاع في هذه المسألة فإن اشتراط خدمة الجارية بالطل لوجهين أحدهما : أنها مجهولة وإطلاقها يقتضي خدمتها أبدا وهذا لا خلاف في بطلانه إنما الخلاف في اشتراط منفعة معلومة الثاني : أن يشترط خدمتها بعد زوال ملكه عنها فيقضي إلى الخلوة بها والخطر برؤيتها وصحبتها ولا يوجد هذا في غيرها ولذلك منع إعارة الجارية الشابة لغير محرمها وقال مالك : إذا اشترط ركوبا إلى مكان قريب جاز وإن كان إلى مكان بعيد كره لأن اليسير تدخله المسامحة ولنا ما [ روى جابر أنه باع النبي صلى الله عليه و سلم جملا واشترط ظهره إلى المدنية ] وفي لفظ قال : [ فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي ] متفق عليه وفي لفظ قال : [ فبعته منه بخمس أواق قال : قلت على أن لي ظهره إلى المدينة قال : ولك ظهره إلى المدنية ] ورواه مسلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة ولأن المنفعة قد تقع مستثناة بالشرع على المشتري فيما إذا اشترى نخلة مؤبرة أو أرضا مزروعة أو دارا مؤجرة أو أمة مزوجة فجاز أن يستثنيها كما لو اشترط البائع الثمرة قبل التأبير ولم يصح نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع وشرط وإنما نهي عن شرطين في بيع فمفهومه إباحة الشرط الواحد وقياسهم ينتقض باشتراط الخيار والتأجيل في الثمن
فصل : وإن باعه أمة واستثنى وطأها مدة معلومة لم يجز لأن الوطء لا يباح في غير ملك أو نكاح لقوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وفارق اشتراط وطء المكاتبة حيث نبيحه لأن المكاتبة مملوكة فيستباح وطؤها بالشرط في المحل المملوك و اختار ابن عقيل أنه لا يباح وطؤها أيضا وهو قول أكثر الفقهاء
فصل : وإن باع المشتري العين المستثناة منفعتها صح البيع وتكون في يد المشتري الثاني مستثناة أيضا فإن كان عالما بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له خيار كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه فإن لم يعلم فله خيار الفسخ لأنه عيب فهو كما لو اشترى أمة مزوجة أو دارا مؤجرة وإن أتلف المشتري العين فعليه أجرة المثل لتفويت المنفعة المستحقة لغيره وثمن المبيع وإن تلفت العين بتفريطه فهو كتلفها بفعله نص عليه أحمد وقال : يرجع البائع على المبتاع بأجرة المثل قال القاضي : معناه عندي القدر الذي نقصه البائع لأجل الشرط وظاهر كلام أحمد خلاف هذا لأنه يضمن ما فات بتفريطه فضمنه بعوضه وهو أجرة المثل فأما إن تلفت بغير فعله ولا بتفريطه لم يضمن قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله فعلى المشتري أن يحمله على غيره لأنه كان له حملان قال : لا إنما شطر هذا عليه بعينه ولأنه لم يملكها البائع من جهته فلم يلزمه عوضها كما لو تلفت النخلة المؤبرة بثمرتها أو غيره المؤبرة إذا اشترط البائع ثمرتها وكما لو باع حائطا واستثنى منه شجرة بعينها فتلفت وقال القاضي : عليه ضمانها أخذا من عموم كلام أحمد وإذا تلفت العين رجع البائع على المبتاع بأرجة المثل وهو محمول على حاله التفريط على ما ذكرنا
فصل : وإذا اشترط البائع منفعة المبيع وأراد المشتري أن يعطيه ما يقوم مقام المبيع في المنفعة أو يعوضه عنها لم يلزمه قبوله وله استيفاء المنفعة من غير المبيع نص عليه أحمد لأن حقه تعلق بها فأشبه ما لو استأجر عينا فبذل له الآخر مثلها ولأن البائع قد يكون له غرض في استيفاء منافع تلك العين فلا يجبر علي قبول عوضها فإن تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وإن أراد البائع إعارة العين أو إجارتها لمن يقوم مقامه فله ذلك في قياس المذهب لأنها منافع مستحقة له فملك ذلك فيها كمنافع الدار المستأجرة والموصى بمنافعها ولا يجوز إجارتها إلا لمثله في الانتفاع فإن أراد إجارتها أو إعارتها لمن يضر بالعين بانتفاعه لم يجز ذلك لكما لا يجوز له إجارة العين المستأجرة لمن لا يقوم مقامه ذكر ذلك ابن عقيل
فصل : إذا اشترط المشتري منفعة البائع في المبيع فأقام البائع مقامه من يعمل العمل فله ذلك لأنه ههنا بمنزلة الأجير المشترك يجوز أن يعمل العمل بنفسه وبمن يقوم مقامه وإن أراد بذلك العوض عن ذلك لم يلزم المشتري قبوله وإن أراد المشتري أخذ العوض عنه لم يلزم البائع بذلة لأن المعاوضة عقد تراض فلم يجبر عليه أحد وإن تراضيا عليه احتمل الجواز لأنها منفعة يجوز أخذ العوض عنها لو لم يشترطها فإذا ملكها المشتري جاز له أخذ العوض عنها كما لو استأجرها وكما يجوز أن يؤجر المنافع الموصى بها من ورثة الموصى ويحتلم أن لا يجوز لأنه مشترط بتحكم العادة والاستحسان لأجل الحاجة فلم يجز أخذ العوض عنه كالقرض فإنه يجوز أن يرد في الخبز والخمير أقل أو أكثر ولو أراد أن يأخذ بقدر خبزه وكسره بقدر الزيادة الجائزة لم يجز ولأنه أخذ عوض عن مرفق معتاد جرت العادة بالعفو عنه دون أخذ العوض فأشبه المنافع المستثناة شرعا وهو ما لو باع أرضا فيها زرع للبائع واستحق تبقيته إلى حين الحصاد فلو أخذه قصيلا لينتفع بالأرض إلى وقت الحصاد لم يكن له ذلك
فصل : ولو قال : بعتك هذه الدار وأجرتكها شهرا لم يصح لأنه إذا باعه فقد ملك المشتري المنافع فإذا أجره إياها فقد شرط أن يكون له بدل في مقابلة ما ملكه المشتري فلم يصح قال ابن عقيل : وقد [ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن قفيز الطحان ] ومعناه أن يستأجر طحانا ليطحن له كراء بقفيز منه فيصير كأنه شرط عمله في القفيز عوضا عن عمله في باقي الكراء المطحون ويحتمل الجواز بناء على اشتراط منفعة البائع في المبيع
فصل : وإن شرط في المبيع إن هو باعه فالبائع أحق به بالثمن فروى المروذي عنه أنه قال في معنى حديث النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا شرطان في بيع ] يعني أنه فاسد لأنه شرط أن يبيعه إياه وأن يعطيه إياه بالثمن الأول فهما شرطان في بيع نهي عنهما ولأنه ينافي مقتضى العقد لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره إذا أعطاه ثمنه فهو كما لو شرط أن لا يبيعه إلا من فلان أو أن لا يبيعه أصلا وروى عنه إسماعيل بن سعيد البيع جائز لما روي عن ابن مسعود أنه قال : ابتعت من امرأتي زينب الثقفية جارية وشرطت لها أن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به فذكرت ذلك لعمر فقال لا تقربها ولأحد فيها شرط قال إسماعيل : فذكرت أحمد الحديث فقال : البيع جائز ولا تقربها لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة ولم يقل عمر في ذلك البيع فاسد فحمل الحديث على ظاهره وأخذه به وقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته والقياس يقتضي فساده ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية المروذي على فساد الشرط وفي رواية إسماعيل بن سعيد على جواز البيع فيكون البيع صحيحا والشرط فاسدا كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها وقول أحمد لا تقربها قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة أن لا يبيعها ولا يهبها أو شرط عليه ولاءها ولا يقربها والبيع جائز واحتج بحديث عمر لا تقربها ولا حد فيها مثنوبة قال القاضي : وهذا على الكراهة لا على التحريم قال ابن عقيل : عندي أنه إنما منع من الوطء لمكان الخلاف في العقد لكون يفسد بفساد الشرط في بعض المذاهب

استثناء بعض المبيع في البيع
مسألة : قال : وإذا باع حائطا واستثنى منه صاعا لم يجز وإن استثنى منه نخلة أو شجرة بعينها جاز
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أنه إذا باع ثمرة بستان واستثنى صاعا أو آصعا أو مدا أو أمدادا أو باع صبرة واستثنى منها مثل ذلك لم يجز وروي ذلك عن سعيد بن المسيب و الحسن و الشافعي و الأوزاعي و إسحاق و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يجوز وهو قول ابن سيرين و سالم ابن عبد الله و مالك ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الثنيا إلا أن تعلم ] رواه الترمذي وقال : هو حديث حسن صحيح وهذه ثنيا معلومة ولأنه استثنى معلوما أشبه ما إذا استثنى منها جزاءا ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا ] رواه البخاري ولأن المبيع معلوم بالمشاهدة لا بالقدر والاستثناء بغير حكم المشاهدة لأنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة فلم يجز ويخالف الجزء فإنه لا يغير حكم المشاهدة ولا يمنع المعرفة بها
فصل : وإن باع شجرة أو نخلة واستثنى أرطالا معلومة فالحكم فيه كما لو باع حائطا واستثنى آصعا وقال القاضي في شرحه : يصح لأن الصحابة رضي الله عنهم أجازوا استثناء سواقط الشاة والصحيح ما ذكرناه وهذا أشبه بمسألة الصاع من الحائط وإليها أقرب والمعنى الذي ذكرناه فيها متحقق ههنا فلا يصح والله أعلم
الفصل الثاني : أنه إذا استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز ولا نعلم في ذلك خلافا وذلك لأن المستثنى معلوم ولا يؤدي إلى جهالة المستثنى منه وإن استثنى شجرة غير معينة لم يجز لأن الاستثناء غير معلوم فصار المبيع والمستثنى مجهولين وروي عن ابن عمر أنه باع ثمرته بأربعة آلاف واستثنى طعام القيان وهذا يحتمل أنه استثنى نخلا معينا بقدر طعام القيان لأنه لو حمل على غير ذلك كان مخالفا لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الثنيا إلا أن تعلم ولأن المستثنى متى كان مجهولا لزم أن يكون الباقي بعده مجهولا فلا يصح بيعه كما لو قال : بعتك من هذه الثمرة طعام القيان
فصل : وإن استثنى جزءا معلوما من الصبرة أو الحائط مشاعا كثلث أو ربع أو أجزاء كسبعين أو ثلاثة أثمان صح البيع والاستثناء ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي وقال أبو بكر و ابن أبي موسى : لا يجوز ولنا أنه لا يؤدي إلى جهالة المستثنى ولا المستثنى منه فصح كما لو اشترى شجرة بعينها وذلك لأن معنى بعتك هذه الصبرة إلا ثلثها أي بعتك ثلثيها وقوله إلا ربعها معناه بعتك ثلاثة أرباعها ولو باع حيوانا واستثنى ثلثه جاز وكان معناه بعتك ثلثيه ومنه منه القاضي أبو يعلى قياسا على استثناء الشحم ولا يصح لأن الشحم مجهول لا يصح إفراده بالبيع وهذا معلوم ويصح إفراده بالبيع فصح استثناؤه كالشجرة المعينة وقياس المعلوم على المجهول في الفساد لا يصح فعلى هذا يصيران شريكين فيه للمشتري ثلثاه وللبائع ثلثه
فصل : فإن قال : بعتك قفيزا من هذه الصبرة إلا مكوكا جاز لأن القفيز معلوم والمكوك معلوم فلا يفضي إلى جهالة ولو قال : بعتك هذه الثمرة بأربعة دراهم إلا بقدر درهم صح لأن قدره معلوم من المبيع وهو الربع فكأنه قال بعتك ثلاثة أرباع هذه الثمرة بأربعة دراهم ولو قال : إلا ما يساوي درهما لم يصح لأن ما يساوي الدرهم قد يكون الربع أو أكثر أو أقل فيكون مجهولا فيبطل
فصل : وإن باع قطعيا واستثنى منه شاة بعينها صح وإن استثنى شاة غير معينة لم يصح نص عليه وهذا قول أكثر أهل العلم وقال مالك : يصح أن يبيع مائة شاة إلا شاة يختارها ثمرة حائطه ويستثنى ثمرة نخلات يعدها ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ونهى عن بيع الغرر مجهول فلم يصح كما لو قال : إلا شاة مطلقة ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما لو قال بعتك شاة تختارها من القطيع وضابط هذا الباب أنه لا يصح استثناءه ما لا يصح بيعه مفردا أو بيع ما عداه منفردا عن المستثنى نحو هذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي لا أن أصحابنا استثنوا من هذا سواقط الشاة وجلدها للأثر الوارد فيه والحمل على رواية الجواز لفعل ابن عمر وما عداه هذا فيبقى على الأصل
فصل : وإن باع حيوانا مأكولا واستثنى رأسه وجلده وسواقطه صح نص عليه أحمد وقال مالك : يصح في السفر دون الحضر لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسواقط فجوز له شراء اللحم دونها وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا يجوز لأنه لا يجوز إفراده بالعقد فلم يجز استثناؤه كالحمل ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ] وهذه معلومة و [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم فذهب أبو بكر وعامر فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها ] وروى أبو بكر في الشافي بإسناده عن جابر عن الشعبي قال قضي زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في بقرة باعها رجل واشترط رأسها فقضى بالشروى يعني أن يعطى رأسا مثل رأس ولأن المستثنى والمستثنى منه معلومان فصح كما لو باع حائطا واستثنى منه نخلة معنية وكونه لا يجوز إفراده بالبيع يبطل بالثمرة قبل التأبير لا يجوز إفرادها بالبيع بشرط التبقية ويجوز استثناؤها والحمل مجهول ولنا فيه منع فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر عليه ويلزمه قيمة ذلك على التقريب نص عليه لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قضى في رجل اشترى ناقة وشرط ثنياها فقال : اذهبوا إلى السوق فإذا بلغت أقصى ثمنها فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها
فصل : فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح نص عليه أحمد قال أبو بكر : لايختلفون عن أبي عبد الله أنه لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ولأنه مجهول لا يصح إفراده بالبيع فلم يصح استثناؤه كفخذها وإن استثنى الحمل لم يصح استثناؤه لذلك وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الثوري و الشافعي وقد نقل عن أحمد صحته وبه قال الحسن و النخعي و إسحاق و أبو ثور لما روى نافع عن ابن عمر أنه باع جارية واستثنى ما في بطنها ولأنه يصح استئناؤه في العتق فصح في البيع قياسا عليه ولنا ما تقدم والصحيح من حديث ابن عمر أنه أعتق جارية واستثنى ما في بطنها لأن الثقاة الحفاظ حدثوا الحديث فقالوا أعتق جارية والإسناد واحد قاله أبو بكر ولا يلزم من الصحة في العتق الصحة في البيع لأن العتق لا تمنعه الجهالة ولا العجز عن التسليم ولا يعتبر فيه شروط البيع
فصل : وإن باع جارية حاملا بحر فقال القاضي : لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه لا يدخل في البيع فكأنه مستثنى والأولى صحته لأن المبيع معلوم وجهالة الحمل لا تضر من حيث إنه ليس بمبيع ولا مستثنى باللفظ وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ كما لو باع أمة مزوجة صح ووقعت منفعة البضع مستثناة بالشرع ولو استثناها باللفظ لم يجز ولو باع أرضا فيها زرع للبائع أو نخلة مؤبرة لوقعت منفعتها مستثناة مدة بقاء الزرع والثمرة ولو استثناها بقوله لم يجز
فصل : ولو باع دارا إلا ذراعا وهما يعلمان ذرعان الدار جاز وكان مستثنيا جزءا مشاعا منها لأنه جزء معلوم يصح إفراده بالبيع فجاز استثناؤه كثلثها وربعها وإن لم يعلما لم يجز لأنه مجهول لا يجوز إفراده بالبيع ولأنه استثنى معلوم المقدار من مبيع معلوم بالمشاهدة فلم يجز كاستثناء الصاع من ثمرة الحائط والقفيز من الصبرة وهكذا الحكم إذا باعه ضيعة الاجريبا فمتى عليما جربان الضيعة صح وإلا فلا
فصل : وإذا باع سمسما واستثنى الكسب لم يجز لأنه قد باعه الشيرج في الحقيقة وهو غير معلوم فإنه غير معين ولا موصوف ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلمغير معلوم ولو باعه السمسم واستثنى الشيرج لم يجز كذلك
فصل : ولو باعه بدينار إلا درهما أو إلا قفيزا من حنطة أو شعيرا لم يصح البيع لأنه قصد رفع قدر المستثنى منه وقدر ذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا

هلال الثمر المبيع
مسألة : قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فتلفت بجائحة من السماء رجع بها على البائع
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : أن ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع وبهذا قال أكثر أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد بن الأنصاري و مالك و أبو عبيد وجماعة من أهل الحديث وبه قال الشافعي في القديم وقال أبو حنيفة و الشافعي في الجديد : هو من ضمان المشتري لما [ روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسألته أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : تألى فلان أن لا يفعل خيرا ] متفق عليه ولو كان واجبا لأجبره عليه لأن التخلية يتعلق بها جاوز التصرف فتعلق بها الضمان كالنقل والتحويل ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره
ولنا ما روى مسلم في صحيحه عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بوضع الجوائح ] وعنه قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا لم تأخذ مال أخيك بغير حق ] ؟ ورواه مسلم و أبو داود ولفظه [ من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا علام يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ؟ ] وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه قال الشافعي : لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده ولو كنت قائلا بوضعها لوضعها في القليل والكثير قلنا : الحديث ثابت رواه الأئمة منهم الأمام أحمد و يحيى بن معين و علي بن جرب وغيرهم عن ابن عيينة عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر ورواه مسلم في صحيحة و أبو داود في سننه و ابن ماجة وغيرهم ولا حجة لهم في حديثهم فإن فعل الواجب خير فإذا تألى أن لا تفعل الواجب فقد تألى ألا يفعل خيرا فأما الإجبار فلا يفعله النبي صلى الله عليه و سلم بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع ولا حضور ولأن التخلية ليست بقبض تام بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر كذلك الثمرة فإنها في شجرها كالمنافع قبل استيفائها توجد حالا فحالا وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة
الفصل الثاني : أن الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها كالريح والبرد والجراد والعطش لما روى الساجي بإسناده عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في الجائحة تكون في البرد والجراد وفي الحبق والسيل وفي الريح ] وهذا تفسير من الراوي لكلام النبي صلى الله عليه و سلم فيجب الرجوع إليه وأما ما كان بفعل آدمي فقال القاضي : المشتري بالخيار بن فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن وبين البقاء عليه ومطالبة الجاني بالقيمة لأنه أمكن الرجوع ببدله بخلاف التالف بالجائحة
الفصل الثالث : أن ظاهر الذهب أن لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط فلا يلتفت إليه قال أحمد : إني لا أقول في عشر ثمرات ولا عشرين ثمرة ولا أدري ما الثلث ولكن إذا كانت جائحة تعرف الثلث أو الربع أو الخمس توضع وفيه رواية أخرى أن ما كان يعد دون الثلث فهو من ضمان المشتري وهو مذهب مالك و الشافعي في القديم لأنه لا بد أن يأكل الطير منها وتنثر الريح ويسقط منها فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بين ذلك وبين الجائحة والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع منها الوصية وعطايا المريض وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث قال الأثرم قال أحمد : إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة ولأن الثلث في حد الكثرة وما دونه في حد القلة بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم في الوصية : [ الثلث والثلث كثير ] فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة فلهذا قدر به ووجه الأول عموم الأحاديث فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيه فيجب وضعه ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها فكان ما تلف منها من مال البائع وإن كان قليلا كالتي على وجه الأرض وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة ولا يسمى جائحة فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه فهو معلوم الوجود بحكم العادة فكأنه مشروط إذا ثبت هذا فإنه إذا تلف شيء له قدر خارج عن العادة وضع من الثمن بقدر الذهب فإن تلف الجميع بطل العقد ويردع المشتري بجميع الثمن وأما على الرواية الأخرى فإنه يعتبر ثلث المبلغ وقيل ثلث القيمة فإن تلف الجميع أو أكثر من الثلث رجع بقيمة التالف كله من الثمن وإذا اختلفا في الجائحة أو قدر ما أتلف فالقول قول البائع لأن الأصل السلامة ولأنه غارم والقول في الأصول قول الغارم
فصل : فإن بلغت الثمرة أوان الجزاز فلم يجزها حتى اجتيحت فقال القاضي : عندي لا يوضع عنه لأنه مفرط بترك النقل في وقته مع قدرته فكان الضمان عليه ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع فأمكنه قطعها فلم يقطعها حتى تلفت فهي من ضمانه لأن تلفها بتفريطه وإن تلفت قبل إمكان قطعها فهي من ضمان بائعها كالمسألة فيها
فصل : إذا استأجر أرضا فزرعها فتلف الزرع فلا شيء على المؤجر نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن المعقود عليه ومنافع الأرض ولم تتلف وإنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابا فتلفت الثياب فيها

ضمان المبيع قبل القبض وقبض المبيع وكلفة الكيل والوزن
مسألة : قال : وإذا وقع البيع على مكيل أو على موزون أو معدود فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع
ظاهر كلام الخرقي أن المكيل والموزون والمعدود لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه سواء كان متعينا كالصبرة أو غير كقفيز منها وهو ظاهر كلام أحمد ونحوه قول إسحاق وروي عن عثمان بن عفان و سعيد بن المسيب و الحسن و الحكم و حماد بن أبي سليمان أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه وما ليس بمكيل ولا موزون يجوز بيعه قبل قبضه وقال القاضي وأصحابه : المراد بالمكيل والموزون والمعدود ما ليس بمتعين منه كالقفيز من صبرة والرطل من زبرة ومكيلة زيت من دن فأما المتعين فيدخل في ضمان المشتري كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل وقد نقل عن أحمد ما يدل على قولهم فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل اشترى طعاما فطلب من يحمله فرجع وقد أحترق الطعام فهو من مال المشتري واستبدل بحديث ابن عمر : ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المشتري وذكر الجوزجاني عنه فيمن اشترى ما في السفينة صبرة ولم يسم كيلا فلا بأس أن يشرك فيها ويبيع ما شاء إلا أن يكون بينهما كيل فلا يولي حتى يكال عليه ونحو هذا قال مالك فإنه قال : ما بيع من الطعام مكايلة أو موازنة لم يجز بيعه قبل قبضه وما بيع مجازفة أو بيع من غير الطعام مكايلة أو موازنة جاز بيعه قبل قبضه ووجه ذلك ما روى الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع رواه البخاري عن ابن عمر من قوله تعليقا وقول الصحابي مضت السنة يقتضي سنة النبي صلى الله عليه و سلم ولأن المبيع المعين لا يتعلق به حق توفيه فكان من مال المشتري كغير المكيل والموزون ونقل عن أحمد أن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن وهذا يقتضي أن الطعام خاصة لا يدخل في ضمان المشتري حتى يقبضه فإن الترمذي روى عن أحمد أنه أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن قوله نهى عن ربح ما لا يضمن قال : هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى يقبضه قال ابن عبد البر : الأصح عن أحمد بن حنبل أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه وروى ابن عمر قال : رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم وهذا نص في بيع المعين وعموم قوله عليه السلام : [ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ] متفق عليهما و لمسلم [ عن ابن عمر قال : كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ] وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه ولو دخل في ضمان المشتري جاز له بيعه والتصرف فيه كما بعد القبض وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام مع تنصيصه على المبيع مجازفة بالمنع وهو خلاف قول القاضي وأصحابه ويدل بمفهومة على أن ما عدا الطعام يخالفه في ذلك ووجه قول الخرقي أن الطعام المنهي عن بيعه قبل قبضه لا يكاد يخلو من كونه مكيلا أو موزونا أو معدودا فتعلق الحكم بذلك كتعلق ربا الفضل به ويحتمل أنه أراد المكيل والموزون والمعدود من الطعام الذي ورد النص بمنع بيعه وهذا أظهر دليلا وأحسن إذا ثبت هذا فإنه إن تلف المبيع من ذلك قبل قبضه سماوية بطل العقد ورجع المشتري بالثمن وإن تلف بفعل المشتري استقر الثمن عليه وكان كالقبض لأنه تصرف فيه وإن أتلفه أجنبي لم يبطل العقد على قياس قوله في الجائحة ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن لأن التلف حصل في يد البائع فهو كحدوث العيب في يده وبين البقاء على العقد ومطالبة المتلف بالمثل إن كان مثليا وبهذا قال الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا وإن أتلفه البائع فقال أصحابنا : الحكم فيه كما لو أتلفه أجنبي لأنه أتلفه من يلزمه ضمانه فأشبه ما لو أتلفه أجني وقال الشافعي : ينفسخ العقد ويرجع المشتري بالثمن لا غير لأنه تلف يضمنه به البائع فكان الرجوع عليه بالثمن كالتلف بفعل الله تعالى وفرق أصحابنا بينهما بكونه إذا تلف بفعل الله تعالى لم يوجد مقتض للضمان سوى حكم العقد بخلاف ما إذا أتلفه فإن إتلافه يقتضي الضمان بالمثل وحكم العقد يقتضي الضمان بالثمن فكانت الخيرة إلى المشتري في التضمين بأيهما شاء
فصل : ولو تعيب في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي فالمشتري مخير بين قبوله ناقصا ولا شيء له وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن لأنه إن رضيه معيبا فكأنه اشترى معيبا هو عالم بعيبه ولا يستحق شيئا من أجل العيب وإن فسخ العقد لم يكن له أكثر من الثمن لأنه لو تلف المبيع كله لم يكن له أكثر من الثمن فإذا تعيب أو تلف بعضه كان أولى وإن تعيب بفعل المشتري أو تلف بعضه لم يكن له فسخ لذلك لأنه أتلف ملكه فلم يرجع على غيره وإن كان ذلك بفعل البائع فقياس قول أصحابنا أن المشتري مخير بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين أخذه والرجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيب وقياس قول الشافعي أن يكون بمنزلة ما لو تلف بفعل الله تعالى وإن كان بفعل أجنبي فله الخيار بين الفسخ والمطالبة بالثمن وبين أخذ المبيع ومطالبة المتلف بعوض ما أتلف
فصل : ولو باع شاة بشعير فأكلته قبل قبضه فإن كانت في يد المشتري فهو كما لو أتلفه وإن كانت في يد البائع فهو بمنزلة إتلافه له وكذلك إن كانت في يد أجنبي فهو كإتلافه فإن لم يكن في يد أحد انفسخ البيع لأن المبيع هلك قبل القبض بأمر لا ينسب إلى آدمي فهو كتلفه بفعل الله تعالى
فصل : ولو اشترى شاة أو عبدا أو شقصا بطعام فقبض الشاة أو العبد أو باعهما أو أخذ الشقص بالشفعة ثم تلف قبل قبضه انفسخ العقد الأول دون الثاني ولا يبطل الأخذ بالشفعة لأنه كمل قبل فسخ العقد ويرجع مشتري الطعام على مشتري الشاة والعبد والشقص بقيمة ذلك لتعذر رده وعلى الشفيع مثل الطعام لأنه عوض الشقص
مسألة : قال : وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض وإن تلف فهو من مال المشتري
يعني ما عدا المكيل والموزون والمعدودة فإنه يدخل في ضمان المشتري قبل قبضه وقال أبو حنيفة : كل مبيع تلف قبل قبضه من ضمان البائع إلا العقار وقال الشافعي : كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري وحكي أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى كقوله لأن ابن عباس قال : أرى كل شيء بمنزلة الطعام ولأن التسليم واجب على البائع لأنه في يده فإذا تعذر بتلفه انفسخ العقد كالمكيل والموزون والمعدود ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه وقول ابن عمر مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع ولأنه لا يتعلق به حق توفيه وهو من ضمانه قبضه فكان من ضمانه قبله كالميراث وتخصيص النبي صلى الله عليه و سلم الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له
فصل : والمبيع بصفة أو رؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع لأنه يتعلق به حق توفيه فجرى مجرى المكيل والموزون قال أحمد : لو اشترى من رجل عبدا بعينه فمات في يد البائع فهو من مال المشتري إلا أن يطلبه فيمنعه البائع فهو ضامن لقيمته حين عطب ولو حبسه ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا إلا أن يكون قد اشترط عليه في نفس الرهن
فصل : وقبض كل شيء بجنسه فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو موزونا فقبضه بكيله ووزنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : التخلية في ذلك قبض وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار ولنا ما روى أبو هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل ] رواه البخاري و [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري ] رواه ابن ماجة وهذا فيما بيع كيلا وإن بيع جزافا فقبضه نقله لأن ابن عمر قال : كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه وفي لفظ : كنا نبتاع الطعام جزافا فيبعث عليها من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه وفي لفظ : [ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نبيعه حتى ننقله ] رواه مسلم وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل وقد دل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا سميت الكيل فكل ] رواه الأثرم وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد وإن كان ثيابا فقبضها نقلها وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال : إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنة بينه وبين مرتهنة لا حائل دونه ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا
فصل : وأجرة الكيال والوزان في المكيل والموزون على البائع لأن عليه تقبيض المبيع للمشتري والقبض لا يحصل إلا بذلك فكان على بائع كما أن على بائع الثمرة سقيها وكذلك أجرة الذي بعد المعدودات وأما نقل المنقولات وما أشبهه فهو على المشتري لأنه لا يتعلق به حق توفيه نص عليه أحمد
فصل : ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده باختيار البائع وبغير اختياره لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن ولأن التسليم من مقتضيات العقد فمتى وجد بعده وقع موقعه كقبض الثمن

بيع المبيع والدين قبل القبض
مسألة : قال : ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه
قد ذكرنا الذي لا يحتاج إلى قبض والخلاف فيه وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ] متفق عليه ولأنه من ضمان بائعة فلم يجز بيعه كالسلم ولم أعلم بني أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال : لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه وقال ابن عبد البر : وهذا قول مرودود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه و سعيد بن المسيب و الحكم و حماد و الأوزاعي و إسحاق وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختاره ابن عقيل وروي ذلك عن ابن عباس وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام قبل قبضه وبما روى أبو داود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن تباع السلع حيت تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ] وروى ابن ماجة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض ] و [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال : إنههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه ] ولأنه لم يتم عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون
ولنا ما [ روى ابن عمر قال : كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ] وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين وروى ابن عمر [ أنه كان على بكر صعب - يعني لعمر - فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعمر : بعنيه فقال : هو لك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت ] وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه واشترى من جابر جملة ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفيه فصح بيعه كالمال في يد مودعه أو مضاربه فأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومة فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه وقولهم لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة
فصل : وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخير فيه قال القاضي : ولو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببدل آخر لم يكن له مطالبته لا أخذ بدله وإن تراضيا لأنه مبيع لم يقبض فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذه البدل عنه لأنه أيضا لا يجوز بيعه
فصل : وكل عوض ملك بعقد بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف قبل قبضه كالذي ذكرنا والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أ والموزون أو المعدود وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا قول أبي حنيفة والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه وقال الشافعي لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع وهذا التعليل بالطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع في قبل الدخول وأما ما ملك بإرث أو وصية أو غنيمة وتعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض وهذا مذهب أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وإن كان الإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيه فجاز بيعها كالتي في يده وإن كان غصبا جاز بيعه من هو في يده لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده وأما بيعه لغيره فإن كان عاجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له لأنه معجوز عن تسلمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع لإمكان قبضه فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء ولأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه
فصل : وإن كان لزيد على رجل طعام من سلم وعليه لعمرو مثل ذلك الطعام سلما فقال زيد لعمرو : اذهب فاقبض الطعام الذي لي من غريمي لنفسك ففعل لم يصح لأنه لا يجوز أن يقبضه قبل أن يقبضه وهل يصح القبض لزيد ؟ على روايتين إحداهما : يصح لأنه أذن له في القبض فأشبه قبض وكيله والثانية : لا يصح لأنه لم يجعله نائبا له في القبض فلم يقع له بخلاف الوكيل فعلى الوجه الأول يصير ملكا لزيد وعلى الثاني يكون باقيا على ملك المسلم إليه ولو قال زيد لعمرو : احضر اكتيالي منه لأقبضه لك ففعل لم يصح وهي لكون قابض لنفسه ؟ على وجهين أولاهما : أنه يكون قابضا لنفسه لأن قبض المسلم فيه قد وجد من مستحقه فصح القبض له كما لو نوى القبض لنفسه فعلى هذا إذا قبضه لعمرو صح وإن قال خذه بهذا الكيل الذي قد شاهدته فأخذه به صح لأنه قد شاهد كيله وعلمه فلا معنى لاعتبار كيله مرة ثانية وعنه لا يجزئ وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان وهذا داخل فيه ولأنه قبضه بغير كيل أشبه ما لو قبضه جزافا ولو قال زيد لعمرو : احضرنا حتى أكتاله لنفسي ثم تكتاله أنت وفعلا صح بغير إشكال وإن اكتاله زيد لنفسه ثم أخذه عمرو بذلك الكيل الذي شاهده فعلى روايتين وإن تركه زيد في المكيال ودفعه إلى عمر ليفرغه لنفسه صح وكان ذلك قبضا صحيحا لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ولا معنى لابتداء الكيل ههنا إذ لا يحصل به زيادة علم وقال أصحاب الشافعي : لا يصح لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان وهذا يمكن القول بموجبة وقبض المشتري له في المكيال جري لصاعيه فيه ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم فقال : اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك علي ففعل لم يصح لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته فهو كتصرف الفضولي على ما نبين وإن قال : اشتر لي بها طعاما ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه على ما تقدم في مثل هذه الصورة وإن قال : اقبضه لنكس ففعل جاز نص أحمد على نظير ذلك وهكذا جميع المسائل التي تقدمت إذا حصل الطعام في يد عمرو لزيد فأذن له أن يقبض من نفسه وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأنه لا يجوز أن يكون قابضا لنفسه من نفسه ولنا أنه يجوز أن يشتري لنفسه من مال ولده ويقبض لنفسه من نفسه وكذلك لو وهب لولده الصغير شيئا جاز أن يقبل له من نفسه ويقبض منها فكذا ههنا
فصل : وإن اشترى اثنان طعاما فقبضاه ثم باع أحدهما للآخر نصيبه قبل أن يقتسماه احتلم أن لا يجوز ذلك وهو قول الحسن و ابن سيرين كرها أن يبيع الرجل من شريكه شيئا مما يكال أو يوزن قبل أن يقتسماه لأن لم يقبض نصيبه منفردا فأشبه غير المقبوض ويحتمل الجواز لأنه مقبوض لهما يجوز بيعه لأجنبي فجاز بيعه لشريكه كسائر الأموال فإن تقاسماه وتفرقا ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل الذي كاله لم يجز كما لو اشترى من رجل طعاما فاكتاله وتفرقا ثم باعه إياه بذلك الكيل وإن لم يتفرقا خرج على الروايتين اللتين تقدمتا
مسألة : قال : والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع
وجملته أن ما يحتاج إلى القبض لا تجوز الشركة فيه ولا توليته ولا الحوالة به قبل قبضه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه لأنها تختص بمثل الأول فجازت قبل القبض كالإقالة ولنا أن هذه أنواع بيع فتدخل في عموم النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفيه فإن الشركة بيع بعض المبيع بقسطه من ثمنه والتولية بيع جميعه بمثل ثمنه ولأنه تمليك لغير من هو في ذمته فأشبه البيع وفارق الإقامة فإنها فسخ للبيع فأشبهت الرد بالعيب وكذلك لا تصح هبته ولا رهنه ولا دفعه أجرة ولا ما أبه ذلك من التصرفات المفتقرة إلى القبض لأنه غير مقبوض فلا سبيل إلى اقباضه
الفصل : وأما التولية والشركة فيما يجوز بيعه فجائزان لأنهما نوعان من أنواع البيع وإنما اختصا بأسماء كما اختص بيع المرابحة والمواضعة بأسماء فإذا اشترى شيئا فقال له رجل : أشركني في نصفه بنصف الثمن فقال : أشركتك صح وصار مشتركا بينهما وإن قال : ولني ما اشتريته بالثمن فقال : وليتك صح إذا كان الثمن معلوما لهما فإن جهله أحدهما لم يصح كما لو باعه بالرقم ولو قال : أشركني فيه أو قال الشركة تقتضي ابتياع جزء منه بقسطه من الثمن والتولية ابتياعه بمثل الثمن فإذا أطلق اسمه انصرف إليه كما لو قال : اقلني فقال : أقلتك وفي حديث عن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيتلقها ابن عمرو و ابن الزبير فيقولان له أشركنا فإن النبي صلى الله عليه و سلم دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل ذكره البخاري ولو اشترى شيئا فقال له رجل : أشركني فأشركه انصرف إلى نصفه لأنها بإطلاقها تقتضي التسوية فإن اشترى اثنان عبدا فاشتركا فيه فقال لهما رجل : أشركاني فيه فقالا : أشركناك احتمل أن يكون له النصف لأن اشراكهما لو كان من كل واحد منهما منفردا كان له انصف فكذلك حال الاجتماع ويحتمل أن يكون له الثلث لأن الاشتراك يفيد التساوي ولا يحصل التساوي إلا بجعله بينهم أثلاثا وهذا أصح لأن إشراك الواحد إنما اقتضى النصف لحصول التسوية به وإن أشركه كل واحد منهما منفردا كان له منفردا كان له النصف ولكل واحد منهما الربع وإن قال : أشركاني فيه فأشركه أحدهما فعلى الوجه الأول يكون له نصف حصة الذي أشركه وهو الربع وعلى الآخر له السدس لأن طلب الشركة منهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد منهما ليكون مساويا لهما فإذا أجابه أحدهما ثبت له الملك فيما طلب منه وإن قال له أحدهما : أشركناك انبنى على تصرف الفضولي فإن قلنا يقف على الإجازة من صاحبه فأجازه فهل يثبت له الملك في نصفه أو في ثلثه ؟ على الوجهين ولو قال لأحدهما : أشركني في نصف هذا البعد فأشركه فإن قلنا يقف على الإجازة من صاحبه فأجازه فله نصف العبد ولهما نصفه وإلا فله نصف حصة الذي أشركه وإن اشترى عبدا فلقيه رجل فقال : أشركني في هذا العبد فقال : قد أشركتك فله نصفه فإن لقيه آخر فقال : أشركني في هذا البعد وكان عالما بشركة الأول فله ربع العبد وهو نصف حصة الذي شركه لأن طلبه للاشتراك رجع إلى ما ملكه المشارك وهو النصف فيكون بينهما وإن لم يعلم بشركة الأول فهو طالب لنصف العبد لاعتقاده أن العبد كله لهذا الذي طلب منه المشاركة فإذا قال له : أشركتك فيه احتمل ثلاثة أوجه أحدها : أن يصير له نصف العبد كله ولا يبقى للذي شركه شيء لأنه طلب منه نصف العبد فأجابه إلى ذلك فصار كأنه قال : بعني نصف هذا العبد فقال : بعتك وهذا قول القاضي
الثاني : أن ينصرف قوله شركتك فيه إلى نصف نصيبه ونصف نصيب شركيه فينفذ في نصف نصيبه ويقف في الزائد على إجازة صاحبه على إحدى الروايتين لأن لفظ الشركة يقتضي بيع بعض نصيبه ومساواة المشتري له فلو باع جميع نصيبه لم يكن شركه لوا يستحق فيه ما طلب منه والثالث : أن لا يكون للثاني إلا الربع بكل حال لأن الشركة إنما تثبت بقول البائع شركتم لأن ذلك هو الإيجاب الناقل للملك وهو عالم أنه ليس له إلا نصف العبد فينصرف إيجابه إلى نصف ملكه وعلى هذين الوجهين لطالب الشركة الخيار لأنه إنما طلب انصف فلم يحصل له جميعه إلا أن نقول بوقوفه على الإجازة في الوجه الثاني فيجيزه الآخر ويحتلم أن لا تصح الشركة أصلا لأنه طلب شراء النصف فأجيب في الربع فصار بمنزلة ما لو قال : بعني نصف هذا العبد فقال : بعتك ربعه
فصل : ولو اشترى قفيزا من الطعام فقبض نصف فقال له رجل : بعني نصف هذا القفيز فباعه انصرف إلى النصف المقبوض كله لأن البيع ينصرف إلى ما يجوز له بيعه وهو النصف المقبوض وإن قال : أشركني في هذا القفيز بنصف الثمن ففعل لم تصح الشركة إلا فيما قبض منه فيكون النصف المقبوض بينهما لكل واحد منهما ربعه بقسطه من الثمن لأن الشركة تقتضي التسوية هكذا ذكره القاضي والصحيح إن شاء الله تعالى أنه تنصرف الشركة إلى النصف كله فيكون تابعا لما يصح بيعه وما لا يصح فيكون ذلك من صور تفريق الصفقة فلا يصح في الربع الذي ليس بمقبوض وهل يصح في المقبوض ؟ على وجهين
فصل : فأما الحوالة فمعناه أن يكون على مشتري الطعام طعام من سلم أو من قرض مثل الذي اشتراه فيقول لغريمه اذهب فاقبض الطعام الذي اشتريته لنفسك فلا يجوز ذلك لأنه لا يجوز أن يقبضه قبل قبضه له وقد ذكرنا تفريغ هذا في الفصل الذي قبل هذه المسألة
فصل : إذا كان لرجل في ذمة آخر طعام من قرض لم يجز أن يبيعه من غيره قبل قبضه لأنه غير قادر على تسليمه ويجوز بيعه ممن هو في ذمته في الصحيح من المذهب لحديث ابن عمر : كنا نبيع الابعرة بالبقيع بالدراهم فنأخذ مكانها الدنانير وهذا مذهب الشافعي وروي أنه لا يصح كما لا يصح في السلم والأول أولى فإن شارتا نه بموصوف في الذمة من غير جنسه جاز ولا يتفرقا قبل القبض لأنه يكون بيع دين بدين فإن أعطاه معنيا مما يشترط فيه التقابض مثل أن أعطاه بدل الحنطة شعيرا جاز التفرق قبل القبض كما لو قال : بعتك هذا الشعير بمائة درهم في ذمتك ويحتمل أن لا يجوز لأن المبيع في الذمة فلم يجز التفرق قبل القبض كالسلم
فصل : وإذا قال رجل لغريمة : بعني هذا على أن أقضيك دينك منه ففعل فالشرط باطل لأنه شرط أن لا يتصرف فيه بغير القضاء وهل يبطل البيع ؟ ينبني على الشروط الفاسدة في البيع هل تبطله على الروايتين وإن قال : اقضني حقي على أن أبيعك كذا وكذا فالشرط بطل والقضاء صحيح لأنه قبضه حقه وإن قال : اقضني أجود من مالي على أن أبيع كذا وكذا فالقضاء والشرط باطلان ولعيه رد ما قبضه والمطالبة بماله
مسألة : قال : وليس كذلك الإقالة لأنها فسخ وعن أبي عبد الله الإقالة بيع
اختلفت الرواية في الإقالة فعنه أنها فسخ وهو الصحيح واختيار أبي بكر وهو مذهب الشافعي والثانية : أنها بيع وهي مذهب مالك لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة التي خرج عليها منه فلما كان الأول بيعا كذلك الثاني ولأنه نقل الملك بعوض على وجه التراضي فكان بيعا كالأول وحكي عن أبي حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق غيرهما فلا تثبت أحكام البيع في حقهما بل تجوز في السلم وفي المبيع قبل قبضه ويثبت حكم البيع في حق الشفيع حتى يجوز له أخذ الشقص الذي تقايلا فيه بالشفعة ولنا أن الإقالة هي الدفع والإزالة يقال : أقالك الله عثرتك أي أزالها [ قال النبي صلى الله عليه و سلم من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة ] يقال : قال ابن المنذر : وفي إجماعهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع إجماعهم على أن له أن يقبل المسلم جميع المسلم فيه دليل على أن الإقالة ليست بيعا ولأنها تجوز في المسلم فيه قبل قبضه فلم تكن بيعا كالإسقاط ولأنها تتقدر بالثمن الأول ولو كانت بيعا لم تتقدر به ولأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب ويدل على أبي حنيفة بأن ما كان فسخا في حق المتعاقدين كان فسخا في حق غيرهما كالرد بالعيب والفسخ بالخيار ولأن حقيقة الفسخ لا تختلف حق بالنسبة إلى شخص دون شخص والأصل اعتبار الحقائق
فصل : فإن قلنا هي فسخ جازت قبل القبض وبعده وقال أبو بكر : لا بد فيها من كيل ثان ويقوم الفسخ مقام البيع في إيجاب كيل ثان كقيام فسخ النكاح مقام الطلاق في العدة ولنا أنه فسخ للبيع فجاز قبل القبض كالرد بالعيب والتدليس والفسخ بالخيار أو اختلاف المتبايعين وفارق العدة فإنها اعتبرت للاستبراء والحاجة داعية إليه في كل فرقة بعد الدخول بخلاف مسألتنا فإن قلنا هي بيع لم يجز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض لأن بيعه من بائعه قبل قبضه لا يجوز كما لا يجوز من غيره ولا يستحق بها الشفعة إن كانت فسخا لأنه رفع للعقد وإزالة به وليست بمعاوضة فأشبهت سائر الفسوخ ومن حلف لا يبيع فأقال لم يحنث ولو كانت بيعا استحقت بها الشفعة وحنث الحالف على ترك البيع بفعلها كسائر أنواع البيع ولا تجوز إلا بمثل الثمن سواء قلنا هي فسخ أو بيع لأنها خصت بمثل الثمن كالتولية وفيه وجه آخر أنها تجوز بأكثر من الثمن الأول وأقل منه إذا قلنا إنها بيع كسائر البياعات فإن قلنا لا يجوز إلا بمثل الثمن الأول فأقال بأقل منه أو أكثر لم تصح الإقالة وكان الملك باقيا للمشتري وبهذا قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه تصح بالثمن الأول ويبطل الشرط لأن لفظ الإقالة اقتضى مثل الثمن واشرط ينافيه فبطل وبقي الفسخ على مقتضاء كسائر الفسوخ ولنا أنه شرط التفاضل فيما يعتبر فيه التماثل فبطل كبيع درهم بدرهمين ولأن القصد بالإقالة رد كل حق إلى صاحبه فإذا شرط زيادة أو نقصانا أخرج العقد عن مقصوده فبطل كما لو باعه بشرط أن لا يسلم إليه ويفارق سائر الفسخ لأنه لا يعتبر فيه الرضا منهما بل يستقل به أحدهما فإذا شرط عليه شيء لم يلزمه لتمكنه من الفسخ بدونه وإن شرط لنفسخ شيئا لم يلزمه أيضا لأنه لا يستحق أكثر من الفسخ وفي مسألتنا لا تجوز الإقالة إلا برضاها وإنما رضي بها أحدهما مع الزيادة أو النقص فإذا أبطلنا شرطه فات رضاه فتبطل الإقالة لعدم رضاه بها

جواز بيع الصبرة تحريم الغش في بيعها
مسألة : قال : ومن اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها
هذا المسألة تدل على حكمين أحدهما : إباحة بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وقد نص عليه أحد ودل عليه قول ابن عمر : [ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ] متفق عليه ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشق لكونه الحب بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبة حبة ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر فاكتفي برؤية ظاهرة بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق ولم تختلف أجزاؤه ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو الرؤية وكذلك لو قال : بعتك نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو جزءا منها معلوما جاز لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه كالحيوان ولأن جملتها معلومة بالمشاهدة فكذلك جزؤها : قال ابن عقيل : ولا يصح هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء فإن كانت مختلفة مثل صبرة بقا القرية لم يصح ويحتمل أن يصح لأنه يشتري منها جزءا مشاعا فيستحق من جيدها ورديئها بقسطه لوا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافا وقال مالك : لا يجوز في الأثمان لأن لها خطرا ولا يشق وزنها ولا عددها فأشبه الرقيق والثياب
ولنا أنه معلوم بالمشاهدة فأشبه المثمنات والنقرة والحلي ويبطل بذلك ما قاله وأما لرقيق فإنه يجوز بيعهم إذا شاهدهم ولم يعدهم وكذلك الثياب إذا نشرها ورأى جميع أجزائها الحكم الثاني : أنه إذا اشترى الصبرة جزافا لم يجز له بيعها حتى ينقلها نص عليه أحمد في رواية الأثرم : وعنه رواية أخرى له بيعها قبل نقلها اختارها القاضي وهو مذهب مالك لأنه مبيع متعين لا يحتاج إلى حق توفية فأشبه الثوب الحاضر
ولنا قول ابن عمر إنا كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن بيعه حتى ننقله من مكانه وعموم [ قوله عليه السلام : من ابتاع طعاما فلا بيعه حتى يستوفيه ] مع ما ذكرنا من الأخبار وروى الأثرم بإسناده عن عبيد بن حنين قال : قدم زيت من الشام فاشتريت منه أبعرة وفرغت من شرائها فقال إلي رجل فأربحني فيه ربحا فبسطت يدي لأبايعه فإذا رجل يأخذني من خلفي فنظرت فإذا زيد بن ثابت فقال : لا تبعه حتى تنقله إلى رحلك فإن رسو الله صلى الله عليه و سلم أمرنا بذلك فإذا تقرر هذا فإن قبضها نقلها كما جاء في الخبر ولأن القبض لو لم يعين في الشرع لوجب رده إلى العرف كما قلنا في الأحياء والإحراز والعادة في قبض الصبرة النقل
فصل : ولا يحل لبائع الصبرة أن يغشها بأن يجعلها على دكة أو ربوة أو حرج ينقصها أو يجعل الرديء في باطنها أو المبلول ونحو ذلك لما روى أبو هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر على صبرة من طعام فأدخل يده فنالت أصابعه بللا فقال : يا صاحب الطعام ما هذا ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله قال : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟ ثم قال : من غشنا فليس منا ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح فإذن وجد ذلك ولم يكن المشتري علم به فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما لأنه عيب وإن بان تحتها حفرة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري لأنه زيادة له وإن علم البائع ذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة به وإن لم يكن علم فله الفسخ كما لو باع بعشرين درهما فوزنها بصنجه ثم وجد الصنجة زائدة كان له الرجوع وكذلك لو باع بمكيال ثم وجه زائدا ويحتمل أنه لا خيار له لأن الظاهر أنه باع ما يعلم فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال
مسألة : قال : ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة
نص أحمد على هذا في مواضع وكره عطاء و ابن سيرين و مجاهد و عكرمة وبه مالك و إسحاق وروي ذلك عن طاوس قال مالك : لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك وعن أحمد أن هذا مكروه غير محرم فإن بكر ابن محمد روى عن أبيه أنه سأله عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله وقلت له إن مالكا يقول إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن أحب أن يرده ردهن قال : هذا تغليظ شديد ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله إلا أن يخبره فإن باعه فهو جائز عليه وقد أساء ولم ير أبو حنيفة و الشافعي بذلك بأسا لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره فمع العلم من أحدهما أولى ؟ ووجه الأولى ما روى الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسل من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه قال القاضي وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله والنهي يقتضي التحريم وأيضا الإجماع الذي نقله مالك ولأن الظاهر أن البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير بالمشتري والغش له ولذلك أثر في عدم لزوم العقد وقد قال عليه السلام : من غشنا فليس منا فصار كما لو دلس العيب فإن باع ما لعم كيله صبرة فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم أن البيع صحيح لازم وهو قول مالك و الشافعي لأن المبيع معلوم لهما ولا تغرير من أحدهما فأشبه ما لو علما كيله أو جهلاه ولم يثبت من ما روي من النهي فيه وإنما كره أحمد كراهة تنزيله لاختلاف العلماء فيه ولأن استواءهما في العلم والجهل أبعد من التغرير وقال القاضي وأصحابه : هذا بمنزلة التدليس والغش إن علم به المشتري فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فهو كما لو اشترى مصراة يعلم تصريتها وإن لم يعلم أن البائع كان عالما بذلك فله الخيار في الفسخ والإمضاء وهذا قول مالك لأنه غش وغدر من البائع فصح العقد معه ويثبت للمشتري الخيار ؟ وذهب قوم من أصحابنا إلى أن البيع فاسد لأنه منهي عنه يقتضي الفساد

تحديد المبيع بالوزن والكيل والعد
فصل : وإن أخبره البائع بكيله ثم باعه بذلك الكيل فالبيع صحيح فإن قبضه باكتياله تم البيع والقبض وإن قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافا فإن كان المبيع باقيا كاله عليه فإن كان قدر حقه الذي أخبره به فقد استوفاه وإن كان زائدا رد الفضل وإن كان ناقصا أخذ النقص وإن كان قد تلف فالقول قول القابض في قدره مع يمينه سواء كان النقص قليلا أو كثيرا لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق وليس للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله لأن للبائع فيه علقه فإنه لو زاد كانت الزيادة له ولا يتصرف في أقل من حقه بغير كيل لأن ذلك يمنعه من معرفة كيله وإن تصرف فيما يتحقق أنه مستحق له مثل أن يكون حقه قفيزا فتصرف في ذلك أو في أقل منه بالكيل ففيه وجهان أحدهما : له ذلك لأنه تصرف في حقه بعد قبضه فجاز كما لو كيل له والثاني : لا يجوز لأنه لا يجوز له التصرف في الجميع فلم يجز له التصرف في البعض كما قبل القبض وإن قبضه بالوزن فهو كما لو قبضه جزافا فأما إن أعلمه بكيله ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن سواء كان زائدا أو ناقصا لم يجز لما روى الأثرم بإسناده عن الحكم قال [ قدم طعام لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اذهبوا بنا إلى عثمان نعينه على طعامه فقام إلى جنبه فقال عثمان : في هذه الغرارة كذا وكذا وابتعتها بكذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا سميت الكيل فكل ] قال أحمد : إذا أخبره البائع أن في كل قارورة منا فأخذا بذلك ولا يكتاله فلا يعجبني لقوله لعثمان : إذا سميت الكيل فكل قيل له إنهم يقولون إذا فتح فسد قال : فلم لا يفتحون واحدا وتزنون الباقي ؟
فصل : ولو كان طعاما وآخر ينظر إليه فهل لمن شاهد الكيل شراؤه بغير كيل ثان ؟ على روايتين نص عليهما أحدهما : لا يحتاج إلى كيل لأنه شاهد كيله فأشبه ما لو كيل له والثانية : يحتاج إلى كيل لأنه بيع فاحتاج إلى كيل للأخبار والقياس على البيع الأول ولو كاله البائع للمشتري ثم اشتراه منه فكذلك لما ذكرنا في التي قبلها ولو اشترى اثنان طعاما فاكتالاه ثم ابتاع أحدهما حصة شريكه قبل تفرقهم فقال أحمد في رواية حرب : إذا اشتريا غلة أو نحوها وحضراها جميعا وعرفا كيلها فقال أحدهما لشريكه : بعني نصيبك وأربحك فهو جائز وإن لم يحضر هذا المشتري الكيل فلا يجوز إلا بكيل قال ابن أبي موسى : وفيه رواية أخرى لا بد من كيله ووجهها ما تقدم قال القاضي : ومعنى الكيل في هذه المسائل أنه يرجع في قدره إلى قول القابض إذا كان النقص يسيرا يقع مثله في الكيل فالقول قوله مع يمينه وإن كان لا يقع مثله في الكيل لم يقبل قوله لأنا نتحقق كذبه بخلاف مسائل الفصل الذي قبله لأنه لم يكل بحضرته والظاهر أنه أراد بالكيل حقيقته دون ما ذكره القاضي وفائدة اعتبار الكيل ما ذكره القاضي وأنه لا يجوز للمشتري التصرف فيه إلا ما ذكرنا في الفصل الذي قبله وإن باعه للثاني في هذه المواضع على أنه صبرة جاز ولم يفتقر إلى كيل ثان والبض فيه بنقله كسائر الصبر
فصل : قال أحمد : في رجل يشتري الجوز فيعد في مكتل ألف جوزة ثم يأخذ الجوز كله على ذلك المعيار قال : لا يجوز وقال في رجل ابتاع اعكاما كيلا وقال للبائع : كل لي عكمانها واحدا واحدا ما بقي على هذا الكيل أكره هذا حتى يكيلها كلها وقال الثوري : كان أصحابنا يكرهون هذا وذلك لأن ما في العكوم يختلف فيكون في بعضها أكثر من بعض فلا يعلم ما في بعضها يكيل البعض والجوز يختلف عدده فيكون في أحد المكتلين أكثر من الآخر فلا يصح تقديره بالكيل كما لا يصح تقدير المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل

جواز شراء الصبرة كل قفيز منها
مسألة : قال : وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز
وجملة ذلك أنه قال : بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم صح وإن لم يعلما مقدار ذلك حال العقد وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يصح في قفيز واحد ويبطل فيما سواه لأن جملة الثمن مجهولة فلم يحص كبيع المبتاع برقمه ولنا أن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو أن تكال الصبرة ويسقط الثمن على قدر قفزانها فيعلم مبلغه فجاز كما لو باع ما رأس ماله اثنان وسبعون مرابحة لكل ثلاثة عشر درهما درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعلم بالحساب كذا ههنا ولأن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم قدر ما يقابل كل جزء من المبيع فصح كالأصل المذكور وقد [ روي عن علي رضي الله عنه أنه آجر نفسه كل دلو بتمرة وجاء النبي صلى الله عليه و سلم بالتمر ]
فصل : ولو قال بعتك من هذه الصبرة قفيزا أو قال : عشرة أقفزة وهما يعلمان أنها أكثر من ذلك صح وحكي عن داود أنه لا يصح لأنه غير مشاهد ولا موصوف ولنا أن المبيع مقدر معلوم من جملة يصح أشبه إذا باع نصفها وما ذكره قياس وهو لا يحتج بالقياس ثم لا يصح فإنه إذا شاهد الجملة فقد شاهد المبيع لأنه بعضها
فصل : وإن قال : بعتك من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح لأن من للتبعيض وكل للعدد فيكون ذلك العدد منها مجهولا ويحتمل أن يصح البيع كما يصح في الإجارة كل دلو بتمرة وكل شهر بدرهم وإن قال : بعتك هذه الصبرة الأخرى بعشرة دارهم على أن أزيدك قفيزا أو أنقصك قفيزا لم يصح لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه ولو قال : على أن أزيدك قفيزا لم يجز لأن القفيز مجهول ولو قال : أزيدك قفيزا من هذه الصبرة الأخرى أو وصفه بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك هذه وقفيزا من هذه الأخرى بعشرة دراهم وإن قال : على أن أنقصك قفيزا لم يصح لأن معناه بعتك هذه الصبرة إلا قفيزا كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزا من هذه الصبرة الأخرى لم يصح لإفضائه إلى جهالة الثمن في التفصيل لأنه يصير قفيزا أو شيئا بدرهم والشيء لا يعرفانه لعدم معرفتهما بكمية ما في الصبرة من القفزان ولو قصد أني أحط ثمن قفيز من الصبرة لا احتسب به لم يصح للجهالة التي ذكرناها وإن كانت الصبرة معولماص قدر قفزانها لهما أو قال : هذه عشرة أقفزة بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزا من هذه الصبرة أو وصفة بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك كل قفيز وعشر قفيز بدرهم وإن لم يعلم القفيز أو جعله هبة لم يصح وإن أراد أني لا أحسب عليك بمثن قفيز منها صح أيضا لأنهما لما علما جملة الصبرة علما ما ينقص من الثمن ولو قال : على أن أنقصك قفيزا صح لأن معناه بعتك تسعة أقفيزة بعشرة دراهم ولك قفيز بدرهم وتسع وحكي عن أبي تكر أنه يصح في جميع المسائل على قياس قول أحمد لأنه يجبر الشرط الواحد ولا يصح هذا لأن المبيع مجهول فلا يصح بيعه بخلاف الشرط الذي يفضي إلى جهالة

بعض ما تختلف أجزاؤه وقيمته
فصل : ولو باع ما لا تتساوى أجزاؤه كالأرض والثوب والقطيع من الغنم ففيه نحو من مسائل الصبر وإن قال : بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب أو هذا القطيع بألف صح إذا كان مشاهدا أو قال : بعتك نصفه أو ثلثه أو ربعه بكذا صح أيضا فإن قال : بعتكه كل ذراع بدرهم أو كل شاة بدرهم صح وإن لم يعلما قدر ذلك حال العقد لما ذكرنا في الصبرة وإن قال : بعتك من الثوب كل ذراع بدرهم أو من القطيع كل شاة بدرهم لم يصح لأنه مجهول وإن باعه شاة من القطيع لم يصح لأن شياه القطيع غير متساوية القيم فيفضي ذلك إلى التنازع بخلاف القفيز من الصبرة فإنه يصح لأن أجزاءها متساوية وإن باعه ذراعا من منها يريدان قدرا غير مشاع لم يصح كذلك وإن أرادا مشاعا منها وهما يعلمان عدد ذرعانها صح وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يصح لأن الذراع عبارة عن بقعة وموضعه مجهول
ولنا أن عشرة من مائة عشرة ولو قال : بعتك عشرها صح فكذلك إذا قال : بعتك عشرة من مائة وما ذكروه غيره مسلم بل هو عبارة عن قدر كما أن المكيال عبارة عن قدر فإذا أضافه إلى جملة كان ذلك جزءا منها وإن اتفقا على أنها أرادا قدرا منها غير مشاع لم يصح البيع وإن كانا لا يعلمان ذرعان الدار لم يصح لأن الجملة غير معلومة وأجزاء الأرض مختلفة فلا يمكن أن تكون معينة ولا مشاعة وإن قال : بعتك من الدار من ههنا إلى ههنا جاز لأنه معلوم وإن قال : عشرة أذرع ابتداؤها من ههنا إلى ههنا إلى حيث ينتهي الذر لم يصح لأن الذرع يختلف والموضع الذي ينتهي إليه لا يعلم حال العقد ولو قال : بعتك نصيبي نم هذه الدار ولا يعلم قدر نصيبه منها أو قال : نصيبا منها أو سهما لم يصح لأنه مجهول وإن علما ذلك صح وإن قال : بعتك داري مما يلي دارك لم يصح نص عليه لأنه لا يدري إلى أين ينتهي فيكون مجهولا
فصل : ولو باعه عبدا من عبدين أو أكثر لم يصح به قال الشافعي وقال أبو حنيفة ك إذا باعه عبدا من عبدين أو من ثلاثة بشرط الخيار له صح لأن الحاجة تدعو إليه وإن كانوا أكثر لم يصح لأنه يكثر الغرر ولنا أن ما تختلف أجزاؤه وقيمته لا يجوز شراء بعضه غير معين ولا مشاعا كالأربعة وما لا يصح بغير شرط الخيار لا يصح بشرطه كالأربعة ولا حاجة إلى هذا فإن الاختيار يمكن قبل العقد ثم ما قالوه يبطل بالأربعة
فصل : وحكم الثوب حكم الأرض إلا أنه قال : بعتك من هذا الثوب من هذا الموضع إلى هذا الموضع صح فإن كان مما لا ينقصه القطع قطعاه وإن كان مما ينقصه القطع وشرط البائع أن يقطعه له أو رضي بقطعه هو والمشتري جاز وإن تشاحا في ذلك كانا شريكين فيه كما يشتركان في الأرض وقال القاضي : لا يصح لأنه لا يقدر على التسليم إلا بضرر فأشبه ما لو باعه نصفا معينا من الحيوان ولنا أن التسليم ممكن ولحوق الضرر لا يمنع التسليم إذا رضيه البائع كما لو باعه نصاف من الحيوان مشاعا وفارق نصف الحيوان المعين فإنه لا يمكنه تسليمه مفردا إلا بإتلافه وإخراجه عن المالية

ظهور زيادة في البيع أو نقص بعد الشراء
فصل : إذا قال : بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب على أنه شعرة أذرع فبان أحد عشر ففيه روايتان إحداهما : البيع باطل لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسلمي الزيادة وإنما باع عشرة ولا المشتري على أخذ البعض وإنما اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة أيضا والثانية : البيع صحيح والزيادة للبائع لأن ذلك نقص على المشتري فلا يمنع صحة البيع كالعيب ثم يخبر البائع بين تسليم المبيع زائدا وبين تسليم العشرة فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري لأنه زاده خيرا وإن أبى تسليمه زائدا فللمشتري الخيار بين الفسخ والأخذ بجميع الثمن المسمى وقسط الزائد فإن رضي بالأخذ أخذ العشرة والبائع شريك له بالذراع وهل للبائع خيرا الفسخ ؟ على وجهين أحدهما : له الفسخ لأن عليه ضررا في المشاركة والثاني : لا خيار له لأنه رضي ببيع الجميع بهذا الثمن فإذا وصل إليه الثمن مع بقاء جزء له فيه كان زيادة فلا يستحق بها الفسخ ولأن هذا الضرر حصل بتغريره وإخباره بخلاف غيره فلا ينبغي أن يتسلط به على فسخ عقد المشتري فإن بذلها البائع للمشتري بثمن أو طلبها المشتري بثمن لم يلزم الآخر القبول لأنها معاوضة يعتبر فيها التراضي منهما فلا يجبر واحد منهما عليها وإن تراضيا على ذلك جاز فإن بان تسعة ففيه روايتان إحداهما : يبطل البيع لما تقدم والثانية : البيع صحيح والمشتري بالخيار بين الفسخ والإمساك بتسعة أعشار الثمن وقال أصحاب الشافعي : ليس له إمساكه إلا بكل الثمن أو الفسخ بناء على قولهم إن المعيب ليس لمشتريه إلا الفسخ أو إمساكه بكل الثمن
ولنا أنه وجد المبيع ناقصا في القدر فكان له إمساكه بقسطه من الثمن كالصبرة إذا اشتراها على أنها مائة فبانت خمسين وسنبين أن المعيب له إمساكه وأخذ أرشه أخذه بقسطها من الثمن فللبائع الخيار بين الرضا بذلك وبين الفسخ لأنه إنما رضي ببيعها بهذا الثمن كله وإذا لم يصل إليه كان له الفسخ فإن بذل له المشتري جميع الثمن لم يملك الفسخ لأنه وصل الثمن الذي رضيه فأشبه ما لو اشترى معيبا فرضيه بجميع الثمن
فصل : وإن اشترى صبر على أنها عشرة أقفزة فبانت أحد عشر رد الزائد ولا خيار له ههنا لأنه لا ضرر في الزيادة وإن بانت تسعة أخذها بقسطها من الثمن وقد ذكرنا فيم تقدم أنه متى سمى الكيل في الصبرة لا يكون قبضها إلا بالكيل فإذا كالها فوجدها قدر حقه أخذها وإن كانت زائدة رد الزيادة وإن كانت ناقصة أخذها بقسطها من الثمن وهل له الفسخ إذا وجد ناقصة ؟ على وجهين :
أحدهما : له الخيار وهو مذهب الشافعي لأنه وجد المبيع ناقصا فكان له الفسخ كغير الصبرة وكنقصان الصفة والثاني : لا خيار له لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل بخلاف غيره
فصل : إذا باع الأدهان في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن أجزاءها لا تختلف فهو كالصبرة وكذلك الحكم في العسل والدبس والخل وسائر المائعات التي لا تختلف وإن باعه كل رطل أو باعه رطلا معلومة يعلم أن فيها أكثر منها أو باعه جزاءا مشاعا أو أجزاء أو باعه إياه مع الظرف بعشرة دراهم أو بثمن معلوم جاز وإن باعه السمن والظرف كل رطل بدرهم وهما يعلمان مبلغ كل واحد منهما صح لأنه قد رضي أن يشتري الظرف كل رطل بدرهم وما فيه كذلك فأشبه ما لو اشترى ظرفين في أحدهما سمن وفي الآخر زيت كل رطل بدرهم وقال القاضي : لا يصح لأن وزن الظرف يزيد وينقص فيدخل على غرر والأول أصح لأن بيع كل واحد منها منفردا يصح لذلك فكذلك إذا جمعهما كالأرض المختلفة الأجزاء والثياب وغيرهما وأما إن باعه كل رطل بدرهم على أن يزن الظرف فيحتسب عليه بوزنه ولا يكون مبيعا وهما يعلمان زنة كل واحد منهما صح لأنه إذا علم أن الدهن عشرة والظرف رطلا كان معناه بعتك عشرة أرطال باثني عشر درهما وإن كانا لا يعلمان زنة الظرف والدهن لم يصح لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن في الحال وسواء جهلا زنتهما جميعا أو زنة أحدهما لذلك
فصل : وإن وجد في ظرف السمن ربا فقال ابن المنذر قال أحمد و إسحاق : فإن كان سمانا عنده سمن أعطاه بوزنه سمنا وإن لم يكن عنده سمن أعطاه بقدر الرب من الثمن وألزمه شريح بقدر الرب سمنا بكل حال وقال الثوري : إن شاء أخذ الذي وجده لا يكلف أن يعطيه بقدر الرب سمنا ولنا أنه وجد المبيع المكيل ناقصا فأشبه ما لو اشترى صبرة فوجد تحتها ربوة أو اشتراها على أنها عشرة أقفزة فبانت تسعة وقد بينا أنه يأخذ الموجود بقسطه من الثمن كذا ههنا فعلى هذا إنما يأخذا الموجود من السمن بقسطه من الثمن ولا يلزم البائع أن يعطيه سمنا سواء كان موجودا عنده أو لم يكن فإن تراضيا على إعطائه سمنا جاز والله أعلم

ثبوت الخيار في المصراة ورد بدل لبنها
التصرية جمع اللبن في الضرع قال صرى الشاة وصرى اللبن في ضرع الشاة بالتشديد والتخفيف ويقال : صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبوعبيده :
( رأيت غلاما قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته )
وماء صري وصر إذا طال استنفاعه وقال البخاري : أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع أيضا ومنه سميت مجامع الناس محافل والتصرية حرام إذا أراد بذلك التدليس على المشتري لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تصروا ] وقوله [ من غشنا فليس منا ] وروى ابن ماجة في سننه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم ] رواه ابن عبد البر ولا يحل خلابة لمسلم
مسألة : قال : وإذا اشترى مصراة وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يقبلها أو يردها وصاعا من تمر
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام لم يعلم تصريتها ثم علم فله الخيار في الرد والإمساك وروي ذلك عن ابن مسعود و ابن عمر وأبي هريرة وأنس وإليه ذهب مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف وعامة أهل العلم وذهب أبو حنيفة و محمد إلى أنه لا خيار له لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنه لو لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها لم يملك ردها والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار كما لو عقلها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل ولنا ما روى أبو هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر ] متفق عليه وروى ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا ] رواه أبو داود ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كما لو كانت شمطاء فسود شعرها وقياسهم يبطل بتسويد الشعر فإن بياضه ليس بعيب كالكبر وإذا دلسه ثبت له الخيار وأما انتفاخ البطن فقد يكون من الأكل والشرب فلا معنى لحمله على الحمل وعلى أن هذا القياس يخالف النص وابتاع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى إذا تقرر هذا فإنما يثبت الخيار بشرط أن لا يكون المشتري عالما بالتصرية فإن كان عالما لم يثبت له الخيار وقال أصحاب الشافعي : يثبت له الخيار في وجه للخبر ولأن انقطاع اللبن لم يوجد وقد يبقى على حاله فلم يجعل ذلك رضا كما لو تزوجت عنينا ثم طلبت الفسخ ولنا أنه اشتراها عالما بالتدليس فلم يكن له خيار كما لو اشترى من سود شعرها عالما بذلك ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه وبقاء اللبن على حاله نادر بعيد لا يعلق عليه حكم والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة واستمر على كثرته لم يكن له الرد وقال أصحاب الشافعي : له الرد في أحد الوجهين للخبر ولأن التدليس كان موجودا حال العقد فأثبت الرد كما لو نقص اللبن ولنا أن الرد جعل لدفع الضرر بنقص اللبن ولم يوجد فامتنع الرد ولأن العيب لم يوجد ولم تختلف صفة المبيع عن حالة العقد فلم يثبت التدليس ولأن الخيار ثبت لدفع الضرر ولم يوجد ضرر
الفصل الثاني : أنه إذا رد لزمه رد بدل اللبن وهذا قول كل من جوز ردها وهو مقدر في الشرع بصاع من تمر كما في الحديث الصحيح الذي أوردناه وهذا قول الليث و إسحاق و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب من غالب قوت البلد لأن في بعض الحديث [ ورد معها صاعا من طعام ] وفي بعضها [ ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا ] فجمع بين الأحاديث وجعل تنصيصه على التمر لأنه غالب قوت البلد في المدينة ونص على القمح لأنه غالب قوت بلد آخر وقال يوسف : يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف فكان مقدرا بقيمته كسائر المتلفات وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر أو نصف صاع من بر بناء على قولهم في الفطرة والكفارة
ولنا الحديث الصحيح الذي أوردناه وهو المعتمد عليه في هذه المسألة وقد نص فيه على التمر فقال : [ إن شاء ردها وصاعا من تمر ] وفي لفظ للبخاري [ من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ] وفي لفظ مسلم رواه ابن سيرين عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم ورد صاعا من تمر لا سمراء ] وفي لفظ له [ طعاما لا سمراء ] يعين لا يرد قمحا والمراد بالطعام ههنا التمر لأنه مطلق في أحد الحديثين مقيد في الآخر في قضية واحدة والمطلق فيما هذه سبيله يحمل على المقيد وحديث ابن عمر مطرح الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها قمحا ثم قد شك فيه الراوي وخالفته الأحاديث الصحاح فلا يعول عليه وقياس أبي يوسف مخالف للنص فلا يلتفت إليه ولا يبعد أن يقدر الشرع بدل هذا المتلف قطعا للخصومة ودفعا للتنازع كما قدر بدل الآدمي ودية أطرافه ولا يمكن حمل الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن فلذلك أوجبه لوجوه ثلاثة أحدها : أن القيمة هي الأثمان لا التمر الثاني : أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم جميعا صاعا من تمر مع اختلاف لبنها الثالث : أن لفظه للعموم فيتناول كل مصراة ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعا وإن أمكن أن يكون كذلك فيتعين إيجاب الصاع لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها فلا يجوز أن يعدل عنها وإن قدمت هذا فإنه يجب أن يكون الصاع من التمر جيدا غير معيب لأنه واجب بإطلاق الشارع فينصرف إلى ما ذكرناه كالصاع الواجب في الفطرة ولا يجب أن يكون من الأجود بل يجوز أن يكون من أدنى ما يقع عليه اسم الجيد ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر مثل قيمة الشاة أو أقل أو أكثر نص عليه أحمد وليس هذا جميعا بين البدل والمبدل لأن التمر بدل اللبن قدره الشرع به كما قدر في يدي العبد قيمته وفي يديه ورجليه قيمته مرتين مع بقاء العبد على ملك سيده وإن عدم التمر في موضعه فعليه قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد لأنه بمثابة عين أتلفها فيجب عليه قيمتها
فصل : وإن علم بالتصرية قبل حلهبا مثل أن أقربه البائع أو شهد به من تقبل شهادته فله ردها ولا شيء معها لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب ولذلك [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ] ولم يأخذ لها لبنا ههنا فلم يلزمه رد شيء معها وهذا قول مالك قال ابن عبد البر : هذا ما لا خلاف فيه وأما لو احتلبها وترك اللبن بحاله ثم ردها رد لبنها ولا يلزمه أيضا شيء لأن المبيع إذا كان موجودا فرده لم يلزمه بدله فإن أبى البائع قبوله وطلب التمر لم يكن له ذلك إذا كان بحاله لم يتغير وقيل لا يلزمه لظاهر الخبر ولأنه قد نقص بالحلب وكونه في الضرع أحفظ له ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه البدل كسائر المبدلات مع ابدالها والحديث المراد به رد التمر عدم اللبن لقوله : [ ففي حلبتها صاع من تمر ] ولما ذكرنا من المعنى وقولهم أن الضرع أحفظ له لا يصح لأنه لا يمكن ابقاؤه في الضرع على الدوام وبقاؤه يضر بالحيوان وإن كان اللبن قد تغير ففيه وجهان أحدهما : لا يلزمه قبوله وهذا قول مالك للخبر ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه ما لو أتلفه والثاني : يلزمه قبوله لأن النقص حصل باستعلام المبيع وبتغرير البائع وتسليطه على حلبة فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة
فصل : وإذا رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيبا آخر ردها به لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بعيب آخر كما لو اشترى أعرج فرضي بعيبه ثم أصاب به برصا وإذا رد لزمه صاع من تمر عوض اللبن لأنه قد جعل عوضا له فيما إذا ردها بالتصرية فيكون عوضا له مطلقا
فصل : ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها ثم وجد بها عيبا فله الرد ثم إن لم يكن في ضرعها لبن حال العقد فلا شيء عليه لأن ما حدث من اللبن بعد العقد يحدث على ملك المشتري وإن كان فيه لبن حال العقد إلا أنه شيء لا يخلو الضرع من مثله في العادة فلا شيء فيه لأن مثل هذا لا عبرة به ولا قيمة له في العادة فهو تابع لما حدث وإن كان كثيرا وكان قائما بحاله فهل له رده ؟ يبنى على رد لبن التصرية وقد سبق فإن قلنا ليس له رده كان بقاؤه كتلفه وهل له أن يرد المبيع ؟ يخرج على الروايتين فيما إذا اشترى شيئا فتلف منه جزء أو تعيب والأشهر في المذهب أنه يرده فعلى هذا يلزمه رد مثل اللبن لأنه من ذوات الأمثال والأصل ضمن ما كان من المثليات بمثله إلا أنه خولف في لبن التصرية بالنص ففيما عداه يبقى على الأصل ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا

مدة الخيار في المصراة ولا فرق بين الشاة والناقة والبقرة
الفصل الثالث في الخيار : اختلف أصحابنا في مدته فقال القاضي : هو مقدر بثلاثة أيام ليس له الرد قبل مضيها ولا إمساكها بعدها فإن أمسكها بعد ذلك لم يكن له الرد قال وهو ظاهر كلام أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن أبا هريرة روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر ] رواه مسلم قالوا فهذه الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها لأنها في اليوم لبنها لبن التصرية وفي الثاني يجوز أن يكون لبنها نقص لتغير المكان واختلاف العلف وكذلك في الثالث فإذا مضت الثلاثة استبانت التصرية وثبت الخيار على الفور ولا يثبت قبل انقضائها وقال أبو الخطاب : عندي متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاثة وبعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا تبينه كسائر التدليس وهذا قول بعض المدنيين فعلى هذا يكون فائدة التقدير في الخبر بالثلاثة لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها فاعتبرها لحصول العلم ظاهرا فإن حصل العلم بها أو لم يحصل بها فالاعتبار به دونها كما في سائر التدليس وظاهر قول ابن أبي موسى : أنه متى علم التصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها وهذا قول ابن المنذر و أبي حامد من أصحاب الشافعي وحكاه عن الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه يقضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها وعلى قول القاضي لا يثبت الخيار في شيء منها وإنما يثبت عقبها وقول أبي الخطاب يسوي بين الأيام الثلاثة وبين غيرها والعمل بالخبر أولى والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس
مسألة : قال : وسواء كان المشترى ناقة أو بقرة أو شاة
جمهور أهل العلم على أنه لا فرق في التصرية بين الشاة والناقة والبقرة وشذ داود فقال : لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث [ لا تصروا الإبل والغنم ] فدل على أن ما عداهما بخلافهما ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص والقياس لا تثبت به الأحكام لنا عموم قوله : [ من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام ] وفي حديث ابن عمر : من ابتاع محفلة ولم يفصل ولأنه تصرية بلبن من بهيمة الأنعام أشبه الإبل والغنم والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر لأنه لنبها أغزر وأكثر نفعا وقولهم إن الأحكام لا تثبت بالقياس ممنوع ثم هو ههنا ثبت بالنبيه وهو حجة عند الجميع
فصل : إذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد واحد فردهن رد مع كل مصراة صاعا وبهذا قال الشافعي وبعض أصحاب مالك وقال بعضهم : في الجميع صاع واحد ل [ أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ] ولنا عموم قوله : [ من اشترى مصراة - و - من اشترى محلفة ] وهذا تناول الوحدة ولأن ما جعل عوضا عن الشيء في صفقتين وجب إذا كان في صفقة واحدة كأرش العيب وأما الحديث فإن الضمير يعود إلى الواحدة
فصل : فإن اشترى مصراة من غير بهيمة الأنعام كالأمة والأتان والفرس ففيه وجهان أحدهما : يثبت له الخيار اختياره ابن عقيل وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قوله : [ من اشترى مصراة ومن اشترى محلفة ] ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به فأثبت الخيار كتصرية بهيمة الأنعام وذلك أن لبن الآدمية يراد للرضاع ويرغب فيها ظئرا ويحسن ثديها ولذلك لو اشترط كثيرة لنبها فبان بخلافه ملك الفسخ ولو لم يكن مقصودا لما ثبت باشتراطه ولا ملك الفسخ بعدمه ولأن الأتان والفرس يرادان لولدهما والثاني : لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عله لأن قصد لبن بهيمة الأنعام أكثر واللفظ العام أريد به الخاص بدليل أنه أمر في ردها بصاع من ترم ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاما وخاصا في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص ويكون المراد بالعام في أحد الحديثين الخاص في الحديث الآخر وعلى الوجه الأول إذا ردها لم يلزم بدل لبنها ولا يرد معها شيئا لأن هذا اللبن لا يباع عادة ولا يعاوض عنه

التدليس فيما يختلف الثمن لأجله
فصل : وكل تدليس يختلف الثمن لأجله مثل أن يسود شعر الجارية أو يجعده أو يحمر وجهها أو يضمر الماء على الرحى ويرسله عند عرضها على المشتري يثبت الخيار لأنه تدليس لما يختلف الثمن باختلافه فأثبت الخيار كالتصرية وبهذا قال الشافعي ووافق أبو حنيفة في تسويد الشعر وقال في تجعيده : لا يثبت به الخيار لأنه تدليس بما ليس بعيب أشبه ما لو سود أنامل العبد ليظنه كاتبا أو حدادا
ولنا أنه تدليس بما يختلف به الثمن أشبه تسويد الشعر وأما تسويد الأنامل فليس بمختص بكونه كاتبا لأنه يحتمل أن يكون قد ولع بالدواة أو كان غلاما لكاتب يصلح له الدواة فظنه كاتبا طمع لا يستحق به فسخا فإن حصل هذا من غير تدليس مثل أن اجتمع اللبن في الضرع من غير قصد أو أحمر وجه الجارية لخجل أو تعب أو تسود شعرها بشيء وقع عليه فقال القاضي : له الرد أيضا لدفع الضرر اللاحق بالمشتري والضرر واحب لدفع سواء قصد أو لم يقصد فأشبه العيب ويحتمل أن لا يثبت الخيار لحمرة وجهها بخجل أو تعب لأنه يحتمل ذلك فيتعين ظنه من خلقته الأصلية طعما فأشبه سواد أنامل العبد
فصل : فإن علف الشاة فملأ خواصرها وظن المشتري أنها حامل أو سود أنامل العبد أو ثوبه يوهم أنه كاتب أو حداد أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة فظن أنها كثيرة اللبن لم يكن له خيار قد يكون هذا لا يتعين للجهة التي ظنها فإن امتلاء البطن قد يكون لأكل أو شرب أو غيرهما وسواد أنامل العبد قد يكون لولع بالدواة أو لكونه شارعا في الكتابة أو غلاما لكاتب فحمله على أنه كاتب من باب الطمع فال يثبت خيارا
فصل : وإذا أراد إمساك المدلس وأخذ الأرش لم يكن له أرش لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجعل له في المصراة أرشا وإنما خيره في شيئين قال : [ إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر ] ولأن المدلس ليس بعيب فلم يستحق من أجله عوضا وإن تعذر عليه الرد بتلف فعليه الثمن لأنه تعذر عليه الرد فيما لا أرش له فأشبه غير المدلس وإن تعيب عنده قبل العلم بالتدليس فله رده ورد أرش العيب عنده وأخذ الثمن وإن شاء أمسك ولا شيء له وإن علم التدليس فتصرف في المبيع بطل رده كما لو تصرف في المبيع المعيب وإن أخر الرد من غير تصرف فحكمه تأخر رد المعيب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

خيار العيب وحكم رد المبيع وزيادته المتصلة والمنفصلة
مسألة : قال : وإذا اشترى أمة ثيبا فأصابها أو استغلها ثم ظهر على عيب كان مخيرا بين أن يردها ويأخذ الثمن كاملا لأن الخراج بالضمان والوطء كالخدمة وبين أن يأخذ ما بين الصحة والعيب
في هذه المسألة فصول خمسة :
الفصل الأول : أن من علم بسلعته عيبا لم يجز بيعها حتى يبينه للمشتري فإن لم يبينه فهو أتم عاص نص عليه أحمد لما روى حكيم بن حزام [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما ] و [ قال عليه السلام : المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخي بيعا إلا بينه له ] وقال : [ من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه ] رواهما ابن ماجة وروى الترمذي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من غشنا فليس منا ] وقال : هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا الغش وقالوا هو حرام فإن باعه ولم يبينه فالبيع صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم مالك و أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن أبي بكر عبد العزيز أن البيع باطل لأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن التصرية وصحح البيع وقد روي عن أبي بكر أنه قيل له ما تقول في المصراة ؟ فلم يذكر جوابا
الفصل الثاني : أنه متى علم بالبيع عيبا لم يكن عالما به فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا وإثبات النبي صلى الله عليه و سلم الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه اشترى مملوكا فكتب هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد اشترى منه عبدا أو أمة لا داء به ولا غائلة بيع المسلم السلم ] فثبت أن بيع المسلم اقتضى السلامة ولأن الأصل السلامة والعيب حادث أو مخالف للظاهر فعند الإطلاق يحمل عليه فمتى فاتت فات بعد مقتضى العقد فبلم يلزمه أخذه بالعوض وكان له الرد وأخذ الثمن كاملا
فصل : خيار الرد بالعيب على التراخي فمتى علم العيب فأخر الرد لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا ذكره أبو الخطاب وذكر القاضي شيئا يدل على أن فيه روايتين إحداهما : هو على التراخي والثانية : هو على الفور وهو مذهب الشافعي فمتى علم العيب فأخر رده مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل على الرضا به فأسقط خياره كالتصرف فيه ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على التراخي كالقصاص ولا نسلم دلالة الإمساك على الرضا به
الفصل الثالث : أنه لا يخلو المبيع من أن يكون بحاله فإنه يرده ويأخذ رأس ماله أو يكون قد زاد بعد العقد أو جعلت له فائدة فذلك قسمان أحدهما : أن تكون الزيادة متصلة كالسمن والكبر والتعلم والحمل قبل الوضع والثمرة قبل التأبيرة فإنه يردها بنمائها لأنه يتبع في العقود والفسوخ القسم الثاني : أن تكون الزيادة منفصلة وهي نوعان أحدهما : أن تكون الزيادة من غير عين المبيع كالكسب وهو معنى قوله أو استغلها يعني أخذ غلتها وهي منافعها الحاصلة من جهتها كالخدمة والأجرة والكسب وكذلك ما يوهب أو يوصى له به فكل ذلك للمشتري في مقابلة ضمانه لأن العبد لو هلك هلك من مال المشتري وهو معنى قوله عليه السلام : [ الخراج بالضمان ] ولا نعلم في هذا خلافا وقد روى ابن ماجة عن هشام بن عمار عن مسلم بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه [ عن عائشة رضي الله عنه أن رجلا اشترى عبدا فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده فقال يا رسول الله : إنه استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الخراج بالضمان ] ورواه أبو داود و الشافعي ورواه سعيد في سننه عن مسلم بهذا الإسناد وقال فيه : [ الغلة بالضمان ] وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : ولا نعلم عن غيرهم خلافهم النوع الثاني : أن تكون الزيادة من عين المبيع كالولد والثمرة واللبن فهي للمشتري أيضا ويرد الأصل دونها وبهذا قال الشافعي وقال مالك : إن كان النماء ثمرة لم يردها وإن كان ولدا رده معها لأن الرد حكم فسرى إلى ولدها كالكتابة وقال أبو حنيفة النماء الحادث في يد المشتري يمنع الرد لأنه لا يمكن رد الأصل بدونه لأنه من موجبه فلا يرفع العقد مع بقاء موجبه ولا يمكن رده معه لأنه لم يتناوله العقد ولنا أنه حادث في ملك المشتري فلم يمنع الرد كما لو كان يد البائع وكالكسب ولأنه نماء منفصل فجاز رد الأصل بدونه كالكسب والثمرة عند مالك وقولهم إن النماء موجب العقد غير صحيح إنما موجبه الملك ولو كان موجبا للعقد لعاد إلى البائع الفسخ وقول مالك لا يصح لأن الولد ليس بمبيع فلا يمكن رده بحكم رد الأم ويبطل ما ذكره بنقل الملك بالهبة والبيع وغيرهما فإنه لا يسري إلى الولد بوجوده في الأم وإن كان قد نقص فهذا نذكر نحكمه إن شاء الله تعالى
الفصل الرابع : إن كان المبيع جارية ثيبا فوطئها المشتري قبل علمه بالعيب فله ردها وليس معها شيء وروي ذلك عن زيد بن ثابت وبه قال مالك و الشافعي و أبو ثور و عثمان البتي وعن أحمد رواية أخرى أنه يمنع الرد ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه قال الزهري و الثوري و أبو حنيفة و إسحاق لأن الوطء يجري مجرى الجناية لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن يمنع الرد كما لو كانت بكرا وقال شريح و الشعبي و النخعي و سعيد بن المسيب و ابن أبي ليلى : يردها ومعها أرش
واختلفوا فيه فقال شريح و النخعي : نصف عشر ثمنها وقال الشعبي : حكومه وقال ابن المسيب : عشرة دنانير وقال ابن أبي ليلى : مهر مثلها وحكي نحو قوله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد أنه إذا فسخ صار واطئا في ملك الغير لكون الفسخ رفعا للعقد من أصله ولنا أنه معنى لا ينقص عينا ولا قيمتها ولا يتضمن الرضا بالعيب فلا يمنع الرد كالاستخدام وكوطء الزوج وما قالوه يبطل بوطء الزوج ووطء البكر بنقص ثمنها وقولهم يكون واطئا في ملك الغير ليس بصحيح لأن الفسخ رفع للعقد من حينه لا من أصله بدليل أنه لا يبطل الشفعة ولا يوجب رد الكسب فيكون وطؤه في ملكه

حكم إمساك المعيب وأخذ الأرش عن العيب وكيفية تقويمه
فصل : ولو اشترى مزوجة فوطئها الزوج لم يمنع ذلك الرد بغير خلاف نعلمه فإن زوجها المشتري فوطئها الزوج ثم أراد ردها بالعيب فإن كان ذلك النكاح باقيا فهو عيب حادث وإن كان قد زال فحكمه حكم وطء السيد وقد استحسن أحمد رحمه الله أنه يمنع الرد وهو محمول على الرواية الأخرى إذ لا فرق بين هذا وبين الوطء السيد وإن زنت في يد المشتري ولم يكن عرف ذلك منها فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة ويحتمل أن يكون عيبا بكل حال لأنه لزمها حكم الزنا في يد المشتري
الفصل الخامس : إنه إذا اختار المشتري إمساك المعيب وآخذ الأرش فله ذلك وهذا قول إسحاق وقال أبو حنيفة و الشافعي : ليس له إلا الإمساك أو الرد وليس له أرش إلا أن يتعذر رد المبيع لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل لمشتري المصراة الخيار بني الإمساك من غير أرش أو الرد ولأنه يملك الرد فلم يملك أخذ جزء من الثمن كالذي له الخيار
ولنا أن ظهر على عيب لم يعلم له فكان له الأرش كما لو تعيب عنده ولأنه فات عليه جزء من المبيع فكانت له المطالبة بعوضه كما لو اشترى عشرة أقفزة فبانت تسعة أو كما لو أتلفه بعد البيع فأما المصراة فليس فيها عيب وإنما ملك الخيار بالتدليس لا لفوات جزء ولذلك لا يستحق أرشا إذا امتنع الرد عليه إذا ثبت هذا فمعنى أرش العيب أن يقوم المبيع صحيحا ثم يقوم معيبا فيؤخذ قسط ما بنيهما من الثمن فنسبته إلى الثمن نسبة النقصان بالعيب من القيمة مثاله أن يقوم المعيب صحيحا بعشرة معيبا بتسعة والثمن خمسة عشر فقد نقصه العيب عشر قيمته فيرجع على البائع بعشر الثمن وهو درهم نصف وعلة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بثمنه ففوات جزء منه يسقط عنه ضمان ما قابله من الثمن أيضا ولأننا لو ضمناه نقص القيمة أفضى إلى اجتماع اليمن والمثمن للمشتري فيما إذا اشترى شيئا ينصف قيمته فوجد به عيبا بنقصه نصف قيمته مثل أن يشتريه بعشرة وقيمته عشرون فوجد به عيبا ينقصه عشرة فأخذها حصل له المبيع ورجع بثمنه وهذا معنى قول الخرقي أو يأخذ ما بين الصحة والعيب وقد نص أحمد على ما ذكرناه وذكره الحسن و البصري فقال : يرجع بقيمة العيب في الثمن يوم اشتراه قال أحمد : هذا أحسن ما سمعت

المبيع المعيب إذا حدث به عيب آخر عند المشتري
مسألة : قال : وإن كانت بكرا فأراد ردها كان عليه ما نقصها
يعني الأمة البكر إذا وطئها المشتري ثم ظهر على عيب فردها كان عليه أن يرد معها أرش النقص وعن أحمد في جوازها ردها روايتان إحداهما لا يردها ويأخذ أرش العيب وبه قال ابن سيرين و الزهري و الثوري و الشافعي و أبو حنيفة و إسحاق قال ابن أبي موسى : وهو الصحيح عن أحمد والرواية الثانية يردها ويرد معها شيئا وبه قال شريح و سعيد بن شريح و سعيد بن المسيب و النخعي و الشعبي و مالك و ابن أبي ليلى و أبو ثور والواجب رد ما نقص قيمتها بالوطء فإذا كانت قيمتها بكرا عشرة وثيبا ثمانية رد دينارين لأنه بفسخ العقد يصير مضمونا عليه بقيمته بخلاف أرش العيب الذي يأخذه المشتري وهذا قول مالك و أبي ثور وقال شريح و النخعي : يرد عشر ثمنها وقال سعيد بن المسيب : يرد عشرة دنانير وما قلناه أولى إن شاء الله تعالى واحتج من منع ردها بأن الوطء نقص عينها وقيمتها فمل يملك ردها كما لو اشترى عبدا فخصاه فنقصت قيمته ولنا أنه عيب حدث عند أحد المتبايعين فأثبت الخيار كالعيب الحادث عند البائع قبل القبض
فصل : وكل مبيع كان معيبا ثم حدث به عند المشتري عيب آخر قبل علمه بالأول فعن أحمد رحمه الله فيه روايتان إحداهما : ليس له الرد أرش العيب القديم وبه قال الثوري و ابن شبرمة و الشافعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن سيرين و الزهري و الشعبي لأن الرد ثبت لإزالة الضرر وفي الرد على البائع إضرار به ولا يزال الضرر بالضرر والثانية : له الرد ويرد أرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن وإن شاء أمسكه وله الأرش وبهذا قال مالك و إسحاق وقال النخعي و حماد بن أبي سليمان : يرده ونقصا العيب وقال الحكم : يرده لم يذكر معه شيئا
ولنا حديث المصراة فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بردها بعد حلبها ورد عوض لبنها واحتج أحمد بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قضى في الثوب إذا كان به عوار برده وإن كان قد لبسه ولأنه عيب حدث عند المشتري فكان له الخيار بين رد المبيع وأرشه وبين أخذ أرش العيب القديم كما لو كان حدوثه لاستعلام المبيع ولأن العيبين قد استويا والبائع قد دلس به والمشتري لم يدلس فكان رعاية جانبه أولى ولأن الرد كان جائزا قبل حدوث العيب الثاني فلا يزول إلا بدليل وليس في المسألة إجماع ولا نص والقياس إنما يكون على أصل وليس لما ذكروه أصل فيبقى الجواز بحاله إذا ثبت هذا فإنه يرد أرش العيب الحادث عنده لأن المبيع بجملته مضمون عليه فكذلك أجزاؤه وإن زال العيب الحادث عند المشتري رده ولا أرش معه على كلتا الروايتين وبه قال الشافعي لأنه زال المانع مع قيام السبب المقتضي للرد فثبت حكمه ولو اشترى أمة فحملت عنده ثم أصاب بها عيبا فالحمل عيب في الآدميات دون غيرهن لأنه يمنع الوطء ويخاف منه التلف فإن ولدت فالولد للمشتري وإن نقصتها والولادة فذلك عيب أيضا وإن لم تنقصها الولادة ومات الولد جاز ردها لأنه زال العيب وإن كان ولدها باقيا لم يكن له ردها دون ولدها لأن ذلك تفريق بينهما وهو محرم وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب في مسائلهما : له الفسخ فيها دون ولدها وهو قول أكثر أصحاب الشافعي ولأنه موضع حاجة فأشبه ما لو ولدت جرا فإنه يجوز بيعها دون ولدها ولنا عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ] ولأنه أمكن دفع الضرر بأخذ الأرش أو برد ولدها معها فلم يجز ارتكاب منهي الشرع بالفريق بينهما كما لو أراد الإقالة فيها دون ولدها وقولهم أن الحاجة داعية إليه قلنا قد اندفعت الحاجة بأخذ الأرش إما إذا ولدت حرا فلا سبيل إلى بيعه معها بحال ولو كان المبيع حيوانا غير الآدمي فحدث به حمل عند المشتري لم يمنع الرد بالعيب لأنه زيادة وإن علم بالعيب بعد الوضع ولم تنقصه الولادة فله إمساك الولد ورد الأم لأن التفريق بينهما جائز ولا فرق بينه حملها قبل القبض أو بعده ولو اشتراها حاملا فولدت عنده ثم اطلع على العيب فردها رد الولد معها لأنه من جملة المبيع والزيادة فيه نماء متصل بالمبيع فأشبه ما لو سمنت الشاة فإن تلف الولد فهو كتعيب المبيع عنده فإن قلنا له الرد فعليه قيمته إن اختار رد الأم وعن أحمد أنه لا قيمة عليه للولد وحمله القاضي على أن البائع دلس العيب وإن نقصت الأم بالولادة فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة ويمكن حمل كلام أحمد على أن الحمل لا حكم له وهذا أحد القولين للشافعي فعلى هذا يكو الولد حينئذ للمشتري فلا يلزمه رده إن كان باقيا ولا قيمته إن كان تالفا والأول هو الصحيح وعليه العمل إن شاء الله تعالى

تعيب المبيع في يد البائع
فصل : وإن كان المبيع كاتبا أو صانعا فنسي ذلك عند المشتري ثم وجد به عيبا فذلك عيب حادث عند المشتري حكمه حكم غيره من العيوب وعن أحمد يرده ولا يرد معه شيئا وعلله القاضي بأنه ليس بنقص في العين ويمكن عوده بالتذكر قال : وعلى هذا لو كان سمينا فهزل والقياس ما ذكرناه فإن الصياغة والكتابة متقومه تضمن في الغصب وتلزم بشرطها في البيع فأشبهت الأعيان والمنافع من السمع والبصر والعقل وإمكان العود منتقض بالسن والبصر والحمل ولعل ما روي عن أحمد أراد به إذا دلس البائع العيب
فصل : وإذا تعيب المبيع في يد البائع بعد العقد فإن كان المبيع من ضمانه فتحكه حكم العيب القديم وإن كان من ضمان المشتري فحكمه حكم العيب الحادث بعد القبض فأما الحادث بعد القبض فهو من ضمان المشتري ولا يثبت به خيار وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : عهدة الرقيق ثلاثة أيام فما أصابه فيها فهو من ضمن البائع إلا في الجنون والجذام والبرص فإن ظهر إلى سنة ثبت الخيار لما روى الحسن [ عن عقبة أن النبي صلى الله عليه و سلم عهدة الرقيق ثلاثة أيام وأنه إجماع أهل المدينة ] ولأن الحيوان يكون فيه العيب ثم يظهر ولنا أنه ظهر في يد المشتري ويجوز أن يكون حادثا فلم يثبت به الخيار كسائر المبيع أو ما بعد الثلاثة والسنة وحديثهم لا يثبت قال الإمام أحمد : ليس فيه حديث صحيح وقال ابن المنذر : لا يثبت في العهدة حديث صحيح والحسن لم يلق عقبة وإجماع أهل المدينة ليس بحجة والداء الكامن لا عبرة به وإنما ظهر لا بما كمن

تدليس العيب والعيوب المثبتة للفسخ
مسألة : قال : إلا أن يكون البائع دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملا وكذلك سائر المبيع
معنى دلس العيب أي كتمه عن المشتري مع علمه به أو غطاه عنه بما يوهم المشتري عدمه مشتق من الدلسة وهي الظلمة فكان البائع يستر العيب وكتمانه جعله في ظلمة فخفي عن المشتري فلم يره ولم يعلم به وسواء في هذا ما علم به فكتمه وما ستره فكلاهما تدلس حرام على ما بيناه فإذا فعله البائع فلم يعلم به المشتري حتى تعيب المبيع في يده فله رد المبيع وأخذ ثمنه كاملا ولا أرش عليه سواء كان الحادث بفعل المشتري كوطء البكر وقطع الثوب أو بفعل آدمي آخر مثل أن يجبني عليه جان أو بفعل العبد كالسرقة والاباق أو بفعل الله تعالى بالمرض ونحوه سواء كان ناقصا للمبيع أو مذهبا لجميعه قال أحمد : في رجل اشترى عبدا فأبق من يده وأقام البينة إن اباقه كان موجودا في يد البائع يرجع به على البائع بجميع الثمن الذي أخذه منه لأنه غر المشتري ويبتع البائع عبده حيث كان وهذا يحكى عن الحكم و مالك لأنه غره فيرجع عليه كما لو غره بحرية أمة وظاهر المصراة يدل على أن ما حدث في يد المشتري مضمون عليه سواء دلس البائع العيب أو لم يدلسه فإن التصرية تدليس ولم يسقط عن المشتري ضمان اللبن بل ضمنه بصاع من التمر مع كونه قد نهى عن التصرية وقال : [ بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] يدل على أن من له الخراج فعليه الضمان لكونه جعل الضمان علة لوجوب الخراج له فلو كان ضمانه على البائع لكان الخراج له لوجود علته ولأن وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولا نعلم في هذا نصا ولا إجماعا والقياس إنما يكون على أصل ولا نعلم لهذا أصلا ولا يشبه هذا التغرير بحرية الأمة في النكاح لأنه يرجع على من غره وإن لم يكن سيد الأمة وههنا لو كان التدليس من وكيل البائع لم يرجع عليه بشيء
فصل : في معرفة العيوب وهي النقائض الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلا للعقد باعتبار صفة المالية فما يوجب نقصا فيها يكون عيبا والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن وهم التجار فالعيوب في الخلقة كالجنون والجذام والبرص والعمى والعور والعرج والعفل والقرن والعتق والرتق والقرع والصمم والطرش والخرس وسائر المرض والأصبع الزائدة والناقصة والحول والخوص والسبل وهو زيادة في الأجفان والتخنيث وكونه خنثى والخصاء والتزوج في الأمة والبخر فيها وهذا كله قول أبي حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه خلافا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم في الجارية تشتري ولها زوج أنه عيب وكذلك الدين في رقبة العبد إذا كان السيد معسرا والجناية الموجبة للقود لأن الرقبة صارت كالمستحقة لوجوب الدفع في الجناية والبيع في الدين ومستحقة للإتلاف بالقصاص والزنا والبخر عيب في العبد والأمة جميعا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : ليس ذلك بعيب في العبد لأنه لا يراد للفراش والاستمتاع به بخلاف الأمة
ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته فإنه بالزنا يتعرض لإقامة الحد عليه والتعزير ولا يأمنه سيده على عائلته وحريمه والبخر يؤذي سيده ومن جالسه وخاطبه أو ساره وأما السرقة والاباق والبول في الفراش فهي عيوب في الكبير الذي جاوز العشر وقال أصحاب أبي حنيفة في الذي يأكل وحده ويشرب وحده وقال الثوري و إسحاق : ليس بعيب فيه حتى يحتلم لأن الإحكام تتعلق به من التكليف ووجوب الحدود ببلوغه فكذلك هذا ولنا أن الصبي العاقل يتحرز من هذا عادة كتحرز الكبير فوجوده منه في تلك الحال يدل على أن البول لداء في باطنه والسرقة والاباق لخبث في طبعه وحد ذلك بالعشر لأمر النبي صلى الله عليه و سلم بتأديب الصبي على ترك الصلاة عندها والتفريق بينهم في المضاجع لبلوغها فأما من دون ذلك فتكون هذه الأمور منه لضعف علقه وعدم تثبته وكذلك إن كان العبد يشرب الخمر أو يسكر من النبيذ نص عليه أحمد لأنه يوجب عليه الحد فهو كالزنا وكذلك الحمق الشديد والاستطالة على الناس لأنه يحتاج إلى التأديب وربما تكرر فافضى إلى تلفه ولا يكون عيبا إلا في الكبير دون الصغير لأنه منسوب إلى فعله وعدم الختان ليس بعيب في الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الأمة الكبيرة وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب أبي حنيفة : وهو عيب فيها لأنه زيادة ألم فأشبهت العبد ولنا أنه ليس بواجب في حقها والألم فيه يسير لا يخشى منه التلف بخلاف العبد الكبير فأما العبد الكبير فإن كان مجلوبا من الكفار فليس ذلك بعيب فيه لأن العادة أنهم لا يختتون فصار ذلك معلوما عند المشتري فهو كدينهم وإن كن مسلما مولدا فهو عيب فيه لأنه يخشى عليه منه وهو خلاف العادة
فصل : والثيوبة ليست عيبا لأن الغالب على الجواري الثيوبة فالإطلاق لا يقتضي خلافها وكونه محرمة على المشتري بنسب أو رضاع ليس بعيب إذ ليس في المحل ما يوجب خللا في المالية ولا نقصا وإنما التحريم مختص به وكذلك الإحرام والصيام لأنهما يزولان قريبا وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي : ولا نعلم لهما مخالفا وكذلك عدة البائن وأما عدة الرجعية فهي عيب لأن الرجعية زوجة ولا يؤمن ارتجاعه لها
ومعرفة الغناء والحجامة ليست بعيب وحكي عن مالك في الجارية المغنية أن ذلك عيب فيها لأن الغناء محرم ولنا أن هذا ليس بنقص في عينها ولا قيمتها فلم يكن عيبا كالصناعة ولان نسلم أن الغناء محرم وإن سلمناه فالمحرم استعماله لا معرفته والعسر ليس بعيب وكان شريح يرد به ولنا أنه ليس بنقص وعمله بإحدى يديه يقوم مقام عمله بالأخرى والكفر ليس بعيب وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هو عيب لأنه نقص بدليل قول الله تعالى : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }
ولنا أن العبيد يكون فيهم المسلم والكافر والأصل فيهم الكفر فالإطلاق لا يقتضي خلاف ذلك وكون المؤمن خيرا من الكافر لا يقتضي كون الكفر عيبا كما أن المتقي خير من غيره قال الله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وليس عدم ذلك عيبا وكونه ولد زنا ليس بعيب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هو عيب في الجارية لأنها تراد للافتراش بخلاف العبد ولنا أن النسب في الرقيق غير مقصود بدليل أنهم يشترون مجلوبين غير معروفي النسب وكون الجارية لا تحسن الطبخ أو الخبز أو نحو هذا ليس بعيب لأن هذه حرفة فلم ين فواتها عيبا كسائر الصنائع وكونها لا تحيض ليس بعيب وقال الشافعي هو عيب إذا كان لكبر لأن من لا تحيض لا تحمل ولنا أن الإطلاق لا يقتضي ولا عدمه فلم يكن فواته عيبا كما لو كان لغير الكبر

شرط صفة مقصودة في المبيع لا يعد فقدها عيبا
فصل : وإذا اشترط المشتري في المبيع صفة مقصودة مما لا يعد فقده عيبا صح اشتراطه وصارت مستحقة يثبت له خيار الفسخ عند عدمها مثل أن يشترط مسلما فيبين كافرا أو يشترط الأمة بكرا أو جعدة أو طباخة أو ذات صنعة أو لبن أو أنها تحيض أو يشترط في الدابة أنها هملاجة أو في الفهد أنه صيود وما أشبه هذا فمتى بأن خلاف ما اشترطه فله الخيار في الفسخ والرجوع بالثمن أو الرضا به ولا شيء له لا نعلم بينهم في خلافا لأنه شرط وصفا مرغوبا فيه فصار بالشرط مستحقا
فأما إن شرط صفة غير مقصودة فبانت بخلافها مثل أن يشترطها سبطه فبانت جعدة أو جاهلة فبانت عالمة فلا خيار له لأنه زاده خيرا وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة أو ثيبا فبانت بكرا فله الخيار لأن فيه قصدا صحيحا وهو أن طالب الكافرة أكثر لصلاحيتها للمسلمين وغيرهم أو ليستريح من تكليفها العبادات وقد يشترط الثيب لعجزه عن البكر أو ليبيعها لعاجز عن البكر فقد فات قصده وقيل لا خيار له لأن هذين زيادة وهو قول الشافعي في البكر واختيار القاضي واستبعد كونه يقصد الثيوبة لعجزه عن البكر وليس هذا ببعيد فإنه ممكن والاشتراط يدل عليه فيصير بالدليل قريبا وإن شرط الشاة لبونا يصح وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يصح لأنه لا يجوز بيع اللبن في الضرع فلم يجز شرطه
ولنا أنه أمر مقصود يتحقق في الحيوان ويأخذ قسطا من الثمن فصح اشتراطه كالصناعة في الأمة والهملجة في الدابة وإنما لم يجز بيعه مفردا للجهالة تسقط فيها كان بيعا وكذلك لو اشتراها بغير شرط صح بيعها معه وكذلك يصح بيع أساسات الحيطان والنوي في التمر معه وإن لم يجز بيعهما مفردين وإن شرط أنها تحلب كل يوم قدرا معلوما لم يصح لتعذر الوفاء به لأن اللبن يختلف ولا يمكن ضبطه وإن شرطها غزيرة اللبن صح لأنه يمكن الوفاء به وإن شرطها حاملا صح وقال القاضي : قياس المذهب أنه لا يصح لأن الحمل لا حكم له ولهذا لا يصح اللعان على الحمل ويحتمل أنه ريح
ولنا أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها فصح شرطه كالصناعة وكونه لبونا وقد بينا فيما قبل أن للحمل حكما ولذلك حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الدية بأربعين خلفه في بطونها أولادها ومنع أخذ الحوامل في الزكاة ومنع وطء الحبالى المسيبات وجعل الله تعالى عدة الحامل وضع حملها وأرخص لها الفطر في رمضان إذا خافت على ولدها ومنع من الاقتصاص منها وإقامة الحد عليها من أجل حملها وظاهر الحديث المروي في اللعان يدل على أنه لاعنها في حال حملها فانتقى عنه ولدها وإن شرط أنها تضع الولد في وقت بعينه لم يصح وجها واحدا لأنه لا يمكن الوفاء به وإن شرط أنها لا تحلم لم يصح الشرط لأنه لا يمكن الوفاء به وقال مالك : لا يصح في المرتفعات ويصح في غيرهن ولنا أنه باعها بشرط البراء من الحمل فلم يصح كالمرتفعات وإن شرطها حائلا فبانت حاملا فإن كان ذلك في الأمة فهو عيب يثبت الفسخ به وإن كان في غيرها فهو زيادة لا يستحق به فسخا ويحتمل أن يستحق لأنه قد يريدها لسفر أو لحمل شيء لا يتمكن منه مع الحمل وإن شرط البيع في الدجاج فقد قيل لا يصح لأنه لا علم عليه يعرف به ولم يثبت له في الشرع حكم والأول أنه يصح لأنه يعرف بالعادة فأشبه اشتراط الشاة لبونا وإن اشترط الهزار أو القمري مصوتا فقال بعض أصحابنا : لا يصح وبه قال أبو حنيفة لأن صياح الطير يجوز أن يوجد وجوز أن لا يوجد والأولى جوازه لأن فيه مقصدا صحيحا وهو عادة له وخلقة فيه فأشبه الهملجة في الدابة والصيد في الفهد وإن شرط في الحمام أنه يجيء من مسافة ذكرها فقال القاضي : لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأن فيه تعذيا للحيوان والقصد منه غير صحيح وقال أبو الخطاب : يصح لأن هذه عادة مستمرة وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار وحمل الكتب فجرى مجرى الصيد في الفهد والهملجة في الدابة وإن شرط في الجارية أنه مغنية لم يصح لأن الغناء مذموم في الشرع فلم يصح اشتراطه كالزنا وإن شرط في الكبش كونه نطاحا في الديك كونه مقاتلا لم يصح الشرط لأنه منهي عنه في الشرع فجرى مجرى الغناء في الجارية وإن شرط في الديك أنه يوقظه للصلاة لم يصح لأنه لا يمكن الوفاء به وإن شرط كونه يصيح في أوقات معلومة جرى مجرى اشتراط التصويت في القمري على ما ذكرنا
فصل : ولا يفتقر الرد بالعيب إلى رضا البائع ولا حضوره ولا حكم حاكم قبل القبض ولا بعده وبهذا الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان قبل القبض أتفقر إلى حضور صاحبه دون رضاه وإن كان بعده افتقر إلى رضا صاحبه أو حكم حاكم لأن ملكه قد تم على الثمن فلا يزول إلا برضاه ولا أ ه رفع عقد مستحق له فلم يفتقر إلى رضا صاحبه ولا حضوره كالطلاق ولأنه مستحق الرد بالعيب فال يفتقر إلى رضا صاحبه كقبل القبض

الخيار بعد التصرف في المبيع المعيب وبيان أخذ الأرش
مسألة : قال : ولو باع المشتري بعضها ثم ظهر على عيب كان مخيرا بين أن يرد ملكه منها بمقداره من الثمن أو يأخذ أرش العيب بقدر ملكه فيها
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : أنه إذا اشترى معيبا باعه سقط رده لأنه قد زال ملكه عنه فإن عاد إليه فأراده رده بالعيب الأول نظرنا فإن كان باعه عالما بالعيب أو وجد منه ما يدل على رضاه به فليس له رده لأن تصرفه رضا بالعيب وإن لم يكن علم بالعيب فله رده على بائعه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : ليس له رده إلا أن يكون المشتري فسخ لحكم الحاكم لأنه سقط حقه من الرد ببيعه فأشبه ما لو علم بعيبه ولنا أنه أمكنه استدراك ظلامته برده فلم ذلك كما لو فسخ الثاني بحكم الحاكم أو كما لو لم يزل ملكه عنه ولا نسلم سقوط حقه وإنما امتنع لعجزه عن رده فإذا عاد إليه زال المانع فظهر جواز الرد كما لو امتنع الرد لغيبه البائع أو لمعنى سواه وسواء رجع إلى المشتري الأول بالعيب الأول أو بإقالة أو هبة أو شراء ثان أو ميراث في ظاهر كلام القاضي : وقال أصحاب الشافعي : إن رجع بغير الفسخ بالعيب الأول ففيه وجهان أحدهما : ليس له رده لأنه استدرك ظلامته ببيعه ولم يزل بفسخه ولنا أن سبب استحقاق الرد قائم وإنما امتنع لتعذره بزوال ملكه فإذا زال المانع وجب أن يجوز الرد كما لو رد عليه بالعيب فعلى هذا إذا باعها المشتري لبائعها الأول فوجد بها عيبا كان موجودا حال العقد الأول فله الرد على البائع الثاني ثم للثاني رده عليه وفائدة الرد ههنا اختلاف الثمنين فإنه قد يكون الثمن الثاني أكثر
الفصل الثاني : إنه إذا باع المعيب ثم أراد أخذ أرشه فظاهر كلام الخرقي أنه لا أرش له سواء باعه عالما بعيبه أو غير عالم وهذا مذهب أبو حنيفة و الشافعي لأن امتناع الرد كان بفعله فأشبه ما لو أتلف المبيع ولأنه قد استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب وقال القاضي : إن باعه مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا وإن باعه غير عالم بالعيب فله الأرش نص عليه أحمد لأنه البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد ولم يوجد منه الرضا به ناقصا فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه وقياس المذهب أن له الأرش لك حال سواء باعه بعيبه أو جاهلا به لأننا خيرناه ابتداء بين رده وإمساكه وأخذ الأرش فبيعه والتصرف فيه بمنزلة إمساكه ولأن الأرش عوض الجزء الفائت من المبيع فلم يسقط ببيعه ولا رضاه كما لو باعه عشرة أقفزة وسلم إليه تسعة فباعها المشتري وقولهم إنه استدرك ظلامته لا يصح فإن ظلامته من البائع ولم يستدركها منه وإنما ظلم المشتري فلم يسقط حقه بذلك من الظالم له وهذا هو الصحيح من قول مالك وذكر أبو الخطاب عن أحمد في رجوعه بائع المعيب بالأرش روايتين من غير تفريق بين عالم البائع بالعيب وجهله به وعلى قول من قال لا يستحق الأرش فإذا علم به المشتري الثاني فرده به أو أخذ أرشه منه فللأول أخذ أرشه وهو قول الشافعي إذا امتنع على المشتري الثاني رده بعيب حدث عند لأه مل نستردك ظلامته وكل واحد من المشترين يرجع بحصة العيب من الثمن الذي اشتراه به على ما ذكرناه فيما تقدم
الفصل الثالث : إذا باع المشتري بعض المعيب ثم ظهر على عيب فله الأرش لما بقي في يده من المبيع وفي الأرش لما باعه ما ذكرنا من الخلاف فيما إذا باع الجميع وإن أراد رد الباقي بحصته من الثمن فالذي ذكره الخرقي ههنا أن له ذلك وقد نص عليه أحمد والصحيح أنه إن كان المبيع عينا واحدا أو عينين ينقصهما التفريق كمصراعي باب وزوجي خف أنه لا يملك الرد لما فيه من الضرر على البائع بنقص القيمة أو ضرر الشركة وامتناع الانتفاع بها على الكمال كإباحة الوطء والاستخدام وبهذا قال شريح و الشعبي و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقد ذكرنا أصحابنا في غير هذا الموضع فيما إذا كان المبيع عينين ينقصهما والتفريق أنه لا يجوز رد إحداهما دون الأخرى لما فيه من الضرر وفيما لو اشترى معيبا فتعيب عند إنه لا يملك رده إلا أن يرد أرش العيب الحادث عند فلا يجوز أن يرجه في مسألتنا معيبا بعيب الشركة أو نقص القيمة بغير شيء إلا أن يكون الخرقي أراد ما إذا دلس البائع العيب فإن ذلك عنده لا يسقط عن المشتري ضمان ما حدث عنده من العيب على ما ذكرنا فيما مضى وإن كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق فباع إحداهما ثم وجد بالأخرى عيبا أو علم أنهما كانتا معيبتين فهل له رد الباقية في ملكه ؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة وقال القاضي : المسألة مبنية على تفريق الصفقة سواء كان المبيع عينا واحدة أو عينين والتفصيل الذي ذكرنا أولى
فصل : وإن اشترى عينين فوجد بإحداهما عيبا وكانا مما لا ينقصهما التفريق أو مما لا يجوز التفريق بينهما كالولد مع أمه فليس له إلا ردهما جميعا أو إمساكهما وأخذ الأرش وإن لم يكونا كذلك ففيهما روايتان إحداهما : ليس له إلا ردهما أو أخذ الأرش مع إمساكها وهو ظاهر قول الشافعي وقول أبي حنيفة فيما قبل القبض لأن الرد يبعض الصفقة من المشتري فلم يكن له ذلك لكما لو كانا مما ينقصه التفريق والثانية ك له رد المعيب وإمساك الصحيح وهذا قول الحارث العكلي و الأوزاعي و إسحاق وهو قول أبي حنيفة فيما بعد القبض لأنه رد المعيب على وجه لا ضرر فيه على البائع فجاز كما لو رد الجميع وفارق ما ينقص بالتفريق فإن فيه ضررا وإن تلف أحد المبيعين أو تعيب أو وجد بالآخر أو بهما عيبا فأراد رده فالحكم فيه على ما ذكرنا من التفصيل والخلاف وإن اختلفا في قيمة التالف فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه منكر لما يدعيه البائع من زيادة قيمته ولأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة التالف إذا زادت زاد قدر ما يغرمة فهو بمنزلة المستعير والغاصب فأما إن كان المبيعان باقيين معيبين لم يوجد في أحدهما ما يمنع رده فأراد رد أحدهما دون الآخر فقال القاضي : ليس له ذلك ولم يذكر فيه سوى المنع من رد أحدهما والقياس أنها كالتي قبلها إذ لو كان إمساك أحدهما مانعا من الرد فيما إذا كانا معيبين لمنع منه إذا كان صحيحا

إسقاط أحد المشترين حقه في خيرا العيب وأخذ الأرش عما لا يجوز التفاضل فيه
فصل : إذا اشترى اثنان شيئا فوجداه معيبا أو اشترطا الخيار فرضي أحدهما ففيه روايتان عن أحمد حكاهما أبو بكر و ابن أبي موسى إحداهما : لمن يرض الفسخ وبه قال ابن أبي ليلى و الشافعي و أبو يوسف و محمد وهو إحدى الروايتين عن مالك والأخرى : لا يجوز له رده وهو قول أبي حنيفة و أبي ثور لأن المبيع خرج عن ملكه دفعة واحدة غير متشقص فإذا رده مشتركا رده ناقصا أشبه ما لو تعيب عنده ووجه الأولى أنه رد جميع ما ملكه بالعقد فجاز كما لو انفرد بشرائه والشركة إنما حصلت بإيجاب الباع لأنه باع كل واحد منهم نصفها فخرج عن ملك البائع مشقصة بخلاف العيب الحادث
فصل : وإذا ورث اثنان عن أبيهما خيار عيب فرضي أحدهما سقط حق الآخر من الرد لأنه لو رد وحده تشقصت السلعة على البائع فتضرر بذلك وإنما أخرجها عن ملكه إلى واحد غير مشقصة فلا يجوز رد بعضها إليه مشقصا بخلاف المسألة التي قبلها فإن عقد الواحد مع الاثنين عقدان فكأنه باع كل واحد منهما نصفها منفردا فرد عليه أحدهما جميع ما باعه إياه وههنا بخلافه
فصل : ولو اشترى رجل على رجلين شيئا فوجده معيبا فله رده عليهما فإن كان أحدهما غائبا رد على الحاضر حصته بقسطها من الثمن ويبقى نصيب الغائب في يده حتى يقدم ولو كان أحدهما باع العين كلها بوكالة الآخر فالحكم كذلك سواء أكان الحاضر الوكيل أو الموكل نص أحمد على قريب من هذا فإن أراد رد نصيب أحدهما وإمساك نصيب الآخر جاز لأنه يرد على البائع جميع ما باعه ولا يحصل برده تشقيص لأن المبيع كان مشقصا قبل البيع
فصل : فإن اشترى حلي فضة بوزنه رداهم فوجده معيبا فله رده وليس له أخذ الأرش لإفضائه إلى التفاضل فيما يجب التماثل فيه فإن حدث به عيب عند المشتري فعلى إحدى الروايتين يرده ويرد أرش العيب الحادث عنده ويأخذ ثمنه وقال القاضي : لا يجوز له رده لإفضائه إلى التفاضل فلا يصح لأن الرد فسخ للعقد ورفع له فلا تبقى المعاوضة وإنما يدفع الأرض عوضا عن العيب الحادث عنده بمنزلة ما لو جنى عليه في ملك صاحبه من غير بيع وكما لو فسخ الحاكم عليه وعلى الرواية الأخرى يفسخ الحاكم البيع ويرد البائع الثمن ويطالب بقيمة الحلي لأنه لم يمكن إهمال العيب ولا أخذ الأرش ولأصحاب الشافعي وجهان كهاتين الروايتين وإن تلف الحلي فإنه يفسخ العقد ويرد قيمته ويسترجع الثمن فإن تلف المبيع لا يمنع جاوز افسخ وعندي أن الحاكم إذا فسخ وجب رد الحلي وأرش نقصه كما قلنا فيم إذا فسخ المشتري على الرواية الأخرى وإنما يرجع إلى قيمته عند تعذر رده بتلف أو عجز وليس في رده ورد أرشه تفاضل لأن المعاوضة زالت بالفسخ فلم يبق له مقابل وإنما هذا الأرش بمنزلة أرش الجناية عليه ولأن قيمته إذا زادت على وزنه أو نقصت عنه أفضى إلى لا التفاضل لأن قيمته عوض عنه فلا يجوز ذلك إلا أن يأخذ قيمته من غير جنسه ولو باع قفيزا مما فيه الربا بمثله فوجد أحدهما بما أخذه عيبا ينقص قيمته دون كيله لم يملك أخذ أرشه لئلا يفضي إلى التفاضل والحكم فيه على ما ذكرناه في الحلي بالدراهم

الخيار بعد التصرف في المبيع المعيب
مسألة : قال : وإن ظهر على عيب بعد اعتقاه لها أو موتها في ملكه فله الأرش
وجملة أنه إذا زال ملك المشتري عن المبيع بعنق أو وقف أو موت أو قتل أو تعذر الرد لاستيلاد ونحوه قبل علمه بالعيب فله الأرش وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي إلا أن أبا حنيفة قال في المقتول خاصة : لا أرش له لأنه زال ملكه بفعل مضمون أشبه البيع
ولنا أنه عيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فيه فكان له الأرش كما لو أعتقه والبيع لنا فيه منع ومع تسليمه فإنه استدرك ظلامته فيه وأما الهبة فعن أحمد فيها روايتان إحداهما : أنها كالبيع لأنه لم ييأس من إمكان الرد لاحتمال رجوع الموهوب إليه والثانية : له الأرش وهي أولى ولم يذكر القاضي غيرها لأنه ما استدرك ظلامته فأشبه ما لو وقفه وإمكان الرد ليس بمانع من أخذ الأرش عندنا بدليل ما قبل الهبة وإن أكل الطعام أو لبس الثوب فأتلفه رجع فأشبه وبهذا قال أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا يرجع بشيء لأنه أهلك العين فأشبه ما لو تقل العبد ولنا أنه ما استدرك ولا رضي بالعيب فلم يسقط حقه من الأرش كما لو تلف بفعل الله تعالى
فصل : وإن فعل شيئا مما ذكرناه بعد علمه بالعيب فمفهوم كلام الخرقي أنه لا أرش له وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي وهو قياس قول القاضي لقوله فيمن باع المعيب عالما بعيبه ليس له أرش لأنه رضي به معيبا بتصرفه فيه مع علمه بعيبه وقياس المذهب أن له الأرش لأن له إمساك المبيع والمطالبة بأرشه وهذا يتنزل منزلة إمساكه مع العلم بعيبه ولأن البائع لم يوفه ما أوجبه العقد فكان له الرجوع بأرشه كما لو اعتقه قبل علمه بعيبه ولأن الأرش عوض الجزء الفائت بالعيب فلم يسقط بتصرفه فيما سواه كما لو باعه عشرة أقفزه فأقبضه تسعة فتصرف فيها
فصل : فإن استغل المبيع أو عرضه على المبيع أو تصرف فيه تصرفا دالا على الرضا به قبل علمه بالعيب لم يسقط خياره لأن ذلك لا يدل على الرضا به معيبا وإن فعله بعد علمه بعيبه بطل خياره في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : وكان الحسن و شريح و عبد الله بن الحسن و ابن أبي ليلى و الثوري وأصحاب الرأي يقولون : إذا اشترى سلعة فعضها على البيع لزمته وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه خلافا فأما الأرش فقال ابن أبي موسى لا يستحقه أيضا وقد ذكرنا أ قياس المذهب استحقاق الأرش قال أحمد أنا أقول : إذا استخدم العبد وأراد نقصان العيب فله ذلك فأما إن احتلب اللبن الحادث بعد العقد لم يسقط رده لأن اللبن له فملك استيفاءه من المبيع الذي يريده رده وكذلك إن ركب الدابة لينظر سيرها أو ليسقيها أو ليردها على بائعها وإن استخدم الأمة ليصبرها أو لبس القميص ليعرف قدره لم يسقط خيراه لأن ذلك ليس برضا بالمبيع ولهذا لا يسقطه به خيار الشرط وإن استخدمها لغير ذلك استخداما كثيرا بطل رده فإن كانت يسيرة لا تختص الملك لم يبطل الخيار قيل لأحمد إن هؤلاء يقولون إذا اشترى عبدا فوجده معيبا فاستخدمه بأن يقول ناولني هذا الثوب يعين بطل خياره فأنكر ذلك وقال من قال هذا أو من أين أخذوا هذا ؟ ليس هذا برضا حتى يكون شيء يبين وقد نقل عنه في بطلان الخيار بالاستخدام روايتان كذلك يخرج ههنا

استغلال المبيع والتصرف فيه لا يسقط خيار المعيب
فصل : وإن أبق العبد ثم علم عيبه فله أخذ أرشه فإن أخذه ثم قدر على العبد فإن لم يكن معروف الإباق قبل البيع فقد تعيب عند المشتري فهل يملك رده ورد أرش العيب الحادث عنده والأرش الذي أخذه ؟ على روايتين وإن كان آبقا فله رده ورد ما أخذه من أرش وأخذ ثمنه وقال الثوري و الشافعي : ليس للمشتري أخذ أرشه سواء قدر على رده أو عجز عنه إلا أن يهمل لأنه لم ييأس من رده فهو كما لو باعه ولنا أنه معيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فيه فكان له أرشه كما لو أعتقه وفي البيع استدرك ظلامته بخلاف مسألتنا
فصل : وإذا اشترى عبدا فأعتقه ثم علم به عيبا فأخذ أرشه فهو له وعن أحمد رواية أخرى أنه يجعله في الرقاب وهو قول الشافعي لأنه من جملة الرقبة التي جعلها الله فلا يرجع إليه شيء من بدلها ولنا أن العتق إنما صادف الرقبة المعيبة والجزء الذي أخذه بدله ما تناوله عتق ولا كان موجودا ولأن الأرش ليس بدلا عن العبد إنما هو جزء من الثمن جعل مقابلا للجزء الفائت فلما لم يحصل ذلك الجزء من المبيع رجع بقدره من الثمن فكأنه لم يصح العقد ولهذا رجع بقدره من الثمن لا من قيمة العبد وكلام أحمد في الرواية الأخرى يحمل على استحباب ذلك لا على وجوبه قال القاضي : إنما الروايتان فيما إذا أعتقه عن كفارته لأنه إذا أعتقه عن الكفارة لا يجوز أن يرجع إليه بشيء من بدلها كالمكاتب إذا أدى من كتابته شيئا ولنا أنه أرش عبد أعتقه فكان له كما لو تبرع بعتقه

اختلاف المتبايعين في العيب الحادث
مسألة : قال : فإن ظهر على عيب يمكن حدوثه قبل الشراء أو بعده حلف المشتري وكان له الرد أو الأرش
وجملة ذلك أن المتبايعين إذا اختلفا في العيب هل كان في المبيع قبل العقد أو حدث عند المشتري ؟ لم يخل من قسمين أحدهما : أن لا يحتمل إلا قول أحدها كالأصبع الزائدة والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها والجرح الطري الذي لا يحتمل كونه قديما فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين لأننا نعلم صدقه وكذب خصمه فلا حاجة إلا استحلافه والثاني : أن يحتمل قول كل واحد منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما ففيه روايتان إحداهما : القول قول المشتري فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله من الثمن ولزوم العقد في حقه فكان القول قول من ينفي ذلك كما لو اختلفا في قبض البيع والثانية : القول قول البائع مع يمينه فيحلف على حسب جوابه إن أجاب أنني بعته برئيا من العيب حلف على ذلك وإن أجاب بأنه لا يستحق على ما يدعيه من الرد حلف على ذلك ويمينه على البت لا على نفي العلم لأن الإيمان كلها على البت لا على نفي فعل الغير وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد ولأن المشتري يدعي عليه استحقاق فسخ البيع وهو ينكره والقول قول المنكر
فصل : وإذا باع الوكيل على عيب كان به فله رده على الموكل لأن المبيع يرد بالعيب على من كان له فإن كان العيب مما يمكن حدوثه فأقر به الوكيل وأنكره الموكل فقال أبو الخطاب : يقبل إقراره على موكله بالعيب لأنه أمر يستحقه به الرد فيقبل إقرار الوكيل به على موكله كخيار الشرط وقال أصحاب أبي حنيفة و الشافعي : لا يقبل إقراره الوكيل بذلك وهو أصح لأنه إقرار على الغير فلم يقبل كالأجنبي فإذا رده المشتري على الوكيل لم يملك الوكيل رده على الموكل لأنه رده بإقراره وهو غير مقبول على غيره ذكره القاضي فإن أنكره الوكيل فتوجهت اليمين عليه فنكل عنها فرد عليه بنكوله فهل له رده على الموكل ؟ على وجهين أحدهما : ليس له رده لأن ذلك يجري مجرى إقراره والثاني : له رده لأنه يرجع إليه بغير اختيار أشبه ما لو قامت به بينة
فصل : ولو اشترى جارية على أنها بكر ثم قال المشتري : إنما هي ثبت أريت النساء الثقات ويقبل قول امرأة ثقة فإن وطئها المشتري وقال : ما أصبتها بكرا خرج فيه وجها بناء على الروايتين فيما إذا اختلفا في العيب الحادث
فصل : وإن رد المشتري السلعة عيب فيها فأنكر البائع كونها سلعته فالقول قول البائع مع يمينه وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي ونحوه قال الأوزاعي فإنه قال فيمن صرف دراهم بدنانير ثم رجع بدرهم فقال الصيرفي : ليس هذا درهمي يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتكه ويبرأ لأن البائع منكر كون هذه فحكى ابن المنذر عن أحمد : القول قول المشتري وهو قول الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي لأنهما اتفقا على استحقاق فسخ العقد والرد بالعيب بخلافه

الاطلاع على عيب خفي بعد كسر المبيع أو صبغه والعبد الجاني وحكم المرتد
مسألة : قال : وإذا اشترى شيئا مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسدا فإن لم يكن لمكسورة قيمة كبيض الدجاج رجع بالثمن على البائع وإنا كان لمكسوره قيمة كجوز الهند فهو مخير في الرد وأخذ الثمن وعليه أرش الكسر أو يأخذه ما بين صحيحه ومعيبه
وجملة ذلك أنه إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره كالبطيخ والرمان ولجوز والبيض وكسره فبان عيبه ففيه روايتان إحداهما : لا يجرع على البائع بشيء وهو مذهب مالك لأنه ليس من البائع تدليس ولا تفريط لعدم معرفته بعيبه وكونه لا يمكنه الوقوف عليه إلا بكسره فجرى مجرى البراءة من العيوب والثانية : يرجع عليه وهي ظاهر المذهب وقول أبي حنيفة و الشافعي : لأن عقد البيع اقتضى السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري فإذا بان معيبا ثبت له الخيار ولأن البائع إنما يستحق ثمن المعيب دون الصحيح لأنه لم يملكه صحيحا فلا معنى لإيجاب الثمن كله وكونه لم يفرط لا يقتضي أ يجب له ثمن ما لم يسلمه بدليل العيب الذي لم يعلمه في العبد إذا ثبت هذا فإن المبيع إن كان مما لا قيمة له مكسورا كبيض الدجاج الفاسد والرمان الأسود والجوز الخرب والبطيخ التالف رجع بالثمن كله لأن هذا تبين به فساد العقد من أصله لكونه وقع على ما لا نفع فيه ولا يصح بيع ما لا نفع فيه كالحشرات والميتات وليس عليه أن يرد المبيع إلى البائع لأنه لا فائدة فيه الثاني : أن يكون مما لمعيبه قيمة كجوز الهند وبيض النعام والبطيخ الذي فيه نفع ونحوه فإذا كسره نظرت فإن كان كسرا لا يمكن استعلام المبيع بدونه فالمشتري مخير بين رده ورد أرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش عيبه وهو قسط ما بين صحيحه ومعيبه وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي : عندي لا أرش عليه لكسره لأن ذلك حصل بطريق استعلام العيب والبائع سلطه عليه حيث علم أنه لا تعلم له صحته من فساده بغير ذلك وهذا قول الشافعي ووجه قول الخرقي أنه نقص لم يمنع الرد فلزم رد أرشه كلبن المصراة إذا حلبها والبكر إذا وطئها وبهذين الأصلين يبطل ما ذكره فإنه لاستعلام العيب والبائع والتصرية حصلت بتدليسه وإن كان كسرا يمكن استعلام المبيع بدونه إلا أنه لا يتلف المبيع بالكلية فالحكم فيه كالذي قبل في قول الخرقي وهو قول القاضي أيضا والمشتري مخير بين رده وأرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش العيب وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الثانية ليس له رده وله أرش العيب وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم وإن كسره كسرا لا يبقى له قيمة فله أرش العيب لا غير لأنه أتلفه وقدر أرش العيب قسط ما بين الصحيح والمعيب من الثمن فيقوم المبيع صحيحا ثم يقوم معيبا لا غير مكسور فيكون للمشتري قدر ما بينهما من الثمن على ما مضى شرحه
فصل : ولو اشترى ثوبا فنشره فوجده معيبا فإن كان مما لا ينقصه الشر رده وإن كان ينقصه النشر كالهسنجاني الذي يطوى طاقين ملتصقين جرى ذلك مجرى جوز الهند على التفصيل المذكور فيما إذا لم يزد على ما يحصل المبيع أو زاد كنشر من لا يعرف وإن أحب أخذه أرشه فله ذلك بكل حال
فصل : إذا اشترى ثوبا فصبغه ثم ظهر على عيب فيه أره لا غير وبهذا قال أبو حنيفة وعن أحمد أن له رده وأخذ زيادته بالصبغ لأنها زيادة فلا تمنع الرد كالسمن والسكب والأول أولى لأن هذا معاوضة فلا يجبر البائع على قبولها كسائر المعاوضات وفارق السمن والكسب فإنه لا يأخذ عن السمن عوضا والكسب للمشتري لا يرجه ولا يعاوض عنه وإن قال البائع : أنا آخذه وأعطي قيمة الصبغ لم يلزم المشتري ذلك وقال الشافعي : ليس للمشتري إلا رده أمكنه رده فلم يملك أخذ الأرش كما لو سمن عبده أو كسب ولنا أنه لا يمكنه رده إلا برد شيء من ماله معه فلم يسقط حقه من الأرش بامتناعه من رده كما لو تعيب عنده وطلب البائع أخذه مع أرش العيب الحادث والأصل لا نسلمه فنه يستحق أخذا الأرش إذا أراده بكل حال
فصل : يصح بيع العبد الجاني سواء كانت الجناية عمدا أو خطأ على النفس وما دونها موجبة للقصاص أو غير موجبة له وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوله وقال في الآخر : لا يصح بيعه لأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع صحة بيعه كالرهن بل حق الجنية آكد لأنها تقدم على حق المرتهن ولنا أنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة أو حق يثبت بغير رضا سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته أو تصرف في الجاني فحاز كالعتق وإن كان الحق قصاصا فهو ترجى سلامته ويخشى تلفه فأشبه المريض أما الرهن فإن الحق متعين فيه لا يملك سيده إبداله ثبت الحق فيه برضاه وثيقة للدين فلو أبطله بالبيع سقط حق الوثيقة الذي التزمه برضاه واختياره إذا ثبت هذا فمتى باعه وكانت الجناية موجبة للمال أو القود فعفي عنه إلى مال فعلى السيد فداؤه بأهل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته ويزول الحق عن رقبة العبد ببيعه لأن السيد الخيرة بين تسليمه وفدائه فإن باعه تبعين عليه فداؤه الإخراج العبد من ملكه ولا خيار للمشتري لعدم الضرر عليه إذ الرجوع على غيره هذا إذا كان السيد موسرا وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يلزم السيد فداؤه لأن أكثر ما فيه أنه التزم فداءه فلا يلزمه ذلك كما لو قال الراهن : أنا أقضي الدين من الرهن
ولنا أنه زال ملكه عن الجاني فلزمه فداؤه كما لو تقله بخلاف الرهن وبهذا قال أبو حنيفة وإن كان البائع معسرا لم يسقط حق المجني عليه من رقبة الجانب لأن البائع إنما يملك نقل حقه عن رقبته بفدائه أو ما يقوم مقامه ولا يحصل ذلك في ذمة المعسر فيبقى الحق في رقبته بحاله مقدما على حق المشتري وللمشتري خيار الفسخ إن كان غير عالم ببقاء الحق في رقبته فإن فسخ رجع الثمن وإن لم يفسخ وكانت الجناية مستوعبة لرقبة العبد فأخذ بها رجع المشتري بالثمن أيضا لأن أرش مثل هذا جميع ثمنه وإن كان غير مستوعبة لرقبته رجع بقدر أرشه وإن كان عالما بعيبه راضيا بتعلق الحق به لم يرجع بشيء لأنه اشترى معيبا عالما بعيبه فإن اختار المشتري فداءه فله ذلك والبيع بحاله لأنه يقوم مقام البائع في الخيرة بين تسليمه وفدائه وحكمه في الرجوع بما فداه على البائع حكم قضاء الدين عن فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللمشتري الخيار بين الدر وأخذ الأرش فإن اقتض منه تعين الأرش وهو قسط قيمته ما بينه جانيا وغير جان وال يبطل البيع من أصله وبهذا قال أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة و الشافعي : يرجع بجميع الثمن لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع فجرى مجرى إتلافه إياه ولنا أنه تلف عند المشتري بالعيب الذي كان فيه فلم يوجب الرجوع بجميع الثمن كما لو كان مريضا فمات بدائه أو مرتدا فقتل بردته وما ذكروه منتقض بما ذكرناه ولا يصح قياسهم على إتلافه لأنه لم يتلفه فلما اشتركا في المقتضي ولو كان الجناية موجبة لقطع يده فقطعت عند المشتري فقد تعيب في يده لأن استحقاق القطع دون حقيقته فهل منيع ذلك رده بعينه على روايتين ومتى اشتراه عالما بعيبه لم يكن له رده ولا أرش كسائر المعيبات وهذا قول الشافعي
فصل : وحكم المرتد حكم القاتل في صحة بيعه وسائر أحكامه المذكورة فيه فإن قتله غير متحتم لاحتمال رجوعه إلى الإسلام وكذلك القاتل في المحاربة إذا تاب قبل القدرة عليه فإن لم يتب حتى قدر عليه فقال أبو الخطاب : هو كالقتال في غير محاربة لأنه عبد قن يصح إعتاقه ويملك استخدامه فصح بيعه كغير القاتل ولأنه يمكنه الانتفاع به إلى حال قتله ويعتقه فينجز له ولاء أولاده فجاز بيعه كالمريض المأيوس من برئه وقال القاضي : لا يصح بيعه لأنه تحتم قتله وإتلافه وإذهاب ماليته وحرم إبقاؤه فصار بمنزلة ما لا نفع فيه من الحشرات والميتات وهذا المنفعة اليسيرة مفضية به إلى قتله لا يتمهد بها محلا للبيع كالمنفعة الحاصلة من الميتة لسد ثبق أو إطعام كلب والأول أصح فإن كان محلا للبيع والأصل بقاء ذلك فيه وانحتام إتلافه لا يجعله تالفا بدليل أ أحكام الحية من التكليف ويغره لا تسقط عنه ولا تثبت أحكام الموتى له من إرث ماله ونفوذ وصيته وغيرها ولأن خروجه عن حكم الأصل لا يثبت إلا بدليل ولا نص في هذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الحشرات والميتات لأن تلك لم تلك فيها منفعة فيما مضى ولا في الحال وعلى أن هذا التحتم يمكن زواله لزوال ما ثبت به من الرجوع عن الإقرار وإن كان ثبت به أو رجوع البينة ولو لم يمكن زواله فأكثر ما فيه تحقق تلفه وذلك يجعله كالمريض المأيوس من برئه وبيعه جائز
مسألة : قال : ومن باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع إذا كان قصده للعبد لا للمال
وجملة ذلك أن السيد إذا باع عبده أو جاريته وله مال ملكه إياه مولاه أو خصه به فهو للبائع لما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة ولأن العبد وماله للبائع فإذا باع العبد اختص البيع به دون غيره كما لو كان له عبدان فباع أحدهما وإن اشترطه المبتاع كان له للخبر وروى ذلك نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقضى به شريح وبه قال عطاء و طاوس و مالك و الشافعي و إسحاق وقال الخرقي : إذا كان قصده للعبت لا للمال هذا منصوص أحمد وهو قول الشافعي و أبي ثور والبتي ومعناه أنه لا يقصد بالبيع شراء مال العبد إنما يقصد بقاء المال لعبده وإقراره في يده فمتى كان كذلك صح اشتراطه ودخل في البيع به سواء كان المال معلوما أو مجهولا من جنس الثمن أو من غيره عينا كان أو دينا وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر قال البتي : إذا باع عبدا بألف درهم ومعه ألف درهم فالبيع جائز إذا كان رغبة المبتاع في العبد لا في الدراهم وذلك أنه دخل في البيع تبعا غير مقصود فأشبه أساسات الحيطان والتمويه بالذهب في السقوف فأما إن كان المال مقصود بالشراء جاز اشتراطه إذا وجدت فيه شرائط البيع من العلم به وأن يكون بينه وبين الثمن ربا كما يعتبر ذلك في العينين المبيعتين لأنه مبيع مقصود فأشبه ما لو ضم إلى العبد عينا أخرى وباعهما وقال القاضي : هذا ينبني على كون العبد يملك أو لا يملك فإن قلنا لا يملك فاشترط المشتري ماله صار مبيعا معه فاشترط فيه ما يشترط في سائر المبيعات وهذا مذهب أبي حنيفة وإن قلنا يملك احتملت فيه الجهالة وغيرهما مما ذكرنا من قبل لأنه تبع في البيع لا أصل فأشبه طي الآبار وهذا خلاف نص أحمد وقول الخرقي لأنهما جعلا الشرط الذي يختلف الحكم به قصد المشتري دون غيره وهو أصح إن شاء الله تعالى واحتمال الجهالة فيه لكونه غير مقصود كما ذكرنا وكاللبن في ضرع الشاة المبيعة واحمل في بطنها والصوف على ظهرها وأشباه ذلك فإنه مبيع ويحتمل فيه الجهالة وغيرها لما ذكرنا وقد قيل أن المال ليس بمبيع ههنا وإنما استبقاه المشتري على ملك العبد لا يزول عنه إلى البائع وهو قريب من الأول
فصل : وإذا اشترى عبدا واشترط ماله ثم رد العبد بعيب أو خيار أو إقالة رد ماله معه وقال داود : يرد العبد دون ماله ألن ماله لم يدخل في البيع فأشبه النماء الحادث عنده ولنا أنه عين مال أخذها المشتري لا تحصل بدون البيع فيردها بالفسخ كالعبد ولأن العبد إذا كان ذا مال كانت قيمته أكثر فأخذ ماله ينقص قيمته فلم يملك رده حتى يدفع ما يزل نقصه فإن تلف ماله ثم أراد رده فهو بمنزلة العيب الحادث عند المشتري هل يمنع الرد على روايتين فإن قلنا يرده فعليه قيمة ما أتلف قال أحمد في رجل اشترى أمه معها قناع فاشتراطه وظهر على عيب وقد تلف القناع غرم قيمته بحصته من الثمن
فصل : وما كان على العبد أو الجارية من الحلي فهو بمنزلة مله على ما ذكرنا فأما الثياب فقال أحمد : ما كان يلبسه عند البائع فهو للمشتري وإن كان ثيابا يلبسها فوق ثيابه أو شيئا يزينه به فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع يعني أن الثياب التي يلبسها عادة للخدمة والبذلة تدخل في البيع دون الثياب التي يتجمل بها لأن ثياب البذلة جرت العادة ببيعها معه ولأنها تتعلق بها مصلحته وحاجته إذ لا غناء له عنها فجرت مجرى مفاتيح الدار بخلاف ثياب الجمال فإنها زيادة على العادة ولا تتعلق بها حاجة العبد وإنما يلبسها إياه لينفقه بها وهذه حاجة السيد لا حاجة العبد ولم تجر العادة بالمسامحة فيها فجرت مجرى الستور في الدار والدابة التي يركبه عليها مع دخولها في الخبر وبقائها على الأصل وقال ابن عمر : من باع وليدة زينها بثياب فللذي اشتراها ما عليها إلا أن يشترطه الذي باعها وبه قال الحسن و النخعي ولنا الخبر الذي رواه ابن عمر ولأن الثياب لم يتناولها لفظ البيع ولا جرت العتاد ببيعها معه أشبه سائر مال البائع ولأنه زينة للمبيع فأشبه ما لو زين الدار ببساط أو ستر
فصل : ولا يملك العبد شيئا إذا لم يملكه سيده في قول عامة أهل العلم وقال أهل الظاهر : يملك لدخوله في عموم قوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من باع عبدا وله مال ] فأضاف المال إليه بلام التمليك ولنا قوله تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } ولأن سده يملك عينه ومنافعه فيما حصل بذلك يجب أن يكون لسيده كبهيمته فأما إن ملكه سيده شيئا ففيه روايتان إحداهما : لا يملكه وهو ظاهر قول الخرقي فإنه قال : والسيد يزكي عما في يد عبد لأنه مالكه وقال العبد لا يرث ولا مال له فيورث عنه وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة و الثوري و إسحاق و الشافعي في الجديد لأنه مملوك فمل يملك كالبهيمة والثانية : يملك وهي أصح عندي وهو مالك و الشافعي في القديم للآية والخبر ولأنه آدمي حي فملك كالحر ولأنه يملك في النكاح فملك في المال كالحر ولأه يصح الإقرار له فأشبه الحر وما ذكروه تعليل بالمانع ولا يثبت اعتباره إلا أن يوجد المقتضي في الأصل ولم يوجد في البهيمة ما يقتضي ثبوت الملك لها وإنما انتفى ملكها لعدم المقتضي له لا لكونها مملوكة وكونها مملوكة عديم الأثر فإن سائر البهائم التي ليست مملوكة من الصيود والوحوش لا تملك وكذلك الجمادات وإذا بطل كون ما ذكروه مانعا وقد تحقق المقتضي لزم ثبوت حكمه والله أعلم

بيع العينة ونحوه مما يتوصل له إلى الربا
مسألة : قال : ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به
وجملة ذلك أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدا لم يجزك في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن عباس وعائشة و الحسن و ابن سيرين و الشعبي و النخعي وبه قال أبو الزناد وربيعة و عبد العزيز ابن أبي سليمة و الثوري و الأوزاعي و مالك و إسحاق وأصحاب الرأي وأجازه الشافعي لأنه ثمن يجز بيعها به من يغر بائعا فجز ن بائعها كما لو باعها بمثل ثمنها ولنا ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل أنها قالت : دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي اله عنه فقالت أم ولد زيد بن أرقم : إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ابلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب رواه الإمام أحمد و سعيد بن منصور والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فجرى مجرى روايتها ذلك عنه ولأن ذلك ذريعة إلى ربا فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال : أرى مائة بخمسين بينهما جريرة يعني خرقه حرير جعلاها في بيعهما والذرائع معتبرة لما قدمناه فأما بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز لأنه لا يكون ذريعة وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حاله البيع فإن نقصت مثل أن هزل العبد أو نسي صناعة أو تخرق الثوب أو بلي جاز له شراؤها بما شاء لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا وإن نقص سعرها أو زاد لذل أو لمعنى حدث فيها لم يجز بيعا بأقل من ثمنها كما لو كانت بحالها نص أحمد على هذا كله
فصل : وإن اشتراها بعرض أن كان بعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز وبه قال أبو حنيفة ولا نعلم فيه خلافا لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض فأما إن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر مثل أن يبيعها بمائتي درهم ثم اشتراها بشعرة دنانير فقال أصحابنا : يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بنيهما فجاز كما لو اشتراها بعرض أو بمثل الثمن وقال أبو حنيفة : لا يجوز استحسانا لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية ولأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول وهذا أصح إن شاء الله تعالى
فصل : وهذا المسألة تسمى مسألة العينة قال الشاعر :
( أندان أم نعتان أن ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه )
فقوله نعتان أي نشتري عينه مثل ما وصفنا وقد روى أبو داود بإسناده [ عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولك إذا تبايعتم وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزع حتى ترجعوا إلى دينكم ] وهذا ويعد يدل على التحريم وقد روي عن أحمد أنه قال : العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس وقال : أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد وقال ابن عقيل : إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع بنسيئة جميعا لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا ولا يكره إلا أن يكون له تجارة غيره
فصل : وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فقال أحمد رواية حرب : لا يجوز ذلك إلا أن يغير السلعة لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا فأشبه مسألة العينة فإن اشتراها بنقد آخر أو بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها نسيئة جاز لما ذكرناه في مسألة العينة ويحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه إلا أن يكون ذلك عن مواطأة أو حيلة فلا يجوز وإن وقع ذلك اتفاقا من غير قصد جاز لأن الأصل حل البيع وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه ولأن التوسل بذلك أكثر فلا يلتحق به ما دونه والله أعلم
فصل : وفي كل موضع قلنا لا يجوز له أن يشتري لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم مقامه ويجوز لغيره من الناس سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لأنه غير البائع ويشتري لنفسه فأشبه الأجنبي
فصل : ومن باع طعاما إلى أجل فلما حل الأجل أخذ منه بالثمن الذي في ذمته طعاما قبل قبضه لم يجز روي ذلك عن ابن عمر و سعيد بن المسيب و طاوس وبه قال مالك و إسحاق وأجازه جابر بن زيد و سعيد بن جبير و علي بن حسين و الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي قال علي بن حسين : إذا لم يكن لك في ذلك رأي وروي عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم أنه قال : بعت تمرا من التمارين كل سبعة آصع بدرهم ثم وجدت عند رجل منهم تمرا يبيعه أربعة آصع بدرهم فاشتريت منه فسألت عكرمة عن ذلك فقال : لا بأس أخذت أنقص مما بعت ثم سألت سعيد بن المسيب عن ذلك وأخبرته بقول عكرمة فقال : كذب قال عبد الله بن عباس : ما بعت من شيء مما يكال بمكيال فلا تأخذ منه شيئا مما يكال بمكيال إلا ورقا أو ذهبا فإذا أخذت ورقتك فابتع ممن شئت منه أو من غيره فرجعت فإذا عكرمة قد طلبتني فقال : الذي قلت لك هو حلال هو حرام فقتل لسعيد بن المسيب : إن فضل لي عنده فضل ؟ قال فأعطه أنت الكسر وخذ منه الدراهم ووجه ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة فحرم كمسألة العينة فعلى هذا كل شيئين حرم النساء فيهما لا يجوز أن يأخذ أحدهما عوضا عن الآخر قبل القبض ثمنه إذا كان البيع نساء نص أحد على ما يدل على هذا وكذلك قال سعيد بن المسيب : فيما حكينا عنه والذي يقوي عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك في ابتداء العقد كما قال علي بن الحسين : فيما يروي عنه عبد الله بن زيد قال : قدمت على علي بن الحسين فلقتل له إني أجز نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل ذلك الأجل فيقونها بالسوق فابتاع منهم وأقاصهم ؟ قال : لا بأس بذلك إذا لم يكن منك على رأي وذلك لأنه اشترى الطعام بالدراهم التي في الذمة بعد انبرام العقد الأول ولزومه فصح كما لو كان المبيع الأول حيوانا أو نباتا ولما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا فإنه لم يأخذ بالثمن طعاما ولكن اشترى من المشتري طعاما بدراهم وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء أو لم يسلمها إليه لكن قاصه بها كما في حديث علي بن الحسين

البيع بشرط البراءة من كل عيب
مسألة : قال : ومن باع حيوانا أو غيره بالبراءة من كل عيب لم يبرأ سواء علم به البائع أو لم يعلم
اختلفت الرواية عن أحمد في البراءة من العيوب روي عنه أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب وهو قول الشافعي وقال إبراهيم و الحكم و حماد : لا يبرأ إلا مما سمى وقال شريح : لا يبرأ إلا مما أراه أو وضع يده عليه وروي نحو ذلك عن عطاء و الحسن و إسحاق لأنه مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط فلا يثبت مع الجهل كالخيار والرواية الثانية : أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من عيب علمه ويروى ذلك عن عثمان ونحوه عن زيد بن ثابت وهو قول مالك وقول الشافعي في الحيوان خاصة لما روي أبو عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة من العيب بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترفعا إلى عثمان ؟ فقال عثمان لأبن عمر : تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب ؟ فقال : لا فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم وهذه قضية اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا وروي عن أحمد أنه أجاز البراءة من المجهول فيخرج من هذا صحة البراءة من كل عيب وري هذا عن ابن عمر وهو قول أصحاب الرأي وقول الشافعي لما [ روت أم سلمة أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم استهما وتوخيا وليحلل كل واحد منكما صاحبه ] فدل هذا على أن البراءة من المجهول جائزة لأنه إسقاط حق لا تسليم فيه فصح من المجهول كالعتاق والطلاق ولا فرق بين الحيوان ويغره فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر وقول عثمان قد خالفه ابن عمر وقول الصحابي المخالف لا يبقى حجة
فصل : فإن قلنا لا يصح شرط البراءة من العيوب فشرطه لم يفسد البيع في ظاهر المذهب وهو وجه لأصحاب الشافعي لأن ابن عمر باع بشرط البراءة فأجمعوا على صحته ولم ينكره منكر فعلى هذا لا يمنع الرد لوجود الشرط ويكون وجوده كعدمه وعن أحمد في الشروط الفاسدة روايتان إحداهما : أنها تفسد العقد فيدخل فيها هذا البيع لأنه البائع إنما رضي بهذا اثمن عوضا عنه بهذا الشرط فإذا فيدس الشرط فات الرضا به فيفسد البيع لعدم التراضي به

تبين نقص رأس المال المخبر به في المرابحة
مسألة : قال : ومن باع شيئا مرابحة فعلم أنه زاد في رأس ماله رجع عليه بالزيادة وحطها من الربح
معنى بيع المرابحة هو البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما برأس المال فيقول رأس مالي فيه أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم فيه عند أحد كراهة وإن قال : بعتك برأس مالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة درهما أو قال : ده يازده أو ده داوزه فقد كرهه أحمد وقد رويت كراهته عن ابن عمر وابن عباس ومسروق و الحسن و عكرمة و سعيد بن جبير و عطاء بن يسار وقال إسحاق : لا يجوز لأن الثمن مجهول حال العقد فلم يجز لكما لو باعه بما خرج به في الحساب ورخص فيه سعيد بن المسيب و ابن سيرين و شريح و النخعي و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر ولأن رأس المال معلوم والربح معلوم فأشبه ما لو قال وربح عشرة دراهم ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم نعلم لهما في الصحابة مخالفا ولأن فيه نوعا من الجهالة والتحرز عنه أولى وهذه كراهة تنزيه والبيع صحيح لما ذكرنا والجهالة يمكن إزالتها بالحساب فلم تضر كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم وأما ما يخرج به في الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل
إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب فنقول متى باع شيئا برأس ماله وريح عشرة ثم لعم بتنبيه أو إقرار أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع صحة العقد كالعيب وللمشتري الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال وهو عشرة وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري بتسعة وتسعين درهما وبهذا قال الثوري و ابن أبي ليلى وهو أد قولي الشافعي وقال أبو حنيفة : هو مخير بين الأخذ بكل الثمن أو يترك قياسا على المعيب
ولنا أنه باعه برأس ماله وما قدره من الربح فإذا بان رأس ماله قدرا كان مبيعا به وبالزيادة التي اتفقا عليها المعيب كذلك عندنا فإن له أخذ الأرش ثم المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور وههنا رضي فيه برأ المال والربح المقرر وهل للمشتري خيار ؟ فالمنصوص عن أحمد أن المشتري مخير بين أخذا المبيع برأس ماله حصته من الربح وبين تركه نقله حنبل وحكي ذلك قولا للشافعي لأن المشتري لا يأمن الجناية في هذا الثمن أيضا ولأنه ربما كان له غرض في الشراء بذل الثمن بعينه لكونه حالفا أو وكيلا أو غير ذلك وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له لأنه لم يذكره وحكى ذلك قولا للشافعي لأنه رضيه بمائة وعشرة فإذا حصل له بتسعة وتسعين فقد زاده خيرا فلم يكن له خيار كما لو اشتراه على أنه معيب فبان صحيحا أو أمي فبان صانعا أو كاتبا أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه بتسعين وأما البائع فلا خيار له لأنه باعه برأس ماله وحصته من الربح وقد حصل له ذلك

أحكام تغير السلعة المبيعة مرابحة
فصل : وإذا أراد الأخبار بثمن السلعة فإن كانت بحالها لم تتغير أخبر بثمنها وإن حط البائع بعض الثمن عن المشتري أو اشتراه بعد لزوم العقد لم يجزئه ويخبر بالثمن الأول لا غير ولأن ذلك هبة من أحدهما للآخر لا يكون عوضا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلحق بالعقد ويخبر به في المرابحة وهذه المسألة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وأخبر به في الثمن وبه قال الشافعي و أبو حنيفة ولا أعلم عن غيرهم خلافهم فإن تغير سعرها دونها فإن غلت لم يلزمه الأخبار بذلك لأنه زيادة فيها وإن رخصت فنص أحمد على أنه لا يلزمه الأخبار بذلك لأنه صادق بدون الأخبار به ويحتلم أن يلزمه الأخبار بالحال فإن المشتري لو علم ذلك لم يرضها بذلك الثمن فكتمانه بغرير به فإن أخبر بدون ثمنها ولم يتبين الحال لم يجز لأنه يجمع بين الكذب والتغرير
فصل : فأما إن تغيرت السلعة فذلك على ضربين أحدهما : أن تتغير بزيادة وهي نوعان أحدهما أن تزيد لنمائها كالسمن وتعلم صنعة أو يحصل منها نماء منفصل كالولد والثمرة والكسب فهذا إذا أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالثمن من غير زيادة لأنه القدر الذي اشتراها به وإن أخذ النماء المنفصل أو استخدم الأمة أو وطئ الشيب أخبر برأس المال ولم يلزمه تبين الحال وروى ابن المنذر عن أحمد أنه يلزمه تبيين ذلك كله وهو قول إسحاق وقال أصحاب الرأي في الغلة يأخذها : لا بأس أن يبيع مرابحة وفي الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين ولأنه من موجب العقد
ولنا أنه صادق فيما أخبر به من غير تغرير بالمشتري فجاز كما لو لم يزد ولأن الولد والثمرة نماء منفصل فلم يمنع من بيع المرابحة بدون ذكره كالغلة وقد بينا من قبل أنه ليس من موجبات العقد النوع الثاني : أن يعمل فيها عملا مثل أن يقصرها أو يرفها أو يجملها أو يخيطها فهذه متى أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالحال على وجه سواء عمل ذلك بنفسه أو استأجر من علمه هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال : يبين ما اشتراه وما لزمه ولا يجوز أن يقول تحصلت علي بكذا وبه قال الحسن و ابن سيرين و سعيد بن المسيب و طاوس و النخعي و الأوزاعي و أبو ثور ويحتمل أن يجوز فيم استأجر عليه أن يضم الأجرة إلى الثمن ويقول : تحصلت علي بكذا لأنه صادق وبه قال الشعبي و الحكم و الشافعي
ولنا أنه تغرير بالمشتري فإنه عسى أن لو علم أن بعض ما تحلت به لأجل الصناعة لا يرغب فيه لعدم رغبته في ذلك فأشبه ما ينقص الحيوان في مؤنته وكسوته وعلى المبتاع في خزنه الضرب الثاني : أن يتغير بنقص كنقصه بمرض أو جناية عليه أو تلف بعضه أو بولادة أو عيب أو يأخذ المشتري بعضه كالصوف واللبن الموجود ونحوه فإنه بالحال على وجه لا نعلم فيه خلافا وإن أخذ أرش العيب أو الجناية أخبر بذلك على وجهه ذكره القاضي وقال أبو الخطاب : يحط أرش العيب من الثمن ويخبر بالباقي لأن أرش العيب عوض ما فات به فكان ثمن الموجود هو ما بقي وفي أرش الجناية وجهان أحدهما : يحطه من الثمن كأرش العيب والثاني : لا يحطه كالنماء وقال الشافعي : يحطهما من الثمن ويقول : تقوم علي بكذا لأنه صادق فيما أخبر به فأشبه ما لو أخبر بالحال على وجهه ولنا أن الأخبار بالحال على وجهه أبلغ في الصدق وأقرب إلى البيان ونفي التغرير بالمشتري والتدليس عليه فلزمه ذلك كما لو اشترى شيئين بثمن واحد وقسط الثمن عليهما وقياس أرش الجناية عليه على النماء والكسب غير صحيح لأن الأرش عوض نقصه الحاصل بالجناية عليه فهو بمنزلة ثمن جزء منه باعه وكقيمة أحد الثوبين إذا تلف أحدهما والنماء والكسب زيادة ولم ينقص بها المبيع ولا هي عوض عن شيء منه فأما إن جنى المبيع ففداه المشتري لم يحلق ذلك بالثمن ولم يخبر به في المرابحة بغير خلاف نعلمه لأن هذا الأرش لم يزيد به المبيع قيمة ولا ذاتا وإنما هو مزيل لنقصه بالجناية والعيب الحاصل بتعلقها برقبته فأشبه الدواء المزيل لمرضه الحدث عند المشتري فأما الأدوية والمؤنة والكسوة وعمله في السلعة بنفسه أو علم غيره له بغير أجره فإنه لا يخبر بذلك في الثمن وجها واحدا وإن أخبر بالحال على وجهه فحسن

شراء شيئين صفقة واحدة وبيع إحداهما مرابحة وفروع فيها
فصل : وإن اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة أو اشترى اثنان شيئا فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذي أداه فيه فذلك قسما إحداهما : أن يكون البيع من المتقومات التي لا ينقسم الثمن عليها بالأجزاء كالثياب والحيوان والشجرة المثمرة وأشباه هذا فهذا لا يجوز بيع بعضه مرابحة حتى يخبر بالحال على وجهه نص عليه أحمد فقال كل بيع اشتراه جماعة ثم اقتسموه لا يبيع إحداهما مرابحة إلا أن يقول : اشتريناه جماعة ثم اقتسمناه وهذا مذهب الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي وقال الشافعي : يجوز بيعه بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته بدليل ما لو كان المبيع شقصا وسيفا أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن ولو اشترى شيئين فوجد أحدهما مغيبا رده بحثته من الثمن وذكر ابن أبي موسى فيما اشتراه اثنان فتقاسماه رواية أرخى عن أحمد أنه يجوز مرابحة بما اشتراه لأن ذلك ثمنه فهو صادق فيما أخبر به
ولنا أن قسمة الثمن على المبيع طريقة الظن والتخمين واحتمال الخطأ فيه كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز هذا فيه فصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا يجوز أن يباع به ما يجب التماثل فيه وإنما أخذ الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه وكونه لا طريق له سوى التقويم ولأنه لو لم يأخذ بالشفعة لاتخذه الناس طريقا لإسقاطها فيؤدي إلى تفويتها الكلية وههنا له طريق وهو الأخبار بالحال على وجهه أو بيعه مساومة القسم الثاني : أن يكون المبيع من المتماثلات التي ينقسم الثمن عليها بالأجزاء كالبر والشعير المتساوي فيجوز بيع بعضه مرابحة بقسطه من الثمن وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا لأن الثمن الجزء معلوم يقينا ولذلك جاز بيع قفيز من الصبرة وإن أسلم في ثوبين بصفة واحدة فأخذهما على الصفة وأراد بيع أحدهما مرابحة بحصته من الثمن فالقياس جوازه لأن الثمن ينقسم عليهما نصفين لا باعتبار القيمة وكذلك لو أقاله في أحدهما أو تعذر تسليمه كان له نصف الثمن من غير اعتبار قيمة المأخوذ منهما فكأنه أخذ كل واحد منهما منفردا ولأن الثمن وقع عليهما متساويا صفتهما في الذمة فهما كقفيزين من صبرة وإن حصل في أحدهم زيادة على الصفة جرت مجرى الحادث بعد البيع
فصل : وإن اشترى شيئا بثمن مؤجل لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين ذلك وإن اشتراه من أبيه أو ابنه أو ممن لا تقبل شهادته له لم تجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي و أبو يوسف و محمد : يجوز من غير بيان لأنه أخبر بما اشتراه عقدا صحيحا فأشبه ما لو اشتراه من أجنبي ولنا أنه متهم في الشراء منهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم فلم يجز أن يخبر بما اشتراه منهم مطلقا كما لو اشترى من مكاتبه وفارق الأجنبي فإنه لا يتهم في حقه وقياسهم بالشراء من مكاتبه فإنه لا يجوز له بيع ما اشتراه من مكاتبه مرابحة حتى يبين أمره ولا نعلم فيه خلافا وإن اشتراه من غلام دكانه الحر فقال القاضي : إذا باعه سلعة ثم اشتراه منه بأكثر من ذلك لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره ولا نعلم فيه خلافا ولأنه متهم في حقه من لا تقبل شهادته لم وقال أبو الخطاب : إن فعل ذلك حيله لم يجز وظاهره الجواز إذا لم يكن حيلة وهذا أصح لأنه أجنبي لكن لا يختص هذا بغلام دكانه بل متى فعل هذا على وجه الحيلة لم يجز وكان حراما وتدليسا على ما ذكرنا من قبل
فصل : فإن اشترى ثوبا بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة استحب أن يخبر بالحال على وجهه فإن أخبر أنه اشتراه بعشرة ولم يبين جاز وهو قول الشافعي و أبي يوسف و محمد لأنه صادق فيما أخبره به وليس فيه تهمة ولا تغرير بالمشتري فأشبه ما لو لم يربح فيه وروي عن ابن سيرين أنه يطرح الربح من الثمن ويخبر أن رأس ماله عليه خمسة وأعجب أحمد قول ابن سيرين قال : فإن باعه على ما اشتراه يبين أمره يعني يخبر أنه ربح فيه مرة ثم اشتراه وهذا محمول على الاستحباب لما ذكرناه وقال أبو حنيفة : لا يجوز بيعه مرابحة إلا أن يبين أمره أو يخبر أن رأس ماله عليه خمسه وهذا قول القاضي وأصحابه لأن المرابحة تضم فيها العقود فيخبر بما تقوم عليه كما تضم أجرة الخياط والقصار وقد استفاد بهذا العقد الثاني تقرير الربح في العقد الأول لأنه أمن أن يرده عليه ولأن الربح أحد نوعي النماء فوجب أن يخبر به في المرابحة كالولد والثمرة فعلى هذا ينبغي أنه إذا طرح الربح من الثمن الثاني يقول تقوم علي بخمسة ولا يجوز أن يقول اشتريته بخمسة لأن ذلك كذب والكذب حرام ويصير كما لو ضم أجرة القصارة والخياطة إلى الثمن وأخبر به ولنا ما ذكرناه فيما تقدم وما ذكروه من ضم القصارة والخياطة والولد والثمرة فشيء بنوه على أصلهم لا نسلمه ثم لا يشبه هذا ما ذكره لأن المؤنة والنماء لزماه في هذا البيع الذي يلي المرابحة وهذا الربح في قعد آخر قبل هذا الشراء فأشبه الخسارة فيه وأما تقرير الربح فغير صحيح فإن العقد الأول قد لزم ولم يظهر العيب ولم يتعلق به حكه ثم قد ذكرناه في مثل هذه المسألة أن للمشتري أن يرده على البائع إذا ظهر على عيب قديم وإذا لم يلزمه طرح النماء والغلة فههنا أولى ويجيء على هذا القول أنه لو اشتراه بعشرة ثم باعه بعشرين ثم اشتره بعشرة فإنه يخبر أنها حصلت بغير شيء وإن اشتراها بخمسة عشر أخبر أنها تقومت عليه باثني عشر نص أحمد على نظير هذا وعلى هذا يطرح الربح من الثمن الثاني كيفما كان فإن لم يربح ولكن اشتراها ثانية بخمسة أخبر بها لأنه ثمن العقد الذي يلي المرابحة ولو خسر فيها مثل أن اشتراها بخمسة عشر ثم باعها بعشرة ثم اشتراها بأي ثمن كان أخبر به ولم يجز أن يضم الخسارة إلى الثمن الثاني فيخبر به في المرابحة بغير خلاف نعلمه وهذا يدل على صحة ما ذكرناه والله أعلم
فصل : وكل ما قلنا إنه يلزمه أن يخبر به في المرابحة ويبينه فلم يفعل فإن البيع لا يفسد به ويثبت للمشتري الخيار بين الأخذ به وبين الرد إلا في الخبر بزيادة على رأس ماله على ما قدمناه من القول فيه وإن اشتراه بثمن مؤجل ولم يبين أمره فعن أحمد أنه مخير بين أخذه بالثمن الذي وقع عليه العقد حالا وبين الفسخ وهو مذهب أبو حنيفة و الشافعي لأن البائع لم يرض بذمة المشتري وقد تكن ذمته دون ذمة البائع فلا يلزمه الرضا بذلك وحكى ابن المنذر عن أحمد أنه إن كان المبيع قائما كان له ذلك إلى الأجل يعني وإن شاء فسخ وإن كان قد استهلك حبس المشتري الثمن بقدر الأجل وهذا قول الشريح لأنه كذلك وقع على البائع فيجب أن يكون للمشتري أخذه بذلك على صفته كما لو أخبر بزيادة على الثمن وكونه لم يرض بذمة المشتري لا يمنع نفوذ البيع بذلك كما أنه إذا أخبر بزيادة لم يرض ببيعه إلا بما أخبر به ولم يلتفت إلى رضاه بل وجب الرجوع إلى ما وقع به البيع الأول كذا ههنا
فصل : فإن ابتاعه بدنانير فأخبر أنه اشتراه بدراهم أو كان بالعكس أو اشتراه بعرض فأخبر أنه اشتراه بثمن أو بثمن فأخبر أنه اشتراه بعرض وأشبها فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين الرضا به بالثمن الذي يبايعا به كسائر المواضع الذي ثبت فيها ذلك
فصل : وإن ابتاع اثنان ثوبا بعشرين أو بذل لهما فيه اثنان وعشرون فاشترى أحدهما نصيب صاحبه فيه بذلك السعر فإنه يخبر في المرابحة بأحد وعشرين نص عليه أحمد وهذا قول النخعي وقال الشعبي : يبيعه على اثنين وعشرين لأن ذلك الدرهم الذي كان أعطيه قد كان أحرزه ثم رجع بعد ذلك إلى قول إبراهيم ولا نعلم أحدا خالف ذلك لأنه اشترى نصفه الأول بعشرة ثم اشترى نصفه الثاني بأحد عشر فصار مجموعهما أحدا وعشرين
فصل : قال أحمد : ولا بأس أن يبيع بالرقم ومعناه أن يقول بعتك هذا الثوب برقمه وهو الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوما لهما حال العقد وهذا قول عامة الفقهاء وكرهه طاوس ولنا أنه بيع بثمن معلوم فأشبه ما لو ذكره مقداره أو ما لو قال : بعتك هذا بما اشتريته به وقد علما قدره فإن لم يكن معلوما لهما أو لأحدهما لم يصح لأن الثمن مجهول قال أحمد : والمساومة عندي أسهل من بيع المرابحة وذلك لأن بيع المرابحة تعتريه أمانة واسترسال من المشتري ويحتاج فيه إلى تبيين الحال على وجهه في المواضع التي ذكرناها ولا يؤمن هوى النفس في نوع تأويل أو غلط فيكون على خطر وغرر وتجنب ذلك أسلم وأولى
فصل : وبيع التولية هو البيع بمثل ثمنه من غير نقص ولا زيادة وحكمه في الأخبار بثمنه وتبيين ما يلزمه تبيينه حكم المرابحة في ذلك كله ويصح بلفظ البيع ولفظ التولية

الغلظ في مقدار رأس المال في المرابحة
مسألة : قال : وإن أخبر بنقصان من رأس ماله كان على المشتري رده أو إعطاؤه ما غلظ به وله أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها بأكثر
وجملة ذلك أنه إذا قال في المرابحة : رأس مالي فيه مائة واربح عشرة ثم عاد فقال : غلطت رأس مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله في الغلط إلا ببينه تشهد أن رأس ماله عليه ما قاله ثانيا وذكره ابن المنذر عن أحمد و إسحاق وروى أبو طالب عن أحمد إذا كان البائع معروفا بالصدق قبل قوله وإن لم يكن صدوقا جاز البيع وقال القاضي : وظاهر كلام الخرقي أن القول قول البائع مع يمينه لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه والقول قول الأمين مع يمنيه كالوكيل والمضارب والظاهر أن الخرقي لم يترك ذكر ما يلزم البائع في إثبات دعواه لكونه يقبل مجرد دعواه بل لأنه عطفه على المسألة قبلها وقد ذكر فيها فعلم أنه زاد في رأس المال ولم يتعرض لما يحصل به العلم لكن قد علمنا أن العلم إنما يحصل ببينة أو إقرار كذلك علم غلطه ههنا يحصل ببينة أو إقرار من المشتري وكون البائع مؤتمنا لا يوجب قبول دعواه في الغلط كالمضارب والوكيل إذا أقرا بربح ثم قالا غلطنا أو نسينا واليمين التي ذكرها الخرقي ههنا إنما هي على نفي علمه بغلط نفسه وقت البيع لا على إثبات غلطه وعن أحمد رواية ثالثة أنه لا يقبل قو البائع وإن أقام به بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الثوري و الشافعي لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه ولا بينته لإقراره بكذبها
ولنا أنها بينة عادلة شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل كسائر البينات ولا نسلم أنه أقر بخلافها فإن الإقرار يكون لغير المقر وحالة إخباره بثمنها لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن إقراره فإن لم تكن بينة أو كانت له بينة وقلنا لا تقبل بينته فادعى أن المشتري يعلم غلطه فأنكر المشتري فالقول قوله وإن طلب يمينه فقال القاضي : لا يمين عليه لأنه مدع واليمن على المدعى عليه ولأنه قد أقر له فيستغني الإقرار عن اليمين والصحيح أن عليه اليمين أنه لا يعلم ذلك لأنه ادعى عليه ما يلزمه به رد السلعة بالثمن وزيادة في ثمنها فلزمته اليمين كموضع الوفاق وليس هو ههنا مدعيا إنما هو مدعى عليه العلم بمقدار الثمن الأول ثم قال الخرقي : له أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر وهذا صحيح فإنه لو باعها بهذا الثمن عالما بأن ثمنها عليه أكثر لزمه البيع بما عقد عليه لأنه تعاطى شيئا عالما بالحال فلزمه كمشتري المعيب عالما بعيبه وإذا كان البيع يلزمه بالعلم فادعى عليه لزمته اليمن فإن نكل قضي عليه وإن حلف خير المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحطها من الربح وبين فسخ العقد ويحتمل أنه إذا باعه بمائة وربح عشرة ثم أنه غلط بعشرة لا يلزمه حط العشرة من الربح لأن البائع رضي بربح عشرة في هذا المبيع فلا يكون له أكثر منها وكذلك إن تبين له أنه زاد في رأسه مله لا ينقص الربح من عشرة لأن البائع لم يبعه إلا بربح عشرة فأما إن قال وأربح في كل عشرة درهما أو قال : ده يازده لزمه حط العشرة من الربح في الغلط والزيادة على الثمن في الصورتين وإنما أثبتنا له الخيار لأنه دخل على أن الثمن مائة وعشرة فإن بان أكثر كان عليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب وإن اختار أخذها بمائة وأحد وعشرين لم يكن للبائع خيار لأنه قد زاده خيرا فلم يكن له خيار كبائع المعيب إذا رضيه المشتري وإن اختير البائع إسقاط الزيادة عن المشتري فلا خيار له أيضا لأنه قد بذلها بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا به

بيع المواضعة وبيع السلعة المشتركة
فصل : ويجوز بيع المواضعة وهو أن يخبر برأس مال ثم يقول بعتك هذا به وأضع عنك كذا فإن قال : بوضيعة درهم من كل عشرة كره لما ذكرنا في المرابحة وصح ويطرح من كل عشرة درهما فإن كان الثمن مائة لزمه تسعون ويكون الحط عشرة وقال قوم : يكون الحط من كل أحد عشر درهما فيكون ذلك تسعة دراهم وجزءا من أحد عشر جزءا من درهم وبقي تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزاءا من درهم وهذا غلط لأن هذا يكون خطأ من كل أحد عشر وهو غير ما قاله فأما إن قال : بوضيعة درهم لكل عشرة كان الوضيعة من كل أحد عشر درهما ويكون الباقي تسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر جزاء من درهم وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وحكي عن أبي ثور أنه قال : الحط ههنا عشر مثل الأولى وليس بصحيح فإنه إذا قال : لكل عشرة درهما يكون الدرهم من غيرها فكأنه قال : من كل أحد عشر درهما درهما وإذا قال : من كل عشرة درهما كان الدرهم من العشرة لأن من للتبعيض فكأنه قال : آخذ من العشرة تسعة وأحط منها درهما
فصل : إذا اشترى رجل نصف سلعة بعشرة واشترى آخر نصفها بعشرين ثم باعاها مساومة بثمن واحد فهو بينهما نصفان لا نعلم فيه خلافا لأن الثمن عوض عنها فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيها وإن باعها مرابحة أو مواضعة أو تولية فكذلك نص عليه أحمد وهو قول ابن سيرين و الحكم قال الأثرم قال أبو عبد الله رحمه الله : إذا باعها فالثمن بينهم نصفان قلت أعطي أحدهما أكثر مما أعطي الآخر فقال : وإن ألبس الثوب بينها الساعة سواء فالثمن بينما لأن كل واحد منهما يملك مثل الذي يملك صاحبه وحكي أبو بكر عن أحمد رواية أخرى أن الثمن بينهما لأن كل واحد منهما يملك مثل الذي يملك صاحبه وحكي أبو بكر عن أحمد رواية أخرى بينهما على قدر رؤوس أموالهما لأن بيع المرابحة يقتضي أن يكون الثمن في مقابلة رأس المال فيكون مقسوما بينهما على حب رؤوس أموالهما ولم أجد عن أحمد رواية بما قال أبو بكر وقيل هذا وجه خرجه أبو بكر وليس برواية والمذهب الأول لأن الثمن عوض المبيع وملكهما متساو فيه فكان ملكهما كعوضه متساويا كما لو باعها مساواة
فصل : ومتى باعاه السلعة برقمها ولا يعلمانه أو جهلا رأس المال في المرابحة أو المواضعة أو التولية أو جهل ذلك أحدهما أو جهل قدر الربح أو قدر الوضيعة فالبيع بالطل لأن العلم بالثمن شرط لصحة البيع فلا يثبت بدونه ولو باعه بمائة ذهبا وفضة لم يصح البيع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يصح ويكون نصفين لأن الطلاق يقتضي التسوية كالإقرار ولنا أن قدر كل واحد منهما مجهول فلم يصح كما لو قال : بمائة بعضها ذهب وقول إنه يقتضي التسوية لا يصح فإنه لو فسره بغير ذلك صح وكذلك لو أقر له بمائة ذهبا وفضة فالقول قوله في قدر كل واحد منهما

الاختلاف في الثمن وأيهما يبدأ باليمين
مسألة : قال : وإذا باع شيئا واختلفا في ثمنه تحالفا فإن شاء المشتري أخذ بعد ذلك بما قال البائع وإلا انفسخ البيع بينهما والمبتدئ باليمين البائع
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة
الفصل الأول : إنه إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فقال البائع : بعتك بعشرين وقال المشتري بل بعشرة ولأحدهما بينه حكم بها وإن لم يكن لهما بينة تحالفا وبهذا قال شريح و أبو حنيفة و الشافعي و مالك في رواية وعنه القول قول المشتري مع يمينه وبه قال أبو ثور و زفر : لأن البائع يدعي عشرة زائدة ينكرها المشتري والقول قول المنكر وقال الشعبي : القول قول البائع أو يترادان البيع وحكاه ابن المنذر عن إمامنا رحمه الله وروي ابن مسعود [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع ] رواه سعيد و ابن ماجة وغيرهما والمشهور في المذهب الأول ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدا وأن القول قول البائع مع يمنيه فإذا حلف فرضي المشتري بذلك أخر به وإن أبي حلف أيضا وفسخ البيع بينهما لأن بعض ألفاظ حديث ابن مسعود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا ] ولأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه فإن البائع يدعي عقدا بعشرين ينكره المشتري والمشتري يدعي عقدا بعشرة ينكره البائع والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت اليمن في حقهما وهذا الجواب عما ذكروه
الفصل الثاني : أن المبتدئ باليمن البائع فيحلف ما بعته بعشرة وإنما بعته بعشرين فإن شاء المشتري أخذه بما قال البائع وإلا يحلف ما اشتريته بعشرين وإنما اشتريته بعشرة وهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يبتدئ بيمين المشتري لأنه منكر واليمن في جنبته أقوى ولأنه يقضى بنكوله وينفصل الحكم وما كان أقرب إلى فضل الخصومة كان أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ فالقول ما قال البائع ] وفي لفظ [ فالقول ما قال البائع والمشتري بالخيار ] رواه الإمام أحمد ومعناه إن شاء أخذ وإن شاء حلف ولأن البائع أقوى جنبه لأنهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه فكان أقوى كصاحب اليد وقد بينها أن كل واحد منهما منكر فيتساويان من هذا الوجه والبائع إذا نكل فهو بمنزلة نكول المشتري يحلف الآخر ويقضى له فيهما سواء
الفصل الثالث : أنه إذا حلف البائع فنكل المشتري عن الميمين قضي عليه وإن نكل البائع حلف المشتري وقضي له وإن حلفا جميعا لم ينفسخ البيع بنفس التحالف لأنه عقد صحيح فتنازعهما وتعارضهما لا يفسخه كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه لكن إن رضي أحدهما بما قال صاحبة أقر العقد بينهما وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الفسخ هذا ظاهر الكلام أحمد ويحتمل أن يقف الفسخ على الحاكم وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن العقد صحيح وأحدهما ظالم وإنما يفسخه الحاكم إمضائه في الحكم فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان وجهل السابق منهما ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أو يترادان البيع ] وظاهره استقلالهما بذلك وفي القصة أن ابن مسعود رضي الله عنه باع الأشعث بن قيس رقيقا من رقيق الإمارة فقال عبد الله : بعتك بعشرين ألفا قال الأشعث : اشتريت منك بعشرة آلاف فقال عبد الله : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول قول البائع أو يترادان البيع ] قال : فإني أرد البيع رواه سعيد بن هشيم عن ابن أبي ليلى عن عبد الرحمن بن القاسم عن ابن مسعود وروى أيضا حديثا عن عبد الملك بن عبيدة قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك ] وهذا ظاهر في أنه يفسخ من غير حاكم لأنه جعل الخيار إليه فأشبه من له خيار الشرط أو الرد بالعيب ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة فأشبه الرد بالعيب ولا يشبه النكاح لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق وإذا فسخ العقد فقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أن الفسخ نفذ ظاهرا وباطنا لأنه فسخ لاستدراك الظلامة فهو كالرد بالعيب أو فسخ عقد بالتحالف فوقع في الظاهر أو الباطن كالفسخ باللعان وقال أبو الخطاب : إن كان البائع ظالما لم ينفسخ العقد في الباطن لأنه كان يمكنه إمضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ العقد في الباطن ولا يباح له التصرف في المبيع لأنه غاصب فإن كان المشتري ظالما انفسخ البيع ظاهرا وباطنا لعجز البائع عن استيفاء حقه فكان له الفسخ كما لو أفلس المشتري ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولهم وجه ثالث أنه لا يفسخ في الباطن بحال وهذا فاسد لأنه لو علم أنه لم ينفسخ في الباطن بحال لما أمكن فسخه في الظاهر فإنه لا يباح لكلك واحد منهما التصرف فيما رجع إليه بالفسخ ومتى علم أن ذلك محرم منع منه ولأن الشارع جعل للمظلوم منهما الفسخ ظاهرا أو باطنا فانفسخ بنفسه في الباطن كالرد بالعيب ويقوي عندي أنه إن فسخه الصادق منها انفسخ ظاهرا وباطنا لذلك وإن فسخ الكاذب عالما بكذبه لم ينفسخ بالنسبة إليه لأنه لا يحل له الفسخ فلم يثبت حكمه بالنسبة إليه ويثبت بالنسبة إلى صاحبه فيباح له التصرف فيما ردع إليه لأنه رجع إليه بحكم الشرع من غير عدوان منه فأشبه ما لو رد عليه المبيع بدعوى العيب ولا عيب فيه
مسألة : قال : فإن كانت السلعة تالفة تحالفا ورجعا إلى قيمة مثلها إلا أن يشاء المشتري أن يعطي الثمن على ما قال البائع فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه في الصفة
وجملته أنهما إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها فعن أحمد فيها روايتان إحداهما : يتحالفان مثل ما لو كانت قائمة وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك والأخرى : القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر وهذا قول النخعي و الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة لقوله عليه السلام في الحديث : [ والسلعة قائمة ] فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى المشتري واستحقاق عشرة في ثمنها واختلفا في شعرة زائدة الباع يدعيها والمشتري بنكرها والقول قول المنكر وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه ففيما عداه يبقى على القياس ووجه الرواية الأولى عموم قوله : [ إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار ] وقال أحمد : ولم يقل فيه والمبيع قائم إلا يزيد بن هارون قال أبو عبد الله : وقد أخطأ رواة الحلف عن المسعودي لم يقولوا هذه الكلمة ولكنها في حديث معن ولأن كل واحد منهما مدع ومنكر فيشرع اليمين كحال قيام السلة وما ذكروه من المعنى يبطل بحال قيام السلعة فإن ذلك لا يختلف بقيام السلعة وتلفها وقولهم تركناه للحديث قلنا ليس في الحديث تحالفا وليس ذلك بثابت في شيء من الأخبار قال ابن المنذر : وليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه وعلى أنه إذا خولف الأصل لمعنى وجب تعيده الحكم بتعدي ذلك المعنى فنقيس لعيه بل ثبت الحكم بالبينة فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك أولى فإذا تحالفا فإن رضي أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ العقد لعدم الحاجة إلى فسخ وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما فسه كما له ذلك في حال بقاء السلعة يرد اثمن الذي قبضه البائع إلى المشتري ويدفع المشتري قيمة السلعة إلى البائع فإن كنا م جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا وينبغي أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ فيما إذا كنت قيمة السلعة مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري ويكون القول قول المشتري مع يمينه لأنه لا فائدة في يمين البائع ولا فسخ البيع لأن الحاصل بذل كالرجوع إلى ما ادعاه المشتري وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ فيحتمل أن لا يشرع له اليمن ولا الفسخ لأن ذلك ضرر عليه من غير فائدة ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشتري ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم والقول قول الغارم
فصل : ون تقابلا المبيع أو رد بعيب بعض قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدرة فالقول قول الباع لأنه منكر لما يدعيه المشتري بعد انفسخا العقد فأشبه ما لو اختلف في القبض
فصل : وإن قال : بعتك هذا العبد بألف فقال : بل هو والعبد الآخر بألف فالقول قول البائع مع يمينه وهو قول أبي حنيفة وقال الشافعي : يتحالفان لأنهما اختلفا في أصل عضوي العقد فيتحالفان كما لو اختلفا في الثمن ولنا أن البائع ينكر بيع العبد الزائد فكان القول قوله بيمينه كما لو ادعى شراءه منفردا
فصل : وإن اختلفا في عين المبيع فقال : بعتك هذا العبد قال : بل بعتني هذا الجارية فالقول قول كل واحد منهما فيما ينكره مع يمينه لأن كل واحد منهما يدعي عقدا على عين ينكرها المدعي عليه والقول قول المنكر فإن حلف البائع ما بعتك هذه الجارية أقرت في يده إن كانت في يده وردت عليه إن كان مدعيها قد قبضها وأما العبد فإن كان في يد البائع اقر في يده ولم يكن للمشتري طلبه لأنه لا يدعيه وعلى البائع رد الثمن إليه لأنه لم يصل إليه المعقود عليه وإن كان في يد المشتري فعليه رده إلى البائع لأنه لم يعترف أنه لم يشتره وليس للبائع طلبه إذا بدل له ثمنه لاعترافه ببيعه وإن لم يعطه ثمنه فله فسخ البيع واسترجاعه لأنه تعذر عليه الوصول إلى ثمنه فلم كالفسخ كما لو أفلس المشتري وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه العقدان لأنهما لا يتنافيان فأشبه ما لو ادعى أحدها البيع فيهما جميعا وأنكره الآخر وإن أقام أحدهما بينة بدعواه دون الآخر يثبت ما قامت عليه البنية دون ما لم تقم عليه

الاختلاف في عين المبيع وفي صفة الثمن وفي الأجل والرهن
فصل : فإن اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد نص عليه في رواية الأثرم لأن الظاهر أنهما لا يعدقان إلا به وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عله في رواية جماعة فيحتمل أنه أراد إذا كان هو الأغلب والمعاملة به أكثر لأن الظاهر وقوع المعاملة به فهو كما لو كان في البلد نقد واحد ويحتمل أنه ردهما إليه مع التساوي لأن فيه توسطا بينهما وتسوية بين حقيهما وفي العدول إلى غيره ميل على أحدهما فكان التوسط أولى وعلى المدعي ذلك اليمين لأن ما قاله خصمه محتمل فتجب اليمين لنفي ذلك الاحتمال كوجوبها على المنكر وإذا لم يكن في البلد إلا نقدان متساويان فينبغي أن يتحالفا لأنهما اختلفا في الثمن على وجه لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره
فصل : وإن اختلفا في أجل أو رهن أو قدرهما أو في شرط خيار أو ضمين أو غير ذلك ن الشروط الصحيحة ففيه روايتان إحداهما : يتحالفان وهو قول الشافعي لأنهما اختلفا فلي صفة العقد فوجب أن يتحالفا قياسا على الاختلاف في الثمن والثانية : القول قول من ينفي ذلك مع يمينه وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدمه فالقول قول من ينفيه كأصل العقد لأنه منكر والقول قول المنكر
فصل : وإن اختلفا فيما يفسد العقد أو شرط فاسد فقال : بعتك بخمر أو خيار مجهول فقال بل بعتني بنقد معلوم أو خيار ثلاث فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه لأن ظهور تعاطي المسلم الصحيح أكثر من تعاطيه للفاسد وإن قال : بعتك مكرها فأنكره فالقول قول الثوري و إسحاق لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده فكان القول قول من يدعي الصحة كالتي قبلها ويحتمل أن يقبل قول من يدعي الصغر لأنه الأصل وهو قول بعض أصحاب الشافعي ويفارق ما إذا اختلفا في شرط فاسد أو إكراه لوجهين أحدهما : أن الأصل عدمه وههنا الأصل بقاؤه والثاني : أن الظاهر من المكلف أنه لا يتعاطى إلا الصحيح وههنا ما ثبت أنه كان مكلفا وإن قال : بعتك وأنا مجنون فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المشتري لأن الأصل عدمه وإن ثبت أنه كان مجنونا فهو كالصبي ولو قال العبد بعتك وأنا غير مأذون لي في التجارة فالقول قول المشتري نص عليه في رواية مهنا لأنه مكلف والظاهر أنه لا يعقد إلا عقدا صحيحا
فصل : وإن مات المتبايعان فورثتهما بمنزلتهما في جميع ما ذكرنا لأنهم يقولون مقامهما في أخذ ماليهما وإرث حقوقهما فكذلك ما يلزمهما أو يصير لهما

الامتناع عن تسليم الثمن والمبيع
فصل : وإن اختلفا في التسليم فقال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن وقال المشتري : لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن فإن كان عينا أو عرضا بعرض جعل بينهما عدل فيقبض منهما ثم يسلم إليها وهذا قول الثوري وأحد قولي الشافعي وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الإطلاق وهو قول ثان للشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : يجبر المشتري على تسليم الثمن لأن البائع حبس المبيع على تسليم الثمن ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسلم قبل الاستيفاء كالمرتهن ولنا أن تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع وتمامه فكان تقدمه أولى سيما مع تعلق الحكم وبعينه وتعلق حق البائع بالذمة وتقديم ما تعلق بالعين أولى لتأكده ولذلك يقدم الدين الذي به الرهن في ثمنه على ما تعلق بالذمة ويخالف الرهن فإنه لا تتعلق به مصلحة عقد الرهن والتسليم ههنا يتعلق به مصلحة عقد البيع وأما إذا كان الثمن عينا فقد تعلق الحق بعينه أيضا كالمبيع فاستويا وقد وجب لكل واحد منهما على صاحبه حق قد استحق قبضه فأجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه حقه ووجه الرواية الأخرى أن الذي يتعلق به استقرار البيع وتمامه هو المبيع فوجب تقديمه ولأن الثمن لا يتعين بالتعيين فأشبه غير المعين إذا ثبت هذا أوجبنا التسليم على البائع فسلمه فلا يخلو المشتري من أن يكون موسرا أو معسرا فإن كان موسرا والثمن معه أجبر على تسليمه وهو إن كان غائبا قريبا في بيته أو بلده حجر عليه في المبيع وسائر ماله حتى يسلم الثمن خوفا من أن يتصرف في ماله تصرفا يضر بالبائع ون كان غائبا عن البلد في المسألة القصر فالبائع مخير بين أن يصبر إلى أن يوجد وبني فسخ العقد لأنه قد تعذر عليه الثمن فهو كالمفلس وإن كان دون مسافة القصر فله الخيار في أحد الوجهين لأن فيه ضررا عله والثاني : لا خيار له لأن ما دون مسافة القصر بمنزلة الحاضر وإن كان المشتري معسرا فللبائع الفسخ في الحال والرجوع في المبيع وهذا كله مذهب الشافع ويقوى عندي أنه لا يجب عليه تسليم المبيع حتى يحضر الثمن ويتمكن المشتري من تسليمه لأن البائع إنما رضي ببذل المبيع بالثمن فلا يلزمه فعده قبل حصول عوضه ولأن المتعاقدين سواء في المعاوضة فيستويان في التسليم وإنما يؤثر ما كذر من الترجيح في تقديم التسليم مع حضور العوض الآخر لعدم الضرر فيه وأما مع الحظر المحوج إلى الحجر أو المحجور للفسخ فلا ينبغي أن يثبت ولأن الشرع الحجر لا يندفع به الضرر ولأنه يقف على الحاكم ويتعذر ذلك في الغالب ولأن ما أثبت الحرج والفسخ بعد التسليم فهو أولى أن يمنع أسهل من الرفع والمنع قبل التسليم أسهل ن المنع بعده ولذلك ملكت المرأة منع نفسها قبل قبض صداقها قبل تسليم نفسها ولم تملكه بعد التسليم ولأن البائع منع المبيع قبل قبضه ثمنه أو كونه بمنزلة المقبوض لإمكان تقبيضه وإلا فلا وكل موضع قلنا له الفسخ فله ذلك بغير حكم حاكم لأنه فسخ للبيع للاعسار بثمنه فملكه البائع كالفسخ في عين ماله إذا أفلس المشتري وكل موضع قلنا يحجر عليه فذلك إلى الحاكم لأن ولاية الحجر إليه
فصل : فإن هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو معسر فللبائع الفسخ في الحال لأنه إذا ملك الفسخ مع حضوره فمع هربه أولى وإن كان موسرا أثبت البائع ذلك عند الحاكم ثم إن وجد الحاكم له مالا قضاه وإلا باغ المبيع وقضى ثمنه منه وما فضل فهو للمشتري وإن أعوز ففي ذمته ويقوى عندي أن للبائع الفسخ بكل حال لأننا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كن الثمن بعيدا عن البلد لما عليه من ضرر التأخير فهنا مع العجز عن الاستيفاء بكل حال أولى ولا يندفع الضرر برفع الأمر إلى الحاكم لعجز البائع عن إثباته عند الحاكم وقد يكون البيع في مكان لا حاكم فيه والغالب أنه لا يحضره من قبل الحاكم شهادته فاحتاله على هذا تضييع لماله وهذه الفروع تقوي ما ذكرته من أن للبائع منه المشتري من قبض المبيع قبل إحضاره ثمنه لما في ذلك من الضرر
فصل : وليس للبائع الامتناع من تسليم المبيع بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك في القبيحة وقال في الجميلة : يضعها على يدي على عدل حتى تستبرأ لأن التهمة تلحقه فيها فمنع منها ولنا أنه بيع عين لا خيار فيها قد قبض ثمنه فوجب تسليمها كسائر المبيعات وما ذكروه من التهمة لا يمكنه من التسلط على منعه منقبض مملوكته كالقبيحة ولأنه إذ كان استبرأها قبل بيعها فاحتمال وجود الحمل فيها بعيد نادر وإن كان لم يستبرئها فهو ترك التحفظ لنفسه ولو طالب المشتري البائع بكفيل لئلا تظهر حالما لم يكن له ذلك لأنه ترك التحفظ لنفسه حال العقد فلم يكن له كفيل كما لو طلب كفيلا بالثمن المؤجل

بيع العبد الآبق
مسألة : قال : ولا يجوز بيع الآبق
وجملته أن بيع العبد الآبق لا يصح سواء علم مكانه أو جهله وكذلك ما في معناه من الجمل الشارد والفرس العائر وشبههما وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعير شاردا وعن ابن سيرين لا بأس ببيع الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا وعن شريح مثله ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر ] رواه مسلم وهذا بيع غرر ولأن غير مقدور على تسليمه فلم يجز بيعه كالطير في الهواء فإن حصل في يد إنسان جاز بيعه لإمكان تسليمه

بيع الطائر في الهواء والسمك في الماء
مسألة : قال : ولا الطائر قبل أن يصاد
وجملة ذلك أنه إذا باع طائرا في الهواء لم يصح مملوكا أو غير مملوك أما المملوك فلأنه غير مقدور عليه وغير المملوك لا يجوز لعلتين إحداهما : العجز عن تسليمه والثاني : أن غير ممولك له والأصل في هذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الغرر وقيل في تفسيره هو بيع الطير في الهواء والسمك في الماء ولا نعلم في هذا خلافا ولا فرق بين كون الطائر يألف الرجوع أو لا يألفه لأنه لا يقدر على تسليمه الآن وإنما يقدر عليه إذا عاد فإن قيل فالغائب في مكان بعيد لا يقدر على تسليمه في الحال قلنا الغائب يقدر على استحضاره والطير لا يقدر صاحبه على رده إلا أن يرجع هو بنفسه ولا يستقل مالكه برجه فيكون عاجزا عن تسليمه لعجزه الواسطة التي يحصل بها تسليمه بخلاف الغائب وإن باعه الطير في البرج نظرت فإن كان البرج مفتوحا لم يجز لأن الطير إذا قدر على الطيران إذا قدر على الطيران لم يمكن تسليمه فإن كان مغلقا ويمكن أخذه جاز بيعه وقال القاضي : إن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز بيعه لعدم القدرة على تسلميه وهذا مذهب الشافعي وهو ملغي بالبعيد الذي لا يمكن إحضاره إلا بتعب ومشقة وفرقوا بنيهما بأن البعيد تعلم الكلفة التي يحتاج إليها في إحضاره بالعادة وتأخير التسليم مدته معلومة ولا كذلك في إمساك الطائر والصحيح إن شاء الله تعالى أن تفاوت المدة في إحضار البعيد واختلاف المشقة أكثر من التفاوت والاختلاف في إمساك طائر من البرج والعادة تكون في هذا كالعادة في ذاك فإذا صح في البعيد مع كثرة التفاوت وشدة اختلاف المشقة فهذا أولى
مسألة : قال : ولا السمك في الآجام
هذا قو أكثر أهل العلم روي عن ابن مسعود أنه نهى عنه وقال : إنه غرر وكره ذلك الحسن و النخعي و مالك و أبو حنيفة و الشافعي و أبو يوسف و أبو ثور ولا نعلم لهم مخالفا لما ذكرنا من الحديث والمعنى لا يجوز بيعه في الماء إلا أن يجتمع ثلاثة شروط أحدها : أن يكون مملوكا الثاني : أن يكون الماء رقيقا لا يمنع مشاهدة ومعرفته الثالث : أن يمكن اصطياده وإمساكه فإن اجتمعت هذه الشروط جاز بيعه لأنه مملوك معلوم مقدور على تسليمه فجاز بيعه كالموضوع في الطست وإن احتل شرط مما ذكرنا لم يجز بيعه لذلك وإن اختلت الثلاثة لم يجز بيعه لثلاث علل وإن اختل اثنان منها لم يجز بيعه لعلتين وروي عن عمر بن عبد العزيز و ابن أبي ليلى فيمن له أجمة يحبس السمك فيها يجوز بيعه لأنه يقدر عليه تسليمه ظاهرا أشبه ما يحتاج إلى مؤنة في كيلة ووزنه ونقله
ولنا ما روى عن ابن عمر وابن مسعود أنها قالا : لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الغرر وهذا منه ولأنه لا يقدر على تسليمه إلا بعد اصطياده أشبه الطير في الهواء والعبد الآبق ولأنه مجهول فلم يصح بيعه كاللبن في الضرع والنوى في التمر ويفارق ما ذكروه لأن ذلك من مؤنة القبض وهذا يحتاج إلى مؤنة ليمكن قبضه فأما إن كانت له بركة فيها سمك له يمكن اصطياده بغر كلفه والماء رقيق لا يمنع مشاهدته صح بيعه وإن لم يمكن إلا بمشقة وكلفة يسيرة بمنزلة كلفة اصطياده الطائر من البرد فالقول فيه كالقول في بيع الطائر في البرج على ما ذكرنا فيه من الخلاف وإن كانت كثيرة وتتطاول المدة فيه لم يجز بيعه للعجز عن تسليمه والجهل بوقت إمكان التسليم
فصل : إذا أعد بركة أو مصفاة ليصطاد فيها السمك فحصل فيها سمك ملكه لأنه آلة معدة للاصطياد فأشبه الشبكة ولو استأجر البركة أو الشبكة أو استعارهما للاصطياد جاز وما حصل فيهما ملكه وإن كانت البركة غير معدة للاصطياد لم يملك ما حصل فيها من السمك لأنها غير معدة له فأشبهت أرضه إذا دخل فيها صيدا أو حصل فيها سمك ومتى نصب شبكة أو شركا أو فخا أو أحبولة ملك ما وقع فيها من الصيد لأنه بمنزلة يده وكذلك لو نصب المناجل للصيد وسمى فقلت صيدا حل له أكله وكان كذبحة ولو وقع في شبكته أو شبهها شيء كان مضمونا عليه فعلم بذلك أنه كيده ولو أعد لمياه الأمطار مصانع و بركا أو أواني ليحصل فيها الماء ملكه بحصوله فيها لأنه في باب الأعداد كالشباك للاصطياد ولو أعد سفينته للاصطياد كالتي يجعل فيها الضوء ويضرب صواني الصفر ليثب السمك فيها كان حصوله فيها كحصوله في شبكته لكونها صارت من الآلات المعدة ولو لم يعدها لذلك لم يملك ما وقع فيها ومن سبق إليه فأخذه ملكه كالأرض التي لم تعد للاصطياد مثل أرض الزرع إذا دخلها ماء فيه سمك ثم نضب عنه أو دخل فيها ظبي أو عشش فيها طائر أو سقط فيها جراد فيها ملح لم يملكه صاحبها لأنه ليس من نماء الأرض ولا مما هي معدة له لكنه يكون أحق به إذ ليس لغيره التخطي في أرضه ولا الانتفاع بها فإن تخطى وأخذه أخطأ وملكه قال أحمد : في ورشان على نخله قوم صاده إنسان هو للصائد وقال في طيرة لقوم أفرخت في دار جيرانهم إن الفرخ يتبع الأم برد فراخها على أصحاب الطيرة واختار ابن عقيل في المأخوذ من املاك الناس من صيد وكلأ وشبهه أنه لا يملكه بأخذه لأنه سبب منهي عنه فلم يفد الملك كالبيع المنهي عنه إذ السبب لا يختلف بين كونه بيعا أو غيره [ لقول عليه السلام : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] والصحيح الأول ولا نسلم أن السبب منهي عنه فإن السبب الأخذ وليس بمنهي عنه إنما نهي عن الدخول وهو غير السبب بخلاف البيع ولأن النهي ههنا لحق آدمي فلا يمنع الملك كبيع المصراة والمعيب وتلقي الركبان النجش وبيعه على بيع أخي ولو أعد أرضه للملح فجعلها ملاحة ليحصل فيها الماء فيصير ملحا كالأرض التي على ساحل البحر يجعل إليها طريقا للماء فإذا امتلأت قطعه عنه أو تكون أرضه سبخة يفتح إليها الماء من عين أو جميع فيها ماء المطر فيصير ملحا ملكه بذلك لأنها معدة له فأشبهت البركة المعدة للصيد وإن لم يكن أعدها لذلك لم يملك ما حصل فيها كما قدمنا في مثلها فإن قيل فقد روي عن أحمد إنسان رمي طيرا ببندق فوقع في دار قوم لهو لهم دونه وهذا يدل على أنهم ملكوه بحصوله في دراهم قلنا هذا محمول على أنه وقع ممتنعا فصاده أهل الدار فملكوه باصطيادهم وكذلك قال ابن عقيل ويتعين حمله على هذا لأنهم إذا لم يملكوا ما حصل في دارهم بفعل الله تعالى فما حصل بفعل آدمي أولى ولأنه وقع في الدار بعد الضربة المثبتة له التي يملك بها الصيد فأشبه ما لو طارت الريح ثوب إنسان فألقته في دراهم ولو كانت آلة الصيد كالشبكة والشرك والمناجل غير منصوبة للصيد ولا قصد بها الاصطياد فتعلق بها صيد لم يملكه صاحبه بذلك لأنها غير معدة للصيد في هذه الحال فأشبهت الأرض التي ليست معدة له
فصل : وما حصل من الصيد في كلب إنسان أو صقره أو فهده وكان استرسل بإرسال صاحبه فهو له لأنه آكد من الشبكة لأنه حيوان يحصل الصيد بفعله وقصده وإرسال صاحبه فهو كسهمه ولأن الله تعالى قال : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وإن استرسل بنفسه فحكمه حكم الصيد الحاصل في أرض إنسان في أنه لا يملكه وليس لغيره أخذه فإن أخذه غره ملكه كالكلأ وكذلك ما يحصل في بهيمة إنسان من الحشيش في المرعى

مخالفة الوكيل لموكله وضمان ما خالف فيه
مسألة : قال : والوكيل إذا خالف فهو ضامن إلا أن يرضى الآمر فيلزمه
وجملة ذلك أن الوكيل خالف موكله فاشترى غير ما أمره بشرائه أو باع ما لم يؤذن له في بيعه أو اشترى غير ما عين له فعليه ضمان ما فوت على المالك أو تلف لأنه خرج عن حال الأمانة وصار بمنزلة الغاصب فأما قوله إلا أن يرضى الآمر فيلزمه يعني إذا اشترى غير ما أمر بشرائه بثمن في ذمته فإن الشراء صحيح ويقف على إجازة الموكل فإن أجاز لزمه وعليه الثمن وإن لم يقبل لزم الوكيل ويتعين حمله على هذه الصورة لأنه قد بين في موضع آخر فقال : إلا أن يكون اشتراه بعين المال فيبطل الشراء وذكره في كتاب العتق أيضا فلذلك تعين حمل هذه المسألة على ما قلنا وإنما صح الشراء لأنه متصرف في ذمته لا في مال غيره وسواء نقد الثمن من مال الموكل أم لا لأن الثمن هو الذي في الذمة والذي نقده عوضه ولذلك قلنا : إنه إذا اشترى في الذمة ونقده الثمن بعد ذلك كان له البدل وإن خرج مغصوبا لم يبطل العقد وإن خرج وقف على أجازه لأنه قصد الشراء له فإن أجازه لزمه وعليه الثمن وإن لم يقبله لزم من اشتراه
فصل : وإن اشترى بعين مال الآمر أو باع بغير إذنه أو اشترى لغير موكله شيئا بغير ماله أو باع ماله بغير ما إذنه روايتان إحداهما : البيع باطل ويجب رده وهذا مذهب الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر والثانية : البيع والشراء صحيحان ويقف على إجازة المالك فإن أجازه نفذ ولزم البيع وإن لم يجزه بطل وهذا مذهب مالك و إسحاق وقول أبي حنيفة في البيع فأما الشراء فعند يقع للمشتري بكل حال ووجه هذا الرواية ما [ روى عروة بن الجعد البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق قال : فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم بالدينار والشاة فأخبرته فقال : بارك الله لك في صفقة يمينك ] رواه الأثرم و ابن ماجة ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه فيجب أن يقف على إجازته كالوصية ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه و سلم لحكيم بن حزام [ لا تبع ما ليس عندك ] رواه ابن ماجة و الترمذي وقال حديث حسن صحيح يعني ما لا تملك لأنه ذكره وجوبا له حي سأله أنه يبيع الشيء ثم يمضي فيشربه ويسلمه ولاتفاقنا على صحة بيع ماله الغائب ولأه باع ما لا قدر على تسليمه فأشبه الطير في الهواء والوصية يتأخر فيها القبول عن الإيجاب ولا يعتبر أن يكون لها مجيز حال وقوع العقد ويجوز فيها من الغرر ملا لا يجوز في البيع فأما حديث عروة فنحمله على أن وكالته كانت مطلقه بدليل أنه سلم وتسلم وليس ذلك لغير مالك باتفاقنا
فصل : ولا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها رواية واحدة وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا ل [ أن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه و سلم إن الرجل يأتيني فيلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تبع ما ليس عندك ]
فصل : ولو باع سلعة وصاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم ما لو باعها من غير علمه في ول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة و أبو ثور و الشافعي وقال ابن أبي ليلى : سكوته إقرار لأنه دليل على الرضا فأشبه سكوت البكر في الأذن في نكاحها ولنا أن السكوت محتمل فلم يكن إذنا كسكوت الثيب وفارق سكوت البكر لوجود الحياء المانع من الكلام في حقها وليس ذلك بموجود ههنا
فصل : وإذا وكل رجلين في بيع سلعته فباع كل واحد منهما السلعة من رجل بثمن مسمى فالبيع للأول منهما روي هذا عن شريح و ابن سيرين و الشافعي و ابن المنذر وحكي عن ربيعة و مالك أنهما قالا : هي للذي بدأ بالقبض
ولنا أنه قد روي في حديث [ إذا باع المجيزان فهو للأول ] رواه ابن ماجة ولأن الوكيل الثاني زالت وكالته بانتفاء ملك الموكل عن السلعة فصار بائعا ملك غيره بغير إذنه فلم يصح كما لو قبض الأول أو كما لو زوج أحد الوليين بعد الأول

فساد بيع الملامسة والمنابذة والنهي عن بيع الحصاة والمحاقلة والمخاضرة
مسألة : قال : وبيع الملامسة والمنابذة غير جائز
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في فساد هذين البيعين وقد صح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الملامسة والمنابذة ] متفق عليه والملامسة أن يبيعه شيئا ولا يشاهده على أنه متى لمسه وقع البيع والمنابذة أن يقول أي ثوب نبذته إلي فقد اشتريته بكذا هذا ظاهر كلام أحمد ونحوه قال مالك و الأوزاعي وفيما روى البخاري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المنابذة ] وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى رجل قبل أن يقبله أو ينظر إليه ونهى عن الملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة في تسفيرها قال : هو لمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد ثوبه ولم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه على ما فسرناه له لا يصح البيع فيهما لعلتين إحداهما : الجهالة والثانية : كونه معلقا على شرط وهو نبذ الثوب إليه أو لمسه له وإن عقد البيع قبل نبذه فقال : بعتك ما تلمسه من هذه الثياب أو ما نبذه إليك فهو غير معين ولا موصوف فأشبه ما لو قال : بعتك واحدا منها
فصل : ومن البيوع المنهي عنها بيع الحصة فإن أبا هريرة روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الحصاة ] رواه مسلم واختلف في تفسيره فقيل هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم وقيل هو أن يقول : بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا وقيل هو أن يقول : بعتك هذا بكذا على أني متى رميت هذه الحصاة وجب البيع وكل هذه البيوع فاسدة لما فيها من الغرر والجهل ولا نعلم فيه خلافا
فصل : وروى أنس قال : [ نهى رسول الله عليه وسلم عن المحالقة والمخاضرة والملامسة والمنابذة ] أخرجه البخاري والمخاضرة بيع الزرع الأخضر والثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع والمحاقلة بيع الزرع بحب من جنسه قال جابر : أن يبيع الزرع بمائة فرق حنطة قال الأزهري : الحقل القراح المزروع والحواقل المزارع وفسر أبو سعيد المحاقلة باستكراء الأرض بالحنطة

بطلان بيع الحمل دون أمه وبيع اللبن في الضرع وما يحمل صفته وبيع الأعمى
مسألة : قال : وكذلك بيع الحمل غير أمه واللبن في الضرع
معناه بيع الحمل في البطن دون الأم ولا خلاف في فساده قال ابن المنذر : وقد جمعوا على أن بيع الملاقيح والمضامين غير جائز وإنما لم يجز بيع الحلم في البطن لوجهين أحدهما : جهالته فإنه لا تعلم صفته ولا حياته والثاني : أه غير مقدرو على تسليمه بخلاف الغائب فإنه يقدر على الشروع في تسليمه وقد روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح ] قال أبو عبيد : الملاقيح ما في البطون وهي الأجنة والمضامين ما في أصلاب الفحول فكانوا يبيعون الجنين ف بطن الناقة وما يضربه الفحل في عامة أو في أعوام وأنشد :
( إن المضامين التي في الصلب ... ماء الفحول في الظهور الحدب )
وروى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع المجر ] قال ابن الأعرابي : المجر ما في البطن والمجر الربا والمجر القمار والمجر المحاقلة والمزابنة
فصل : وقد روى ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة ] متفق عليه معناه نتاج النتاج قاله أبو عبيدة و [ عن ابن عمر قال : كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى الله عليه و سلم ] رواه مسلم وكلا البيعين فاسد أما الأول فلأنه بيع معود وإذا لم يجز بيع الحمل فبيع حمله أولى وأما الثاني فلأنه بيع إلى أجل مجهول
فصل : ولا يجوز بيع اللبن في الضرع وبه قال الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي ونهى عنه ابن عباس وأبو هريرة وكرهه طاوس و مجاهد وحكي عن مالك أنه لا يجوز أياما معلوة إذا عرفا حلابها لسقي الصبي كلبن الظئر وأجازه الحسن وسعيد بن جبير ومحمد بن مسلمة ولنا ما روى ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع ] رواه الخلال بإسناده ولأنه مجهول الصفة والمقدار فأشبه الحمل لأنه بيع عي نلم تخلق فلم يجز كبيع ما تحمل الناقة والعادة في ذلك تختلف وأما لبن الظئر فإنما جاز للحضانة لأنه موضع حاجة
فصل : واختلفت الرواية ف بيع الصوف على الظهر فروي أنه لا يجوز بيعه لما ذكرنا من الحديث ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه وروي عنه أنه لا يجوز بشرط جزه في الحال لأنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة وفارق الأعضاء فإنه لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان والخلاف فيه كالخلاف في اللبن في الضرع فإن اشتراه بشرط القطع فتركه حتى طال فحكمه حكم الرطبة إذا اشتراها فتركها حتى طالت
فصل : ولا يجوز بيع ما تجهل صفته كالمسك في الفأر وهو الوعاء الذي يكون فيه قابل الشاعر :
( إذا التاجر الهندي جاء بفأرة ... من المسك راحت في مفارقهم تجري )
قال الفتح وشاهد ما فيه جاز بيعه وإن لم تشاهده لم يجز بيعه للجهالة وقد قال بعض الشافعية : يجوز لأن بقاءه في فأرة مصلحة له فإنه يحفظ رطوبته وذكاء رائحته فأشبه ما مأكوله في جوفه ولنا أنه يبقى خارج وعائه من غير ضرر وتبقى رائحته فلم يجز بيعه مستورا كالدر في الصدق وأما مأكوله في جوفه فإخراجه يفضي إلى تلفه والتفصيل في بيعه مع وعائه كالتفصيل في بيع السمن في ظرفه ومن ذلك البيض في الدجاج والنوى في التمر لا يجوز بيعهما للجهل بهما ولا نعلم في هذا خلافا نذكره
فصل : فأما بيع الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق إن كان مطعوما أو بالشم إن كان مشمونا صح بيعه وشراؤه وإن لم يمكن جاز بيعه كالبصير وله خيار الخلف في الصفة وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأثبت أوب حنيفة له الخيار إلى معرفته بالمبيع إما بحسه أو ذوقه أو وصفه وقال عبيد الله بن الحسن : شراؤه جائز وإذا أمر إنسانا بالنظر إليه لزمه وقال الشافعي : لا يجوز إلا على الوجه الذي يجوز فهي بيع المجهول أن يكون قد رآه بصيرا ثم اشتراه قبل مضي زمن يتغير المبيع فيه لأنه مجهول الصفة عند العاقد فلم يصح كبيع البيض في الدجاج والنوى في التمر ولنا أنه يمكن الإطلاع على المقصود ومعرفته فأشبه بيع البصير ولأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه فكذلك شم الأعمى وذوقه وأما البيض والنوى فلا يمكن الإطلاع عليه ولا وصفه بخلاف مسألتنا

وبيع عسب الفحل
مسألة : قال : وبيع عسب الفحل غير جائز
عسب الفحل ضرابه وبيعه أخذ عوضه وتسمى الأجرة عسب الفحل مجازا وإجارة الفحل للضراب حرام والعقد فاسد وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك جوازه قال ابن عقيل : ويحتمل عندي الجواز لأنه عقد على منافع الفحل ونزوه وهذه المنفعة مقصودة والماء تابع والغالب حصوله عقيب نزوه فيكون كالعقد على الظئر ليحصل اللبن في بطن الصبي ولنا ما روى ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع عسب الفحل ] رواه البخاري وعن جابر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع ضراب الجمل ] رواه مسلم ولأنه مما لا يقدر على تسليمه فأشبه إجارة الآبق ولأن ذلك متعلق باختيار الفحل وشهوته ولأن المقصود هو الماء وهو مما لا يجوز إفراده بالعقد وهو مجهول وإجارة الظئر خولف فيه الأصل لمصلحة بقاء الآدمي فلا يقاس عليه ما ليس مثله فعلى هذا إذا أعطى أجرة لعسب الفحل فهو حرام على الآخذ لما ذكرنا ولا يحرم على المعطي لأنه بذل ماله لتحصيل مباح يحتاج إليه ولا يمتنع هذا كما في كسب الحجام فإنه خبيث وقد أعطى النبي صلى الله عليه و سلم حجمه وكذلك أجرة الكسح والصحابة أبا حوا شراء المصاحف وكرهوا بيعها وإن أعطى صاحب الفحل هدية أو أكرمه من غير إجارة جاز وبه قال الشافعي : لما روي عن أنس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان إكراما فلا بأس ] ولأنه سبب مباح فجاز أخذ الهدية عليه كالحجامة وقال أحمد في رواية ابن القاسم : لا يأخذ فقيل له ألا يكون مثل الحجام يعطى وإن كان منهيا عنه ؟ فقال : لم يبلغنها أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى في مثل هذا شيئا كما بلغنا في الحجام ووجهه أن ما منع أخذ الأجرة عليه منع قبول الهدية كمهر البغي وحلوان الكاهن قال القاضي : هذا مقتضى النظر لكن ترك مقتضاه في الحجام فيبقى فيما عداه على مقتضى القياس والذي ذكرناه أرفق بالناس وأوفق للقياس وكلام أحمد يحمل على الورع لا على التحريم

النجش منهي عنه وهو الزيادة في السلعة دون أن يكون مشتريا لها وحرمة سوم المبيع بعد سوم الغير له وبيع التلجئة
مسألة : قال : والنجش منهي عنه وهو أن يزيد في السلعة وليس هو مشتريا لها
النجش أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليقتدي به المستام فيظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساوية فيغتر بذلك فهذا حرام وخداع قال البخاري : الناجش آكل ربا خائن وهو خداع باطل لا يحل وروى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن النجش ] وعن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ] متفق عليهما ولأن في ذلك تغريرا بالمشتري وخديعة له وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم الخديعة في النار ] فإن النار اشترى مع النجش فالشراء صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أن البيع باطل اختاره أبو بكر وهو قول مالك لأن النهي يقتضي الفساد
ولنا أن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العقد فلم يؤثر في البيع ولأن النهي لحق الآدمي فلم يفسد العقد كتلقي الركبان وبيع المعيب والمدلس وفارق ما كان لحق الله تعالى لأن الحق الآدمي يمكن جبره بالخيار أو زيادة في الثمن لكن إن كان في البيع غيبن لم تجر العادة بمثله فلا خيار فللمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء كما في تلقي الركبان وإن كان بتغابن بمثله فال خيار له وسواء كان النجش بمواطأة من البائع أو لم يكن وقال أصحاب الشافعي : إن لم يكن ذلك بمواطأة البائع وعلمه فلا خيار له واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه فقال بعضهم : لا خيار للمشتري لأن التفريط منه حيث اشترى ما لا يعرف قيمته ولنا أنه تغرير بالعاقد فإذا كان مغبونا ثبت له الخيار كما في تلقي الركبان ويبطل ما ذكره بتلقي الركبان
فصل : ولو قال البائع : أعطيت بهذه السلعة كذا وكذا فصدقه المشتري واشتراها بذلك ثم بان كاذبا فالبيع وللمشتري الخيار أيضا لأنه في معنى النجش
فصل : وقوله عليه السلام : [ لا يبع بعضكم على بيع بعض ] معناه أن الرجلين إذا تبايعا فجاء آخر إلى المشتري في مدة الخيار فقال : أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن أو أبيعك خيرا منها بثمنها أو دونه أو عرض عليه سلعة رغب فيها المشتري ففسخ البيع واشترى هذه فهذا غير جائز لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عنه ولما فيه من الأضرار بالمسلم والإفساد عليه وكذلك إن اشترى على شراء أخيه وهو أن يجيء إلى البائع قبل لزوم العقد فيدفع في المبيع أكثر من الثمن الذي اشتري به فهو محرم أيضا لأنه في معنى المنهي عنه ولأن الشراء يسمى بيعا فيدخل في النهي ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يخطب على خطبة أخيه وهو في معنى الخاطب فإن خالف وعقد فالبيع باطل لأنه منهي عن والنهي يقتضي الفساد ويحتمل أنه صحيح لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري أو قوله الذي فسخ البيع من أجله وذلك سابق على البيع ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل به الضرر فالبيع المحصل للمصلحة أولى ولأن النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش وهذا مذهب الشافعي
فصل : وروي مسلم عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يسم الرجل على سوم أخيه ] ولا يخلو من أربعة أقسام أحدها : أن ويجد من البائع تصريح بالرضا بالمبيع فهذا يحرم السوم على غير ذلك المشتري وهو الذي تناوله النهي الثاني : أن يظهر منه ما يدلع على عدم الرضا فلا يحرم السوم لأن النبي صلى الله عليه و سلم باع في من يزيد فروى أنس [ أن رجلا من الأنصار شكا إلى النبي صلى الله عليه و سلم الشدة والجهد فقال له : أما بقي لك شيء ؟ فقال بلى قدح وحلس قال : فائتني بهما فأتاه بهما فقال : من يبتاعهما ؟ فقال رجل : أخذتهما بدرهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم من يزيد على درهم من يزيد على درهم فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا أيضا إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة الثالث : أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا ولا على عدمه فلا يجوز له السوم أيضا ولا الزيادة استدلالا بحديث فاطمة بينت قيس حين ذكرت للنبي صلى الله عليه و سلم أن معاوية وأبا جهنم خطباها فأمرها أن تنكح أسامه وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن السوم على سوم أخيه فما أبيح في الآخر الرابع : أن يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح فقال القاضي : لا تحرم المساومة وذكر أن أحمد نص عليه في الخطبة استدلالا بحديث فاطمة ولأن الأصل إباحة السوم الخطبة فحرم منع ما وجد فيه التصريح بالرضا وما عداه يبقى على الأصل ولو قيل بالتحريم ههنا لكان وجها حسنا فإن النهي عام خرجت منه الصور المخصوصة بأدلتها فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم ولأنه وجد منه دليل الرضا أشبه ما لو صرح به ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضا لأنها جاءت مستشيرة للنبي وليس ذلك دليلا على الرضا فيكف ترضى وقد نهاها النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ لا تفوتينا بنفسك ] فلم تكن تفعل شيئا قبل مراجعة النبي صلى الله عليه و سلم والحكم في الفساد كالحكم في البيع على بيع أخيه في الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه
فصل : بيع التلجئة باطل وبه قال أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة و الشافعي : هو صحيح لأن البيع تم بأركانه وشروطه خاليا عن مقارنة مفسد فصح كما لو اتفقنا على شرط فاسد ثم عقدا البيع بغير شرط
ولنا أنهما ما قصد يصح منهما كالهازلين ومعنى بيع التلجئة أن يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ملكة فيوطئ رجلا على أن يظهرا أنه اشتراه منه ليحتمي بذل كولا يريدان بيعا حقيقيا

حرمة بيع الحاضر للبادي ومعناه
مسألة : قال : فإن باع حاضر لباد فالبيع باطل
وهو أن يخرج الحضري إلى البادي وقد جلب السلعة فيعرفه السعر ويقول أنا أبيع لك فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : [ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ] والبادي ههنا من يدخل البلدة من غير أهلها سواء كن بدويا أو من قرية أو بلدة أخرى نهى النبي صلى الله عليه و سلم الحاضر أن يبيع له قال ابن عباس : [ نهى النبي صلى الله عليه و سلم لا تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد ] قال : فقلت لابن عباس ما قوله حار لباد ؟ قال : لا يكون له سمسمارا متفق عليه وعن جابر قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ] رواه مسلم وابن عمر وأبو هريرة وأنس والمعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشترها الناس برخص ويوسع عليهم السعر فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد وقد أشر النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا المعنى وممن كره بيع الحاضر للبادي طلحة بن عبيد الله وابن عمر وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي ونقل أبو إسحاق بن شاقلا في جملة سماعاته أن الحسن بن علي المصري سأل أحمد عن بيع حاضر لباد فقال لا بأس به فقال له : فالخبر الذي جاء بالنهي قال : كان ذلك مرة فظاهر هذا صحة البيع وإن النهي اختص بأول الإسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك وهذا قول مجاهد و أبي حنيفة وأصحابه والمذهب الأول لعموم النهي وما يثبت في حقهم يثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم بثلاثة شروط أحدها : أن يكون الحاضر قصد البادي ليتولى البيع له والثاني : أن يكون البادي جاهلا بالسعر لقوله فيعرفه السعر ولا يكون التعريف إلا لجاهل وقد قال أحمد في رواية أبي طالب : إذا كان البادي عارفا بالسعر لم يحرم الثالث : أن يكون قد جلب السلع للبيع لقوله وقد جلب السلع والجالب هو الذي يأتي بالسلع ليبيعها وذكر القاضي شرطين آخرين أحدهما : أن يكون مريدا لبيعها بسعر يومها والثاني : أن يكون بالناس حاجة إلى متاعه وضيق في تأخير بيعه وقال أصحاب الشافعي : إنما يحرم بشروط أربعة وهي ما ذكرنا إلا حاجة الناس إلى متاعه فمتى اختل منها شرط لم يحرم البيع وإن اجتمعت هذه الشروط فالبيع حرام وقد صرح الخرقي ببطلانه ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد قال : سألت أحمد عن الرجل الحضري يبيع للبدوي فقال : أكره ذلك وأرد البيع في ذلك وعن أحمد رواية أخرى أن البيع صحيح وهو مذهب الشافعي لكون النهي لمعنى في غير المنهي عنه ولنا أنه منهي عن والنهي يقتضي فساد المنهي عنه

شراء الحاضر للبادي
فصل : فأما الشراء لهم فيصح عند أحمد وهو قول الحسن وكرهت طائفة الشراء لهم كما كرهت البيع يروى عن أنس قال : كان يقال هي كلمة جامعة يقول لا تبيعن له شيئا ولا تبتاعن له شيئا وعن مالك في ذلك روايتان ووجه القول الأول أن النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه فإن النهي عن البيع للفرق بأهل الحضر ليتسع لعيه السعر ويزول عنهم الضرر وليس ذلك في الشراء لهم إذ لا يتضررون لعدم الغبن للبادني بل هو دفع الضرر عنهم والخلق في نظر الشارع على السواء فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحر لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر وأما إن أشار الحاضر على البادي من غير أن يباشر البيع له فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله و الأوزاعي و ابن المنذر وكرهه مالك و الليث وقول الصحابي حجة ما لم يثبت خلافه
فصل : قال ابن حامد : ليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي وكان مالك يقول يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس به بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا واحتد له بما روى الشافعي و سعيد بن منصور عن داود بن صالح الثمار عن القاسم ابن محمد عن عمر أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمرك قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم يعتبرون بسعر فإما أ ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت ولأن في ذلك إضرارا بالناس إذا زاد تبعه أصحاب المتاع وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع ولان ما روى أبو داود و الترمذي و ابن ماجة عن أنس قال : [ غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال : إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق إني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وعن أبي سعيد مثله فوجه الدلالة من وجهين أحدهما : أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه الثاني : أنه علل بكونه مظلمة والظلم حارم ولأنه ماله فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعين كما اتفق الجماعة عليه قال بعض أصحابنا : التسعيير سبب الغلاء لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلا فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها فتغلو الأسعار ويحصل الأضرار بالجانبين جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فليكون حراما فأما حديث عمر فقد روى فيه سعيد و الشافعي أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره فقال : إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت وهذا رجوع إلى ما قلنا وما ذكروه من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه

النهي عن تلقي الركبان والخيار فيما باعوه قبل دخول السوق
مسألة : قال : ونهى عن تلقي الركبان
فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق وعرفوا أنهم قد غبنوا أن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا روي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن تهبط الأسواق فربما غبنوهم غبنا بينا فيضربونهم وربما أضروا بأهل البلد لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعا ويتربصون بها السعر فهو في معنى بيع الحاضر للبادي فنهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك وروى طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد ] وعن أبي هريرة مثله متفق عليهما وكره أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وحكي عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأسا وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن تتبع فإن خالف وتلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح في قول الجميع قال ابن عبد البر وحكي عن أحمد رواية أخرى أن البيع فاسد لظاهر النهي والأول أصح لأن أبا هريرة روى [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تلقوا الجلب فمن تلقاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار ] رواه مسلم والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح ولأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار فأشبه بيع المصراة وفارق بيع الحاضر للبادي فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار إذ ليس الضرر عله إنما هو على المسلمين فإذا تقرر هذا فللبائع الخيار إذا علم أنه قد غبن وقال أصحاب الرأي : لا خيار له وقد روينا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا ولا قول لأحد مع قوله وظاهر المذهب أنه لا خيار له إلا مع الغبن لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر ولا ضرر مع عدم وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحمل إطلاق الحديث في إثبات الخيار على هذا لعلمنا بمعناه ومراده لأنه معنى يتعلق الخيار بمثله ولأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل له الخيار إذا أتى السوق فيفهم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن في السوق ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع ولم يقدر الخرقي الغبن المثبت للخيار وينبغي أن يتقيد بما يخرج عن العادة لأن ما دون ذلك لا ينضبط وقال أصحاب مالك : إنما نهي عن تلقي الركبان لما يفوت به من الرفق لأهل السوق لئلا يقطع عنهم ما له جلسوا من ابتغاء فضل الله تعالى قال ابن القاسم : فإن تلقاها متلق فاشتراها عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها وقال ا لليث بن سعد : تباع في السوق وهذا مخالف لمدلول الحديث فإن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الخيار للبائع إذا دخل السوق ولم يجعلوا له خيارا وجعل النبي صلى الله عليه و سلم الخيار له يدل على أن النهي عن تلقي الركبان لحقه لا حلق غيره ولأن المجالس في السوق كالمتلقي في أن كل واحد منهما مبتغ لفضل الله تعالى فلا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما وإلحاق الضرر به دفعا للضرر عن مثله وليس رعاية حق المجالس أولى من رعاية حق المتلقي ولا يمكن اشتراك أهل السوق كلهم في سلعته فلا يعرج على مثل هذا والله أعلم
فصل : فإن تلقى الركبان فباعهم شيئا فيه بمنزلة الشراء منهم ولهم الخيار إذا غبنم غبنا يخرج عن العادة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا في الآخر النهي عن الشراء دون البيع فلا يدخل البيع فيه وهذا مقتضى قول أصحاب مال لأنه عللوا ذلك بما ذكرنا عنهم ولا يتحقق ذلك في البيع لهم ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تلقوا الركبان ] والبائع داخل في هذا ولأن النهي عنه لما فيه من خديعتهم وغبنهم وهذا البيع كهو في الشراء والحديث قد جاء مطلقا ولو كان مختصا بالشراء لألحق به ما في معناه وهذا في معناه
فصل : فإن خرج لغير قصد التلقي ركبا فقال القاضي : ليس له الابتياع منهم ولا الشراء وهاذ أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ويحتمل أن لا يحرم عليه ذلك وهو قول الليث بن سعد والوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه لم يقصد التلقي فلم يتناوله النهي ووجه الأول أنه إنهم نهى عن التلقي دفعا للخديعة والغبن عنهم وهذا متحقق سواء قصد التلقي أو لم يقصده فوجب المنع منه كما لو قصد
فصل : وإن تلقى الجلب في أعلى الأسواق فلا بأس فإن ابن عمر روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها الأسواق ] رواه البخاري ولأنه إذا صار في السوق فقد صار في محل البيع والشراء فلم يدخل في النهي كالذي وصل إلى وسطها

تحريم الاحتكار
فصل : والاحتكار حرام لما روى الأثرم عن أبي أمامة قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحتكر الطعام ] وروي أيضا بإسناده عن سعيد بن المسيب [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من احتكر فهو خاطئ ] وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع أصحابه فرأى طعاما كثيرا قد ألقي على باب مكة فقال : ما هاذ الطعام ؟ فقالوا جلب إلينا فقال : بارك الله فيه وفيمن جلبه فقيل له فإنه قد احتكر قال : ومن احتكر ؟ قالوا فلان مولى عثمان وفلان مولاك فأرسل إليهما فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا نشتري بأموالنا ونبيع قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتى يضر به الله بالجذام أو الإفلاس ] ق ال الراوي : فأما مولى عثمان فباعه وقال : والله لا أحتكره أبدا وأما مولى عمر فلم يبيعه فرأيته مجذوما وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ]
فصل : والاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط أحدهما : أن يشتري فلو جلب شيئا أو أدخل من غلته شيئا فادخره لم يكن محتكرا روي عن الحسن و مالك وقال الأوزاعي : الجالب ليس بمحتكر لقول : الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ولأن الجالب لا يضيق على أحد ولا يضر به بل ينفع فإن الناس إذا علموا عنده طعاما معدا للبيع كان ذلك أطيب لقلوبهم من عدمه الثاني : أن يكون المشتري قوتا فأما الادام والحواء والعسل والزيت واعلاف البهائم فليس فيها احتكار محرم قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن أي شيء الاحتكار ؟ قال : إذا كان من قوت الناس فهو الذي يكره وهذا قول عبد لله بن عمرو وكان سعيد بن المسيب وهو راوي حديث الاحتكار يحتكر الزيت قال أبو داود : كان يحتكر النوى والخبط والبرز ولأن هذه الأشياء مما ل علم الحاجة إليه فأشبهت الثياب والحيوانات والثالث : أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين أحدهما أن يكون ف لبلد يضيق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور قال أحمد : الاحتكار في مثل مكة والمدينة والثغور فظاهر هذا أن البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والجلب كبغداد والبصرة ومصر لا يحرم فيها الاحتكام لأن ذل لا يؤثر فيها غالبا الثاني : أن يكون في حال الضيق بأن يدخل البلد قافلة ذووا الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس فأما إن اشتراه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم

بيع العصير ممن يتخذه خمرا
مسألة : قال : وبيع العصير ممن يتخذه خمرا باطل
وجملة ذلك أن بيع العصير لمن يعتقد أنه يتخذه خمرا محرم وكرهه الشافعي وذكر بعض أصحابه أن البائع إذا اعتقد أنه يعصرها خمرا فهو محرم وإنما يكره إذا شك فيه وحكى ابن المنذر عن الحسن و عطاء و الثوري أنه لا بأس ببيع الثمر لمن يتخذه مسكرا قال الثوري : بع الحلال ممن شئت واحتج لهم بقوله تعالى : { وأحل الله البيع } ولأن البيع تم بأركانه وشروطه
ولنا قول الله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وهذا نهي يقتضي التحريم وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لعن في الخمر عشرة فروى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتاه جيريل فقال يا محمد : إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها ] أخرج هذا الحديث الترمذي من حديث أنس وقال : قد روي هذا الحديث عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم ابن بطة في تحريم النبيذ بإسناده عن محمد بن سيرين أن قيما كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه لا يصح زبيبا ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره فأمر بقلعه وقال : بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية فأشبه إجارة أمته لمن يعلم أنه يستأجر ليزني بها والآية مخصوصة بصور كثيرة فيختص منها محل النزاع بدليلنا وقولهم تم البيع بشروطه وأركانه قلنا لكن وجد المانع منه إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم البائع قصد المشتري ذلك ما بقوله واما بقرائن مختصة به تدل على ذلك فأما إن كان الأمر محتملا مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله أو من يعمل الخل والخمر معا ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز وإذا ثبت التحريم فالبيع بطل ويحتمل أن يصح وهو مذهب الشافعي لأنه يحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه فلم يمنع صحة العقد كما لو دلس العيب
ولنا أنه عقد على عين لمعصية الله بها فلم يصح كاجارة الأمة للزنا والغناء وأما التدليس فهو المحرم دون العقد ولأن التحريم ههنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين ويفارق التدليس فإنه لحق آدمي

بطلان كل عقد مقيد به محرم كبيع السلاح لأهل الحرب وبيع الخمر
فصل : وهكذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطاع الطريق أو في الفتنة وبيع الأمة أو إجارتها كذلك أو إجارة داره لبيع الخرم فيها أو لتتخذ كنيسة أو بيت نار وأشباه ذلك فهو حرام والعقد باطل لما قدمنا قال ابن عقيل : وقد نص أحمد رحمه الله على مسائل نبه بها على ذلك فقال في القصاب والخباز : إذا علم أن ن يشتري نمه يدعو عليه من يشرب المسكر لا يبيعه ومن يخنرط الأقداح لا يبيعها ممن يشرب فيها ونهى عن بيع الديباج للرجال ولا بأس ببيعه للنساء وروي عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض فيكون بيع ذلك كله باطلا
فصل : وقيل لأحمد رجل مات وخلف جارية مغنية وولدا يتيما وقد احتاج إلى بيعها قال يبيعها على أنها ساذجة فقيل له فإنها تساوي ثلاثين ألف درهم فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين دينارا قال : لا تباع إلا على أنها ساذجة ووجه ذلك أبو أمامة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يجوز بيع المغنيات ولا أثمانهن ولا كسبهن ] قال الترمذي : هذا لا نعرف إلا من حديث علي بن يزيد وقد تلكم فيه أهل العلم ورواه ابن ماجة وهذا يحمل على بيعهن لأجل الغناء فأم ماليتهن الحاصلة بغير الغناء فلا تبطل كما أن العصير لا يحرم بيعه لغير الخرم لصلاحيته للخمر
فصل : ولا يجوز بيع الخمر ولا التوكيل في بيعه ولا شراؤه قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن بيع الخمر غير جائز وقال أبو حنيفة : يجوز للمسلم أن يوكل ذميا في بيعها وشرائها وهو غير صحيح فإن عائشة روت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : حرمت التجارة في الخمر ] و [ عن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم عام الفتح وهو بمكة يقول : إن الله ورسوله حرم بيع الخرم والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا هو حرام ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قاتل الله اليهود إن الله تعالى حرم عليهم شحومها فجملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه ] متفق عليه ومن وكل في بيع الخمر وأكل ثمنه فقد أشبههم في ذلك ولأن الخمر نجسه محرمة يحرم بيعها والتوكيل في بيعها كالميتة والخنزير ولأنه يحرم عليه بيعه فحرم عليه التوكيل في بيعه كالخنزير

بطلان البيع باشتراط شرطين
مسألة : قال : ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان ولا يبطله شرط واحد
ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال : الشرط الواحد لا بأس به إنما نهي عن الشرطين في البيع ذهب أحمد إلى ما روى عبد الله بن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا تبع ما ليس عندك ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن صحيح قال الأثرم : قيل لأبي عبد لله إن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع فنفض يده وقال : الشرط الواحد لا بأس به في البيع إنما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شرطين في البيع وحديث جابر يدل على إباحة الشرط حين باعه جملة وشرط ظهره إلى المدنية واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهم فروي عن أحمد أنهما شرطان صحيحان ليس من مصلحة العقد فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا واشترط على البائع خياطته وقصارته أو طعاما واشترط طحنه وحمله إن اشترط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز وإن اشترط شرطين فالبيع باطل وكذلك فسر القاضي في شرحه الشرطين المبطلين بنحو من هذا التفسير وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها من أحد وأنه لا يطؤها ففسره بشرطين فاسدين وروى عنه إسماعيل بن سعيد في الشرطين في البيع أن يقول إذا بعتكها فأنا أحق بها بالثمن وإن تخدمني سنة وظاهر كلام أحمد أن الشرطين المنهي عنهما ما كان من هذا النحو فأما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو مصلحته مثل أن يبيعه بشرط الخيار والتأجيل والرهن والضمين أو بشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر وقال القاضي في المجرد : ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل سواء كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة العقد أو لغير مصلحته أخذا من ظاهر الحديث وعملا بعمومه ولم يفرق الشافعي وأصحاب الرأي بين الشطر والشطرين ورووا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع وشرط ] ولأن الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر والفاسد يؤثر فيه وإن تحد والحديث الذي رويناه يدل على الفرق ولأن الغرر اليسير إذا احتمل في العقد لا يلزم منه احتمال الكثير وحديثهم لم يصح وليس له أصل وقد أنكره أحمد ولا نعرفه مرويا في مسند ولا يعول عليه وقول القاضي إن النهي يبقى على عمومه في كل شرطين بعيد أيضا فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن يؤثر أيضا في بطلانه قلت أو كثرت ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئا من هذا القسم فالظاهر أنه غير مراد له

الشروط التي تشترط في البيع والصحيح والفاسد منها
فصل : والشروط تنقسم إلى أربعة أقسام أحدها : ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم وخيار المجلس والتقابض في الحال فهذا وجوده كعدمه لا يفيد حكما ولا يؤثر في العقد الثاني : تتعلق به مصلحة العاقدين كالأجل والخيار والرهن والضمين والشهادة أو اشترط صفة مقصودة في المبيع كالصناعة والكتابة ونحوها فهذا شرط جائز يلزم الوفاء به ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافا الثالث : ما ليس من مقتضاه ولا من مصلحته ولا ينافي مقتضاه وهو نوعان أحدهما : اشتراط منفعة البائع في المبيع فهذا قد مضى ذكره الثاني : أن يشترط عقدا في عقد نحو أن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر أو يشتري منه أو يؤجره أو يزوجه أو يسلفه أو يصرف له الثمن أو غيره فهذا شرط فاسد يفسد به البيع سواء اشترطه البائع أو المشتري وسنذكره إن شاء الله تعالى الرابع : اشتراط ما ينفيا مقتضى البيع وهو على ضرين أحدهما : اشتراط ما بني على التغليب والسراية مثل أن يشترط البائع على المشتري عتق العبد فهل يصح ؟ على روايتين إحداهما : يصح وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي لأن عائشة رضي الله عنه اشترت بريرة وشرط أهلاه عليه عقتها وولاءها فأنكر النبي صلى الله عليه و سلم شرط الولاء دون العتق والثانية : الشرط فاسد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد أشبه إذا شرط أن لا يبيعه لأنه شرط عليه إزالة ملكه عنه أشبه ما لو شرط أن يبيعه وليس في حديث عائشة أنها شرطت لهم العتق وإنما أخبرتهم بإرادتهم لذلك من غير شرط فاشترطوا الولاء فإذا حكمنا بفساده فحكمه حكم سائر الشروط الفاسدة التي يأتي ذكرها وإن حكمنا بصحته فأعتقه المشتري فقد وفى بما شرط لعيه وإن لم يعتقه ففيه وجهان أحدهما : يجبر لأن شرط العتق إذا صح تعلق بعينه فيجبر لعيه كما لو نذر عتقه والثاني : لا يجبر لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط بدليل ما لو شرط الرهن والضمين فعلى هذا يثبت للبائع خيار الفسخ لأنه لم يسلم له ما شرطه له أشبه ما لو شرط عليه رهنا وإن تعيب المبيع أ وكان أمة فأحبلها أعتقه وأجزأه لأن الرق باق فليه وإن استغله أو أخذ من كسبه شيئا فهو له وإن مات المبيع رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق فيقال كم قيمته لو بيع مطلقا وكم يساوي إذا بيع بشرط العتق ؟ فيرجع بقسط ذلك من ثمنه في أحد الوجهين وفي الآخر يضمن ما نق من قيمته
الضرب الثاني : أن يشترط غير العتق مثل أن يشترط أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق ولا يطأ أو يشترط عليه أن يبيعه أو يقفه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن وإن أعتقه فالولاء له فهذه وما أشبهها شروط فاسدة وهل يفسد بها البيع ؟ على روايتين قال القاضي : المنصوص عن أحمد : أن البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي ههنا وهو قول الحسن و الشعبي و النخعي و الحكم و ابن أبي ليلى و أبي ثور والثانية : البيع فاسد وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع وشرط ولأه شطر فاسد فأفسد البيع كما لو شرط فيه عقدا آخر ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولا ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرط والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه والبيع من شرطه التراضي
ولنا ما [ روت عائشة قالت : جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقيه فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فقالت إني عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه و سلم فقال : خذيها واشترطي الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد : ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ] متفق عليه فأبطل الشرط ولم يبطل العقد قال ابن المنذر : خبر بريرة ثابت ولا نعلم خبرا يعارضه فالقول به يجب فإن قيل المراد بقوله اشترطي لهم الولاء لها بإعتاقها بدليل أنه أمرها به ولا يأمرها بفاسد قلنا لا يصح هذا التأويل لوجهين أحدهما : أن الولاء لها بإعتاقها فلا حاجة إلى اشتراطه الثاني : أنهم أبو البيع إلا أن يشترط الولاء لهم فكيف يأمرها بما يعلم أنهم لا يقبلونه منها ؟ وأما أمره بذلك فليس هو أمرا على الحقيقة وإنما هو صيغة الأمر بمعنى التسوية بين الاشتراط وتركه كقوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وقوله : { اصبروا أو لا تصبروا } والتقدير واشتراطي لهم الولاء أو لا تشترطي ولهذا قال عقيبه فإنما الولاء لمن أعتق وحديثهم لا أصل له على ما ذكرنا وما ذكروه من المعنى في المقابلة النص غير مقبول
فصل : فإن حكمنا بصحة البيع فللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ذكره القاضي وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن هو المشترط لأن البائع إنما سمح ببيعها بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط والمشتري إنما سمح بزيادة الثمن من أجل شرطه فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجد معيبا
فصل : فإن حكمنا بفساد العق لم يحصل به ملك سواء اتصل به القبض أو لم يتصل ولا ينفذ تصرف المشتري فيه ببيع ولا هبة ولا عتق ولا غيره وبهذا الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أن الملك يثبت فيه إذا اتصل به القبض وللبائع الرجوع فيه فيأخذه مع الزيادة المنفصلة إلا أن يتصرف فيه المشتري تصرفا يمنع الرجوع فيه فيأخذ قيمته : واحتج بحديث بريرة فإن عائشة اشترتها بشرط الولاء فأعتقتها فأجاز النبي صلى الله عليه و سلم العتق والبيع فاسد ولأن المشتري على صفة يملك المبيع ابتداء بعقد وقد حصل عليه الضمان للبدل عن عقد فيه تسليط فوجب أن يملكه كما لو كان العقد صحيحا
ولنا أنه مقبوض بعقد فاسد فلم يملكه كما لو كان الثمن أو دما فأما حديث بريرة فإنما يدل على صحة العقد لا على ما ذكروه وليس في الحديث أن عائشة اشترتها بهذا الشرط بل الظاهر أن أهل بريرة حين بلغهم إنكار النبي صلى الله عليه وسل هذا الشرط تركوه ويحتمل أن الشرط كان سابقا للعقد فلم يؤثر فيه
فصل : وعليه رد البيع مع نمائه المتصل والمنفصل وأجرة مثله مدة بقائه في يده وإن قص ضمن نقصه لأنها جملة مضمونة فأجزاؤا تكون مضمونة أيضا فإن تلف المبيع في يد المشتري فعليه ضمانه بقيمته يوم التلف قاله القاضي ولأن أحمد نص عليه في الغصب ولأنه قبضه بإذن مالكه فأشبه العارية وذكر الخرقي في الغصب أنه يلزمه قيمته أكثر ما كانت فيخرج ههنا كذلك وهو أولى لأن العين كانت على ملك صاحبها في حال زيادتها وعليه ضمان نقصها مع زيادتها فكذلك في حال تلفها كما لو أتلفها بالجناية ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : فإن كان المبيع أمة فوطئها المشتري فلا حد عليه لاعتقاده أنها ملكه ولأن في الملك اختلافا وعليه مهر مثلها لأن الحد إذا سقط للشبهة وجب المهر ولأن الوطء في ملك الغير يوجب المهر وعليه أرش البكارة إن كانت بكرا فإن قيل أليس إذا تزوج امرأة تزويجا فاسدا فوطئها فأزال بكارتها لا يضمن البكارة ؟ قلنا لأن النكاح تضمن الاذن في الوطء المذهب للبكارة لأنه معقود على الوطء ولا كذلك البيع فإنه ليس بمعقود على الوطء بدليل أنه يجوز شراء من لا يحل وطؤها ولا يحل نكاحها فإن قيل فإذا أوجبتم مهر بكر فكيف توجبون ضمان البكارة وقد دخل ضمانها في المهر ؟ وإذا أوجبتم ضمان البكارة فكيف توجبون مهر البكر وقد أدى عوض البكارة بضمانه لها فجرى مجرى من أزال بكارتها بأصبعه ثم وطئها ؟ قلنا لأن مهر البكر ضمان المنفعة وأرش البكارة ضمان جزء فلذلك اجتمعا وأما الثاني فإنه إذا وطئها بكرا فقد استوفى نفع هذا الجزء فوجبت قيمته بما استوفى من نفعه فإذا أتلفه وجب الضمان عينه ولا يجوز أن يضمن العين ويسقط ضمان المنفعة كما لو غصب عينا ذات منفعة فاستوفى منفعتها ثم أتلفها أو غصب ثوبا فلبسه حتى أبلاه وأتلفه فإن يضمن القيمة والمنفعة كذا ههنا
فصل : وإن ولدت كان ولدها حرا لأنه وطئها بشبهة ويلحق به النسب لذلك ولا ولاء عليه لأنه حر الأصل وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه لأنه يوم الحيلولة بينه وبين صاحبه فإن سقط ميتا لم يضمن لأنه إنما يضمنه حين وضعه ولا قيمة له حينئذ فإن قيل فلو ضرب بطنها فألقت جنينا ميتا وجب ضمانه قلنا الضارب يجب عليه غرة وههنا يضمنه بقيمته ولأن الجاني أتلفه وقطع نماءه وههنا يضمنه بالحيلولة بينه وبني سيده ووقت الحيلولة وقت السقوط وكان ميتا فلم يجب ضماه وعليه ضمان نقص الولادة وإن ضرب بطنه أجنبي فألقت جنينا ميتا فعلى الضارب غرة عبد أو أمة للسيد منها أقل الأمرين من أرش الجنين أو قيمته يوم سقط لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حيا ولذلك ضمنه البائع إنما كان للسيد أقل المرين لأن الغرة إن كانت أكثر من القيمة فالباقي منها لورثته لأنه حصل بالحرية فلا يستحق السيد منها شيئا وإن كانت أقل لم يكن على الضارب أكثر منها لأنه بسبب ذلك ضمن وإن ضرب الوطئ بطنها فألقت الجنين ميتا فعليه الغرة أيضا ولا يرث منها شيئا وللسيد أقل الأمرين كما ذكرنا وإن سلم الجارية المبيعة إلى البائع حالما فولدت عنده ضمن نقص الولادة وإن تلف بذلك ضمنها لأن تلفها بسبب منه وإن ملكها الواطئ لم تصر بذلك أم ولد على الصحيح من المذهب لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبه الزوجة وهكذا كل موضع حبلت في ملك غيره ولا تصير له أم ولده بهذا
فصل : إذا باع المشتري المبيع الفاسد لم يصح لأنه باع ملك غيره بغير إذنه وعلى المشتري رده على البائع الأول لأنه مالك ولبائعه أخذه حيث وجده ويرجع المتري الثاني بالثمن على الذي باعه ويرجع الأول على بائعه فإن تلف في يد الثاني فللبائع مطالبه من شاء منهما لأن الأول ضامن والثاني قبضه من يد ضامنه بغير إذن صاحبه فكان ضامنا فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمن الثاني لم يرجع بالفضل على الأول لأن التلف في يه فاستقر الضمان عليه فإن ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني
فصل : وإن زاد المبيع في يد المشتري بسمن أو نحوه ثم نقص حتى عاد إلى ما كنا عليه أو ولدت الأمة في يد المشتري ثم مات ولدها احتمل أن يضمن تلك الزيادة في عين مضمونة أشبهت الزيادة في المغصوب واحتمل أن لا يضمنها لأنه دخل على أن لا يكون في مقابلة الزيادة عوض فعلى هذا تكون الزيادة أمانة في يده فإن تلفت بتفريطه أو عدوانه ضمنها وإلا فلا وإن تلف العين بعد زيادتها أسقط تلك الزيادة من القيمة وضمنها بما بقي من القيمة حين أتلف قال القاضي : وهذا ظاهر كلام أحمد
فصل : إذا باع بيعا فاسدا وتقابضا ثم ألتف البائع الثمن ثم أفلس فله الرجوع في المبيع وللمشتري أسوة الغرماء وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : المشتري أحق بالمبيع من سائر الغرماء لأنه في يده فكان أحق به كالمرتهن ولنا أنه لم يقبضه وثيقة فلم يكن أحق به كما لو كان وديعة عنده بخلاف المرتهن فإنه قبضه على أنه وثيقة بحقه
فصل : إذا قال : بع عبدك من فلان على أن علي خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المنع والثمن على غيره ولا يشبه هذا ما لو قال : أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة لكون هذا عوضا في مقابلة فك الزوجية ورقبته العبد ولذلك لم يجز في النكاح أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك فلا يثبت لمن العضو على غيره وإن كان هذا القول على وجه الضمان صح البيع ولزم الضمان

بيع العربون
فصل : والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة يدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع يقال عربون وأربون وعربان واربان قال أحمد : لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن سيرين لا بأس به وقال سعيد بن المسيب و ابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ورد معها شيئا وقال أحمد : هذا في معناه واختبار أبو الخطاب أنه لا يصح وهو قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي ويرى ذلك عن ابن عباس والحسن ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع العربون ] رواه ابن ماجة ولأنه شطر للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال : ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما وهاذ هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روى فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا قال الأثرم : قلت لأحمد تذهب إليه ؟ قال : أي شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه وضعف الحديث المروي روى هذه القصة الأثرم بإسناده فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال : لا تبع هذه السلعة لغيري وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشترها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد ويحتمل أن الشراء الذي اشتري لعمر كان على هذا الوجه فيحتمل عليه جميعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد العربون وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة

النهي عن بيع بيعين في بيعة
مسألة : قال : وإذا قال بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا لم ينعقد البيع وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه
وجملته ذلك أن البيع بهذه الصفة باطل لأنه شرط في العقد أن يصافه بالثمن الذي وقع العقد به والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة قال أحمد : هذا معنا وقد روى أبو هريرة قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيعتين في بيعة ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن يقول بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا أو على أن تزوجني ابنتك أو على أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا فهذا كله لا يصح قال ابن مسعود : الصفقتان في صفقة ربا وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور العلماء وجوزه مالك وقال : لا أتلفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير ولنا الخبر وأن النهي يقتضي الفساد ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط فيفسد العقد لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط فإذا فات فات الرضا ولأنه شرط عقدا في عقد لم يصح كنكاح الشغار وقله لا أتلفت إلى اللفظ لا يصح لأن البيع هو اللفظ فإذا كان فاسدا فيكف يكون صحيحا ؟ ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط يناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق والله أعلم
فصل : وقد روي في تفسير بيعتين وجه آخر وهو أن يقول بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا هكذا فسره مالك و الثوري و إسحاق وهو أيضا باطل وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد فأشبه ما لو قال : بعتك هذه وأو هذا ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم فلم يصح كما لو قال : بعتك أحد عبيدي وقد روي عن طاوس و الحكم و حماد أنهم قالوا لا بأس أن يقول أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدها وهذا محمول على أنه جرة بينهما بعد ما يجري في العقد فكأن المشتري قال : أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال : خذه أو قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدا كافيا وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أ ويدل عليه فلم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا لما ذكرناه وقد روي عن أحمد فيمن قال : ان خطته اليوم فلك درهم وان خطته غدا فلك نصف درهم أنه يصح فيحتمل أن يحلق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة ويحتمل أن يفرق بينهم من حيث أن العقد ثم يمكن أ يصح لكنه جعالة يحتمل فيها الجهالة بخلاف البيع ولأن العمل الذي يستحق هب الأجرة لا يمكن وقوع إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له فلا يفضي إلى التنازع وههنا بخلافه

تفريق الصفقة ومعناه واقسامه
فصل : ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل وهذا مذهب مالك و الشافعي ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال : إن ترك مشترط السلف السلف صح البيع ولنا ما روى عبد الله بن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي لفظ لا يحل بيع وسلف ولأنه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له وذلك ربا محرم ففسد كما لو صح به ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما
فصل : وإذا جمع بين عقدين مختلفي القيمة بعوض واحد كالصرف وبيع ما يجوز الفرق فيه قبل القبض والبيع والنكاح أو الإجارة نحو أن يقول بعتك هذا الدينار وهذا الثوب بعشرين درهما أو بعتك هذه الدار وأجرتك الأخرى بألف أو باعه سيفا محلى بالذهب بفضة أو زوجتك ابنتي وبعتك عبدها بألف صح العقد فيهما لأنهم عينان يجوز أخذ العضو عن كل واحدة منهما منفردة فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعتين كالعبدين وهذا أحد قولي الشافعي وقال أبو الخطاب : في ذلك وجه آخر أنه لا يصح وهو القول الثاني للشافعي حكمهما مختلف إن المبيع يضمن بمجرد البيع والإجارة بخلافه والألو أصح وما ذكروه يبطل بما إذا باع شقصا وسفا فإنه يصح مع اختلاف حكمهما بوجوب الشفعة في أحدهما دون الآخر فأما إن جمع بين الكابة والبيع فقال : كاتبتك وبعتك عبدي هذا بألف في كل شهر مائة لم يصح لأن المكاتب قبل تمام الكتابة عبد قن فلا يصح أن يشتري من سيده شيئا ولا يثبت لسيده في ذمته ثمن وإذا بطل البيع فهل يصح في الكتابة بقسطها ؟ فيه روايتان نذكرهما في تفريق الصفقة وسوى أبو الخطاب بين هذه الصورة وبين الصورة التي قبلها فقال : في الكل وجهان والذي ذكرناه إن شاء الله تعالى أولى
فصل : في تفريق الصفقة ومعناه أن يبيع ما يجوز بيعه وما لا يجوز صفقة واحدة بثمن واحد وهو على ثلاثة أقسام أحدها : أن يبيع معلوما ومجهولا كقوله بعتك هذه الفرس وما في بطن هذه الفرس الأخرى بألف فهذا البيع باطل بكل حال ولا أعلم فيبطلانه خلافا لأن الجهول لا يصح بيعه لجهالته والمعلوم مجهول الثمن ولا سبيل إلى معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما والمجهول لا يمكن تقويمه فيتعذر التقسيط
الثاني : أن يكون المبيعان مما ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء كعبد مشترك بينه وبين غيره باعه كله بغير إذن شريكه كقفزين من صبرة واحدة باعهما من لا يملك إلا بعضهما ففيه وجهان أحدهما : يصح في ملكه بقسطه من الثمن ويفسد فيما لا يملكه والثاني : لا يصح فهيما وأصل الوجهين أن أحمد نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين إحداهما : يفسد فيهما والثاني : يصح في الحرة والأولى أنه يصح فيما يملكه وهو قول مالك و أبي حنيفة وهو قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يصح وهو قول أبي ثور لأن الصفقة جمعت حلالا وحراما فغلب التحريم ولأن الصفقة إذا لم يكن تصحيحها في جميع المعقود عليه بطلت في الكل كالجمع بين الأختين وبيع درهم بدرهمين
ولنا أن كل واحد منهما له حكم لو كان منفردا فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد منهما حكمه كما لو باع شقصا وسيفا ولأن ما يجوز نله بيعه قد صدر فيه البيع من أهله في محله بشرطه فصح كما لو انفرد ولأن البيع سبب اقتضى الحكم في محلين وامتنع حكمه في أحد المحلين لنبوته عن قبوله فيصح في الآخر كما لو أوصى بشيء لآدمي وبهيمة وأما الدرهمان والاختان فليس واحد منهما أولى بالفساد من الآخر فلذلك فسد فيهما وههنا بخلافه
القسم الثالث : أن يكون المبيعان معلومين مما لا ينقسم عليهما الثمن بالأجزاء كعبد وحر وخل وخمر وعبده وعبد غيره وعبد حاضر وآبق فهذا يبطل البيع فيما لا يصح بيعه وفي الآخر روايتان نقل صالح عن أبيه فينم اشترى عبدين فوجد أحدهما حرا رجع بقيمته من الثمن ونقل عنه مهنا تزوج امرأة على عبدين فوجد أحدهما حرا فلها قيمة العبدين فأبطل الصداق فيهما جميعا وللشافعي قولان كالروايتين وأبطل مالك العقد فيهما إلا أن يبيع ملكه وملك نغيره فيصح في ملكه ويقف في ملك غيره على الإجازة ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال : إن كان أحدهما لا يصح بيعه بنص أو إجماع كالحر والخمر لم يصح العقد فيهما وإن لم يثبت بذلك كملكه وملك غيره صح فيما يملكه لأن ما اختلف فيه يمكن أن يلحقه حكم الإجازة بحكم حاكم بصحة بيعه وقال أبو ثور : لا يصح بيعه لما تقدم في القسم الثاني ولأن الثمن مجهول لأنه إنما يتبين بالتقسيط للثمن على القيمة وذلك مجهول في الحلل فلم يصح البيع به كما قال : بعتك هذه السلعة برقمها أو بحصة من رأس المال ولأنه لو صرح به فقال : بعتك هذا بقسطه من الثمن لم يصح فكذلك إذا لم يصرح وقال عن نصر الرواية الأولى : إنه متى سمى ثمنا في مبيع يسقط بعضه لا يوجب ذلك جهالة تمنع الصحة كما لو وجد بعض المبيع معيبا فأخذه أرشه والقول بالفساد في هذا القسم إن شاء الله أظهرن والحكم في الرهن والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز كالحكم في البيع إلا أن الظاهر فيها الصحة لأنها ليست عقود معاوضة فلا توجد جهالة العوض فيها
فصل : وإن وقع العقد على مكيل أو موزون فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي رواية واحدة المشتري الباقي بحصته من الثمن لأن العقد وقع صحيحا فذهاب بعضه لا يفسخه كما بعد القبض وكما لو وجد أحد المبيعين معيبا فرده أو قال أحد المتبايعين الآخر في بعض المبيع
فصل : وإن كان لرجلين عبدان لكل واحد عبد فباعهما صفقة واحدة بثمن واحد أو وكل أحدهما صاحبه فباعهما بمثن واحد ففيه وجهان أحدهما : يصح فيهما ويتقسط العوض على قدر قيمتهما وهو قول مالك و أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن جملة الثمن معلومة فصح كما لو كانا لرجل واحد وكما لو باعا عبدا واحدا لهما أو قفيزين من صبرة واحدة والثاني : لا يحص لأن كل واحد منهما مبيع بقسطه من الثمن وهو مجهول على ما قدمنا وفارق ما إذا كانا لرجل واحد فإن جملة المبيع مقابلة بجملة الثمن من غير تقسي والعبد المشترك والقفيزان ينقسم الثمن عليهما بالأجزاء فلا جهالة فيه
فصل : ومتى حكمنا بالصحة في تفريق الصفقة وكان للمشتري عالما بالحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وإن لم يعلم مثل إن اشترى عبدا يظنه كله للبائع فبان أنه لا يملك إلا نصفه أو عبدين فتبين أنه لا يملك إلا أحدهما فله الخيار بين الفسخ والإمساك لأن الصفقة تبعضت عليه وأما البائع فلا خيار له لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطه ولو وقع العقد على شيئين يفتقر إلى القبض فيهما فتلف أحدها قبل قبضه فقال القاضي للمشتري : الخيار بين إمساك الباقي بحصته وبين الفسخ لأن الحكم ما قبل القبض في كون المبيع من ضمان البائع حكم ما قبل العقد بدليل أنه لو تعيب قبل قبضه لملك المشتري الفسخ به

اتجاه الوصي بمال اليتيم والمضاربة به وبيع عقاره
مسألة : قال : ويتجر الوصي بمال اليتيم ولا ضمان عليه والربح كله لليتيم فإن أعطاه لمن يضارب له به فللمضارب من الربح ما وافقه الوصي عليه
وجملته أن لولي اليتيم أن يضارب بماله وإن يدفعه إلى من يضارب له به ويجعل له نصيبا من الربح أبا كان أو وصيا أو حاكما أو أمين حاكم وهو أولى من تركه وممن رأى ذلك ابن عمر و النخعي و الحسن بن صالح و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ويروى إباحة التجارة به عن عمر وعائشة والضحاك ولا نعلم أحدا كرهه إلا ما روي عن الحين ولعله أراد اجتناب المخاطرة به ولأن خزنه أحفظ له والذي عليه المجهول ألوى لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ] وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أصح من المرفوع ولأن ذلك أحظ للمولى لعيه لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم وأموال من يعز عليهم من أولادهم إلا أنه لا يتجر إلا في المواضع الآمنة ولا يدفعه إلا لأمين ولا يغرر بماله وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر فيحتمل أنه كان في موضع مأمون قريب من الساحل ويحتمل أنها جعلته من ضمانه عليها أن هلك غرمته فمتى اتجر في المال بنفسه فالربح كله لليتيم وأجاز الحسن ابن صالح وإسحاق أن يأخذه الوصي مضاربة لنفسه لأنه جاز أن يدفعه بذلك إلى غيره فجاز أن يأخذ ذلك لنفسه والصحيح ما قلنا لأن الربح نماء مال اليتم فلا يستحقه غيره إلا بعقد ولا يجوز أن يعقد الولي المضاربة مع نفسه فأما إن دفعه إلى غيره فللمضارب ما جعله له الولي ووافقه عليه أي اتفقا لعيه ف قولهم جميعا لأن الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته وهذا فيه مصلحته فار تصرفه فيه كتصرف المالك في ماله
فصل : ويجوز لولي اليتيم ابضاع ماله ومعناه دفعه إلى من يتجر به والربح كله لليتيم وقد ريو عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر ولأنه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه فدفعه إلى من يوفر الربح أولى ويجوز أن يشتري له العقار لأنه مصلحة له فإنه يحصل منه الفضل ويبقى الأصل والغرر فيه أقل من التجارة لأن أصله محفوظ ويجوز أن يبني له عقارا لأنه في معنى الشراء إلا أن يكون الشراء أحظ وهو ممكن فيتعين تقديمه وإذا أراد البناء بناه بما يرى الحظ في البناء به وقال أصحابنا : يبينه بالآخر والطين ولا يبني باللبن لأه إذا هدم لا مرجوع له ولا بجص لأنه يلتصق بالآجر فلا يتخلص منه فإذا هدم فسد الآجر لأنه تخليصه منه يفضي إلى كسره وهذا مذهب الشافعي والذي قلناه أولى إن شاء الله تعالى فإنه إذا كان لاحظ له في البناء بغيره فتركه ضيع حظه وماله ولا يجوز تضييع الحظ العاجل وتحمل الضرر الناجز المتيقن لتوهم مصلحة بقاء الآجر عند هدم البناء ولعل ذل كلا يكون في حياته ولا يحتاج إليه مع أن كثيرا من البلدان لا يوجد فيها الآجر وكثير منها لم يجز عادتهم بالبناء به فلو كلفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامة كثيرة لا يحصل منها طائل وقول أصحابنا يختص من عادتهم البناء بالآجر كالعراق ونحوه فلا يصح في حق غيرهم
فصل : ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة لأننا نأمره بالشراء لما فيه من الحظ فيكون بيعه تفويتا للحظ فإن احتيج إلى بيعه جاز نقل أبو داود عن أحمد : يجوز للوصي بيع الدور على الصغار إذا كان نظرا لهم وبه قال الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي و إسحاق قالوا يبيع إذا رأى الصلاح قال القاضي : لا يجوز إلا في موضعين أحدهما : أن يكون به ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دين أم ما لا بد منه وليس له ما تندفع له حاجته الثاني : أن يكون في بيعه غبطة وهو أن يدفع فيه زيادة كثيرة على ثمن المثل قال أبو الخطاب : كالثلث ونحوه أ يخاف عليه الهلاك بغرق أو خراب أو نحوه وهذا مذهب الشافعي وكلام أحمد يقتضي إباحة البيع في كل موضع يكون نظرا لهم ولا يختص بما ذكروه وقد يرى الولي الحظ في غير هذا مثل غبطة ولا يمكنه شراؤه إلا ببيع عقاره وقد تكون داره في مكان يتضرر الغلام بالمقام أو يرى شيئا في شرائه فيبيعها ويشتري له بثمنها دارا يصلح له المقام بها وأشباه هذا ما لا ينحصر وقد لا يكون له حظ في بيع عقاره وإن دفع فيه مثلا ثمنه إما لحاجته إليه وإما لأنه لا يمكن صرف ثمنه في مثله فيضيع الثمن ولا يبارك فيه فقد جاء [ عن النبي صلى الله عليه و سلم من باع دارا أو عقارا ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه ] فلا يجوز بيعه إذا فلا معنى لتقييده بما ذكروه في الجواز ولا في المنع بل متى كان بيعه أحظ له جاز بيعه وإلا فلا
فصل : ويجوز لولي اليتيم كتابة رقيق اليتيم وإعتاقه على مال إذا كان الحظ فيه مثل أ تكون قيمته ألفا فيكاتبه بألفين أو يعتقه بألفين فإن لم يكن فيها حظ لم يصح وقال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز إعتاقه لأن الإعتاق بمال تعليق له عشر شرط فلم يملكه ولي اليتيم كالتعليق على دخول الدار وقال الشافعي : لا تجوز كتابته ولا إعتاقه لأن المقصود منهما العتق دون المعاوضة فلم تجز كالإعتاق بغير عوض ولنا إنها معاوضة لليتم فيها حظ فملكها وليه كبيعه ولا عبرة بنفع العقد ولا يضره كونه تعليقا فإنه إذا حصل الحظ لليتيم لا يضره نفع غيره ولا كون العتق حصل بالتعليق وفارق ما قاسوا عليه فإنه لا نفع فيه فمنع منه لعدم الحظ وانتفاء المقتضي لا لما ذكروه ولو قدر أن يكون في العتق بغير مال نفع كان نادرا ويتوجه أن يصح قال أبو بكر : يتوجه العتق بغير عضو للحظ مثل أن يكون لليتيم جارية وابنتها يساويان مائة مجتمعتين ولو أفردت إحداهما ساوت مائتين ولا يمكن إفرادها بالبيع فيعق الأخرى لتكثر قيمة الباقية فتصير ضعف قيمتها
فصل : قال أحمد : ويجوز للوصي أن يشتري لليتيم أضحية إذا كان له مال يعني مالا كثيرا لا تضرر بشراء الأضحية فيكون ذلك على وجه التوسعة في النفقة في هذا اليوم الذي هو عيد ويوم فرح فيه جبر قبله وتطييبه وإلحاقه بمن له أب فينزله منزلة الثياب الحسنة وشراء اللحم سميا مع استحباب التوسعة في هذا اليوم وجري العاد بها تدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز و جل ] رواه مسلم ومتى كان خلط مال اليتيم أرفق به وألين في الخبز وأمكن في حصول الأدم فهو أولى وإن كان إفراده أرفق به أفرده لقول الله تعالى : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم } أي ضيق عليكم وشدد من قولهم أعنت فلان فلانا إذا ضيق عليكم وشدد وعنت الرجل إذا ظلعت ويجوز للوصي ترك الصبي في المكتب بغير إذن الحاكم وحيك لأحمد قول سفيان لا يسلم الوصي الصبي إلا بإذن الحاكم فأنكر ذلك لأن المكتب من مصالحة فجرى مجرة نفقته لمأكوله ومشروبه وملبوسه وكذلك يجوز له إسلامه في صناعة إذا كنت مصلحته في ذلك لما ذكرناه

حكم أكل الوصي ن مال اليتيم وقرضه
فصل : وإذا كان الولي موسرا فلا يأكل من مال اليتيم شيئا لم يكن أبا لقول تعالى { ومن كان غنيا فليستعفف } وإن كان فقيزا فله أقل الأمرين من أجرته أو قدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل بالعمل والحاجة جميعا فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه فإذا أكل منه ذل كالقدر ثم أيسر فإن كان أبا لم يلزمه عوضه رواية واحدة لأن للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها وإن كان غير الأب فهل يلزمه عوض ذلك ؟ على روايتين إحداهما : لا يلزمه وهو قول الحسن و النخعي وأحد قولي الشافعي لأن الله تعالى أمر بالأكل من غير كذر عوض فأبه سائر ما أرم بأكله ولأنه عوض من علمه فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب والثانية ك يلزمه عوضه وهو قول عبيدة السلماني و عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير وأبي العالية لأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كالمضر إلى طعام يغره والأول أصح لأه لو وجب عليه إذا أيسر لكان واجبا في الذمة قبل اليسار فإن اليسار ليس بسبب للوجوب فإذا لم يجب بالسبب الذي هو الأكل لم يجب بعده وفارق المضطر فإن العوض واجب عليه في ذمته ولأنه لم يأكله عوضا عن شيء وهذا بخلافه
فصل : فأما قرض مال اليتيم فإذا لم يكن يه حظ له لم يجز قرضه فمتى أملك الولي التجارة به أو تحصيل عقار له فيه الحظ لم يقرضه لأن ذلك يفوت الحظ على اليتيم وإن لم يكن ذلك وكان قرضه حظا لليتيم جاز قال أحمد : لا يقرض مال اليتيم لأحد يريد مكافأته ومودته ويقرض على النظر والشفقة كما صنع بها عمر وقيل أحمد أن عمر استقرض مال اليتيم قال : إنها استقرض نظرا لليتيم واحتياطا إن أصابه بشيء غرمه قال القاضي : ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مال في بلد فيريد نقله إلى بلط آخر فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو نحوهما وأو يكون مما يتلف بتطاول مدته أو حديثه خير من قديمه كالحنطة ونحوها فيقرضه خرفا أن يسوس أن تنقص قيمته وأشباه هذا فيجوز القرض لأنه مما لليتيم فيه الحظ فيجاز كالتجارة به و إن لم يكن فيه حظ وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز لأنه تبرع بمال اليتيم فلم يجز كهبته وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله وقرضه لثقة أمين أولى من إيداعه لأن الوديعة لا يتضمن إذا تلفت فإن لم يجد من يستقرضه على هذه الصفة فله إيداعه لأنه موضع حاجة ولو أودعه مع إمكان قرضه جاز ولا ضمان علية فإنه ربما رأى الإيداع أحظ له من القرض فلا يكون مفرطا وكل موضع قلنا له قرضه فلا يجوز إلا لمليء أمين ليأمن جحوده وتعذر الإيفاء وينبغي أن يأخذ رهنا أن أمكنه وإن تعذر عليه أخذ الرهن جاز تركه في ظاهر كلام أحمد ممن يستقرضه من أجل حظ اليتيم أنه لا يبذل رهنا فاشتراط الرهن يفوت هذا الحظ وقال أبو الخطاب : يقرضه إذا أخذ بالقرض رهنا فظاهر هذا أنه لا يقرضه برهن لأن فيه احتياطا للمال وحفظا له عن الجحد والمطل وإن أمكنه أخذ الرهن فالأولى له أخذه احتياطا على المال وحفظا له فإن تركه احتمل أن يضن إن ضاع المال لتريفطه واحتمل أن لا يضمن لأن الظاهر سلامته وهذا ظاهر الكلام أحمد لكونه لم يذكر الرهن

ابابة الوصي غيره في أعمال الولاية
فصل : قال أبو بكر : وهل يجوز للوصي أن يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه ؟ على روايتين لأنه تصرف بالإذن في مال غيره فأشبه الوكيل وقال القاضي : يجوز ذلك للوصي وفي الوكيل روايتان وفرق بينهما بأن الوكيل يمكنه الاستئذان والوصي بخلافه

الخلاف بين اليتيم ووليه في الإنفاق
فصل : وإذا ادعى الولي الإنفاق على الصبي أو على ماله أو عقاره بالمعروف من ماله أو ادعى أنه باع عقاره لحظة أو بناه لمصلحته أو أنه تلف قبل قوله وقول أصحاب الشافعي لا يمضي الحاكم بيع الأمين حتى يثبت عنده الحظ ببينه ولا يقبل قولهما في ذلك ويقبل قول الأب والجد ولنا أن من جاز له بيع العقار وشراؤه لليتيم يجب أن يقبل قوله فيا لحظ كالأب والجد ولأه يقبل قوله في عدم التفريط فيما تصرف فيه من غير العقار فيقبل قوله في العقار كالأب وإذا بلغ الصبي فادعى أن لا حظ له في البيع لم يقبل إلا ببينة فإن لم تكن بينة فالقول قول الولي مع يمينه وإن قال الولي : انفقت عليك منذ ثلاث سنين وقال الغلام : ما مات أبي إلا من سنتين فالقول قول الغلام ذكره القاضي لأن الأصل حياة والدره واختلافهما في أمر ليس الوصي أمينا فيه فكان القول قول من يوافق قوله الأصل

بيع الوصي مال البالغ
فصل : قال أحمد : يجوز للوصي البيع على الغائب البالغ إذا كان من طريق النظر وقال أصحابنا يجوز للوصي البيع على الصغار والكبار إذا كانت حقوقهم مشتركة في عقار في قسمه اضرار وبالصغار حاجة إلى البيع إما لقضاء دين أو مؤنة لهم وقال أبو حنيفة و ابن أبي ليلى : يجوز لبيع على الصغار والكبار فيما لا بد منه ولعلهما أرادا هذه الصورة لأن في ذلك نظرا للصغار واحتياطا للميت في قضاء دينه وقال الشافعي : لا يصح بيعه على الكبار لأنه تصرف في مال غيره وكالة ولا ولاية فلم يصح كبيع ماله المفرز أو ما لا تضر قسمته وهذا هو الصحيح وما ذكروه لا أصله له يقاس عليه ويعارضه أن فيه ضررا على الكبار ببيع مالهم بغير إذنهم ولأنه لا يجوز له بيع غير العقار فلم يجز له بيع العقار كالأجنبي

تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء
فصل : ويصح الصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي فيه في إحدى الروايتين وهو قول أبي حنيفة الثانية : لا يحص حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير مكلف أشبه غير المميز ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به التصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطا وهو البلوغ فلا يثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة ولنا قول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } ومعناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق اختبارهم بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء وليعلم هل يغبن أولا ولأنه عاقل مميز محجور عليه فصح تصرفه بإذن وليه كالعبد وفارق غير المميز فإنه لا تصلح المصلحة بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة إلى اختيارهم لأنه قد علم حاله وقولهم أن العقل لا يمكن الإطلاع لعيه قلنا يعلم ذلك بآثاره وجريان تصرفاته على وفق المصلحة كما يعلم في حق البائع فإن معرفة رشده شرط دفع ماله إليه وصحة تصرفه كذا ههنا فأما إن تصرف بغير إذن وليه لم يصح تصرفه ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي حنيفة ومبني ذلك على ما إذا التصرف في مال غيره بغير إذنه وقد ذكرناها فيما مضى وأما غير المميز فلا يصح تصرفه وإن أذن له الولي فيه إلا في الشيء اليسير كما روي عن أبي الدرداء أنه اشترى من صبي عصفورا فأرسله ذكره ابن أبي موسى

أحكام استدانة العبد وتصرفاته غير المأذون له
مسألة : قال : وما استدان العبد فهو في رقبته يفديه سيده أو يسلمه فإن جاوز ما استدان قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته إلا أن يكون مأذونا له في التجارة فيلزم مولاه جميع ما استدان
في هذه المسألة أربعة فصول :
الفصل الأول : في استدانة العبد يعني أخذه بالدين يقال أدان واستدان وتدين قال الشاعر :
( يؤنبني في الدين قومي وإنما ... تدينت فيما سوف يكسبهم حمدا )
والعبيد قسمان : محجور عليه فما لزمه من الدين بغير رضا سيده مثل أن يقترض أو يشتري شيئا في ذمته ففيه روايتان إحداهما : يتعلق برقته اختارها الخرقي وأبو بكر لأنه دين لزمه بغر إذن سيده فتعلق برقبته كأرش جنايته والثانية : يتعلق بذمته يتبعه الغريم به إذا أعتق وأيسر وهذا مذهب الشافعي لأنه متصرف في ذمته بغير إذن سيده فتعلق بذمته كعوض الخلع من الأمة وكالحر
القسم الثاني : المأذون له في التصرف أو في الاستدانة فما يلزمه من الدين هل يتعلق بذمة السيد أو برقبته ؟ على روايتين وقال مالك و الشافعي : إن كان في يده مال قضيت ديونه منه وإن لم يكن في يده شيء تعلق بذمته يتبع به إذا عتق وأيسر لأنه دين ثبت برضا نم له الدين أشبه غير المأذون أو فوجب أن لا يتعلق برقبته كما لو استقرض بغير إذن سيده وقال أبو حنيفة : يباع إذا طالب الغرماء ببيعه وهذا معناه أنه تعلق برقبته لأنه دين ثبت برضا من له الدين فيباع فيه كما لو رهنه ولنا أنه أذن له في التجارة فقد أغرى الناس بمعاملته وأذن فيها فصار ضامنا كما لو قال لهم : داينوه أو أذن في استدانة تزيد على قيمته ولا فرق بين الدين الذي لزمه في التجارة المأذون فيها أو فيما لم يؤذن فيه مثل أن أذن له في التجارة في البر فاتجر في غيره فإنه لا ينفك عن التغرير إذ يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضا
الفصل الثاني : فيما لزمه من الدين من أورش جناياته أو قيم متلفاته فهذا يتعلق برقبة العبد على كل حال مأذونا أو غير مأذون رواية واحدة وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي وكل ما يتعلق برقبته فإن السيد بتخير بين تسليمه للبيع وبين فدائه فإن سلمه فبيع وكان ثمنه أقل من أرش جنايته فليس للمجني عليه إلا ذلك لأن العبد هو الجاني فلا يجب على غيره شيء وإن كان ثمنه أكثر فالفضل لسيده وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أن السيد لا يرجع بالفضل ولعله يذهب إلى أنه دفعه إليه عوضا عن الجناية فلم يبق لسيده فيه شيء كما لو ملكه إياه عوضا عن الجناية وهذا ليس بصحيح فإن المجني عله لا يستحق أكثر من قدر أرش الجناية عليه كما لو جنى عليه حر والجاني لا يجب عليه أكثر من قدر جنايته ولأن الحق تعلق بعينه فكان الفضل من ثمنه لسيده كالرهن ولا يصح قولهم إنه دفعه عوضا لأنه لو كال عوضا لملكه المجني عليه ولم يبع في الجناية وإنما دفعه ليباع فيؤخذ منه عوذ الجناية ويرد إليه الباقي ولذلك لو أتلف درهما لم يبطل حق سيده منه بذلك لعجزه عن أداء الدرهم من غر ثمنه وإن اختار السيد فداء لزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جناية لأن أرش الجناية إن كان أكثر فلا يتعلق بغير العبد الجاني لعدم الجناية من غيره وإنما تجب قيمته وإن كان أقل فلم يجب الجناية إلا هو وعن أحمد رواية أخرى أه يلزمه أ { ش جنايته بالغا ما بلغ لأنه يجوز أن يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من ثمنه فإذا منع بيعه لزمه جميع الأرش لتفوتيه ذلك وللشافعي قولان كالروايتين
الفصل الثالث : في تصرفاته أما غير المأذون فلا يصح بيعه ولا شراؤه بعين المال أنه تصرف من المحجور فيما حجر عليه فيه فأشبه المفلس ولأنه تصرف في ملك غيره بغير إذنه فهو التصرف الفضولي ويتخرج أن يصح ويقف على إجازة السيد كذلك وأما شراؤه بمثن في ذمته واقتراضه فيحتمل أن لا يحص لأنه محجور عليه أشبه السفيه ويحتمل أن يصح لأن الحجر لحق غيره أشبه المفلس والمريض ويتفرع عن هذين الوجهين أن التصرف وإن كان فاسدا فللبائع والمقرض أخذ ماله إن كان باقيا سواء كان في يد العبد أو السيد وإن كان تالفا فله قيمته أو مثله إن كان مثليا فإن تلف في يد السيد رجع بذلك عليه لأن عين ماله تلف في يده وإن شاء كان ذلك متعلقا برقبة العبد لأنه الذي أخذه منه وإن تلف في سيد العبد فالرجوع عليه وهل يتعلق برقبته أو ذمته ؟ على روايتين وإن قلنا التصرف صحيح والمبيع في يد المبيع في يد العبد فللبائع فسخ البيع وللمقرض الرجوع فيما أقرض لأنه قد تحقق إعسار المشتري والمقترض فهو أسوأ حالا من الحر المعسر وإن كان السيد قد انتزعه من يد العبد ملكه بذلك وله ذلك لأنه أخذ من عبده مالا في يده بحق فهو كالصيد فإذا ملكه السيد كان كهلاكه في يد العبد لا يملك البائع والمقرض انتزاعه من السيد بحال وإن كان قد تلف استقر ثمنه في رقبة العبد أو في ذمته سواء تلف في يد العبد أو السيد وأما العبد المأذون له فيصح تصرف في قدر ما أذن له فيه لا نعلم فيه خلافا ولا يصح فيما زاد نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا أذن له في نوع انفك الحجر عنه وجاز له التصرف مطلقا لأن الحجر لا يتجزأ فإذا زال بعضه زال كله
ولنا أنه متصرف بالإذن فاختص تصرفه بمحل الأذن كالوكيل وقولهم أن الحجر لا يتجزأ لا يصح فإنه لو صرح بالإذن له في بيع يبع ونهيه عن بيع أخرى صح وكذلك في الشراء كالوكيل وإن أذن له السيد في ضمان أو كفالة ففعل صح وهل يتعلق بذمة السيد أو رقبة العبد ؟ على وجهين وإن رأى السيد عبده يتجر فلم ينهه لم يصر بذلك مأذونا له
الفصل الرابع : في تصرفاته إن كان مأذونا له في التجارة قبل إقراره في قدر ما أذن له ولم يقبل فيما زاد وال يقبل إقراره غير المأذون له بالمال فإن أقر بعين في يده أو دين يتعلق برقبته لم يقبل على سيده لأنه يقر بحق على غيره فلم يقبل كما لو أقر أن سيده باعه ويثبت ذلك في ذمته يتبع به بعد العتق وإن أقر بجناية استوى في ذلك المأذون له وغيره وينقسم ذلك أقساما أربعة
أحدها : جناية موجبها المال كإتلافه خطأ أو شبه عمد أو جناية عمد فيما لا قصاص يه كالجائفة ونحوها فلا يقبل إقراره بها لأنه إقرار بالمال فلم يقبل كما لو أقر بدارهم أو دنانير
القسم الثاني : جناية موجبها حد سوى السرقة أو قصاص فيما دون النفس فيقبل إقراره بذلك وبه قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال زفر و داود و المزني و جرير : لا يقبل يسقط به حق السد فلا يقبل كالإقرار بجناية الخطأ
ولنا ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد عبد بإقراره بالسرقة وجلدا عبدا أقر عنده بالزنا نصف الحد ولا مخالف له في الصحابة فكان إجماعا ولأن ما لا يقبل إقرار السيد فيه على العبد يقبل فيه إقرار العبد كالطلاق ولأن العبد غير متهم فيه لأن ضرره به أخص وهو بألمه أمس فقبل إقراره كما لو أقرت به الزوجة وخرج على هذين المعنيين جناية الخطأ فإن إقرار السيد بها مقبول ولا يتضرر العبد بها
القسم الثالث : إقراره بالسرقة يقبل في الحد فيقطع ولا يقبل في المال سواء كانت العين تالفة أو باقية في يد السيد أو في يد العبد وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن لا يقطع إذا أقر بسرقة عين موجودة في يده وبهذا قال أبو حنيفة لأن العين محكوم بها لسيده فلا يقطع بسرقة عين لسيدة ولأن المطالبة بالمسروق شرط في القطع وهذه لا يملك غير السيد المطالبة بها ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولنا خبر علي رضي الله عنه ولأنه مقر بسرقة عين تبلغ نصابا فوجب قطعه كما لو أقر حر بسرقة عين في يد غيره وما ذكروه يبطل بهذه الصورة وإنما لم ترد العين إلى المسروق منه لحق السيد وأما في حق العبد فقد يثبت للمقر له ولهذا لو عتق وعادت العين إلى يده لزمه ردها إلى المقر له
القسم الرابع : الإقرار بما يوجب القصاص في النفس فروي عن أحمد أنه لا يقبل وعموم قول الخرقي أن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا أو طلق زوجته لزمه ذلك يقتضي قبول إقراره وهو قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لأنه أقر بما يوجب قصاصا فقبل كإقراره بقطع اليد ولأنه أحد نوعي القصاص فقبل إقراره به كالآخر ولأه لا يقبل إقرار سيده عليه به فقبل إقراره به كالحد واحتج أصحابنا بأن مقتضى القياس أن لا يقبل إقراره بالقصاص أصلا لأنه إقرار على مال سيده ولأنه متهم إذ يحتمل أن يكون عن مواطأة بينهم ليعفو على مال فيستحق رقبة العبد ولذلك لم تحمل العاقلة اعترافا فتركنا موجب القياس لخبر علي رضي الله عنه ففيما عداه يبقى على موجب القياس ويفارق القصاص في النفس القصاص في الطرف لأنه قد يحتمل أنه أراد التخلص من سيده ولو بفوات نفسه وكل موضع حكمنا بقبول إقراره بالقصاص فحكمه حكم الثابت بالبينة فلولي الجناية العفو والاستيفاء والعفو على مال فإن عفا تعلق الأرش برقبة العبد على ما مر بيانه ويحتمل أن لا يملك العفو على مال لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بمال

بطلان بيع الكلب ولو كان معلما وحكم قتل الكلب واقتنائه وترية الجرو وبيع الخنزير
مسألة : قال : وبيع الكلب باطل وإن كان معلما
لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل أي كلب كان وبه قال الحسن و ربيعة و حماد و الأوزاعي و الشافعي و داود وكره أبو هريرة ثمن الكلب ورخص في ثمن الكب ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد الله و عطاء و النخعي وجوز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ أثمانها وعنه رواية في الكلب العقور أنه لا يجوز بيعه واختلف أصحاب مالك فمنهم من قال : لا يجوز ومنهم من قال : الكلب المأذون في إمساكه يجوز بيعه ويكره واحتج من أجاز بيعه بما روي عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد ] لأنه يباح الانتفاع به ويصح نقل اليد فيه والوصية به فصح بيعه كالحمار
ولنا ما روى أبو مسعود الأنصاري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن ] متفق عليه وعن رافع بن خديج قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمن الكب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث ] متفق عليهما وروي عن ابن عباس أنه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ثمن الكلب فإن جاء يطلبه فاملأوا كفه ترابا ] رواه أبو داود ولأنه حيوان نهى عن اقتنائه في غر حال الحاجة إليه أشبه الخنزير أو حيوان نجس العين أشبه الخنزير فأما حديثهم فقال أحمد : هذا ن الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف وقال الدارقطني : الصحيح أنه موقوف على جابر وقال الترمذي : لا يصح إسناد هذا الحديث وقد روي عن أبي هريرة ولا يصح أيضا ويحتمل أنه أراد ولا كلب صيد وقد جاءت اللغة بمثل ذلك قال الشاعر :
( وكل أخ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان )
أي والفرقدان ثم هذا الحديث حجة على من أباح بيع غير كلب الصيد
فصل : ولا تجوز إجارته نص عليه أحمد وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يجوز لأنها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها كنفع الحمير ولنا أنه حيوان يحرم بيعه لخبثه فحرمت إجارته كالخنزير وقياسهم ينتقض بضراب الفحل فإنها منفعة مباحة ولا يجوز إجارتها ولأن إباحة الانتفاع لم تبح بيعه فكذلك إجارته ولأن منفعة لا تضمن في الغصب فإنه لو غصبه غاصب مدة لم يلزمه لذلك عوض فلم يجز أخذ العوض عنها في الإجارة كنفع الخنزير
فصل : وتصح الوصية بالكلب الذي يباح اقتناؤه لأنها نقل لليد فيه من غير عوض وتصح هبته لذلك وقال القاضي : لا تصح لأنها تمليك في الحياة أشبهت البيع والأول أصح وبفارق البيع لأنه يؤخذ عوضه وهو محرم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
مسألة : قال : ومن قتله وهو معلم فقد أساء ولا غرم عليه
أما قتل المعلم فحرام وفاعله مسيء ظالم وكذلك كل كلب مباح إمساكه لأنه محل منتفع به يباح اقتناؤه فحرم إتلافه كالشاة ولا نعلم في هذا خلافا ولا غرم على قاتله وبهذا قال الشافعي وقال مالك و عطاء : عليه الغرم لما ذكرنا في تحريم إتلافه ولنا أنه محل يحرم أخذ عوضه لخبثه فلم يجب غرمه بإتلافه كالخنزير وإنما يحرم إتلافه لما فيه من الأضرار وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الضرر والإضرار
فصل : فأما قتل ما لا يباح إمساكه فإن الكلب الأسود البهيم يباح قتله فأنه شيطان [ قال عبد الله بن الصامت : سألت أبا ذر فقلت ما بال الأسود من الأحمر من الأبيض ؟ فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سألتني فقال : الكلب الأسود شيطان ] رواه مسلم وروي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم ] ويباح قتل الكلب العقور لما روت عائشة رضي الله عنه [ أن رسول اله صلى الله عليه و سلم قال : خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحداة والعقرب والفأرة والكلب العقور ] متفق عليه ويقتل كل واحد من هذين وإن كان معلما للخبرين وعلى قياس الكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم يباح قتله لأن يؤذي بال نفع أشبه الذئب ولما لا مضرة فيه لا يباح قتله لما ذكرنا من الخبر و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أمر بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ثم نهى عن قتلها وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين فإنه شيطان ] رواه مسلم
فصل : ولا يجوز اقتناء الكلب إلا كلب الصيد أو كلب ماشية أو حرث لما روي عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط ] وعن ابن عمر قال : [ سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجر كل يوم قيراطان ] قال سالم : وكان أبو هريرة يقول : [ أو كلب حرث ] متفق عليه وإن اقتناه لحفظ البيوت لم يجز للخبر ويحتمل الإباحة وهو قول أصحاب الشافعي لأنه في معنى الثلاثة فيقاس عليها والألو أصح لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما يتناول الخبر تحريمه قال القاضي : وليس هو في معناها فقد يحتال اللص لإخراجه بشيء يطعمه إياه ثم يسرق المتاع وأما الذئب فلا يحتمل هذا في حقه ولأن اقتناء في البيوت يؤذي المارة بخلاف الصحراء
فصل : فأما تربية الجرو الصغير لأحد الأمور الثلاثة فيجوز في أقوى الوجهين لأنه قصده لذلك فيأخذ حكمه كما يجوز بيع العبد الصغر والجحش الصغير الذي لا نفع فيه في الحال لمآله إلى الانتفاع وله لو لم يتخذ الصغير ما أمكن جعل الكلب إذ لا يصير معلما إلا بالتعليم ولا يمكن تعليمه إلا بتربيته واقتنائه مدة يعلمه فيها قال الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله } ولا يوجد كلب معلم بغير تعليم والوجه الثاني : لا يجوز لأنه ليس من الثلاثة
فصل : ومن اقتنى كلبا لصيد ثم ترك الصيد مدة وهو يريد العود إليه لم يحرم اقتناؤه في مدة تركه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه وكذلك لو حصد صاحب الزرع زرعه أبيح له إمساك الكلب إلى أن يزرع زرعا آخر ولو هلكت ماشيته فأراد شراء غيرها فله إمساك كلبها لنتلفع به في التي يشتريها فأما إن اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به احتمل الجواز لأن النبي صلى الله عليه و سلم استثنى كلب الصيد مطلقا واحتمل المنع لأنه اقتناه لغير حاجة أشبه غيره من الكلاب ومعنى كلب الصيد أي كلب يصيد به وهكذا الاحتمالان فمين اقتنى كلبا ليحفظ له حرثا أو ماشية إن حصلت أو يصيد به أن احتاج إلى الصيد وليس له في الحال حرث ولا ماشية يحتمل الجواز لقصده ذلك كما لو حصد الزرع وأراد أن يزرع غيره
فصل : ولا يجوز بيع الخنزير ولا الميتة ولا الدم قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على القول به وأجمعوا على تحريم الميتة والخمر وعلى أن بيع الخنزير وشراءه حرام وذلك لما روى جابر قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بمكة يقول : إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] متفق عليه ولا يجوز بيع ما لا منفعة فهي كالحشرات كلها وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد كالأسد والذئب وما لا يؤكل ولا يصاد به من الطير كالرخم والحدأة والغراب والأبقع وغراب البين وبيضها فكل هذا لا يجوز بيعه لأنه لا نفع فيه فأخذ ثمنه أكل مال بالباطل

ولا يجوز بيع الحر وما ليس بمملوك
فصل : ولا يجوز بيع السرجين النجس وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز لأن أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير إجماعا ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة وما ذكروه فليس بإجماع فإن الإجماع اتفاق أهل العلم ولم يوجد ولأنه رجيع مجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي
فصل : ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها وملكها ولا نعلم في ذلك خلافا ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال الله عز و جل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطي بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره ] رواه البخاري

جواز بيع الفهد والصقر المعلم وكل ما فيه منفعة
مسألة : قال : وبيع الفهد والصقر المعلم جائز وكذلك بيع الهر وكل ما فيه المنفعة
وجملة ذلك أن كل مملوك أبيح الانتفاع به يجوز بيعه لا ما استثناه الشرع من الكلب وأم الولد والوقف وفي المدبر والمكاتب والزيت النجس اختلاف نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ولأن الملك سبب الإطلاق التصرف والمنفعة المباحة يباح له استيفاؤها فجاز له أخذ عوضها وأبيح لغيره بذل ماله فيها توصلا إليها ودفعا لحاجته بها كسائر ما أبيح بيعه وسواء في هذا ما كان طاهرا كالثياب والعقار وبهيمة الأنعام الخيل والصيود أو مختلفا في نجاسته كالبغل والحمار وسباع البهائم وجوارح الطير التي تصلح للصيد كالفهد الصقر والبازي والشاهين والعقاب والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغا وأشباه ذلك فكله يجوز بيعه وبهذا قال ا لشافعي وقال أبو بكر عبد العزيز و ابن أبي موسى : لا يجوز بيع الفهد والصقر ونحوهما لأنها نجسة فلم يجز بيعها كالكلب ولنا أنه حيوان أبيح قتناؤه وفي نفه مباح من غير وعيد في حبسه فأبيح بيعه كالبغل وما ذكراه يبطل بالبغل والحمار فإنه لا خلاف في إباحة بيعهما وحكمهما حكم سباع البهائم في الطهارة والنجاسة وإباحة الاقتناء والانتفاع وأما الكلب فإن الشرع توعد على اقتنائه وحرمه إلا في حال الحاجة فصارت إباحته ثباته بطريق الضرورة بخلاف غيره ولأن الأصل الإباحة بدليل قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } ولما ذكرنا في المعنى خرج منه ما استثناه الشرع لمعان غير موجودة في هذا فبقي على أصل الإباحة وأما الهر فقال الخرقي : يجوز بيعها وبه قال ابن عباس و الحسن و ابن سيرين و الحكم و حماد و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه كره ثمنها وروي ذلك عن أبي هريرة و طاوس و مجاهد و جابر بن زيد واختاره أبو بكر لما روى مسلم [ عن جابر أنه سئل عن ثمن السنور فقال : زجر النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ] وفي لفظ رواه أبو داود عن جابر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن السنور ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وفي إسناده اضطراب ولنا ما ذكرنا فيما يصاد به من السباع ويحمل الحديث على غير المملوك منها أو ما لا نفع فيه منها بدليل ما ذكرنا ولأن البيع شرط طريقا للتوصل إلى قضاء الحاجة واستيفاء المنفعة المباحة ليصل كل واحد إلى الانتفاع بما في يد صاحبه فما يباح الانتفاع به ينبغي أن يجوز بيعه
فصل : فإن كان الفهد والصقر ونحوهما مما ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لم يجز بيعه لعدم النفع به وإن كان مما يمكن تعليمه جاز بيعه لأن مآله إلى الانتفاع فأشبه الجحش الصغير
فصل : فأما ما يصاد عليه كالبومة التي يجعلها شباشا لتجتمع الطير إليها فيصديه الصياد فيحتمل جواز بيعها للنفع الحاصل منها ويحتمل المنع لأن ذلك مكروه لما فيه من تعذيب الحيوان وكذلك اللقلق ونحوه
فصل : فأما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير فإن كان مما لا نفع فيه لم يجز بيعه طاهرا كان أو نجسا وإن كان ينتفع به بأن يصير فرخا وكان طاهرا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه أصله وإن كان نجسا كبيض البازي والصقر ونحوه فحكمه حكم فرخه وقال القاضي : لا يجوز بيعه لأنه نجس لا ينتفع به في الحال وهذا ملغي بفرخه وبالجحش الصغير
فصل : قال أحمد : أكره بيع القرد قال ابن عقيل : هذا محمول على بيع للاطافة به واللعب فأما بيعه لمن ينتفع به كحفظ المتاع والد كان ونحوه فيجوز لأنه كالصقر والبازي وهذا مذهب الشافعي وقياس قول أبي بكر وابن أبي موسى المنع من بيعه مطلقا
فصل : وفي بيع العلق التي ينتفع بها مثل التي تعلق على وجه صاحب الكلف فتمص الدم والديدان التي تترك في الشص فيصاد بها السمك وجهان أصحهما : جواز بيعها لحصول نفعها فهي كالسمك والثاني : لا يجوز لأنه إلا ينتفع بها إلا نادرا فأشبهت ما لا نفع فيه
فصل : ويجوز بيع دود القز وبزره وقال أبو حنيفة في رواية عنه : إن كان مع دود القز قز جاز بيعه وإلا فلا لأنه لا ينتفع بيعه فهو كالحشرات وقيل لا يجوز بيع بزره
ولنا أن الدود حيوان طاهر يجوز اقتناؤه الملك ما خرج منه أشبه البهائم ولأن الدود ويزره طاهر منتفع به فجاز بيعه كالثوب وقول لا ينتفع بعينه يبطل بالبهائم التي لا يحصل منها نفع سوى النتاج يفارق الحشرات التي لا نفع فيها أصلا فإن نفع هذه كثير لأن الحرير الذي هو أشرف ملابس الدنيا إنما يحصل منها

جواز بيع النحل وحكم الترياق ولبن الآدميات
فصل : ويجوز بيع النحل إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها أن تمتنع وقال أبو حنيفة : لا يجوز بيعها منفردة لما ذكر في دود القز ولنا أنه حيوان طاهر يخرج من بطونها شراب فيه منافع للناس فجاز بيعه كبهيمة الأنعام واختلف أصحابنا في بيعها في كواراتها : فقال القاضي : لا يجوز لأنه لا يمكن مشاهدة جميعها ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعها معها وهو مجهول وقال أبو الخطاب : يجوز بيعها في كواراتها ومنفردة عنها فإنه يمكن مشاهدتها في كواراتها إذا فتح رأسها ويعرف كثرته من قلته وخفاء بعضه لا يمنع صحة بيعه كالصبرة وكما لو كان في وعاء فإن بعضه يكون على بعض فلا يشاهد إلا ظاهره والعسل يدخل في البيع تبعا فلا تضر جهالته كأساسات الحيطان فإن لم يمكن مشاهدة النحل لكونه مستورا بأقراصه ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته
فصل : ذكر الخرقي أن الترياق لا يؤكل لأنه يقع فيه لحوم الحيات فعلى هذا لا يجوز بيعه لان نفعه إنما يحصل بالأكل وهو محرم فخلا من نفع مباح فلم يجز بيعه كالميتة ولا يجوز التداوي به ولا بسم الأفاعي فأما السم من الحشائش والنبات فإن كان لا ينتفع به أو كان يقتل قليله لم يجز بيعه لعدم نفعه وإن انتفع به وأمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه بقية المأكولات
فصل : ولا يجوز بيع جلد الميتة قبل الدبغ قولا واحدا قاله ابن أبي موسى وفي بيعه بعد الدبغ عنه خلاف وقد روى حرب عن أحم أنه قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ثمن الكلب وأما غير ذلك نحو ريش الطير التي لها مخلب أو بعض جلود السباع التي لها أنياب فإن بيعها أسهل لأن النبي صلى الله عيه وسلم إنما نهى عن أكل لحومها والصحيح عنه أنه لا يجوز وهذا ينبني على الحكم بنجاسة جلود الميتة وأنها لا تطهر بالدباغ وقد ذكرنا ذلك في بابه
فصل : فأما في بيع لبن الآدميات فقال أحمد : أكرهه واختلف أصحابنا في جوازه فظاهر كلام الخرقي جوازه لقوله وكل ما فيه المنفعة وهذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه وهو مذهب أبو حنيفة و مالك ولأنه مائع خارج من آدمية فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه من آدمي فأشبه سائر أجزائه والأول أصح لأنه لبن طاهر منتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ويفارق العرق فإنه لا نفع فيه ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد والأمة وإنما حرم بيع الحر لأنه ليس بمملوك وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لا نفع فيه

ادلة امتلاك رباع مكة وجواز بيعها
فصل : واختلفت الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها فروي أن ذلك غير جائز وهو قول أبي حنيفة و مالك و الثوري و أبي عبيد وكرهه إسحاق لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في مكة : لا يباع رباعها ولا تكرى بيوتها ] رواه الأثرم بإسناده وعن مجاهد [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : مكة حرام بيع رباعها حرام إجارتها ] وهذا نص رواه سعيد بن منصور في سننه وروي أنها كانت تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكره مسدد في مسنده ولأنه فتحت عنوة ولم تقسم فكانت موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها والدليل على أنها فتحت عنوة قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ] متفق عليه و [ روت أم هانئ قالت : أجريت حموين لي فأراد علي أخي قتلهما فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل يا رسول الله إني أجريت حموين لي فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما فقال : النبي صلى الله عليه و سلم : قد أجرنا من أجرت أو أمنا من أمنت يا أم هانئ ] متفق عليه ولذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن صبابه وهذا يدل على أنه فتحت عنوة والرواية الثانية : أنه لا يجوز بيع رباعها وإجارة بيوتها وروي ذلك عن طاوس وعمر بن دينار وهذا قول الشافعي و ابن المنذر وهو أظهر في الحجة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قيل له أين تنزل غدا ؟ قال : [ وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟ ] متفق عليه يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب لأنه ورثه دون اخوته لكونه كان على دينه دونهما ولو كانت غير مملوكة لا أثر بيع عقيل شيئا ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانت لهم دور ملكة لأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان وسائر أهل مكة فمنهم من باع ومنهم من ترك داره فهي في يد أعقابهم وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة فقال ابن الزبير : بعت مكرمة قريش فقال ابن أخي ذهبت المكارم إلا التقوى أو كما قال : واشترى معاوية دارين واشترى عمر دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف ولم يزل أهل ملكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره ولم ينكره منكر فكان إجماعا وقد قرره النبي صلى الله عليه و سلم بنسبة دورهم إليهم فقال : [ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ] وأقرهم في دورهم ورباعهم ولم ينقل أحدا عن داره ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم وكذلك من بعده من الخلفاء حتى إن عمر رضي الله عنه مع شدته في الحق لما احتاج إلى دار السجن لم يأخذها إلا بالبيع ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأرض وما وري من الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف وأما كونها فتحت عنوة فهو الصحيح الذي لا يمكن دفعه إلا أن النبي صلى الله عليه و سلم أقر أهلها فيه على أملاكهم ورباعهم فيدل على أنه تركها لهم كما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم وعلى القول الأول من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به يسكنه ويسكنه وليس له أخذ أجرته ومن احتاج إلى مسكن فله بذل الأجرة فيه وإن احتاج إلى الشراء فله ذلك كما فعل عمر رضي الله عنه وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها فإن سكن باجرة فأمكنه أن لا يدفع إليهم الأجرة جاز له ذلك لأنهم لا يستحقونها وقد روي أن سفيان سكن في بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه وذكر لأحمد فعل سفيان فتبسم فظاهر هذا أنه أعجبه قال ابن عقيل : والخلاف ف غير مواضع المناسك أما بقاع المناسك كموضع السعي والرمي فحكمه حكم المساجد بغير خلاف
فصل : ومن بنى بناء بمكة بآلة مجلوبة من غير أرض مكة جاز بيعها كما يجوز بيع أبنية الوقوف وأنقاضها وإن كانت من تراب الحرم وحجارته انبنى جواز بيعها على الروايتين في بيع رباع مكة لأنها تابعة لمكة وهكذا تراب كل وقف وأنقاضه قال أحمد : وأما البناء بمكة فإني أكرهه قال إسحاق : البناء بمكة على وجه الاستخلاص لنفسه لا يحل وقد [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قيل له ألا تبني لك بمنى بيتا ؟ فقال : منى مناخ لمن سبق ]

بيع المصاحف والمسلم للكافر
فصل : قال أحمد : لا أعلم في بيع المصاحف رخصة ورخص في شرائها وقال : الشراء أهون وكره بيعها ابن عمر وابن عباس و أبو موسى و سعيد بن جبير و إسحاق وقال ابن عمر : وددت أن الأيدي تقطع في بيعها وقال أبو الخطاب : يجوز بيع المصحف مع الكراهة وهل يكره شراؤه وإبداله ؟ على روايتين ورخص في بيعها الحسن و الحكم و عكرمة و الشافعي وأصحاب الرأي لأن البيع يقع على الجلد والورق وبيع ذلك مباح ولنا قول الصحابة رضي الله عنهم ولم نعلم لهم مخالفا في عصرهم ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى فتجب صيانته عن البيع والابتذال وأما الشراء فهو أسهل لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لما له فيه فجاز كما أجاز شراء رباع مكة واستئجار دورها من لا يرى بيعها ولا أخذ أجرتها وكذلك أ { ض السواد ونحوها وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره مع كراهة كسبه وإن اشترى الكافر مصحفا فالبيع باطل وبه قال الشافعي وأجازه أصحاب الرأي وقالا : يجبر على بيعه لأنه أهل للشراء والمصحف محل له ولنا أنه يمنع من استدامة الملك عليه فمنع من ابتدائه كسائر ما يحرم بيعه وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم فلا يجوز تمكينهم من التوصل إلى نيل أيديهم إياه
فصل : ولا يصح شراء الكافر مسلما وهذا قول مالك في إحدى الروايتين عنه و الشافعي في أحد القولين وقال أبو حنيفة : يصح ويجبر على إزالة ملكه لأنه يملك المسلم بالإرث ويبقى ملكه عليه إذا أسلم في يده فصح شراؤه له كالمسلم ولنا أنه يمنع استدامة ملك عليه ابتداءه كالنكاح ولأنه عقد يثبت الملك على المسلم للكافر فلم يحص كالنكاح والملك بالإرث والاستدامة أقوى من ابتداء الملك بالفعل والاختيار بدليل ثبوته بهما للمحرم في الصيد مع منعه من ابتدائه فلا يلزم من ثبوت الأقوى ثبوت ما دونه مع اننا نقطع الاستدامة عليه بمنعه منها وإجباره على إزالتها
فصل : ولو وكل كافر مسلما في شراء مسلم لم يصح الشراء لأن الملك يقع للموكل ولأن الموكل ليس بأهل لشرائه فلم يصح أن يشتري له كما لو وكل مسلم ذميا في شراء خمر ؟ وإن وكل المسلم كافرا يشتري له مسلما فاشتراه ففيه وجهان أحدهما : يصح لأن المنع منه إنما كان لما فيه من ثبوت ملك الكافر على المسلم والملك يثبت للمسلم ههنا فلم يتحقق المانع والثاني : لا يصح لأن ما منع من شرائه مع التوكيل فيه كالمحرم في شراء الصيد والكافر في نكاح المسلمون والمسلم لا يجوز أن يكون وكيلا لذمي في شراء خمر
فصل : وإن اشترى الكافر مسلما يعتق عليه بالقرابة كأبيه وأخيه صح الشراء وعتق عليه في قول بعض أصحابنا وحكى فيه أبوالخطاب روايتين إحداهما : لا يصح وهو قول بعض الأصحاب لأنه شراء يملك به المسلم فلم يصح كالذي لا يعتق عليه ولأن ما منع من شرائه لم يبح له شراؤه وإن زال ملكه عقيب الشراء كشراء المحرم الصيد والثانية : يصح شراؤه لأن المنع إنما ثبت لما فيه من إهانة المسلم بملك الكافر له والملك ههنا ويزول عقيب الشراء بالكلية ويحصل من نفع الحرية أضعاف ما حصل من الاهانة بالملك في لحظة يسير ويفارق من لا يعتق عليه فإن ملكه لا يزول إلا بإزالتهن وكذلك شراء المحرم للصيد فإنه لو ملك لثبن ملكه ولم يزل ولو قال كافر لمسلم : أعتق عبدك عني وعلي ثمنه ففعل صح لأن إعتاقه ليس بتمليك وإنما هو إبطال للرق فيه وإنما حصل الملك فيه حكما فجاز كما يملكه بالإرث حكما ولأن ما يحصل له بالحرية من النفع ينغمر فيه ما يحصل من الضرر بالملك فيصير كالمعدوم وفيه وجه آخر أنه لا يصح بناء على شراء قريبة المسلم

استئجار الكافر المسلم والتفرقة بالبيع بين ذوي الرحم المحرم
فصل : ولو أجر مسلم نفسه لذمي لعمل ي ذمته صح لأن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من يهودي يستقي له كل دلو بتمرة وأتى بذل كالنبي صلى الله عليه وسم فأكل هو فعل ذل كرجل من الأنصار وأتى به النبي صلى الله عليه و سلم فمل ينكره ولأنه لا صغر عليه في ذلك وإن استأجره في مدة كيوم أو شهر فيه وجها أحدهما : لا يصح لأن فيه استيلاء عليه وصغارا أشبه الشراء والثاني : يصح وهو أولى لأن ذلك عمل في المقابلة عوض أشبه العمل في ذمته ولا يشبه الملك لأن الملك يقتضي سلطانا وتصرفا بأنواع التصرفات في رقبته بخلاف الإجارة
فصل : ولا يجوز أن يفرق في البيع بين كل ذي رحم به قال أبو حنيفة وقال مالك لا يحرم التفريق إلا بين الأم وولدها ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بنيه وبين أحبته يوم القيامة ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وقال : [ لا توله والدة عن ولدها ] فخصها بذلك فدل على الإباحة فيما سواه وقال الشافعي : يحرم بين الوالدين والمولودين وإن سفلوا ولا يحرم بين من عداهم لأن القرابة التي بينهم لا تمنع القصاص ولا شهادة بعضهم لبعض فلم يمنع التفريق في البيع كابني العلم ولنا ما روي أحمد في المسند ثنا غندر ثنا سعيد بن أبي عروبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى [ عن علي رضي الله قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما ففرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : ادركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا ] وروي عن أبي موسى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها والأخ وأخيه ] ولأن بينهما رحما محرما فلم يجز بينهما كالولد مع أمه ويفارق ابني العم فإنه ليس بينها رحم محرم
فصل : فإن فرق بينهم قبل البلوغ فالبيع باطل وبه قال الشافعي فيما دون السبع وقال أبو حنيفة : البيع صحيح لأن النهي لمعنى في غير البيع وهو الضرر اللاحق بالتفريق فلم يمنع صحة البيع كالبيع وفي وقت النداء ولنا حديث علي وأن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بردهما ولو لزم البيع لما أمكن ردهما وروى أبو داود في سننه أن عليا فرق بين الأم وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم فرج المبيع ولأنه بيع محرم لمعنى فيه ففسد كبيع الخرم لو لا يصح ما قاله فإن ضرر التفريق حاصل بالبيع فكان لمعنى فيه فأما تحديده بالسبع فإن عموم اللفظ يمنع ذلك ولا يجوز تخصيصه بغير دليل وإن كان فرق بنيهم ابعد البلوغ جاز وقال أبو الخطاب : فيه روايتان إحداهما : لا يجوز لعموم النهي والثانية : يجوز وهي الصحيحة لما [ روي أن سلمة بن الأكوع أتى أبا بكر بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه و سلم فوهبها له وأهدى إلى النبي صلى الله عليه و سلم مارية وأختها سيرين فأعطى النبي صلى الله عليه و سلم لحسان بن ثابت وترك مارية له ] ولأنه بعد البلوغ يصير مستقلا بنفسه والعادة التفريق بين الأحرار فإن المرأة تزوج ابنتها ويفرق بين الحرة وولدها إذا افترق الأبوان

الشراء ممن في ماله وحرام وحلال كالسلطان الظالم والمرابي
فصل : وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال كالسلطان الظالم والمراب فإ علم أن المبيع من حلال ماله فهو حلال وإن علم أنه حرام فهو حرام ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم لأن الظاهر إنما في يد الإنسان ملكه فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع لإمكان الحلال قل الحرام أو كثر وهذا هو الشبهة وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون الشبهة وقلتها قال أحمد : لا يعجبني أن يأكل منه لما روى النعمان بن بشير [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه ] متفق عليه وهذا لفظ رواية مسلم وفي لفظ رواية البخاري [ فمن ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من المأثم أوشك أن يواقع ما استبان ] وروى الحسن بن علي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] وهذا مذهب الشافعي
فصل : والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب : ما أصله الحظر كالذبيحة في بله فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون فلا يجوز شراؤها وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلما لأن الأصل التحريم فلا يزول إلا بيقين أو ظاهر وذلك إن كان فيها اخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك والأصل فيه حديث عدي ابن حاتم [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا أرسلت كلبك فخالط أكلبا لم يسم عليها فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتله ] متفق عليه فأما إن كان ذل كفي بلد الإسلام فالظاهر إباحتها لأن المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع ما لا يحل بيعه ظاهرا والثاني : ما أصله الإباحة كالماء يجده متغيرا لا يعلم أبنجاسه تغير أم بغيرها فهو طاهر في الحكم لأن الأصل الطهارة فلا تزول عنها إلا بيقين أو ظاهر ولم يوجد واحد منهما والأصل في ذلك حديث عبد الله بن زيد قال : [ شكي إلى النبي صلى الله عليه و سلم الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشيء قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ] متفق عليه الثالث : مالا يعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام فهذا هو الشبهة التي الأولى تركها على ما ذكرنا وعملا بما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه وجد تمرة ساقطة فقال : لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها ] وهو من باب الورع
فصل : وكان أحمد رحمه الله لا يقبل جوائز السلطان وينكر على ولده وعمه قبولها ويشدد في ذلك وممن كان لا يقبلها سعيد بن المسيب و القاسم و بشر بن سعيد و محمد بن واسع و الثوري و ابن المبارك وكان هذا منهم على سبيل الورق والتوقي لا على أنها حرام فإن أحمد قال : جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة وقال : ليس أحد من المسلمين إلا لوله في هذا الدراهم نصيب فيكيف أقول أنها سحت وممن كان يقبل جوائزهم ابن عمر و ابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة مثل الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ورخص في الحسن البصري ومكحول و الزهري و الشافعي واحتج بعضهم بأن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعاما ومات ودرعه مرهونة عنده وأجاب يهوديا دعاه وأكل من طعامه
وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون للسحت وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا بأس بجوائز السلطان فإن ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام قال : لا يسأل السلطان شيئا وإن أعطى فخذ فإن ما في البيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام
قال أحمد رحمه الله فيمن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام يتصدق بالثلاثة وإن كان معه مائتا درهم فيها عشرة حرام يتصدق بالعشرة لأنه هذا كثر وذاك قليل فقيل له : قال سفيان ما كان دون العشرة يتصدق به وما كان أكثر يخرج قال : نعم لا يجحف به قال القاضي : وليس هذا على سبيل التحديد وإنما هو على طريق الاختيار لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام وشق التورع عن الجميع بخلاف القليل فإنه يسهل إخراج الكل والواجب في الموضعين إخراج قدر الحرام والباقي مباح له وهذا لأن التحريم لم يكن لتحريم عينه وإنما حرم لتعق حق غيره به فإذا أخرج عوضه زال التحريم عنه كما لو كان صاحبه حاضرا فرضي بعوضه وسواء كان قليلا أو كثيرا والورع إخراج ما يتقين به إخراج عين الحرام ولا يحصل ذلك إلا بإخراج الجميع لكن لما شق ذلك في الكثير ترك لأجل المشقة فيه واقتصر على الواجب ثم يختلف هذا باختلاف الناس فمنهم نم لا يكون له إلا الدراهم اليسيرة فيشق إخراجها لحاجته إليها ومنهم من يكون له مال كثير فيستغني عنها فيسهل إخراجها

أحكام بيع ماء العيون والآبار والكلأ
فصل : قد ذكرنا أن الظاهر من المذهب لا يجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون ونقع البئر في أماكنه قبل إحرازه في إنائه ولا الكلأ في مواضعه قبل حيازته فعلى هذا متى باع الأرض وفيها كلأ أو ماء فلا حق للبائع فيه وقد ذكرنا رواية أخرى أن ذلك مملوك وأنه يجوز بيعه فعلى هذه الرواية إن باع الأرض فذكر الماء والكلأ في البيع دخل فيه وإن لم يذكره كان الماء الموجود والكلأ للبائع لأنه بمنزلة الزرع في الأرض والماء أصل بنفسه فهو كالطعام في الدار فما يتجدد بعد البيع فهو للمشتري وعلى هذه الرواية إذا باع من هذا الماء آصعا معلمة جاز لأنه كالصبرة وإن باع كل ماء البئر لم يجز لأنه مختلط بغيره ولو باع من النهر الجاري آصعا لم يجز لأن ذلك الماء يذهب ويأتي غيره
فصل : وعلى كلتا الروايتين متى كان الماء النابع في ملكه أو الكلأ أو المعادن وفق كفايته لشربه وشرب ماشيته لم يجب عليه بذله نص عليه لأنه في ملكه فإذا تساوي هو وغيره ف الحاجة كان أحق به كالطعام وإنما توعد النبي صلى الله عليه و سلم على منع فضل الماء ولا فضل في هذا ولأن عليه في بذله ضررا ولا يلزمه نفع غيره بمضرة نفسه وإن كان فيه فضل عن شربه وشرب ماشيته وزرعه واحتاجت إليه ماشية وزعه واحتاجت إليه ماشية يغره لزمه بذله بغر عوض ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب ويسقي ماشيته وليس لصاحبه المنع من ذلك لما روى إياس بن عبد الله المزني [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن تسأل المرأة طلاق أختها ونهى أن يمنع الماء مخافة أن يرعى الكلأ ] يعني إذا كان في ملكا كلأ وليس يمكنه الإقامة لرعية إلا بالسقي من هذا الماء فيمنعهم السقي ليتوفر الكلأ عليه وروى أبو عيبدة بإسناده عن عمر أنه قال ابن السبيل أحق بالماء من الباني عليه وعن أبي هريرة قال : ابن السبيل أول شارب و [ عن بهيسة قالت : قال أبي يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال : الماء قال يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه ؟ قال : الملح ] وليس عليه بذل آلة البئر من الحبل والدلو والبكرة لأنه يخلق ولا يستخلف غيره بخلاف الماء وهذا كله هو الظاهر من مذهب الشافعي ولا فرق فيما ذكرنا بين البنيان والصحاري وعن أحمد أنه قال : نما هذا في الصحاري والبرية دون البنيان يعني أن البنيان إذا كان فيه الماء فليس لأحد الدخول إليه إلا بإذن صاحبه

بيع فضل الماء
فصل : وهل يلزمه بذل فضل مائة لزرع غيره ؟ فيه روايتان إحداهما : لا يلزمه وهو مذهب الشافعي لأن الزرع لا حرمة له في نفسه ولهذا لا يجب على صاحب سقيه بخلاف الماشية والثانية : يلزمه بذله لذلك لما روي عن عبد الله بن عمر أن قيم أرضه بالوهط كتب إليه يخبره أنه قد سقى أرضه وفضل له من الماء فضل يطلب بثلاثين ألفا فكتب إليه عبد الله بن عمرو أقم قلدك ثم أسق الأدنى فالادنى فإني سعمت رسول الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء قال أبو عبيد : القلد يوم الشرب وفي المسند ثنا حسن قال : حدثنا حماد بني سلمة عن أبي الزبير عن جابر قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن بيع فضل الماء ] وروى إياس بن عبد الله : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يمنع فضل الماء ] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي لفظ حرمه فلا يجوز التسبب إلى إهلاك ماله ويحتلم أي منع نفي الحرمة عنه فإن إضاعة المال منهي عنه وإتلافه محرم وذلك دليل على حرمته

أحكام من قضى عن غيره الثمن فبان المبيع مستحقا
فصل : وإذا اشترى عبدا بمائة فقضاها عند غيره صح سواء قضاه بأمره أو غيره أمره فإن بان العبد مستحقا لزم رد المائة إلى دفعها لأنه تبينا أنه قبض غير مستحق فكأن المائة لم تخرج من يد دافعها وإن بأن العبد معيبا فرده بالعيب أو بإقالة أو أصدق امرأة إنسان شيئا فطلقها الزوج قبل دخوله بها أو ارتدت فهل يلزم رد المائة إلى دافعها أو على المشتري والزوج ؟ يحتمل وجهين أحدهما : على الدافع لأن القبض حصل منه فالرد عليه كالتي قبلها والثاني : على الزوج والمشتري لأن قضاءه بمنزلة الهبة لهما بدليل براءة ذمتها منه والهبة المقوضة لا يجوز الرجوع فيها وإن كان الدفع بإذن المشتري والزوج احتمل أن يكون الحكم فيه كم لو قضاه بغير إذنه إذا كان فعل ذلك على سبيل التبرع عليه واحتمل أن يكون رده على الزوج والمشتري إذا كان عقدهما صحيحا بكل حال لأن إذنهما في تسليمه إلى من له الدين عليهما إذا اتصل به القبض جرى مجرى قبوله وقضه بخلاف ما إذا لم يأذن وإن أذنا في دفع ذلك عنهما قرضا فإن الرد يكون عليهما والمقرض يرجع عليهما بعوضه
فصل : إذا قال العبد لرجل : ابتعني من سيدي ففعل فبان العبد معتقا فالضمان على السيد نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة إن كان السيد حاضرا حين غره العبد وإن كان غائبا فالضمان على العبد لأن الغرور منه ولنا أن السيد قبض الثمن بغير استحقاق وضمن العهدة فكان الضمان عليه كما لو كان حاضرا وإن بان العبد مغصوبا أوبه عيب فرده فالضمان على السيد لما ذكرنا
فصل : وإن اشترى اثنان عبدا فغالب أحدهما وجاء الآخر يطلب نصيبه منه فله ذلك وقال أبو حنيفة ليس له ذلك لأنه لا يمكنه تسليمه إلا بتسليم نصيب الغائب وليس له تسليمه بغير إذنه قال الحاضر : أنا أدفع جميع الثمن ويدفع إلي جميع العبد لم يكن له ذلك وقال أبو حنيفة له ذلك
ولنا شريكه لم يأذن للحاضر في قبض نصيبه ولا للبائع في دفعه إليه فلم يمن لهما ذلك كما لو كانا حاضرين فإن سلم إليه فتلف العبد فللغائب تضمن أيهما شاء لأن الدافع فرط بدفع ماله بغير إذنه والشريك قبض مال غيره بغير إذنه فإن ضمن الشريك لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه وإن ضمن الدافع رجع على القابض لذلك ويقوى عندي أنه إذا لم يمكن تسليم نصيب أحد المشترين إليه بتسليم نصيب صاحبه أنه لا يجوز التسليم إليه لما ذكرنا ههنا

استحباب الاشهاد في البيع وكراهة البيع والشراء في المسجد
فصل : ويستحب الإشهاد في البيع لقول الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وأقل أحوال الأمر الاستحباب ولأنه أقطع للنزاع وأبعد من التجاحد فكان أولى ويختص ذلك بما له خطر فأما الاشباء القليلة الخطر كحوائج البقال والعطار وشبههما فلا يستحب ذلك فيها لأن العقود فيها تكثر فيشق الإشهاد عليها وتقبح إقامة البينة عليها والترافع إلى الحاكم من أجلها بخلاف الكثير وليس الإشهاد بواجب في واحد منهما ولا شرطا له روي عن أبي سعيد الخدري وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي و إسحاق و أبي أيوب وقالت طائفة ذلك فرض لا يجوز تركه روي ذلك عن ابن عباس وممن رأي الإشهاد على البيع عطاء وجابر بن زيد و النخعي لظاهر الأمر ولأنه عقد معاوضة فيجب الإشهاد عليه كالنكاح
ولنا قول الله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } قال أبو سعيد : صار الأمر إلى الأمانة وتلا هذه الآية ولأن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه واشترى من رجل سراويل ومن أعرابي فرسا فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت ولم ينقل أنه شهد في شيء من ذلك وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالإشهاد ولا نقل عنهم فعله ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه و سلم ولو كانوا يشهدون في كل بياعاتهم لما أخل بنقله وقد أمر النبي صلى الله عليه مسلم عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية ولم يأمره بالإشهاد وأخبره عروة أنه اشترى شاتين فباع إحداهما ولم ينكر عليه ترك الإشهاد ولأن المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها فلو وجب الإشهاد في كل ما يتبايعونه أفضى إلى الحرج المحطوط عنا بقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } والآية المراد بها الإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم كما أرم بالرهن والكاتب وليس ذلك بواجب وهذا ظاهر
فصل : ويكره البيع والشراء في المسجد به قال إسحاق لما روى أبو هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك ] وقال الحديث حسن غريب ولأن المساجد لم تبن لهذا ورأى عمران القصير رجلا يبيع في المسجد فقال هذه سوق الآخر فإن أردت التجارة فاخرج إلى سوق الدنيا فإن باع فالبيع صححي لأن البيع تم بأركانه وشرطه ولم يثبت وجود مفسد له وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية وفي قول النبي صلى الله عليه و سلم قولوا : [ لا أربح الله تجارتك ] من غير اخبار بفساد البيع دليل على صحته والله أعلم

باب السلم
وهو أن يسلم عوضا حاضرا في عضو موصوف في الذمة إلى أجل ويسمى سلما وسلفا يقال أسلم وأسلف وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد بما ينعقد به البيع وبلفظ السلم والسلف ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى ك { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } وروى سعيد بإسناده عن ابن عباس أنه قال أشبه أن السف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ هذه الآية ولأن هذا اللفظ يصلح للسلم ويشمله بعمومه وأما السنة فروى ابن عباس [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ] متفق عليه وروي البخاري [ عن محمد بن أبي المجالد قال : أرسلني أبو بردة وعبدالله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزي وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا : كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يأتينا انباط من انباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقلت أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك ] وأما الإجماع فقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسلم جائز ولأن المثمن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن ولأن الناس حاجة إليه لأن أرباب الزروع والثمار والتجارات يحتاجون إلى النفقة على أنفسهم وليها لتكمل وقد تعوزهم النفقة فجوز لهم السلم ليرتفقوا ويرتفق المسلم بالاسترخاص

وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز
وجملة ذلك أن السلم لا يصح إلا بشروط ستة
أحدهما : أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافهما ظاهرا فيصح في الحبوب والثمار والدقيق والثياب والابريسم والقطن والكتان والصوف واشعر والكاغد والحديد والرصاص والصفر والنحاس والأدوية والطيب والخلول والأدهان والشحوم والألبان والزئبق والشب والكبريت والكحل وكل مكيل أو موزون أو مزروع وقد جاء الحديث في الثمار وحديث ابن أبي أوفى في الحنطة والشعير والزبيب والزيت وأجمع أهل العلم على أن السلم في الطعام جائز قاله ابن المنذر وأجمعوا على جواز السلم في الثياب ولا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة كالجوهر من اللؤلؤ والياقوت والفيرزج والزبرجد والعقيق والبلور لأن أثمانها تختلف اختلافا متباينا بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة ضوئها وصفاتها ولا يمكن تقديرها ببيض العصفور ونحوه لأن ذلك يختلف ولا بشيء معين لأن ذلك يتلف وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن مالك صحة السلم فيها إذا اشترط منها شيئا معلوما وإن كان وزنا فبوزن معروف والذي قلناه أولى لما ذكرنا ولا يصح فيما يجمع اخلاطا مقصودة كالغالية والند والمعاجين التي يتداوى بها لجهل بها ولا في الحوامل من الحيوان لأن الولد مجهول غير متحقق ولا في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط لأن الصفة لا تأتي عليه وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيه إذا ضبط بارتفاع حائطه ودور أعلاه وأسلفه لأن التفاوت في ذلك يسير ولا يصح في القصي المشتملة على الخشب والقرن والعضب والتوز إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك ويميز ما فيه منها وقيل يجوز السلم فيها والأولى ما ذكرنا قال القاضي : والذي يجمع اخلاطا على أربعة أضرب أحدها : مختلط مقصود متميز كالثياب المنسوجة من قطن وكتان أو قطن وإبريسم فيصح السلم فيها لأن ضبطها ممكن الثاني : ما خلطه لمصلحته وليس بمقصود في نفسه كالأنفحة في الجبن والملح في العجين والخبز والماء في خل التمر والزبيب فيصح السلم فيه لأنه يسير لمصلحته الثالث : أخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية والند والمعاجين فلا يصح السلم فيها لأن الصفة لا تأتي عليها الرابع : ما خلطه غير مقصود ولا مصلحة فيه كاللبن المشوب بالماء فلا يصح السلم فيه

ما يصح السلم فيه وما لا يصح
فصل : ويصح المسلم في الخبز واللبأ ما أمكن ضبطه مما مسته النار وقال الشافعي : لا يصح السلم في معمول بالنار لأن النار تختلف ويختلف عملها ويختلف الثمن بذلك ولنا قوله عليه السلام : [ من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم ] فظهر هذا إباحة السلم في كل مكيل وموزون ومعدود ولأن عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة فصح السلم فيه كالمجفف بالشمس فأما اللحم المطبوخ والشواء فقال القاضي : لا يصح السلم فيه وهو مذهب الشافعي لأن ذلك يتفاوت كثيرا وعادت الناس فيه مختلفة فلم يمكن ضبطه وقال بعض أصحابنا : يصح السلم فيه لما ذكرنا في الخبز واللبأ
فصل : ويصح السلم في النشاب والنبل وقال القاضي : لا يصح السلم فيها وهو مذهب الشافعي لأنه يجمع اخلاطا من خشب وعقب وريش ونصل فجرى اخلاط الصيادلة ولأن فيه ريشا نجسا لأن ريشه من جوارح الطير ولنا أنه مما يصح بيعه ويمكن ضبطه بالصفات التي لا يتفاوت الثمن معها غالبا فصح السلم فيه كالخشب والقصب وما فيه من يغره متميز يمكن ضبطه والإحاطة به ولا يتفاوت كثيرا فلا يمنع كالثياب المنسوجة من جنسين وقد يكون الريش طاهرا وإن كان نجسا لكن يصح بيعه فلم يمنع السلم فيه كنجاسة البغل والحمار
فصل : واختلفت الرواية في السلم في الحيوان فروي لا يصح السلم فيه وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عمر و ابن مسعود و حذيفة و سعيد بن جبير و الشعبي و الجوزجاني لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أن من الربا أبوابا لا تخفي وإن منها السلم في السن ولأن الحيوان يختلف اختلاف متباينا فلا يمكن ضبطه وإن استقصى صفاته التي تختلف بها الثمن - مثل أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الأنف أشم العرنين أهدب الأشفار ألمى الشفة بديع الصفة تعذر تسليمه لندرة وجوده على تلك الصفة وظاهر المذهب صحة السلم فيه نص عليه في رواية الأثرم قال ابن المنذر : وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر و سعيد بن المسيب و الحسن و الشعبي و مجاهد و الزهري و الأوزعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وحكاه الجوزجاني عن عطاء والحكم لأن أبا رافع قال : [ استسلف النبي صلى الله عليه و سلم من رجل بكرا ] رواه مسلم و [ روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ابتاع البعير بالبعيرين وبالابعرة إلى مجيء الصدقة ] وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الربا ولأنه ثبت في الذمة صداقا فثبت في السلم كالثياب فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف ثم هو محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني عفلان قال الشعبي : إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان لأهم اشترطوا نتاج فحل معلوم رواه سعيد وقد روي عن علي أنه باع جملا له يدعى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل ولو ثبت قول عمر في تحريم السلم في الحيوان فقد عارضه قول سمينا ممن وافقنا
فصل : واختلفت الرواية في غر الحيوان مما لا يكال ولا يوزن ولا يزرع فنقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أنه قال : لا أرى السلم إلا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه قال أبو الخطاب : معناه يوقف عليه بحد معلوم لا يختلف كالزرع فأما الرمان والبيض فلا أرى السلم فيه وحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق أنه لا خير في السلم في الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء والخيار لأنه لا يكال ولا يوزن ومنه الصغر والكبير فعلى هذا الرواية لا يصح السلم في كل معدود مختلف كالذي سميناه وكالبقول لأنه يختلف ولا يمكن تقدير البقل بالحزم لأن الحزم يمكن في الصغير والكبير فلم يصح السلم فيه كالجواهر ونقل إسماعيل بن سعي وبان منصور جواز السلم في الفواكه والسفرجل والرمان والموز والخضراوات ونحوها لأن كثيرا من ذلك مما يتقارب وينبضبط بالصغر والكبر وما لا يتقارب ينبضط بالوزن كالبول ونحوها فصح السلم فيه كالمزروع وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و الاوزاعي وحكى ابن المنذر عن الشافعي المنع من السلم في البيض والجوز ولعل هذا قول آخر فيكون له في ذلك قولان
فصل : فأما السلم في الرؤوس والأطراف فيخرج في صحة السلم فيها الخلاف الذي ذكرنا وللشافعي فيها قولان أيضا كالروايتين أحدهما : يجوز وهو قول مالك و الأوزاعي و أبي ثور لأنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه كبقية اللحم والآخرة : لا يجوز وهو قول أبي حنيفة لأن أكثره العظام والمشافر واللحم فيه قليل وليس بموزون بخلاف اللحم فإن كان مطبوخا أو مشويا فقال الشافعي : لا يصح السلم فيه وهو قياس قول القاضي لأنه يتناثر ويتلف وعلى قول غير القاضي من أصحابنا حكم ما مسته النار من ذلك حكم يغره وبه قال مالك و الأوزاعي و أبو ثور والعقد يقتضيه سليما من التأثر والعادة في طبخه تتفاوت فأشبه غيره
فصل : وفي الجلود من الخلاف مثل ما في الرؤوس والأطراف وقال الشافعي : لا يصح السلم فيه لأنها تختلف فالورك ثخين قوي والصدر ثخين رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر أقوى فيحتاج إلى وصف كل موضع منه ولا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه
ولنا أن التفاوت في ذلك معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه كالحيوان فإنه يشتمل على الرأس والجلد والأطراف واللحم والشحم وما في البطن وكذل الرأس يشتمل على لحم الخدين والأذنين والعينين ويختلف ذلك ولم يمنع صحة السلم فيه كذا ههنا
فصل : ويصح السلم في اللحم وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز لأنه يختلف ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم ] وظاهرة إباحة السلم في ك موزون ولأننا قد بينا جواز السلم في الحيوان فاللحم أولى

أن يضبطه لصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرا
الشرط الثاني : أن يضبطه بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهرا فإن المسلم فيه عوض في الذمة فلا بد من كونه معلوما بالوصف كالثمن ولأن العلم شرط في المبيع وطريقه أما الرؤية وأما الوصف والرؤية ممتنعة ههنا فيتعين الوصف والأوصاف على ضربين : متفق على اشتراطها ومختلف فيها فالمتفق عليها ثلاثة أوصاف :
الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه لا بد منها في كل مسلم فيه ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في اشتراطها وبه يقول أبو حنيفة و مالك و الشافعي
الضرب الثاني : ما يختلف الثمن باختلافه مما عدا هذه الثلاثة الأوصاف وهذه تختلف باختلاف المسلم فيه ونذكرها عند ذكره وذكرها شرط في السلم عند إمامنا و الشافعي وقال أبو حنيفة : يكفي ذكر الأوصاف الثلاثة لأنها تشتمل على ما وراءها من الصفات ولنا أنه يبقى من الأوصاف نم اللون والبلد ونحوهما ما يختلف الثمن والغرض لأجله فوجب ذكره كالنوع
ولا يجب استقصاء كل الصفات لأن ذلك يتعذر وقد ينتهي الحال فيها إلى ما أمر يتعذر تسليم المسلم فيه إذ يبعد وجود المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة التي تختلف الثمن بها ظاهرا ولو استقصى الصفات حتى انتهى إلى حال يندر وجود المسلم فيه بتلك الأوصاف بطل السلم لأن من شرط السلم أن يكون المسلم فيه عام الوجود عند المحل واستقصاء الصفات يمنع منه ولو شرط الأجود لم يصح أيضا لأنه لا يقدر على الأجود وإن قدر عليه كان نادرا وإن شرط الأردأ احتمل أن لا يصح لذلك واحتمل أن يصح لأن يقدر على تسليم ما هو خير منه فإنه لا يسلم شيئا إلا كان خيرا مما شرطه فلا يعجز إذا عن تسليم ما يجب قبوله بخلاف التي قبلها ولو أسلم في جارية وابنتها لم يصح لأنه لا بد أن يضبط كل واحدة منهما بصفات ويتعذر وجود تلك الصفات في جارية وابنتها وكذلك إن أسلم في جارية وأختها أو عمتها أو خالتها أو ابنة عمها لما ذكرنا ولو أسلم في ثوب على صفة خرقة أحضرها لم يجز الجواز أن تهلك الخرقة وهذا غرر ولا حاجة منه فمنع الصحة كما لو شرط مكيالا بعينه أو صنجة بعينها

الجنس والجودة شرطان في كل مسلم فيه
فصل : والجنس والجودة أو ما يقوم مقامهما شرطان في كل مسلم فيه فلا حاجة إلى تكرير ذكرهما في كل مسلم فيه ويذكر ما سواهما فيصف التمر بأربعة أصاف النوع برني أو معلقي البلد إن كان يختلف فيقول بغدادي أو بصري فإن البغدادي أحلى وأقل بقاء لعذوبة الماء والبصري بخلاف ذلك والقدر كبار أو صغار وحديث أو عتيق فإن أطلق العتق فأي عتيق أعطي جاز ما لم يكن مسوسا ولا حشفا ولا متغيرا وإن قال عتيق عام أو عامين فهو على ما قال فأما اللون كان النوع الواحد مختلفا كالطبرز يكون أحمر أسود ذكره وإلا فلا والرطب كالتمر في هذه الأوصاف إلا الحديث والعتيق ولا يأخذ من الرطب إلا ما أرطب كله ولا يأخذ منه مشدخا ولا قديما قارب أن يتمر وهكذا ما جرى مجراه من العنب والفواكه

ما يوصف به التمر والبر والعسل والحيوان
فصل : ويصف البر بأربعة أوصاف النوع فيقول سبيلة أو سلموني والبلد فيقول حوراني أو بلقاوي أو سمالي وصغار الحب أو كباره وحديث أو عتيق وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره ولا يسلم فيه إلا مصفى وكذلك الحكم في الشعير والقطنيات وسائر الحبوب
فصل : ويصف العسل بثلاثة أوصاف البلد فيجي أو نحوه ويجزئ ذلك عن النوع والزمان ربيعي أو خريفي أو صيفي واللون أبيض أو أحمر وليس له إلا مصفى من الشمع
فصل : ولا بد من الحيوان كله من ذكر النوع والسن والذكورية والأنوثية ويذكر اللون إن كان النوع الواحد يختلف ويرجع في سن الغلام إليه إن كان بالغا وإن كان صغيرا فالقول قول سيده وإن لم يعلم في قوله أهل الخبرة على ما يغلب على ظنونهم تقريبا وإذا ذكر النوع في الرقيق وكان مختلفا مثل التركي منهم الجلكي والخزري فهل يحاج إلى ذكره أو يكفي ذكر النوع ؟ يحتمل وجهين ولا يحتاج في الجارية إلى ذكر البكارة والثيوبة ولا الجعودة والسبوطة لأن ذلك لا يختلف به الثمن اختلافا بينا ومثل ذلك لا يراعى كما صفات الحسن والملاحة فإن ذكر شيئا من ذلك لزمه ويذكر الثيوبة والبكارة قال أحمد : خماسي سداسي أسود أبيض أعجمي أو فصيح فأما الإبل فيضبطها بأربعة أوصاف فيقول نتاج بني فلان والسن بنت مخاض أو بنت لبون واللون بيضاء أو حمراء أو ورقاء وذكر أو أنثى فإن كان النتاج يختلف فهل مهرية وأرحبية فهل يحتاج إلى ضبط ذلك ؟ يحتمل وجهين ما زاد على هذه الأوصاف لا يفتقر إلى ذكره وإن ذكر بعضه كان تأكيدا ولزمه وأوصاف الخيل كأوصاف الإبل وأما البغال والحمير فلا نتاج لها فيجعل مكان ذلك نسبتها إلى بلدها وأما البقر والغنم فإن عرف لها نتاج فهي كالإبل وإلا فهي كالحمر ولا بد من ذكر النوع في هذه الحيوانات فيقول في الإبل بختية أو عرابية وفي الخيل عربية أو هجين أو برذون وفي الغنم ضأن أو معز إلا الحمر والبغال فلا نوع فيهما

وصف الأنعام والخيل واللحم بالسلم
فصل : ويذكر في اللحم السمن والذكورية والأنوثية والسمن والهزال وراعيا أو معلوفا ونوع الحيوان وموضع اللحم منه ويزيد في الذكر فحلا أو خصيا وإن كان من صيد لم يحتج إذا ذكر العلف والخصاء ويذكر الآلة التي يصاد بها من جارحة أو أحبولة وفي الجارحة يذكر صيد فهد أو كلب أو صقر فإن الأحبولة يؤخذ الصيد منها سليما وصد الكلب خير من صيد الفهد لكون الكلب أطيب الحيوان نكهة قيل لكونه مفتوح الفم في أكثر الأوقات والصحيح إن شاء الله إن هذا ليس بشرط لأن التفاوت فيه يسير ولا يكاد الثمن يتباين باختلافه ولا يعرفه إلا القليل من الناس وإذا لم يحتج في الرقيق إلى ذكر البكارة والثيوبة والسمن والهزال وأشباهها مما يتباين بها الثمن وتختلف الرغبات بها ويعرفها الناس فهذا أولى ويلزم قبول اللحم بعظامه لأنه هكذا يقطع فهو كالنوى في التمر وإن كان السلم في لحم طير لم يحتج إلى ذكر الذكورية والأنوثية إلا أن يختلف بذلك كلحم الدجاج ولا إلى ذكر موضع الحم إلا أن يكون كثيرا يأخذ منه بعضه ولا يلزمه قبول الرأس والساقين لأنه لا لحم عليها وفي السمك يذكر النوع بردي أو غيره والكبر والصغر والسمن والهزال الطري والملح ولا يقبل الرأس والذنب وله ما بينهما وإن كان كثيرا يأخذ بعضه ذكر وضع اللحم منه

ما يضبط به السمن والثياب
فصل : ويضبط السمن بالنوع من ضأن أو معز أن بقر واللون أبيض أو صفر قال القاضي : ويذكر المرعى ولا يحتاج إلى ذكر حديث أو عتيق لأن إطلاقه يقتضي الحديث ولا يصح السلم في عتيقه لأنه عيب ولا ينتهي إلى حد يضبط به ويصف الزبد بأوصاف السمن ويزيد زبد يومه أو أمسه ولا يلزمه قبول متغير في السمن أو الزبد ولا رقيق إلا أن تكون رقته للحر ويصف واللبن بالنوع والمرعى ولا يحتاج إلى اللون ولا حلبة يومه لأن إطلاقه يقتضي ذلك ولا يلزمه قبول متغير قال أحمد : ويصح السلم في المخيض وقال الشافعي : لا يصح السلم فيه لأن فيه ما ليس من مصلحته وهو الماء فصار المقصود مجهولا
ولنا أن الماء يسير يترك لأجل المصلحة جرت العادة به فلم يمنع صحة السلم فيه كالماء في الشيرج والملح والأنفحة في الجبن والماء في خل التمر ويصف الجبن بالنوع والمرعى ورطب أو يابس ويصف اللبأ بصفات اللبن ويزيد اللون ويذكر الطبخ أو ليس بمطبوخ
فصل : وتضبط الثياب بستة أوصاف النوع كتان أو قطن والبلد والطول والعرض والصفاقة والرقة والغلظ والدقة والنعومة والخشونة ولا يذكر الوزن فإن ذكره لم يصح لتعذر الجمع ين صفاته المشترطه وكونه على وزن معلوم فيكون فيه تغرير لتعذر اتفاقه وإن ذكر خاما أو مقصورا فله ما شرط وإن لم يذكره جاز وله خام لأنه الأصل وإن ذكر مغسولا أو لبيسا لم يجز لأن اللبس يختلف ولا ينضبط فإن أسلم في مصبوغ وكان مما يصبغ غزله جاز لأن ذلك من جملة صفات الثوب وإن كان مما يصبغ بعد نسجه لم يجز لأن صبغ الثوب يمنع الوقوف على نعومته وخشونته ولأن الصبغ غير معلوم وإن أسلم في ثوب مختلف والغزول كقطن وابريسم أو قطن وكتان أو صوف وكانت الغزول مضبوطة بأن يقول : السدى ابريسم واللحمة كتان أو نحوه جاز ولهذا جاز السلم في الخز وهو من غزين مختلفين وإن أسلم في ثوب موشى وكان الوشى من تمام نسجه جاز وإن كان زيادة لم يجز لأنه لا ينضبط

ما يضبط به غزل القطن والكتان
فصل : ويصف غزل القطن والكتان بالبلد واللون والغلظ والدقة والنعومة و الخشونة ويصف القطن بذلك ويجعل مكان الغلظ والدقة والطول والقصر وإن شرط في القطن منزوع احب جاز وإن أطلق كان له بحبه كالتمر بنواه ويصف الابريسم بالبلد واللون والغلظ والدقة ويصف الصوف بالبلد واللون والطول والقصر والزمان خريفي أو ربيعي لأن صوف الخريف أنظف قال القاضي : ويصفه بالذكوريو والأنوثية لأن صوف الإناث أنعم ويحتمل أن لا يحتاج إلى هذه الصفة لأن التفاوت في هذا يسير وعليه تسليمه نقيا من الشوك والبعر وإن لم يشترطه وإن شرطه جاز وكان تأكيدا والشعر والوبر كالصوف ويصح السلم في الكاغد لأنه يمكن ضبطه ويصفه بالطول والعرض والدقة والغلظ واستواء الصنعة وما يختلف به الثمن =

======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي

  : أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي أدوات الأعراب تأليف ظاهر شوكت البياتي  الإهداء إلى صديقي الصدوق: طه هاشم الدليمي الذ...