4. مصاحف

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 17 و 18. المغني - ابن قدامة كتاب : المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 

مجلد 17 و  18.  المغني - ابن قدامة  كتاب : المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

اولا 17..

مجلد 17. المغني - ابن قدامة   المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني  عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

==========

=مسائل وفصول حكم ما لو حلف لا يسكن دارا وهو ساكنها أو حلف لا يساكن فلانا أو لا يدخل دارا
مسألة : قال : ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته فإن تخلف عن الخروج من وقته حنث
وجملة ذلك أن ساكن الدار إذا حلف لا يسكنها فمتى أقام فيها بعد يمينه زمنا يمكنه فيه الخروج حنث لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها ألا تراه يقول سكنت هذه الدار شهرا كما يقول لبست هذا الثوب شهرا ؟ وبهذا قال الشافعي وإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وحكي عن مالك أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر أنه قال يحنث وإن انتقل في الحال لأنه لا بد من أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يراد باليمين ولا يقع عليه وأما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها حنث وإن كان قليلا ؟
فصل : وإن أقام لنقل متاعه وأهله لم يحنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث
ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره ولا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا يقع اليمين عليها وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث
وقال الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله
ولنا أن السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا يقال فلان ساكن بالبلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال سكنه ولو نزله بنفسه لا يقال سكنه وقولهم أنه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى بنفسه فأشبه من خرج يشتري متاعا وإن خرج عازما على السكنى بنفسه منفردا عن أهله الذي في الدار لم يحنث ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ذكره القاضي
وحكي عن مالك أنه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله أنه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع آخر فإنه لا يحنث وإن بقي متاعه في الدار لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به ولهذا لو حلف لا يسكن دارا لم يكن ساكنا لها فنزلها بأهله ناويا للسكنى بها حنث وقال القاضي : إن نقل إليها ما يتأثث به ويستعمله في منزلة فهو ساكن وإن سكنها بنفسه
فصل : وإن أكره على المقام لم يحنث لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو يحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة أو انتظار لزوال المانع منها أو خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه أما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه لتعذر الكراء أو غيره أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناويا للنقلة متى قدر عليها لم يحنث وإن أقام اياما وليالي لأن إقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكينه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكنا لا يمكنه ترك أهله والقاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للإكراه
وإن أقام في هذا الوقت غيرناو للنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ماجرت به العادة فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلا قليلا على العادة بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياما ولا يلزمه جمع دواب البلد لنقله ولا النقل بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب ولا أوقات الصلوات لأن العادة لم تجر بالنقل فيها ولو ذهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع فإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائدا لمريض أو زائرا لصديق لم يحنث وقال القاضي إن دخلها ومن رأيه الجلوس عنده حنث وإلا فلا
ولنا أن هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن دارا لم يبر بالجلوس فيها لأنه على هذا الوجه لا يسمى ساكنا به بهذا العذر فلم يحنث به كما لو لم ينو الجلوس وإن كان له في الدار امرأة أو عائلة فارادهم على الخروج معه والانتقال عنها فأبوا ولم يمكنه إخراجهم فخرج وتركهم لم يحنث لأن هذا مما لا يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من رحله
فصل : وإن حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة وإن سكنا في دار واحدة وكل واحد في بيت ذي باب وغلق رجع إلى بيته بيمينه أو إلى سببها وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة فيه فإن عدم ذلك كله حنث وهذا قول مالك
وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان لأن الصغيرة مسكن واحد وإن كانت كبيرة إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة أو كانا في صفتين أو بيتين ليس على أحدهما غلق دون صاحبه فهما متساكنان وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا متساكنين لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين كل واحد منهما بنفرد بمسكنه
ولنا أنهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة وفارق المتجاورين في الدارين فإنهما ليسا متساكنين ويمينه على نفي المساكنة لا على المجاورة ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجرة لم يحنث لأنهما غير متساكنين وإن تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
فصل : فإن حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار قسماها حجرتين وبينا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما لم يحنث لما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي و ابن المنذر و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار ولا ينحل بتغيرها كما لو حلف لا يدخلها فصارت نصا والأول أصح لأنه لم يساكنه فيها لكون المساكنة في الدار لا تحصل مع كونهما دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة
فصل : وإن حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف لا يسكنها وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها صاحبهما في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة والخروج من البلد بخلاف ذلك وإذا خرج الحالف فهل له العود فيه ؟ عن أحمد روايتان
إحداهما : لا شيء عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج وقد خرج فانحلت يمينه لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيما بعد
والثانية : يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن للمحلوف عليه سببا هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على إرادته هجرانه أو نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها وإن لم يكن كذلك لم يحنث بالعود لأن اليمين تحمل عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الحروج وقد فعله فانحلت يمينه وكذلك الحكم إذا حلف على الرحيل منها إلا أنه إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل بأهله
مسألة : قال : ولو حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث
نص عليه أحمد هذا في رواية أبي طالب وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا نسلم فيه خلافا وذلك لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه وإن حمل بأمره فأدخلها حنث لأنه دخل مختارا فأشبه ما لو دخل راكبا وإن حمل بغير أمره ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضا لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان :
أحدهما : لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو يمكنه الامتناع ومتى دخل بإختياره حنث سواء كان ماشيا أو راكبا أو محمولا أو ألقى نفسه في ماء فجره إليها أو سبح فيه فدخلها سواء دخلها من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطا ودخل من ظهرها أو غير ذلك
فصل : فإن أكره بالضرب ونحوه على دخولها فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهو أحد قولي الشافعي وفي الآخر يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول النخعي لأنه فعل ما حلف على تركه ودخلها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه دخلها مكرها فأشبه ما لو حمل مكرها
فصل : وإن رقي فوق سطحها حنث وبهذا قال مالك و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح محجرا وجهان واحتجوا بأن السطح يقيها الحر والبرد ويحرزها فهو كحيطانها
ولنا أن سطح الدار منها وحكمه حكمها سواء فحنث بدخلوه كالمحجر أو كما لو دخل بين حيطانها ودليل ذلك أنه يصح الاعتكاف في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث فيه ولو حلف ليخرجن من الدار فصعد سطحها لم يبر ولو حلف أن لا يخرج منها فصعد سطحها لم يحنث ولأنه داخل في حدود الدار ومملوك لصاحبها ويملك بشرائها ويخرج من ملك صاحبها ببيعها والبائت عليه يقال بات في داره وبهذا يفارق ما وراء حائطها فإن كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي اختصاص الإرادة بداخل الدار مثل أن يكون سطح الدار طريقا وسبب يمينه يقتضي ترك وصلة أهل الدار لم يحنث بالمرور على سطحها وكذلك إن نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما نواه لأنه ليس للمرء إلا ما نواه
فصل : فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث وإن صعد حتى صار في مقابلة سطحها بين حيطانها حنث وإن لم ينزل بين حيطانها احتمل أن يحنث لأنه في هوائها وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على سطحها واحتمل أن لا يحنث لأنه داخلا ولا هو على شيء من أجزائها وكذلك إن كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها فإن قام على سطحها فإن قام على حائط الدار احتمل وجهين أحدهما : أنه يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها والثاني : لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا وإن قام في طبق الباب فكذلك لأنه بمنزلة حائطها وقال القاضي إذا قام على العتبة لم يحنث لأن الباب إذا غلق حصل خارجا منها ولا يسمى داخلا فيها
فصل : وإن حلف أن لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا منقولا أو حافيا حنث كما لو حلف أن لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور إن دخلها راكبا لم يحنث لأنه لم يضع قدمه فيها
ولنا أنه قد دخل الدار فحنث كما لو دخلها ماشيا ولا نسلم أنه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه موضوعة على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها منتعلا وعلى أن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فتحمل اليمين عليه فإن قيل هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا المجاز إذا اشتهر صار من الأسماء العرفية فينصرف اللفظ بإطلاقه إليه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما
فصل : وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب لم يحنث لأن يمينه لم تتناول غير الباب ويتخرج أنه يحنث إذا أراد بيمينه اجتناب الدار ولم يكن للباب سبب هيج يمينه كما لو حلف لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها وإن حول بابها في مكان آخر فدخل فيه حنث لأنه دخلها من بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وإن حلف لأدخلت من باب هذه الدار فكذلك وإن جعل لها باب آخر مع بقاء الأول فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار وإن قلع الباب ونصف في دار أخرى وبقي الممر حنث بدخوله ولم يحنث بالدخول من الموضع الذي نصب فيه الباب لأن الدخول في الممر لا من المصراع
فصل : فإن حلف لا يدخل دار فلان دارا مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث إلا بدخول دار يمكلها لأن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان مقرا له بمكلها ولو قال أردت أن يسكنها لم يقبل
ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها كافاضتها إلى مالكها قال الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } أراد بيوت أزواجهن التي يسكنها وقال تعالى : { وقرن في بيوتكن } ولأن الإضافة للإختصاص وكذلك يضاف إضافتها إلى أخيه بالأخوة وإلى أبيه بالبنوة وإلى ولده بالأبوة وإلى امرأته بالزوجية وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له وقولهم أن هذه الإضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازا لكنه مشهور فيتناوله اللفظ كما لو حلف لا شربت من رواية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته وأما الإقرار فإنه لو قال هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل أن نقول يقبل تفسيره وإن سلمنا فإن قرينه الإقرار تصرفه إلى الملك وكذلك لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها ولو قال هذا المسكن لزيد كان مقرا له بها ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيره مسألتنا
فصل : ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استأجرها فلان حنث وإن ركب دابة استعارها لم يحنث ذكره أبو الخطاب وكذلك لو ركب دابة غصبها فلان وفارق مسألة الدار فإنه لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا غصبها وإنما حنث لسكناه بها فأضيفت الدار إليه لذلك ولو غصبها أو استعاها من غير ان يسكنها لم تصح إضافتها إليه ولا يحنث الحالف فيكون كمستعير الدابة وغاصبها سواء
فصل : وإن حلف لا يدخل دار هذه العبد ولا يركب دابته ولا يلبس ثوبه فدخل دارا جعلت برسمه أو ركب دابة جعلت برسمه أو لبس ثوبا جعل برسمه حنث وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك شيئا والإضافة تقتضي الملك وقد قدمنا الكلام معه في الفصل الذي قبل هذا ويختص هذا الفصل بإن الملكية لا تمكن ههنا ولا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ههنا على إضافة الإختصاص دون الملك وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل دار عبده حنث وبه قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن دار العبد ملك لسيده وإن حلف لا يلبس ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده وركب دابته حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن العبد بهما خص
ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل بالدار
مسألة : قال : ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل بجميعه أما إذا حلف ليدخلن أو يفعل شيئا لم يبر إلا يفعل جميعه والدخول إليها بجملته
لا يختلف المذهب في شيء من ذلك ولا نعلم بين أهل العلم فيه إختلافا لأن اليمين تناولت فعل الجميع كما لو أمره الله تعالى بفعل شيء لم يخرج من عهدة الأمر إلا بفعل الجميع ولأن اليمين على فعل شيء اخبار بفعله في المستقبل مؤكد بالقسم والخبر بفعل شيء يقتضي فعله كله فأما إن حلف لا يدخل فأدخل بعضه ولا يفعل شيئا ففعل بعضه ففيه روايتان
احداهما : لا يحنث وحكي عن مالك لأن اليمين يقتضي المنع من فعل المحلوف عليه فاقتضت المنع من فعل شيء منه كالنهي فنظير الحالف على الدخول قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } و { ادخلوا عليهم الباب } فلا يكون المأمور ممتثلا إلا بدخلو جملته ونظير الحلف على ترك الدخول قوله سبحانه : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم }
وقوله : { لا تدخلوا بيوت النبي } لا يكون المنهي ممتثلا إلا بترك الدخول كله فكذلك الحالف على ترك الدخول لا يبرأ إلا بتركه فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركا لما حلف عليه فكان مخالفا كالمنهي عن الدخول ووجه الجمع بينهما أن الآمر والناهي يقصد الحمل على فعل الشيءأو المنع منه والحالف يقصد بيمينه ذلك فكانا سواء يحققه أن الآمر بالفعل أو الحالف عليه يقصد فعل الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بفعله كله والناهي والحالف على الترك يقصد ترك الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بترك الجميع وفاعل البعض ما فعل الجميع ولا ترك الجميع فلا يكون ممتثلا للأمر ولا النهي ولا بارا بالحلف على الفعل ولا الترك
والرواية الثانية : لا يحنث إلا بأن يدخل كله قال أحمد في رواية صالح و حنبل فيمن حلف على امرأته لا تدخل بيت أخيها لم تطلق حتى تدخل كلها ألا ترى أن عوف بن مالك قال كلي أو بعضي لأن الكل لا يكون بعضا والبعض لا يكون كلا وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب أبي حنيفة و الشافعي وهكذا كل شيء حلف أن لا يفعله ففعل بعضه لا يحنث حتى يفعله كله لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج رأسه على عائشة وهو معكتف فترجله وهي حائض والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد والحائض ممنوعة من اللبث فيه
[ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لأبي بن كعب : إني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ] ولأن يمينه تعلقت بالجميع فلم تنحل بالبعض كالإثبات وهذا الخلاف في اليمين المطلقة فأما إن نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى وكذلك إن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الأمرين تعلقت يمينه به فلو قال والله لأشربت هذا النهر أو هذه البركة تعلقت يمينه ببعضه وجها واحدا لأن فعل الجميع ممتنع فلا ينصرف يمينه إليه وكذلك لو قال والله لا آكل الخبز ولا أشرب الماء وما أشبهه مما علق على اسم جنس أو علقه على اسم جمع كالمسلمين والمشركين والفقراء والمساكين فإنما يحنث بالبعض وبهذا قال أبو حنيفة وسلمه أصحاب الشافعي في اسم الجنس دون الجمع وإن علقه على إسم جنس مضاف كماء النهر حنث أيضا بفعل البعض إذا كان مما لا يمكن شربه كله وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر لا يحنث لأن لفظه يقتضي جميعه فلم يتعلق ببعضه كماء الأدواة
ولنا أنه لا يمكن شرب جميعه فتعلقت اليمين كما لو حلف لا يكلم الناس فكلم بعضهم وبهذا فارق ماء الأداوة وإن نوى بيمينه فعل الجميع أو كان في لفظه ما يقتضي ذلك لم يحنث إلا بفعل الجميع وإن قال والله لا صمت يوما لم يحنث حتى يكمله وإن حلف لا صليت صلاة ولا أكلت أكلة لم يحنث حتى يكمل الصلاة والأكلة وإن قال لامرأته إن حضت حيضة فأنت طالق حتى تطهر من حيضة مستقبلة وإن قال لامرأتيه إن حضتما فأنتما طالقتان لم تطلق واحدة منهما حتى تحيضا كلتاهما فهذا وأشباهه مما يدل على إرادته فعل الجميع فوجب تعلق اليمين به
وقال أحمد في رجل قال لامرأته إذا صمت يوما فأنت طالق إذا غابت الشمس من ذلك طلقت وقال القاضي إذا حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا يصلي ولا يصوم حنث في الصلاة بتكبيرة الإحرام وفي الصيام بطلوع الفجر إذا نوى الصيام وبهذا قال الشافعي ووافق أبو حنيفة في الصيام وقال في الصلاة لا يحنث حتى يسجد سجدة
ولنا أنه يسمى مصليا بدخوله في الصلاة فحنث به كما لو سجد سجدة ولأنه شرع فيما حلف عليه أشبه الصيام يشرع فيه واختار أبو الخطاب أن لا يحنث حتى يصلي ركعة بسجدتيها ولا يحنث في الصيام حتى يصوم يوما كاملا لأن ما دون ذلك لا يكون بمفرده صوما ولا صلاة والأول أولى فإن كل جزء من ذلك صلاة وصيام لكن يشترط لصحته إتمامه وكذلك يقال لمن أفسد ذلك بطل صومه وصلاته

مسألة وفصول حكم من حلف لا يلبس ثوبا وهو لابس أو لا يدخل دارا وهو فيها
مسألة : قال : ومن حلف ألا يلبس ثوبا وهو لابسه نزعه من وقته فإن لم يفعل حنث
وجملة ذلك أن من حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه فإن نزعه في الحال وإلا حنث وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو راكبها فإن نزل في أول حالة الإمكان وإلا حنث وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور لا يحنث باستدامته اللبس والركوب حتى يبتدئه لأنه لو حلف لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث كذا ههنا
ولنا أن استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا ويسمى به لابسا وراكبا ولذلك يقال لبست هذا الثوب شهرا وركبت دابتي يوما فحنث باستدامته كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى وقد اعتبر الشرع هذا في الإحرام حيث حرم لبس المخيط فأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها في ابتدائه وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الإستدامة فلا يقال زوجت شهرا وإنما يقال منذ شهر ولهذا لم تحرم استدامته في الإحرام كابتدائه
فصل : فإن حلف لا يتزوج ولا يتطيب ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث في قولهم جميعا لأنه لا يطلق على مستديم هذه الأفعال اسم الفعل فلا يقال تزوجت شهرا ولا تطهرت شهرا ولا تطيبت شهرا وإنا يقال منذ شهر ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة ابتدائها في تحريمه في الإحرام وإيجاب الكفارة فيه
فصل : وإن حلف لا يدخل دارا هو فيها فأقام فيها ففيه وجهان أحدهما : يحنث لأن استدامة المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم قال أحمد في رجل حلف على امرأته لادخلت أنا وأنت هذه الدار وهما جميعا فيها قال أخاف أن يكون قد حنث
والثاني : لا يحنث ذكره القاضي واختاره أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول لا يستعمل في الإستدامة ولهذا يقال دخلتها منذ شهرفجرى مجرى التزويج ولأن الدخول الانفصال من خارج إلى داخل فلا يوجد في الإقامة ولـ لشافعي قولان كالوجهين ويحتمل أن من أحنثه إنما كان لأن ظاهر حال الحالف أنه يقصد هجران الدار ومباينتها والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك السكنى به
فصل : فإن حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان فاستدام ذلك حنث لأن المضاجعة تقع على الإستدامة ولهذا يقال اضطجع على الفراش ليلة وإن كان هو مضطجعا على الفراس وحده فاضطجعت عنده عليه نظرت فإن قام لوقته لم يحنث وإن استدام حنث لما ذكرنا وإن حلف لا يصوم وهو صائم فأتم يومه فقال القاضي لا يحنث ويحتمل أن يحنث لأن الصوم يقع على الاستدامة يقال صام يوما ولو شرع في صوم يوم العيد فظن انه من رمضان فبان أنه يوم العيد حرمت عليه استدامته وإن حلف لا يسافر وهو مسافر فأخذ في العود أو أقام لم يحنث وإن مضى في سفره حنث لأن الاستدامة سفر ولهذا يقال سافرت شهرا
فصل : وإن حلف لا يلبس هذا وكان رداء في حال حلفه فارتدى به أو ائتزر أو اعتم به أو جلعه قميصا أو سراويل أو قباء ولبسه حنث وكذلك إن كان قميصا فارتدى به أو سراويل فائترز به حنث هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي لأنه قد لبسه وإن قال في يمينه لا ألبسه وهو رداء فغيره عن كونه رداء ولبسه لم يحنث لأن اليمين وقعت على ترك لبسه رداء وإن قال والله لا لبست شيئا فلبس قميصا أو عمامة أو قلنسوة أو درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا حنث وقال أصحاب الشافعي في الخف والنعل وجهان أحدهما : لا يحنث
ولنا أنه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث به كالثياب وفي الحديث [ أن النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه و سلم خفين فلبسهما وقيل لابن عمر أنك تلبس هذا النعال قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبسهما وإن ترك القلنسوة في رجله أو ادخل يده في الخف أو النعل لم يحنث لأن ذلك ليس بلبس لهما ]
فصل : وإن حلف ليلبسن امرأته حليا فلبسها خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو جوهر وحده بر في يمينه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يبر لأنه ليس بحلي وحده
ولنا قول الله تعالى : { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } وقال تعالى : { يحلون فيها من أساور من ذهب } وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو أنه قال الله تعالى للبحر الشرقي إني جاعل فيك الحلية والصيد والطيب ولأن الفضة حلي إذا كانت سوارا أو خلخالا فكانت حليا إذا كانت خاتما كالذهب ولاجوهر واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حليا وحده كالذهب وإن ألبسها عقيقا أو سبجا لم يبر وقال الشافعي إن كان من أهل السواد بر وفي غيرهم وجهان لأن هذا حلي في عرفهم
ولنا أن هذا ليس بحلي فلا يبر به كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه يبطل بالودع وإن حلف لا يلبس حليا فلبس دراهم أو دنانير في مرسلة ففيه وجهان أحدهما : لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا لبسه
والثاني : يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم وإن لبس سيفا محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلي وإن لبس منطقة محلاة ففيه وجهان أحدهما : لا يحنث لأن الحلية لها دونه فأشبه السيف المحلى
والثاني : يحنث لأنها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب إلا التجمل بها وإن حلف لا يلبس خاتما فلبسه في غير الخنصر من أصابعه حنث وقال الشافعي لا يحنث لأن اليمين تقتضي لبسا معينا معتادا وليس هذا معتادا فأشبه ما لو أدخل القلنسوة في رجله
ولنا أنه لابس لما حلف على ترك لبسه فأشبه ما لو ائتزر بالسروايل وإما ادخال القلنسوة في رجله فهو عبث وسفه بخلاف هذا فإنه لا فرق بين الخنصر وغيره إلا من حيث الإصطلاح على تخصيصه بالخنصر

مسائل وفصول في أنواع من الحلف مختلفة وأحكامها
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر حنث إلا ان يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء
وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي لا يحنث وذكره أبو الخطاب احتمالا لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه فلم يحنث به كما لو حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد فلبس ثوبا اشتراه زيد هو وغيره
ولنا أن زيدا مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله فيجب أن يحنث كما لو اشتراه زيد ثم خلطه بما اشتراه عمرو فأكل الجميع وأما الثوب فلا نسلم وإن سلمناه فالفرق بينهما إن نصف الثوب ليس بثوب ونصف الطعام طعام وقد أكله بعد إن اشتراه زيد وإن اشترى زيد نصفه مشاعا أو اشترى نصفه ثم اشترى الآخر باقيه فأكل منه حنث والخلاف فيه على ما تقدم ولو اشترى زيد نصفه معينا ثم خلطه بالنصف الآخر فأكل الجيمع أو أكثر من النصف حنث بغير خلاف لأنه أكل مما اشتراه زيد يقينا وإن أكل نصفه أو أقل من نصفه ففيه وجهان أحدهما : يحنث بغير خلاف لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه زيد من غيره فيكون الحنث ظاهرا ظهورا كثيرا
والثاني : لا يحنث لأن الأصل عدم الحنث ولم يتيقن أكله مما اشتراه زيد وكل موضع لا يحنث فحكمه حكم من حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن أكل من طعام اشتراه زيد ثم باعه أو اشتراه لغيره حنث ويحتمل أن لا يحنث
فصل : وإن حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل عيرها حنث وبه قال الشافعي وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها ففيه روايتان إحداهما : يحنث كالتي قبلها والثانية : لا يحنث وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه لم يلبس ثوبا كاملا من غزلها وكذلك إن حلف لا يلبس ثوبا نسجه زيد ولا يأكل من قدر طبخها ولا يدخل دارا اشتراها ولا يلبس ثوبا خاطه زيد فلبس ثوبا نسجه هو وغيره أو خاطاه أو أكل من قدر طبخاها أو دخل دارا اشترياها ففي هذا كله من الخلاف والقول مثلما في المسألة الأولى وإن حلف أن لا يلبس ما خاطه زيد حنث بلبس ثوب خاطاه جميعا لأنه ليس مما خاطه زيد بخلاف ما إذا قال ثوبا خاطه زيد وإن حلف أن لا يدخل دارا لزيد فدخل دارا له ولغيره خرج فيه وجهان والخلاف فيها على ما مضى
مسألة : قال : ولو حلف لا يزورهما أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما حنث إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما
يمكن أن تكون هذه المسألة مبنية على من حلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه فإن هذا حالف على كلام شخصين وزيارتهما فتكليمه احدهما وزيارته فعل لبعض ما حلف عليه وقد مضى الكلام في هذا ويمكن أن يقال تقدير يمينه لا كلمت هذا ولا كلمت هذا لأن المعطوف بقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه فيصير كقوله سبحانه : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } أي وحرمت عليكم بناتكم فيصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا فيحنث به فإن قصد ألا يجتمع فعله بهما لم يحنث إلا بذلك لأنه قصد بيمينه ما يحتمله فانصرف إليه وإن قصد ترك كلام كل واحد منهما منفردا حنث بفعله لأنه عقد يمينه على ترك ذلك وإن قال والله لاكلمت زيدا ولا عمرا حنث بكلام كل واحد منهما بغير إشكال فإن هذا يقتضي ترك كلام كل واحد منهما منفردا قال الله تعالى : { ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } أي لا يملكون شيئا من ذلك
فصل : فإن قال أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا أو عبدي حران إن كلمت زيدا وعمرا لم يقع الطلاق ولا العتق إلا بتكليمها لأنه جعل تكليمهما معا شرطا لوقوع ذلك ولا يثبت المشروط إلا بوجود الشرط جميعه وكذلك لو قال لامرأتيه ان حضتما فأنتما طالقتان لم يقع الطلاق على واحدة منهما إلا بحيضهما جميعا وتفارق اليمين بالله تعالى فإن مقتضاها المنع من فعل المحلوف عليه فتحصل المخالفة بفعل البعض وقد جمع بعض أصحابنا بينهما في الحنث بفعل البعض لكون المقصود من الحلف كله على ترك شيء المنع من فعله فيستويان اما إذا قال إذا حضتما فأنتما طالقتان فليس ذلك بيمين لأنه لا يقصد بهذا منع من شيء ولا حث عليه إنما هو شرط مجرد وليس فيه معنى اليمين
فصل : ومن حلف على فعل شيء فقال والله لا آكل خبزا ولحما ولا زبدا وتمرا ولا أدخل هاتين الدارين ولا أعصي الله في هذني البلدين ولا أمسك هاتين المرأتين ففعل بعض ما حلف عليه مثل أن أكل أحدهما أو دخل إحدى الدارين أو عصى الله في أحد البلدين أو أمسك إحدى المرأتين فهل يحنث ؟ يخرج على روايتين وإن قصد بيمنه أن لايجمع بينهما أو المنع من كل واحد منهما فيمينه على ما نواه وإن قال والله لا آكل سمكا وأشرب لبنا بالفتح وهو من أهل العربية لم يحنث إلا بالجمع بينهما لأن الواو ههنا بمعنى مع ولذلك اقتضت الفتح وإن عطف احدهما على الآخر بتكرار ـ لا ـ اقتضى المنع من كل واحد منهما منفردا وحنث بفعله
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوبا فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب وكذلك ان انتفع بثمنه
هذه المسألة فرع أصل تقدم ذكره في أول الباب وهو أن الأسباب معتبرة في الأيمان فيتعدى الحكم بتعديها فإذا امتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير اللبس من أخذ ثمنه لأنه نوع انتفاع به يلحق المنة به وإن لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي ذلك لم يحنث إلا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة فلو ابدله بثوب غيره ثم لبسه أو انتفع به في غير اللبس أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا
فصل : وإن فعل شيئا عليه فيه لها منة سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل أن سكن دارها أو أكل طعامها أو لبس ثوبا لها غير المحلوف عليه لم يحنث لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما حصل به ولم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به
فصل : وإن امتنت عليه امرأته بثوب فحلف أن لا يلبسه قطعا لمنتها فاشتراه غيره ثم كساه إياه أو اشتراه الحالف ولبسه على وجه لا منة لها فيه فهل يحنث ؟ على وجهين
أحدهما : يحنث لمخالفته ليمينه ولأن لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمته امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا والثاني : لا يحنث لأن السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظية
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها حنث إذا كان أراد بيمنه جفاء زوجته ولم يكن للدار سبب هيج يمينه
وهذه أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءك بترك الأوي معها ولم يكن للدار أثر في يمينه كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف ألا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها فقد أوى معها فحنث لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة [ سؤال الأعرابي رسول الله صلى الله عليه و سلم واقعت أهلي في نهار رمضان فقال : أعتق رقبة ] لما كان ذكر أهله لا أثر له في إيجاب الكفارة حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء كان للأهل أو لغيرهم وإن كان للدار أثر في يمينه مثل إن كان يكره سكناها أو خوصم من أجلها أو أمتن عليه بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه وإن عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما تناوله لفظه وهو الأوي معها في تلك الدار بعينها لأنه يجب اتباع لفظه إذا لم تكن نية ولا سبب يصرف اللفظ عن مقتضاه أو يقتضي زيادة عليه ومعنى الأوي الدخول فمتى حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلا كان لبثهما أو كثيرا قال الله تعالى مخبرا عن فتى موسى : { إذ أوينا إلى الصخرة } قال أحمد ما كان ذلك إلا ساعة أو ماشاء الله يقال أويت أنا وآويت غيري قال الله تعالى : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } وقال الله تعالى : { وآويناهما إلى ربوة }
فصل : وإن برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث سواء كانت الدار سببا في يمينه أو لم تكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره وإن حلف لا يأوي معها في دار لسبب فزال السبب الموجب ليمينه مثل إن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها فأوى معها فيها فهل يجنث ؟ على وجهين تقدم ذكرهما وتعليلهما
فصل : فإن حلف أن لا يدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المسألة التي قبلها إذا قصد جفاءها ولم يكن البيت سببا هيج يمينه حنث وإلا فلا فإن دخل على جماعة هي فيهم يقصد الدخول عليها معهم حنث وكذلك إن لم يقصد شيئا وإن استثناها بقلبه ففيه وجهان :
إحداهما : لا يحنث كما لو حلف ألا يسلم عليها فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فإنه لا يحنث والثاني : يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على السواء وهي فيهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد ولهذا يصح أن يقال السلام عليكم إلا فلانا ولا يصح أن يقال دخلت عليكم إلا فلانا ولأن السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم والضمير عام يصح أن يراد به الخاص فصح أن يراد به من سواها والفعل لا يتأتى هذا فيه وإن دخل بيتا لا يعلم أنها فيه فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا فإن قلنا لا يحنث بذلك فخرج حين علم بها لم يحنث وكذلك إن حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال لم يحنث وإن أقام فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو فيها فاستدام المقام بها فهل يحنث ؟ على وجهين
مسألة : قال : ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه وإن مات العبد حنث
أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد والحالف قد خرج على أن يكون من أهل التكليف قبل الغد فلا يمكن حثه وكذلك إن جن الحالف في يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف وإن هرب العبد أو مرض العبد أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضربه في الغد حنث وإن لم يمت الحالف ففيه مسائل
أحدها : أن يضرب العبد في غد أي وقت كان منه فإنه يبر في يمينه بلا خلاف
الثانية : أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الحياة حنث أيضا بلا خلاف
الثالثة : مات العبد من يومه فإنه يحنث وهذا أحد قولي الشافعي ويتخرج إلا يحنث وهو قول أبي حنيفة و مالك والقول الثاني : لـ لشافعي لأنه فقد ضربه بغير اختياره فلم يحنث كالمكره والناسي
ولنا أنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث كما لو أتلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الإكراه والنسيان فإن الامتناع لمعنى في الحالف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فأما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله واختياره حنث وجها واحدا لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمنيه انعقدت من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج إلا يحنث قبل الغد لأن الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا تحصل المخالفة إلا بترك الفعل في وقته
الرابعة : مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه فهو كما لو مات في يومه الخامسة : مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحدا وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث قولا واحدا وقال بعضهم فيه قولان
ولنا أنه يمكنه ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضى الغد قبل ضربه
السادسة : مات الحالف في غد بعد التمكن من يضربه فلم يضره حنث وجها واحدا لما ذكرنا
السابعة : ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي حنيفة يبر لأن يمينه للحنث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف ليقضينه حقه في غد فقضاه اليوم
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس وفارق قضاء الدين فإن المقصود تعجيله لا غير وفي قضاء اليوم زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه علم من قصده ارادة أن لا يتجاوز غدا بالقضاء فصار كالملفوظ به إذ كان مبني الأيمان على النية ولا يصح قياس ما ليس بمثله عليه وسائر المحلوفات لا تعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع الإلحاق وتعين التمسك باللفظ
الثامنة : ضربه بعد موته لم يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حيا يتألم بالضرب وقد زال هذا بالموت
التاسعة : ضربه ضربا لا يؤلمه لم يبر لما ذكرناه
العاشرة : خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لأنه يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له
الحادية عشر : جن العبد فضربه فإنه يبر حي يتألم بالضرب وإن لم يضربه حنث وإن حلف لا يضربه في غد ففيه نحو من هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه
فصل : وإن قال والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا الخبز غدا فتلف فهو على نحو مما ذكرنا في ا لعبد قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يشرب هذا الماء فانصب قال يحنث وكذلك إن حلف أن يأكل هذا الرغيف فأكله كلب قال يحنث لأن هذا لا يقدر عليه
مسألة : قال : ومن حلف ألا يكلمه حينا فكلمه قبل الستة أشهر حنث
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يكلمه حينا فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن تقيد به وإن أطلقه انصرف إلى ستة أشهر روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أصحاب الرأي وقال مجاهد و الحكم و مالك وهو سنة لقول الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } أي كل عام وقال الشافعي و أبو ثور لا قدر له ويبر بأدنى زمن لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير قال الله تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } قيل أراد يوم القيامة وقال : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر ؟ } وقال : { فذرهم في غمرتهم حتى حين } وقال { حين تمسون وحين تصبحون } ويقال جئت منذ حين وإن كان أتاه من ساعة
ولنا أن الحين المطلق في كلام الله أقله ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير و أبو عبيد في قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } إنه ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق كلام الله تعالى ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم له مخالفا في الصحابة وما استشهدوا به من المطلق في كلام الله تعالى فما ذكرناه أقله فيحمل عليه لأنه اليقين
فصل : وإن حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون عاما وقال مالك أربعون عاما لأن ذلك يروى عن ابن عباس وقال القاضي وأصحاب الشافعي : هو أدنى زمان لأنه لم ينقل فيه عن أهل اللغة تقدير
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } الحقب ثمانون سنة وما ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة ولأن ما ذكروه يفضي إلى حمل كلام الله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } وقول موسى : { أو أمضي حقبا } إلى اللكنة لأنه أخرج ذلك مخرج التكثير فإذا صار معنى ذلك لابثين فيها ساعات ولحظات أو أمضي لحظات أو ساعات صار مقتضى ذلك التقليل وهو ضد ما أراد الله تعالى بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما نعلم فلا يجوز تفسير الحقب به
فصل : فإذا حلف لا يكلمه زمنا أو وقتا أو دهرا أو عمرا أو مليا أو طويلا أو بعيدا أو قريبا بر بالقليل والكثير في قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة وتقع على القليل والكثير فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه وقد يكون القرب بعيدا بالنسبة إلى ما هو أقرب منه وقريبا بالنسبة إلى ما هو أبعد منه ولا يجوز التحديد بالتحكم إنما يصار إليه بالتوقيف ولا توقيف ههنا فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما يتناوله الإسم
وقال ابن أبي موسى الزمان ثلاثة أشهر وقال طلحة العاقولي الحين والزمان والعمر واحد لأنهم لا يفرقون في العادة بينها والناس يقصدون بذلك التبعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد الحالف والدهر يحتمل أنه كالحين أيضا لهذا المعنى وقال في بعيد ومليء وطويل هو أكثر من شهر وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك ضد القليل ولا يجوز حمله على ضده ولو حمل العمر على أربعين عاما كان حسنا لقول الله تعالى مخبرا عن نبيه عليه السلام : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } وكان أربعين سنة فيجب حمل الكلام عليه ولأن العمر في الغالب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك
فصل : فإن حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان فذلك على الأبد لأن ذلك بالألف واللام وهي للاستغراق فتقتضي الدهر كله
فصل : فإن حلف على أيام فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع قال الله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات } وفي أيام التشريق وإن حلف على أشهر فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن حلف على شهور فاختار أبو الخطاب أنها ثلاثة لذلك وقال غيره يتناول اثني عشر شهرا لقول الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } ولأن الشهور جمع الكثرة وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة
مسألة : قال : وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله لم يحنث إذا كان أراد بيمينه ألا يجاوز ذلك الوقت
وبهذا قال أبو حنيفة و محمد و أبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده
ولنا أن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضى قبل خروج الغد وزاد خيرا ولأن مبني الأيمان على النية ونية هذا بيمينه ترك تعجيل القضاء قبل خروج الغد فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية وإن لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد فلا يبر بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لأن اليمين للحث على الفعل فمتى عجله فقد أتى بالمقصود فيه كما لو نوى ذلك والأول أصح إن شاء الله لأنه ترك فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فتصرف كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا ويحتمل ما قاله القاضي في القضاء خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل لتصرف اليمين المطلقة إليه
فصل : فأما غير قضاء الحق كأكل شيء أو شربه أو بيع شيء أو شرائه أو ضرب عبد ونحوه فمتى عين وقته ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر إلا بفعله في وقته وذكر القاضي أنه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب فيحنث كالصيام ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بفعل جميع المحلوف عليه فترك بعضه في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضي ذلك سببها
فصل : ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشرة فباعه بها أو بأقل منها حنث وإن باعه بأكثر منها لم يحنث وقال الشافعي لا يحنث إذ باعه بأقل لأنه لم يتناوله يمينه
ولنا أن العرف في هذا ألا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل أنه لو وكل في بيعه انسانا وأمره أن لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها ولأن هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة والحكم يثبت بالبينة كثبوته باللفظ فإن حلف لا اشتريته بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وإن اشتراه بها أو بأكثر منها حنث لما ذكرنا ومقتضى مذهب الشافعي ألا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها لأن يمينه لم تتناوله لفظا
ولنا أنها تناولته عرفا وتنبيها فكان حانثا كما لو حلف : ما له علي حبة فإنه يحنث إذا كان له عليه أكثر منها ويبرأ بيمينه مما زاد عليها كبراءته منها قيل لـ أحمد رجل إن حلف لا ينقص هذا الثوب عن كذا قال قد أخذته ولكن هب لي كذا ؟ قال هذا حيلة قيل له فإن قال البائع بعتك بكذا وأهب لفلان شيئا آخر ؟ قال هذا كله ليس بشيء فكرهه
فصل : فإن حلف ليقضينه حقه في غد فمات الحالف من يومه لم يحنث لما ذكرنا فيما إذا حلف ليضربن عبده في غد فمات من يومه وإن مات المستحق فحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه قد تعذر قضاؤه فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد قبل اليوم
وقال أبو الخطاب إن قضى ورثته لم يحنث لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في إبراء ذمته فكذلك في البر في يمينه بخلاف ما إذا مات العبد فإنه لا يقوم ضرب غيره مقام ضربه
وقال أصحاب الرأي و أبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم يقضهم لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا في مسألة من حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد اليوم وإن أبرأه المستحق من الحق فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على المكره هل يحنث ؟ على روايتين وإن قضاه عوضا عن حقه لم يحنث عن ابن حامد لأنه قد قضى حقه وقال القاضي يحنث لأنه لم يقضه الحق الذي عليه بعينه
فصل : فإن حلف ليقضينه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال أو إلى استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس من ليلة الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع إمكانه حنث وإن شرع في عده أو وكيله أو وزنه فتأخر القضاء لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله فيه فتأخر الفراغ لكثرته لم يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت اليسير فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا
مسألة : قال : ولو حلف ألا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله
وجملة ذلك أنه إذا حلف ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه وإن حلف ألا يفعله وأطلق ففعل بعضه ففيه روايتان تقدم ذكرهما وإن نوى فعل جميعه أو كان في يمينه ما يدل عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه وإن نوى فعل البعض أو كان في يمينه ما يدل عليه حنث بفعل البعض رواية واحدة فإن حلف لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه فهل يحنث بذلك ؟ فيه روايتان
وإن حلف لا يشرب ماء دجلة أو ماء هذا النهر حنث بشرب أدنى شيء منه لأن شرب جميعه ممتنع بغير يمينه فلا حاجة إلى توكيد المنع بيمينه فتصرف يمينه إلى منع نفسه مما يمكن فعله وهو شرب البعض كما لو حلف لا شربت الماء وبهذا قال أبو حنيفة
وقال أصحاب الشافعي إن حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر ونحوه حنث بفعل البعض وإن تناولت قمينه الجميع كالمسلمين والمشركين والمساكين لم يحنث بفعل البعض وإن تناولت اسم جنس يضاف كماء النهر وماء دجلة وجهان ولنا أنه حلف على ما لا يمكنه فعل جميعه فتناولت يمينه بعضه منفردا كاسم الجنس
وإن حلف لا شربت من الفرات فشرب من مائه حنث سواء كرع فيه أو أغترف منه ثم شرب وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد و قال أبو حنيفة لا يحنث حتى يكرع فيه لأن حقيقة ذلك الكرع فلم يحنث بغيره كما لو حلف لا شربت من هذا الإناء فصب منه في غيره وشرب
ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات لأن الشرب يكون من مائها ومنها في العرف فحملت اليمين عليه كما لو حلف لا شربت من هذه البئر ولا أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من هذه الشاة ويفارق الكوز فان الشرب في العرف منه لأنه آلة للشرب بخلاف النهر وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة والشجرة وقد سلموا أنه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة أو التقط من الشجرة وشرب وأكل حنث فكذا في مسألتنا
فصل : وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لأنه من ماء الفرات ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان
أحدهما : يحنث لأن معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث كما لو حلف لا شربت من مائه وهذا أحد الاحتمالين لأصحاب الشافعي
والثاني : لا يحنث وهو قول ابي حنيفة وأصحابه إلا ابا يوسف فإن عنه رواية أنه يحنث وإنما قلنا أنه لا يحنث لأن ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر لا إلى الفرات ويزول بإضافته إليه عن إضافته إلى الفرات فلا يحنث به كغير الفرات
مسألة : قال : ولو قال والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فهرب منه لم يحنث ولو قال لا افترقنا فهرب منه حنث
أما إذا حلف لا فارقتك ففيه مسائل عشر : إحداها : أن يفارقه الحالف مختارا فيحنث بلا خلاف سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه والثانية : فارقه مكرها فينظر فإن حمل مكرها حتى حق بينهما لم يحنث وإن أكره بالضرب والتهديد لم يحنث وفي قول أبي بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى
الثالثة : هرب منه الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه يحنث لأن معنى يمينه ألا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت
ولنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة وما فعل ولا فعل بإختياره فلم يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره
الرابعة : أذن له الحالف في الفرقة ففارقه فمفهوم كلام الخرقي أنه يحنث وقال الشافعي لا يحنث قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها
ولنا أن معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه بإذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره وليس هذا قول الخرقي ولأن الخرقي قال فهرب منه فمفهومه أنه إذا فارقه بغير هرب أنه يحنث
الخامسة : وفارقه من غير إذن ولا هرب على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه وإمساكه فلم يفعل فالحكم فيها كالتي قبلها
السادسة : قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان بناء على الناسي ولـ لشافعي قولان كالروايتين أحدهما : يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا والثاني : لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا وإن وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث وإن وجدها مستحقة فأخذها صاحبها خرج أيضا على الراويتين في الناسي لأنه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها ردئية وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وإن علم بالحال ففارقه حنث لأنه لم يوفه حقه
السابعة : فلسه الحاكم ففارقه نظرت فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره وإن لم يلزمه مفارقته لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير إكراه فحنث كما لم حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة فصلاها
الثامنة : أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يحنث لأنه قد برىء إليه منه
ولنا أنه ما استوفى حقه بدليل أنه لم يصل إليه شيء ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو لم يحله فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه أبو الخطاب يخرج على الروايتين والصحيح أنه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه فلا يسقط عنه الحنث كما لوجهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة فأما إن كانت يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فأحاله به ففارقه لم يحنث لأنه لم يبق له قبله حق وإن أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم
التاسعة : قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حينفة لأنه قد قضاه حقه وبرىء إليه منه بالقضاء وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله وإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو لي قبلك حق لم يحنث وجها واحدا لأنه لم يبق له قبله حق وهذا مذهب الشافعي والأول أصح لأنه قد استوفى حقه
العاشرة : وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل استيفاء حقه وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له يبرأ به غريمه ويصير في ضمان الموكل
فصل : فأما إن قال لا فارقتني حتى استوفي حقي منك نظرت فإن فارقه المحلوف عليه مختارا حنث وإن أكره على فراقه لم يحنث وإن فارقه الحالف مختارا حنث إلا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا على نحو ما ذكرناه
فصل : وإن كانت يمينه لا فترقنا فهرب منه المحلوف عليه حنث لأن يمينه تقتضي إلا تحصل بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة بهربه وإن أكرها على الفرقة لم يحنث إلا على قول من لم ير الإكراه عذرا
فصل : فإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فابرأه الغريم منه فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على المكره وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك أيفاءها له بإختياره وإن قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث وإن كانت يمينه لا فارقتك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه أو وهب العين له
فصل : والفرقة في هذا كله ما عده الناس فراقا في العادة وقد ذكرنا الفرقة في البيع وما نواه بيمينه مما يحتمله لفظه فهو على ما نواه والله أعلم
مسألة : قال : ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك على كل مرة إلا أن يكون نوى مرة
وجملته إن من قال لزوجته إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني فأنت طالق أو قال إن خرجت إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى آذن لك فالحكم في هذه الألفاظ الخمسة أنها متى خرجت بغير إذنه طلقت وانحلت يمينه لأن حرف أن لا يقتضي تكرارا فإذا حنث مرة انحلت كما لو قال أنت طالق إن شئت وإن خرجت بإذنه لم يحنث لأن الشرط ما وجد وليس في هذا اختلاف ولا تنحل اليمين فمتى خرجت بعد هذا بغير إذنه طلقت
وقال الشافعي تنحل فلا يحنث بخروجها بعد ذلك لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي التكرار وإذا وجد بغير إذن حنث وإن وجد بإذن بر لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث
وقال أبو حنيفة في قوله إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني كقولنا لأن الخروج بإذنه في هذين الموضعين مستثنى من يمينه فلم يدخل فيها ولم يتعلق به بر ولا حنث وإن قال ان خرجت إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك متى أذن لها انحلت يمينه ولم يحنث بعد ذلك بخروجها بغير إذنه لأنه جعل الإذن فيها غاية ليمينه وجعل الطلاق معلقا على الخروج قبل إذنه فمتى أذن انتهت غاية يمينه وزال حكمها كما لو قال أن خرجت إلى أن تطلع الشمس أو إلا أن تطلع الشمس أو حتى تطلع الشمس فأنت طالق فخرجت بعد طلوعها ولأن حرف إلى وحتى للغاية لا للاستثناء
ولنا أنه علق الطلاق على شرط وقد وجد فيقع الطلاق كما لو لم تخرج بإذنه وقولهم قد بر غير صحيح لوجهين أحدهما : أن المأذون فيه مستثنى من يمينه غير داخل فيها فكيف يبر ألا ترى أنه لو قال لها أن كلمت رجلا إلا أخاك أو غير أخيك فأنت طالق فكلمت أخاها ثم كلمت رجلا آخر فإنها تطلق ولا تنحل يمينه بتكليمها أخاها ؟
والثاني : أن المحلوف عليه خروج موصوف بصفة ولا تنحل اليمين بوجود ما لم توجد فيه الصفة ولا يحنث به فلا يتعلق بما عداه بر ولا حنث كما لو قال خرجت عريانه فأنت طالق أو أن خرجت راكبة فأنت طالق فخرجت مستترة ماشية لم يتعلق به بر ولا حنث ولأنه لو قال لها إن كلمت رجلا فاسقا أو من غير محارمك فأنت طالق لم يتعلق بتكليمها لغير من هو موصوف بتلك الصفة بر ولا حنث فكذلك في الأفعال وقولهم تعلقت اليمين بخروج واحد قلنا إلا أنه خروج موصوف بصفة فلا تنحل اليمين بوجود غيره ولا يحنث به
وأما قول أصحاب أبي حنيفة أن الألفاظ الثلاثة ليست من ألفاظ الاستثناء قلنا قوله إلا أن آذن لك من ألفاظ الاستثناء واللفظتان الأخريان في معناه في إخراج المأذون ن يمينه فكان حكمهما كحكمه هذا الكلام فيما إذا أطلق فإن نوى تعليق الطلاق على خروج واحد تعلقت يمينه به وقبل قوله في الحكم لأنه فسر لفظه بما يحتمله إحتمالا غير بعيد وإن أذن لها مرة واحدة ونوى الإذن في كل مرة فهو على ما نوى وقد نقل عبد الله بن أحمد عن ابيه إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه أذن لها مرة فهو أذن لكل مرة وتكون يمينه على ما نوى وإن قال كلما خرجت فهو بإذني أجزأه مرة واحدة وإن نوى بقوله إلى أن آذن لك أو حتى آذن لك والغاية وأن الخروج المحلوف عليه ما قبل الغاية دون ما بعدها قبل قوله وانحلت يمينه بالإذن لنيته فإن مبني الأيمان على النية
فصل : وإن قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فأذن لها ثم نهاها فخرجت طلقت لأنها خرجت بغير إذنه وكذلك إن قال إلا بإذني وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه قد أذن ولا يصح لأن نهيه قد ابطل إذنه فصارت خارجة بغير إذنه وكذلك لو أذن لوكيله في بيع ثم نهاه عنه فباعه كان باطلا وإن قال إن خرجت بغير إذني لغير عيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض ثم تشاغلت بغيره أو قال إن خرجت إلة غير الحمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غيره ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحنث لأنها ما خرجت لغير عيادة مريض ولا إلى غير الحمام وهذا مذهب الشافعي
الثاني : يحنث لأن قصده في الغالب ألا تذهب إلى غير الحمام وعيادة لمريض وقد ذهبت إلى غيرهما ولأن حكم الاستدامة حكم الابتداء ولهذا لو حلف ألا يدخل دارا هو داخلها فأقام فيها حنث في أحد الوجهين وإن قصدت بخروجها الحمام وغيره أو العيادة وغيرها حنث لأنها خرجت لغيرهما وإن قال إن خرجت لا لعيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة المريض وإن قصدت معه غيره وإن قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أذن لها ولم تعلم فخرجت ففيه وجهان :
أحدهما : تطلق وبه قال أبو حنيفة و مالك و محمد بن الحسن
والثاني : لا يحنث وهو قول الشافعي و ابي يوسف لأنها أخرجت بعد وجود الأذن من جهته فلم يحنث كما لو علمت به ولأنه لو عزل وكيله انعزل وإن لم يعلم بالغزل فكذلك تصير مأذونا لها وإن لم تعلم ووجه الأول إن الأذن إعلام وكذلك قيل في قوله : { آذنتكم على سواء } أي أعلمتكم فاستويا في العلم { وأذان من الله ورسوله } أي أعلام : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فاعلموا به واشتقاقه من الإذن يعني أوقعته في أذنك واعلمتك به ومع عدم العلم لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا ولأن إذن الشارع في أوامره ونواهيه لا يثبت إلا بعد العلم بها كذلك إذن الآدمي وعلى هذا يمنع وجود الإذن من جهته
فصل : فإن حلف عليه أن لا تخرج من هذه الدار إلا بإذنه فصعدت سطحها أو خرجت إلى صحنها لم يحنث لأنها لم تخرج من الدار وإن حلف لا تخرج من البيت فخرجت إلى الصحن أو إلى سطحه حنث وهذا مقتضى مذهب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولو حلف على زوجته لا تخرج ثم حملها فأخرجها فإن أمكنها الامتناع فلم تمتنع حنث وقال الشافعي لا يحنث لأنها لم تخرج إنما أخرجت
ولنا أنها خرجت مختارة فحنث كما لو أمرت من حملها والدليل على خروجها إن الخروج الانفصال من داخل إلى خارج وقد وجد ذلك وما ذكره يبطل بما إذا أمرت من حملها فأما إن لم يمكنها الامتناع فيحتمل أن لا يحنث وهو قول أصحاب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي لأن الخروج لا ينسب إليها فأشبه ما لو حملها غير الحالف ويحتمل أن يحنث لأنه مختار لفعل ما حلف على تركه وإن حلف لا تخرجي إلا بإذن زيد فمات زيد ولم يأذن فخرجت حنث الحالف لأنه علقه على شرط ولم يوجد ولا يجوز فعل المشروط
مسألة : قال : ولو حلف ألا يأكل هذا الرطب فأكله تمرا حنث وكذلك كل ما تولد من ذلك الرطب
وجملة ذلك أنه إذا حلف على شيء عينه بالإشارة مثل أن حلف لا يأكل هذ الرطب لم يخل من حالين أحدهما : أن يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكونه فعل ما حلف على تركه صريحا الثاني : ان تتغير صفته وذلك يقسم خمسة أقسام
أحدها : أن تستحيل اجزاؤه ويتغير اسمه مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا أو لا اكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فهذا لا يحنث لأنه زال واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه إذا حلف لا شربت هذا الخمر فصارت خلا فشربه
القسم الثاني : تغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل أن يحلف لا آكل هذا الرطب فصار تمرا ولا أكلم هذا الصبي فصار شيخا ولا آكل هذا الحمل فصار كبشا أو لا آكل هذا الرطب فصار دبسا أو خلا أو ناطقا أو غيره من الحلواء ولا يأكل هذه الحنطة فصارت دقيقا أو سويقا أو خبزا أو هريسة أو لا أكلت هذا العجين أو هذا الدقيق فصار خبزا أو لا أكلت هذا اللبن فصار سمنا أو جبنا أو كشكا أو لا دخلت هذه الدار فصارت مسجدا أو حماما أو فضاء ثم دخلها أو أكله حنث في جميع ذلك وبه قال أبو حنيفة فيما إذا حلف لا كملت هذا الصبي فصار شيخا ولا أكلت هذا الحمل فصار كبشا ولا دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها وقال به أبو يوسف في الحنطة إذا صارت دقيقا ولـ لشافعي في الرطب إذا صار تمرا والصبي إذا صار شيخا والحمل إذا صار كبشا وجهان وقالوا في سائر الصور لا يحنث لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة فصارت فرخا
ولنا أن عين المحلوف عليه باقية فحنث بها كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أو لا لبست هذا الغزل فصار ثوبا فلبسه أو لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل وفارق البيضة إذا صارت فرخا لأن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولأنه لا اعتبار بالإسم مع التعيين كما لو حلف لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه لا كلمت صاحب هذ الطيلسان فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره مما رعف به كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الإضافة
القسم الثالث : تبدلت الإضافة مثل أن حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا دخلت داره هذه فطلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل الدار حنث وبه قال مالك و الشافعي و محمد وزفر وقال أبو حنيفة و أبو يوسف لا يحنث إلا في الزوجة لأن الدار لا توالي ولا تعادي وإنما الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليها وكذلك العبد في الغالب
ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة كان الحكم للتعيين كما لو قال والله لا كلمت زوجة فلان ولا صديقه وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالي ويعادي ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها
القسم الرابع : إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم انكسر ثم بري وسفينة تفصمت ثم أعيدت ودار هدمت ثم بنيت واسطوانة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن أجزاءها واسمها موجود فأشبه ما لو لم تتغير
القسم الخامس : إذا تغيرت صفته بما لم يزل اسمه كلحم شوي أو طبخ وعبد بيع ورجل مرض فإنه يحنث به بلا خلاف نعلمه لأن الإسم الذي علق عليه اليمين لم يزل ولا زال التغير فحنث به كما لو لم يتغير حاله
فصل : وإن قال والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذه الدار أو صاحب هذا الطيلسان أو لا كلمت هند امرأة سعد أ وصبيحا عبده أو عمرا صديقه فطلق الزوجة وباع العبد والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم حنث لأنه متى اجتمع الإسم والإضافة غلب الإسم بجريانه مجرى التعيين لتعريف المحل
فصل : ومتى نوى بيمينه في هذه الأشياء ما دام على تلك الصفة أو الإضافة أو لم يتغير فيمينه على ما نواه ل [ قوله عليه السلام : وإنما لامرىء ما نوى ] والله أعلم
مسألة : قال : ولو حلف ألا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث
وجملة ذلك أنه إذا لم يعين المحلوف ولم ينو بيمينه ما يخالف ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب عنه تعلقت يمينه بما تناوله الإسم الذي علق يمينه ولم يتجاوزه فإذا حلف ألا يأكل تمرأ لم يحنث إذا أكل رطبا ولا بسرا ولا بلحا وإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
فصل : ولو حلف لا يأكل عبنا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا فكلم شيخا أو لا يشتري جديا فاشترى تيسا أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها
فصل : فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر أو مذنبا وهو الذي بدأ فيه الإرطاب من ذنبه وباقيه بسر أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد و الشافعي وقال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا
ولنا أنه أكل رطبا وبسرا فحنث كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين وما ذكروه لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل الرطب فأكل القدر الذي أرطب من النصف حنث ولو حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في النصف حنث وإن أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما وإن حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في المنصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها برا جميعا وإن حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه رطبة ولا بسرة
فصل : وإن حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الانعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لأن الإسم يتناوله حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والمصل والأقط والكشك ونحوه فإن أكل زبدا لم يحنث نص عليه وقال القاضي يحتمل أن يقال في الزبد إن ظهر فيه لبن حنث لا بأكله زبدا وإلا فلا كما قلنا فيمن حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا مذهب الشافعي وإن حلف ألا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان الزبد ظاهرا فيه حنث وإن أكل جبنا لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن وإن حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا أو شيئا مما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث وإن أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ فظهر فيه طعمه حنث ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن أو لا يأكل خلا فأكل طبيخا فيه خل يظهر طعمه فيه حنث وبهذا قال الشافعي وقال بعض أصحابه لا يحنث لأنه لم يفرده بالأكل ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو أكله ثم كل غيره
فصل : وإن حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات شعير حنث لأنه أكل شعيرا فحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا ويحتمل أن لا يحنث لأنه يستهلك في الحنطة فأشبه السمن في الخبيص وإن نوى بيمينه ألا يأكل الشعير منفردا أو كان سبب يمينه يقتضي ذلك أو يقتضي أكل شعير يظهر أثر أكله لم يحنث إلا بذلك لما قدمنا
فصل : فإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة وهي كل ثمرة تخرج من الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والأترج والتوت والنبق والموز والجوز والجميز وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة و أبو ثور لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } والمعطوف يغاير المعطوف عليه
ولنا أنهما ثمرة شجرة يتفكه بهما فكانا من الفاكهة كسائر ما ذكرنا ولأنهما في عرف الناس فاكهة ويسمى بائعهما فاكهانيا وموضع بيعهما دار الفاكهة والأصل في العرف الحقيقة والعطف لشرفهما وتخصيصهما كقوله تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وهما من الملائكة فأما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين والمشمش اليابس والإجاص ونحوها فهو من الفاكهة لأنه ثمر شحرة يتفكه بها ويحتمل أنه ليس منها لأنه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب والزيتون ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه بأكله وإنما المقصود زيته وما يؤكل منه يقصد به التأدم لا التفه والبطم في معناه لأن المقصود زيته ويحتمل أنه فاكهة لأنه ثمر شجر يؤكل غضا ويابسا على جته فأشبه التوت والبلوط ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه به وإنما يؤكل عند المجاعة أو التداوي وكذلك سائر ثمر شجر البر الذي لا يستطاب كالزعرور الأحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس ونحوه وإن كان فيها ما يستطاب كحب الصنوبر فهو فاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به
فصل : فأما القثاء والخيار والقرع والباذنجان فهو من الخضر وليس بفاكهة وفي البطيخ وجهان
أحدهما : هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي و أبي ثور لأنه ينضج ويحلو أشبه ثمر الشجر
الثاني : ليس من الفاكهة لأنه ثمر بقلة أشبه الخيار والقثاء وأما ما يكون في الأرض كالجزر واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه فليس شيء من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى بها ولا هو في معناها
فصل : وإن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل كل ما جرت العادة بأكل الخبز به لأن هذا معنى التأدم وسواء في هذا ما يصطبغ كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى في الزيت : { وصبغ للآكلين } وقال عليه السلام : [ نعم الادام الخل ـ وقال ـ ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ] رواه ابن ماجة أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون والبيض وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و أبو يوسف : ما لا يصطبغ به فليس بأدم لأن كل واحد منهما يرفع إلى ا لفم منفردا
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سيد الإدام اللحم ] وقال : [ سيد ادامكم الملح ] رواه ابن الماجة لأنه يؤكل به الخبز عادة فكان ادما كالذي يصطبغ به ولأن كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده إنما بعد للتأدم به وأكل الخبز به فكان أدما كالخل واللبن وقولهم أنه يرفع إلى الفم وحده مفردا عنه جوابان أحدهما : أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه
والثاني : أنهما يحتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل فلا يضر افتراقهما قبله فأما التمر ففيه وجهان
أحدهما : هو أدم لما [ روى يوسف عن عبد الله بن سلام قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع تمرة على كسرة وقال : هذه ادام هذه ] رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد
والثاني : ليس بأدم لأنه لا يؤتدم به عادة إنما يؤكل قوتا أو حلاوة وإن أكل الملح مع الخبز فهو ادام لما ذكرنا من الخبز ولأنه يؤكل به الخبز ولا يؤكل منفردا عادة أشبه الجبن والزيتون
فصل : فإن حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء وتمر وجامد ومائع حنث قال الله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } وقال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } يعني على محبة الطعام لحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى وقال الله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وسمى النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللبن طعاما ] وقال : [ إنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ] وفي الماء وجهان :
أحدهما : هو طعام لقول الله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } والطعام ما يطعم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء
والثاني : ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من إطلاق اسم الطعام ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني لا أعلم ما يجزىء من الطعام والشراب إلا اللبن ] ورواه ابن ماجة ويقال باب الأطعمة والأشربة ولأنه إن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه لأن مبني الأيمان على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد بلفظه إلا ما يعرفه فإن أكل دواء ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأنه يطعم حال الاختيار وهذا مذهب الشافعي
والثاني : لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام ولا يؤكل إلا عند الضرورة فإن أكل من نبات الأرض ما جرت العادة بأكله حنث وإن أكل ما لا يجزئه عادة كورق الشجر ونشارة الخشب احتمل وجهين :
أحدهما : يحنث لأنه قد أكله فأشبه ما جرت العادة بأكله ولأنه روي عن عتبة بن غزوان أنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سابع سبعة مالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا والثاني : لا يحنث لأنه لا يتناوله اسم الطعام في العرف
فصل : فإن حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو زبيبا أو لحما أو لبنا حنث لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكل ما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى القوت لمتعارف عندهم في بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن أكل سويقا أو استف دقيقا حنث لأنه لا يقتات كذلك ولهذا قال بعض اللصوص
( لا تخبزا خبزا وبسابسا ... ولا تطيلا بمقام حبسا )
وإن أكل حبا يقتات خبزه لأنه يسمى قوتا ولذلك روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدخر قوت عياله لسنة وإنما يدخر الحب ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا يقتات كذلك وإن أكل عنبا أو حصرما أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا
فصل : فإن حلف لا يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا سواء كان من الأثمان أو غيرها من العقار والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله إنما يتناول نذره الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن إطلاق المال ينصرف إليه
وقال ابو حنيفة لا يحنث إلا أن ملك مالا زكويا استحسانا لأن الله تعالى قال : { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } فلم يتناول إلا الزكوية
ولنا أن غير الزكوية أموال قال الله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } وهي مما يجوز ابتغاء النكاح بها [ وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه و سلم أن أحب أموالي إلي بيرجاء يعني حديقة وقال عمر أصبت مالا بأرض خيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه وقال أو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته وفي الحديث : خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة ] ويقال خير المال عين خرارة في أرض خوارة ولأنه يسمى مالا فحنث به كالزكوي وأما قوله : { وفي أموالهم حق } فالحق ههنا غير الزكاة لأن هذه الآية مكية نزلت قبل فرض الزكاة فإن الزكاة إنما فرضت بالمدينة ثم لو كان الحق الزكاة فلا حجة فيها فإن الحق إذا كان في بعض المال فهو في المال كما إن من هو في بيت من دار أو في بلدة فهو في الدار والبلدة قال الله عز و جل : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } ولا يلزم أن يكون في كل أقطارها ثم لو اقتضى هذا العموم لوجب تخصيصه فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه فإن حلف لا مال له وله دين حنث ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به
ولنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالابراء والحوالة والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه فيحنث به كالمودع وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه باق على ملكه فإن كان له مال ضائع ففيه وجهان أحدهما : يحنث لأن الأصل بقاؤه على ملكه والثاني : لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه وإن ضاع على وجه قد يئس من عوده كالذي يسقط في بحر لم يحنث لأن وجوده كعدمه ويحتمل أن لا يحنث في كل موضع لا يقدر على أخذ ماله كالمجحود والمغصوب والذي على غير مليء لأنه لا نفع فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الأخذ من الزكاة وانتفاء وجوب أدائها عليه عنه وإن تزوج لم يحنث لأنه ما يملكه ليس بمال وإن وجب له حق شفعة لم يحنث لأنه لم يثبت له الملك به وإن استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لأنه لا يسمى مالكا لمال
مسألة : قال : ولو حلف لا يأكل لحما فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم فيحنث بأكل الشحم
وجملته أن الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران والقانصة ونحوها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك يحنث بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ
ولنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه بإسمه وصفته ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا لم يكن ممتثلا لأمره ولا بنفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله كالبقل [ وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا بلحم قول النبي صلى الله عليه و سلم : أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال ] ولا نسلم أنه لحم حقيقة بل هو من الحيوان مع اللحم كالعظم والدم فأما إن قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم لأن له دسما وكذلك المخ وكل ما فيه دسم
فصل : ولا يحنث بأكل الآلية وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث لأنها نابته في اللحم وتشبهه في الصلابة وليس بصحيح لأنها لا تسمى لحما ولا يقصد بها ما يقصد به وتخالفه في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن فأما الشحم الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث بأكله في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال اللحم لا يخلو من شحم يشير إلى ما يخالط اللحم مما تذيبه النار وهذا كذلك وهذا قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم أبو يوسف ومحمد وقال القاضي هو لحم يحنث بأكله ولا يحنث بأكله من حلف لا يأكل شحما وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحما ولا بائعه شحاما ولا يفرد عن اللحم مع الشحم ويسمى بائعه ويسمى لحاما سمينا ولو وكل في شراء لحم فاشتراه الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه
ولنا قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } ولأنه يشبه الشحم في صفته وذوبه ويسمى دهنا فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم أنه لا يسمى شحما ولا أنه يسمى بمفرده لحما وإنما يسمى اللحم الذي هو عليه لحما سمينا ولا يسمى بائعه شحاما لأنه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعا للحم وهو تابع له في الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما ولم يسم شحاما لأنه سمي بما هو الأصل فيه دون التبع
فصل : وإن أكل المرق لم يحنث ذكره أبو الخطاب قال وقد روي عن احمد أنه قال لا يعجبني الأكل من المرق وهذا على طريق الورع وقال ابن أبي موسى والقاضي يحنث لأن المرق لا يخلو من أجزاء اللحم الذائبة وقد قيل المرق أحد اللحمين
ولنا أنه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسمه فلم يحنث به كالكبد ولا نسلم أن أجزاء اللحم فيه وإنما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك بلحم وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره من قولهم : الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه جعلها غير اللحم الحقيقي
فإن أكل رأسا أو كارعا فقد روي عن أحمد ما يدل على أنه لا يحنث لأنه روي عنه ما يدل على أن من حلف لا يشتري لحما فاشترى راسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوي أن لا يشتري من الشاة شيئا قال القاضي لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رآسا ولا يسمى لحاما وقال أبو الخطاب يحنث بأكل لحم الخد لأنه لحم حقيقة وحكي عن أبي موسى أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمن وإن أكل اللسان احتمل وجهين أحدهما : يحنث لأنه لحم حقيقة والثاني : لا يحنث لأنه ينفرد عن اللحم بإسمه وصفته فأشبه القلب
مسألة : قال : فإن حلف ألا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث لأن اللحم لا يخلو من شحم
ظاهر كلام الخرقي أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان فظاهر الآية والعرف يشهد لقوله وهذا ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة وقال به أبو يوسف ومحمد بن الحسن فعلى هذا لا يكاد لحم يخلو من شيء منه وإن قل فيحنث به وقال القاضي الشحم هو الذي في الجوف من شحم الكلى أو غيره وإن أكل من كل شيء من الشاة من لحمها الأحمر والأبيض والألية والكبد والطحال والقلب فقال شيخنا لا يحنث يعني ابن حامد لأن اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وقد سبق الكلام في أن شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به وأما أن أكل لحما أحمر وحده لا يظهر فيه شيء من الشحم فظاهر كلام الخرقي أنه يحنث لأنه لا يخلو من شحم وإن قل ويظهر في الطبخ فإنه يبين على وجه المرق وإن قل وبهذا يفارق من حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمة ولا لونه فإن هذا قد يظهر الدهن فيه وقال غير الخرقي من اصحابنا لا يحنث وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمة ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه
فصل : ويحنث بالأكل من الألية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن يذوب بالنار ويباع مع الشحم ولا يباع مع اللحم وعلى قول القاضي وموافقيه ليست شحما ولا لحما فلا يحنث به الحالف على تركها
مسألة : قال : وإذا حلف ألا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من لحم الانعام أو الطيور أو السمك حنث
أما إذا أكل من لحم الانعام أو الصيد أو الطائر فإنه يحنث في قول عامة علماء الأمصار وأما السمك فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله وبهذا قال قتادة و الثوري و مالك و أبو يوسف وقال ابن أبي موسى في الإرشاد لا يحنث به إلا أن ينويه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي و أبي ثور لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلا في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفى عنه الإسم فيقول ما أكلت لحما وإنما أكت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما لو حلف لأقعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بالقعود تحت السماء وقد سماها الله تعالى سقفا محفوظا لأنه مجاز كذا ههنا
ولنا قول الله تعالى : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } وقال : { ومن كل تأكلون لحما طريا } ولأنه من جسم حيوان ويسمى لحما فحنث بأكله كلحم الطائر وما ذكروه يبطل بلحم الطائر وإما السماء فإن الحالف ألا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم أنه لم يردها بيمينه ولأن التسمية ثم مجاز وههنا هي حقية لكونه من جسم حيوان يصلح للأكل فكان الإسم فيه حقيقة كلحم الطائر حيث قال الله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون }
فصل : ويحنث بأكل اللحم المحرم كلحم الميتة والخنزير والمغصوب وبه قال ابو حنيفة وقال الشافعي في أحد الوجهين لا يحنث بأكل المحرم باصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى ما يحرم فلم يحنث بما لا يحل وكما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث
ولنا أن هذا لحم حقيقة وعرفا فيحنث بأكله كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما فقال : { ولحم الخنزير } وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه ليس ببيع في الحقيقة

مسألة أقسام الأسماء
فصل : والأسماء تنقسم إلى ستة أقسام :
أحدها : ما له مسمى واحد كالرجل والمرأة والنمسان والحيوان فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف
الثاني : ما له موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع ونحو ذلك فهذا تنصرف اليمن عند الإطلاق إلى موضوعه الشرعي دون اللغوي لا نعلم فيه أيضا خلافا غير ما ذكرناه فيما تقدم
الثالث : ما له موضوع حقيقي ومجاز لم يشتهر أكثر من الحقيقة كالأسد والبحر فيمن الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لأن كلام الشارع إذا ورد في مثل هذا حمل على حقيقته دون مجازه كذلك اليمين
الرابع : الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه فهذا على ضروب أحدها : ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية هي في العرف اسم المزادة وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها والعذرة والغائط في العرف الفصلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار ولذلك قال علي عليه السلام لقوم مالكم لا تنظقون عذراتكم ؟ يريد افنيتكم والغائط المكان المطمئن فهذا واشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره
الضرب الثاني : أن عرف الإستعمال بعض الحقيقة بالإسم وهذا يتنوع أنواعا فمنه ما يشتهر التخصيص فيه كلفظ الدابة هو في الحقيقة اسم لكل ما يدب قال الله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وقال : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } وفي العرف اسم للبغال والخيل والحمير ولذلك لو وصى إنسان رجل بدابة من دوابه كان له أحد هذه الثلاث فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق كالذي قبله ويحتمل أن تتناول يمينه الحقيقة بناء على قولهم فيما سنذكره وعلى قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم إن يمينه تتناول السمك ومن هذا النوع إذا حلف ألا يشم الريحان فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي وهو في الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس
وقال القاضي : لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه وقال أبو الخطاب يحنث بشم ما يسمى في الحقيقة ريحانا لأن الاسم يتناوله حقيقة ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا لأنها لا تسمى ريحانا حقيقة ولا عرفا ومن هذا لو حلف لا يشم وردا ولا بنفسجا فشم دهن البنفسج وماء الورد فقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا
وقال أبو الخطاب يحنث لأن الشم أنما هو للرائحة دون الذات ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما وقال أبو حنيفة يحنث بشم دهن البنفسج لأنه يسمى بنفسجا ولا يحنث بشم ماء الورد لأنه لا يسمى وردا والأول أقرب إلى الصحة إن شاء الله وإن شم الورد والبنفسج اليابس حنث وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا
ولنا أن حقيقته باقية فحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل قديدا وفارق ما ذكروه فإن التمر ليس رطبا وإن حلف لا يأكل شواء حنث باكل اللحم المشوي دون غيره من البيض المشوي وما عداه وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو يوسف و ابن المنذر ويحنث بأكل كل ما يشوى لأنه شواء
ولنا أن هذا لا يسمى شواء فلم يحنث بأكله كالمطبوخ وقولهم هو شواء في الحقيقة قلنا لكنه لا يسمى شواء في العرف والظاهر أنه إنما يريد المسمى شواء في عرفهم وإن حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو حماما فإنه يحنث نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يحنث وهو قول أكثر الفقهاء لأنه لا يسمى بيتا في العرف فأشبه ما قبله من الأنواع والأول المذهب لأنهما بيتان حقيقة وقد سمى الله المساجد بيوتا فقال : { في بيوت أذن الله أن ترفع } وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } وروي في حديث : [ المسجد بيت كل تقي ]
وروي في خبر : [ بئس البيت الحمام ] وإذا كان بيتا في الحقيقة ويسميه الشارع بيتا حنث بدخوله كبيت الإنسان ولا يسلم أنه من الأنواع فإن هذا يسمى بيتا في العرف بخلاف الذي قبله وإن دخل بيتا من شعر أو غيره حنث سواء كان الحالف حضريا أو بدويا فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا قال الله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم } فأما ما لا يسمى في العرف بيتا كالخيمة فالأولى أن لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا لأن يمينه لا تنصرف إليه فإن دخل دهليز دار أو صفتها لم يحنث وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة يحنث لأن جميع الدار بيت
ولنا أنه لا يسمى بيتا ولهذا يقال ما دخلت البيت إنما وقفت في الصحن وإن حلف لا يركب فركب سفينة فقال أبو الخطاب يحنث لأنه ركوب قال الله تعالى : { اركبوا فيها بسم الله مجريها } وقال : { فإذا ركبوا في الفلك }
الضرب الثالث : أن يكون الإسم المحلوف عليه عاما لكن أضاف إليه فعلا لم تجر العادة به وإلا في بعضه أو اشتهر في البعض دون البعض مثل أن يحلف أن لا يأكل راسا فإنه يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والصيود والطيور والحيتان والجراد ذكره القاضي وقال أبو الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للأكل منفردا وقال الشافعي لا يحنث إلا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام دون غيرها إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها وقال أبو حنيفة لا يحنث بأكل رؤوس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة وقال صحباه لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها
ووجه الأول أن هذه رؤوس حقيقة وعرفا مأكولة فحنث بأكلها كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم التعام والزرافة وما ينذر وجوده وبيعه ومن ذلك إذا حلف لا يأكل بيضا حنث بأكل بيض كل حيوان سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق
ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج ولأنه لو حلف لا يشرب ماء فشرب ماء البحر أو ماء نجسا أو لا يأكل خبزا فأكل الأرز أو الذرة في مكان لا يعتاد أكله فيه حنث فأما أن أكل بيض السمك أو الجراد فقال القاضي يحنث لأنه بيض حيوان أشبه بيض النعام
وقال أبو الخطاب : لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة وهذا قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض ولا يذكر إلا مضافا إلى بائضه ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير بيض الحيوان ولا بأكل شيء يسمى رأسا غير ؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة والله أعلم

مسألة وفصلان حكم ما لو حلف الا يأكل سويقا فأكل أو لا شرب شيئا فمصه أو حلف ليأكلن فلم يبر
مسألة : قال : وإن حلف ألا يأكل سويقا فشربه أو لا يشربه فأكله حنث إلا أن تكون له نية
وجملته أن من حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين إحداهما : يحنث لأن اليمين على ترك أكل شيء أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشيء فحملت اليمين عليه إلا أن ينوي ألا ترى أن قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم } و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } لم يرد به الأكل على الخصوص ؟ ولو قال طبيب لمريض لا تأكل العسل لكان ناهيا له عن شربه
والثانية : لا يحنث وهذا مذهب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولأن الأفعال أنواع كالأعيان ولو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره وكذلك الأفعال وقال القاضي إنما الروايتان فيمن عين المحلوف عليه مثل من حلف لا أكلت هذا السويق فشربه أو لا يشربه فأكله اما إذا أطلق فقال لا أكلت سويقا فشربه لم يحنث رواية واحدة لا يختلف المذهب فيه وهذا مخالف لإطلاق الخرقي وليس للتعيين أثر في الحنث وعدمه فإن بين الحنث في المعين إنما هو لتناوله ما حلف عليه وإجراء معنى الأكل والشرب على التناول العام فيهما وهذا لا فرق فيه بين التعيين وعدمه وعدم الحنث يتعلل بأنه لم يفعل الفعل الذي حلف على تلاكه وإنما فعل غيره وهذا في المعين روايتان كانتا في المطلق لعدم الفارق بينهما ولأن الرواية في الحنث أخذت من كلام الخرقي وليس فيه تعيين ورواية عدم الحنث أخذت من رواية مهنا عن أحمد فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ فأكله لا يحنث لأنه لا يسمى شربا وهذا في المعين فإن عديت كل رواية إلى محل الأخرى وجب أن يكون في الجميع روايتان وإن قصرت كل رواية على محلها كل الأمر على خلاف ما قال القاضي وهو أن يحنث في المطلق ولا يحنث في المعين فأما إن حلف ليأكلن شيئا فشربه أو ليشربنه فأكله فيخرج فيه وجهان بناء على الروايتين في الحنث إذا حلف على الترك ومتى تقيدت يمينه بنية أو سبب يدل عليها كانت يمينه على ما نواه أو دل عليه السبب لأن مبني الأيمان على النية
فصل : وإن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وقال ابن أبي موسى إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم قالوا إذا حلف لا يشرب فمص حب رمان ورمى بالثفل لا يحنث لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب ويجيء على قول الخرقي أنه يحنث لأنه قد تناوله ووصل إلى بطنه وحلقه فإنه يحنث على ما قلنا فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فيه حتى ذاب فابتلعه خرج على الروايتين وإن حلف لا يطعم شيئا حنث بالأكل والشرب والمص لأن ذلك كله طعم قال الله تعالى في النهر : { ومن لم يطعمه } وإن حلف لا يأكله أو لا يشربه فذاقه لم يحنث في قولهم جميعا لأنه ليس بأكل ولا شرب ولذلك لم يفطر به الصائم وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه أو مصه حنث لأنه ذوق وزيادة وإن مضغه ورمى به حنث لأنه قد ذاقه
فصل : وإن حلف ليأكلن أكله بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة وهي المرة من الأكل والأكلة بالضم اللقمة ومنه : فيناوله في يده أكلة أو أكلتين

مسألة حكم ما لو حلف بالطلاق الا يأكل تمرة فوقعت في تمر
مسألة : قال : ومن حلف بالطلاق ألا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله
وجملته أن خالف هذه اليمين لا يخلو من أحوال ثلاثة
أحدها : أن يتحقق أكل التمرة المحلوف عليها فأما أن يعرفها بعينها أو بصفتها أو يأكل التمر كله أو الجانب الذي وقعت فيه كله فهذا يحنث بلا خلاف بين أهل العلم وبه يقول الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي لأنه أكل التمرة المحلوف عليها
الثاني : أن يتحقق أنه لم يأكلها أما بان لا يأكل من التمر شيئا أو أكل شيئا يعلم انه غيرها فلا يحنث أيضا بلا خلاف ولا يلزمه اجتناب زوجته
الثالث : أكل من التمر شيئا إما واحدة أو أكثر إلى أن لا يبقى منه إلا واحدة ولم يدر هل أكلها أم لا ؟ فهذه مسألة الخرقي فلا يتحقق حنثه لأن الباقية يحتمل أنها المحلوف عليها ويقين النكاح ثابت فلا يزول بالشك وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون حكم الزوجية باقيا في لزوم نفقتها وكسوتها ومسكنها وسائر أحكامها إلا الوطء فإن الخرقي قال يمنع وطأها لأنه شاك في حلها فحرمت عليه كما لو اشتبهت عليه امرأته بأجنبية وذكر أبو الخطاب أنها باقية على الحل وهو مذهب الشافعي لأن الأصل الحل فلا يزول بالشك كسائر أحكام النكاح ولأن النكاح باق حكما فاثبت الحل كما لو شك هل طلق أم لا ؟ وإن كانت يمينه ليأكلن هذه التمرة فلا يتحقق بره حتى يتحقق أنه أكلها

مسألة وفصل حكم ما لو حلف أن يضربه عشرة أسواط فجمعها فضربه ضربة واحدة
مسألة : قال : ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال ابن حامد يبر لان أحمد قال في المريض عليه الحد يضرب بعثكال النخل فيسقط عنه الحد وبهذا قال الشافعي إذا علم أنها مسته كلها وإن علم أنها لم تمسه كلها لم يبر وإن شك لا يحنث في الحكم لان الله تعالى قال : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } وقال النبي صلى الله عليه و سلم في المريض الذي زنى : [ خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ] ولانه ضربه بعشرة اسواط فبر في يمينه كما لو فرق الضرب
ولنا ان معنى يمينه ان يضربه عشرة ضربات ولم يضربه الا ضربة واحدة فلم يبر كما لو حلف ليضربنه عشر مرات بسوط والدليل على هذا انه لو ضربه عشر ضربات بسوط واحد يبر في يمينه بغير خلاف ولو عاد العدد الى السوط لم يبربالضرب بسوط واحد كما لو حلف ليضربنه بعشرة اسواط ولان السوط ههنا آلة اقيمت مقام المصدر فانتصب انتصابه فمعنى كلامه لا ضربنه عشر ضربات بسوط وهذا هو المفهوم من يمينه والذي يقتضيه لغة فلا يبر بما يخالف ذلك واما أيوب عليه السلام فان الله تعالى ارخص له رفقا بامرأته لبرها به واحسانها اليه ليجمع له بين بره في يمينه ورفقه بامرأته ولذلك امتن عليه بهذا وذكره في جملة ما من عليه به من معافاته اياه من بلائه واخراج الماء له فيختص هذا به كاختصاصه بما ذكر معه ولو كان هذا الحكم عاما لكل واحد لما اختص أيوب بالمنة عليه وكذلك المريض الذي يخاف تلفه ارخص له بذلك في الحد دون غيره واذا لم يتعده هذا الحكم في الحد الذي ورد النص به فيه فلئلا يتعداه الى اليمين اولا ولو خص بالبر من له عذر يبيح العدول في الحد الى الضرب بالعثكال لكان له وجه وأما تعديته الى غيره فبعيدة جدا ولو حلف أن يضربه بعشرة أسواط فجمعها فضربه بها بر لأنه قد فعل ما حلف عليه وإن حلف ليضربنه عشر مرات لم يبر بضربه بعشرة أسواط دفعة واحدة بغير خلاف لأنه لم يفعل ما تناولته يمينه وإن حلف ليضربنه عشر ضربات فكذلك إلا وجها لأصحاب الشافعي أنه يبر وليس بصحيح لأن هذه ضربة واحدة باسواط ولهذا يصح أن يقال ما ضربته إلا ضربة واحدة ولو حلف لا يضربه أكثر من ضربة واحدة ففعل هذا لم يحنث في يمينه
فصل : ولا يبر حتى يضربه ضربا يؤلمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي : يبر بما لا يؤلم لأنه يتناوله الإسم فوقع البر به كالمؤلم
ولنا أن هذا يقصد به في العرف التأليم فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب الضرب في الشرع في حد أو تعزير كان من شرطه التأليم كذا ههنا

مسألة وفصول حكم ما لو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أشار إليه أو كلم غيره وقصد اسماعه أو ناداه
مسألة : قال : ولو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث ألا أن يكون أراد أ لا يشافهه
أكثر أصحابنا على هذا وهو مذهب مالك و الشافعي وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه كتابا قال وأي شيء كان سبب ذلك ؟ إنما ينظر إلى سبب يمينه ولم حلف أن الكتاب قد يجري مجرى الكلام والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات وهذا يدل على أنه لا يحنث بالكتاب إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه وترك صلته وإن لم يكن كذلك لم يحنث بكتاب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكلم في الحقيقة وهذا يصح نفيه فيقال ما كلمته وإنما كاتبته أو راستله ولذلك قال الله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } وقال : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال : { وكلم الله موسى تكليما } ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي لقد كان فيه أنس وما كلمته قط وقد كانت بينهما مراسلة وممن قال لا يحنث بهذا الثوري و أبو حنيفة و ابن المنذر و الشافعي في الجديد واحتج اصحابنا بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي } فاستثنى الرسول من التكلم والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ولأنه وضع لافهام الآدميين أشبه الخطاب والصحيح أن هذا ليس بتكلم وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في الآية الأخرى { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } والرمز ليس بتكلم لكن أن نوى ترك مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث لذلك ولذلك قال أحمد أن الكتاب يجري مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام فلم يجعله كلاما إنما قال هو بمنزلته في بعض الحالات إذا كان السبب يقتضي ذلك وإذا أطلق احتمل أن لا يحنث لأنه لم يكلمه واحتمل أن يحنث لأن الغالب من الحالف هذه اليمين قصد ترك المواصلة فتعلق يمينه بما يراد في الغالب كقولنا في المسألة قبلها والله أعلم
فصل : وإن أشار إليه ففيه وجهان قال القاضي يحنث لأنه في معنى المكاتبة والمراسلة في الإفهام والثاني : لا يجنث ذكره أبو الخطاب لأنه ليس بكلام قال الله تعالى لمريم عليها السلام : { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } إلى قوله { فأشارت إليه } وقال في زكريا : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } إلى قوله { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } [ ولأن الكلام حروف وأصوات ولا يوجد في الإشارة ولأن الكلام شيء مسموع وتبطل به الصلاة قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ] والإشارة بخلاف هذ فإن قيل فقد قال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } قلنا هذا استثناء من غير الجنس بدليل ما ذكرنا وصحة نفيه عنه فيقال ما كلمه وإنما أشار إليه
فصل : فإن كلم غير المحلوف عليه بقصد اسماع المحلوف عليه فقال أحمد يحنث لأنه قد اراد تكليمه وقد روينا عن أبي بكر نفيع بن الحارث أنه كان قد حلف أن لا يكلم أخاه زيادا فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكر إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال يا ابن أخي إن أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا النسب الذي ادعاه وهو يعلم أنه ليس بصحيح وإن هذا لا يحل له ثم قام فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما له ووجه الأول أنه أسمعه كلامه قاصدا لاسماعه وإفهامه فأشبه مالو خاطبه وقال الشاعر : ( اياك أعني فاسمعي ياجارة )
فصل : فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث نص عليه أحمد فإنه سئل عن رجل حلف أن لا يكلم فلانا فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال يحنث لأنه قد أراد تكليمه وهذا لكون ذلك يسمى تكليما يقال كلمته فلم يسمع وإن كان ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم بتكليمه إياه لم يحنث وبهذا قال الشافعي [ وحكي عن أبي بكر أنه يحنث بنداء الميت لأن النبي صلى الله عليه و سلم كلمهم وناداهم وقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ]
ولنا قوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } ولأنه قد بطلت حواسه وذهبت نفسه فكان أبعد من السماع من الغائب البعيد لبقاء الحواس في حقه وإنما كان ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم كرامة له وأمرا اختص به فلا يقاس عليه غيره
فصل : وإن سلم على المحلوف عليه حنث لأن الإسلام كلام تبطل الصلاة به وإن سلم على جماعة هو فيهم أو كلمهم فإن قصد المحلوف عليه مع الجماعة حنث لأنه كلمه وإن قصدهم دونه لم يحنث قال القاضي لا يحنث رواية واحدة وهو مذهب الشافعي لأن اللفظ العام يحتمل التخصيص فإذا نواه به فهو على ما نواه وإن أطلق حنث وبه قال الحسن و أبو عبيد و مالك و أبو حنيفة لأنه مكلم لجميعهم لأن مقتضى اللفظ العموم فيحمل على مقتضاه عند الإطلاق وقال القاضي فيه روايتان ولـ لشافعي قولان
أحدهما : لا يحنث لأن العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالإحتمال والأول أولى لأن هذا الإحتمال مرجوح فيتعين العمل بالراجح كما احتمل اللفظ المجاز الذي ليس بمشتهر فإنه يمنع حمله على الحقيقة عند إطلاقه فإن لم يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه روايتان إحداهما : لا يحنث لأنه لم يرده فأشبه ما لو استثناه والثانية : يحنث لأنه قد أرادهم بسلامة وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي وإن كان وحده فسلم عليه ولا يعرفه فقال أحمد يحنث ويحتمل أن لا يحنث بناء على الناسي والجاهل
فصل : فإن حلف لا يكلمه ثم وصل يمينه بكلامه مثل أن قال فتحقق ذلك أو فاذهب فقال أصحابنا يحنث وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحنث بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول والذي يقتضيه يمينه أن لا يكلمه كلاما مستأنفا واحتج أصحابنا بأن هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه فيحنث به كما لو فصله ولأن ما يحنث به إذا فصله يحنث به إذا وصله كالكثير وقولهم أن اليمين يقتضي خطابا مستأنفا قلنا وهذا الخطاب مستأنف غير الأول بدليل أننه لو قطعه حنث به وقياس المذهب أنه لا يحنث لأن قرينة صلته هذا الكلام بيمينه تدل على إرادة كلام يستأنفه بعد انقضاء هذا الكلام المتصل فلا يحنث به كما لو وجدت النية حقيقة وإن نوى كلاما غير هذا لم يحنث بهذا في المذهبين
فصل : وإن صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة لم يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي يحنث لأنه شرع له أن ينوي السلام على الحاضرين ولنا أنه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامه واجبة في السلام وإن أرتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين
فصل : وإن حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن قرأ في الصلاة لم يحنث وإن قرأ خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله وإن ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث لأنه كلام قال الله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الكلام أربع : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ] وقال : [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم ]
ولنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ] لم يتناول المختلف فيه وقال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولأن ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا منها كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة وذكر الله المشروع فيها وإن استأذن عليه إنسان فقال : { ادخلوها بسلام آمنين } يقصد القرآن لم يحنث وإلا حنث
فصل : وإن حلف لا يتكلم ثلاث ليال أو ثلاثة أيام لم يكن له أن يتكلم في الأيام التي بين الليالي ولا في الليالي التي بين الأيام إلا أن ينوي لأن الله تعالى قال : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } وفي موضع آخر { ثلاث ليال سويا } فكان كل واحد من اللفظين عبارة عن الزمانين جميعا وقال الله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } فدخل فيه الليل والنهار
فصل : ومن حلف أن لا يتكفل بمال فكفل ببدن إنسان فقال أصحابنا يحنث لأن المال يلزمه بكفالته إذا تعذر تسليم المكفول به والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال وإنما يلزمه المال بتعذر إحضار المكفول به وأما قبل ذلك فلا يلزمه ولأن هذا لا يسمى كفالة بالمال ولا يصح نفيها عنه فيقال ما تكفل بمال وإنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي
فصل : وإن حلف لا يستخدم عبدا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي أن كان عبده حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهذا قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عبادة بحكم استحقاقه ذلك عليه فيكون معنى يمينه لامنعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه فيحنث وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب يحنث في الحالين لأن إقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن لم يأمره ولأن ما حنث به في عبده حنث به في غيره كسائر الأشياء وقال الشافعي لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه ولا يحنث بفعل غيره كسائر الأفعال
فصل : وإذا حلف رجل بالله لا يفعل شيئا فقال له آخر يميني في يمينك لم يلزمه شيء لأن يمين الأول ليست ظرفا ليمين الثاني وإن نوى أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك لم يلزمه حكمها قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ باسم الله المحترم أو صفة من صفاته ولا يوجد ذلك في الكناية وإن حلف بطلاق فقال آخر يميني في يمينك ينوي أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك انعقدت يمينه نص عليه أحمد وسئل عن رجل حلف بالطلاق لا يكلم رجلا فقال رجل وأنا على مثل يمينك فقال عليه مثل ما قال الذي حلف لأن الكناية تدخل في الطلاق وكذلك يمين العتاق والظهار وإن لم ينو شيئا لم تنعقد يمينه لأن الكناية لا تعمل بغير نية وليس هذا بصريح وإن كان المقول له لم يحلف بعد وإنما أراد أنه يلزمه الآخر من يمين يحلف بها فحلف المقول له لم تنعقد يمين القائل وإن كان في الطلاق والعتاق لأنه لا بد أن يكون هناك ما يكنى عنه وليس ههنا ما يكنى عنه وذكر القاضي في موضع آخر فيمن قال أيمان البيعة تلزمني أنه أن عرفها ونوى جميع ما فيها انعقدت يمينه بجميع ما فيها وهذا خلاف ما قاله في هذه المسألة فيكون فيها وجهان
فصل : فان قال ايمان البيعة تلزمني فقال ابو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن ايمان البيعة فقال لست افتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي في هذه اليمين قال : وكان أبي رحمه الله يعني ابا علي يهاب الكلام فيها ثم قال ابو القاسم : الا ان يلتزم الحالف بها جميع مافيها من الايمان فقال له السائل عرفها أو لم يعرفها ؟ فقال نعم وايمان البيعة هي التي رتبها الحجاج يستحلف بها عند البيعة والامر المهم للسلطان وكانت البيعة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين بالمصافحة فلما ولي الحجاج رتبها أيمانا تشتمل على اليمين بالله والطلاق والعتاق وصدقة المال فمن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء منها فيها لان هذا ليس بصريح في القسم والكناية لا تصح إلا بالنية ومن لم يعرف شيئا لم يصح أن ينويه وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم يصح أيضا لما ذكرناه ومن عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بها تنعقد بالكناية وما عدا ذلك من اليمين بالله وما عدا الطلاق والعتاقة فقال القاضي ههنا تنعقد يمينه أيضا لأنها يمين فتنعقد بالكناية المنوية كيمين الطلاق والعتاق وقال في موضع آخر لا تنعقد اليمين بالله بالكناية وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة وجبت فيها لما ذكر فيها من اسم الله العظيم المحرم ولا يوجد ذلك في الكناية والله أعلم

مسألة وفصل اقسام النذور وحكم ما لو نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة
كتاب النذور : الأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يوفون بالنذر } وقال { وليوفوا نذورهم } وأما السنة فروت عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن ] رواهما البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به
فصل : لا يستحب ل [ أن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر وأنه قال : لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ] متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان حراما لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولأن النذر لو كان مستحبا لفعله النبي صلى الله عليه و سلم وأفاضل اصحابه
مسألة : قال : ومن نذر أن يطيع الله عز و جل لزمه الوفاء به ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين
ونذر الطاعة الصلاة والصيام والحج والعمرة والعتق والصدقة والإعتكاف والجهاد وما في هذه المعاني سواء نذره مطلقا بأن يقول لله علي أن أفعل كذا وكذا أو علقه بصفة مثل قوله إن شفاني الله من علتي أو شفى فلانا أو سلم مالي الغائب أو ما كان في هذا المعنى فادرك ما أمل بلوغه من ذلك فعليه الوفاء به ونذر المعصية أن يقول لله علي أن أشرب الخمر أو أقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا يفعل ذلك ويكفر كفارة يمين وإذا قال لله علي أن أركب دابتي أو أسكن داري أو البس أحسن ثيابي وما أشبهه لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية فإن لم يفعله كفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين وإذا نذر أن يطلق زوجته استحب له أن لا يطلقها ويكفر كفارة يمين وجملته أن النذر سببه أقسام :
أحدها : نذر اللجاج والغضب وهو الذي يخرجه مخرج اليمين للحث على فعل شيء أو المنع منه غير قاصد به للنذر ولا القربة فهذا حكمه حكم اليمين وقد ذكرناه في باب الأيمان
والقسم الثاني : فنذر طاعة وتبرر مثل الذي ذكر الخرقي فهذا يلزم الوفاء به للآيتين والخبرين وهو ثلاثة أنواع :
أحدها : التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة استدفعها كقوله إن شفاني الله فلله علي صوم شهر فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع كالصوم والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم
النوع الثاني : التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزمه الوفاء به في قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي وقال بعض أصحابه لا يلزم الوفاء به لأن أبا عمر غلام ثعلب قال : النذر عند العرب وعد بشرط ولأن ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه بالعقد كالمبيع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة
النوع الثالث : نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] وذمه الذين ينذرون ولا يوفون وقول الله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }
وقد صح [ أن عمر قال للنبي صلى الله عليه و سلم إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أوف بنذرك ] ولأنه ألزم نفسه قربة على وجه التبرر فتلزمه كموضع الإجماع وكما لو ألزم نفسه أضحية أو أوجب هديا وكالاعتكاف وكالعمرة فإنهم قد سلموها وليست واجبة عندهم وما ذكروه يبطل بهذين الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمي الملتزم نذرا وإن لم يكن بشرط قال جميل :
( فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني )
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر
القسم الثالث : النذر المبهم وهو أن يقول لله علي نذر فهذا تجب به الكفارة في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة وبه قال الحسن و عطاء و طاوس و القاسم و سالم و الشعبي و النخعي و عكرمة وسعيد بن جبير و مالك و الثوري ومحمد بن الحسن ولا أعلم فيه مخالفا إلا الشافعي قال لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه لأن من النذر ما لا كفارة فيه
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة اليمين ] رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب ولأنه نص وهذا قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فيكون إجماعا
القسم الرابع : [ نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] ولأن معصية الله لا تحل في حال ويجب على الناذر كفارة يمين روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب وبه قال الثوري و أبو حنيفة وأصحابه وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه وهذا في معناه وروي هذا عن مسروق و الشعبي وهو مذهب مالك و الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم وقال ليس على الرجل نذر فيما لا يملك متفق عليه وقال : [ لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله ] رواه أبو داود وقال : [ من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] ولم يأمر بكفارة [ ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفار ـ فنجت على ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تنحرها قالت يا رسول الله إني نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها ؟ قال : بئس ما جزيتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم ولم يأمرها بكفارة [ وقال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم : مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه ] رواه البخاري ولم يأمره بكفارة لأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة ووجه الأول ما [ روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ] رواه الإمام أحمد في مسنده و أبو داود في سننه وقال الترمذي هو حديث غريب
وعن أبي هريرة وعمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله روى الجوزجاني بإسناده عن عمران بن حصين قال سممعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه وبكفره ما يكفر اليمين ] وهذا نص [ ولأن النذر يمين ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : النذر حلفة ] [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فلم تطقه : تكفر يمينها ] صحيح أخرجه أبو داود وفي رواية : [ ولتصم ثلاثة أيام ] قال أحمد إليه اذهب
وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها كفري يمينك ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها فأما أحاديثهم فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله وهذا لا خلاف فيه وقد جاء مصرحا به هكذا في رواية مسلم ويدل على هذا أيضا أن في سياق الحديث : [ ولا يمين في قطيعة رحم ] يعني لا يبر فيها ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم فقد بينها في أحاديثنا فإن فعل ما نذره من المعصية فلا كفارة عليه كما لو حلف ليفعلن معصية ففعلها ويحتمل أن تلزمه الكفارة حتما لأن النبي صلى الله عليه و سلم عين فيه الكفارة ونهى عن فعل المعصية
القسم الخامس : المباح كلبس الثوب وركوب الدابة وطلاق المرأة على وجه مباح فهذا يتخير الناذر فيه بين فعله فيبر بذلك لما [ روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إني نذرت أن اضرب على رأسك بالدف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوفي بنذرك ] رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل مباح بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين وإن شاء تركه وعليه كفارة يمين ويتخرج أن لا كفارة ومن نذر فيه فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد معين كان له أن يصلي ويعتكف في غيره ولا كفارة ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال مالك و الشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ] وقد روى ابن عباس قال : [ بينا النبي صلى الله عليه و سلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مروه فليستظل وليجلس وليتكلم وليتم صومه ] رواه البخاري [ وعن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل نبي الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب ] قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يأمر بكفارة [ وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم رأي رجلا يهادي بين اثنين فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشيا فقال : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه مروه فليركب ] متفق عليه ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير موجب لفعل ما نذره فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل
ولنا ما تقدم في القسم الذي قبله فأما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر [ وروى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها ] صحيح أخرجه أبو داود وهذه زيادة يجب الأخذ بها ويجوز أن يكون الرواي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي صلى الله عليه و سلم ترك ذكر الكفارة في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر ومن هذا القسم إذا نذر فعل مكروه كطلاق امرأته فإنه مكروه بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] فالمستحب أن لا يفي ويكفر فإن وفى بنذره فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله
القسم السادس : نذر الواجب كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو قول أصحاب الشافعي لأن النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل أن ينعقد نذره موجبا كفارة يمين إن تركه كما لو حلف على فعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي صلى الله عليه و سلم يمينا وكذلك لو نذر معصية أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله
القسم السابع : نذر المستحيل كصوم أمس فهذا لا ينعقد ولا يوجب شيئا لأنه لا يتصور انعقاده ولا الوفاء به ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى وعقد الباب في صحيح المذهب أن النذر كاليمين وموجبه موجبها إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله ودليل هذا الأصل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأخت عقبة لما نذرت المشي فلم تطقه : ولتكفر يمينها ] وفي رواية : [ فلتصم ثلاثة أيام ] قال أحمد إليه أذهب وعن عقبة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] أخرجه مسلم وقول ابن عباس للتي نذرت ذبح ولدها كفري يمينك ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع
فصل : وإن نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كما في خبر أبي اسرائيل فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بإتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجبو الكفارة لما تركه الاختلاف الذي ذكرناه [ وقد روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مختمرة فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مر أختك فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام ] رواه الجوزجاني و الترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر واحد فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم أخت عقبة بن عامر في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفارة

مسألة وفصلان حكم من نذر أن يتصدق بماله كله أو قسم منه
مسألة : قال : ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه أن يتصدق بثلثه كما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي لبلبة حين قال إن من توبتي يا رسول الله إن أنخلع من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجزئك الثلث ]
وجملة ذلك أن من نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه ثلثه وبهذا قال الزهري و مالك وروى الحسين بن إسحاق الخرقي عن أحمد قال سألته عن رجل قال جميع ما أملك في المساكين صدقة قال كفارته كفارة اليمين قال وسئل عن رجل قال ما يرث عن فلان فهو للمساكين فذكروا أنه قال يطعم عشرة مساكين وقال ربيعة يتصدق منه بقدر الزكاة لأن المطلق محمول على معهود الشرع ولا يجب في الشرع إلا قدر الزكاة وعن جابر بن زيد قال إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشرة وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعة وإن كان قليلا وهو خمسمائة تصدق بخمسة وقال أبو حنيفة يتصدق بالمال الزكوي كله وعنه في غيره روايتان :
إحداهما : يتصدق به والثانية : لا يلزمه منه شيء وقال النخعي والبتي والشافعي يتصدق بماله كله لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من نذر ان يطيع الله فليطعمه ] ولأنه نذر طاعة فلزمه الوفاء به كنذر الصلاة والصيام
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي لبابة حين قال إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول فقال : يجزئك الثلث ] [ وعن كعب بن مالك قال قلت يا رسول الله ان من توبتي ان اخلع من مالي صدقة الى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمسك عليك بعض مالك ] متفق عليه ولـ أبي داود [ يجزئك عنك الثلث ] فإن قالوا هذا ليس بنذر وإنما أراد الصدقة بجميعه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالاقتصار على ثلثه كما أمر سعدا حين أراد الوصية بجميع ماله بالاقتصار على الوصية بثلثه وليس هذا محل النزاع فيمن نذر الصدقة بجميعه فلنا عنه جوابان :
أحدهما : ان قوله : [ يجزئ عنك الثلث ] دليل على انه أتى بلقظ يقتضي الايجاب لانها إنما تستعمل غالبا في الواجبات ولو كان مخيرا بارادة الصدقة لما لزمه شيء يجزئ عنه بعضه
الثاني : ان منعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على انه ليس يقربه لان النبي صلى الله عليه و سلم لا يمنع أصحابه من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به وما قاله أبو حنيفة فقد سبق الكلام عليه وما قاله ربيعة لا يصح فان هذا ليس بزكاة ولا في معناها فان الصدقة وجبت لا غناء الفقراء ومواستهم وهذه صدقة تبرع بها صاحبها تقربا الى الله تعالى ثم ان المحمول على معهود الشرع المطلق وهذه صدقة معينة غير مطلقة ثم تبطل بما لو نذر صياما فانه لا يحمل على صوم رمضان وكذلك الصلاة وما ذكره جابر بن زيد تحكم بغير دليل
فصل : وإذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدار كألف فروي عن أحمد انه يجوز ثلثه لأنه مال نذر الصدقة به فأجزأه ثلثة كجميع المال والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه لانه منذور وهو قربة فيلزمه الوفاء به كسائر المنذورات
ولعموم قوله تعالى : { يوفون بالنذر } وإنما خولف هذا في جميع المال للاثر فيه ولما في الصدقة بجميع المال من الضرر اللاحق به اللهم الا ان يكون المنذور ههنا يستغرق جميع المال فيكون كنذر ذلك ويحتمل انه ان كان المنذور ثلث المال فما دون لزمه وفاء نذره وان زاد على الثلث لزمه الصدقة بقدر الثلث منه لانه حكم يعتبر فيه الثلث فأشبه الوصية به
فصل : وإذا نذر الصدقة بقدر المال فابرأ غريمه من قدره يقصد به وفاء النذر لم يجزئه وإن كان الغريم من اهل الصدقة قال احمد : لا يجزئه حتى يقبضه وذلك لان الصدقة تقتضي التمليك وهذا إسقاط فلم يجزئه كما في الزكاة
وقال احمد فيمن نذر ان يتصدق بمال وفي نفسه أنه ألف اجزأه ان يخرج ما شاء وذلك لان اسم المال يقع على القليل وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم والنذر لا يلزم بالنية والقياس ان يلزمه ما نواه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فتعلق الحكم به كاليمين وقد نص احمد فيمن نوى صوما او صلاة وفي نفسه اكثر مما يتناوله لفظه أنه يلزمه ذلك وهذا كذلك والله أعلم

مسألة وفصلان حكم ما لو نذر الصوم وهو لا يطيق الصيام أو عجز لعارض أو نذر غير الصيام كالصلاة مثلا
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم وهو شيخ كبير لا يطبق الصيام كفر كفارة يمين وأطعم لكل يوم مسكينا
وجملته أن من نذر طاعة لا يطيقها أو كان قادرا عليها فعجز عنها فعليه كفارة يمين لما [ روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فامرتني أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيته فقال : لتمش والتركب ] متفق عليه ولـ أبي داود [ وتكفر يممينها ] ولـ لترمذي [ ولتصم ثلاثة أيام ] وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لانذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين ] قال : [ ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ] رواه أبو داود وقال وقفه من رواه عن ابن عباس
وقال ابن عباس من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصيته فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا يطقيه فليف لله بما نذر فإذا كفر وكان المنذور غير الصيام لم يلزمه شيء آخر وإن كان صياما فعن أحمد روايتان إحداهما : يلزمه لكل يوم إطعام مسكين قال القاضي وهذا صح لأنه صوم وجد سبب إيحابه عينا فإذا عجز لزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينا كصيام رمضان ولأن المطلق من كلام الآدميين يحمل على المعهود شرعا ولو عجز عن الصوم المشروع أطعم عن كل يوم مسكينا وكذلك إذا عجز عن الصوم المنذور والثانية : لا يلزمه شيء آخر من إطعام ولا غيره لقوله عليه السلام : [ ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ] وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته ولأنه نذر عجز عن الوفاء به فكان الواجب فيه كفارة يمين كسائر النذور ولأن موجب النذر موجب اليمين إلا مع إمكان الوفاء به إذا كان قربة ولا يصح قياسه على صوم رمضان لوجهين إحداهما : إن رمضان يطعم عنه عند العجز بالموت فكذلك في الحياة وهذا بخلافه ولأن صوم رمضان آكد بدليل وجوب الكفارة بالجماع فيه وعظم إثم من أفطر بغير عذر والثاني : أن قياس المنذور أولى من قياسه على المفروض بأصل الشرع ولأن هذا قد وجبت فيه كفارة فأجزأت عنه بخلاف المشروع وقولهم أن المطلق من كلام الآدمي محمول على المعهود في الشرع قلنا ليس هذا بمطلق وإنما هو منذور معين ويتخرج أن لا تلزمه كفارة في العجز عنه كما في العجز الواجب بأصل الشرع
فصل : وإن عجز لعارض يرجى زواله من مرض أو نحوه انتظر زواله ولا تلزمه كفارة ولا غيرها لأنه لم يفت الوقت فيشبه المريض في شهر رمضان فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال صار إلى الكفارة والفدية على ما ذكرنا من الخلاف فيه فإن كان العجز المرجو الزوال عن صوم معين فات وقته انتظر الإمكان ليقضيه وهل تلزمه لفوات الوقت كفارة ؟ على روايتين : ذكرهما أبو الخطاب
أحدهما : تجب الكفارة لأنه أخل بما نذره على وجهه فلزمته الكفارة كما لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام فعجز ولأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن هذا الشهر فافطره لعذر لزمته كفارة كذا ههنا والثانية : لا تلزمه لأنه أتى بصيام أجزأه عن نذر من غير تفريط منه فلم تلزمه كفارة يمين كما لو صام ما عينه
فصل : وإن نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة ونحوها فليس عليه إلا الكفارة لأن الشرع لم يجعل لذلك بدلا يصار إليه فوجبت الكفارة لخالفته نذره فقط وإن عجز عنه لعارض فحكمه حكم الصيام سواء فيما فصلناه

مسألة حكم ما لو نذر صوما ولم يذكر عددا
مسألة : قال : وإذا نذر صياما ولم يذكر عددا ولم ينوه فأقل ذلك صيام يوم وأقل الصلاة ركعتان
أما إذا نذر صياما مطلقا فأقل ذلك يقوم صيام يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم مفردا أقل من يوم فيلزمه لأنه اليقين وأما الصلاة ففيها روايتان :
إحداهما : يجزئه ركعة نقلها إسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشروعة وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تطوع بركعة واحدة
والثانية : لا يجزئه إلا ركعتان وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان فوجب حمل النذر عليه وأما الوتر فهو نفل والنذر فرض فحمله على المفروض أولى ولأن الركعة لا تجزىء في الفرض فلا تجزىء في النفل كالسجدة ولـ لشافعي قولان كالروايتين فأما إن عين بنذره عددا لزمه قل أو كثر لأن النذر ثابت يقوله وكذلك عدده فإن نوى عددا فهو كما لو سماه لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فلزمه حكمه كاليمين

مسألة وفصول حكم ما لو نذر المشي إلى البيت الحرام أو نذر الحج راكبا
مسألة : قال : وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين
وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن المشي المعهود في الشرع هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي فيه لنذره فإن عجز عن المشي ركب وعليه كفارة يمين
وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول لـ لشافعي وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تركب وتهدي هديا رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أحل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل ويركب ما مشى ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس وزاد فقال يهدي وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان :
إحداهما : كقول ابن عمر والثانية : كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة عليه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة وقال الشافعي لا تلزمه مع العجز كفارة بحال إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله فهل يلزمه هدي فيه قولان وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم حين قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله : لتمش ولتركب ولتكفر عن يمينها ] وفي رواية : [ فلتصم ثلاثة أيام ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فتركهما وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير العجز فإن قيل : فإن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لأنه مشي إلى عبادة والمشي إلى العبادة أفضل ولهذا [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يركب في عيد ولا جنازة ] فلو كانت قادرة على المشي لأمرها به ولم يأمرها بالركوب والتكفير ولأن المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجبا أو مباحا فإن كان واجبا لزم الوفاء به وإن كان مباحا لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم النبي صلى الله عليه و سلم بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر في الخبر فترك الراوي ذكره وقول أصحاب أبي حنيفة أنه أخل بواجب في الحج قلنا المشي لم يوجبه الإحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة ركعتين في الحج فلم يصلهما فأما إن ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة أيضا لتركه صفة النذر
وقياس المذهب أن يلزمه استئناف الحج ماشيا لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوما متتابعا فأتى به متفرقا وإن عجز عن المشي بعد الحج كفر وأجزأه وإن مشي بعض الطريق وركب بعضا فعلى هذا القياس يحتمل أن يكون كقول ابن عمر وهو أن يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشى ويحتمل أن لا يجزئه إلا حج شيء في جميعه لأن ظاهر النذر يقتضي هذا
ووجه القول الأول أنه لا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر من كفارة لأن المشي غير مقصود في الحج ولا ورد الشرع بإعتباره في موضع فلم يلزم بتركه أكثر من كفارة كما لو نذر التحفي وشبهه وفارق التتابع في الصيام فإنها صفة مقصودة فيه إعتبرها الشرع في صيام الكفارات : كفار الظهار والجماع واليمين
فصل : فإن نذر الحج راكبا لزمه الحج كذلك لأن فيه إنفاقا في الحج فإن ترك الركوب فعليه كفارة وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الإنفاق وقد تبينا أن الواجب بترك النذر الكفارة دون الهدي إلا أن هذا إذا مشى ولم يركب مع إمكانه لم يلزمه أكثر من كفار لأن الركوب في نفسه ليس بطاعة ولا قربة وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الإتيان بذلك من دويرة أهله إلا أن ينوي موضعا بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على أصله في الفرض والحج المفروض بأصل الشرع يجب كذلك ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب قال بعض الشافعية يجب الإحرام من دويرة أهله لأن إتمام الحج كذلك
ولنا أن المطلق محمول على المعبود في الشرع والإحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة
قال أحمد : يركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سعى لأنه لو وطىء بعد ذلك لم يفسد حجا ولا عمرة وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول
فصل : وإذا نذر المشي إلى بيت الله أو الركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي والركوب إنما أراد اتيانه لزمه اتيانه في حج أو عمرة ولم يتعين عليه مشي ولا ركوب لأنه عنى ذلك بنذره وهو محتمل له فأشبه ما لو صرح به ولو نذر أن يأتي بيت الله الحرام أو يذهب إليه لزمه اتيانه في حج أو عمرة وعن أبي حنيفة لا يلزمه شيء لأن مجرد اتيانه ليس بقربة ولا طاعة
ولنا أنه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال : لله علي المشي إلى الكعبة إذا ثبت هذا فهو مخير في المشي والركوب وكذلك إذا نذر أن يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد من الأمرين فلم يتعين أحدهما وإن قال : لله علي أن آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج والعمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي أن آتي البيت يقتضي حجا أو عمرة وشرط سقوط ذلك يناقض نذره فسقط حكمه
فصل : إذا نذر المشي إلى البلد الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس أو موضع في الحرم لزمه الحج أو عمرة نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر المشي إلى الكعبة أو إلى مكة وقال أبو يوسف ومحمد إن نذر المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام كقولنا وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة
ولنا أنه نذر المشي إلي موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة فأما إن نذر المشي إلى غير الحرم كعرفة ومواقيت الإحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك إن نذر اتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه وإن نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي أي موضع صلى أجزأه لأن الصلاة لا تخص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافا إلا عن الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه
قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] متفق عليه ولو لزمه المشي إلى مسجد بعيد لشد الرحل إليه ولأن العبادة لا تختص بمكان دون مكان فلا يكون فعلها فيما نذر فعلها فيه قربة تلزمه بنذره وفارق ما لو نذر العبادة في يوم بعينه لزمه فعلها فيه لأن الله تعالى عين لعبادته زمنا معينا ولم يعين لها مكانا وموضعا والنذور مردودة إلى أصولها في لاشرع فتعينت بالزمان دون المكان
فصل : وإن نذر المشي إلى بيت الله تعالى ولم ينوبه شيئا ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام لأنه المخصوص بالقصد دون غيره وإطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف إليه إطلاق النذر
فصل : وإن نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه و سلم الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك و الأوزاعي و أبو عبيد و ابن المنذر و هو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يبين لي وجوب المشي إليهما لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم الشيء إليه بالنذر كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكره لأن كل قربة تجب بالنذر وإن لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المريض وشهود الجنائز ولزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما تحصيل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النكسين ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النكسين في المسجد الحرام كنذر المشي إليه
وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن ما لا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد
[ ولنا ما روي أن عمر قال : يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوف بنذرك ] متفق عليه ولأن الصلاة فيها أفضل من غيرها بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] متفق عليه وروي عنه صلى الله عليه و سلم : [ صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ] وإذا كان فضيلة وقربة لزم بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه يبطل بالعمرة فإنها تلزم بنذرها وهي غير واجبة عندهم
فصل : وإذا نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزئه الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد وخيرها وأكثرها ثوابا للمصلي فيها وإن نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما [ روى جابر أن رجلا يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : صل ههنا ثم أعاد عليه فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه قال : صل ههنا ثم أعاد فقال شأنك ] رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد ولفظه : [ والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس ] وإن نذر اتيان المسجد الأقصى والصلاة فيه أجزأته الصلاة فيه وفي مسجد المدينة لأنه أفضل وإن نذر ذلك في مسجد المدينة لم يجزئه فعله في المسجد الأقصى لأنه مفضول وقد سبق هذا في باب الإعتكاف
فصل : وإن أفسد الحج المنذور ماشيا وجب القضاء ماشيا لأن القضاء يكون على صفة الأداء وكذلك إن فاته الحج لكن إن فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل بعمرة ويمشي بالحج الفاسد مشايا حتى يتحلل منه

مسألة وفصول حكم من نذر عتق رقبة أو نذر هديا
مسألة : قال : وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزىء عن الواجب إلا أن يكون نوى رقبة بعينها
يعني لا تجزئه إلا رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل وهي اتلي تجزىء في الكفارة لأن النذر المطلق يحمل على المعهود في الشرع والواجب بأصل الشرع كذلك وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر : يجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لأن الإسم يتناول جميع ذلك
ولنا أن المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر المشي إلى بيت الله الحرام فإنه لا يحمل على تناوله الإسم فأما إن نوى رقبة بعينها أجزأه عتقها أي رقبة كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله وإن نوى ما يقع عليه إسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرناه فإن المطلق يتقيد بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية قال أحمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات قبل أن يعتقه : تلزمه كفارة يمين ولا يلزمه عتق عبد لأن هذا شيء فاته على حديث عقبة بن عامر وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه
فصل : وإذا نذر هديا مطلقا لم يجزئه إلا ما يجزىء في الأضحية وبه قال ابو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه لأن المطلق يحمل على معهود الشرع وإن عين الهدي بلفظه أو نيته أجزأه ما عينه صغيرا كان أو كبيرا جليلا كان أو حقيرا لأن ذلك يسمى هديأ قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة ] وإنما صرفنا المطلق إلى معهود الشرع لأن غلب على الإسم كما لو نذر أن يصلي لزمته صلاة شرعية دون اللغوية وإن قال لله علي أن أهدي بدنة أو بقرة أو قال شاة لزمه أقل ما يجزىء من ذلك الجنس الذي عينه فإن نذر بدنة أجزأه ثنية من الإبل أو ثني فإن لم يجد من الإبل فبقرة فإن لم يجد فسبع من الغنم لأن النذر محمول على معهود الشرع وقد تقرر في الشرع إن البقرة تقوم مقام البدنة وكذلم سبع من الغنم فإن أراد إخراج البقرة أو الغنم مع القدرة على البدنة فقال القاضي لا يجزئه وهو المنصوص عن الشافعي والذي يقتضيه مذهب الخرقي جواز ذلك لقوله ومن وجب عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه فإن نوى بنذره بدنة من الإبل لم يجزئه غيرها مع وجودها وجها واحدا لأنها وجبت بإيجابه بخلاف ما إذا أطلق فإنها انصرفت إلى الإبل بمعهود الشرع ومعهود الشرع فيها أن تقوم البقرة مقامها فأما إن نواها من الإبل أو غيره فمقتضى المذهب أنه لا يقوم غيرها مقامها كسائر المنذورات وكذلك أن صرح بها في نذره مثل أن يقول لله علي أن أهدي ناقة ويحتمل أن تقوم البقرة مقامها عند لأنها تعينت هديا شرعيا والهدي الشرعي له بدل
فصل : ومن نذر هديا لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم لأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك قال الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } فإن عين شيئا بنذره مثل أن يقول أهدي شاة أو ثوبا أو برا أو ذهبا فكان مما ينقل حمل إلى الحرم ففرق في مساكينه وإن كان مما لا ينقل نحو أن يقول لله علي أن أهدي داري هذه أو أرضي أو شجرتي هذه يبعث وبعث بثمنها إلى الحرم لأنه لا يمكن اهداؤه بعينه فانصرف بذلك إلى بدله وقد روي عن ابن عمران رجلا سأله في امرأة نذرت أن تهدي دارا فقال تبيعها وتتصدق بثمنها على مساكين الحرم وكذلك لو كان المنذور مما ينقل لكن يشق نقله كخشبة ثقيلة فإنه يبعها لأنه أحظ للمساكين من نقلها وإن كان مما لا كلفه في نقله إلا أنه لا يمكن تفريقه بنفسه ويحتاج إلى البيع نظر إلى الحظ للمساكين في يبيعها في بلده أو نقله ليباع ثم وإن استوى الأمر أن بيع في أي موضع شاء
فصل : وإن نذر أن يهدي إلى غير مكة كالمدينة أو الثغور أو يذبح لها لزمه الذبح وإيصال ما أهداه إلى ذلك المكان وتفرقة الهدي ولحم الذبيحة على أهله إلا أن يكون بذلك المكان ما لا يجوز النذر له ككنيسة أو صنم أو نحوه مما يعظمه الكفارة أو غيرهم مما لا يجوز تعظيمه كشجرة أو قبر أو حجر أو عين ماء ونحو ذلك لما روى أبو داود وقال : [ نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينحر ابلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ ـ قالوا لا قال ـ هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ـ قالوا لا قال رسول الله صلى الله عليه ـ أوف بنذرك ] ولأنه ضمن نذره نفع فقراء ذلك البلد بإيصال اللحم اليهم وهذه قربة فتلزمه كما لو نذر التصدق عليهم فإن كان بها شيء مما ذكرنا لم يجز النذر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ هل كان بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية ؟ ] وهذا يدل على أنه لو كان بها ذلك لمنعه من الوفاء بنذره ولأن في هذا تعظيما لغير ما عظم الله يشبه تعظيم الكفار للأصنام فحرم كتعظيم الأصنام [ ولذلك لعن النبي صلى الله عليه و سلم المتخذات على القبور المساجد والسرج وقال : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ] يحذر مثلما صنعوا وعلى هذا نذر الشمع والزيت وأشباهه للأماكن التي فيها القبور لا يصح
فصل : وإن نذر الذبح بمكة فهو كنذر الهدي إليها لأن مطلق النذر محمول على معهود الشرع ومعهود الشرع في الذبح الواجب بها إن يفرق اللحم بها

مسألتان وفصول حكم ما لو نذر صوم شهر من يوم من يوم يقدم فلان
مسألة : قال : وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان فقدم أول يوم من شهر رمضان أجزأه صيامه لرمضان ونذره
ظاهر كلام الخرقي أن نذر هذا منعقد لكن صيامه يجزىء عن النذر ورمضان وهو قول أبي يوسف وهو قياس قول ابن عباس وعكرمة لأنه نذر صوما في وقت صام فيه وقال القاضي ظاهر كلام الخرقي أن النذر غير منعقد لأن نذره وافق زمنا يستحق صومه فلم ينعقد نذره كنذر صوم رمضان قال والصحيح عندي صحة النذر لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالبا فانعقد كما لو وافق شعبان فعلى هذا يصوم رمضان ثم يقضي ويكفر وهذا اختيار أبي بكر ونقل جعفر بن محمد عن أحمد أن عليه القضاء وقول الخرقي أجزأه صيامه لرمضان ونذره دليل على أن نذره انعقد عنده لولا ذلك لما كان صومه عن نذره وقد نقل أبو الخطاب عن أحمد فيمن نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فأحرم عن النذر وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شيء آخر وهذا مثل قول الخرقي وروى عكرمة عن ابن عباس في رجل نذر أن يحج ولم يكن حج الفريضة قال يجزىء لهما جيمعا وعن عكرمة انه سئل عن ذلك فقال عكرمة يقضي حجته عن نذره وعن حجة الإسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر والنذر ؟ قال فذكرت قولي لابن عباس فقال أصبت وأحسنت وقال ابن عمر وأنس وعروة : يبدأ بحجة الإسلام ثم يحج لنذره وفائدة انعقاد نذره لزوم الكفارة بتركه وأنه لو لم ينوه لنذره لزمه قضاؤه وعلى هذا لو وافق نذره بعض رمضان وبعض شهر آخر إما شعبان وإما شوال لزمه صوم ما خرج عن رمضان ويتمه من رمضان ولو قال لله علي صوم رمضان فعلى قياس قول الخرقي يصح نذره ويجزئه صيامه عن الأمرين وتلزمه الكفارة أن أخل به وعلى قول القاضي لا ينعقد نذره وهو مذهب الشافعي لأنه لا يصح صومه عن النذر فأشبه الليل ولنا أن النذر يمين فينعقد في الواجب موجبا للكفارة كاليمين بالله تعالى
فصل : ونقل عن أحمد فيمن نذر أن يحج العام وعليه حجة الإسلام روايتان إحداهما : تجزئه حجة الإسلام عنها وعن نذره نقلها أبو طالب والثانية : ينعقد نذره موجبا لحجة غير حجة الإسلام يبدأ بحجة الإسلام ثم يقضي نذره نقلها ابن منصور لأنهما عبادتان تجبان بسببين مختلفين فلم يسقط إحداهما بالأخرى كما لو نذر حجتين ووجه الأولى أنه نذر عبادة في وقت معين وقد أتى بها فيه فأشبه ما لو قال لله علي أن أصوم رمضان
فصل : فإن قال لله علي أن أصوم شهرا فنوى صيام شهر رمضان لنذره ورمضان لم يجزئه لأن شهر رمضان واجب بفرض الله تعالى ونذره يقتضي إيجاب شهر فيجب شهران بسببين ولا يجزىء إحدهما عن الآخر كما لو نذر صوم شهرين وكما لو نذر أن يصلي ركعتين لم تجزئه صلاة الفجر عن نذره وعن صلاة الفجر
مسألة : قال : وإذا نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه وصام يوما مكانه وكفر كفارة يمين
وجملته أن من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فإن نذره صحيح وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يصح نذره لأنه لا يمكن صومه بعد وجود شرطه فلم يصح كما لو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي قيل اليوم الذي يقدم فيه ولنا أنه زمن صح فيه صوم التطوع فانعقد نذره لصومه كما لو أصبح صائما تطوعا قال لله علي أن أصوم يومي وقولهم لا يمكن صومه لا يصح فإنه قد يعلم اليوم الذي يقدم فيه قبل قدومه فينوي صومه من الليل لأنه قد يجب عليه ما لا يمكنه كالصبي يبلغ في أثناء يوم من رمضان أو الحائض تطهر فيه ولا نسلم ما قاسوا عليه إذا ثبتت صحته ولا يخلو من أقسام خمسة
أحدها : أن يعلم قدومه من الليل فينوي صومه ويكون يوما يجوز فيه صوم النذر فيصح ويجزئه لأنه وفى بنذره الثاني : أن يقدم يوم فطر أو أضحى فاختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فعنه لا يصومه ويقضي ويكفر نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر اصحابنا ومذهب الحكم و حماد الرواية الثانية : يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن و الأوزاعي و أبي عبيد و قتادة و ابي ثور وأحد قولي الشافعي فإنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاؤه كما لو تركه نسيانا ولم تلزمه كفارة لأن الشرع قنعه من صومه فهو كالمكره
وعن أحمد رواية ثالثة أن صامه صح صومه وهو مذهب أبي حنيفة لأنه وفى بما نذر فأشبه ما لو نذر معصية ففعلها ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوما صومه حرام فكان موجبه الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شيء من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية وهذا قول مالك و الشافعي في أحد قوليه بناء على نذر المعصية
ووجه قول الخرقي أن النذر ينعقد لأنه نذر نذرا يمكن الوفاء به غالبا فكان منعقدا كما لو وافق غير يوم العيد ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ولزمه القضاء لأنه نذر منعقد وقد فاته الصيام بالعذر ولزمته الكفارة لفواته كما لو فاته بمرض وإن وافق يوم حيض أو نفاس فهو كما لو وافق يوم فطر أو أضحى إلا أنه لا يصومه بغير خلاف في المذهب ولا بين أهل العلم
الثالث : أن يقدم في يوم يصح صومه والناذر مفطر ففيه روايتان أحدهما : يلزمه القضاء والكفارة لأنه نذر صوما نذرا صحيحا ولم يف به فلزمه القضاء والكفارة كسائر المنذورات ويتخرج أن لا تلزمه كفارة وهو مذهب الشافعي لأنه ترك المنذور لعذر
والثانية : لا يلزمه شيء من قضاء ولا غيره وهو قول أبي يوسف وأصحاب الرأي و ابن المنذر لأنه قدم في زمن لا يصح صومه فيه فلم يلزمه شيء كما لو قدم ليلا
الرابع : قدم والناذر صائم فلا يخلو من أن يكون تطوعا أو فرضا فإن كان تطوعا فقال القاضي يصوم بقيته ويعقده عن نذره ويجزئه ولا قضاء ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة لأنه يمكن صوم يوم بعضه تطوع وبعضه واجب كما لو نذر في أثناء التطوع إتمام صوم ذلك اليوم وإنما وجد سبب الوجوب في بعضه وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يلزمه القضاء والكفارة لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من النهار كقضاء رمضان وذكر أبو الخطاب هذين الاحتمالين روايتين وعند الشافعي عليه القضاء فقط كما لو قدم وهو مضطر ويتخرج لما مثله وإما أن كان الصوم واجبا فحكمه حكم المسألة التي قبل هذه وقد ذكرناه وإن قدم وهو ممسك لم ينو الصيام ولم يفعل ما يفطره فحكمه حكم الصائم تطوعا
الخامس : أن يقدم ليلا فلا شيء عليه في قولهم جميعا لأنه لا يقدم في اليوم ولا في وقت يصح فيه الصيام
فصل : وإن قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذره الكفارة لا غير نقله حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى أن عليه القضاء مع الكفارة كالمسألة المذكورة والأولى هي الصحيحة قاله القاضي لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاء كسائر المعاصي وفارق المسألة التي قبلها لأنه لم يقصد بنذره المعضية وإنما وقع اتفاقا وههنا تعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره ويدخل في قوله عليه السلام : [ لا نذر في معصية ] ويتخرج إلا يلزمه شيء بناء على نذر المعصية فيما تقدم وإن نذرت المرأة صوم يوم حيضها ونفاسها فعليها الكفارة لا غير ولم أعلم عن أصحابنا في هذا خلافا
مسألة : قال : وإن وافق قدومه يوما من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله وارواية الأخرى لا يصومه ويصوم يوما مكانه ويكفر كفارة يمين
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في صيام أيام التشريق عن الفرض وقد ذكرنا ذلك في الصيام فإن قلنا يصومها عن الفرض صامها ها هنا وأجزأته وإن قلنا لا يصومها فحكمه حكم من وافق يوم العيد وقد مضى
فصل : وإن قال لله علي صوم يوم يقدم فلان أبدا أو قال لله علي صوم يوم كل خميس أبدا لزمه ذلك في المستقبل فأما اليوم الذي يقدم فيه فقد مضى بيان حكمه ولا يدخل في نذره ذلك اليوم من شهر رمضان لأن رمضان لا يتصور انفكاكه عن دخول ذلك اليوم فيه ولا يمكنه صومه عن غير رمضان لأنه لا يقبل ذلك ويجيء على قول الخرقي أن يدخل في نذره ويجزئه صومه لرمضان ونذره وإن وافق يوم عيد أو يوما من أيام التشريق أو يوم حيض ففيه من الاختلاف ما قد مضى وإن وجب عليه صوم شهرين عن كفارة الظهار أو نحوه صامهما عن الكفارة دون النذر لأنه متى نوى النذر في ابتدائهما انقطع التتابع فلا يقدر على التكفير فحينئذ يقضي نذره ويكفر لأنه ترك صوم النذر مع إمكانه لعذر ويفارق الأيام التي دخلت في رمضان فإنها لم تدخل في نذره لعدم انفكاكه عنها وههنا تنفك الأيام عن دخول الكفار فيها ولا فرق بين كون نذره قبل وجوب الكفارة أو بعدها لأن الأيام التي في رمضان لا يصح صومها عن نذره وأيام الكفارة يصح صومها عن نذره وإذا نواها عن نذره انقطع التتابع وأجزأت عن المنذور وإن فاتته أيام كثيرة لزمته كفارة واحدة عن الجميع فإذا كفر ثم فاته شيء بعد ذلك لزمته كفارة ثانية نص عليه أحمد فإنه قال فيمن نذر صيام أيام فمرض فإن كان قد كفر عن الأول ثم أفطر بعد ذلك كفر كفارة أخرى وإن لم يكن كفر عن الأول فكفارة واحدة ولا يكون مثل اليمين إذا حنث وكفر سقطت عنه ويتخرج أنه متى كفر مرة لم تلزمه كفارة أخرى لأن النذر كاليمين ويشبه اليمين وإيجاب الكفارة فيه لذلك واليمين لا يوجب أكثر من كفارة فمتى كفرها لم يجب بها أخرى كذلك النذر فعلى هذا متى فاته شيء فكفر عنه ثم فاته شيء آخر قضاه من غير كفارة لأن وجوب الكفارة الثانية لا نص فيه ولا إجماع ولا قياس ولا يمكن إيجابها بغير دليل

فصل حكم ما لو نذر صوم سنة بعينها
فصل : إذا نذر صوم سنة بعينها لم يدخل في نذره رمضان لأنه لا يقبل غير صوم رمضان فأشبه الليل ولا يوما العيدين لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صيامهما ولا يصح صومهما عن النذر فأشبها رمضان وعن أحمد فيمن نذر صوم شوال يقضي يوم الفطر ويكفر فعلى هذه الرواية يدخل في نذره العيدان وأيام التشريق لأنها أيام من جملة السنة والأول أصح وفي أيام التشريق روايتان وإن نذر صوم سنة مطلقة فهل يلزمه صوم سنة متتابعة أو لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يلزمه لأن السنة المطلقة تنصرف إلى المتتابعة فعلى هذه الرواية حكمها حكم المعينة في أنه لا يدخل فيها العيدان ولا رمضان وفي أيام التشريق روايتان فإن ابتدأها من أول شهر أتم أحد عشر شهرا بالهلال إلا شهر شوال فإنه يتمه بالعدد لأنه لم يصم من أوله وإن ابتدأها من أثناء شهر أتم ذلك الشهر بالعدد وبالباقي بالهلال على ما ذكرنا
والرواية الثانية : لا تلزمه متابعة وهو مذهب الشافعي لأن المتفرقة تسمى سنة فيتناولها نذره فيلزمه اثنا عشر شهرا بالأهلة إن شاء وإن شاء صامها بالعدد وإن ابتدأ الشهر من أثنائه أتمه ثلاثين يوما وإنما لزمه ههنا اثنا عشر شهرا لأنه يمكن حمل النذر على سنة ليس فيها رمضان ولا أيام التي لا يجوز صيامها فحمل نذره على ما ينعقد فيه النذر بخلاف ما إذا عين السنة وهذا كمن عين سلعة بالعقد فوجد بها عيبا لم يكن له إبدالها ولو وصفها ثم وجدها معيبة ملك إبدالها ويتم شوال بالعدد لأنه لم يبدأه من أوله وإن صام ذا الحجة من أوله قضى أربعة أيام تاما كان أو ناقصا لأنه بدأه من أوله وقيل إن كان ناقصا قضى خمسة ليكمله ثلاثين لأنه لم يصم الشهر كله فأشبه شوال وإن شرط التتابع صار حكمها حكم المعينة

مسألة وفصول حكم من نذر صوم شهر متتابعا أو أشهر
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه فإذا عوفي بنى وكفر كفارة يمين وإن أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه
وجملته أن من نذر صياما متتابعا غير معين ثم أفطر فيه لم يخل من حالين : أحدهما : أن يفطر لعذر من حيض أو مرض ونحوهما فهذا مخير بين أن يبتدىء الصوم ولا شيء لأنه أتى بالمنذور على وجهه بين أن يبني على صيامه ويكفر لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإن كان عاجزا بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي ولأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن متتابعا لم يأت به متتابعا لزمته الكفارة وإنما جوز له البناء ههنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما بدليل أنه لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين من عذر كان له البناء فإن كان العذر يبيح الفطر كالسفر فهل يقطع التتابع ؟ فيه وجهان
أحدهما : يقطعه لأنه يفطر بإختياره والثاني : لا يقطعه لأنه عذر في فطر رمضان فأشبه المرض
الثاني : أن يفطر لغير عذر فهذا يلزمه استئناف الصيام ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذور لغير عذر مع إمكان الإتيان به فلزمه فعله كما لو نذر صوما معينا فصام قبله وبهذا الفصل قال الشافعي إلا في الكفارة فإنه لا يوجبها في المنذور وقد ذكرنا دليل وجوبها
فصل : إذا صام شهرا من أول الهلال أجزأه ناقصا كان أو تاما لأن ما بين الهلالين شهر ولذلك [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : إنما الشهر تسع وعشرون ] وإن بدأ من أثناء شهر لزمه شهر بالعدد ثلاثون يوما لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاكملوا ثلاثين ] فإن صام شوال لزمه إكماله ثلاثين لأنه بدأ من أثنائه وإن كان ناقصا قضى يومين وإن كان تاما أتم يوما واحدا وإن صام ذا الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ولم ينقطع تتابعه كما لو أفطرت المرأة بحيض وعليه كفارة ويقضي أربعة أيام إن كان تاما وخمسة إن كان ناقصا ويحتمل أن لا لزمه إلا الأربعة وإن كان ناقصا لأنه بدأه من أوله فيقضي المتروك منه لا غير ولو صام شهرا من أول الهلال فمرض فيه أياما معلومة أو حاضت المرأة ثم طهرت قبل خروجه قضى ما أفطر منه بعدته إن كان الشهر تاما وإن كان الشهر تاما وإن كان ناقصا فهل يلزمه الإتيان بيوم آخر ؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا في فطر العيد وأيام التشريق
فصل : ومن نذر صيام شهر فهو مخير بين أن يصوم شهرا بالهلال وهو أن يبتدئه من أوله فيجزئه وبين أن يصومه بالعدد ثلاثين يوما وهل يلزمه التتابع ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمه وهو قول أبي ثور لأن إطلاق الشهر يقتضي التتابع
والثاني : لا يلزمه التتابع وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما ولا خلاف أنه يجزئه ثلاثون يوما فلم يلزمه التتابع كما لو نذر ثلاثين يوما فأما إن نذر صيام ثلاثين يوما لم يلزمه التتابع فيها نص عليه أحمد
وقد روي عن أحمد فيمن قال لله علي صيام عشرة أيام يصومها متتابعة وهذا يدل على وجوب التتابع في الأيام المنذورة وحمل بعضها أصحابنا كلام أحمد على من شرط التتابع أو نواه لأن لفظ العشرة لا يقتضي تتابعا والنذر لا يقتضيه ما لم يكن في لفظه أو نيته
وقال بعضهم كلام أحمد على ظاهره ويلزمه التتابع في نذر العشرة دون الثلاثين شهر فلو أراد التتابع لقال شهرا فعدوله إلى العدد دليل على إرادة التفريق بخلاف العشرة والصحيح أنه يلزمه التتابع فإن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على إرادة التتابع فإن الله تعالى قال في قضاء رمضان : { فعدة من أيام أخر } ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها ولم يجب التتابع فيها بالإتفاق
وقال بعض أصحابنا إن نذر إعتكاف أيام لزمه التتابع ولا يلزمه مثل ذلك في الصيام لأن الإعتكاف يتصل بعضه ببعض من غير فضل والصوم يتخلله الليل فيفضل بعضه من بعض ولذلك لو نذر اعتكاف يومين متتابعين لدخل فيه الليل والصحيح التسوية لأن الواجب ما اقتضاه لفظه ولفظه لا يقتضي التتابع بدليل نذر الصوم ما ذكروه من العرف لا أثر له ومن قال يلزمه التتابع لزمته الليالي التي بين أيام الإعتكاف كما لو قال متتابعة
فصل : إذا نذر صيام أشهر متتابعة فابتدأها من أول شهر أجزأه صومها بالأهلة بلا خلاف وإن ابتدأها من أثناء شهر كمله بالعدد وباقي الأشهر بالأهلى وهذا قول مالك و الشافعي وأحد الروايتين عن أبي حنيفة والرواية الأخرى يكمل الجميع بالعدد وروي ذلك عن أحمد وقد تقدم توجيه الروايتين
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم شهرا بعينه فأفطر يوما بغير عذر ابتدأ شهرا وكفر كفارة يمين
وجملته أنه إذا نذر صوم شهر معين فأفطر في أثنائه لم يخل من حالين أحدهما : أفطر لغير عذر ففيه روايتان :
أحدهما : يقطع صومه ويلزمه استئنافه لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر كما لو شرط التتابع وفارق رمضان فإن تتابعه بالشرع لا بالنذر وههنا أوجبه على نفسه على صفة ثم فوتها فأشبه ما لو شرطه متتابعا
الثاينة : لا يلزمه الاستئناف إلا أن يكون قد شرط التتابع وهذا قول الشافعي لأنه وجوب التتابع ضرورة التعيين لا بالشرط فلم يبطله الفطر في أثنائه كشهر رمضان ولأن الإستئناف يجعل الصوم في الوقت الذي لم يعينه والوفاء بنذره في غير وقته وتفويت يوم واحد ولا يوجب تفويت غيره من الأيام فعلى هذا يكفر عن فطره ويقضي يوما مكانه بعد إتمام صومه وهذا أقيس إن شاء الله تعالى وعلى الرواية الأولى يلزمه الاستئناف عقيب اليوم الذي أفطر فيه ولا يجوز تأخيره لأن باقي الشهر منذور ولا يجوز ترك الصوم فيه وتلزمه كفارة أيضا لا حلاله بصوم هذا اليوم الذي أفطره
الحال الثاني : أفطر لعذر فإنه يبني على ما مضى من صيامه ويقضي ويكفر هذا قياس المذهب وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه لا كفارة عليه وهذا مذهب مالك و الشافعي و أبي عبيد لأن المنذور محمول على المشروع ولو أفطر رمضان لعذر لم يلزمه شيء
ولنا أنه فات ما نذره فلزمته كفارة ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأخت عقبة بن عامر : ولتكفر يمينها ] وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم تجب عليه كفارة إلا في الجماع
فصل : فإن جن جميع الشهر المعين لم يلزمه قضاء ولا كفارة وقال أبو ثور يلزمه القضاء لأنه من أهل التكليف حالة نذره وقضائه فلزمه القضاء كالمغمى عليه
ولنا أنه ليس من أهل التكليف في وقت الوجوب فلم يلزمه القضاء كما لو كان في شهر رمضان وإن حاضت المرأة جميع الزمن المعين فعليها القضاء وفي الكفارة وجهان وقال الشافعي لا كفارة عليها وفي القضاء وجهان أحدهما : لا يلزمها النذر لأن زمن الحيض لا يمكن الصوم فيه ولا يدخل في النذر كزمن رمضان
ولنا أن المنذور يحمل على المشروع ابتداء ولو حاضت في شهر رمضان لزمها القضاء وذلك النذور
فصل : ولو قال لله علي الحج في عامي هذا فلم يحج لعذر أو غيره فعليه القضاء والكفارة ويحتمل ألا كفارة عليه إذا كان معذورا وقال الشافعي إن تعذر عليه الحج لعدم أحد الشرئط السبعة أو منعه منه سلطان أو عدو فلا قضاء عليه وإن حدث به مرض أو أخطأ عددا أو نسي أو توانى قضاه
ولنا أنه فاته الحج المنذور فلزمه قضاؤه كما لو مرض ولأن المنذور محمول على المشروع ابتداء ولو فاته المشروع لزمه قضاؤه كذلك المنذور
فصل : ولو نذر صوم شهر بعينه أو الحج في عام بعينه وفعل ذلك قبله لم يجزئه وقال أبو يوسف : يجزئه كما لو حلف ليقضينه حقه في وقت فقضاه قبله
ولنا أن المنذور محمول على المشروع ولو صام قبل رمضان لم يجزئه فكذلك إذا صام المنذور قبله ولأنه لم يأتي بالمنذور في وقته فلم يجزئه كما لو لم يفعله أصلا

مسألة حكم من نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه وكذلك كل ما كان من نذر طاعة
يعني من نذر حجا أو صياما أو صدقة أو عتقا أو اعتكافا أو صلاة أو غيره ن الطاعات ومات قبل فعله فعله الولي عنه وعن أحمد في الصلاة لايصلي عن الميت لأنها لا بدل لها بحال وأما سائر الأعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه ولكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له والمعروف وافتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تشي إلى قباء فماتت ولم تقضه ان تمشي ابنتها عنها وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن أبي أمية أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف قال صم عنها واعكف عنها وقال حدثنا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عار بن شعيب أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات وقال مالك : لا يمشي أحد عن أحد ولا يصلي ولا يصو عنه وكذلك سائر أعمال البدن قياسا على الصلاة وقال الشافعي : يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحدا ولا يقضي الصوم في أحد القولين عنه كل يوم مسكين لأن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين ] أخرجه ابن اجة وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الأخبار الواردة فيه وجممهور أهل العلم على أن ذلك ليس بواجب على الولي ألا أن يكون حقا في المال ويكون للميت تركه وأمر النبي صلى الله عليه و سلم في هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها [ أن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين وقضاء الدين على الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركه يقضي بها ومنها أن السائل سأل النبي صلى الله عليه و سلم هل يفعل ذلك أم لا ؟ وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة فالأمر في جوابه يقتضي الإباحة وإن كان السؤال عن الأجزاء فأمره يقتضي الوجوب كقولهم أنصلي في مرابض الغنم ؟ قال : صلوا في مرابض الغنم وإن كان سؤالهم عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم : أيتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : توضؤوا من لحوم الإبل ] وسؤال السائل في مسألتنا كان عن الأجواء فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالفعل يقتضيه لا غير
ولنا على جواز الصيام عن الميت ما [ روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه ] وعن ابن عباس قال [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول إن أمي ماتت وعليها صوم شهر افأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ ـ قال نعم قال ـ فدين الله أحق أن يقضى ] وفي رواية قال : [ جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقيضته أكان يؤدى ذلك عنها ؟ قالت نعم قال : فصومي عن أمك ] متفق عليهن وعن ابن عباس [ أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي صلى الله عليه و سلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فافتاه أن يقضيه فكانت سنة بعد ] وعنه [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ ـ قال نعم قال ـ فاقض الله فهو أحق بالقضاء ] رواهما البخاري وهذا صريح في الصوم والحج ومطلق في النذر وما عدا المذكور في لحديث يقاس عليه وحجيث ابن عمر في الصوم الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله عليه جمعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا أصح وأكثر وأولى بالتقديم إذا ثبت هذا فإن الأولى أن يقضي النذر عنه وارثه فإن قضاه غير أجزأه عنه كما لو قضى عنه دينه فإن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولأن ما يقضيه الوارث إنما هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وإن كان النذر في مال تعلق بتركته

فصل فيمن نذر أن يطوف على أربع
ومن نذر أن يطوف على أربع فعليه طوافان قال ذلك ابن عباس [ لما روى معاوية بن خديج الكندي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه أمه كبشة بنت معديكرب عمة الأشعث بن قيس فقالت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إني آليت أن أطوف بالبيت حبوا فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك ] أخرجه الدارقطني بإسناده
وقال ابن عباس في امرأة نذرت أن تطوف بالبيت على أربع قال تطوف عن يديها سبعا وعن رجليها سبعا
رواه سعيد والقياس أن يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه ذلك على يديه لأنه غير مشروع فيسقط كما أن أخت عقبة نذرت أن تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تحج وتختمر
[ وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة شعرها فقال مروها فتختمر ومر برجلين مقترنين فقال أطلقا قرانكما ] وقد ذكرنا حديث أبي إسرائيل الذي نذرأن يصوم ويفعل أشياء فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر نذوره وهل تلزمه كفارة ؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله بصفة نذره وإن كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع
وأما وجه الأول فلأن من نذر الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم الطواف الثاني مقام طوافه على يديه

فصل حكم ما لو نذر صوم الدهر
فصل : فإن نذر صوم الدهر لزمه ولم يدخل في نذره رمضان ولا أيام العيد والتشريق فإن أفطر لعذر أو غيره لم يقضه لأن الزمن مستغرق بالصوم المنذور ولكن تلزمه كفارة لتركه وإن لزمه قضاء من رمضان أو كفارة قدمه على النذر لأنه واجب بأصل الشرع فقدم على ما أوجبه على نفسه كتقديم حجة الإسلام على المنذورة فإذا لزمته كفارة لتركه صوم يوم أو أكثر وكانت كفارته الصيام احتمل أن لا يجب لأنه لا يمكن التكفير إلا بترك الصوم المنذور وتركه يوجب كفارة فيفضي ذلك إلى التسلسل وترك المنذور بالكلية ويحتمل أن تجب الكفارة ولا تجب بفعلها كفارة لأن ترك النذر لعذر لا يوجب كفارة فلا يفضي إلى التسلسل

فصل صيغة النذر
فصل : وصيغة النذر أن يقول لله علي أن أفعل كذا وإن قال علي نذر كذا لزمه أيضا لأنه صرح بلفظ النذر وإن قال إن شفاني الله فعلي صوم شهر كان نذرا وإن قال لله علي المشي إلى بيت الله قال ابن عمر في الرجل يقول على المشي إلى الكعبة لله قال هذا نذر فليمش ونحوه عن القاسم بن محمد ويزيد بن إبراهيم التيمي و مالك وجماعة من العلماء واختلف فيه عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد فروي عنهما مثل قولهم وروي عنهما فيمن قال عل المشي إلى بيت الله فليس بشيء إلا أن يقول علي نذر مشي إلى بيت الله ولنا أن لفظه علي للإيجاب على نفسه فإذا قال علي المشي إلى بيت الله فقد أوجبه على نفسه فلزمه كما لو قال : هو علي نذر والله أعلم

فصل القضاء فرض كفاية
كتاب القضاء : الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقوله : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } وقوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وأما السنة فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ] متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس
فصل : والقضاء من فروض الكفايات لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبا عليهم كالجهاد والإمامة قال أحمد لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس ؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه أجرا مع الخطأ وأسقط عنه حكم الخطأ ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة المظلوم وأدار الحق إلى مستحقه وردا للظالم عن ظلمه وإصلاحا بين الناس وتخليصا لبضعهم من بعض وذلك من أبواب القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه و سلم والأنبياء قبله فكانوا يحكمون لأممهم وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث أيضا معاذا قاضيا
وقد روي عن ابن مسعود أنه قال لأن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة وعن عقبة بن عامر قال [ جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اقض بينهما قلت أنت أولى بذلك قال : وإن كان قلت علام أقضي ؟ قال : اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد ] رواه سعيد في سننه

فصل خطورة القضاء
فصل : وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الإمتناع ويخشون على أنفسهم خطره
قال خاقان بن عبد الله : أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس ههنا غيرك قال فانزلوا الأمر على ما قلتم فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضا فلما كان اليوم الثالث فترت يداه وان يقال : [ أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه و سلم : من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ] قال الترمذي هذا حديث حسن وقيل في هذا الحديث أنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل على مشقة كمشقة الذبح

فصل ضروب الناس في القضاء
فصل : والناس في القضاء على ثلاثة أضرب منهم : من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القضاء ثلاثة ] ذكرمنهم رجلا قضى بين الناس بجهل فهو في النار ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه فيدفعه إلى غيره ومنهم : من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل العدالة والإجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء بحكم حالة وصلاحيته ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له وظاهر ككلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه وقال أبو عبد الله بن حامد إن كان رجلا خاملا لا يرجع إليه في الأحكام ولا يعرف فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون وإن كان مشهورا في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن من الغرر ونحو هذا قال أصحاب الشافعي وقالوا أيضا إذا كان ذا حاجة له في القضاء رزق فالأولى له الاشتغال به فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة وعلى كل حال فإنه يكره للإنسان طلبه والسعي في تحصيله لأن أنسا روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده ] قال الترمذي هذا حديث حسن غريب [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فإنك أن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ] متفق عليه
الثالث : من يجب عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فإنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ؟ قال لا يأثم فهذا يحتمل أنه يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر بنفسه فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له ليس غيرك ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن قال أحمد قال لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس ؟

فصل يجوز للقاضي أخذ الرزق
فصل : ويجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح و ابن سيرين و الشافعي وأكثر أهل العلم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وبعث إلى الكوفة عمارا وعثمان بن حنيف وابن مسعود ورزقهما كل يوم شاة نصفها لعمار ونصفها لابن مسعوج وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله
وقال أبو الخطاب يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعل وجهين وقال أحمد ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا وإن كان فبقدر شغله مثل والي اليتيم وكان ابن مسعود و الحسن يكرهان الأجر على القضاء وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرا وقالا لا نأخذ أجرا على أن نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي أن لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق عليه وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين ولما ذكرناه من أن عمر رزق زيدا و شريحا وابن مسعود وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة ولأن بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق فأما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه : لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرا وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه قربة يختص فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة ولأنه عمل غير معلوم فإن لم يكن للقاضي رزق فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه جاز ويحتمل أن لا يجوز

فصلان بعث القضاة وتوليتهم
فصل : وإذا كان الإمام في بلد فعليه أن يبعث القضاة إلى الأمصار غير بلده ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عليا قاضيا إلى اليمن وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن أيضا وقال له : بم تحكم ؟ ـ قال بكتاب الله تعالى قال ـ فإن لم تجد ـ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ـ فإن لم تجد ـ قال اجتهد رأيي ـ قال الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وبعث عمر شريحا على قضاء الكوفة وكعب بن سور على قضاء البصرة وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام لأن أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى بلد الإمام ومن أمكنه ذلك شق عليه فوجب اغناؤهم عنه
فصل : وإذا أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم على من يصلح وإن ذكر له رجل لا يعرفه أحضره وسأله وإن عرف عدالته وإلا بحث عن عدالته إذا عرفها ولاه ويكتب له عهدا يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم وتصفح أحوال الشهود وتأمل الشهادات وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته ثم إن كان البلد الذي ولاه قضاءه بعيدا لا يستفيض إليه بالخبر بما يكون في بلد الإمام أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما العهد وأقرأه غيره بحضرته وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما أشهدا على أني قد وليته قضاء البلد الفلان وتقدمت إليه بما اشتمل هذا العهد عليه وإن كان البلد قريبا من بلد الإمام يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام مثل أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها جاز أن يكتفى بالاستفاضة دون الشهادة لأن الولاية تثبت بالاستفاضة وبهذا قال الشافعي إلا أن عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت بالاستفاضة ولم يفصلوا بين القريب والبعيد لأن النبي صلى الله عليه و سلم ولى عليا ومعاذا قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض إليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل منهم الاشهاد على تولية القضاء مع بلدانهم
ولنا أن القضاء لا يثبت إلا بأحد الأمرين وقد تعذرت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها إليه فتعين الأشهاد ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يشهد على توليته فإن الظاهر أنه لم يبعث واليا إلا ومعه جماعة فالظاهر أنه أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله وقد قام دليله فتعين وجوده

مسألة شروط القاضي وشروط الاجتهاد
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله تعالى : ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عدلا عالما فقيها ورعا
وجملته أنه يشترط في القاضي ثلاثة شروط أحدها : الكمال وهو نوعان كمال الأحكام وكمال الخلقة أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا وحكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أفلح قوم ولو أمرهم امرأة ] ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلا للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله تعالى على صلالهن ونسيانهن بقوله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه و سلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا وأما كمال الخلقة فإن يكون متكلما سميعا بصيرا لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم جميع الناس إشارته والأصم لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من المشهود له وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لأن شعيبا كان أعمى ولهم في الأخرس لذي تفهم إشارته وجهان
ولنا أن هذه الحواس تؤثر في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج اليه وربما أحاط بحقيقة علمها والقاضي ولايته عامة ويحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم يقبل منه الشهادة فالقضاء أولى وما ذكروه عن شعيب فلا نسلم فيه فإنه لم يثبت أنه كان أعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فإن شعيبا عليه السلام كان من آمن معه من الناس قليلا وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم وتناصفهم فلا يكون حجة في مسألتنا
الشرط الثاني : العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى [ وحكي عن الأصم أنه قال يجوز أن يكون القاضي فاسقا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : سيكون بعدي امراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة ]
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فأمر بالتبين عند قول الفاسق ولا يجوز أن يون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبين عند حكمه ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا فلألا يكون قاضيا أولى فأما الخبر فاخبر بوقوع كونهم أمراء لا بمشروعتيه والنزاع في صحة توليته لا في وجودها
الشرط الثالث : : أن يكون من أهل الاجتهاد وبهذا قال مالك و الشافعي وبعض الحنفية وقال بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصائم فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين
ولنا قول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولم يقل بالتقليد وقال : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } وقال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار ] رواه ابن ماجة والعامي يقضي على جهل ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا والزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى فإن قيل : فالمفتي يجوز أن يخبر بما سمع قلنا نعم إلا أنه لا يكون مفتيا تلك الحال وإنما هو مخبر فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبره لا بفتياه ويخالف قول المقومين لأن ذلك لا يمكن معرفته بنفسه بخلاف الحكم
إذا ثبت هذا فمن شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء الكتاب والسنة والإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب أما الكتاب فيحتاج أن بعرف منه عشرة أشياء : الخاص والعام والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والمجمل والمفسر والناسخ والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة ولا يلزمه معرفة سائر القرآن فأما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار من ذكر الجنة والنار والرقائق ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ويزيد معرفة التواتر والآحاد والمرسل والمتصل والمسند والمنقطع والصحيح والضعيف ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه وما أجمع عليه وما اختلف فيه ومعرفة القياس وشروطه وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكرنا ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه فإن قيل هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها ؟ قلنا ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه و سلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال امامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألا الناس فيخبرا فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال : مالك في كتاب الله شيء ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا ولكن ارجعي حتى أسأل الناس ثم قام فقال أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطاها السدس وسئل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي قضى فيه بغرة ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل وقيل من يجيب في كل مسألة فهو مجنون وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله
وحكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا وإنما المعتبر أصول هذه الأمور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه والله أعلم

فصلان من شروط الحاكم
فصل : ليس من شرط الحاكم كونه كاتبا وقيل يشترط ذلك لعلم ما يكتبه كاتبه ولا يتمكن من اخفائه عنه
ولنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أميا وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحاكم الكتابة فلا تعتبر شروطها وإن احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس من شرطه معرفة المساحة ويحتاج إلى التقويم وليس من شرط القضاء أن يكون عالما بقيمة الأشياء ولا معرفته بعيوب كل شيء
فصل : وينبغي أن يكون الحاكم قويا من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ويكون حليما متأنيا ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح السمع والبصر عالما بلغات أهل ولايته عفيفا ورعا نزها بعيدا من الطمع صدوق اللهجة ذا رأي ومشورة لكلامه لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد ولا يكون جبارا ولا عسوفا فيقطع ذا الحجة عن حجته قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال : عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال إن فاتته واحدة كانت فيه وصمة : العقل والفقه والورع والنزاهة والصرامة والعلم بالسنن والحكم ورواه سعيد فيه يكون فهما حليما عفيفا صلبا سآلما عما لا يعلم وفي رواية محتملا للأئمة ولا يكون ضعيفا مهينا لأن ذلك يبسط المختاصمين إلى التهاتر والتشائم بين يديه قال عمر رضي الله عنه : لأعزلن فلانا عن القضاء ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه

فصلان أمور تراعى في تولية القضاء
فصل : وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وإن استحق التعزير عزره بما يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بأن يقول حكمت علي بغير الحق أو ارتشيت فله تأديبه وله أن يعفو وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو
فصل : وإن ولى الإمام رجلا القضاء فإن كانت ولايته في غير بلده فاراد السير إلى بلاد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد سأل في طريقه فإن لم يجد سأل إذا دخل البلد عن أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه ويجعل قدومه يوم الخميس إن أمكنه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ثم يقصد فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعل إذا دخل المدينة ويسأل الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة وأن يجعل عمله صالحا ويجعله لوجهه خالصا ولا يجعل لأحد فيه شيئا ويفوض أمره إلى الله تعالى ويتوكل عليه ويأمر مناديه فينادي في البلدان فلانا قدم عليكم قاضيا فاجتمعوا لقراءة عهده وقت كذا وكذا وينصرف إلى منزله الذي قد أعد له وينبغي أن يكون في وسط البلد ليتساوى أهل المدينة فيه ولا يشق على بعضهم قصده فإذا اجتمعوا أمر بعهده فقرىء عليهم ليعلموا التولية ويأتوا إليه ويعد الناس يوما يجلس فيه للقضاء ثم ينصرف إلى منزله وأول ما يبدأ فيه من أمر الحكم أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حالة وأعد لها خليا من الغضب والجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير والهم العظيم والزجع المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه وأحضر لذهنه وأبلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ] فنص على الغضب ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه ويسلم على من يمر به من المسلمين في طريقه ويذكر الله بقلبه ولسانه حتى يأتي مجلسه ويستحب أن يجعله في موضع بارز للناس فسيح كالرحبة والفضاء الواسع أو الجامع ولا يكره القضاء في المساجد فعل ذلك شريح و الحسن و الشعبي و محارب بن دثار ويحيى بن يعمر و ابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وروي عن عمر وعثمان وعلي انهم كانوا يقضون في المسجد
وقال مالك : القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك و إسحاق و ابن المنذر وقال الشافعي يكره ذلك إلا أن يتفق خصمان عنده في المسجد لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقض في المسجد لأنه تأتيك الحائض والجنب ولأن الحاكم يأتيه الذمي والحائض والجنب وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدى إلى السبب وما لم تبن له المساجد
ولنا إجماع الصحابة بما قد رويناه عنهم وقال الشعبي رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة يقضي بين الناس وقال مالك هو من أمر الناس القديم ولأن القضاء قربة وطاعة وانصاف بين الناس فلم يكره في المسجد ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر وقد روي عنه خلافه وأما الحائض فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم [ فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال : تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فأشار إلي أن ضع من دينك الشطر فقلت نعم يا رسول الله قال : فقم فاقضه ] وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد لئلا يبعد على قاصديه ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه [ لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من ولي من أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره ] رواه الترمذي ولأن حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء ويبسط له شيء ولا يجلس على التراب ولا على حصير المسجد لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم ويجعل جلوسه مستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة وهذه الآداب المذكورة في هذا الفصل ليست شرطا في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه فإن في اشتراطه روايتين

فصول فيما ينظر فيه القاضي وتسلسل ذلك
فصل : وإذا جلس الحاكم في مجلسه فأول ما ينظر فيه أمر المحبوسين لأن الحبس عذاب وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة يكتب اسم كل محبوس وفيم حبس ؟ ولمن حبس ؟ فيحمله إليه فيأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام إلا أن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر فإذا حضر ذلك اليوم وحضر الناس ترك الرقاع التي فيها اسم المحبوسين بين يديه ومد يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال من خصم فلان المحبوس فإذا قال خصمه أنا بعث معه ثقة إلى الحبس فاخرج خصمه وحضر معه مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر فيه في ذلك المجلس ولا يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه لما حبسته لأن الظاهر أن الحاكم أنما حبسه بحق لكن يسأل المحبوس بم حبست ؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام
أحدها : أن يقول حبسني بحق له حال أنا مليء به فيقول له الحاكم اقضه وإلا رددتك في الحبس
الثاني : أن يقول له علي دين أنا معسر به فيسأل خصمه فإن صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وإن كذبه نظر في سبب الدين فإن كان شيئا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الإعسار إلا ببينة بأن ماله تلف أو نفذ أو ببينة أنه معسر فيزول الأصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال وإن لم يثبت له أصل مال ولم تكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه أنه معسر لأن الأصل الإعسار وإن شهدت لخصمه بينة بأن له مالا لم تقبل حتى تعين ذلك المال بما يتميز به فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها وصدقها فلا كلام وإن كذبها وقال ليس هذا لي وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل إلا أن يقر به إلى واحد بعينه فإن كان الذي أقر له به حاضرا نظرت فإن كذبه في إقراره سقط وقضى من المال دينه وإن صدقه نظرت فإن كان له به بينة فهو أولى لأن له بينة وصاحب اليد يقر له به وإن لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لأن البينة شهدت لصاحب اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته لأنه حق لغيره ولأنه متهم في إقراره لغيره لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتحلقه تهمة فلم تبطل البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الإقرار وتسقط البينة لأنها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره
الجواب الثالث : أن يقول حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ليبحث عن حال الشهود فهذا ينبني على اصل وهو أن الحاكم هل له ذلك أو لا ؟ فيه وجهان
أحدها : ليس له ذلك لأن الحبس عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس أن صدقه خصمه في هذا
والثاني : يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم من البحث ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين فعلى هذا الوجه يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده وإن كذبه خصمه وقال بل قد عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق
الجزاب الرابع : يقول حبسني الحاكم بثمن كلب أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك فإن صدقه خصمه فذكر القاضي أن يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر أن الحاكم ينفذ حكم الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه آخر أنه يتوقف ويجتهد أن يصطلحا على شيء لأنه لا يمكنه فعل أحد الأمرين المتقدمين ولـ لشافعي قولان كهذين الوجهين الأخيرين وإن كذبه خصمه وقال بل حبست بحق واجب غير هذا فالقول قوله لأن الظاهر حبسه بحق
الجواب الخامس : أن يقول حبست ظلما ولا حق علي فينادي منادي الحاكم بذكر ما قاله فإن حضر رجل فقال أنا خصمه فأنكره وكانت للمدعي بينة كلف الجواب على ما مضى وإن لم تكن له بينة أو لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه أنه لا خصم له أو لا حق عليه ويخلى سبيله
فصل : ثم ينظر في أمر الأوصياء لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة الوصية بين المساكين فيقصدهم الحاكم بالنظر لأن المنظور عليه لا يمكنه المطالبة بحقه فإن الصغير والمجنون لا قول لهما والمساكين لا يتعين الأخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فإن كان الحاكم قبله نفذ وصيته لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته إلا وقد عرف أهليته في الظاهر ولكن يراعيه فإن تغيرت حاله بفسق أو ضعف أضاف إليه أمينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه كان أمينا قويا أقره وإن كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه وإن كان فاسقا عزله وأقام غيره وعلى قول الخرقي يضم إليه أمين ينظر عليه وإن كان قد تصرف أو فرق الوصية وهو أهل للوصية نفذ تصرفه وإن كان ليس بأهل وكان أهل الوصية بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا حقوقهم وإن كانوا غير معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان
أحدهما : عليه الضمان ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف
والثاني : لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى أهله وكذلك إن فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقهما فعلى وجهين
فصل : ثم ينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة الوصايا التي لم يعين لها وصي فإن كانوا بحالهم أقرهم لأن الذي قبله ولاهم ومن تغير حاله منهم عزله إن فسق وإن ضعف ضم إليه أمينا
فصل : ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي تولى الحاكم حفظها فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان أو في حفظه مؤنة كالأموال الجافية باعها وحفظ ثمنها لأربابها وإن لم تكن كذلك كالأثمان حفظها أربابها ويكتب عليها لتعرف

مسألة لا يحكم القاضي بين اثنين وهو غضبان
مسألة : قال : ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان
لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان كره ذلك شريح وعمر ابن عبد العزيز و أبو حنيفة و الشافعي وكتب أبو بكر إلى عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ] متفق عليه وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى اياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر لهم عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم فأوجع رأسه ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والوجع المزعج ومدافعه أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فإن حكم في الغضب أو ما شاكله فحكى عن القاضي أنه لا ينفذ قضاؤه لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وقال في المجرد ينفذ قضاؤه وهو مذهب الشافعي [ لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراح الحرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم للزبير : اسق ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري إن ان ابن عمتك فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ] متفق عليه فحكم في حال غضبه وقيل أنما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل ان يتضح له الحكم في المسألة فأما إن اتضح الحكم ثم عرض الغضب لم يمنعه لأن الحق قد استبان قبل الغضب فلا يؤثر الغضب فيه

مسألة وفصول استحباب المشاورة في القضاء وحضور أهل العلم والمشورة مجلس القاضي
مسألة : قال : وإذا نزل به الأمر المشكل عليه مثله شاور فيه أهل العلم والأمانة
وجملته أن الحاكم إذا حضرته قضية تبين له حكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو إجماع أو قياس جلي حكم ولم يحتج إلى رأي غيره ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : بم تحكم ؟ ـ قال بكتاب الله قال ـ فإن لم تجد ؟ قال ـ بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ـ فإن لم تجد ـ قال اجتهد رأيي ولا آلو ـ قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فإن احتاج إلى الاجتهاد استحب له أن يشاور لقول الله تعالى : { وشاورهم في الأمر } قال الحسن إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لغنيا عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وفي لقاء الكفار يوم بدر
وروي ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاور أبو بكر الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور الصحابة في حد الخمر وروي أن عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الأمر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال أحمد لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحكم و حماد يشاورهما ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون ولأنه قد ينتبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه أو يزيد عليه ؟ فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جائته الجدتان فورث أم الأم وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فاشرك بينهما
وروى عمر بن شبة عن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسا عند عمر فجاءته امرأة فقالت يا أمير المؤمنين مل رأيت رجلا قط أفضل من زوجي والله أنه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائما في اليوم الحار ما يفطر فاستغفر لها وأثنى عليها وقال مثلك اثنى الخير قال واستحيت المرأة فقامت راجعة فقال كعب يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها قال وما شكت قال شكت زوجها أسد الشكاية ؟ قال أو ذاك أرادت ؟ قال نعم قال ردوا علي المرأة فقال لا بأس بالحق أن تقوليه إن هذا زعم أنك جئت تشكين زوجك أنه يجتنب فراشك قالت أجل إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما يبتغي النساء فأرسل إلى زوجها فجاء فقال لكعب اقض بينهما قال أمير المؤمين أحق أن يقضي بينهما قال عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهم قال فإني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فاقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة فقال عمر والله ما رأيك الأول أعجب إلي من الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة إذا ثبت هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان : وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليبين له الحق
فصل : والمشاروة ههنا لاستخراج الأدلة ويعرف الحق بالاجتهاد ولا يجوز أن يقلد غيره ويحكم بقول سواه سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شيء وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إذا كان الحاكم من أهل الاجتها جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد ولأنه يعتقد أنه أعرف منه بطريق الاجتهاد
ولنا أنه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكره ليس بصحيح فإن من هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ لم يجز له أن يعمل به وإن كان لم يبن له الحق فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يبين له خطؤه إذا اجتهد
فصل : قال أصحابنا يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب حتى إذا حدثت حادقة يفتقر إلة أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه فإن حكم بإجتهاده فليس لأحد منهم أن يرد عليه وإن خالف اجتهاده لأن فيه افتئاتا عليه إلا أن يحكم بما يحالف نصا أو إجماعا
فصل : وينبغي له أن يحضر شهوده مجلسه ليستوفي بهم لحقوق وتثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه وإن شاء باعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى اشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه حتى يسمعوا كلام المختاصمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره ويشهدوا به
فصل : وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فإن عجلها قبل البيان لم يصح حكمه
وممن رأى الإصلاح بين الخصمين شريح وعبد الله بن عتبة و أبو حنيفة و الشعبي و العنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن قال أبو عبيد إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة
فصل : وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله فإن وجدها وإلا نظر في سنة رسوله فإن لم يجدها نظر في القياس فألحقها بأشبه الأصول بها لما ذكرنا من حديث معاذ بن جبل وهو حديث يرويه عمرو بن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة عن رجال من أصحاب معاذ من أهل حمص وعمرو والرجال مجهولون إلا انه حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لـ شريح انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لا يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبين لك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك

مسألة لا يحكم الحاكم بعلمه
مسألة : قال : ولا يحكم الحاكم بعلمه
ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها هذا قول شريح و الشعبي و مالك و إسحاق و أبي عبيد و محمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف والقول الثاني لـ لشافعي واختيار المزني [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قالت له هند أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها
وروى ابن عبد البر في كتابه إن عروة و مجاهدا رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا وقال عمر إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فأتني بأبي سفيان فأتاه به فقال له عمر يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال وا لله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه ههنا فإنك ما علمت قديم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر ثم إن عمر استقبل القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام قال فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر قالوا فحكم بعلمه ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه
وقال أبو حنيفة : ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به وما علمه في ولايته حكم به لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ] فدل على أنه إنما يقضي بما سمع لا بما يعلم [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم في قضية الحضرمي والكندي : شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك ]
وذكر ابن عبد البر في كتابه [ عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاهم الأرش ثم قال : إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم ؟ قالوا نعم فصعد النبي صلى الله عليه و سلم فخطب وذكر القصة وقال : أرضيتم ؟ قالوا لا فهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس ثم قال : أرضيتم ؟ قالوا نعم وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه ]
وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال لو رأيت حدا على رجل لم أحده حتى تقوم البينة ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي رووه كان إنكارا لمنكره رآه لا حكم بدليل أنه ما وجدت منهم دعوى وإنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضا بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشاهدين فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسألتنا وأما الجرح والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو يحكم فيه بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه

فصل الحاكم يحكم بالبينة والإقرار
فصل : ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة واقرار في مجلس حكمه إذا سمعه معه شاهدان فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه شاهد فنص أحمد على أنه يحكم به وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان لأنه حكم بعلمه

مسألة ما ينقضه الحاكم
مسألة : قال : ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا
وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه فبان له خطؤه أو بان له خطأ نفسه نظرت فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع نقض حكمه وبذها قال الشافعي وزاد إذا خالف نصا جليا نقضه وعن مالك و أبي حنيفة أنهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع ثم ناقضا ذلك فقال مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه وقال أبو حنيفة إذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه وقال محمد بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوغ فيه الخلاف فلم ينقض حكمه فيه كما لا نص فيه
وحكي عن أبي ثور و داود أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى : لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه
ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو إجماعا أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو لم يخالف الإجماع وبيان مخالفته للشرط أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ ولأنه ترك الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع أو كما لو حكم بشهادة كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فإن قيل أليس إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد ؟ قلنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه :
أحدها : إن استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة والخوف من عدو أو سبع أو نحوه مع العلم ولا يجوز ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال الثاني : إن الصلاة من حقوق الله تعالى تدخلها المسامحة
الثالث : أن القبلة يتكرر فيها اشتباه القبلة فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطأ لا يعود الاشتباه بعد ذلك
وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا ولا إجماعا أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك فإن أبا بكر حكم في مسائل بإجتهاده وخالفه عمر ولم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما فإن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين الناس وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض واحد منهم ما فعله من قبله وجاء أهل نجران إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر ولن أرد قضاء قضى به عمر رواه سعيد
وروي أن عمر حكم في المشركة بإسقاط الأخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا وقضى في الجد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا لأن الحاكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا يثبت حكم فإن قيل فقد روي أن شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ لأم أن المال للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال : علي بالعبد فجيء به فقال في أي كتاب الله وجدت ذلك ؟ فقال : قال الله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فقال له علي : قد قال الله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } ونقض حكمه قلنا لم يثبت عندنا أن عليا نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون علي رضي الله عنه اعتقد أنه خالف نص الكتاب في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك

فصل حكم ما لو تغير اجتهاد القاضي
فصل : إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم باجتهاده الأول لأنه إذا حكم فقد حكم بما يتعقد أنه باطل وهذا ما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد وإن كان قبل أن يصلي إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها ولذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم ولو بان بعد الحكم لم ينقضه

فصل ليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله
فصل : وليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها وأنه لا يولى القضاء إلا من هو من أهل الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء فما وافق من أحكامه الصواب أو لم يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا لم يسغ نقضه وإن كان مخالفا لأحد هذه الثلاثة وكان في حق الله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه لأن له النظر في حقوق الله سبحانه وإن كان يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقا لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته فإن طلب صاحبه ذلك نقضه وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقضت قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا سوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلاقضاء لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد لأن الأول ليس بإجتهاد ولا ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه وقال أبو الخطاب : تنقض قضاياه كلها ما أخطأ فيه وما أصاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه ولا أعلم فيه فائدة فإن الحق لو وصل إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك وككذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه والله أعلم

فصل حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته
فصل : وحكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في قول جمهور العلماء منهم مالك و الأوزاعي و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و داود و محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهرا وباطنا فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لأحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمده لكذب ولو أن رجلا ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك وصارت زوجته قال ابن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال : لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبهما وتزويرهما فحكم الحاكم بطلاقها لحل لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا ادعى على امرأة نكاحها فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك فقضى بينهما بالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقدا حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولأن اللعان ينفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذبا فالحكم أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار ] متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا ادعى أنه اشترى منه شيئا فحكم له ولأنه حكم بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق وأما الخبر عن علي أن صح فلا حجة لهم فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على الشهود فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح إذا ثبت هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها أن تمتنع ما أمكنها فإن أكرهها عليه فالإثم عليه دونها وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية وقيل لا حد عليه لأن وطء مختلف في حله فيكون ذلك شبهة وليس لها أن تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح
ولنا أن هذا يفضي إلى الجمع بين الوطء للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت له البينة في قول بعض الأئمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمتزوجة بغير ولي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة في أن حكم الحاكم يزيل الفسخ والعقود والأول هو المذهب

فصول حكم ما لو استعدى رجل على رجل إلى الحاكم
فصل : وإذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم ففيه روايتان
احداهما : أنه يلزمه أن يعديه ويستدعي خصمه سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم أنه يحضره ويستحلفه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن في تركه تضييعا للحقوق وإقرارا للظلم فإنه قد ثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه أو يودعه شيئا أو يعيره أياه فلا يرده ولا تعلم بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم فإنه لا نقيصة فيه وقد حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر علي عند شريح وحضر المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله
والرواية الثانية : لا يستدعيه إلا أن يعلم بينهما معاملة ويتبين أن لما ادعاه أصلا روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو مذهب مالك لأن في اعدائه على كل أحد تبذيل أهل المروءات وإهانة لذوي الهيئات فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستدعى عليه أن يوكل من يقوم مقامه إن كره الحضور وإن كان المتسدعى عليه امرأة نظرت فإن كانت برزة وهي تبرز لقضاء حوائجها فحكمها حكم الرجل وإن كانت مخدرة وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها أمرت بالتوكيل فإن توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أمينا معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما فإن أقرت شهدا عليها وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي قال : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] فبعث إليها ولم يستدعها وإذا حضروا عندها كان بينها وبينهم ستر تتكلم من ورائه فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جيء بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها ثم يحكم بينهما فإن لم تكن له بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما مع جباتها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه
فصل : ولا يخلو المستعدى عليه من أن يكون حاضرا أو غائبا فإن كان حاضرا في البلد أو قريبا منه فإن شاء الحاكم بعث مع المستعدي عونا يحضر المدعي عليه وإن شاء بعث معه قطعة من شمع أو طين مختوما بخاتمه فإذا بعث معه ختما فعاد فذكر أنه امتنع أو كسر الختم بعث إليه عيونا فإن امتنع صاحب المعونة فأحضره فإذا حضر وشهد عليه شاهدان بالامتناع عرزه أن رأى ذلك بحسب ما يراه تأديبا له إما بالكلام وكشف رأسه أو بالضرب أو بالحبس فإن اختبأ بعث الحاكم من ينادي على بابه ثلاثا أنه إن لم يحضر سمر بابه وختم عليه ويجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على اعذاره فإن لم يحضر وسأل المدعي أن يسمر عليه منزله ويختم عليه وتقرر عند الحاكم أن المنزل منزله سمره أو ختمه فإن لم يحضر بعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل أنه إن لم يحضر مع فلان أقام عنه وكيلا وحكم عليه فإن لم يحضر أقام عنه وكيلا وسمع البينة عليه وحكم عليه كما يحكم على الغائب وقضى حقه من ماله أن وجد له مالا وهذا مذهب الشافعي و أبي يوسف وأهل البصرة حكاه عنهم أحمد وإن لم يجد له مالا ولم تكن للمدعي بينة فكان أحمد ينكر التهجم عليه ويشتد عليه حتى يظهر وقال الشافعي إن علم له مكانا أمر بالهجوم عليه فيبعث خصيانا أو غلمانا لم يبلغوا الحلم وثقات من النساء معهم ذوو عدل من الرجال فيدخل النساء والصبيان فإذا حصلوا في صحن الدار دخل الرجال ويؤمر الخصيان بالتفتيش ويتفقد النساء النساء فإن ظفروا به أخذوه فاحضروه وإن استعدى على غائب نظرت فإن كان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له أن يعدي عليه وله الحكم عليه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن كان في ولايته وله في بلده خليفة فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب به إلى خليفته ولم يحضره وإن لم تكن له بينة حاضرة نفذه إلى خصمه ليخاصمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء أذن له في الحكم بينهما وإن لم يكن فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلفه الحضور لما لا يقضى عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في حضوره فإذا تحررت بعث فاحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت
وبهذا قال الشافعي وقال ابو يوسف إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجد من يحكم بينهما وقيل إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا
ولنا أنه لا بد من فضل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم يمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور فإنه يؤدي ويعزر ولأن إلحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن كانت امرأة برزة لم يشترط في سفرها هذا محرم نص عليه أحمد لأنه لحق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق
فصل : وإن استعدى على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه حقا من دين أو غصب اعداه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك إن ادعى أنه أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وإن ادعى عليه الجوز في الحكم وكان للمدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وإن لم يكن معه بينة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحضره لأن في إحضاره وسؤاله امتهانا له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن إلا يدخل في القضاء أحد خوفا من عاقبته
والثاني : يحضره لجواز أن يعترف فإن حضر واعترف حكم عليه وإن أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل كما يقبل في ولايته وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلما فهل يستحضره من غير بينة ؟ فيه وجهان فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله وإن ادعى أنه أخرج عينا من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له بها على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

مسائل وفصول في أحكام الشهور
فصل : وإن ادعى عل شاهدين أنهما شهدا عليه زورا أحضرهما فإن اعترفا أغرمهما وإن أنكرا وللمدعي بينة على إقرارهما بذلك فأقامها لزمهما ذلك وإن أنكرا لم يستحلفا لأن إحلافهما يطرق عليهما الدعاوى في الشهادة والامتهان وربما منع ذلك إقامة الشهادة وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا
مسألة : قال : وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه فإن عدله اثنان قبل شهادته
وجملته أنه إذا شهد عند الحاكم شاهدان فإن عرفهما عدلين حكم بشهادتهما وإن عرفهما فاسقين لم يقبل قولهما وإن لم يعرفهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى بشهادتهما إذا عرف إسلامهما بظاهر الحال إلا أن يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في هذا سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضه على بعض
[ وروي أن إعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فشهد برؤية لهلال فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أتشهد ألا إله إلا الله ؟ فقال نعم فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال نعم فصام وأمر الناس بالصيام ] ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله تعالى ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على خلافه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص ما يحتاط لها وتندرىء بالشهبات بخلاف غيرها
ولنا أن عدالة شرط فرجب العلم بها كالإسلام أو كما لو طعن الخصم فيهما فأما الإعرابي المسلم فإنه كان من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ايثارا لدين الإسلام وصحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثبتتت عدالته
وأما قول عمر فالمراد به أن الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك في وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه أنه أتي بشاهدين فقال لهما عمر لست أعرفكما ولا يضر كما أن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما ؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس ؟ قال لا قال عاملتهما في الدنانير والدارهم التي تقطع فيها الرحم ؟ قال لا قال كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما ؟ قال لا قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفى بدونه
إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط : الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة فليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفعون فيها بما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عن جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم فيكتب أسود أو أبيض أو أنزع أو أغم أو أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس أو رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو هذا ليتميز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله لكل واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينه وبين الشاهد قرابة تمنع الشهادة أو شركه وذكرنا اسم المشهود عليه لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة وذكرنا قدر الحق لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيرا ولا تطب إذا كان كثيرا
وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطؤوا وإن شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جوار الشاهد وأهل الخبرة به وإن شاء أطلق ولم يعين المسؤول ويكون السؤال سرا لئلا يكون فيه هتك المسؤول عنه وربما يخاف المسؤول من الشاهد أو من المشهود له أو المشهود عليه أن يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين له لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ذوي عقول وافرة أبرياء من الشحناء والبغض لئلا يطعنوا في الشهود أو يسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونون من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة فإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبل شهادته وإن أخبرا بالجرح رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالعدالة والآخر بالجرح بعث آخرين فإن عادا فأخبرا بالتعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينة لم تتم وإن أخبرا بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل تمت البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح ولا يقبل الجرخ والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل وقيل لا يقبل إلا شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شروط الشهادة في اللفظ وغيره ولا تقبل من صاحب المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حصولا شهود الأصل
ووجه القول الأول إن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة فيكتفي بمن يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فلا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم إجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لأنه قد يتفق ألا يكون في جيران الشاهد من يعرفه الحاكم فلا يقبل قوله فيفوت التعديل والجرح
فصل : قال القاضي : ولا بد من معرفة إسلام الشاهد ويحصل ذلك بأحد أربعة أمور :
أحدها : اخباره عن نفسه أنه مسلم أو اتيانه بكلمة الإسلام وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله لأنه لو لم يكن مسلما صار مسلما بذلك
الثاني : اعتراف المشهود عليه بإسلامه لأن ذلك حق عليه الثالث : خبرة الحاكم لأننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك فلا إسلامه
الرابع : بينة تقوم به ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور ثلاثة : بينة أو اعتراف المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي اعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير حرا فلا يملك الإقرار به بخلاف الإسلام
فصل : وإذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهور عليه هو عدل ففيه وجهان أحدهما : يلزم الحاكم الحكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد اعترف بها ولأنه إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ بإقراره كسائر أقاريره
والثاني : لا يجوز الحكم بشهادته لأن في الحكم بها تعديلا له فلا يثبت بقول واحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق لم يجز الحكم به ولأنه لا يخلو أما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه لا يجوز أن يقال مع تعديله لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل غير جائز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في حق غير المشهود عليه لأنه لم توجد بينة التعديل وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شروط الحكم وإقراره يثبت في حقه دون غيره كما لو أقر بحق عليه وعلى غيره ثبت في حقه دون غيره
مسألة : قال : وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجراحة أولى
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك ينظر أيهما أعدل ؟ اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه ؟ فيؤخذ بقول أعدلهما
ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل يتضمن ترك الريب والمحارم والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي ولأن الجارح يقول رأيته يفعل كذا والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بان يراه الجارح يفعل المعصية ولا يراه المعدل فيكون مجروحا
فصل : ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين وبهذا قال مالك و الشافعي ومحمد بن الحسن و ابن المنذر وروي عن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد كالرواية
ولنا أنه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحضانة وفارق الرواية فإنها على المساهلة ولا نسلم أنها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة ويعتبر في التعديل والجرح لفظ الشهادة فيقول في التعديل أشهد أنه عدل ويكفي هذا وإن لم يقل علي ولي وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق و مالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم لا يكفيه إلا أن يقول عدل علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو قرابة وقال بعضهم لئلا يكون عدلا في شيء دون شيء
ولنا قول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فإذا شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل ذلك في عموم الأمر لأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شيء فلا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الإنسان لا يكون عدلا في شيء دون شيء ولا في حق شخص دون شخص فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي أيضا بقوله عدل علي ولي فإن من ثبتت عدالته لم تزل بقرابة ولا عدواة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم أن هذا إذا كان معلوما انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه كما لو شهد بالحق من عرف الحاكم عدالته لم يحتج إلى أن ينفي عن نفسه ذلك ولأن العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهاة عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة به إلى نفي العدواة
فصل : ولا يكفي أن يقول لا أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي لأنه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم إلا الخير فهو عدل
ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلا كما لو قال أعلم منه خيرا وما ذكروه لا يصح لأن الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم إلا الخير لأنه يعلم إسلامهم وهو خير ولا يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول
فصل : قال أصحابنا ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهذا مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه ولأن عادة الناس اظهار الصالحات وإسرار المعاصي فإذا لم يكن ذا خبرة باطنة ربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل أن يريدوا به أن الحاكم إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل ولم يعرف حقيقة الحال فله أن يقبل الشهادة من غير كشف وإن استكشف الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فلا بأس
فصل : ولا يسمع الجرح إلا مفسرا ويعتبر فيه اللفظ فيقول أشهد أنني رأيته يشرب الخمر أو يعامل بالربا أو يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم أو سمعته يقذف أو يعلم ذلك باستفاضته في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه وبهذا قال الشافعي وسوار وقال أبو حنيفة يقبل الجرح المطلق وهو أن يشهد أنه فاسق أو أنه ليس بعدل وعن أحمد مثله لأن التعديل يسمع مطلقا فكذلك الجرح ولأن التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا ويوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو أن يشهد عليه بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطيل شهادته ولا يتجرح بها المجروح
ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب النبيذ فوجب أن لا يقبل مجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحا ولأن الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد أن يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا
وقولهم أنه يفضي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير تصريح فإن قيل ففي بيان السبب هتك المجروح قلنا لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك له ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا أولى فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز ولأن هتك عرضه بسببه لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله هو المحوج للناس إلى جرحه فإن صرح الجارح بقذفه فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد إدخال المعرة عليه
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية ولأن أبا بكرة ورفيقيه شهدوا على المغيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر الصحابة فلم ينكره منكر فكان إجماعا ويبطل ما ذكروه بما إذا اشهدوا عليه لإقامة الحد عليه
فصل : وإذا أقام المدعى عليه بينة أن هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم فرد شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية
فصل : ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فأشبه الرواية وإخبار الديات
ولنا أنها شهادة فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الشهادة في القصاص وما ذكروه غير مسلم
فصل : ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان أو عدوان لي أو آباء للمشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله ويشهد بما يجر إليه نفعا فأشبه الشهادة لنفسه ولو قبلنا قوله لم يشأ أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب حكمة شرع البينة
فصل : ولا تقبل شهادة المتوسمين وذلك إذا حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما وقال مالك يقبلهما إذا رأى فيهما سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قبولهما تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة
ولنا أن عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الحضر وما ذكروه معارض بأن قبول شهادتهما يفضي إلى أن يقضي بشهادتهما بدفع الحق إلى غير مستحقه
فصل : قال أحمد ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب ؟ فيه وجهان :
أحدهما : مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح والثاني : يجب البحث كلما مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين
فصل : وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل غيرهم لأن الله تعالى قال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ولأن فيه إضرارا بالناس لأن كثيرا من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين فمتى ادعى إنسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهم بكونهم من غير المرتبين لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والإجماع لكن له أن يرتب شهودا يشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضا يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد
فصل : ولا بأس أن يعظ الشاهدين كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا يا هذان ألا تريان ؟ أني لم أدعكما ولست أمنعكما أن ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا وفي لفظ وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة
[ وروى ابو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فاحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي به تقوم السماء والأرض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الطير لتخفق باجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار فإن صدقتما فأثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا ]

مسألة شروط كاتب القاضي
مسألة : قال : ويكون كاتبه عدلا وكذلك قاسمه
وجملته أنه يستحب للحاكم أن يتخذ كاتبا لأن النبي صلى الله عليه و سلم استكتب زيد بن ثابت وغيره ولأن الحاكم تكثر أشغاله ونظره فلا يمكنه أن يتولى الكتابة بنفسه وإن أمكنه تولي الكتابة بنفسه جاز والاستنابة فيه أولى ولا يجوز أن يستنيب في ذلك إلا عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيها ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون وافر العقل ورعا نزها لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلما لأن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } ويروى أن أبا موسى قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه قال أنه لا يدخل المسجد قال ولم ؟ قال أنه نصراني فانتهره عمر وقال لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله تعالى ولا تعزوهم وقد أذلهم الله تعالى ولأن الإسلام من شروط العدالة والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي في اشتراط عدالته وإسلامه وجهان
أحدهما : تشترط لما ذكرنا والثاني : لا تشترط لأن ما يكتبه لا بد من وقوف القاضي عليه فيؤمن الخيانة فيه ويستحب أن يكون جيد الحظ لأنه أكمل وأن يكون حرا ليخرج من الخلاف وإن كان عبدا جاز لأن شهادة العبد جائزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا في الكاتب ولا بد من كونه حاسبا لأنه عمله وبه يقسم فهو كالحظ للكاتب والفقه للحاكم ويستحب للحاكم أن يجلس كاتبه بين يديه ليشاهد ما يكتبه ويشافهه بما يملي عليه وإن قعد ناحية جاز لأن المقصود يحصل فإن ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه

فصل حكم ما لو رفع إلى الحاكم خصمان فأقر أحدهما لصاحبه وصفة المحضر والسجل
فصل : وإذا ترافع إلى الحاكم خصمان فأقر أحدهما لصاحبه فقال المقر له للحاكم اشهد لي على إقراره شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر فلا يمكنه الحكم عليه بعلمه ولو كان يحكم بعلمه احتمل أن ينسي فإن الإنسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم بإقراره وإن ثبت عنده حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن يشهد على نفسه لزمه لأنه لا حجة للمدعي سوى الإشهاد وإن ثبتت عنده بينة فسأله الإشهاد ففيه وجهان أحدهما : لا يلزمه لأن بالحق بينة فلا يجب جعل بينة أخرى
والثاني : يجب لأن في الأشهاد فائدة جديدة وهي إثبات تعديل بينته وإلزام خصمه وإن حلف المنكر وسأل الحاكم الأشهاد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك إذا سأله أن يكتب له محضرا بما جرى ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه ذلك لأنه وثيقة له كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا الخصمين فلا يذكرهما إلا ذوي خطيهما
والثاني : لا يلزمه لأن الأشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر عليهما الشهادات ويطول عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققا يحصل به اداؤها فلا يتقيد إلا بالكتاب فإن اختار أن يكتب له محضرا فصفته : حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني عبد الله قاضي الإمام بجلس حكمه وقضائه فإن كان يعرف المدعي والمدعي عليه بأسمائهما وأنسابهما قال فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما حتى يتميز أو يستحب ذكر حليتهما وإن أخل به جاز لأن ذكر نسبهما إذا رفع فيه أغنى عن ذكر الحلية وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين قال : مدع ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه مدعى عليه ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب ويقول أغم أو أنزع ويذكر صفة العينين والأنف والفم والحاجبين واللون والطول والقصر ما ادعى عليه كذا وكذا فأقر له ويحتاج أن يقول بمجلس حكمه لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان كان أوكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر الحمد لله رب العالمين أو ما أحب من ذلك فأما إن أنكر المدعى عليه وشهدت عليه بينة قال : فادعى عليه كذا وكذا فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله أن يكتب له محضرا بما جرى فأجابه إليه وذلك في وقت كذا ويحتاج ههنا أن يذكر بمجلس حكمه وقضائه بخلاف الإقرار لأن البينة لا تسمع إلا في جلس الحكم والإقرار بخلافه ويكتب الحاكم في آخر المحضر : شهدا عندي بذلك فإن كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهد كتب تحت خطوطهما أو تحت خط كل واحد منهما شهد عندي بذلك ويكتب علامته في رأس المحضر وإن أقتصر على ذلك دون المحضر جاز
فأما إن لم تكن للمدعي بينة فاستحلف المنكر ثم سأل المنكر الحاكم محضرا لئلا يحلف في ذلك ثانيا كتب له مثل ما تقدم إلا أنه يقول : فانكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة فلم تكن له بينة فقال لك يمينه فسأله أن يستحلفه فاستحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولا بد من ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم ويعلم في اوله خاصة وإن نكل المدعي عليه عن اليمين قال : فعرض اليمين على المدعى عليه فنكل عنها فسأل خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق فقضي عليه في وقت كذا ويعلم في آخره ويذكر أن ذلك في مجلس حكمه وقضائه فهذه صفة المحضر فأما إن سأل صاحب الحق الحاكم أن يحكم له بما ثبت في المحضر لزمه أن يحكم له به وينفذه فيقول : حكمت له به ألزمته الحق أنفذت الحكم به فإن طلبه أن يشهد له على حكمه لزمه ذلك لتحصل له الوثيقة به فإن طالبه أن يسجل له به وهو أن يكتب في المحضر ويشهد على إنفاذه سجل له وفي وجوب ذلك الوجهان المذكوران في المحضر وهذه صورة السجل
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام على كذا وكذا في مجلس حكمه وقضائه في موضع كذا وكذا في وقت كذا وكذا أنه يثبت عنده بشهادة فلان وفلان ونسبهما وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده بما في كتاب نسخه ويسنخ الكتاب إن كان معه أو المحضر في أي حكم كان فإذا فرغ منه قال بعد ذلك فحكم به فانفذه وأمضاه بعد أن ساله فلان بن فلان أن يحكم له به ولا يحتاج أن يذكر أنه بمحضر المدعى عليه لأن القضاء على الغائب جائز فإن أراد أن يذكر احتياطا قال بعد أن حضره من ساغ له الدعوى عليه ويكتب الحاكم بالسجل والمحضر نسختين
إحداهما : تكون في يد صاحب الحق والأخرى : تكون في ديوان الحكم فإن هلكت أحداهما نابت الأخرى عنها ويختم الذي في ديوان الحكم ويكتب على طيه سجل فلان بن فلان أو محضر فلان بن فلان أو وثيقة فلان بن فلان فإن كثر ما عنده جمع ما يجتمع في كل يوم أو اسبوع أو شهر على قدر كثرتها وقلتها وشدها اضبارة ويكتب عليها اسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا ثم يضم ما يجتمع في السنة ويدعها ناحية ويكتب عليها كتب سنة كذا حتى إذا حضر من يطلب شيئا منها سام عن السنة فيخرج كتب تلك السنة ويسهل وينبغي أن يتولى جمعها وشدها بنفسه لئلا يزور عليه فإن تولى ذلك ثقة من ثقاته جاز

فصول في أمور متفرقة في القضاء والمتقاضين
فصل : وينبغي أن يجعل من بيت المال شيء برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات لأنه من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته ويرجع بالدرك على من رجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزمه الحاكم ذلك ويقول لصاحب الحق ان شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه فإنه حج لك وليست أكرهك عليه
فصل : وإذا ارتفع إليه خصمان فذكر أحدهما أن حجته في ديوان الحكم فاخرجها الحاكم من ديوانه فوجدها مكتوبة بخطه تحت ختمه وفيها حكمه فإن ذكر ذلك حكم به وإن لم يذكره لم يحكم به نص عليه أحمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو قول أبي حنيفة و الشافعي ومحمد بن الحسن وعن أحمد رضي الله عنه أنه يحكم به وبه قال ابن أبي ليلى وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة لأنه إذا كان في قمطرة تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحا
ووجه الأولى أنه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه يجوز أن يزور عليه وعلى ختمه والخط يشبه الخط فإن قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقا على إنسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه قلنا هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الإجماع على أنه لو وجد بخط أبيه شهادة لم يجز له أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوبا بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه الرجوع في ما حكم به عليه إلى نفسه لأنه فعل نفسه فروعي ذلك وأما ما كتبه أبوه فلا يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه فيكفي فيه الظن
فصل : فإن ادعى رجل على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم أنما هو إمضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولها وإمضاء القضاء وبه قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن قال القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين
وقال أبو حنيفة و ابو يوسف و الشافعي لا يقبل لأنه يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته فشهد عنده شاهدان أنه شهد لم يكن له أن يشهد
ولنا أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكم نفسه ولأنهما شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه ليس غليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم

مسألة وفصول في الهدية إلى القاضي والرشوة والبيع والشراء وحضور الولائم وعيادة المرضى
مسالة : قال : ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته
وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت وإذا قبل لرشوة بلغت به الكفر وقد روى أبو حميد الساعدي قال : [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي صلى الله عليه و سلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر فرفع يديه حتى رأيت عفرة أبطية فقال : اللهم هل بلغت ثلاثا ؟ ] متفق عليه ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها منه كالرشوة فأما إن كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبل الولاية بدليل وجودها قبلها قال القاضي ويستحب له التنزه عنها وإن أحس أنه يقدمها بين يدي خصومه أو فعلها حال الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه أن قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرنا دلالة على التحريم
فصل : فأما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام بلا خلاف قال الله تعالى : { أكالون للسحت } قال قال الحسن و سعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر
وروى عبد الله بن عمر قال : [ لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الراشي والمرتشي ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفير بينهما ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم قال لا : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ـ و { الظالمون } ـ و { الفاسقون } ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل وقال قتادة قال كعب : الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقا فهو ملعون وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء و جابر بن زيد و الحسن لا بأس أن يصانع عن نفسه قال جابر بن زيد ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر ابن اللتبية بردها على أربابها وقد قال أحمد إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر : يكونون فيه سواء
فصل : ولا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه لما [ روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا ] ولأنه يعرف فيحابي فيكون كالهدية ولأن ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين قال فإني لا أدع عيالي يضيعون قالوا فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى صح البيع لأن البيع تم بشروطه وأركانه وإن احتاج إلى مباشرته ولم يكن له من يكفيه جاز ذلك ولم يكره لأن أبا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه ولأن القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وأما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره له لما ذكرناه من المعنيين وينبغي ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابي وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه
ولنا ما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرتشي ولا أقضي وأنا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا لهم قبل قولهم وترك التجارة فحصل الإتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها
فصل : ويجوز للحاكم حضور الولائم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال : من لم يجب فقد عصى الله ورسوله ] فإن كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحدا لأن ذلك يشغله عن الحكم الذي قد تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضا دون بعض لأن في ذلك كسرا لقلب من لم يجبه إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداهما منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى
فصل : وله عيادة المرضى وشهود الجنائز واتيان مقدم الغائب وزيادة إخوانه والصالحين من الناس لأنه قربة وطاعة وإن كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض دون البعض لأن هذا يفعله لنفع نفسه لتحصيل الأجر والقربة له والولائم يراعى فيها حق الداعي فينكسر قلب من لم يجبه إذا أجاب غيره

مسألة وفصول وجوب العدل بين الخصوم وحكم سماع الدعاوى
مسألة : قال : ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب
وجملته أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء من المجلس والخطاب واللحظ واللفظ والدخول عليه والإنصات إليهما والاستمتاع منهما وهذا قول شريح و أبي حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا وقد روى عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من بلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر ] وفي رواية : [ فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة ] وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي سو بين الناس في مجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع شريف في حيفك وقال سعيد ثنا هشيم ثنا سيار ثنا الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي بن كعب بدار في شيء فجعلا بينهما زيد ابن ثابت فأتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة تؤتي الحاكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء ولكن اجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي وأنكر عمر فقال زيد أبي اعف أمير المؤمنين من اليمين وماكنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء ورواه عمر بن شبة وفيه فلما أتيا باب زيد خرج فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى لأتيتك قال في بينة تؤتي الحكم فلما دخلا عليه قال ههنا يا أمير المؤمنين قال بل اجلس مع خصمي فادعى أبي وأنكر عمر ولم تكن لأبي بينة فقال زيد اعف أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر تالله إن زلت ظالما السلام عليك يا أمير المؤمنين ههنا يا أمير المؤمنين اعف أمير المؤمنين ؟ إن كان لي حق استحققته بيميني وإلا تركته والله الذي لا إله إلا هو أن النخل لنخلي وما لأبي فيها حق ثم أقسم عمر لا يصيب زيد وجه القضاء حتى يكون عمر وغيره من الناس عنده سواء فلما خرجا وهب النخل لأبي فقيل له يا أمير المؤمنين فهلا كان هذا قبل أن تحلف ؟ قال خفت أن أترك اليمين فتصير سنة فلا يحلف الناس على حقوقهم وقال إبراهيم : جاء رحل إلى شريح وعنده السري بن وقاص فقال الرجل لـ شريح أعني على هذا الجالس عندك فقال شريح للسري قم فاجلس مع خصمك قال إني أسمعك من مكاني قال لا قم فاجلس مع خصمك فأبى أن يسمع منه حتى أجلسه مع خصمه
وفي رواية قال ان مجلسك يريبه وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر ولما تحاكم علي رضي الله عنه واليهودي إلى شريح قال علي إن خصمي لو كان ميلما لجلست معه بين يديك ولأن الحاكم إذ ميز أحد الخصمين على ألآخر حصر وانكسر قلبه وربما لم تقم حجته فأدى ذلك إلى ظلمه وإن أذن أحد الخصمين للحاكم في رفع الخصم الآخر عليه في المجلس جاز لأن الحق له ولا ينكسر قلبه إذا كان هو الذي رفعه
والسنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وقال علي رضي الله عنه لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والإقبال عليهما والنظر في خصومتهما وإن كان الخصمان ذميين سوى بينهما أيضا لاستوائهما في دينهما وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا جاز رفع المسلم عليه لما روى إبراهيم التيمي قال : [ وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي فقال درعي سقطت وقت كذا فقال اليهودي درعي وفي يدي بيني وبينك قاض المسلمين فارتفعا إلى شريح فلما رآه شريح قام من مجلسه وأجلسه في موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه فقال علي : ان خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تساووهم في المجالس ] ذكره أبو نعيم في الحلية ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه أما أن يضيفهما معا أو يدعهما
[ وقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل فقال له أنك خصم ؟ قال نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه ] ولأن ذلك يوهم الخصم ميل الحاكم إلى من اضافه ولا يلقن أحدهما حجته ولا ما فيه ضرر على خصمه مصل أن يريد أحدهما الإقرار فيلقنه الإنكار أو اليمين فيلقنه النكول أو المنكول فيجزئه على اليمين أو يحس من الشاهد بالتوقف فيجسره على الشهادة أو يكون مقدما على الشهادة فيوقفه عنها أو يقول لأحدهما وحده تكلم ونحو هذا مما فيه اضرار بخصمه لأن عليه العدل بينهما
فإن قيل : فقد [ لقن النبي صلى الله عليه و سلم السارق فقال : ما إخالك سرقت ] وقال عمر لزياد أرجو أن لا يفضح الله علي يديك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا لا يرد هذا الإلزام ههنا فإن هذا في حقوق الله وحدوده ولا خصم للمقر ولا للمشهود عليه فليس في تلقينه حيف على أحد الخصمين ولا ترك للعدل في أحد الجانبين والذي قلنا في المختلفين في حق من حقوق الآدميين ولا ينبغي أن يعنت الشاهد ولا يداخله في كلامه ويعنفه في الفاظه
فصل : وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة قدم الأول فالأول وينبغي أن يبعث من يكتب من جاء الأول فالأول فيقدمه قال ابن المنذر : الأحسن أن يتخذ خيطا ممدودا طرفه يلي مجلس الحاكم والطرف الآخر يلي مجلس الخصوم فكل من جاء كتب اسمه في رقعة وثقبها وادخلها في الخيط مما يلي مجلس الخصوم حتى يأتي على آخرهم فإذا جلس القاضي مد يده إلى الطرف الذي يليه فأخذ الرقعة التي تليه ثم التي بعدها كذلك حتى يأتي على آخرها فإن بقي منها شيء وزال الوقت الذي يقضي فيه عرف الطرف الذي يليه حين جلس فيتناول في المجلس الثاني الرقاع كفعله بالأمس والاعتبار بسبق المدعي لأن الحق له ومتى قدم رجلا لسبقه فحكم بينه وبين خصمه فقال لي دعوى أخرى لم يسمع منه لأنه قد قدمه بسبقه في خصومة فلا يقدمه بأخرى ويقول له اجلس حتى إذا لم يبق أحد من الحاضرين نظرت في دعواك الأخرى أن أمكن فإذا فرغ الكل فقال الأخير بعد فصل خصومته لي دعوى أخرى لم يسمع منه حتى يسمع دعوى الأول الثانية ثم يسمع دعواه وإن ادعى المدعى عليه على المدعي حكم بينهما لأننا إنما نعتبر الأول فالأول في الدعوى لا في المدعى عليه وإذا نقدم الثاني فادعى على المدعي الأول أو المدعى عليه الأول حكم بينهما وإن حضر اثنان أو جماعة دفعة واحدة أقرع بينهم فقدم من خرجت له القرعة لتساوي حقوقهم وإن كثر عددهم كتب أسماءهم في رقاع وتركها بين يديه ومد يده فأخذ رقعة رقعة واحدة بعد أخرى ويقدم صاحبها حسب ما يتفق
فصل : فإن حضر مسافرون ومقيمون فكان المسافرون قليلا بحيث لا يضر تقديمهم على المقيمين قدمهم لأنهم على جناح السفر ويشتغلون بما يصلح للرحيل وقد خفف الله عنهم الصوم وشطر الصلاة تخفيفا عنهم وفي تأخيرهم ضرر بهم فإن شاء أفرد لهم يوما يفرغ من حوائجهم فيه وإن شاء قدمهم من غير افراد يوم لهم فإن كانوا كثيرا بحيث يضر تقديمهم فهم والمقيمون سواء لأن تقديمهم مع القلة إنما كان لدفع الضرر والمختص بهم فإذا آل دفع الضرر عنهم إلى الضرر بغيرهم تساووا ولا خلاف في أكثر هذه الآداب وأنها ليست شرطا في صحة القضاء فلو قدم المسبوق أو قدم الحاضرين أو نحوه كان قضاؤه صحيحا
فصل : وإذا تقدم إليه خصمان فإن شاء قال من المدعي منكما ؟ لأنهما حضرا لذلك وإن شاء سكت ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما ؟ إن سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم لأن في افراده بذلك تفضيلا له وتركا للإنصاف
قال عمر بن قيس : شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم ؟ وإن ذهب الآخر يشغب غمزه حتى يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما فادعي فقال خصمه أنا المدعي لم يلتفت الحاكم إليه وقال أجب عن دعواه ثم ادع بعد ما شئت فإن ادعيا معا فقياس المذهب أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر أن يسمع منهما جميعا وقيل يرجىء أمرهما حتى يتبين المدعي منهما وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معا وإرجاء أمرهما اضرار بها وفيما ذكرنا دفع الضرر بحسب الإمكان وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى
فصل : ولا يسمع الحاكم الدعوى إلا محررة إلا في الوصية والإقرار لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه فإن اعترف به لزمه ولا يمكنه أن تلزمه مجهولة ويفارق الإقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وإنما صحت الدعوى في الوصية مجهولة لأنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشيء أو سهم صح فلا يمكنه أن يدعيها إلا مجهولة كما ثبت وكذلك الإقرارلما صح أن يقر بمجهول صح لخصمه أن يدعي عليه أنه أقر له بمجهول
إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا فلا بد من ذكر ثلاثة أشياء : الجنس والنوع والقدر فيقول عشرة دنانير بصرية وإن اختلفت بالصحاح والمكسرة قال صحاح أو قال مكسرة وإن كانت الدعوى في غير الأثمان وكانت عينا تنضبط بالصفات كالحبوب والثياب والحيوان واحتاج أن يذكر الصفات التي تشترط في السلم وإن ذكر القيمة كان آكد إلا أن الصفة تغني فيه كما تغني في العقد وإن كانت جواهر ونحوها ما لا ينضبط بالصفة فلا بد من ذكر قيمتها لأنها لا تنضبط إلا بها وإن كان المدعي تالفا وهو مما له مثل كالمكيل والموزون ادعى مثله وضبطه بصفته وإن كان مما لا مثل له كالنبات والحيوان ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه وإن كان التالف شيئا محلى بفضة أو بذهب قومه بغير جنس حليته وإن كان مخلى بذهب وفضة قومه بما شاء منهما لأنه موضع حاجة وإن كان المدعى عقارا فلا بد من بيان موضعه وحدوده فيدعي أن هذه الدار بحدودها وحقوقها لي وأنها في يده ظلما وأنا أطالبه بردها علي وإن ادعى عليه أن هذه الدار لي وأنه يمنعني منها صحت الدعوى وإن لم يقل أنها في يده لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده وإن ادعى جراحة لها ارش معلوم كالموضحة من الحر جاز أن يدعي الجراحة ولا يذكر أرشها لأنه معلوم وإن كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلا بد من ذكر أرشها وإن أدعى على أبيه دينا لم تسمع الدعوى حتى يدعي أن أباه مات وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج أن يذكر تركة أبيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء تحرير دينه وموت أبيه وأنه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه وإن قال ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعى عليه في نفي تركة الأب مع يمينه وإن أنكر موت أبيه فالقول قوله مع يمينه ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه ويكفيه أن يحلف أن ما وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء حقه ولا شيء منه ولا يلزمه أن يحلف أن أباه لم يخلف شيئا لأنه قد يخلف تركة فلا تصل إليه فلا يلزمه الإيفاء منه فإن لم يحسن المدعي تحرير الدعوى فهل للحاكم أن يلقنه تحريرها ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : يجوز لأنه لا ضرر على صاحبه في ذلك والثاني : لا يجوز لأن فيه إعانة أحد الخصمين في حكومته
فصل : إذا حرر المدعي دعواه فللحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك لأن شاهد الحال يدل عليه لأن احضاره والدعوى أنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله فيقول لخصمه ما تقول فيما يدعيه ؟ فإن أقر لزمه وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة المقر له لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة هكذا ذكر أصحابنا ويحتمل أن يجوز له الحكم عليه قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على إرادته ذلك فاكتفي بها كما اكتفى بها في مسألة المدعى عليه الجواب ولأن كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته وعلى القول الأول ان سأله الخصم فقال احكم لي حكم عليه والحكم أن يقول قد ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج له منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق ؟ وإن أنكر فقال لا حق لك قبلي فهذا موضع البينة قال الحاكم ألك بينة ؟ [ لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال لا قال : فلك يمينه ] وهو حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفا بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول ألك بينة ؟ وبين أن يسكت فإذا قال له ألك بينة ؟ وذكر أن له بينة حاضرة لم يقل له الحاكم أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى وإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يسأله ولا يتصرف فيه من غير من غير إذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكرها إن شاء ؟ ولا يقول لهما أشهدا لأنه أمر وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنها كما إن ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة وإن رأى الحاكم عليهما ما يوجب رد شهادتهما ردها كما روي عن شريح أنه شهد عنده شاهد وعليه قباء مخروط الكمين فقال له شريح أتحسن أن توضأ ؟ قال نعم قال فاحسر عن ذراعيك فذهب يحسر عنهما فلم يستطع فقال له شريح قم فلا شهادة لك وان أديا الشهادة على غير وجهها مثل أن يقولا بلغنا ان عليه ألفا أو سمعنا ذلك ردت شهادتهما وشهد رجل عند شريح فقال أشهد أنه أتكأ عليه بمرفقه حتى مات فقال شريح أتشهد أنه قتله ؟ قال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات قال أتشهد أنه قتله ؟ قال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات قال قم لا شهادة لك وإن كانت شهادة صحيحة وعرف الحاكم عدالتهم قال للمشهود عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهما فبينه عندي فإن سأل الأنظار أنظره اليومين والثلاثة فإن لم يجرح حكم عليه لأن الحق قد وضح على وجه لا إشكال فيه وإن ارتاب بشهادتهم فرقهم فسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتبت أو لم تكتب وفي أي مكان شهدت ؟ وفي أي شهر ؟ وأي يوم ؟ وهل كنت وحدك أو معك غيرك ؟ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا بحث عن عدالتهم ويقال أول من فعل هذا دانيال ويقال فعله سليمان وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا ففقد واحدمنهم فأتت زوجته عليا فدعا الستة فسألهم عنه فأنكروا ففرقهم وأقام كل واحد عند سارية ووكل به من يحفظه ودعا واحدا فسأله فأنكر فقال الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا عليك وأنا قاتلك فاعترف فقتلهم وإن لم يعرف عدالتهما بحث عنها فإن لم تثبت عدالتهما قال للمدعي زدني شهودا وإن لم تكن له بينة عرفه الحاكم أن لك يمينه وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها من غير مطالبة مستحقها كنفس الحق فإن استحلفه من غير مسألة أو بادر المنكر فحلف لم يعتد بيمينه لأنه أتى به في غير وقتها وإذا سألها المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعي عليه ثم أراد إحلافه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره وإن كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة جاز وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما جاز ثبوت الحق بينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة
قال القاضي : ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يمينا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في كل واحد منهما ناقصة والحجة الناقصة لا تكمل برضا الخصم كما لو رضى أن يحكم عليه بشاهد واحد والصحيح الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة أن يكون لكل واحد بعض اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة لا يكون لكل حق بعض البينة فأما أن حلفه لجميعهم يمينا واحدة بغير رضاهم لم تصح يمينه بلا خلاف نعلمه
وقد حكى الاصطخري ان اسماعيل بن إسحاق القاضي حلف رجلا بحق لرجلين يمينا واحدة فخطأه أهل عصره وإن قال المدعي لي بينة غائبة قال له الحاكم لك يمنيه فإن شئت فاستحلفه وإن شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] فإن أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فإذا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها وإن قال لي بينة حاضرة وأريد يمنيه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك وقال أبو يوسف يستحلفه وإن نكل قضى عليه لأن في الاستحلاف فائدة وهو أنه ربما نكل فقضى عليه فأغنى عن البينة
ولنا قول عليه السلام : [ شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] وأو للتخيير بين شيئين فلا يكون له الجمع بينهما ولأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها مع إرادة المدعي إقامتها وحضورها كما لو لم يطلب يمينه ولأن اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الإبدال مع مبدلاتها وإن قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها استحلف لأن البينة حقه فإذا رضي باسقاطها وترك إقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعي عليه ثم اراد المدعي اقامة بينته فهل يملك ذلك ؟ يحتمل وجهين أحدهما : له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف كما لو كانت غائبة والثاني : ليس له ذلك لأنه قد أسقط حقه من إقامتها ولأن تجويز إقامتها يفتح باب الحيلة لأنه يقول لا اريد إقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها فإن كان له شاهد واحد في الأموال عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن قال لا أحلف أنا وأرضى بيمينه استحلف له فإذا حلف سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها فقال أنا أحلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن عاد قبل أن يحلف المدعى عليه فبذل اليمين فقال القاضي ليس له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك ثلاثا فإن حلف وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك فإن سكت عن جواب الدعوى فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب بذلك ناكلا ذكره القاضي في المجرد
وقال أبو الخطاب : يقول له الحاكم أن أوجبت وإلا جعلتك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك عليه فإن أجاب وإلا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه ناكل عما توجه عليه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه كاليمين

مسألة كتابة القاضي إلى القاضي
مسألة : قال : وإذا حكم على رجل في عمل غيره فكتب بانفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق
ثم الأصل في كتاب القاضي إلى القاضي والأمير إلى الأمير الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب بقول الله تعالى : { إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين }
وأما السنة [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف وكان يكتب إلى ولاته ويكتب لعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرا عظيما فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ]
و [ روى الضحاك بن سفيان قال : كتب إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ان ورث امرأة اشيم الضبابي من دية زوجها ]
وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده ولا يمكنه اتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله وإذا ثبت هذا فإن كتاب القاضي يقبل في الأموال وما يقصد به المال ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا ؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أصحاب الشافعي يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى ؟ على قولين وتمام الكلام في هذا الفصل يذكر في الشهادة إن شاء الله تعالى والكتاب على ضربين :
احداهما : أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو يدعي جقا على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتابا يحمله إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب له اليه أو تقوم البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحق الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتابا بحكمه ففي هذه الصور الثلاث يلزم الحاكم اجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب إليه قبوله سواء كانت بينهما مسافة بعيدة أو قريبة حتى لو كانا في جانبي بلد أو مجلس لزمه قبوله وإمضاؤه سواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم في هذا خلافا لأن حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم
الضرب الثاني : أن يكتب بعلمه بشهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده فإنه يكتب له ايضا قال القاضي ويكون في كتابه : شهد عندي فلان وفلان بكذا وكذا ليكون المكتوب إليه هو الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لأن قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب إليه إلا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي
وقال أبو يوسف ومحمد يجوز أن يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز ذلك في الشهادة واحتج من أجازه بأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابه بحكمه
ولنا أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه فلم يجز مع القرب كالشهادة ويفارق كتابه بالحكم فإن ذلك ليس بنقل وإنما هو خبر وكل موضع يلزمه قبول الكتاب فإنه يأخذ المحكوم عليه بالحق الذي حكم عليه به فيبعث إليه فيستدعيه فإن اعترف بالحق أمره بادائه وألزمه إياه وإن قال لست المسمى في هذا الكتاب فالقول قوله مع يمينه إلا أن يقيم المدعي بينة أنه المسمى في الكتاب وإن اعترف أن هذا الإسم اسمه والنسب نسبه والصفة صفته إلا أن الحق ليس هو عليه إنما هو على آخر يشاركه في الإسم والنسب والصفة فالقول قول المعي في نفي ذلك لأن الظاهر عدم المشاركة في هذا كله فإن أقام المدعي عليه بينة بما ادعاه من وجود مشارك له في هذا كله أحضره الحاكم وسأله عن الحق فإن اعترف به ألزمه به وتخلص الأول وإن أنكره وفق الحكم وكتب إلى الحاكم يعلمه الحال وما وقع من الإشكال حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنده بما يتميز به المشهود عليه منهما
وإن ادعى المسمى أنه كان في البلد من يشاركه في الإسم والصفة وقد مات نظرنا فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه وإن كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الإشكال كما لو كان حيا لجواز أن يكون الحق على الذي مات

فصل كتابة الحاكم بثبوت البينة أو الإقرار بالدين
فصل : وإذا كتب الحاكم بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب إليه وأخذ المحكوم عليه به وإن كان ذلك عينا كعقار محدود وعين مشهودة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهور أو دابة كذلك حكم به المكتوب إليه أيضا وألزم تسليمه إلى المحكوم له به وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير مشهود أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل كتابة وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل أنه لا يصح أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به
والثاني : يجوز لأنه ثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فإنه لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولأن المشهود عليه يثبت بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به
فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبد أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وإن لم يشهدا على عينه أو قال المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فليزمه أجره أن كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل إلى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهرا بغير حق

فصل فيمن استوفى الحق من المحكوم عليه الخ
ومن استوفى الحق من المحكوم عليه فقال للحاكم عليه اكتب لي محضرا بما جرى لئلا يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني به مرة أخرى ففيه وجهان أحدهما : تلزمه إجابته ليخلص من المحذور الذي يخافه
والثاني : لا تلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فأما استئناف ابتداء فيكفيه فيه الأشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالشهادة والأول أصح لأنه قد حكم عليه بهذا الحق ويخاف الضرر بدون المحضر فأشبه ما حكم به ابتداء وإن طالب المحكوم له بدفع الكتاب الذي ثبت به الحق لم يلزمه دفعه إليه لأنه ملكه فلا يجب عليه دفعه إلى غيره وكذلك كل من له كتاب بدين فاستوفاه أو عقار فباعه لا يلزمه دفع الكتاب لأنه ملكه ولأنه يجوز أن يخرج ما قبضه مستحقا فيعود إلى ماله

فصل يقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر
فصل : ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وقاضي مصر ومن القاضي إلى خليفته ومن خليفته إليه لأنه كتاب من قاض إلى قاض فأشبه ما لو استويا ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من وصله كتابي من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله وبهذا قال أبو ثور واستحسنه أبو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزمه قبوله كما لو كان الكاتب إليه بعينه

فصل وصفة الكتاب
سبب هذا الكتاب أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم أنه ثبت عندي في مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائبا قال الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من خصمين مدع ومدعى عليه جاز استماع الدعوى منهما وقبول البينة من أحدهما على الآخر بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت شهادتهما بما رايت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فإن كان في إثبات أسر أسير قال وإن الفرنج خذلهم الله أسروه بمكان كذا في وقت كذا وأخذوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم ابادهم الله وأنه رجل فقير من فقراء المسلمين ليس له شيء من الدنيا ولا يقدر على فكاك نفسه ولا على شيء منه وأنه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار إليه المتصل أوله بآخر كتابي هذا المؤرخ بكذا
وإن كان في إثبات دين كتب وأنه استحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين كذا وكذا دينا عليه حالا وحقا واجبا لازما وأنه يستحق مطالبته واستيفاءه منه وإن كان في إثبات عين كتب وأنه مالك لما في يدي فلان من الشيء الفلاني ويصفه صفة يتميز بها مستحق لأخذه وتسليمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر كتابي هذا المؤرخ بتارخ كذا وقال الشاهدان المذكوران أنهما بما شهدا به عن عالمان وله محققان وأنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال منجازت مسألته وسألني من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة اجابته المكاتبة بذلك إلى القضاة والحكام فأجبته إلى ملتمسه لجوازه له شرعا وتقدمت بهذا الكتاب فكتب وبالصاق المحضر المشار إليه فألصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في انفاذه والعمل بموجب ما يوجبه الشرع المطهر أحرز من الأجر أجزله وكتب من مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط أن يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر اسم المكتوب إليه في باطنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لم يذكر اسمه فلا يقبل لأن الكتاب ليس إليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة
ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على القاضي الكاتب بالحكم وذلك لا يقدح فيها ولو ضاع الكتاب أو امتحى سمعت شهادتهما وحكم بها

مسألة لا يقبل كتاب القاضي إلا بشهادة عدلين
مسألة : قال : ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان قرأه علينا أو قرىء عليه بحضرتنا فقال اشهدا علي أنه كتابي إلى فلان
وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة أحدها : أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول أئمة الفتوى وحكي عن الحسن وسوار والعنبري أنهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور و الأصطخري ويتخرج لنا مثله بناء على قوله في الوصية إذا وجدت بخطه لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين
ولنا أن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود ولأن الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير علهي ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه
إذا ثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ إلا ثقة فإذا قرىء عليهما قال اشهدا علي أن هذا كتابي إلي فلان وإن قال اشهدا علي بما فيه كان أولى وإن اقتصر على قوله : هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزىء لأنه يحملهما الشهادة فاعتبر فيه أن يقول اشهدا علي كالشهادة على الشهادة
وقال القاضي يجزىء وهو مذهب الشافعي ثم أن كان ما في الكتاب قليلا اعتمد على حفظه وإن كثر فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بها ما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع إليهما غيره فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا كتاب فلان القاضي إليك أشهدنا على نفسه بما فيه لأنه قد يكون كتابه غير الذي أشهدهما عليه
قال أبو الخطاب ولا يقبل إلا أن يقولا نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء فلا بد فيها من لفظ الشهادة ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم مقبولا أو غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم فإن امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك وإن لم يحفظا ما فيه لم تمكنهما الشهادة
وقال أبو حنيفة و أبو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب كتابا إلى قيصر ولم يختمه فقيل له أنه لا يقرأ كتابا غير مختوم فاتخذ الخاتم واقتصاره على الكتاب دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله عليه و سلم ليقرؤوا كتابه ولأنهما شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه فوجب قبوله كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم
إذا ثبت هذا فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل كيف يحفظ هو كلام كثير ؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى ؟ قال نعم قيل له والحدود والثمن وأشباه ذلك ؟ قال نعم ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا كتابي اشهدا علي بما فيه أو قد اشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل وبه قال أبو حنيفة و الشافعي
وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا فإذا وصل الكتاب شهدا عنده أنه كتاب فلان ويتخرج لما مثل هذا لأنهما شهدا بما في الكتاب فجاز وأن لم يعلما تفصيله كما لو شهدا لرجل بما في هذا الكيس من الدراهم جازت الشهادة وإن لم يعرفا قدرها
ولنا أنهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهد أن لفلان على فلان مالا وفارق ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها وههنا الشهادة على ما في الكتاب دون الكتاب وهما لا يعرفانه
الشرط الثاني : أن يكتبه القاضي من موضع ولايته وحكمه فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي
الشرط الثالث : أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته ولو ترافع إليه خصمان في غير موضع ولايته لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته إلا أن يتراضيا به فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا ولو ترافع إليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الأمر على ما اذن فيه ومنع منه لأن الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها

فصل في تغير حال القاضي
ولا يخلو من أن يتغير حال الكاتب أو المكتوب إليه أو حالهما معا فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من يده أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به في الحالين
وقال أبو يوسف إن مات قبل خروجه من يده لم يعمل به وإن مات بعد خروجه من يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبل أداء شهادتهما
ولنا أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهد الأصل وما ذكروه حجة عليهم لأن الحاكم قد أشهدا على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب إليه شاهدان عليه وهما حيان وهما شاهدا الفرع وليس موته مانعا من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل
وإن تغيرت حاله بفسق قبل الحكم بكتابته لم يجز الحكم به لأن حكمه بعد فسقه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في صحة الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل فإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشيء ثم بان فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا
وأما أن تغيرت حال المكتوب إليه بأي كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل إليه الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى اياس بن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي الحسن فعمل به
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة شهادة على الشهادة عند المكتوب إليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره
ولنا أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده وقد شهدا عند الثاني فوجب أن يقبل كالأول وقولهم أنه شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس بفرع ولو كان فرعا لم يقبل وحده وإنما الفرع الشاهدان اللذان شهدا عليه وقد أديا الشهادة عند المتجدد ولو ضاع الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب إليه قبل فدل بذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب وقياس ما ذكرناه أن الشاهدين لو حملا الكتاب إلى غير المكتوب إليه في حال حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه وإن كان المكتوب إليه خليفة للكاتب فمات الكاتب أو عزل انعزل المكتوب إليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل خليفته كما لا ينعزل القاضي الأصلي بموت الإمام ولا عزله
ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام لأن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره كما لو مات الولي في النكاح لم يبطل النكاح ولهذا ليس للإمام أن يعزل القاضي من غير تغير حاله ولا ينعزل إذا عزله بخلاف نائب الحاكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائبا عنه فملك عزله ولأن القاضي لو انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى عزل القضاة في جميع بلاد المسلمين وتتعطل الأحكام وإذا ثبت أنه لا ينعزل فليس له قبول الكتاب لأنه حينئذ ليس بقاض

مسألة حكم ما لو تحاكم إلى القاضي أعجميان
مسألة : قال : ولا تقبل الترجمة عن أعجمي تحاكم إليه إذا لم يعرف لسانه إلا من عدلين يعرفان لسانه وجملته أنه إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان لا يعرف لسانهما أو أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما ولا تقبل الترجمة إلا من اثنين عدلين
وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى انها تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز و ابن المنذر وقول ابي حنيفة وقال ابن المنذر من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتعلم كتاب يهود قال : فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنه مما لا يفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيه الواحد كأخبار الديانات
ولنا أنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين فوجب فيه العدد كالشهادة ويفارق أخبار الديانات فإنها لا تتعلق بالمختاصمين ولا نسلم أنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كعدمه فإذ ترجم له كان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيه الحرية ولم يكف إلا شاهدان ذكران وإن كان مما لا يتعلق بها كفى فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة فيه وجهان :
أحدهما : لا يكفي فيه اقل من أربعة رجال احرار عدول والثاني : يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الإقرار به ويعتبر فيه لفظ الشهادة لأنه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا تقبل من كافر ولا فاسق وتقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة والرواية وقال أبو حنيفة لا تقبل من العبد لأنه ليس من أهل الشهادة
ولنا أنه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كاخبار الديانات ولا نسلم إن هذا شهادة ولا أن العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي أن تقبل ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة

فصل الحكم في التعريف والرسالة والجرح والتعديل كالحكم في الترجمة
فصل : والحكم في التعريف والرسالة والجرح والتعديل كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف من فيها ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وقد ذكرنا الجرح والتعديل فيما مضى

مسألة وفصلان فيما لو قال كنت حكمت في ولايتي لفلان الخ
مسألة : قال : وإذا عزل فقال كنت حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق قبل قوله وأمضى ذلك الحق
وبهذا قال إسحاق قال أبو الخطاب ويحتمل أن لا يقبل قوله وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله ههنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الإقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه ثم اختلفوا فقال الأوزاعي و ابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه يشهدان بذلك وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن شهادته على فعل نفسه لا تقبل
ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه بعد عزل كاتبه فكذلك ههنا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته
فصل : فأما إن قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر عندي فلان لفلان بحق فحكمت به وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو يوسف وحكي عن محمد بن الحسن أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل لأن فيه إخبارا بحق على غيره فلم يقبل قول واحد كالشهادة
ولنا أنه يملك الحكم فملك الإقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فإن الشاهد لا يملك إثبات ما أخبر به فأما إن قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهد يمين في الأموال فإنه يقبل أيضا وقال الشافعي لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لأنه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الإقرار به
ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت ولأنه حاكم أخبر بحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولأن الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادلة ولا نسلم ما ذكره وإن قال حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر مسألة الخرقي فإنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما أجمع عليه
فصل : وإذا أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته فظاهر كلام الخرقي إن قوله مقبول وخبره نافذ لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلأن يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما الآخر بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه وإن كانا جميعا في عمل احدهما كأنهما اجتمعا جميعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما أخبره به قاضي مصر لأنه يخبره به غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبر به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر ؟ فيه وجهان : بناء على القاضي هل له أن يقضي بعلمه ؟ على روايتين لأن قاضي دمشق أخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا

فصول فيما إذا ولى الإمام قاضيا
فصل : إذا ولى الإمام قاضيا ثم مات لم ينعزل لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولوا حكاما في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولأن في عزله بموت الإمام ضررا على المسلمين فإن البلدان تتعطل من الحاكم وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام الثاني حاكما وفيه ضرر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الإمام لما ذكرنا فأما إن عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان :
أحدهما : لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لأنه عقده لمصلحه المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد النكاح على موليته لم يكن له فسخه
والثاني : له عزله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأعزلن أبا مريم وأولين رجلا إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة وولى كعب بن سوار مكانه وولى علي رضي الله عنه أبا الأسود ثم عزل فقال لم عزلتني وما خنت ولا جنيت ؟ فقال إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين ولأنه يملك عزل أمرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته
وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل فعزل شرحبيل بن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية فقال له شرحبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة ؟ قال من كل لا ولكن أردت رجلا أقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة الحكم مع الإمارة فولى أبا موسى البصرة قضاءها وأمرتها ثم كان يعزلهم هو ومن لم يعزله عزله عثمان بعده إلا القليل منهم فعزل القاضي أولى ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لأن فيه ضررا وههنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضيا حتى آخر مكانه ولهذا لا ينعزل الوالي بموت الإمام وينعزل بعزله وقد ذكر أبو الخطاب في عزله بالموت أيضا وجهين والأول إن شاء الله تعالى ما ذكرناه
فأما إن تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو اختل فيه بعض شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجها واحدا
فصل : وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى عليا ومعاذا وقال عثمان بن عفان لابن عمر : إن أباك قد كان يقضي وهو خير منك قال إن أبي قد كان يقضي وإن أشكل عليه شيء سأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الحديث رواه عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة
[ وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي : يا عمرو اقض بينهما قلت أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال : إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة ] وعن عقبة بن عامر مثله ولأن الإمام يشتغل بأشياء كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرغ للقضاء بينهم فإذا ولى قاضيا استحب أن يجعل له أن يستحلف لأنه قد يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه وإن نهاه عنه لم يكن له أن يستخلف لأن ولايته بإذنه فلم يكن له ما نهاه عنه كالوكيل وإن أطلق فله الاستخلاف ويحتمل أن لا يكون له ذلك لأنه يتصرف بالإذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان
ووجه الأول أن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين فإذا فعله بنفسه أو بغيره جاز كما لو أذن له ويفارق التوكيل لأن الإمام بولي القضاء للمسلمين لا لنفسه بخلاف التوكيل فإن استخلف في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول
فصل ويجوز أن يولي قاضيا عموم النظر في خصوص العمل فيقلده النظر في جميع الأحكام في بلد بعينه فينفذ حكمه فيمن سكنه ومن أتى إليه من غير سكانه ويجوز أن يقلده خصوص النظر في عموم العمل فيقول جعلت اليك حكم في المداينات خاصة في جميع ولايتي ويجوز أن يجعل حكمه في قدر من المال نحو أن يقول احكم في المائة فما دونها فلا ينفذ حكمه في أكثر منها ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل وخصوص النظر في خصوص العمل
ويجوز أن يولي قاضين وثلاثة في بلد واحد يجعل لكل واحد عملا فيولي أحدهم عقود الأنكحة والآخر الحكم في المداينات وآخر النظر في العقار ويجوز أن يولي كل واحد منهم عموم النظر في ناحية من نواحي البلد فإن قلد قاضيين أو أثر عملا واحدا في مكان ففيه وجهان أحدهما : لا يجوز اختاره أبو الخطاب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يؤدي إلى إيقاف الحكم والخصومات لأنهما يختلفان في الإجتهاد ويرى أحدهما ما لا يرى الآخر والآخر : يجوز ذلك وهو قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يجوز أن يستخلف في البلدة التي هو فيها فيكون فيها قاضيان فجاز أن يكون فيها قاضيان أصليان ولأن الغرض فصل الخصومات وإيصال الحق إلى مستحقه وهذا يحصل فأشبه القاضي ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف خليفتين في موضع واحد فالإمام أولى توليته أقوى
وقولهم : يفضي إلى إيقاف الحكومات غير صحيح فإن كل حاكم يحكم بإجتهاده بين المتخاصمين إليه وليس للآخر الإعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده
فصل : وإذا قال الإمام من نظر في الحكم من فلان وفلان فقد وليته لم تنعقد الولاية لمن نظر لأنه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحدا منهم [ ويحتمل أن تنعقد الولاية لمن نظر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أميركم زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة ] فعلق ولاية الإمارة على شرط فكذلك ولايو الحكم وإن قال وليت فلانا وفلانا فأيهما نظر فهو خليفتي انعقدت الولاية لمن نظر منهم لأنه عقد الولاية لهما جميعا
فصل : ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافا لأن الله تعالى قال : { فاحكم بين الناس بالحق } والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع
فصل : وإن فوض الإمام إلى إنسان تولية القضاء جاز لأنه يجوز أن يتولى ذلك فجاز له التوكيل فيه كالبيع وإن فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده كما لو وكله في الصدقة بمال لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل أنه يجوز له اختيارهما إذا كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم من أذن له في الاختيار منه مع أهليتهما فأشبها الأجانب

فصل لا يجوز للحاكم أن يحكم لنفسه
وليس للحاكم أن يحكم لنفسه كما لا يجوز أن يشهد لنفسه فإن عرضت له حكومة مع بعض الناس جاز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلا عراقيا إلى شريح وحاكم علي اليهودي إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم فإن عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل شهادته له ففيه وجهان أحدهما : لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وإن حكم لم ينفذ حكمه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه لا تقبل شهادته له فلم ينفذ حكمه له كنفسه والثاني : ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف و ابن المنذر و أبي ثور لأنه حكم لغيره أشبه الأجانب وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الإمام أو حاكم آخر أو بعض خلفائه فإن كانت الخصومة بين والديه أو ولديه أو والده وولده لم يجز له الحكم بينهما على أحد الوجهين لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الآخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه أجنبيا وفي الآخر يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فاشبها الأجنبيين

فصلان حكم ما لو حكم رجلان حكما بينهم ورضياه
فصل : وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة ولـ لشافعي قولان أحدهما : لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه
[ ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : أن الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم ؟ قال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ورضي علي الفريقان قال : ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك ؟ قال شريح قال : فأنت أبو شريح ] أخرجه النسائي
وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون ] ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم ولأن عمر وأبيا تحاكما إلى زيد وحاكم عمر إعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة
فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا قلنا لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يصير قاضيا وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه كالعقد الموقوف في حقه
ولنا أن هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية وما ذكروه غير صحيح فإن حكمه لازم للخصمين فيكف يكون موقوفا ؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وإن لم يخالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان أحدهما : له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع والثاني : ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فبطل المقصود به
فصل : قال القاضي : وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء : النكاح واللعان والقذف والقصاص لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا كتب هذا القاضي بماحكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه لأنه حاكم نافذ الأحكام فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام

مسألة وفصول الحكم على الغائب
مسألة : قال : ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه
وجملته أن من ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشرائط وبهذا قال شبرمة و مالك و الأوزاعي و الليث و سوار و أبو عبيد و ابن المنذر فكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى و الثوري و أبو حنيفة وأصحابه
وروي ذلك عن القاسم و الشعبي إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعلي : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه
ولنا [ أن هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ؟ قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه فقضى لها ولم يكن حاضرا ولأن هذا له بينة مسموعة عادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرا وقد وافقنا أبو حنيفة في سماع البينة ولأن ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كان حاضرا يقدم عليه إذا كان غائبا كسماع البينة
وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه وقد ناقض أبو حنيفة أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجا غائبا وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة ولو ادعى رجل على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم له بالبيع والأخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب وأقام المدعى بينة بذلك حكم له بما ادعاه
إذا ثبت هذا فإنه إن قدم الغائب قبل الحكم وقف الحكم على حضوره فإن خرج الشهود لم يحكم عليه وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثا فإن جرحهم وإلا حكم عليه وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له بينة برىء وإلا حلف المدعي وحكم له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة بطل الحكم وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لأنه يجوز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه وإن طلب التأجيل أجل ثلاثا فإن جرحهم وإلا نفذ الحكم وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له به بينة وإلا حلف الآخر ونفذ الحكم
فصل : لا يقضي على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها عليه لأن مبناها على المساهلة والإسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع
فصل : وإذا قامت البينة على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع بينته في أشهر الروايتين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولأنها بينة عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضر
والرواية الثانية : يستحلف معها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة ولو كان حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولأن الحاكم مأمور بالإحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل واحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الإحتياط
فصل : ظاهر كلام الخرقي أنه إذا قضى على الغائب بعين سلمت إلى المدعي وإن قضى عليه بدين ووجد له مال وفي منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له سهما من ضيعة في أيدي قوم فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا أو يدفع إلى هذا حقه لأنه يثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضرا ويحتمل أن لا يدفع إليه شيء حتى يقيم كفيلا أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والإبراء او يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي وغيبته أو موته فيضيع مال المدعى عليه وظاهر كلام أحمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة أنها له تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجيء صاحب الوديعة فيثبت
فصل : فأما الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمنع من الحضور فلا يقضى عليه قبل حضوره في قول أكثر أهل العلم وقال أصحاب الشافعي في وجه لهم أنه يقضى عليه في غيبته لأنه غائب عن البلد
ولنا أنه أمكن سؤاله فلم يجز الحكم عليه قبل سؤاله كحاضر مجلس الحاكم ويفارق الغائب البعيد فإنه لا يمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة أنه غلامه فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا رجل فقال أحمد أهل المدينة يقضون على الغائب يقولون إنه لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الأعذار وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثا فإن جاء وإلا قد أعذروا إليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو معنى حسن
وقد ذكر الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب أنه يقضى على الغائب الممتنع وهو قول الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد بل هذا أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا من هذا

مسألة وفصلان القسمة وقسمة المكيلات والموزونات وغيرها
كتاب القسمة : الأصل في القسمة قول الله تعالى : { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر } وقوله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى } الآية وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الشفعة فيما لم يقسم ] فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وقسم النيي صلى الله عليه و سلم خيبر على ثمانية عشر سهما وكان يقسم الغنائم
وأجمعت الأمة على جواز القسمة ولأن بالناس حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي
مسألة : قال : وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه وأثبت في القضية بذلك أن قسمه إياه بينهما كان عن إقرارهما لا عن بينة شهدت لهما بملكهما
إذا ثبت هذا فإن الشريكين في أي شيء كان ربعا أو غيره والربع هو العقار من الدور ونحوها إذا طلبا من الحاكم أن يقسمه بينهما أجابهما إليه وإن لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو يوسف و محمد
وقال أبو حنيفة إن كان عقارا نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطا للميت وأما ما عدا العقار يقسمه وإن كان ميراثا لأنه يبور ويهلك وقسمته تحفظه وكذا العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر الشافعي أنه لا يقسم عقارا كان أو غيره ما لم يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو رفع بعد ذلك إلى حاكم آخر يستسهله أن يجعله حكما لهم ولعله يكون لغيرهم ولنا أن اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم التصرف ويجوز شراؤه منهم وانتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا ثبت في القضية إني قسمته بينهم بإقرارهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكروه أبو حنيفة لا يصح لأن الظاهر ملكهم ولا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا به غير القعار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث
فصل : وتجوز قسمة المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها لأن جواز قسمة الأرض مع اختلافها يدل على جواز قسمة ما لا يختلف بطريق التنبيه وسواءفي ذلك الحبوب والثمار والنورة والأشنان والحديد والرصاص ونحوها من الجامدات والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس والزيت والرب ونحوها من المائعات وسواء قلنا إن القسمة بيع أو إفراز حق لأن بيعه جائز وافرازه جائز فان كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فطلب أحدهما قسمها كل نوع على حدته أجبر الممتنع وان طلب قسمها أعيانا بالقيمة لم يجبر الممتنع لان هذا بيع نوع بنوع آخر فليس بقسمة فلم يجبر عليه كغير الشريك فان تراضيا عليه جاز وكان بيعا يعتبر فيه التقابض قبل التفرق فيما يعتبر التقابض فيه وسائر شروط البيع
فصل : فان كان بينهما ثياب أو حيوان أو أواني أو خشب أو عمد أو أحجار فاتفقا على قسمتها جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم خيبر وهي تشتمل على أجناس من المال وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو على قسمتها أعيانا بالقيمة وان طلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته وطلب الآخر قسمته أعيانا بالقيمة قدم قول من طلب قسمة كل نوع على حدته إذا أمكن وان طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وكان مما لا يمكن قسمته الا بأخذ عوض عنه من غير جنسه أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر اناء أو ورد عوض لم يجبر الممتنع وان أمكن قسمة كل نوع على حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر الممتنع وهو ظاهر مذهب الشافعي وهو قول أبي الخطاب : لا أعرف في هذا عن امامنا رواية ويحتمل ان لا يجبر الممتنع وهو قول ابن خير ان من أصحاب الشافعي لأن هذا انما يقسم أعيانا بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا يجبر على قسمة الدور بأن يأخذ هذا دارا وكالجنسين المختلفين
ووجه الأول أن الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس الواحد في القيمة بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فان أرض القرية تختلف سيما اذا كانت ذات أشجار مختلفة وأراض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة وضيقة وحديثة وقديمة ثم هذا الاختلاف لم يمنع الاجبار على القسمة كذلك الجنس الواحد وفارق الدور فانه أمكن قسمة كل دار على حدتها وههنا لا يمكن قسمة كل ثوب منها أو اناء على حدته وان كانت الثياب أنواعا كالحرير والقطن والكتان فهي كالأجناس وكذلك سائر الأموال ويقسم النوع الواحد منه وبه قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسمة اجبار لأنه تختلف منافعه ويقصد منه العقل والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل
ولنا ان النبي صلى الله عليه و سلم جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء ولأنه نوع حيوان يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكره غير صحيح لأن القيمة ذلك تجمع ذلك وتعد له كسائر الأشياء المختلفة

فصل معنى القسمة
فصل : والقسمة افراز حق وتمييز أحد النصيبين من الآخر وليست بيعا وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر هي بيع وحكي عن أبي عبد الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع
ولنا أنها لا تفتقر الى لفظ التمليك ولا تجب فيها الشفعة ويدخلها الاجبار وتلزم باخراج القرعة ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شيئ من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها فلم تكن بيعا كسائر العقود وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعا جازت قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في البيع ولا يحنث إذا حلف لا يبيع بها وإذا كان العقار أو نصفه وقفا جازت القسمة وان قلنا : هي بيع انعكست هذه الأحكام هذا إذا خلت من الرد فان كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبذل المال عوضا عما حصل له من مال شريكه وهذا هو البيع فان فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه غير جائز وان كان بعضه وقفا وبعضه طلقا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف فان كان من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وذلك جائز

فصل تقبل شهادة القاسم إذا كان متبرعا
وتقبل شهادة القاسم بالقسمة إذا كان متبرعا ولا تقبل إذا كان باجرة وبهذا قال الاصطخري وقال أبو حنيفة تقبل وإن كان باجرة لأنه لا يلحقه تهمة فقبل قوله كالمرضعة وقال الشافعي لا تقبل لأنه شهد على فعل نفسه الذي يوجب تعديله فلم تقبل كشهادة القاضي المعزول على حكمه
ولنا أنه شهد بما لا نفع له فيه فقبل كالأجنبي وإذا كان باجرة لم يقبل لأنه متهم لكونه يوجب الأجرة لنفسه وهذا نفع فتكون شهادته لنفسه وقول الشافعي انه يوجب تعديله ممنوع ولا نسلم لهم ما ذكروه في الحكم

مسألة حكم ما لو سأل شريكه القسمة فامتنع وأمور مختلفة
مسألة : قال : ولو سأل احدهما شريكه مقاسمته فامتنع أجبره الحاكم على ذلك اذا اثبت عنده ملكها وكان مثله ينقسم وينتفعان به مقسوما
أما إذا طلب أحدهما القسمة فامتنع الآخر لم يخل من حالين أحدهما يجبر الممتنع على القسمة وذلك إذا اجتمع ثلاثة شروط :
أحدها : ان يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة لأن في الاجبار على القسمة حكما على الممتنع منهما فلا يثبت إلا بما يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضا فانه لا يحكم على أحدهما انما يقسم بقولهما ورضاهما
الشرط الثاني : أن لا يكون فيها ضرر فان كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا ضرر ولا ضرار ] رواه ابن ماجة ورواه مالك في موطئه مرسلا [ وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار ]
لشرط الثالث : ان يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها فان لم يمكن ذلك لم يجبر الممتنع لأنها تصير بيعا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين ومثال ذلك أرض قيمتها مائة فيها شجرة أو بئر تساوي مائتين فاذا جعلت الآرض سهما كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسين يردها عليه من لم يخرج له البئر أو الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع ألا ترى أن آخذ الأرض قد باع نصيبه من الشجرة أو البئر بالثمن الذي أخذه والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ؟ فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع منعما على القسمة لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره ويتمكن من احداث الغراس والبناء والزرع والساقية والاجارة والعارية ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك فوجب أن يجبر الآخر عليه لقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ]
إذا ثبت هذا فقد اختلفوا في الضرر المانع من القسمة ففي قول الخرقي وهو ما لا يمكن معه انتفاع أحدهما بنصيبه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضعا لا ينتفع به ولو أمكن أن ينتفع به في شيئ غير الدار ولا يمكن أن ينتفع به دارا لم يجبر على القسمة أيضا لأنه ضرر يجري مجرى الاتلاف
وعن أحمد رواية أخرى أن المانع هو أن ننقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة سواء انتفعوا به مقسوما أو لم ينتفعوا
وقال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية الميموني إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم فان كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطوا الثمن فاعتبر نقصان الثمن وهذا ظاهر كلام الشافعي لأن نقص قيمته ضرر والضرر منفي شرعا وقال مالك يجبر الممتنع وإن استضر قياسا على مالا ضرر فيه ولا يصح لقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأن في قسمته ضررا فلم يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولأن في قسمته اضاعة للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن اضاعته ولا يصح القياس على مالا ضرر فيه لما بينهما من الفرق فان كان أحد الشريكين يستضر بالقسمة دون الآخر كرجلين بينهما دار لأحدهما ثلثها وللآخر ثلثا ها فاذا قسماها يستضر صاحب الثلث لكونه لا تحصل له ما يكون دارا ولا يستضر الآخر لأنه يبقى له ما يصير دارا مفردة فطلب صاحب الثلثين القسمة لم يجبر الآخر عليها ذكره ابو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل قال : كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها وهذا قول ابن أبي ليلى و أبي ثور
وقال القاضي يجبر الآخر عليها وهو قول الشافعي وأهل العراق لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتمييزه فوجبت إجابته إليه كما لو كانا لا يستضران بالقسمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأنها قسمة يستضر بها صاحبه فلم يجبر عليها كما لو استضرا معا ولأن فيه إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعته وإذا حرم عليه إضاعته ماله فإضاعتة مال غيره أولى
وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تعصبة على أهل الميراث إلا ما حصل القسم ] قال أبو عبيدة هو أن يخلف شيئا إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم أو عليهم جميعا ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة وإن الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب لأنه مرضي به من جهته فلا يجوز كونه مانعا كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر أحدهما فتعين الضرر المانع من جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه فمنع القسمة كما لو استضرا معا وإن طلب القسمة المستضر بها كصاحب الثلث في المسألة المفروضة أجبر الآخر عليها هذا مذهب أبي حنيفة و مالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه فأجبر عليه كما لا ضرر فيه
يحققه أن ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والآخر لا ضرر عليه فصار كما لا ضرر فيه وذكر أصحابنا أن المذهب أنه لا يجبر الممتنع على القسم لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعة المال ولأن طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب إجابته إلى السفه قال الشريف متى كان أحدهما يستضر لم تجب القسمة وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها وجبت
وقال الشافعي ان انتفع بها الطالب وجبت وإن استضربها الطالب فعلى وجهين وقال مالك تجب على كل حال ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها فإذا قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب النصف القسمة وجبت إجابته لأنه يمكن قسمتها نصفين فيصير حقهما لهما دارا وله النصف فلا يستضر أحد منهما ويحتمل أن لا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد منهما يستضر بإفراز نصيبه وإن طلبا المقاسمة فامتنع صاحب النصف أجبر لأنه لا ضرر على واحد منهم وإن طلبا إفراز نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما إفراز نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالمطالب وسفه وعلى الوجه الذي ذكرناه تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه
الحال الثاني : الذي لا يجبر أحدهما على القسمة وهي ما إذا عدم أحد الشروط الثلاثة فلا تجوز القسمة إلا برضاهما وتسمى قسمة التراضي وهي جائزة مع اختلال الشروط كلها لأنها بمنزلة البيع والمناقلة وبيع ذلك جائز

فصلان فيما إذا كانت دار بين اثنين
فصل : إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فإذا طلبا قسمها نظرت فإن طلب أحدهما قسمة السفل والعلو بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس فيتبعها في البيع والشفعة ثم لو طلب قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء وإن طلب أحدهما جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان :
أحدها : أن العلو يتبع للسفل ولهذا إذا بيعا تثبت الشفعة فيهما وإذا أفرد العلو بالبيع لم تثبت فيه الشفعة وإذا كان تبعا له لم يجعل المتبوع والتبع سهما فيصير التبع أصلا
الثاني : إن السفل والعلو يجريان مجرى الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما يسكن منفردا ولو كان بينهما دار إن لم يكن لأحدهما المطالبة بجعل كل دار نصيبا كذا ههنا
الثالث : أن صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل السفل نصيبا انفرد صاحبه بالهواء وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يقسمه الحاكم يجعل ذراعا من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف ذراع وقال محمد يقسمها بالقيمة واحتجوا بأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما يراه جاز كالتي لا علو لها
ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه يرد بعضا وإن طلب أحدهما قسمة العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز وإن طلب قسمة السفل منفردا أو العلو منفردا لم يجب إليه لأنه قد يحصل لك واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل واحد منهما ولا يتميز الحقان
فصل : وإذا كان بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وإن كثرت المساكن وإن كان بينهما داران أو خانان أو أكثر فطلب أحدهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين أو أحد الخانين ويجعل الباقي نصيبا لم يجبر الممتنع وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء تقاربتا أو تفرقتا لأنه انفع وأعدل
وقال مالك إن كانتا متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن المتجاورتين تتقارب منفعتهما بخلاف المتباعدتين وقال أبو حنيفة إن كانت احداهما أحجزة الأخرى أجبر الممتنع وإلا فلا لأنهما يجريان مجرى الدار الواحدة
ولنا أنه نقل حقه من عين إلى عين أخرى فلم يجبر عليه كالمتفرقين على ملك وكما لو لم تكن حجة بها مع أبي حنيفة وكما لو كانتا دارا ودكانا مع أبي يوسف ومحمد والحكم في الدكاكين كالحكم في الدور كما لو كانت لها عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم يجبر الممتنع من قسمها عليها

فصلان لو كانت بينهما أرض
فصل : فإن كانت بينهما أرض واحدة يمكن قسمتها ويتحقق فيها الشروط التي ذكرناها أجبر الممتنع على قسمها سواء كانت فارغة أو ذات شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء فطلب أحدهما قسمة كل عين على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب تقسم كل عين على حدتها وكذلك كل مقسوم إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو هذا قال أصحاب الشافعي فإنهم قالوا إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فإذا قسمناها صار لكل واحد من الجيد والرديء مثل ما للآخر وجبت القسمة وأجبر الممتنع عليها وإن لم تمكن القسمة هكذا بأن تكون العمارة أو الشجر والجيد لا تمكن قسمته وحده وأمكن التعديل بالقيمة عدلت بالقيمة وأجبر الممتنع من القسمة عليها
وقال الشافعي في أحد القولين : لا يجبر الممتنع من القسمة عليها وقالوا إذا كانت الأرض ثلاثين جريبا قيمة عشرة أجربة منها كقيمة عشرين لم يجبر الممتنع من القسمة عليها لتعذر التساوي في الذراع ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر الممتنع من القسمة إذا لم تمكن إلا بأن يجعل كل واحد منهما سهما كذا ههنا
ولنا أنه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير رد عوض ولا ضرر فوجبت قسمته كالدور ولأن ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور فإنه لا يمكن تساوي الشجر وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه لو بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك البائع فوجبت قسمته كما لو أمكنت التسوية بالزرع
وأما إذا كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو دكانان متجاوران أو متباعدان فطلب أحد الشريكين قسمته بجعل كل واحد بينهما لم يجبر الآخر على هذا سواء كانا متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنهما شيئان متميزان لو بيع أحدهما لم تجب الشفعة فيه لمالك الآخر بخلاف البستان الواحد والأرض الواحدة وإن عظمت فإنه إذا بيع بعضها وجبت الشفعة لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لإزالة ضرر الشركة ونقصان التصرف فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك ما لا شفعة فيه لا تجب قسمته وعكس هذا ما تجب قسمته تجب فيه الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بد الصلاح في بعض البستان كان صلاحا لباقيه وإن كان كبيرا ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيرا
فصل : وإذا كان في الأرض رزع فطلب أحدهما قسمتها دون الزرع أجبر الممتنع لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة كالقماش وسواء خرج الزرع أو كان بذرا لم يخرج فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مشتركا كما لو باعا الأرض لغيرهما وإن طلب أحدهما قسمة الزرع منفردا لم يجبر الآخر عليه لأن القسمة لا بد فيها من تعديل المقسوم وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه يشترط بقاؤه في الأرض المشتركة وإن طلب قسمتها مع الزرع وكان قد خرج جاز وأجبر الممتنع عليه سواء كان قصيلا أو اشتد الحب فيه لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة إفراز حق وليست بيعا وإن قلنا هي بيع لم يجبر إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع السنبل بعضه ببعض ويحتمل الجواز لأن السنابل ههنا دخلت تبعا للأرض فليست المقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها وقال الشافعي لا يجبر الممتنع من قسمتها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معه كالقماش فيها
ولنا أنه نابت فيها للنماء والنفع فأشبه الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر عليه في نقله وإن كان الزرع بذرا في الأرض فقال أصحابنا لا تجوز قسمته لجهالته وكونه لا يمكن إفرازه وهذا مذهب الشافعي ويحتمل الجواز لأنه يدخل تبعا للأرض فلا تصر جهالته كأساسات الحيطان وكذلك لو اشترى أرضا فيها رزع فاشترطوا ملكه بالشرط وإن كان بذرا مجهولا
فصل : إذا كانت بينهما أرض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفي الآخر شجرة قيمتها مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيبا والشجرة مع النصف الآخر نصيبا فإن كانت بين ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض فإن كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها إذا كانت أقل لم يمكن التعديل إلا بقسمة البئر والشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وإن كانت قيمتها مائة فجعلناها سهما والبئر سهما والشجرة سهما لم يحصل مع البئر والشجرة وشيء من الأرض فيصير هذا كقسمة الشجر وحده وقسمة ذلك وحده ليست قسمة إجبار وإن كانت الأرض كبيرة القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء سهامهم منها ويبقى منها شيء مع البئر والشجرة وجبت القسمة ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين وخمسين فيجعلها مائة وخمسين سهما ويضم إلى البئر ما قيمته خمسون وإلى الشجرة مثل ذلك فتصير ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء الأرض فتجب القسمة حينئذ وكذلك لو كانوا أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا تجعل ثلاثمائة منها سهمين ومائة مع البئر والشجرة سهمين فتعدلت السهام ولو كانت الأرض لاثنين فأراد قسمة البئر والشجرة دون الأرض لم تكن قسمة إجبار وهكذا الأرض ذات الشجر إذا اقتسما الشجر دون الأرض لم تكن قسمة إجبار ولو اقتسماها بشجرها كانت قسمة إجبار لأن الشجر يدخل تبعا للأرض فيصير الجميع كالشيء الواحد ولهذا تجب فيه الشفعة إذا بيع شيء من الأرض بشجرة وإذا قسم ذلك دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع لشيء واحد فيصير كأعيان مفردة من الدور والدكاكين المتفرقة ولهذا لا تجب فيه الشفعة إذا بيع مفردا وكل قسمة غير واجبة إذا تراضيا بها فهي بيع حكمها حكم البيع

مسألة وفصل في طرح السهام إذا قسم وشروط القاسم
مسألة : قال : وإذا قسم طرحت السهام فيصير لكل واحد ما وقع سهمه عليه إلا ان يتراضيا فيكون لكل واحد ما رضي به
وجملته أن القسمة على ضربين قسمة إجبار وقسمة تراضي وقد ذكرنا أن قسمة الإجبار ما أمكن التعديل فيها من غير رد ولا تخلو من أربعة أقسام أحدها : أن تكون السهام متساوية وقيمة أجزاء المقسوم متساوية الثاني : أن تكون السهام متساوية وقيمة الأجزاء مختلفة الثالث : أن تكون السهام مختلفة وقيمة الأجزاء متساوية الرابع : أن تكون السهام مختلفة والقيمة مختلفة فأما الأول فمثل أرض بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة أجزاء الأرض متساوية فهذه تعدلها بالمساحة ستة أجزاء متساوية لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة لتساوي أجزائها في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع بينهم جاز في ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية أبي داود إن شاء الله رقاعا وإن شاء خواتيم يطرح ذلك في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال اخرج خاتما على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصا أو غيره جاز واختار أصحابنا في القرعة أن يكتب رقاعا متساوية بعددالسهام وهو ههنا مخير بين أن يخرج الأسماء على السهام وبين اخراج السهام على الأسماء فإن أخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في بنادق طين أو شمع متساوية القدر والوزن ويترك في حجر من لم يحضر القسمة ويقال له أخرج بندقة على هذا السهم فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في البندقة ثم يخرج أخرى على سهم آخر كذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وإن اختار اخراج السهام على الأسماء كتب الرقاع أسماء السهام فيكتب في رقعة الأول مما يلي جهة كذا وفي أخرى الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج الرقعة واحد بعينه فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقى الأخير لمن بقي وذكر أبو بكر أن البنادق تجعل طينا وتطرح في ماء ويعين واحد فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت رقعتها على الماء فهي له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان أعيد الإقراع والأول أولى وأسهل
القسم الثاني : أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض تعدل بالقيمة وتجعل ستة أسهم متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام مثل الذي قبله سواء لا فرق بينهما إلا أن التعديل ثم بالسهام وههنا بالقيمة
القسم الثالث : أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة مثل أرض ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللآخر سدسها وأجزاؤها متساوية القيمة فإنها تجعل سهاما بقدر أقلها وهو السدس فتجعل ستة أسهم وتعدل بالأجزاء ويكتب ثلاث رقاع باسمائهم ويخرج رقعة على السهم الأول فإن خرجت لصاحب السدس أخذه ثم يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصق بغير قرعة وإن خرجت القرعة الثانية لصاحب النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث وإن خرجت القرعة الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على الرابع فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه والذي يليه وكان السدس لصاحب السدس فان خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ الآخر الخامس والسادس وإن خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم يخرج الثانية على الثالث فان خرجت لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وأخذ الآخر السادس وإن خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ صاحب النصف ما بقي وقيل تكتب ستة رقاع باسم صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة فيه فان المقصود خروج اسم صاحب النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فاغنى ولا يصح أن يكتب رقاعا بأسماء السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا أخرج واحدة فيها السهم الثاني لصاحب السدس ثم أخرج أخرى لصاحب النصف أو الثلث فيهما السهم الأول احتاج أن يأخذ نصيبه متفرقا فيتضرر بذلك
القسم الرابع : إذا اختلف السهام والقيمة فان القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها ستة أسهم متساوية القيم ثم يخرج الرقاع فيها الاسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء لا فصل بينهما إلا أن التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة وأما الضرب الثاني وهي قسمة التراضي التي فيها رد ولا يمكن تعديل السهام إلا أن يجعل مع بعضها عوض فهذه لا اجبار فيها لأنها معاوضة ولا يجبر على المعاوضة وكذلك سائر ما لا تجب قسمته الدارين تجعل كل واحدة منهما سهما وما يدخل الضرر عليهما بقسمته وأشباه هذا وقد ذكرنا منه صورا فيما تقدم
إذا ثبت هذا فان قسمة الاجبار تلزم باخراج القرعة لأن قرعة قاسم الحاكم بمنزلة حكمه فيلزم باخراجها كلزوم حكم الحاكم وأما قسمة التراضي ففيها وجهان أحدهما : يلزمه أيضا كقسمة الاجبار لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمة والثاني : لا تلزم لأنها بيع والبيع يلزم بالتراضي لا بالقرعة وإنما القرعة ههنا لتعريف البائع من المشتري فأما ان تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما واحدا من السهمين بغير قرعة فانه يجوز لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار ويلزم ههنا بالتراضي وتفرقهما كما يلزم البيع
فصل : ويجوز للشريكين أن يقتسما بانفسهما وان يأتيا الحاكم لينصب بينهما قاسما يقسم لهما وان ينصبا قاسما يقسم لهما فان نصيب الحاكم قاسما لهما فمن شرطه العدالة ومعرفة الحساب والقيمة والقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه وهذا قول الشافعي إلا أنه يشترط كونه حرا وان نصيبا قاسما بينهما فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحام في لزوم قسمته بالقرعة وان كان كافرا أو فاسقا أو غير عارف بالقسمة لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بها ويكون وجوده كعدمه فيما يرجع إلى لزوم القسمة ويجزئ قاسم واحد فيما الا يحتاج الى تقويم فان احتاج القسم الى التقويم احتاج الى قاسمين لأنه يحتاج الى أن يكون المقوم اثنين ولا يكفي في التقويم واحد فمتى نصبا قاسما أو نصبه الحاكم وكانت الشروط فيه متحققة لزمت القسمة بقرعته إن اختل فيه بعض الشروط لم تلزم القسمة الا بتراضيهما لأن وجوده وعدمه واحد وإن قسما بانفسهما وأقرعا لم تلزم القسمة الا بتراضيهما بعد القرعة لأنه لا حاكم بينهما ولا من يقوم مقامه

فصول أحكام مختلفة في القسمة والمتقاسمين
فصل : وعلى الامام أن يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح وقد روي أن عليا رضي الله عنه اتخذ قاسما وجعل له رزقا من بيت المال فان لم يرزقه الامام قال الحاكم للمتقاسمين ادفعا الى القاسم أجرة ليقسم بينكما فان استأجره كل واحد منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز وإن استأجروه جميعا اجارة ليقسم بينهم الدار بإجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الأخر بقدر نصيبه من المقسوم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد روؤسهم لأن عمله في نصيب أحدهما كعملة في نصيب الآخر سواء تساوت سهامهم أو اختلف فكان الأجر بينهم سواء
ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الاملاك كنفقة العبد وما ذكروه لا يصح لأن العمل في أبر النصيبين أكثر ألا ترى أن المقسوم لو كان مكيلا أو موزونا كان كيل الكثير أكثر عملا من كيل القليل ؟ وكذل الوزن والزرع وعلى أنه يبطل بالحافظ فان حفظ القليل والكثير سواء ويختلف أجره باختلاف المال
فصل : وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما الطالب لها وبهذا قال أبو يوسف ومحمد و الشافعي وقال أبو حنيفة هي على الطالب للقمسة لأنها حق له
ولنا أن الأجرة تجب بإفراز الأنصباء وهم فيها سواء فكانت الأجرة عليها كما لو تراضوا عليها
فصل : وإذا ادعى أحد المتقاسمين غلظا في القسمة وأنه أعطي دون حقه نظرت فإن كانت قسمته تلزم بالقرعة ولا تقف على تراضيهما فالقول قول عليه مع يمينه ولا تقبل دعوى المدعى إلا ببينة عادلة فإن أقام شاهدين عدلين نقصت القسمة وأعيدت وإن لم تكن بينة وطلب يمين شريكه أنه لا فضل معه احلف له وإنما قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها وإن كانت مما لا تلزم إلا بالتراضي كالذي قسماه بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى من ادعى الغلط هكذا قال أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه والصحيح عندي أن هذه كالتي قبلها وأنه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل ثبت ببينة عادلة فأشبه ما لو شهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في كيله أو وزنه
وقولهم أن حقه من الزيادة سقط برضاه لا يصح فإنه إنما يسقط مع علمه أما إذا ظن أنه أعطي حقه فرضي بناء على هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حقه كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء على أنه عشرة مكاييل راضيا بذلك ثم ثبت أنه ثمانية أو ادعى المسلم إليه أنه غلط فأعطاه اثني عشر وثبت ذلك ببينة لم يسقط حق واحد منهما بالرضا ولا يمنع سماع دعواه وبينته ولأن المدعى عليه في مسألتنا لو أقر بالغلط لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي بالرضا لما نقضت القسمة بإقراره كما لو وهبه الزائد وقد ذكر أصحابنا وغيرهم فيمن باع دارا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر أن البيع باطل في أحد الوجهين وفي الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم بالتراضي فلو كان التراضي يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة وحق المشتري من النقص والله أعلم
ولأن من رضي بشيء بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به حقه كما لو اقتسما شيئا وتراضيا به ثم بان نصيب أحدهما مستحقا فإن قيل : فلم لا تعطي المظلوم حقه في هاتين المسألتين ولا تنقض القسمة كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم فيه قلنا لأن الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها وهو تعديل السهام فتبطل لفوات شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قد تم بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض عوضه في صحته بخلاف مسألتنا
فصل : إذا اقتسم الشريكان شيئا فبان بعضه مستحقا نظرت فإن كان معينا في نصيب أحدهما بطلت القسمة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تبطل بل يخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ والرجوع بما بقي من حقه كما لو وجد عيبا فيما أخذه
ولنا أنها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة كما لو فعلا ذلك علمهما بالحال وأما إذا بان نصيب أحدهما معيبا فيحتمل أن تمنع المسألة ونقول ببطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة ويحتمل أن يفرق بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقى لكل واحد منهما بعد المستحق قدر حقه ولأن القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل واحد منهما حقه إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما أكثر مثل أن يسد طريقه أو مجرى مائة أو ضوئه أو نحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا يمنع التعديل وإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من الآخر بطلت لما ذكرناه وإن كان المستحق مشاعا في نصيبهما بطلت القسمة لأن الثالث شريكهما وقد اقتسما من غير حضوره ولا إذنه فأشبه ما لو كان لهما شريك يعلمانه فاقتسما دونه وإن كانا يعلمان المستحق حال القسمة أو أحدهما فالحكم فيها كما لو لم يعلما على ما ذكرنا من التفصيل فيه والله أعلم
فصل : وإذا ظهر في نصيب أحدهما عيب لم يعلمه قبل القسمة فله فسخ القسمة أو الرجوع بأرش العيب لأنه نقص في نصيبه فملك ذلك كالمشتري ويحتمل أن تبطل القسمة لأن التعديل فيها شرط ولم يوجد بخلاف البيع
فصل : وإذا اقتسما دارين فأخذ كل واحد منهما دارا وبنى فيها أو اقتسما أرضين فبنى أحدهما في نصيبه أو غرش ثم استحق نصيبه ونقض بناؤه وقلع غرسه فإنه يرجع على شريكه بنصف البناء والغرس ذكره الشريف أبو جعفر وحكاه أبو الخطاب عن القاضي وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن ليس له الرجوع عليه بشيء لأنه بنى وغرس بإختيار نفسه فلم يرجع بنقص ذلك على غيره كما لو بنى في ملك نفسه
ولنا أن هذه القسمة بمنزلة البيع فإن الدارين لا يقسمان قسمة إجبار على أن تكون كل واحدة منهما نصيبا وإنما يقسمان كذللك بالتراضي فتكون جارية مجرى البيع ولو باعه الدار جميعها ثم بانت مستحقة رجع عليه بالبناء كله فإذا باعه نصفها رجع عليه بنصفه وكذلك يخرج في كل قسمة جارية مجرى البيع وهي قسمة التراضي الذي فيه رد عوض وما لا يجبر على قسمته لضرر فيه ونحو ذلك فأما قسمة الإجبار إذا ظهر نصيب أحدهما مستحقا بعد البناء والغرس فيه فنقض البناء وقلع الغرس فإن قلنا القسمة بيع فالحكم فيها كذلك وإن قلنا ليست بيعا لم يرجع لأن شريكه لم يغره ولم ينقل إليه من جهته بيع وإنما أفرز حقه من حقه فلم يضمن له ما غرم فيه هذا الذي يقتضيه قول اصحابنا
فصل : وإذا اقتسم الورثة تركة الميت ثم بان عليه دين لا وفاء له إلا مما اقتسموه لم تبطل القسمة لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها لأنه تعلق بها بغير رضاهم فأشبه تعلق دين الجناية برقبة الجاني ويفارق الرهن لأن الحق يتعلق به برضا مالكه واختياره فعلى هذا يقال للورثة إن شئتم وفيتم الدين والقسمة بحالها وإن شئتم نقضت القسمة وبيعت التركة في الدين فإن أجاب أحدهم وامتنع الآخر بيع نصيب الممتنع وحده وبقي نصيب المجيب بحاله وإن كان ثم وصية يجزء من المقسوم فالحكم فيه كما لو ظهر مستحقا على مر من التفصيل فيه لأنه يستحق أخذه وإن كانت الوصية بمال غير معين مثل أن يوصي بمائة دينار فحكمها حكم الدين على ما بينا
فصل : وإذا طلب أحد الشريكين من الآخر المهايأة من غير قسمة ما في الأجزاء بأن يجعل لأحدهما بعض الدار يسكنها أو بعض الحقل يزرعه ويسكن الآخر ويزرع في الباقي أو يسكن أحدهما ويزرع سنة ويسكن الآخر ويزرع سنة أخرى لم يجبر الممتنع منهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك يجبر لأن في الامتناع ضررا فينتفي بقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ] ووافقنا أبو حنيفة في العبيد خاصة على أنه لا يجبر على المهايأه
ولنا أن النهايأة فلا يجبر عليها كالبيع ولأن حق كل واحد في المنفعة عاجل فلا يجوز تأخيره بغير رضاه كالدين وكما في العبيد عند أبي حنيفة ويخالف قسمة الأصل فإنه إفراز النصيبين وتمييز أحد الحقين
إذا ثبت هذا فإنهما إذا اتفقا على المهايأة جاز لأن الحق لهما فجاز فيه ما تراضيا عليه كقسمة التراضي ولا يلزم بل متى رجع أحدهما عنها انتقضت المهايأة ولو طلب أحدهما القسمة كان له ذلك وانتقضت المهايأة ووافق أبو حنيفة وأصحابه في انتقاضها بطلب القسمة وقال مالك تلزم المهايأة لأنه يجبر لأنه يجبر عليها عنده فلزمت كقسمة الأصل
ولنا أنه بذل منافع ليأخذ من غير إجارة فلم يلزم كما لو أعاره شيئا ليعيره شيئا آخر إذا احتاج إليه وفارق القسمة فإنها إفراز حق على ما ذكرناه
فصل : قال أحمد في قوم اقتسموا دارا وحصل لبعضهم فيها زيادة أذرع ولبعضهم نقصان ثم باعوا الدار جملة واحدة قسمت الدارب بينهم على قدر الأذرع يعني أن الثمن يقسم بينهم على قدر ملكهم فيها وهذا محمول على أن زيادة أحدهما في الأذرع كزيادة ملكه فيها مثل أن يكون لأحدهما الخمسان فيحصل له أربعون ذراعا وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون فإن الثمن يقسم بينهما أخماسا على قدر ملكهما في الدار فإن كانت زيادة الأذرع لرداءة ما أخذه صاحبها مثل دار بينهما نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعا وأخذ الآخر من رديئها ستين ذراعا فلا ينبغي أن يقسم الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فكذلك يعدل بها في الثمن والله أعلم وقال أحمد في قوم اقتسموا دارا كانت أربعة سطوح يجري عليها الماء فلما اقتسموا أراد أحدهم منع جريان ماء الآخر عليه وقال هذا شيء قد صار لي قال إن كان بينهما شرط أنه يرد الماء فله ذلك فإن لم يشترط فليس له منعه ووجهه أنهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن يملك كا واحد حصته بحقوقها وكما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها في ماء كان يجري إليه معتادا له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الإطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم وقال أبو الخطاب إذا اقتسما دارا فحصل الطريق في نصيب أحدهما وكان لنصيب الآخر منفذ يتطرق منه وإلا بطلت القسمة وذلك لأن القسمة تقتضي التعديل والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له إلا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل ولأن من شرط الإجبار على القسمة أن يكون ما يأخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع به وهذا لا ينتفع به وهذا لا ينتفع به آخذه فإن كان قد أخذه راضيا به عالما بأنه لا طريق له جاز لأن قسمة التراضي بيع وشراؤه على هذا الوجه جائز وقياس المسألة التي قبل هذه أن الطريق تبقى بحالها في نصيب الآخر ما لم يشترط صرفها عنه كمجرى الماء والله أعلم
فصل : قال وللأب والوصي قسمة مال الصغير مع شريكه لأن القسمة أما إفراز حق أو بيع وكلاهما جائز لهما ولأن في القسمة مصلحة للصبي فجازت كالشراء له ويجوز لهما قسمة التراضي من غير زيادة في العوض لأن فيه دفعا لضرر الشركة فأشبه ما لو باعه لضرر الحاجة إلى قضاء الدين أو الحاجة إلى النفقة
فصل : ولا تصح ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو من فوض الإمام إليه ذلك فإن كان من ولاه ليس بعدل فهل تصح ولايته ؟ على وجهين ويلزم الإمام أن يختار للقضاء بين المسلمين أفضل من يقدر عليه لهم والألفاظ التي تنعقد بها الولاية تنقسم إلى صريح وكناية فالصريحة سبعة ألفاظ وهي قد وليتك الحكم وقلدتك واستنبتك واستخلفتك ورددت إليك الحكم وفوضت إليك وجعلت إليك فإذا وجد أحد هذه الألفاظ من المولي وجوابها من المولى بالقبول انعقدت الولاية وأما الكناية فهي أربعة ألفاظ قد اعتمدت عليك وعولت عليك ووكلت إليك واستندت إليك فلا تنعقد الولاية بها حتى تقترن بها قرينة نحو قوله فاحكم فيما وكلت إليك وانظر فيما أسندت إليك وتول ما عولت فيه عليك وإذا صحت الولاية وكانت عامة استفاد بها النظر في عشرة أشياء فصل الخصومات بين المتنازعين واستيفاء الحق ممن ثبت عليه ودفعه إلى مستحقه والنظر في أموال اليتامى والمجانين والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله في حفظ أصولها وإجراء أصولها فروعها على ما شرطه الواقف وتزويج الأيامى اللاتي لا أولياء لهن وإقامة الحدود والنظر في مصالح المسلمين في عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وأفنيتهم وتصفح حال شهوده وأمنائه والاستبدال بمن ثبت جرحه منهم والإمامة في صلاة الجمعة والعيد وفي جباية الخراج وأخذ الصدقة وجهان
فصل : قال ويوصي الوكلاء والأعيان على بابه بتقوى الله تعالى والرفق بالخصوم وقلة الطمع ويجتهد أن لا يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والصيانة والعفة
فصل : قال ابن المنذر يكره للقاضي أن يفتي في الأحكام كان شريح يقول أنا أقضي ولا أفتي وأما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه

كتاب الشهادات
والأصل في الشهادات الكتاب والسنة والإجماع والعبرة أما الكتاب فقول الله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وقال تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } { وأشهدوا إذا تبايعتم }
وأما السنة فما [ روى وائل بن حجر قال : جاء رجل من حضرموت ورجل من كنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال الحضرمي : يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي : هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي : ألك بينة ؟ فقال : لا قال : فلك يمينه قال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء قال : ليس لك منه إلا ذلك قال : فانطلق الرجل ليحلف له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه معرض ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وروى محمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال : [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] قال الترمذي هذا حديث في إسناده مقال و العزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه ضعفه ابن مبارك وغيره إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم ولأن الحاجة داعية إلى الشهادة لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها قال شريح : القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء فأفرغ الشفاء على الداء

تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية
فصل : وتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية لقول الله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وقال تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات
إذا ثبت هذا فإن دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمته الإجابة وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك فإن قام بالفرض في التحمل أو الأداء اثنان سقط عن الجميع وإن امتنع الكل أثموا وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر وكانت شهادته تنفع فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء أو كان ممن لا تقبل شهادتهم أو يحتاج إلى التبذل في التزكية ونحوها لم يلزمه لقول الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأنه لا يلزمه أن يضر بنفسه لنفع غيره وإذا كان ممن لا تقبل شهادته لم يجب عليه لأن المقصود الشهادة لا يحصل منه وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غيره ممن يقوم مقامه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يأثم لأنه قد تعين بدعائه ولأنه منهي عن الامتناع بقوله { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا }
والثاني : لا يأثم لأن غيره يقوم مقامه فلم يتعين في حقه كما لو لم يدع إليها فأما قول الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } فقد قرئ بالفتح والرفع فمن رفع فهو خبر معناه النهي ويحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون الكاتب فاعلا أي لا يضر الكاتب و الشهيد من يدعوه بأن لا يجيب أو يكتب ما لم يستكتب أو يشهد ما لم يستشهد به
والثاني : أن يكون يضار فعل ما لم يسم فاعله فيكون معناه ومعنى الفتح واحدا أي لا يضر الكاتب والشهيد بأن يقطعهما عن شغلهما بالكتابة والشهادة ويمنعا حاجتهما
واشتقاق الشهادة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما يشاهده وقيل لأن الشاهد بخبره جعل الحاكم كالمشاهد للمشهود عليه وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس وتكشف الحق فيما اختلف فيه

شهود الزنا وما يشترط فيهم و حكم الإقرار بالزنا
مسألة : قال : ولا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة رجال عدول أحرار مسلمين
أجمع المسلمون أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } في آي سواها وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أربعة وإلا حد في ظهرك ] في أخبار سوى هذا وأجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين عدولا ظاهرا وباطنا وسواء كان المشهود عليه مسلما أو ذميا وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالا أحرارا فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد وبه يقول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور فقال : تقبل فيه شهادة العبيد
وحكي عن عطاء و حماد : أنهما قالا : تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين لأنه نقص واحد من عدد الرجال فقام مقامه امرأتان كالأموال
ولنا ظاهر الآية وأن العبد مختلف في شهادته في المال فكان ذلك شبهة في الحد لأنه بالشبهات يندرئ ولا يصح قياس هذا على الأموال لخفة حكمها وشدة الحاجة إلى إثباتها لكثرة وقوعها والاحتياط في حفظها ولهذا زيد في عدد شهود الزنا على شهود المال
فصل : وفي الإقرار بالزنا روايتان ذكرهما أبو بكر و للشافعي فيه قولان : أحدهما : يثبت بشاهدين قياسا إلى سائر الأقارير والثاني : لا يثبت إلا بأربعة لأنه موجب لحد الزنا أشبه فعله

لا يقبل فيما سوى الأموال أقل من رجلين
مسألة : قال : ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين
وهذا القسم نوعان : أحدهما : العقوبات وهي الحدود والقصاص فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين إلا ما روي عن عطاء و حماد أنهما قالا : يقبل فيه رجل وامرأتان قياسا على الشهادة في الأموال
ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى إثباته وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } وأنه لا تقبل شهادتهن وإن كثرن ما لم يكن معهن رجل فوجب أن تقبل شهادتهن فيه ولا يصح قياس هذا على الأموال لما ذكرنا من الفرق وبهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب و الشعبي و النخعي و حماد و الزهري و ربيعة و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو الثور وأصحاب الرأي واتفق هؤلاء وغيرهم على أنها تثبت بشهادة رجلين ما خلا الزنا إلا الحسن فإنه قال : الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لأنه يتعلق به إتلاف النفس فأشبه الزنا
ولنا أنه أحد نوعي القصاص فأشبه القصاص في الطرف وما ذكره من الوصف لا أثر له فإن الزنا الموجب للحد لا يثبت إلا بأربعة ولأن حد الزنا حق لله تعالى يقبل الرجوع عن الإقرار به ويعتبر في شهداء هذا النوع من الحرية والذكورية والإسلام والعدالة ما يعتبر في شهداء الزنا على ما سنذكره الثاني : ما ليس بعقوبة كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإيلاء والنسب والتوكيل والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا فقال القاضي : المعول عليه في المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال وقد نص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة إن كانت بمطالبة دين يعني تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين فأما غير ذلك فلا ووجه ذلك أن الوكالة في اقتضاء الدين يقصد منها المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة قال القاضي : فيخرج من هذا أن النكاح وحقوقه من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه يخرج على روايتين وقال أبو الخطاب : يخرج في النكاح والعتاق أيضا روايتان : إحداهما : لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين وهو قول النخعي و الزهري و مالك وأهل المدينة و الشافعي وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعه في الطلاق والثانية : تقبل فيه شهادة رجلين وامرأتين روى ذلك عن جابر بن زيد و إياس ابن معاوية و الشعبي و الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة فيثبت برجل وامرأتين كالمال
ولنا أنه ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وإن تصور بأن تكون مرتابة بالحمل لم يصح النكاح

ما يثبت به الإعسار والوصية
فصل : وقد نقل عن أحمد رضي الله عنه في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة لحديث قبيصة بن المخارق [ حتى يشهد من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة ] قال أحمد : هكذا جاء الحديث فظاهر هذا أنه أخذ به وروي عنه أنه يقبل قوله أنه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد وقال في الرجل يوصي ولا يحضره إلا النساء قال : أجيز شهادة النساء فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال قال القاضي : المذهب أن هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار
فصل : ولا يثبت شيء من هذين النوعين بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين فلأن لا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى قال أحمد و مالك في الشاهد واليمين : إنما يكون ذلك في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل
وقد قال الخرقي : إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا ونص عليه أحمد وقال في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا فيخرج مثل هذا في الكتابة والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه فإنها لا تثبت بشاهد ويمين قولا واحدا قال القاضي : المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت إلا بشاهدين وهو قول الشافعي وروى الدارقطني بإسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : [ استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي في الأموال لا تعد ذلك ] وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قضي بالشاهد واليمين قال نعم في الأموال وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره رواه الإمام أحمد وغيره بإسنادهم

لا يقبل في شهادة الأموال أقل من رجل وامرأتين
مسألة : قال : ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين ورجل عدل مع يمين الطالب
وجملة ذلك أن المال كالقرض والغضب والديون كلها وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة والهبة والصلح والمساقاة والمضاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كجناية الخطأ وعمد الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج تثبت بشهادة رجل وامرأتين وقال أبو بكر : لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء وكذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء وكذلك ما يوجبه ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه بقوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } وإلى قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وأجمع أهل العلم على القول به وقد ذكرنا خبر أبي هريرة وابن عباس فيه

فصل : في المال يثبت لمدعيه بشاهد ويمين
فصل : وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رصي الله عنهم وهو قول الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز و الحسن و شريح و إياس و عبد الله بن عتيبة و أبي سلمة بن عبد الرحمن و يحيى بن يعمر و ربيعه و مالك و ابن أبي ليلى و أبي الزناد و الشافعي وقال الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي و الأوزاعي : لا يقضى بشاهد ويمين قال محمد بن الحسن : من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فمن زاد فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ] فحصر اليمين في جانب المدعى عليه كما حصر البينة في جانب المدعي
ولنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم باليمين مع الشاهد الواحد رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر ومسروق وقال النسائي : إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد ولأن اليمين تشرع في حق من ظهر صدقة وقوي جانبه ولذلك شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهدين والشاهد والمرأتين ولا نزاع في هذا وقولهم إن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة والزيادة في الشيء تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخا وكذلك إذا انفصلت عنه ولأن الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } والنزاع في الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها وفي حق الأمناء لظهور جنايتهم وفي حق الملاعن وفي القسامة وتشرع في حق البائع والمشتري إذا اختلفا في ثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين يتضمن القول بنقض فضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } والقضاء بما قضى به محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له
فصل : قال القاضي : يجوز أن يحلف على ما لا تسوغ الشهادة عليه مثل أن يجد بخطه دينا له على إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب إلا حقا ولم يذكره أو يجد في رزمانج أبيه بخطه دينا له على إنسان ويعرف من أبيه الأمانة وأنه لا يكتب إلا حقا فله أن يحلف عليه ولا يجوز أن يشهد به ولو أخبره بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز له أن يشهد به وبهذا قال الشافعي والفرق بين اليمين والشهادة من وجهين :
أحدهما : أن الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما يحلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه والثاني : أن ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه بخلاف الشهادة
فصل : وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا رجلا أو امرأة نص عليه أحمد لأن من شرعت في حقه واليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة
فصل : قال أحمد : مضت السنة أن يقضي باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبى أن يحلف استحلف المطلوب وهذا قول مالك و الشافعي ويروي عن أحمد فإن أبىالمطلوب أن يحلف ثبت الحق عليه
فصل : ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي وبه قال الشافعي وقال مالك : يقبل ذلك في الأموال لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فحلف معهما كما يحلف مع الرجل
ولنا أن البينة على المال إذا خلت من الرجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة وما ذكروه يبطل بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين ولأن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفة فيضم ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل
فصل : إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق نصابا من حرزه وأقام بذلك شاهدا وحلف معه أو شهد له بذلك رجل وامرأتان وجب المال المشهود به إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ولا يجب القطع لأن هذه حجة في المال دون القطع وإن ادعى رجل أنه قتل وليه عمدا فأقام شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده لم يثبت قصاص ولا دية والفرق بين المسألتين أن السرقة توجب القطع والغرم معا فإذا لم يثبت أحدهما ثبت الآخر والقتل العمد موجبه القصاص عينا في إحدى الروايتين والدية بدل عنه ولا يجب البدل ما لم يوجد المبدل
وفي الرواية الأخرى الواجب أحدهما لا بعينه فلا يحوز أن يتعين أحدهما إلا باختيار أو التعذر ولم يوجد واحد منهما
وقال ابن أبي موسى : لا يجب في المال السرقة أيضا إلا بشاهدين لأنها شهادة على فعل يوجب الحد والمال فإذا بطلت في أحدهما بطلت في الأخرى والأول أولى لما ذكرناه وإن ادعى رجل على رجل أنه ضرب أخاه بسهم عمدا فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت قتل الأول لأنه عمد موجبة القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين وعلى قوا أبي بكر لا يثبت شيء منهما لأن الجناية عنده لا تثبت إلا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالا فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه فأقام المدعي شاهدا وامرأتين شهدا بالسرقة والغصب وأقام شاهدا وحلف معه استحق المسروق والمغضوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتاق لأن هذه البينة حجة في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا إلا فيما ذكرناه من الخلاف عن أصحابنا
فصل : ولو ادعى جارية في يد رجل أنها أم ولده وأن ابنها ابنه منها ولد في ملكة وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده حكم له بالجارية لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها وإجارتها وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد بإقراره لأن إقراره ينفذ في ملكه ويثبت بالشاهد والمرأتين والشاهد واليمين ولا يحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك ويدعي حريته أيضا فعلى هذا يقر الولد في يد المنكر مملوكا له وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : يأخذها وولدها ويكون ابنه لأن من يثبت له العين ثبت له نماؤها والولد نماؤها وذكر أبو الخطاب فيها عن أحمد روايتين كقولي الشافعي
ولنا أنه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه
فصل : وإن ادعى رجل أنه خالع امرأته فأنكرت ثبت ذلك بشاهد وامرأتين أو يمين المدعي لأنه يدعي المال الذي خالعت به وإن ادعت ذلك المرأة لم يثبت إلا بشهادة رجلين لأنها لا تقصد منه الفسخ وخلاصها من الزوج لا يثبت ذلك إلا بهذه البينة

تقبل شهادة امرأة عدل فيما لا يطلع عليه الرجال
مسألة : قال : ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع والولادة والحيض والعدة وما أشبهها شهادة امرأة عدل
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة قال القاضي : والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة : لا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم النساء من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح
ولنا ما [ روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحي بنت أبي إهاب فأتت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك فأعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله إنها كاذبة قال : كيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء كالولادة وتخالف العقد فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضا أن شهادة النساء المنفردات لا تقبل في الاستهلال لأنه يكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لأنه يكون حال الولادة فيتعذر حضور الرجال فأشبه الولادة نفسها
وقد روي عن علي رحمه الله أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال رواه الإمام أحمد و سعيد بن منصور إلا أنه من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح و الحسن و الحارث العلكي و حماد

فيما يجوز فيه شهادة المرأة وحدها وفيما لو شهد رجل بذلك
فصل : إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة قال طاوس تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل فيه إلا امرأتان وهو قول الحكم و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة وإليه ذهب مالك و الثوري لأن كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان كالرجال ولأن الرجال أكمل منهن عقلا ولا يقبل منهم إلا اثنان وقال عثمان البتي : يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة وقال عطاء و الشعبي و قتادة و الشافعي و أبو ثور : لا تقبل فيه إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم يقبل فيها الواحدة كسائر الشهادات ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ شهادة امرأتين بشهادة رجل ]
ولنا ما [ روى عقبة بن الحارث أنه قال : تزوجت أم يحي بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فجئت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك فأعرض عني ثم ذكرت له ذلك فقال : وكيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز شهادة القابلة ذكره الفقهاء في كتبهم و [ روى أبو الخطاب عن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة ] ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ وسلم شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل ]
فصل : فإن شهد الرجل بذلك فقال أبو الخطاب : تقبل شهادته وحده لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفي بها وحدها فلأن يكتفى به أولى ولأن ما قبل فيه قول المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية

فيمن لزمته الشهادة
مسألة : قال ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك
وجملته أن أداء الشهادة من فروض الكفايات فأن تعينت عليه بأن لا يتحملها من يكفي فيما سواه لزمه القيام بها وإن قام بها اثنان غيره سقط عنه أداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها جماعة فأداؤها واجب على الكل وإن امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها قول الله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } وفي الآية الأخرى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ولأن الشهادة أمانة فلزمه أداؤها عند طلبه كالوديعة ولقوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فإن عجز عن إقامتها أو تضرر بها لم تجب عليه لقول الله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم }

لا يجوز لمن له كفاية أخذ الجعل على الشهادة
فصل : ومن له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة لأنه أداء فرض فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل له أخذه والنفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية فإذا أخذ الرزق جمع الأمرين وإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل أن لا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين وقال أصحاب الشافعي : لا يجوز الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره ؟ على وجهين

من سمع أو نظر متيقنا شهد وإن لم ير المشهود به والمرأة في ذلك كالرجل
مسألة : قال : وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا وإن لم ير المشهود عليه شهد به
وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما عمله بدليل قول الله تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وتخصيصه لهذه الثلاثة بالسؤال لأن العلم بالفؤاد وهو يستند إلى السمع والبصر ولأن مدرك الشهادة الرؤية والسماع وهما بالبصر والسمع وروي عن ابن عباس أنه قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الشهادة قال : هل ترى الشمس قال : نعم قال : على مثلها فاشهد أو دع ] رواه الخلال في الجامع بإسناده إذا ثبت هذا فأن مدرك العلم الذي تقع به الشهادة اثنان : الرؤية والسماع وما عداهما من مدارك العلم كالشم والذوق و اللمس لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب فأما يقع بالرؤية فالأفعال كالغضب والإتلاف والزنا وشرب الخمر وسائر الأفعال وكذلك الصفات المرئية كالعيوب في المبيع ونحوها فهذا لا تتحمل الشهادة إلا بالرؤية لأنه تمكن الشهادة عليه قطعا فلا يرجع إلى غير ذلك وأما السماع فنوعان :
أحدهما : من المشهود عليه مثل العقود كالبيع والإجارة وغيرهما من الأقوال فيحتاج إلى أن يسمع كلام المتعاقدين ولا نعتبر رؤية العقد إذا عرفهما وتيقن أنه كلامهما وبهذا قال ابن عباس و الزهري و ربيعه و الليث و شريح و عطاء و ابن أبي ليلى و مالك وذهب أبو حنيفة و الشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز حتى يشاهد القائل المشهود عليه لأن الأصوات تشتبه فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية كالخط
ولنا أنه عرف المشهود عليه يقينا فجازت شهادته كما لو رآه وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقينا وقد يحصل العلم بالسماع يقينا وقد اعتبره الشرع بتجويزه الرواية من غير رؤية ولهذا قبلت رواية الأعمى ورواية من روى عن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير محارمهن
وأما النوع الثاني فسنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة التي تلي هذا
فصل : إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز أن يشهد عليه حاضرا كان غائبا وإن لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته وجاز أن يشهد عليه حاضرا بمعرفة عينه ونص عليه أحمد قال مهنا : سألت أحمد عن رجل شهد لرجل بحق له على رجل وهو لا يعرف أسم هذا ولا اسم هذا إلا أنه يشهد له فقال : إذا قال : أشهد أن لهذا على هذا وهما شاهدان جميعا فلا بأس وإن كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه
فصل : والمرأة كالرجل في أنه إذا عرفها وعرف اسمها ونسبها جاز أن يشهد عليها مع غيبتها وإن لم يعرفها لم يشهد عليها مع غيبتها قال أحمد في رواية الجماعة : لا تشهد إلا لمن تعرف وعلى من تعرف ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها وإن كانت ممن قد عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد وإلا فلا يشهد فأما إن لم يعرفها فلا يجوز أن يشهد مع غيبتها ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف عينها ونظر إلى وجهها قال أحمد : ولا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة على من لم يتيقن معرفتها فأما من تيقن معرفتها وتعرف بصوتها يقينا فيجوز أن يشهد عليها إذا تيقن صوتها على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه فعرفه عنده ومن يعرفه فقد روي عن أحمد أنه قال : لا يشهد على شهادة غيره إلا بمعرفته لها وقال : لا يجوز للرجل أن يقول للرجل : أنا أشهد أن هذه فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره وقال القاضي : يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه وقال أحمد : لا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها وهذا يحتمل أنه لا يدخل عليها بيتها ليشهد عليها إلا بإذن زوجها لما روى عمرو بن العاص قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستأذن على النساء إلا بإذن أزواجهن رواه أحمد في مسنده فأما الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن إقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح فجاز أن يشهد عليها به

حكم ما لو عرف الشاهد خطه ونسي أنه شهد به
فصل : وإذ عرف الشاهد خطه ولم يذكر أنه شهد به فهل يجوز له أن يشهد بذلك ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز أن يشهد بها قال أحمد في رواية حرب في من يرى خطه وخاتمه ولا يذكر الشهادة ؟ وقال : لا يشهد إلا بما يعلم وقال في رواية غيره : يشهد إذا عرف خطه وكيف تكون الشهادة إلا هكذا ؟ وقال في موضع آخر : إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد إلا أن يكون منسوخا عنده موضوعا تحت ختمه وحرزه فيشهد وإن لم يحفظ وقال أيضا : إذا رديء الحفظ فيشهد ويكتبها عنده وهذه رواية ثالثة : وهو أن يشهد إذا كانت مكتوبة عنده بخطه في حرزه ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزلة القاضي في إحدى الروايتين إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه أمضاه ولا يمضيه إذا لم يكن كذلك

في الشهادة على ما تظاهرت به الأخبار
مسألة قال : وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة على النسب والولادة
هذا النوع الثاني من السماع وهو يعلمه بالاستفاضة وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة قال ابن المنذر : أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه ولو اعتبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدا من أقاربه وقال : قال الله تعالى : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } واختلف أهل العلم فيما تجوز عليه الشهادة بالاستفاضة غير النسب والولادة فقال أصحابنا هو تسعة أشياء : النكاح والملك والمطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعذل وبهذا قال أبو سعيد الاصطخري وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع فإنها شهادة بعقد فأشبه سائرالعقود قال أبو حنيفة : لا تقبل إلا في النكاح والموت ولا تقبل في الملك المطلق لأنها شهادة بمال أشبه بالدين وقال صاحباه : يقبل في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عباس
ولنا أن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب قال مالك : ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بالسماع وقال مالك : السماع في الأحباس والولاء جائز وقال أحمد في رواية المروذي : اشهد أن دار بختان لبختان وإن لم يشهدك وقيل له : تشهد أن فلانة امرأة فلان ولم تشهد النكاح ؟ فقال : نعم إذا كان مستفيضا فأشهد أقول إن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن خديخة وعائشة زوجاه وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة فإن قيل : يمكنه العلم في هذه الأشياء بمشاهدة السبب قلنا : وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سببا يقينا فإنه يجوز أن يشتري ما ليس بملك البائع ويصطاد صيدا صاده غيره ثم انفلت منه وإن تصور ذلك فهو نادر وقول أصحاب الشافعي تمكن الشهادة في الوقف باللفظ لا يصح لأن الشهادة ليست بالعقود ههنا وإنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد فهو بمنزلة الملك وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد وكذلك الحرية والولاء وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك لأنها مترتبة على الملك فوجب أن تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة كالملك سواء قال مالك : ليس عندنا من شهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا على السماع إذا ثبت هذا فكلام أحمد و الخرقي يقتضي أن لا يشهد بالاستفاضة حتى تكثر به الأخبار ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم لقول الخرقي فيما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في القلب يعني حاصل العلم به وذكر القاضي في المجرد أنه يكفي أن يسمع من أثنين عد لين ويسكن قلبه إلى خبرهما لأن الحقوق تثبت بقول اثنين وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي والقول الأول هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة فأنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنين لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع

إذا كان في يد رجل دار يتصرف بها تصرف الملاك جازت الشهادة أنها له
فصل : فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع فقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يشهد له بملكها وهو قول أبي حنيفة و الاصطخري من أصحاب الشافعي قال القاضي : ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة وإعارة وغصب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ووجه الأول أن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة واحتمال كونها من غصب أوإجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا ههنا فإن قيل : فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم قلنا : الظن يسمى علما قال الله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات } ولا سبيل إلى العلم اليقيني ههنا فجازت بالظن

إذا سمع رجلا يقول لصبي هذا ابني جاز أن يشهد به
فصل : وإذا سمع رجلا يقول لصبي : هذا ابني جاز أن يشهد به لأنه مقر بنسبه وإن سمع الصبي يقول : هذا أبي والرجل يسمعه فسكت جاز أن يشهد أيضا لأن سكوت الأب إقرار له والإقرار يثبت النسب فجازت الشهادة به وإنما أقيم السكوت ههنا مقام الإقرار لأن على الانتساب الباطل جائز بخلاف سائر الدعاوى ولأن النسب يغلب فيه الإثبات ألا ترى أنه يلحق بالإمكان في النكاح ؟ وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يشهد مع السكوت حتى يتكرر لأن السكوت ليس بإقرار حقيقي وإنما أقيم مقامه فاعتبرت تقويته بالتكرار كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار

حكم ما لو شهد عدلان أن فلانا مات وخلف فلانا وفلانا
فصل : وإذا شهد عدلان أن فلانا مات وخلف من الورثة فلانا وفلانا لا نعلم وارثا غيرهما قبلت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي و العنبري وقال ابن أبي ليلى : لا تقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواهما
ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه فيكفي فيه الظاهر مع شهادة الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب : سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا ويحتمل أن لا تقبل إلا من أهل الخبرة الباطنة لأن عدم علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه لو كان له وارث آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فأما إن قالا : لا نعلم له وارثا بهذه البلدة أو بأرض كذا وكذا لم تقبل وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يقضى به كما لو قالا : لا نعلم له وارثا وذكر ذلك مذهبا ل أحمد أيضا
ولنا أن هذا ليس بدليل على عدم الوارث لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث له في تلك الأرض ويعلمان له وارثا في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا : لا نعلم له وارثا في هذا البيت

شروط الشهادة
مسألة : قال : من لم يكن من الرجال والنساء عاقلا مسلما بالغا عدلا لم تجز شهادته
وجملته أن يعتبر في الشاهد سبعة شروط : أحدها : أن يكون عاقلا ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعا قاله ابن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية وذلك لأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله ولأنه لا يأثم بكذبه ولا يتحرز منه الثاني : أن يكون مسلما ونذكر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى الثالث : أن يكون بالغا فلا تقبل شهادة صبي لم يبلغ بحال يروى هذا عن ابن عباس وبه قال القاسم و سالم و عطاء و مكحول و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و أبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن شهادتهم تقبل في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها وهذا قول مالك
لأن الظاهر صدقهم وضبطهم فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأنه يحتمل أن يلقنوا قال ابن الزبير : إن أخذوا عند مصاب ذلك فبالحري أن يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري أن شهادتهم جائزة ويستحلف أولياء المشجوج وذكره عن مروان وروي عن أحمد رواية ثالثة أن شهادته تقبل إذا كان ابن عشر قال ابن حامد : فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد وروي عن علي رضي الله عنه أن شهادة بعضهم تقبل على بعض وروي ذلك عن شريح و الحسن و النخعي قال إبراهيم كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة : وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد
وروى الإمام أحمد بإسناده عن مسروق قال : كنا عند علي فجاءه خمسة غلمة فقالوا : إنا كنا ستة غلمة نتغاط فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية وجعل على الثلاثة خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شيء لقول الله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال : { ممن ترضون من الشهداء } والصبي ممن لا يرضى وقال : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } فأخبر أن الشاهد الكاتم لشاهدته آثم والصبي لا يأثم فيدل على أنه ليس بشاهد ولأن الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعه منه فلا تحصل الثقة بقوله ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون ويحقق هذا أن الإقرار أوسع لأنه يقبل من الكافر والفاسق والمرأة ولا تصح الشهادة منهم ولأن من لا تقبل شهادته في المال لا تقبل في الجراح كالفاسق ومن لا تقبل شهادته على من ليس بمثله لا تقبل على مثله كالمجنون
الشرط الرابع : العدالة لقول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ولا تقبل شهادة الفاسق لذلك ولقول الله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فأمر بالتوقف عن نبأ الفاسق والشهادة نبأ فيجب التوقف عنه وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ولا ذي غمر على أخيه ] رواه أبو عبيده وكان أبو عبيده لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس بل جميع ما افترض الله تعالى على العباد القيام به اجتنابه من صغير ذلك وكبيره قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال } الآية وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا يؤسر رجل بغير العدول ولأن دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين فلا يؤمن أن لا يزعه عن الكذب فلا تحصل الثقة بخبره إذا تقرر هذا فالفسوق نوعان :
أحدهما : من حيث الأفعال فلا نعلم خلافا في رد شهادته والثاني : من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة أيضا وبه قال مالك و شريك و إسحاق و أبوعبيد و أبو ثور وقال شريك : أربعة لا تجوز شهادتهم : ( رافضي ) يزعم أن له إماما مفترضة طاعته ( وخارجي ) يزعم أن الدنيا دار حرب ( وقدري ) يزعم أن المشيئة إليه ( ومرجئ ) ورد شهادة يعقوب وقال : ألا أرد شهادة من يزعم أن الصلاة ليست من الأيمان ؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي : المختلفون على ثلاثة أضرب : ( ضرب ) اختلفوا في الفروع فهؤلاء لا يفسقون بذلك ولا ترد شهادتهم وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التابعين
الثاني : من نفسقه ولا نكفره وهو من سب القرابة كالخوارج أو سب الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك
الثالث : من نكفره وهو من قال بخلق القرآن ونفي الرؤية وأضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل له شهادة وذكر القاضي أبو يعلي مثل هذا سواء قال : وقال أحمد : ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة وظاهر قول الشافعي و ابن أبي ليلى و أبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل الأهواء وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال قال الشافعي : إلا يكونوا ممن يرى الشهادة بالكذب بعضهم لبعض كالخطابية وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه
ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الإسلام أشبه الاختلاف في الفروع ولان فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الأفعال
قال أبو الخطاب : ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أن الفسق الذي يتدين به من جهة الاعتقاد لا ترد الشهادة به وقد روي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية فكذلك الشهادة ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأن المبتدع فاسق فترد شهادته للآية والمعنى
الشرط الخامس : أن يكون متيقظا حافظا لم يشهد به فإن كان مغفلا أو معروفا بكثرة الغلط لم تقبل شهادته
الشرط السادس : أن يكون ذا مروءة
الشرط السابع : انتفاء الموانع وسنشرح هذه الشروط في مواضعها إن شاء الله تعالى

شهادة البدوي على القروي وشهادة القروي على البدوي
فصل : ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية على البدوي صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين و أبي حنيفة و الشافعي و أبو ثور واختاره أبو الخطاب
وقال الإمام أحمد أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل شهادته وهو قول الجماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح وكقول الباقين في الجراح احتياطا للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال [ لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ] ولأنه منهم حيث عدل عن أن يشهد قرويا وأشهد بدويا قال أبو عبيد : ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله تعالى والجفاء في الدين
ولنا أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته

العدل من لم تظهر منه ريبة
مسألة : قال : والعدل من لم تظهر منه ريبة وهذا قول إبراهيم النخعي وإسحاق
وجملته أن العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي : يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة فإن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة القاذف فقياس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } قيل : اللمم صغار الذنوب ولأن التحرز منها غير ممكن جاء عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما ؟ ]
أي لم يلم فإن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل وقيل اللمم يلم الذنوب ثم يعود فيه والكبائر كل معصية فيها حد والإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وشهادة الزور وعقوق الوالدين
وروى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال : ـ ألا قول الزور وقول الزور ] فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه
قال أحمد : ولا تجوز شهادة آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا تقبل شهادة من لا يؤدي زكاة ماله وإذا أخرج في الطريق المسلمين الأسطوانة والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذه من طريق المسلمين ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي صلى الله عليه و سلم رد شهادة رجل في كذبه
وقال عن الزهري وعن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في الحد ولا ذي غمر على أخيه في عداوة ولا القاطع لأهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ضنين في ولاء ولا قرابة ] وقد رواه أبو داود وفيه [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ] فأما الصغائر فإن كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من أمره الطاعات يرد لما ذكرنا من عدم إمكان التحرز منه
وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية به وذلك نوعان أحدهما : من الأفعال كالأكل في السوق يعني به الذي ينصب مائدة في السوق ثم يأكل والناس ينظرون ولا يعني به أكل الشيء اليسير كالكسرة ونحوها وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في مجمع الناس أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو جاريته أو غيرهما بحضرة الناس بالخطاب الفاحش أو يحدث الناس بمباضعته أهله ونحو هذا من الأفعال الدنيئة ففاعل هذه لا تقبل شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة فلا تحصل الثقة بقوله قال أحمد في رجل شتم بهيمة قال الصالحون : لا تقبل شهادته حتى يتوب
وقد روى أبو مسعود البدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ] يعني من لم يستح صنع ما شاء ولأن المروءة تمنع الكذب وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا دين
وقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه و سلم وصفته فقال : والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته ولم يكن يومئذ ذا دين ولأن الكذب دناءة والمروءة تمنع من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كالدين ومن فعل شيئا من هذا مختفيا به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءته لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئا قليلا لم ترد شهادته ولأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولأن المروءة لا تختل بقليل هذا ما لم يكن عادته
النوع الثاني : في الصناعات الدنيئة كالكساح والكناس لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد في سننه أن رجلا أتى ابن عمر فقال له : إني رجل كناس قال : أي شيء تكنس ؟ الزبل ؟ قال : لا قال : فالعذرة ؟ قال : نعم قال : منه كسبت المال ومنه تزوجت ومنه حججت ؟ قال : نعم قال : الأجر خبيث وما تزوجت خبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه وعن ابن عباس مثله في الكساح ولأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله فأما الزبال والقراد والحجام ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل شهادتهم لأنه دناءة يجتنبه أهل المروءات فهو كالذي قبله
والثاني : تقبل : لأن بالناس إليه حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة لم تقبل شهادته وجها واحدا وأما الحائك والدباغ فهي أعلى من هذه الصنائع فلا ترد بها الشهادة وذكرها أبو الخطاب في جملة ما فيه وجهان
وأما سائر الصناعات التي لا دناءة فيها فلا ترد الشهادة بها إلا من كان منهم يحلف كاذبا أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد وكذلك من كان منهما يؤخر الصلاة عن أوقاتها أو لا يتنزه عن النجسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته محرمة كصانع المزامير والطنابير فلا شهادة له ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتوق ذلك ردت شهادته

لعب النردشير والقمار والشطرنج والحمام يرد الشهادة
فصل : في اللعب كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا من القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما فمنه ما هو محرم ومنه ما هو مباح فأما المحرم فاللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي قال بعضهم : وهم مكروه غير محرم
ولنا ما روى أبو موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ] وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه ] رواهما أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم
إذا ثبت هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب قمارا أو غير قمار وهذا قول أبي حنيفة و مالك وظاهر مذهب الشافعي قال مالك : من لعب بالنرد فلا أرى شهادته طائلة لأن الله تعالى قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ } وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال
فصل : فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم إلا أن النرد آكد منه في التحريم لورود النص في تحريمه ولكن هذا في معناه فيثبت فيه حكمه قياسا عليه
وذكر القاضي أبو حسين ممن ذهب إلى تحريمه علي ابن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب و القاسم و سالما و عروة و محمد بن علي بن الحسين و مطر الوراق و مالكا وهو قول أبي حنيفة وذهب الشافعي إلى إباحته وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير واحتجوا بأن الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمها نص ولا هي في المعنى المنصوص عليه فتبقى على الإباحة ويفارق الشطرنج النرد من وجهين :
أحدهما : أن الشطرنج تدبير الحرب فأشبه اللعب بالحراب والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل
والثاني : أن المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه بتدبيره فأشبه المسابقة بالسهام
ولنا قول الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } قال علي رضي الله عنه : الشطرنج من الميسر ومر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ قال أحمد أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه
وروى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن شاء الله عز و جل ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين ليس لصاحب الشاه فيها نصيب ] رواه أبو بكر بإسناده ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فأشبه اللعب بالنرد
وقولهم : لا نص فيها قد ذكرنا فيها نصا وهي أيضا في المعنى النرد المنصوص على تحريمه وقولهم إن فيها تدبير الحرب قلنا : لا يقصد هذا منها وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار وقولهم : إن المعول فيها على تدبيره فهو أبلغ في اشتغاله بها وصدها عن ذكر الله والصلاة
إذا ثبت هذا فقال أحمد : النرد أشد من الشطرنج وإنما قال لورود النص في النرد والإجماع على تحريمها بخلاف الشطرنج وإذا ثبتتحريمها فقال القاضي : هوكالنرد في رد الشهادة به وهذا قول مالك و أبو حنيفة لأنه محرم مثله
وقال أبو بكر : إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها أو يخرجه إلى الحلف الكاذب ونحوه من المحرمات أو يلعب بها على الطريق أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة وهذا مذهب الشافعي وذلك لأنه مختلف فيه فأشبه سائر المختلف فيه
فصل : واللاعب بالحمام يطيرها لا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام وذلك لأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران بطيره وإشرافه على دورهم ورميه إياها بالحجارة
وقد رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يتبع حماما فقال : [ شيطان يتبع شيطانه ] وإن اتخذ الحمام لطلب فراخها أو لحمل الكتب أو للأنس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس لم ترد شهادته وقد روى عبادة بن الصامت [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فشكا إليه الوحشة فقال اتخذ زوجا من الحمام ]

المسابقة المشروعة
فصل : فأما المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات أو على الأقدام فمباحة لا دناءة فيها ولا ترد به الشهادة وقد ذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة وكذلك ما في معناه من الثقاف واللعب بالحراب [ وقد لعب الحبشة بالحراب بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وقامت عائشة خلفه تنظر إليهم وتستتر به حتى ملت ] ولأن في هذا تعلما للحرب فإنه من آلاته فأشبه المسابقة بالخيل والمناضلة وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضررا ولا شغلا عن فرض فالأصل إباحته فما كان منه فيه دناءة يترفع عنه ذوو المروءات منع الشهادة إذا فعله ظاهرا تكرر ومنه وما كان منه لا دناءة فيه لم ترد بها الشهادة بحال

فصل في الملاهي
وهي على ثلاثة أضرب : ( محرم ) وهو ضرب الأوتاد والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادة لأنه يروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا ظهرت في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء ] فذكر منها إظهار المعازف والملاهي
وقال سعيد ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام ] يعني الضاربات
وروي نافع قال : سمع ابن عمر مزمارا قال فوضع إصبعيه في أذنيه عن الطريق وقال لي : يا نافع هل تسمع شيئا ؟ قلت لا قال فرفع إصبعيه من أذنيه وقال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه الخلال في جامعه من طريقين ورواه أبو داود في سننه وقال : حديث منكر
وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا : لو كان حراما لمنع النبي ابن عمر من سماعه ومنع عمر نافعا من استماعه ولأنكر على الزامر بها قلنا : أما الأول فلا يصح لأن المحرم استماعه دون سماعها والاستماع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع ولم يوجبوا على من سمع شيئا محرما سد أذنيه وقال الله تعالى : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } ولم يقل سدوا آذانهم والمستمع هو الذي يقصد السماع ولم يوجد هذا من ابن عمر وإنما وجد منه السماع ولأن النبي في حاجة إلى معرفة انقطاع الصوت عنه لأنه عدل عن الطريق وسد أذنيه فلم يكن ليرجع إلى الطريق ولا يرفع عن أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه فأبيح للحاجة
وأما الإنكار فلعله كان في أول الهجرة حين لم يكن واجبا أو قبل إمكان الإنكار لكثرة الكفار وقلة أهل الإسلام فإن قيل : فهذا الخبر ضعيف فإن أبا داود رواه وقال : وهو حديث منكر قلنا : قد رواه الخلال بإسناد من طريقين فلعل أبا داود ضعفه لأنه لم يقع له إلا من إحدى الطريقين
وضرب مباح وهو الدف فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ] أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يروي عن عمر أنه كان إذا سمع الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد بالدرة
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن امرأة جاءته فقالت : إني نذرت إن رجعت من سفرك سالما أن أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه و سلم أوفي بنذرك ] رواه أبو داود ولو كان مكروها لم يأمرها به وإن كان منذورا
وروت الربيع بنت معوذ قالت [ دخل علي رسول الله سلى الله عليه وسلم صبيحة بنى بي فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غد فقال : دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين ] متفق عليه
وأما الضرب به للرجال فمكروه وعلى كل حال لأنه إنما كان يضرب به النساء والمخنثون المتشبهون بهن ففي ضرب الرجال تشبه بالنساء وقد لعن النبي صلى الله عليه و سلم المتشبهين من الرجال بالنساء
فأما الضرب بالقضيب فمكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص وإن خلا عن ذلك كله لم يكره لأنه ليس بآلة ولا يطرب ولا يسمع منفردا بخلاف الملاهي ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا

حكم الغناء
فصل : واختلف أصحابنا في الغناء فذهب أبو بكر الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته : قال أبو بكر عبد العزيز : والغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن وكان الخلال يحمل الكراهية عن أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه
وروي عن أحمد أنه سمع عند ابنه صالح قوالا فلم ينكر عليه وقال له صالح : يا أبه أليس كنت تكره هذا ؟ فقال إنه قيل لي إنهم يستعملون المنكر وممن ذهب إلى إباحته من غير الكراهية سعد بن إبراهيم وكثير من أهل المدينة والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت [ كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال : مزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعهما فإنها أيام عيد ] متفق عليه
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغناء زاد الراكب واختار القاضي أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي قال : هو من اللهو المكروه وقال أحمد : الغناء ينبت النفاق في القلب ولا يعجبني
وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه قال أحمد في من مات وخلف ولدا يتيما وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها : تباع ساذجة قيل له : أنها تساوي مغنية ثلاثين ألفا وتساوي ساذجة عشرين دينارا قال لا تباع إلا على أنها ساذجة واحتجوا على تحريمه بما روي عن أبي حنيفة في قوله تعالى { واجتنبوا قول الزور } قال : الغناء وقال ابن عباس وابن مسعود في قوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال : هو الغناء
وعن أبي أمامة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام ] أخرجه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم فيه أهل العلم وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ الغناء ينبت النفاق في القلب ] والصحيح أنه من قول ابن مسعود وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى له ويأتي له أو اتخذ غلاما أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه مع سفهه عاص مصر متظاهر بفسوقه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء وإنما يترنم لنفسه ولا يغني الناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا الخلاف فيه فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته ومن حرمه قال إن داوم عليه ردت شهادته كسائر الصغائر وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته وإن فعله من يعتقد حله فقياس المذهب إنه لا ترد شهادته بما لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع ومن كان يغشى بيوت الغناء أو يغشاه المغنون للسماع متظاهرا بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعا لأنه سفه ودناءة وإن كان معتبرا به كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل فيه

حكم الحداء والشعر
فصل : وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه : لما [ روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه و سلم لابن رواحة : حرك القوم فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأنجشة رويدك رفقا بالقوارير ] يعني النساء وكذلك نشيد الأعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء مضموم ممدود كالدعاء و الرعاء ويجوز الكسر كالنداء والهجاء والغذاء
فصل : والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبحه كقبحه : وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن من الشعر لحكما ] وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه فيهجو من هجا الرسول صلى الله عليه و سلم والمسلمين وأنشده كعب بن زهير في قصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول في المسجد وقال له عمه العباس : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال : قل لا يفضض الله فاك فأنشده :
( من قبلها طبت في الظلال ... وفي مستودع حيث يخصف الورق )
وقال عمرو بن الشريد [ أردفني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أمعك من شعر بني أمية ؟ قلت : نعم فأنشدته بيتا فقال : هيه فأنشدته بيتا فقال : هيه حتى أنشدته مائة قافية ] و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين :
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ) ]
وقد اختلف في هذا فقيل : ليس شعرا وإنما كلام موزون وقيل : بل هو شعر ولكنه بيت واحد قصير فهو كالنثر ويروي أبا الدرداء قيل له : ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال الشعر قال : وأنا قد قلت :
( يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا )
( يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا )
وليس في إباحة الشعر خلاف وقد قال الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية والاستشهاد به في التفسير وتعرف معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم ويستدل به أيضا على النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال : الشعر ديوان العرب فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا ] رواه أبو داود و أبو عبيد وقال معنى يريه : يأكل جوفه يقال : ورواه يريه قال الشاعر :
( وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا )
قلنا : أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب وبدليل وصفه لهم بقوله : { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ثم استثنى المؤمنين فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء الأبرياء سيما من كان في ابتداء الإسلام ممن يهجو المسلمين ويهجو النبي صلى الله عليه و سلم ويعيب على الإسلام ويمدح الكفار فوقع الذم على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على إباحته ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة
وأما الخبر فقال أبو عبيد : معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل : المراد به ما كان كالهجاء وفحشا فما كان الشعر يتضمن هجوه المسلمين والقدح في أعراضهم أو التشبيب بامرأة بعينها والإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنه محرم وهذا إن أريد به أنه محرم على قائلة فهو صحيح وأما على راوية فلا يصح فإن المغازي تروى فيها قصائد الكفار الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينكر ذلك أحد
وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبيب بعمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة وأم النعمان بن بشير
وقد سمع النبي صلى الله عليه و سلم قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبيب بسعاد ولم يزل الناس يرون أمثال هذا ولا ينكر وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الحطيم فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه فقال النعمان : دعوه فإنه لم يقل بأسا إنما قال :
( وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها )
وكان عمران بن طلحة في مجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه من أجله فقال : دعوه فإن قائل هذا الشعر كان زوجها
فأما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل : أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض أظنه ابن أبي ليلى فخاف أن يرد شهادته فقال :
( إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن يحثوا عني ففيهم مباحث )
فقال القاضي : ومن يبحثك يا أبا دلامة وغرم المال من عنده ولم يظهر أنه رد شهادته

قراءة القرآن بالألحان
أما قراءته من غير تلحين فلا بأس به وإن حسن صوته فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ زينوا أصواتكم بالقرآن ] وروي [ زينوا القرآن بأصواتكم ] وقال : [ لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود ]
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي موسى : [ لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ ولقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فقال أبو موسى : لو أعلم أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ]
وروي [ أن عائشة رضي الله عنها أبطأت على النبي صلى الله عليه و سلم ليلة فقال : أين كنت يا عائشة ؟ قالت : يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع أحدا يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه و سلم فاستمع قراءته ثم قال : هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا ] وقال صالح : قلت لأبي زينوا أصواتكم في القرآن ما معناه ؟ فقال : أن يحسنه وقيل له : ما معنى [ من لم يتغنى بالقرآن ] قال : يرفع صوته به وهكذا قال الشافعي وقال الليث يتحزن به ويتخشع به ويتباكى به وقال ابن عيينة وعمرو بن الحارث ووكيع : يستغني به
فأما القراءة بالتلحين فينظر فيه فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات فلا بأس به فإن النبي سلى الله عليه وسلم قد قرأ ورجع ورفع صوته قال الراوي : لولا يجتمع الناس علي لحكيت لكم قراءته وقال عليه السلام [ ليس منا من لم يتغن في القرآن ] وقال : [ ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ] ومعنى أذن استمع قال الشاعر : في سماع يأذن الشيخ له
وقال القاضي : وهو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال : معنى قوله [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] أي يستغني به قال الشاعر :
( وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ كثير التغني )
قال : ولو كان من الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن ليس من النبي صلى الله عليه و سلم وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة وقال القاضي أحمد بن محمد البرني : هذا قول من أدركنا من أهل العلم وقال الوليد بن مسلم : يتغنى بالقرآن يجهر به وقيل : يحسن صوته به
والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به لأنه لو كان مكروها لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم ولا يصح حمله على التغني في حديث [ ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن ] على الاستغناء لأن معنى أذن استمع وإنما تستمع القراءة ثم قال : يجهر به والجهر صفة القراءة لا صفة الاستغناء فأما إن أفرط في المد والتمطيط وإشباع الحركات بحيث يجعل الضمة واوا والفتحة ألفا والكسرة ياء كره ذلك ومن أصحابنا من حرمه لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن ضمها ويجعل الحركات حروفا
وقد روينا عن أبي عبد الله أن رجلا سأله عن ذلك فقال : ما اسمك ؟ قال محمد قال : أيسرك أن يقال لك : يا مو حامد ؟ قال لا فقال : لا يعجبني أن يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى فقال له رجل : فيكلمون فقال : لا كل ذا واتفق العلماء على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين وروى بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اقرؤوا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن ] وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله قال لرجل : لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه وقال زهير بن حرب : كنا عند يحيى القطان فجاء محمد بن سعيد الترمذي فقال له يحيى : اقرأ فقرأ فغشي على يحيى حتى حمل فأدخل وقال محمد بن صالح العدوي : قرأت عند يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه حتى فاته خمس صلوات

لا تقبل شهادة الطفيلي ومن سأله من غير أن تحل له المسأله
فصل : ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من أتى إلى طعام لم يدع إليه دخل سارقا وخرج معيرا ] ولأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر منه لم ترد شهادته لأنه من الصغائر
فصل : ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل محرما وأكل سحتا وأتى دناءة وقد روى قبيصة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسالة حتى يصيب قواما من عيش ـ أوـ سداد من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو ـ سدادا من عيش ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك فما سوى ذلك من المسالة فهو سحت يأكله صاحبه سحتا يوم القيامة ] رواه مسلم
وأما السائل ممن تباح له المسألة فلا ترد شهادته بذلك إلا أن يكون أكثر عمره سائلا أو يكثر ذلك منه فينبغي أن ترد شهادته لأن ذلك دناءة وسقوط مروءة ومن أخذ من الصدقة ممن يجوز له الأخذ من غير مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وإن أخذ منها لا يجوز له وتكرر ذلك منه ردت شهادته لأنه مصر على الحرام

من فعل شيئا من الفروع مختلفا فيه لم ترد شهادته
فصل : ومن فعل شيئا من الفروع مختلفا فيه معتقدا إباحته لم ترد شهادته كالمتزوج بغير ولي أو بغير شهود وأكل متروك التسمية وشارب يسير النبيذ نص عليه أحمد في شارب النبيذ يحد ولا ترد شهادته وبهذا قال الشافعي وقال مالك : ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه فأشبه المتفق على تحريمه
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا يفسقه ولأنه نوع مختلف فيه فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم وإن فعل ذلك معتقدا تحريمه ردت شهادته به إذا تكرر وقال أصحاب الشافعي : لا ترد شهادته به لأنه فعل لا ترد به شهادة بعض الناس فلا ترد به الشهادة البعض الآخر كالمتفق على حله
ولنا أنه فعل يحرم على فاعله ويأثم به فأشبه المجمع على تحريمه وبهذا فارق معتقد حله وقد روي عن أحمد فيمن يجب عليه الحج ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه على الفور فأما من يعتقد أنه على التراخي ويتركه بنية فعله فلا ترد شهادته كسائر ما ذكرنا ويحتمل أن ترد شهادته مطلقا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من قدر على الحج فلم يحج فيمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ] وقال عمر : لقد هممت أن أنظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج ضربت عليه الجزية ثم قال : ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين

تجوز شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر ولا تجوز في غير ذلك
مسألة : قال : وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم
وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهما إذا لم يوجد غيرهما ويستحقان بعد العصر ما خانا ولا كتما ولا اشتريا به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين
قال ابن المنذر : وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة وممن قاله شريح و النخعي و الأوزاعي و يحيى بن حمزة وقضى بذلك ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما
وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا تقبل لأن من تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل في الوصية كالفاسق ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى واختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء ومنهم قال : المراد بقوله من غيركم أي من غير عشيرتكم ومنهم من قال : الشهادة في الآية اليمين
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } هذا نص الكتاب وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه [ فروى ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم ] فنزلت فيهم { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية
وعن الشعبي أن رجلا من للمسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال : الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما رواهما أبو داود في سننه
وروى الخلال حديث أبي موسى بإسناده : وحمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم لا يصح لأن الآية نزلت في قضية عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وقد فسرها بما قلنا سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعبيده وسعيد بن جبير والشعبي وسلمان التيمي وغيرهم ودلت عليه الأحاديث التي رويناه و لأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الأيمان لأن الشاهدين من المسلمين لا قسامة عليهم وحملها على التحمل لا يصح لأنه أمر بأحلافهم ولا أيمان في التحمل وحملها على اليمين لا يصح لقوله { فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } الآية ولأنه عطفها على ذوي العدل من المؤمنين وهما شاهدان
وروى أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان قال أحمد : أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى من أين يعرفونه ؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وقضاء الصحابة به وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه
مسألة : قال : ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك
مذهب أبي عبد الله أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شيء على مسلم ولا كافر غير ما ذكرنا رواه عنه نحو عشرين نفسا وممن قال لا تقبل شهادتهم الحسن و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبو ثور ونقل حنبل عن أحمد أن شهادة بعضهم على بعض لم تقبل وخطأه الخلال في نقله هذا وكذلك صاحبه أبو بكر قال : هذا لا شك فيه وقال ابن حامد : المسألة على روايتين وقال أبو حفص البرمكي : تقبل شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب إذا ادعى أحدهما أن الآخر أخوه والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن شهادة بعض على بعض تقبل ثم اختلفوا فمنهم من قال : الكفر كله ملة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على النصراني وشهادة النصراني على اليهودي هذا قول حماد و سوار و الثوري و البتي و أبي حنيفة وأصحابه وعن قتادة و الحكم و أبي عبيد و إسحاق : تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني ولا نصراني على يهودي وروي عن الزهري و الشعبي كقولنا وكقولهم واحتجوا بما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم [ أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ] ورواه ابن ماجة ولأن بعضهم يلي بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين
ولنا قول الله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } والكافر ليس بذي عدل ولا هو منا ولا من رجالنا ولا ممن ترضاه ولأنه لا تقبل شهادته على غير أهل دينه فلا تقبل على أهل دينه كالحربي والخبر يرويه مجالد وهو ضعيف وإن ثبت فيحتمل أنه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة قال الله تعالى في اللعان { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } وأما الولاية فمتعلقها القرابة والشفقة وقرابتهم ثابتة وشفقتهم كشفقة المسلمين وجازت لموضع الحاجة فإن غير أهل دينهم لا يلي عليهم والحاكم يتعذر عليه ذلك لكثرتهم بخلاف الشهادة فإنها ممكنة من المسلمين وقد روي عن معاذ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يقبل شهادة أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم ]

لا تقبل شهادة خصم جار إلى نفسه ولا دافع عنها
مسألة قال : ولا تقبل شهادة خصم ولا جار إلى نفسه ولا دافع عنها
أما الخصم فهو نوعان أحدهما : كل خصم في حق لا تقبل شهادته فيه كالوكيل لا تقبل شهادته فيما هو وكيل فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه والشريك فيما هو شريك فيه ولا المضارب بمال أو حق للمضاربة ولو غصب الوديعة من المودع وطالب بها لم تقبل شهادته فيها وكذلك ما أشبه هذا لأنه خصم فيه فلم تقبل شهادته به كالمالك والثاني : العدو فشهادته غير مقبولة على عدوه في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن ربيعه و الثوري و إسحاق و مالك و الشافعي ويريد بالعداوة ههنا العداوة الدنيوية مثل أن يشهد المقذوف على القاذف والمقطوع عليه على القاطع والمقتول وليه القاتل والمجروح على الجارح والزوج يشهد على امرأته بالزنا فلا تقبل شهادته لأنه يقر بنفسه على عدواته لها لإفسادها فراشه
فأما العداوة في الدين كالمسلم يشهد على الكافر أو الحق من أهل السنة يشهد على مبتدع فلا ترد شهادته لأنه العدالة في الدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور دينه وقال أبو حنيفة : لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل العدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة
ولنا ما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ] رواه أبو داود الغمر الحقد ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور تقع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا فإن قيل : فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة ؟ قلنا : العداوة هاهنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا أن يترك دينه بموجب دينه

حكم ما لو شهد بحق فقذفه المشهود عليه
فصل : فإن شهد على رجل بحق فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لأننا لو أبطلنا شهادته بهذا لتمكن كل المشهود عليه من إبطال شهادة الشاهد بأن يقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يقضي إلى ذلك بل إلى عكسه ولأن طريان الفسق يورث تهمة في حال أداء الشهادة لأن العادة إسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره حاله أدائها وههنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه وأما المحاكمة في الأموال فليست بعداوة تمنع الشهادة في غير ما حاكم فيه
وأما قوله ولا جار إلى نفسه فإن الجار إلى نفسه هو الذي ينتفع بشهادته ويجر إليه بها نفعا كشهادة الغرماء للمفلس بدين أو عين وشهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو ثبت للمفلس أو الميت دين أو مال تعلقت حقوقهم به ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم لا يتعلق في ماله وإنما يتعلق بذمته
فإن قيل : إذا كان معسرا سقطت عنه المطالبة فإذا شهدا له بمال ملكا مطالبته فجروا إلى أنفسهم نفعا قلنا : لم تثبت المطالبة بشهادتهم إنما تثبت بيساره وإقراره لدعواه الحق الذين شهدوا به ولا تقبل شهادة الوارث للموروث بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم بشهادتهم ولا شهادة الشفيع ببيع شقص له فيه الشفعة ولا شهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة ولا لمكاتبه قال القاضي : ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره وقال : نص عليه أحمد
فإن قيل : فلم قبلتم الشهادة الوارث لموروثه مع أنه مات فقد جر إلى نفسه شهادة نفعا قلنا : لا حق له في المال حين الشهادة وإنما يحتمل أن يتجدد له حق وهذا لا يمنع لقبول الشهادة كما لو شهد لامرأة يحتمل أن يتزوجها أو لغريم له بمال يحتمل أنه يوفيه منه أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع يحصل للشاهد به نفع حال الشهادة
فإن قيل : فقد منعتم قبول شهادته لموروثة بالجرح قبل الاندمال لجواز أن يتجدد له الحق وإن لم يكن له حق في الحال فإن قلتم : قد انعقد سبب حقه قلنا : يبطل بالشاهد لموروثة المريض بحق فإن الشهادة تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته له لا تنفذ وعطيته لغيره تقف على الخروج من الثلث قلنا إنما منعنا الشهادة لموروثة بالجرح لأنه ربما أفضى بالموت فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء فيكون شاهدا لنفسه موجبا له بها حقا ابتداء بخلاف الشاهد للمريض أو المجروح بمال فإنه إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه فإن قيل : فقد أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله
قلنا : إنما أجزناها لأن الدية ابتداء لا تجب للشاهد إنما تجب للقتيل أو لورثته ثم يستوفي الغريم منها فأشبهت الشهادة له بالمال
وأما الدافع عن نفسه فمثل أن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود أو تشهد عاقلة القاتل خطأ بجرح الشهود الذين شهدوا به لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم فإن كان الشاهدان بالجرح فقيرين احتمل قبول شهادتهما لأنهما لا يحملان شيئا من الدية واحتمل أن لا تقبل لأنه يخاف أن يوسرا قبل الحول فيحملا وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده فإنه لا يأمن أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق أو الإبراء منه ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر بإسقاط شفعته لأنه يوفر الحق على نفسه ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعضهم البعض بإسقاط دينه أو استيفائه ولا بعض من أوصى له بمال على آخر بما يبطل وصيته إذا كانت وصيته تحصل بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من نفع نفسه ودفع الضرر عنها فيكون شاهدا لنفسه
وقد قال الزهري : مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة الخصم ولا ظنين والظنين المتهم وروى طلحة بن عبد الله بم عوف قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا شهادة لخصم ولا ظنين ] ممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح و النخعي و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا

تقبل شهادة الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه
فصل : وإن شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه الوكيل لموكله في غير ما هو وكيل فيه أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد أن أسقط شفعته على الآخر بإسقاط شفعته أو أحد الموصيين بعد سقوط وصيته على الآخر بما يسقط وصيته أو كانت إحدى الوصيتين لا تزاحم ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لأن المقتضي لقبول الشهادة متحقق والمانع منتف فوجب قبولها عملا بالمقتضى

لا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة
مسألة : قال : ولا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة
وجملته أنه يعتبر في الشاهد أن يكون موثوقا بقوله لتحصل غلبة الظن بصدقه ولذلك اعتبرنا العدالة ومن يكثر غلطه وتغفله لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من استشهد عليه أو لغير من شهد له أو بغير ما استشهد به وإذا كان مغفلا فربما استزله الخصم بغير شهادته فلا تحصل الثقة بقوله ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر أو غفلة نادرة لأن أحدا لا يسلم من ذلك فلو منع ذلك من الشهادة لانسد بابها فاعتبرنا الكثرة في المنع كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الإخلال بالعدالة

تجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
مسألة : قال : وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
روي هذا عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين و عطاء و الشعبي و الزهري و مالك و ابن أبي ليلى و إسحاق و ابن المنذر
وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا تقبل شهادته وروي ذلك عن النخعي و أبي هاشم واختلف عن الحسن و إياس و ابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة وإذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ولم يجزها في غير ذلك لأن من لا تجوز شهادته على الأفعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ولأن الأصوات تتشبه فلا يحصل اليقين فلن تجز أن يشهد بها كالخط
ولنا قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وسائر الآيات في الشهادة ولأنه رجل عدل مقبول الرواية فقبلت شهادته كالبصير وفارق الصبي فإنه ليس برجل ولا عدل ولا مقبول الرواية ولأن السمع أحد الحواس التي تحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه من ألفه الأعمى وكثرت صحبته له وعرف صوته يقينا فيجب أن تقبل شهادته فيما تيقنه كالبصير ولا سبيل إلى إنكار حصول اليقين في بعض الأحوال
قال قتادة : للسمع قيافة كقيافة البصر ولهذا قال أصحاب الشافعي : تقبل شهادته فيما يثبت بالاستفاضة ولا يثبت عندهم حتى يسمعها من عدلين ولا بد أن يعرف عدالتهما فإذا صح أن يعرف الشاهدين صح أن يعرف المقر ولا خلاف في قبول روايته وجواز استماعه من زوجته إذا عرف صوتها وصحة قبوله النكاح وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور ويفارق الأفعال فإن مدركها الرؤية وهي غير ممكنة من الأعمى والأقوال مدركها السمع وهو يشارك البصير فيه وربما زاد عليه ويفارق الخط فإنه لو تيقن من كتب الخط أو رآه وهو يكتبه لم يجز أن يشهد بما كتب فيه إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز أن يشهد إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقينا فإن جواز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه

حكم ما لو تحمل الشهادة ثم عمي
فصل : فإن تحمل الشهادة على فعل ثم عمي جاز أن يشهد به إذا عرف عليه باسمه ونسبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجوز أصلا أن يكون حاكما
ولنا ما تقدم به ولأن العمى فقد حاسة لا تخل بالتكلف فلم يمنع قبول الشهادة كالصمم ويفارق الحكم فإنه يعتبر له من شروط الكمال وما لا يعتبر للشهادة و لذلك يعتبر له السمع والاجتهاد وغيرهما فإن لم يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه لكن تيقن صوته لكثرة إلفه له صح أن يشهد به أيضا لما ذكرنا في أول المسألة
وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قبل الحكم بشهادته جاز الحكم بها وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا يجوز الحكم بها لأنه معنى يمنع قبول الشهادة مع صحة النطق فمنع الحكم كالفسق
ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء الشهادة لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق الفسق فإنه يورث تهمة حال الشهادة

لا تجوز شهادة الأخرس بحال
فصل : ولا تجوز شهادة الأخرس بحال نص عليه أحمد رضي الله عنه فقال : لا تجوز شهادة الأخرس قيل له : وإن كتبها ؟ قال : لا أدري وهذا قول أصحاب الرأي وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر : تقبل إذا فهمت إشارته لأنها تقوم مقام نطقه في أحكامه من طلاقه ونكاحه و ظهاره و إيلائه فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر [ بأن النبي صلى الله عليه و سلم أشار وهو جالس في الصلاة إلى الناس وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا ]
ولنا أنها شهادة بالإشارة فلم تجز كإشارة الناطق يحققه أن الشهادة يعتبر فيها اليقين ولذلك لا يكتفي بإيمان الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفى بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة ههنا ولهذا لم يجزأن يكون حاكما لأن الحاكم لا يمضي حكمه إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه ولم يذكر حكمه والشاهد لا يشهد برؤية خطه فلأن لا يحكم بخط غيره أولى
وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان قادرا على الكلام وعمل بإشارته في الصلاة ولو شهد الناطق بالإيمان والإشارة لم يصح إجماعا فعلم أن الشهادة مفارقة لغيرها من الأحكام

لا تجوز شهادة الوالدين للولد وإن علوا ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا
مسألة : قال : ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا
ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل ولا لولد ولده وإن سفل وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا لوالدته ولا جده ولا جدته من قبل أبيه وأمه وإن علوا وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآبائهم وأمهاتهم وبه قال شريح و الحسن و الشعبي و النخعي و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد وأصحاب الرأي
وروي عن أحمد رحمه الله رواية ثانية تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له لأن مال الابن في حكم مال الأب له أن يمتلكه إذا شاء فشهادته له شهادة لنفسه أو يجر بها لنفسه نفعا قال النبي صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] وقال : [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم ] لا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه في ما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة بحقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة
وروي ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز و أبو ثور المزني و إسحاق و ابن المنذر لعموم الآيات ولأنه تقبل شهادته في غير هذا فتقبل شهادته فيه كالأجنبي
ولنا ما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء ] و الظنين المتهم والأب يتهم لولده لأن ماله كماله بما ذكرنا ولأن بينهما بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه السلام : [ فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ] ولأنه متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه والخبر أخص في الآيات فتخص به

حكم شهادة أحد الوالدين على الآخر
فصل : فأما شهادة أحدهما على صاحبه فتقبل نص عليه أحمد وهذا قول عامة أهل العلم ولم أجد عن أحمد في الجامع فيه خلافا وذلك لقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فأمر بالشهادة عليهم ولو لم تقبل لما أمر بها ولأنها إنما ردت للتهمة في إيصال النفع ولا تهمة في شهادته عليه فوجب أنه تقبل كشهادة الأجنبي بل أولى فإن شهادته لنفسه لما ردت للتهمة في إيصال النفع إلى نفسه كان إقراره عليه مقبولا وحكي القاضي في المجرد رواية أخرى أن شهادة أحدهما لا تقبل على صاحبه لأن شهادته له غير مقبولة فلا تقبل عليه كالفاسق
وقال بعض الشافعية : لا تقبل شهادة الابن في قصاص ولا حد قذف لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد بقذفه فلا يلزمه ذلك والمذهب الأول لما ذكرنا ولأنه يتهم له ولا يتهم عليه فشهادته عليه أبلغ في الصدق كإقراره على نفسه

إذا شهد اثنان بطلاق ضرة أمهما قبلت شهادتهما
فصل : وإن شهد اثنان بطلاق ضرة أمهما وقذف زوجها لها قبلت شهادتهما لأن حق أمهما لا يزداد به سواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبيا وتوفير الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول شهادة الوارث لموروثه

تجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه منها وسائر أقاربه منها
فصل : وتجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه منها وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه وتبسطه في ماله بخلاف قرابة النسب

لا تجوز شهادة العبد لسيده ولا السيد لعبده
مسألة : قال : ولا السيد لعبده ولا العبد لسيده
أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من باع عبدا وله ماله فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] ولا نعلم في هذا خلافا ولا تقبل شهادته أيضا له بنكاح ولا لأمته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصها له وإباحة بضعها له وفي نكاح العبد نفع له ونفع مال الإنسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في مال سيده وينتفع به ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه

لا تجوز شهادة الزوج لامرأته ولا المرأة لزوجها
مسألة قال ولا الزوج لامرأته ولا المرأة لزوجها
وبهذا قال الشافعي و النخعي و مالك و إسحاق و أبو حنيفة وأجاز شهادة كل واحد منهما لصاحبه شريح و الحسن و الشافعي و أبو ثور لأنه عقد على منفعة فلا يمنع قبول الشهادة كالإجارة وعن أحمد رواية أخرى كقولهم وقال الثوري و ابن إسحاق و ابن أبي ليلى : تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه ولا تقبل شهادتها له لأن يساره وزيادة حقها في النفقة تحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك
ولنا أن كل واحد منهما يرث الآخر من غير حجب ويتبسط في ماله عادة فلم تقبل شهادته له كالابن مع أبيه ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته ويسار المرأة تزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما ينتفع بشهادته لصاحبه فلم تقبل كشهادته لنفسه ويحقق هذا أن مال كل واحد منهما يضاف إلى مال الآخر قال الله تعالى : { وقرن في بيوتكن } وقال { لا تدخلوا بيوت النبي } فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه و سلم أخرى وقال { لا تخرجوهن من بيوتهن } وقال عمر للذي قال له إن غلامي سرق مرآة امرأتي : لا قطع عليه عبدكم سرق مالكم ويفارق عقد الإجارة من هذه الوجوه كلها

وتجوز شهادة الأخ لأخيه كما تجوز شهادة العم والخال وسائر الأقارب
مسألة : قال : وشهادة الأخ لأخيه جائزة
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم أن شهادة الأخ لأخيه جائزة وروى هذا ابن الزبير وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز و الشعبي و النخعي و الثوري و مالك و الشافعي و أبو عبيد و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي
وحكي عن ابن المنذر عن الثوري أنه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم وعن مالك أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه وقال ابن المنذر : قال مالك : لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق
ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد والولد لأن بينهما بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ
فصل : وشهادة العم وابنه والخال وابنه وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا أجيزت مع قربه كان تنبيها على شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى
فصل : وتقبل شهادة أحد الصديقين لصاحبه في قول عامه العلماء إلا مالكا قال : لا تقبل شهادة الصديق والملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعا بها فهو متهم فلم تقبل شهادته كشهادة العدو على عدوه
ولنا عموم أدله الشهادة وما قاله يبطل شهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعا أعظم مما يرجى ههنا ين الصديقين فأما العداوة فسببها محظور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالفت الصداقة

تجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء
مسألة : قال : وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود والقصاص فالمذهب أنها مقبولة روي ذلك عن علي و أنس رضي الله عنهما قال أنس : ما علمت أن أحدا رد شهادة العبد وبه قال عروة و شريح و إياس و ابن سيرين و البتي و أبو ثور و داود و ابن المنذر وقال عطاء و مجاهد و الحسن و مالك و الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و أبو عبيد : لا تقبل شهادته لأنه غير ذي مروءة ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث وقال الشعبي و النخعي و الحكم : تقبل في الشيء اليسير
ولنا عموم آيات الشهادة وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية وروى عقبه بن الحارث قال : [ تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه و [ في رواية أبي داود فقلت : يا رسول الله إنها لكاذبة قال : وما يدريك وقد قالت ما قالت دعها عنك ] ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر ولا نسلم أنه غير ذي مروءة فإنه كالحر ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له وقد يكون منهم الأمراء والعلماء والصالحون والأتقياء
سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد فقال : أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب وكان منهم زياد ابن أبي زياد مولى ابن عباس من العلماء الزهاد وكان عمر بن عبد العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة مولى ابن عباس أحد العلماء الثقات وكثير من العلماء الموالي كانوا عبيدا أو أبناء عبيد لم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية والحرية لا تغير طبعا ولا تحدث علما ولا مروءة ولا يقبل منهم إلا من كان ذا مروءة ولا يصح قياس الشهادة على الميراث فإن الميراث خلافة للموروث في ماله وحقوقه والعبد لا تمكنه الخلافة لأن ما يصير إليه يملكه فلا يمكن أن يختلف فيه ولأن الميراث يقتضي التملك والعبد لا يملك ومبني الشهادة على العدالة التي هي مظنة وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك فوجب أن تقبل شهادته
الفصل الثاني : أن شهادته لا تقبل في الحد وفي القصاص احتمالان : أحدهما : تقبل شهادته فيه لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار به فأشبه الأموال والثاني : لا تقبل لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات الحد وذكر الشريف و الخطاب في العقوبات كلها من الحدود والقصاص روايتين : إحداهما : تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها كالحر والثانية : لا تقبل وهو ظاهر المذهب لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يدرأ بالشبهات ولأنه ناقص الحال فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة
الفصل الثالث : شهادة الأمة جائزة فيما تجوز فيه شهادة النساء لأن النساء لا تقبل شهادتهن في الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو سببه والأمة كالحرة فيما عداهما فساوتهن في الشهادة وقد دل عليه حديث عقبة بن الحارث
فصل : وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تجوز شهادة المكاتب وبه قال عطاء و الشعبي و النخعي
ولنا ما ذكرناه في العبد إذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى لأنهم أكمل منه لوجود أسباب الحرية فيهم

شهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره
مسألة : قال وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و الحسن و الشعبي و الزهري و إسحاق و أبو عبيد و أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك و الليث لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنه متهم فإن العادة في من فعل قبيحا أنه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال : ودت الزانية أن النساء كلهن زنين
ولنا عموم الآيات وأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فقبل في الزنا كغيره ومن قبلت شهادته في القتل قبلت في الزنا كولد الرشدة قال ابن المنذر وما احتجوا به غلط من وجوه : أحدها : أن ولد الزنا لم يفعل فعلا قبيحا يجب أن يكون له نظراء فيه والثاني أنني لا أعلم ما ذكر عن عثمان ثابتا عنه وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتا عنه وغير جائز أن يطلق عثمان كلاما بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره الثالث : أن الزاني لو تاب لقبلت شهادته وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته مع ما ذكروه فغيره أولى فأنه لا يجوز أن يلزم ولده من وزره أكثر مما لازمه وما يتعدى الحكم إلى غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شيء من وزره لقول الله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وولد الزنا لم يفعل شيئا يستوجب به حكما

إذا تاب القاذف قبلت شهادته وتوبته إن يكذب نفسه
مسألة : قال : وإذا تاب القاذف قبلت شهادته
جملته أن القاذف إن كان زوجا فحقق بينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو بإقرار المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة وإن لم يحقق قذفه بشيء من ذلك المتعلق به وجب الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقول الله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } فإن تاب لم يسقط عنه الحد وزال الفسق بلا خوف وتقبل شهادته عندنا وروي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وابن عباس وبه قال عطاء و طاووس و مجاهد و الشعبي و الزهري و عبد الله بن عتبة و جعفر بن أبي ثابت و أبو الزناد و مالك و الشافعي و البتي و إسحاق و أبو عبيد و ابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحي بن سعيد وربيعه وقال ضريح و الحسن و النخعي و سعيد بن جبير و الثوري و أصحاب الرأي : لا تقبل شهادته إذا جلد وإن تاب وعن أبي حنيفة ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب فالخلاف معه في فصلين :
أحدهما : أنه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة و مالك لا تسقط إلا بالجلد
والثاني : أنه إذا تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند أبي حنيفة لا تقبل وتعلق بقول الله تعالى : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } وروي ابن ماجة بإسناده عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ] واحتج في الفصل الآخر بأن القذف قبل حصول الجلد يجوز أن تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق
ولنا في الفصل الأول إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي بكر حين يشهد على المغيرة بن شعبة : تب أقبل شهادتك ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا قال سعيد ابن المسيب : شهد على المغيرة ثلاثة رجال : أبو بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم وتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تائب من ذنبه فقبلت شهادته كالتائب من الزنا يحققه أن الزنا أعظم من القذف به وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب إذا تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى و أما الآية فهي حجة لنا فأنه استثنى التائبين بقوله تعالى : { إلا الذين تابوا } والاستثناء من النفي إثبات فيكون تقديره { إلا الذين تابوا } فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين فإن قالوا : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل أنه لا يعود إلى الجلد قلنا : بل يعود إليه أيضا لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الوحدة فيعود الاستثناء إلى جميعها إلا ما منع منه مانع ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعا ولأن الاستثناء يغاير ما قبله فعاد إلى الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال : امرأته طالق وعبده حر إن لم يقم عاد الشرط إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى رد الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون هو الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود أولى من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه حجاج بن أرطاة وهو ضعيف قال ابن عبد البر : لم يرفعه من روايته حجة وقد روي من غير طريقه ولم تذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من غلطة ويدل على خطئه قبول شهادة كل محدود في غير القذف بعد توبته ثم لو قدر صحته المراد به من لم يتب بدليل كل محدود تائب سوى هذا
وأما الفصل الثاني : فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء : إيجاب الجلد ورد الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة لرد الشهادة والحد كفارة وتطهير فلا يجوز تعليق رد الشهادة به وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعا به وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر وقولهم : إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقيق القذف وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقيق سببه ويصير متحققا بعده ؟ هذا باطل
فصل : والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل البينة تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي أن شهادته لا ترد
ولنا أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له : تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافا في قبول رواية أبي بكرة و مع رد عمر شهادته
مسألة : قال : وتوبته أن يكذب نفسه
ظاهر كلام أحمد الخرقي أن توبة القاذف إكذاب نفسه فيقول : كنت : كذبت فيما قلت وهذا منصوص الشافعي واختيار الاصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر : ومن قال هذا سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و الشعبي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب [ عن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } قال توبته إكذاب نفسه ] ولأن عرض المقذوف تلوث بقذفه فإكذابه نفسه يزيل التلوث فتكون التوبة به وذكر القاضي أن القذف إن كان سبا فالتوبة منه إكذاب نفسه وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول القذف حرام باطل ولن أعود إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال : وهو المذهب لأنه قد يكون صادقا فلا يؤمر بالكذب والخبر محمول على الإقرار بالبطلان لأنه نوع إكذاب
والأولى أنه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله وتحريمه وأنه لا يعود وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه سواء كان القذف بشهادة أو سب لأنه قد يكون كاذبا في الشهادة صادقا في السب
ووجه الأول أن الله تعالى سمى القاذف كاذبا إذا لم يأت بأربعة شهداء على الإطلاق بقوله سبحانه { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله وإن كان في نفس الأمر صادقا
فصل : وكل ذنب تلزم فاعله التوبة منه متى تاب منه قبل الله توبته بدليل قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } الآية وقال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من تاب من الذنب كمن لا ذنب له ] وقال عمر رضي الله عنه : بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك فيه ما فات ويحيى فيه ما أمات ويبدل الله سيئاته حسنات
والتوبة على ضربين : باطنه وحكميه فأما الباطنة فهي بين العبد وربه تعالى فإن كانت المعصية لا توجب حقا عليه في الحكم كقبلة أجنبية أو الخلوة بها وشرب مسكر أو كذب فالتوبة منه ندم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ الندم توبة ] وقيل : التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء الندم في القلب والاستغفار باللسان وإضمار أن لا يعود ومجانبة خلطاء السوء وإن كانت توجب عليه حقا لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والغصب فالتوبة منه بما ذكرنا وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو مثله إن كان مثليا وإلا قيمته وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه فإن كان عليه فيها حق البدن فإن كان حقا لآدمي كالقصاص وحد القذف اشترط في التوبة التمكين من نفسه وبذلها للمستحق وإن كان حقا لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته أيضا بالندم والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به فإن كان لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه والتوبة فيما بينه وبين الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى فإنه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد ] فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أن الأولى الإقرار به ليقام عليه الحد لأنه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحد عليه والصحيح أن ترك الإقرار أولى لأن النبي صلى الله عليه و سلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن الإقرار فعرض لماعز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع مع اشتهاره عنه بإقراره وكره الإقرار حتى أنه قيل : لما قطع السارق : كأنما أسف وجهه رمادا ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار [ وقال لهزال وكان هو الذي أمر ماعزا بالإقرار : هزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك ]
وقال أصحاب الشافعي : توبة هذا إقرار لقيام الحد عليه وليس بصحيح لما ذكرنا ولأن التوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الإخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار وترك الإصرار وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها
فصل : ظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين للشافعي وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنا ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة من غير اعتبار إصلاح وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبة و يتبين فيها صلاحه وذكر أبو الخطاب هذا رواية ل أحمد لأن الله تعالى قال { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } وهذا نص فإنه نهى عنة قبول شهادتهم ثم استثنى التائب المصلح ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه حتى بلغه توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة
ولنا قوله عليه السلام : [ التوبة تجب ما قبلها ] وقوله [ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ] ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولأن التوبة من الشرك بالإسلام لا تحتاج إلى اعتبار ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها فما دونه أولى فأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح هو التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ولم يعتبر أمرا آخر ولأن من كان غاضبا فرد ما في يديه أو مانعا للزكاة فأداها وتاب إلى الله تعالى قد حصل منه الإصلاح وعلم منه نزوعه عن المعصية بأداء ما عليه ولو لم يرد التوبة ما أدى ما في يديه ولأن تقييده بالسنة تحكم لم يرد الشرع به والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تسترا بخلاف مسألتنا
وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يتجنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة تظهر أن توبته على إخلاص لا على إكراه وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية : تب اقبل شهادتك قال مالك : لا أعرف هذا قال الشافعي : كيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة

من ردت شهادته وهو غير عدل لم تقبل منه وهو عدل
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته
وجملته أن الحاكم إذا شهد عنده فاسق فرد شهادته لفسقه ثم تاب وأصلح وأعاد تلك الشهادة لم يكن له أن يقبلها وقال بهذا الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور و المزني و داود : تقبل قال ابن المنذر : والنظر يدل على هذا لأنها شهادة عدل فتقبل كما لو شهد وهو كافر فردت شهادته ثم شهد بها بعد إسلامه
ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها و لحقته غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتغير به وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فتلحقه تهمة في أنه قصد إظهار العدالة وإعادة الشهادة لتقبل فيزول ما حصل بردها ولأن الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك نقول شهادة مردودة بالاجتهاد فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق ما إذا ردت شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق العبد وأعادوا تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولا بالاجتهاد وإنما ردت باليقين ولأن البلوغ والحرية ليسا من فعل الشاهد فيتهم في أنه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى في كفره عارا ولا يترك دينه من أجل شهادته ردت عليه
وقد روي عن النخعي و الزهري و قتادة و أبي الزناد و مالك أنها ترد أيضا في حق من أسلم وبلغ وعن أحمد رواية أخرى كذلك لأنها شهادة مروءة فلم تقبل كشهادة من كان فاسقا وقد ذكرنا ما يقتضي فرقا بينهما فيفرقان وروي عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق وادعى تلك الشهادة روايتان وقد ذكرنا أن الأولى أن شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر يظهر بخلاف الفسق

حكم ما لو شهد السيد لمكاتبه فردت شهادته
فصل : وإن شهد السيد لمكاتبه فردت شهادته أو شهد وارث لموروثة بالجرح قبل الاندمال فردت شهادته ثم عتق المكاتب وبرأ الجرح وأعادوا تلك الشهادة ففي قبولهما وجهان :
أحدهما : تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبي بالبلوغ ولأن ردها بسبب لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق
والثاني : لا تقبل لأنه ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده والأول أشبه بالصحة فإن الأصل قبول شهادة العدل ما لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة للفسق لما ذكرنا بينهما من الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما لتهمة أو لعدم الأهلية إذا أعادها بعد زوال التهمة ووجود الأهلية فهل تقبل ؟ على وجهين

وحكم ما لو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا
مسألة : قال : وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت منه
وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام لأنه تهمة في ذلك وإنما يعتبر ذلك في الأداء فإذا رأى الفاسق شيئا أو سمعه ثم عدل وشهد به قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه وهكذا الصبي والكافر إذا شهد بعد الإسلام والبلوغ قبلت وكذلك الرواية ولذلك كان الصبيان في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين وابن عباس والنعمان بن بشير وابن الزبير وابن جعفر والشهادة في معنى الرواية ولذلك اعتبرت لها العدالة وغيرها من الشروط المعتبرة للشهادة

إذا شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها
مسألة : قال : ولو شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها
وجملة ذلك أن الشاهدين إذا شهدا عند الحاكم وهما ممن تقبل شهادته ولم يحكم بها حتى فسقا أو كفرا لم يحكم بشهادتهما وبهذا قال أبو يوسف و الشافعي وقال أبو ثور و المزني : يحكم بها لأن بقاء أهلية الشهادة ليس شرطا في الحكم بدليل ما لو ماتا ولأن فسقهما تجدد بعد أداء الشهادة فأشبه ما لو تجدد بعد الحكم بها ووجه ذلك من طريقين : أحدهما : أن عدالة الشاهد شرط للحكم فيعتبر دوامها إلى حين الحكم لأن الشروط لا بد من وجودها في المشروط وإذا فسق انتفى الشرط فلم يجز الحكم
والثاني : أن ظهور فسقه وكفره يدل على تقدمه لأن العادة أن الإنسان يسر الفسق ويظهر العدالة والزنديق يسر كفره ويظهر إسلامه فلا نأمن كونه كافرا أو فاسقا حين أداء الشهادة فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها فأما إن حدث هذا منه بعد الحكم بشهادته لم ينقص لأن الحكم وقع صحيحا لاستمرار شرطه إلى انتهائه ولأنه قد وجد مقرونا بشرطه ظاهرا فلا ينقض بالشك كما لو رجع عن الشهادة وكما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء لكن إن كان ذلك قبل الاستيفاء وكان حدا لله تعالى لم يجز استيفاؤه بالشبهات لأنه يدرأ وهذا شبهة فيه فأشبه ما لو رجع عن الإقرار به قبل استيفائه وإن كان مالا استوفي لأن الحكم قد تم وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة فلا يبطل بأمر محتمل ولذلك لم يبطل رجوعه عن إقراره وإن كان حد قذف أو قصاصا احتمل وجهين :
أحدهما : يستوفي وهذا قول أبي حنيفة لأنه حق آدمي مطالب به أشبه المال
والثاني : لا يستوفي وهو قول محمد لأنه عقوبة على البدن تدرأ بالشبهات أشبه الحد و ل الشافعي وجهان كهذين وأما ما حدث بعد الاستيفاء فلا يؤثر في حد ولا حق لأن الحق استوفي بما ظاهره الصحة وسوغ الشرع استيفاء فلم يؤثر فيه ما طرأ بعده كما لو لم يظهر شيء

إن أديا الشهادة وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها حكم الحاكم بشهادتهما
فصل : فأما إن أديا الشهادة وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها حكم الحاكم بشهادتهما سواء ثبت عدالتهما في حياتهما أو بعد موتهما وسواء كان المشهود به حدا أو غيره وكذلك إن جنوا أو أغمي عليهم وبهذا قال الشافعي لأن الموت لا يؤثر في شهادته ولا يدل الكذب فيها ولا يحتمل أن يكون موجودا حال أداء الشهادة والجنون والإغماء في معناه بخلاف الفسق والكفر

شهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا وشروط شهادة العدل على العدل
مسألة : قال : وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : في جوازها والثاني في موضعها والثالث في شرطها أما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو عبيد : أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ولأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل
الفصل الثاني : أنها تقبل في الأموال وما يقصد به المال بإجماع كما ذكر أبو عبيد ولا تقبل في حد وهذا قول النخعي و الشعبي و أبي حنيفة وأصحابه وقال مالك و الشافعي في قول و أبو ثور : تقبل في الحدود وكل حق لآن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال
ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار والشهادة على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل في ما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على الأموال لما بينهما من الفرق في الحاجة والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفرق فبطل إثباتها وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف لأنه قال إنما تجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة
وقال مالك و الشافعي و أبو ثور : تقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : في كل شيء إلا في الحدود لأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية عن أحمد لأن ابن منصور نقل أن سفيان قال : شهادة رجل مكان رجل في الطلاق جائزة قال أحمد : ما أحسن ما قال ؟ فجعله أصحابنا رواية في القصاص وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات وتبني على الإسقاط فأشبهت الحدود فأما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فيدل قلى قبولها في جميع هذه الحقوق وهو قول الخرقي
وقال ابن حامد : لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل إلا في المال وما يقصد به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول في أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود
الفصل الثالث : في شروطها : ولها أربعة شروط أحدها : أن تتعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياسا على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن احمد مثل هذا إلا أن القاضي تأوله على الموت وما معناه في الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فينزل هذا الخلاف
ولنا على اشتراط تعذر شهادة الأصل أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق شاهدي الفرع مظنون والعمل باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظن ولأن شهادة الأصل تثبت نفس الحق وهذه إنما تثبت الشهادة عليه ولأن شهادة الفرع ضعفا لأنه يتطرق إليها احتمالان : احتمال غلط شاهدي الأصل واحتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم تنتهض لإثبات الحدود والقصاص فينبغي أن لا تثبت إلا عند عدم شاهدي الأصل كسائر الأبدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها ولهذا لا يعتبر فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسألتنا
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك
إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة المشترطة لسماع شهادة الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف و أبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر وقد قال الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع
وقال أبو الخطاب : تعتبر مسافة القصر وهو قول أبي حنيفة و أبي الطيب الطبري مع اختلافهما في مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الترخيص وغيره بخلاف مسافة القصر ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم فلو شهد شاهدا الفرع فلم يحكم بشهادتهما حتى حضر شاهدا الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهما لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فلم يجز العمل به كالمتيمم يقدر على الماء قبل الصلاة ولأن حضورهما لو وجد قبل أداء شهادة الفرع منع فإذا طرأ قبل الحكم منع منه كالفسق
الشرط الثاني : أن يتحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد شهود الأصل والفروع على الوجه الذي ذكرناه لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعا فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما ولا خلاف في هذا نعلمه فإن عدل شهود الأصل فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما جاز بغير خلاف نعلمه وإن لم يشهدا بعدالتهما جاز ويتولى الحاكم ذلك فإن علم عدالتهما حكم وإن لم يعرفها بحث عنها وبهذا قال الشافعي
وقال الثوري و أبو يوسف : إن لم يعدل شاهدا الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم وليس بصحيح لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلى بحث الحاكم ويجوز أن يعرفا عدالتهما ويتركاها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما ولا بد من استمرار هذه الشروط ووجود العدالة في الجميع إلى انقضاء الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا وإن مات شهود الأصل والفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع وشهادتهم لم يمنع من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز جعله مانعا وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم
الشرط الثالث : أن يعينا شاهدي الأصل ويسمياهما وقال ابن جرير : إذا قالا : ذكرين حرين عدلين جاز وإن لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز أن يكونا عدلين عندهما مجروحين عند غيرهما ولأن المشهود عليه بما أمكنه جرح الشهود فإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك
الشرط الرابع : أن يسترعيه شاهدا الأصل الشهادة فيقول : أشهد على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا أو أقر عندي بكذا أو سمع شاهدا يسترعي آخر شهادة يشهده عليها فيجوز لهذا السامع أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه وهو قول أبي حنيفة قال أحمد : لا تكون شهادة إلا أن يشهدك فأما إذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه قال الشافعي وأصحاب الرأي و أبو عبيد فأما إن سمع شاهدا يشهد عند الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب نحو أن يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألفا ثمن مبيع فهل يشهد به ؟ قال أبو الخطاب وفيه روايتان
وذكر القاضي أن له الشهادة به وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة عند الحاكم ونسبته للحق إلى سببه يزول الاحتمال ويرفع الإشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما لو استرعاه
والرواية الأخرى : فلا يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة و أبو عبيد لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا بإذنه ومن نصر الأول قال : هذا ينقل شهادته ولا ينوب عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته وإنما يشهد على شهادته فإما إن قال : اشهد أني أشهد على فلان بكذا فالأشبه أن يجوز أن يشهد على شهادته وهذا قول أبي يوسف لأن معنى ذلك اشهد على شهادتي
وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا أن يقول : اشهد على شهادتي أني أشهد لأنه إذا قال : اشهد فقد أمره بالشهادة ولم يسترعه وما هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة فإذا سمعه يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه الشهادة فيحتمل أن يكون وعده بها وقد ويوصف الوعد بالوجوب مجازا فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ العدة دين ] ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم فلم يجز لسماعه الشهادة به فإن قيل : فلو سمع رجلا يقول : لفلان علي ألف درهم جاز أن يشهد بذلك فكذا هذا قلنا : الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن الشهادة تحتمل العلم ولا تحتمل الإقرار
الثاني : أن الإقرار أوسع لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وأنه لا يراعي فيه العدد بخلاف الشهادة ولأن الإقرار قول الإنسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها ولو قال شاهد الأصل : أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفا فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد سببه

كيفية أداء الشهادة الشاهد على الشاهد
فصل : فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة فإنه يقول : أشهد أن فلانا بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني أنه يشهد لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا أو أن فلانا أقر عندي بكذا وإن لم يعرف عدالته لم يذكرها وإن سمعه يشهد غيره قال : أشهد : أشهد أن فلان ابن فلان أشهد على شهادته أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا وإن كان سمعه يشهد عند الحاكم قال : أشهد أن فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا وإن كان نسب الحق إلى سببه قال : أشهد أن فلانا بن فلان قال : اشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا من جهة كذا وكذا وإذا أراد الحاكم أن يكتب ذلك في كتبه على ما ذكرنا في الأداء

اختلفت الرواية في شرط خامس وهو الذكورية
فصل : واختلفت الرواية في شرط خامس وهو الذكورية في شهود الفرع فعن أحمد أنها شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما تقبل فيه شهادة النساء أولى وهذا قول مالك و الثوري و الشافعي لأنهم يثبتون بشهادتهم شهود الأصل دون الحق وليس ذلك بمال لا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فأشبه القصاص والحد
والثانية للنساء مدخل فيما لو كان المشهود به يثبت بشهادتين في الأصل قال حرب : قيل لأحمد فشهادة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز ؟ قال : نعم يعني إذا كان معهما رجل وذكر الأوزاعي قال : سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة المرأة على شهادة المرأة ووجهه أن المقصود بشهادة الفروع إثبات الحق الذي يشهد به شهود الأصل فقبلت شهادتهن كالبيع ويفارق الحد القصاص فإنه ليس القصد من الشهادة به إثبات مال بحال فأما شهود الأصل فيدخل النساء فيه فيجوز أن يشهد رجلان على شهادة رجل وامرأتين في كل حق يثبت بشهادتهن مع الرجال في قول أكثر أهل العلم وذكر أبو الخطاب في المنع منه رواية أخرى لأن في الشهادة على الشهادة ضعيفا لما ذكرنا من قبل فلا مدخل للنساء فيها لأنها تزداد بشهادتين ضعيفا
ولنا أن شهود الفرع إن كانوا يثبتون شهادة الأصل فهي تثبت بشهادتهم وإن كانوا يثبتون نفس الحق فهي تثبت بشهادتهم ولأن النساء شهدن في المال أو ما يقصد به المال فيثبت بشهادتهن كما لو أدينها عند الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له

لا يقبل على شاهد أصل إلا شاهدا فرع
فصل : ويجوز أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع على شاهدي أصل قال القاضي : لا يختلف كلام أحمد في هذا وهو قول شريح و الشعبي و الحسن و ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و إسحاق و البتي و العنبري و نمير بن أوس قال إسحاق : لم يزل أهل العلم على هذا حتى جاء هؤلاء وقال أحمد : وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح فمن دونه إلا أن أبا حنيفة أنكره وذهب عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل إلا شاهدا فرع وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا يثبت شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد على كل واحد منهما واحد
ولنا أن هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولأن شاهدي الفرع بدل شهود الأصل فيكفي في عددها ما يكفي في شهادة الأصل ولأن هذا إجماع على ما ذكره أحمد وإسحاق ولأن شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقا عليهما فوجب أن يقبل فيه قول واحد كأخبار الديانات فإنهم إنما ينتقلون الشهادة وليست حقا ولهذا لو أنكراها لم يعد الحاكم عليهما ولم يطلبها منهما وهذا الجواب عما ذكروه فإذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل شاهد أصل شاهدي فرع أجاز أن يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبهذا قال مالك و أصحاب الرأي قال الشافعي : ورأيت كثيرا من الحكام والمفتين يجيزه وخرجه على قولين : أحدهما جوازه والآخر لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع واختاره المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف الآخر كما لو شهد أصل مع شاهد ثم شهد مع آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر
ولنا أنهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل كما لو شهدا بإقرارين بحقين أو بإقرار اثنين وإنما لم يجز أن يشهد شاهدا الأصل فرعا لأنه يؤدي إلى أن يكون بدل أصلا في شهادة بحق وذلك لا يجوز ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهما ظرفا لشهادة الآخر فعلى قول الشافعي أن يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان حق يثبت بأربع نسوة فوجب أن يكون شهود الفرع ثمانية وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال : أحدهما : لا مدخل لشهادة الفرع في إثباته
والثاني : يجوز أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على شهادة كل واحد من شهود الأصل أربعة الثالث : يكفي ثمانية والرابع يكونون أربعة يشهدون على كل واحد والخامس : يكفي شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا إثبات لحد الزنا بشاهدين وهو بعيد

إن شهد بالحق شاهدا اصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز
فصل : وإن شهد بالحق شاهدا أصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز وإن شهد شاهد أصل وشاهد فرع خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا من قبل وإن شهد شاهد أصل ثم شهد هو وآخر فرعا على شاهد أصل آخر لم تفد شهادته الفرعية شيئا وكان حكم ذلك حكم ما لو شهد على شهادته شاهد واحد

ويشهد على من سمعه يقر بحق وإن لم يقل للشاهد : اشهد علي
مسألة : قال : ويشهد على من سمعه يقر بحق وإن لم يقل للشاهد : اشهد علي
اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فالمذهب ما ذكره الخرقي وبه قال : الشافعي و الشعبي وعن أحمد رواية ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر : اشهد علي كما أنه لا يجوز أن يشهد على شهادة رجل حتى يسترعيه إياها ويقول له : اشهد على شهادتي وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإذا سمعه يقر بدين يشهد لأن المقر بالدين معترف أنه عليه والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز أن يكون افترض منه ثم وفاه وعنه رواية رابعة إذا سمع شيئا فدعي إلى الشهادة فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد قال : ولكن يجب عليه إذا أشهد إذا دعي { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال : إذا أشهدوا وقال ابن أبي موسى : إذا سمع رجلا يقر بحق ولم يقل : اشهد علي بذلك وسمع الشاهد فله أن يشهد عليه فيقول : أشهد أني حضرت إقرار فلان بكذا ولا يقول : أشهد على إقراره وإن سمعه يقول : اقترضت من فلان أو قلضت من فلان لم يجز أن يشهد به والصحيح الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز إن شهد به كما يجوز أن يشهد بما رآه من الأفعال وذكر القاضي أن في الأفعال روايتين :
إحداهما : لا يشهد به حتى يقول المشهود عليه : اشهد وهذا إن أراد به العموم في جميع الأفعال فلا يصح لأن ذلك يؤدي إلى منع الشهادة عليها بالكلية فإن الغاصب لا يقول لأحد : اشهد علي أني أغصب ولا السارق ولا السارقة ولا الزاني ولا القاتل وأشباه هؤلاء وقد شهد أبو بكر وأصحابه على المغيرة بالزنا فلم يقل عمر : هل أشهدكم أولا ؟ ولم يقل هذا أحد من الصحابة ولا من غيرهم ولا قاله الذين شهدوا على قدامة بشرب الخمر ولا قاله عمر للذين شهدوا على الوليد بن عقبة وإن أراد به الأفعال التي تكون بالتراضي كالقرض والقبض فيه وفي الوهن والبيع والافتراق ونحو ذلك جاز

حكم ما لو حضر شاهدان حسابا بين اثنين
فصل : ولو حضر شاهدان حسابا بين اثنين شرطا عليهما أن يحفظا عليهما شيئا كان للشاهدين أن يشهدا بما سمعه منهما ولم يسقط ذلك شرطهما لأن للشاهدين أن يشهد بما سمعه أو علمه وذلك قد حصل له سواء أشهده أو سمعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورها وعلى الجنايات بمشاهدتها ولا يحتاجان إلى إشهاد وبهذا قال ابن سيرين و مالك و الثوري و الشافعي

الحقوق ضربان
فصل والحقوق على ضربين :
أحدهما : حق لآدمي معين كالحقوق المالية والنكاح وغيره من العقود والعقوبات كالقصاص وحد والقذف والوقف على آدمي فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا تستوفي إلا بعد مطالبته وإذنه ولأنها حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقدمها عليها
الضرب الثاني : ما كان حقا لآدمي غير معين كالوقف على الفقراء والمساكين أو جميع المسلمين أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة أو الوصية لشيء من ذلك ونحو هذا وأما ما كان حقا الله تعالى كالحدود الخالصة لله تعالى أو الزكاة أو الكفارة فلا تفتقر الشهادة به إلى تقدم الدعوى لأن ذلك ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكر وأصحابه على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظغون بشرب الخمر وشهد الذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر أيضا من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد ولا رضا منه وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد الغريمين كتحريم الزوجة بالطلاق أو الظهار أو إعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه دعوى ولو شهد شاهدان بعتق عبد أو أمه ابتداء ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود يعتقه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وبه قال أبو حنيفة في الأمة وقال في العبد : لا يثبت ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فأشبه سائر حقوقه
ولنا أنها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقديم الدعوى كعتق الأمة ويخالف سائر الحقوق لأنه حق الله تعالى لهذا لا يفتقر إلى قبول المعتق بدليل ذلك الأمة وما ذكروه يبطل بعتق الأمة فإن قيل : الأمة يتعلق بإعتاقها تحريم الوطء قلنا : هذا لا أثر فإن المنع لوجب تحريمها عليه ولا تسمع الشهادة يه إلا بعد الدعوى

فيمن كانت عنده شهادة لآدمي
فصل : ومن كانت عنده شهادة لآدمي لم يخل إما أن يكون عالما بها أو غير عالم فإن كان عالما بها لم يجز لشاهد أداءها حتى يسأله ذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ] رواه البخاري ولأن أداؤها حق للمشهود له فلا يستوفى إلا برضاه كسائر حقوقه وإن كان المشهود غير عالم بها جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ألا أنبئكم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ] رواه مسلم و أبو داود و مالك وقال مالك : هو الذي يأتي بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له وهذا الحديث وإن كان مطلقا فإنه يتعين حمله على هذه الصور جميعا بين الحديثين ولأنه إذا لم يكن عالما به فتركه طلبها لا يدل على أنه لا يريد إقامتها بخلاف العالم بها وهذا مذهب الشافعي

يعتبر لفظ الشهادة في أدائها
فصل : ويعتبر لفظ الشهادة في أدائها فيقول : أشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال : أعلم أو أحق وأتيقن أو أعرف لم يعتد به لأنه الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل أنه تستعمل في اليمين فيقال : أشهد بالله ولهذا تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا

تجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا
مسألة : قال و تجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا
المستخفي هو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع إقراره ولا يعلم به مثل من يجحد الحق علانية ويقربه سرا فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما ليسمعا إقراره به ثم يشهدا به فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة وبهذا قال عمرو بن حريث وقال : كذلك يفعل بالخائن والفاجر وروي مثل ذلك عن شريح وهو قول الشافعي وروي عن أحمد رواية أخرى لا تسمع شهادته وهو اختيار أبي بكر و ابن أبي موسى وروي ذلك عن شريح و الشعبي ولأن الله تعالى قال { ولا تجسسوا } وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة ] يعني لا يجوز لسامعه ذكره عنه لالتفاته وحذره وقال مالك : إن كان المشهود عليه ضعيفا ينخدع لم يقبلا عليه وإن لم يكن كذلك قبلت ولنا أنهما شهداء بما سمعاه يقينا فقبلت شهادتهما كما لو علم بها

كتاب الأقضية : حكم من هلك وخلف أبوين وبنين ومالا
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي دفع إلى المقر له نصف ما في يده من إرثه عن أبيه إلا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن ويأخذ مائة وتكون المائة الباقية بين الابنين
هذه المسألة في الإقرار من بعض الورثة وقد ذكرناها في باب الإقرار وإنه إنما يلزم المقر من الدين بقدر ميراثه من وميراثه ههنا النصف فيكون عليه نصف الدين وهو نصف المائة ونصفها الباقي يشهد به على أخيه فإن كان عدلا فشاء الغريم حلف مع شهادته واستحق الباقي لأنه تهمه في حق الابن المقر فإنه لا يجر إلى نفسه بهذه الشهادة نفعا ولا يدفع ضرا وإن شهد أجنبي مع الوارث المقر كملت شهادته وحكم للمدعي بما شهدا به له إذا كانا عدلين وأديا الشهادة بلفظ الشهادة ولا يكتفي بلفظ الإقرار في الشهادة لما ذكرنا من قبل وإن كان الإقرار من اثنين من الورثة عدلين مثل أن يخلف ثلاثة بنين فيقر اثنين منهما بالدين ويشهدان به فإن شهادتهما تقبل ويثبت باقي الدين في حق المنكر وبهذا كله قال الحسن و الشعبي و الشافعي و ابن المنذر وقال حماد وأصحاب الرأي : المقر به كله في نصيب المقر وهو قول الشعبي وعلى هذا ينبغي أن لا تقبل شهادة المقر بالدين لأنه يجز بشهادته نفعا هو إسقاط بعض ما أقر به عن نفسه والإقرار بوصية تخرج من الثلث كالإقرار بالدين فيما ذكرناه
فصل : ولو ثبت لرجل على رجل دين ببينة لم يمنع ذلك من قبول شهادته عليه بدين أو وصية في قول عامة أهل العلم إلا ابن أبي ليلى قال : لا تقبل شهادته على غريمه الميت بذلك فيحتمل أنه منع من ذلك لئلا يواطئ من يشهد له بدين فيحاص الغرماء بما شهد له به ثم يقاسمه
ولنا أنه عدل غير منهم فتقبل شهادة له كغيره وذلك لأنه لا يجر بشهادته إلى نفسه نفعا ولا يدفع بها ضرا بل يضر نفسه بها لكون المشهود له يزاحمه في الاستيفاء وينقص ما يأخذه فهو أقرب إلى الصدق وأحرى أن تقبل شهادته وما ذكرنا له من الاحتمال يوجد في الأجنبي فلم يمنع قبول شهادته
مسألة : قال : ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد وعليه من الدين ما يستغرق ميراثه فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين فدفع إلى الغريم
وجملته أن الرجل الميت إذا مات مفلسا وادعى ورثته دينا على رجل فأنكر فأقاموا شاهدا عدلا وحلفوا معه حكم بالدين للميت ثم تقضى منه ديونه ثم تنفذ وصاياه من الثلث إلا أن يجيز الورثة فإن أبى الورثة أن يحلفوا لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت وبهذا قال إسحاق و أبو ثور و الشافعي في الجديد وقال في القديم : للغريم أن يحلف ويستحق وهذا قول مالك لأن حقه متعلق به ودليل أنه لو ثبت المال قدم حقه على الورثة وكانت له اليمين كالوارث
ولنا أن الدين دون الغريم فلم يكن له أن يحلف عليه كما لو لم يستغرق الدين ميراثه والدليل على أنه للوارث أن يكتفي بيمينه ولو كان لغيره لما اكتفي بها ولأن حق الغريم في ذمة الميت والدين للميت ولهذا يشهد الشاهد بأن الدين للميت والذي يحلف معه إنما يحلف على هذا ولا يجوز للغريم أن يحلف لي في ذمة المدعى عليه دينا بالاتفاق فلم يجز أن يحلف على دين غيره الذي لا فعل له فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل اليمين للمالك ولا يلزم على هذا الوكيل لأنه يحلف على فعل نفسه ولأن الغريم لو حلف مع الشاهد ثم أبرأ الميت من الدين لرجع الدين إلى الورثة ولو كان قد ثبت بيمينه لم يرجع إليهم وهكذا لو وصى الميت لإنسان ثم لم يحلف الورثة لم يكن للموصى له أن يحلف لما ذكرناه
فصل : فإن حلف الابنين مع الشاهد لم يثبت من الدين إلا قدر حصته وهكذا إذا ادعى الورثة وصية لأبيهم أو دينا وأقاموا شاهدا لم يثبت جمعه إلا بأيمان جميعهم وإن حلف بعضهم ثبت من الدين والوصية بقدر حقه ولو يشاركه في باقي الورثة لأنه لا يثبت لهم حق بدون أيمانهم ولا يجوز أن يستحقوا بيمين غيرهم ويقضي من دين أبيه بقدر ما ثبت له فإن كان في الورثة صغير أو معتوه وقف حقه حتى يبلغ الصغير ويعقل المعتوه لأنه لا يمكن أن يحلف على حاله ولا يحلف وليه لكون اليمين لا تدخلها النيابة وإن كان فيهم أخرس مفهوم الإشارة حلف وأعطى حصته وإن لم تفهم إشارته وقف حقه أيضا فإن مات أو مات الصبي والمعتوه قام ورثتهم مقامهم في اليمين والاستحقاق فإن طالب أولياؤهما في حياتهما بحبس المدعى عليه حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويعقل الأخرس الإشارة أو بإقامة كفيل لم يجابوا إلى ذلك لأن الحبس عذاب لا يستحق على من لم يثبت عليه حق
فصل : وتركة الميت يثبت الملك فيها لورثته وسواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه أحمد فيمن أفلس ثم مات قال : قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها إلى الوارثة فإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شيء منها
وقال أبو سعيد الاصطخري : يمنع بقدره وقد أومأ أحمد إلى مثل هذا فإنه قال في أربعة بنين ترك أبوهم دارا وعليه دين فقال أحد البنين أنا أعطي ودعوا لي الربع فقال أحمد : هذه الدار للغرماء لا يورثون شيئا حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنتقل إليهم عنده لأنه يمنع الوارث من إمساك الربع بدفع قيمته لأن الدين لم يثبت في ذمم الورثة فيجب أن يتعلق بالتركة والمذهب الأول ولهذا قلنا : إن الغريم لا يحلف على دين الميت وذلك لأن الدين محله الذمة وإنما يتعلق بالتركة فيتخير الورثة بين قضاء الدين منها أو من غيرها كالرهن والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبيد ولا يكون نماء التركة لهم ولأنه لا يخلو من أن تنتقل إلى الورثة أو الغرماء أو تبقى للميت أو لا تكون لأحد لا يجوز أن تنتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت إليهم لزمهم نفقة الحيوان وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم ولا يجوز أن تبقى للميت لأنه لم يبق أهلا لملك ولا يجوز أن لا تكون أحد لأنها مال مملوك فلا بد من مالك ولأنها لو بقيت بغير مالك لأبيحت لمن يمتلكها كسائر المباحات فثبت أنها انتقلت إلى الورثة فعلى هذا إذا نمت التركة مثل أن غلت الدار وأثمرت النخيل ونتجت الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه فأشبه كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الأول قال : تعلق الحق بالرهن آكد لأنه ثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع التصرف فيه وهذا يثبت بغير رضا المالك ولم يمنع التصرف فكان أشبه بالجاني
وعلى الرواية الأخرى يكون نماء التركة حكمه كحم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها وإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو هبة أو قسمة فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح فإن قضوا الدين وإلا نقضت تصرفاتهم كما لو تصرف السيد في العبد الجاني ولم يقض دين الجناية وعلى الرواية الأخرى تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا فيما لم يملكوه
فصل : إذا خلف ثلاثة بنين وأبوين فادعى البنون أن أباهم وقف داره عليهم في صحته وأقاموا بذلك شاهدا واحدا حلفوا معه صارت وقفا عليهم وسقط حق الأبوين وإن لم يحلفوا معه ولم يكن على الميت دين ولا وصية وحلف الأبوان وكان نصيبهما طلقا لهما و نصيب البنين وقفا عليهم بإقرارهم لأنه ينفذ بإقرارهم وإن كان على الميت دين أو وصى بشيء قضي دينه ونفذت وصيته وما بقي بين الورثة فما حصل للبنين كان وقفا وإن حلف واحد منهم كان ثلث الدار وقفا عليه والباقي يقضى منه الدين وما فضل يكون ميراثا فما حصل للابنين منه كان وقفا عليهما ولا يرث الحالف شيئا لأنه يعترف أنه لا يستحق منه شيئا سوى ما وقف عليه وإن حلفوا كلهم فثبت الوقف عليهم ولم يخل من أن يكون الوقف مرتبا على بطن ثم على بطن بعد بطن أبدا أو مشتركا فإن كان مرتبا فإذا انقرض الأولاد الثلاثة انتقل الوقف إلى البطن الثاني بغير يمين لأنه قد ثبت كونه وقفا بالشاهدين ويمين الأولاد فلم يحتج من انتقل إليه إلى بينة كما لو ثبت بشاهدين كالمال الموروث وكذلك إذا انقرض الأولاد ورجع المساكين لم يحتاجوا في ثبوته لهم إلى يمين لما ذكرناه
وإن انقرض أحد الأولاد انتقل نصيبه منه إلى أخوته أو إلى من شرط الواقف انتقاله إليه بغير يمين لما ذكرنا فإن امتنع البطن الأول من اليمين فقد ذكرنا أن نصيبهم يكون وقفا عليهم وقفا عليهم بإقرارهم فإذا انقرضوا كان ذلك وقفا على حسب ما اقروا به فإذا كان إقرارهم أنه وقف عليهم ثم على أولادهم فقال أولادهم : نحن نحلف مع شاهدنا لتكون جميع الدار وقفا لنا فلهم ذلك لأنهم ينقلون الوقف من الواقف فلهم إثباته كالبطن الأول فأما إن حلف أحد البنين ونكل أخواه ثم مات الحالف نظرت فإن مات بعد موت اخوته صرف نصيبه إلى أولاده وجها واحدا وإن مات في حياة إخوته ففيه ثلاثة أوجه
أحدها : ينصرف إلى اخوته لأنه لا يثبت للبطن الثاني شيء مع بقاء أحد من البطن الأول
والثاني : ينتقل إلى أولاده لأن أخويه أسقطا حقهما بنكولهما فصارا كالمعدومين
والثالث : يصرف إلى أقرب عصبة الواقف لأنه لم يمكن صرفه غلى الأخوين ولا إلى البطن الثاني لما ذكرنا فيصرف إلى أقرب عصبة الواقف إلى أن يموت الأخوان ثم يعود إلى البطن الثاني والأول أصح لأن الأخوين لم يسقطا حقوقهما وإنما امتنعا من إقامة الحجة عليه ولذلك لو اعترف لهما الأبوان ثبت الوقف من غير يمين وههنا قد حصل الاعتراف من البطن الثاني فوجب أن ينصرف إليهما الاتفاق من الجميع على استحقاقهما له
فإن قيل : فإذا كان البطن الثاني صغارا فما حصل الاعتراف منهم قلنا : قد حصل الاعتراف من الحالف الذي ثبتت الحجة بيمينه والبينة التي ثبت بها الوقف وبها يستحق البطن الثاني فاكتفي بذلك في انتقاله إلى الأخوين كما يكتفي به في انتقاله إلى البطن الثاني بعد انقراض الأخوين ويدل على صحة هذا أننا اكتفينا بالبينة في أصل الوقف وفي كيفيته وصفته وترتيبه فيما عدا هذا المختلف فيه فيجب أن يكتفى به فيه فأما إن كان شرط الواقف أن من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إليه انتقل إلى أولاده وجها واحدا لأنه لا منازع لهم فيه وإن مات من غير الولد انتقل إلى أخويه على وجه الصحيح ويخرج فيه الوجهان الآخران
الحال الثاني : إذا كان الوقف مشتركا وهو أن يدعوا أن أباهم وقف داره على ولده وولد ولده ما تناسلوا فقد شرك بين البطون ففي هذه الحال إذا حلف أولاده الثلاثة مع شاهدهم ولم يكن أحد من أولادهم معهم موجودا ثبت الوقف على الثلاثة وإن كان من أولادهم أحد موجودا فهو شريكهم فإن كان كبيرا حلف واستحق وإن لم يحلف كان نصيبه ميراثا تقضي منه الديون وتنفذ الوصايا وباقيه للورثة لأنه يأخذ الوقف ابتداء من الواقف بغير واسطة فهم كأحد البنين وإن كان صغيرا أو حدث لأحد البنين ولد يشاركهم في الوقف أو كان أحد البنين الصغار وقف نصيبه من الوقف عليه ولا يسلم إلى وليه حتى يبلغ فيحلف أو يمتنع لأنه يتلقى الوقف من غير واسطة
فإن قيل : فلم يستحق بغير يمين وكون البنين المستحقين معترفين له بذلك فيكتفي اعترافهم كما لو كان في أيديهم دار فاعترفوا لصغير منها بشرك فإنه يسلم إلى وليه ؟ قلنا : الفرق بينهما أن الدار التي في أيديهم لم يكن لهم فيها منازع ولا يوجب على أحد منهم اليمين وهذه ينازعهم فيها الأبوان وأصحاب الديون والوصايا وإنما يأخذونها بأيمانهم فإذا أقروا بمشارك لهم فقد اعترفوا بأنه كواحد منهم لا يستحق إلا بيمينه كما لا يستحق واحد منهم إلا باليمين ويفارق ما إذا كان الوقف مرتابا على بطن بعد بطن فإنه لا يشاركهم أحد من البطن الثاني فإذا بلغ الصغير الموقوف نصيبه فحلف كان له وإن امتنع نظرت إن كان موجودا حين الدعوى أو قبل حلفهم كان نصيبه ميراثا كما لو كان بالغا فامتنع عن اليمين فإن حدث بعد أيمانهم وثبوت الوقف نماء كان له نصيبه أيضا لأن الوقف ثبت في جميع الدار بأيمان البنين فلا يبطل بامتناع من حدث إلا أنه إن أقرأنها ليست وقفا وكذب البنين في ذلك كان نصيبه من الغلة ميراثا حكمه حكم نماء الميراث وإن لم يكذبهم فنصيبه وقف له
وقال القاضي : إن امتنع من اليمين رد إلى أولاده الثلاثة ولم يفرق بين من كان موجودا حال الدعوى والحادث بعدها لأنه لا يجوز أن يستحق شيئا بغير يمين ولا يجوز أن يبطل الوقف الثابت بأيديهم فتعين رد نصيبه إليهم
ولنا أنه إن كان موجودا حال الدعوى وحلفهم فهو شريكهم حين يثبت الوقف فلم يجزأن يثبت الوقف في نصيبه بغير يمين كالبالغ وإن كان حادثا بعد ثبوت الوقف بأيمانهم فهم مقرون له بنصيبه وهو يصدقهم في إقرارهم فلم يجز لهم أخذ نصيبه كما لو اقروا له بمال ولأنهم يقرون بأنهم لا يستحقون أكثر من ثلاثة أرباع الوقف فلا يجوز لهم أخذ أكثر من ذلك وإن مات الصغير قبل بلوغه قام وارثه مقامه فيما ذكرنا وإن مات أحد البنين البالغين قبل بلوغ الصبي وقف أيضا نصيبه مما كان لعمه الميت وكان الحكم فيه كالحكم في نصيبه الأصلي
وقال القاضي : إن بلغ فامتنع من اليمين فالربع موقوف إلى حين موت الثالث ويقسم بين البالغين وورثة الميت لأنه كان بين الثلاثة ونصيبه من الميت للبالغين الحيين خاصة لأنهما مستحقا الوقف

فيمن ادعى دعوى وذكر أن بينته بالبعد وفيما لو طلب حبس المدعي عليه
مسألة : قال ومن ادعى دعوى وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعي عليه ثم أحضر المدعي بينته حكم ولم تكن اليمين مزيلة للحق
وجملته أن المدعي إذا ذكر أن بينته بعيدة عنه أو لا يمكنه إحضارها أو لا يريد إقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه أحلف له ثم أحضر المدعي ببينة حكم له وبهذا قال شريح و الشعبي و مالك و الثوري و الليث و الشافعي و أبو حنيفة و أبو يوسف و إسحاق وحكى عن أبن أبي ليلى و داود أن بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد البينة المدعي
ولنا قول عمر رضي الله عنه : البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجور اليمين المتقدمة فتكون أولى ولأن كل حالة يجب عليه الحق فيها بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين وما ذكروه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع إلا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما حال اجتماعها وإمكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنها
فصل : فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه أو إقامة كفيل به إلى أن تحضر بينته البعيدة لم يقبل منه ولم يكن ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيل ولأن الحبس عذاب فلا يلزم معصوما لم يتوجب عليه حق ولأنه لو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء بغير حق وإن كانت بينته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من ضرورة إقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن إقامتها إلا بحضرته ولأنه لما تمكن من إحضار مجلس الحاكم ليقيم البينة عليه تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة وتفارق البينة البعيدة أو من لا يمكن حضورها فإنه إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما تفارق أو ما يقوم مقامة ولا سبيل إليه
فصل : ولو أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يحلف معه وطلب يمين المدعى عليه أحلف له ثم إن أحضر شاهدا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها وإن فال المدعي : لي بينة حاضرة وأريد إحلاف المدعى عليه ثم أقيم البينة عليه ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك ويستحلف خصمه لأنه يملك استحلافه إذا كانت بينته بعيدة فكذلك إذا كانت قريبة ولأنه لو قال أريد إقامة بينتي القريبة ملك استحلافه فكذلك إذا راد إقامتها
الثاني : لا يملك استحلافه لأن في البينة غنية عن اليمين فلم تشرع معها ولأن البينة أصل واليمين بدل فلا يجمع بين البدل والأصل كاليتيم مع الماء وفارق البعيدة فإنها في الحال كالمعدومة للعجز عنها وكذلك التي يريد إقامتها لأنه قد تكون عليه مشقة في إحضارها أو عليها في الحضور مشقة فيسقط ذلك للمشقة بخلاف التي يريد إقامتها

اليمين التي يبرأ بها المطلوب
مسألة : قال : واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله وإن كان الحالف كافرا
وجملته أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله في قول عامة أهل العلم إلا أن مالكا أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وإن استحلف حاكم بالله أجزأ قال ابن المنذر : هذا أحب إلي لأن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ استحلف رجلا فقال له قل والله الذي لا إله إلا هو ماله عندك شيء ] رواه أبو داود وفي حديث عمر حين حلف لأبي قال : والله الذي لا إله هو إن النخل لنخلي وما لأبي فيه شيء
وقال الشافعي إن كان المدعي قصاصا أو عتاقا أو حدا أو مالا يبلغ نصابا غلطت اليمين فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة والرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال في القسامة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا اختيار أبي الخطاب وذكر القاضي أن هذا في إيمان القسامة خاصة وليس بشرط
ولنا قول الله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا } وقال تعالى : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } وقال تعالى في اللعان : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } وقال تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } قال بعض أهل التفسير : من أقسم بالله فقد أقسم جهد اليمين
[ واستحلف النبي صلى الله عليه و سلم ركانة بن عبد يزيد في الطلاق فقال : آلله ما أردت إلا واحدة ] وفي حديث الحضرمي والكندي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ألك بينة ؟ قال : ولكن أحلفه والله ما يعلم أنه أرضي غصبنيها ] رواه أبو داود
وقال عثمان لابن عمر : تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولأن في الله كفاية فوجب أن يكتفى باسمه في اليمين كالموضع الذي سلموه فأما حديث ابن عباس وعمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف كذلك وما ذكرناه يدل على الاكتفاء باسم الله وحده وما ذكره الباقون فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه
إذا ثبت هذا فإن اليمين في حق المسلم والكافر جميعا بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقوله الله تعالى { فيقسمان بالله } ولقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ]

تشرع اليمين في كل مدعى عليه
فصل : وتشرع اليمين في حق كل مدعى عليه سواء كان مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا امرأة أو رجلا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ اليمين على المدعى عليه ]
و [ روى شقيق عن الأشعث بن قيس قال : قال : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم هل لك بينة ؟ قلت : لا : قال لليهودي : احلف قلت : إذا يحلف فيذهب بمالي فأنزل الله عز و جل : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } إلى آخر الآية ] رواه البخاري و أبو داود و ابن ماجة وفي حديث الحضرمي قلت : أنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه قال ليس لك منه إلا ذلك

كيف يقسم اليهودي والنصراني وتغلظ الأيمان
مسألة : قال : إلا أنه كان يهوديا قيل له : قل : والله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قيل له قل : والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها
ظاهر الكلام الخرقي رحمه الله أن اليمين لا تغلظ إلا في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلمين ونحو هذا قال أبو بكر ووجه تغليظها في حقهم ما روى أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يعني لليهود نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ ] رواه أبو داود وكذلك قال الخرقي : تغلظ بالمكان فيحلف في المواضع التي يعظمها ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ بالزمان قال أبو الخطاب : إن رأى التغليظ في اليمين في اللفظ بالزمان والمكان فله ذلك قال : وقد أومأ إليه أحمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال والله الذي خلقني ورزقني وإن كان وثنيا حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه لا يجوز أن يحلف بغير الله لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] ولأن هذا إن لم يكن يعتد هذه يمينا فإنه يزداد بها إثما وعقوبة وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به غيره وهذا كله ليس بشرط اليمين وإنما للحاكم فعله إذا رأى
وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق و أبو عبيده بن عبد الله و عطاء و شريح و الحسن و إبراهيم بن كعب و مالك و الثوري و أبو عبيد
وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك و الشافعي تغلظ ثم اختلفا فقال مالك : يحلف في المدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحلف قائما ولا يحلف قائما إلى في منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ويستحلفونه في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف عند المنبر إلا على ما يقطع اليد فيه السارق فصاعدا وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي : يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة وفي المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند الصخرة في بيت المقدس وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر ولا تغلظ في المال إلا في نصاب فصاعدا وتغلظ في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وهذا اختيار أبي الخطاب وقال ابن جرير تغلظ في القليل والكثير واحتجوا بقول الله تعالى { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } قيل أراد بعد العصر وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار ] فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين وروى مالك قال : اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان ابن الحكم فقال : زيد : أحلف له مكاني فقال مروان : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق قال : فجعل زيد يحلف إن حقه لحق ويأبى أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب
ولنا قول الله تعالى : { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } ولم يذكر مكانا ولا زمنا ولا زيادة في اللفظ [ واستحلف النبي صلى الله عليه و سلم ركانة في الطلاق فقال : آالله ما أردت إلا واحدة ؟ قال : آالله ما أردت إلا واحدة ] ولم يغلظ يمينه بزمن ولا مكان ولا زيادة لفظ وسائر ما ذكرنا في التي قبلها وحلف عمر لأبي بكر حين تحاكما إلى زيد في مكانه وكانا في بيت زيد وقال عثمان لابن عمر : تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ؟ وفي ما ذكروه تقييد لمطلق هذه النصوص ومخالفة الإجماع فإن ما ذكرنا عن الخليفتين عمر وعثمان مع من حضرهما لم ينكر وهو في محل الشهرة فكان إجماعا وقوله تعالى { تحبسونهما من بعد الصلاة } وإنما كان في حق أهل الكتاب في الوصية في السفر وهي قضية خولف فيها القياس في مواضع منها قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين ومنها استحلاف الشاهدين ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما الإثم وهم لا يعلمون بها أصلا فكيف يحتجون بها ولما ذكر أيمان المسلمين أطلق اليمين ولم يقيدها والاحتجاج بهذا أولى من المصير إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به وأما حديثهم فليس فيه دليل على مشروعية اليمين عند المنبر إنما فيه تغلظ اليمين على الحالف عنده ولا يلزم من هذا الاستحلاف عنده وأما قصة مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم إلى قول مروان في قضية خالفه زيد فيها وقول زيد فقيه الصحابة وقاضيهم وأفرضهم أحق أن يحتج به من قول مروان فإن قول مروان لو انفرد ما جاز الاحتجاج به على مخالفة فعل النبي صلى الله عليه و سلم وإطلاق كتاب الله تعالى ؟ وهذا ما لا يجوز وإنما ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الذمي لاستحلاف النبي صلى الله عليه و سلم اليهود بقوله : [ نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ] ولقول الله تعالى في حق الكتابيين { تحبسونهما من بعد الصلاة } ولأنه روي عن كعب بن سور في نصراني قال : اذهبوا به إلى المذبح واجعلوا الإنجيل في حجر التوراة على رأسه وقال الشعبي في نصراني اذهب به إلى البيعة فاستحلفه بما استحلف به مثله وقال ابن المنذر : لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا بيمين غير الذي يستحلف بها المسلمون وعلى كل حال فلا خلاف بين أهل العلم في أن التغليظ بالزمان والمكان والألفاظ غير واجب إلى أن ابن الصباغ ذكر أن في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن العاصي فقال : لا خلاف بين أهل العلم في أن القاضي حيث استخلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وإنما التغليظ بالمكان في اختيار فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحسانا

الحلف في المصحف
فصل : قال ابن المنذر : لم نجد أحدا يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي : رأيتهم يؤكدون بالمصحف ورأيت ابن مازن وهو قاضي بصنعاء يغلظ بالمصحف قال أصحابه : فليغلظ عليه بإحضار المصحف لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليمين وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه لفعل ابن مازن ولا غيره

يحلف الرجل فيما عليه على البت
مسألة : قال : ويحلف الرجل فيما عليه على البت ويحلف الوارث على دين الميت على العلم
معنى البت القطع أي حلف بالله ماله على شيء وجملة الأمر أن الأيمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم وبهذا قال أبو حنيفة مالك و الشافعي وقال الشعبي و النخعي : كلها على العلم وذكره ابن أبي موسى رواية أحمد حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه سلم [ لا تضطروا الناس في إيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون ] ولأنه لا يكلف ما لا علم له به وقال ابن أبي ليلى كلها على البت كما يحلف على فعل نفسه
ولنا حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استحلف رجلا فقال : قل والله الذي لا إله إلا هو ما له عليك حق ] وروى الاشعث بن قيس [ أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم في أرض من اليمن فقال الحضرمي : يا رسول الله أن أرضي اغتصبها أبو هذا وهي في يده قال : هل لك بينة ؟ قال لا ولكن أحلفه والله العظيم ما يعلم أنه أرض اغتصبنيها أبوه فتهيأ الكندي لليمين ورواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ] وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره فافترقا في اليمن كما افتقرت الشهادة فإنها تكون بالقطع فيما من العقود وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الأملاك والأنساب وعلى النفي العلم فيما لا تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة على وارث له غير فلان وفلان وحديث القاسم بن عبد الرحمن محمول على اليمين على نفي فعل الغير
إذا ثبت هذا فإنه يحلف عليه على البت نفيا كان أو إثباتا وأما ما يتعلق بفعل غيره فإن كان إثباتا مثل أن يدعي أنه فرض أو باع ويقيم شاهدا بذلك فإنه يحلف مع شاهده على البت والقطع وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعي عليه دين أو غصب أو جناية فإنه يحلف على نفي العلم لا غير وإن حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما الشاهد إذا شهد بعدد الورثة وقال ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه ولو ادعى عليه أن عبده جنى أو استدان فأنكر ذلك فيمينه نفي العلم لأنها يمين على نفي فعل الغير فأشبهت يمين الوارث على نفي الموروث
فصل : قال ابن أبي موسى : اختلف قول أحمد في من باع سلعة وظهر المشتري على عيب بها وأنكره البائع هل اليمين على البتات أو على علمه ؟ على روايتين ولو أبق عند المشتري فادعى على البائع أنه أبق عنده فأنكر هل يلزمه أن يحلف أنه لم يأبق قط أو على نفي علمه ؟ على روايتين إلا أن يكون ولده فيحلف أنه لم يأبق قط ووجه كون اليمين على علمه أنها على نفي فعل الغي فأشبه ما لو ادعى عليه أن عبده جنى ووجه الأخرى أنه إذا ادعى عليه أنه باعه معيبا يستحق به رده عليه فلزمته اليمين على البت كما لو كان إثباتا

فيما لو توجهت عليه يمين هو فيها صادق
فصل : ومن توجهت عليه يمين وهو فيها صادق أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شيء عليه من أثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين ولا تشرع محرما وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه وحلف عمر لأبي بكر على نخيل ثم وهبه له وقال : خفت إن لم أحلف أن تمنع الناس من الحلف على حقوقهم فتصير سنة وقال حنبل : بلي أبو عبد الله بنحو هذا جاء هذا إليه ابن عمه فقال : لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي وأحلفك فقيل لأبي عبد الله ما ترى ؟ قال أحلف له إذا لم يكن له قبلي حق أنا غير شاك في ذلك حلفت له وكيف لا أحلف وابن عمر قد حلف وأنا من أنا وعزم أبو عبد الله على اليمين فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عنه تلك المطالبة واختلف في الأولى فقال قوم : الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولأن في الحلف فائدتين : أحدهما : حفظ ماله عن الضياع وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أضاعته والثانية : تخليص أخيه الظالم من ظلمه وأكل المال بغير حقه وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه وقد [ أشار النبي صلى الله عليه و سلم على رجل أن يحلف ويأخذ حقه ] وقال أصحابنا الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يمينه وقال : خفت أن تصادق قدرا فيقال حلف فعوقب أو هذا شؤم يمينه
وروى الخلال بإسناده أن حذيفة عرف جملا سرق له فخاصم فيه القاضي المسلمين فصارت اليمين على حذيفة فقال : لك عشرة دراهم فأبى فقال حذيفة : أتراني أترك جملي ؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلا ولا يأمن أن يصادف قدرا فينسب إلى الكذب وأنه عوقب بحلفه كاذبا وفي ذهاب ماله له أجر وليس هذا تضييعا للمال ؟ فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة

في الحلف الكذب
فصل : فأما الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه ففيه إثم كبير وقد قيل أنه من الكبائر لأن الله تعالى وعد عليه العذاب الأليم فقال سبحانه تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } [ قال الأشعث بن قيس : نزلت هذه الآية وكان لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : بينتك لو يمينه قلت إذا يحلف عليها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ] أخرجه البخاري
وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ] متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الكندي [ لئن حلف على ماله ليأكله ظالما ليلقين الله وهو عنه معرض ] وهو حديث حسن صحيح وقد روي في حديث أن يمين الغموس تذر الديار بلاقع ويستحب للحاكم أن يخوف المدعى عليه من اليمين الفاجرة ويقرأ عليه الآية والأخبار

حكم من ادعى عليه دين وهو معسر به هل يحلف أم لا
فصل : ومن ادعى عليه دين وهو معسر به لم يحل له أن يحلف أنه لا حق له علي وبهذا قال المزني وقال أبو ثور : له ذلك لأن الله تعالى قال { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولأنه لا يستحق مطالبته به في الحال ولا يجب عليه أداؤه إليه ولنا أن الدين في ذمته وهو حق له عليه ولو لم يكن عليه حق لم يجب إنظاره به

يمين الحالف على حسب جوابه
ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه أنه غصبه أو استودعه وديعة أو اقترض منه نظرنا في جواب المدعى عليه قال : ما غصبتك ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف أن يحلف على ذلك فإن قال مالك علي حق أو لا تستحق علي شيئا أولا تستحق علي ما ادعيته ولا شيئا منه كان جوابا صحيحا ولا يكلف الجواب عن الغصب والوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه ثم رده عليه فلو كلف جحد ذلك كان كاذبا وإن أقر به ثم أدعى الرد يقبل منه فإذا طلب منه اليمين حلف على حسب ما أجاب
ولو ادعى أنني ابتعت منك الدار التي في يدك فأنكره وطلب يمينه نظرنا في جوابه فإن أجاب بأنك لا تستحقها حلف على ذلك ولم يلزمه أن يحلف أنه ما ابتاعها لأنه قد يبتاعها منه ثم يردها عليه وإن أجاب بأنك لم تبتعها مني حلف على ذلك
قال أحمد في رجل ادعى على رجل أنه أودعه فأنكره هل يحلف ما أودعتني ؟ قال : إذا حلف ما لك عندي شيء ولا لك في يدي شيء فهو يأتي على ذلك وهذا يدل على أنه لا يلزمه الحلف على حسب الجواب وأنه متى حلف ما لك قبلي حق برئ بذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين

لا تدخل اليمين النيابة
فصل : ولا تدخل اليمين النيابة ولا يحلف أحد عن غيره فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا لم يحلف عنه ووقف الأمر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه ولو ادعى الأب لابنه الصغير حقا أو ادعاه الوصي أو الأمين له فأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه فإن نكل قضى عليه ومن لم ير القضاء بالنكول ورأي رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف اليمين ويكتب الحاكم محضرا بنكول المدعى عليه وإن ادعى على العبد دعوى نظرت فإن كانت مما يقبل قول العبد فيها على نفسه كالقصاص والطلاق والقذف فالخصومة معه دون سيده فإن قلنا أن اليمين تشرع في هذا أحلف العبد دون سيده وأن نكل لم يحلف غيره وإن كان مما لا يقبل قول العبد فيه كإتلاف مال أو جناية توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه ولا يحلف العبد فيها بحال

حكم ما لو نكل من توجهت عليه اليمين
فصل : وإذا نكل من توجهت عليه اليمين عنها قال لي بينة أقيمها استثبته لأحلف على ما أتيقن فذكر أبو الخطاب أنه لا يمهل وإن لم يحلف جعل ناكلا وقيل لا يكون ذلك نكولا ويمهل مدة قريبة وإن قال : ما أريد أن أحلف أو سكت فلم يذكر شيئا نظرنا في المدعى فإن كان مالا أو المقصود منه المال قضي عليه بنكوله ولم ترد اليمين على المدعي نص أحمد فقال : أنا لا أرى رد اليمين وإن حلف المدعى عليه وإلا دفع إليه حقه وبهذا قال أبو حنيفة واختار أبو طالب أن له رد اليمين على المدعي إن ردها حلف المدعي وحكم له بما ادعاه قال : وقد صوبه أحمد فقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق هو قول أهل المدينة وروي ذلك عن على رضي الله عنه وبه قال شريح و الشعبي و النخعي و ابن سيرين و مالك في المال خاصة قال الشافعي في جميع الدعاوى لما روي عن نافع عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رد اليمين على طالب الحق ] رواه الدار قطني ولأنه إذا نكل ظهر المدعي وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه كالمدعى عليه قبل نكوله وكالمدعي إذا شهد له شاهدا واحد ولأن النكول قد يكون لجهله بالحال وتورعه عن الحلف على ما لا يتحققه أو للخوف من عاقبة اليمين أو ترفعا عنها مع علمه بصدقه في إنكاره ولا يتعين بنكوله صدق المدعي فلا يجوز الحكم له من غير دليل فإذا حلف كانت بيمينه دليلا عند عدم ما هو أقوى منها كما في موضع الوفاق وقال ابن أبي ليلى لا أدعه حتى يقر أو يحلف
ولنا قول النبي صلى الله عليه مسلم [ ولكن اليمين على جانب المدعى عليه ] فحصرها في جانب المدعى عليه وقوله [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] فجعل في جانب جنس اليمين المدعى عليه كما جعل جنس البينة في جنبة المدعي وقال أحمد : قدم عمر إلى عثمان في عبد له فقال له احلف أنك ما بعته وبه عيب علمته فأنى ابن عمر أن يحلف فرد العبد عليه ولم يرد اليمين على المدعي ولأنها بينة المال فحكم فيها بالنكول كما لو مات و من لا وارث له فوجد الإمام في دفتره دينا له على إنسان فطالبه به فأنكره وطلب منه اليمين فأنكره فإنه لا خلاف أن اليمين لا ترد وقد ذكر أصحاب الشافعي في هذا أنه يقضي بالنكول في أحد الوجهين وفي الآخر يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف وكذلك لو ادعى رجل على ميت أنه وصى إليه بتفريق الثلث وأنكر الورثة ذلك ونكلوا عن اليمين قضى عليهم والخبر لا تعرف صحته ومخالفة ابن عمر له في القصة التي ذكرنها تدل على ضعفه فإنه لم يرد اليمين على المدعي ولا ردها عثمان فعلى هذا إذا نكل عن اليمن قال له الحاكم إن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثا فإن حلف وإلا قضي عليه وعلى القول الآخر يقول له لك رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف وقضي له وإن نكل عن اليمين سئل عن سبب نكوله فإن قال لي بينة أقيمها أو حساب أستثبته لأحلف على ما أتيقنه أخرت الحكومة وإن قال ما أريد أن أحلف سقط حقه من اليمين فلو بذلها في ذلك المجلس بعد هذا لم تسمع منه إلى أن يعود في مجلس آخر فإن قبل المدعى عليه لو امتنع من اليمين ثم بذلها سمعت منه فلم منعتم سماعها ههنا ؟ قلنا اليمين في حق المدعى عليه هي الأصل فمتى قدر عليه أبذلها وجب قبولها والمصير إليها كالمبدلات مع إبدالها وأما يمين المدعي فهي بدل فإذا امتنع منها لم ينتقل الحق إلى غيره فإذا امتنع منها سقط حقه منها لضعفها وأما إذا حلف وقضى له فعاد المدعى عليه وبذل اليمين لم يسمع منه وهكذا لو بذلها بعد الحكم عليه بنكولة لم يسمع لأن الحكم قد تم فلا ينقض كما لو قامت به بينة فأما غير المال وما لا يقصد به المال يقضى فيه بالنكول نص عليه أحمد في القصاص
ونقل عنه في رجل ادعى على رجل أنه قذفه فقال : استحلفوه فإن قال لا أحلف أقيم عليه قال أبو بكر : هذا قول قديم والمذهب أنه لا يقضي في شيء من هذا بالنكول ولا فرق بين القصاص في النفس والقصاص في الطرف وبهذا قال أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يقضي بالنكول في القصاص فيما دون النفس وعن أحمد مثله والأول هو مذهب لأن هذا أحد نوعي القصاص فأشبه النوع الآخر فعلى هذا ما يصنع فيه وجهان أحدهما : يخلى سبيله لأنه لم يثبت عليه حجة وتكون فائدة شرعية اليمين الردع والزجر والثاني : يحبس حتى يقر أو يحلف وأصل الوجهين المرأة إذا نكلت عن اللعان

حكم ما لو حلف ثم قال إن شاء الله
فصل : وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى أعيدت عليه اليمين لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين وكذلك إن وصل يمينه بشرط أو كلام غير مفهوم وإن حلف قبل أن يستخلفه الحاكم أعيدت عليه ولم يعتد بما حلف قبل الاستحلاف وكذلك إن استحلفه الحاكم قبل أن يسأله المدعي استحلافه لم يعتد بها

حكم ما لو ادعى رجل دينا فقال قد أبرأتني منه
فصل : ولو ادعى على رجل دينا أو حلف فقال أبرأتني منه أو استوفيته مني فالقول قول من ينكر الإبراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه أن يحلف بالله أن هذا الحق ويسميه تسمية يصير بها معلوما ما برئت ذمتك منه ولا من شيء منه أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شيء منه وإن ادعى استيفاءه أو البراءة بجهة معلومة حلف على تلك الجهة وحدها وكفاه

الحقوق ضربان
فصل : والحقوق على ضربين : أحدهما : ما هو حق الآدمي والثاني : ما هو حق الله تعالى فحق الآدمي ينقسم قسمين : أحدهما : ما هو مال أو المقصود منه المال فهذه تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم فإذا لم تكن للمدعي بينة حلف المدعى عليه وبرئ وقد ثبت هذا في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض وعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] القسم الثاني : ما ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطرق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاء والولاء والرقة ففيه روايتان : أحدهما : لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد : لم أسمع من مضى جوزوا الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال : لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الإيلاء ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاء والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما تعرض اليمين فيما يدخله بدل فإن المدعى عليه يخير بين أن يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين فلا تعرض فيها اليمين كالحدود والرواية الثانية : يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وقال الخرقي إذا قال أرجعتك فقالت انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها وإذا اختلفا في مضي أربعة أشهر فالقول قوله مع يمينه فيخرج من هذا أن يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي و أبي يوسف و محمد لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] أخرجه مسلم وهذا عام في كل مدعى عليه وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق لادمي فجاز أن يحلف المدعى عليه كدعوى المال الضرب الثاني : حقوق الله تعالى وهو نوعان أحدهما : الحدود فلا تشرع فيها يمين ولا نعلم في هذا خلافا لأنه لو أقر ثم رجع عن إقراره قبل منه وخلي من غير يمينه فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به بالرجوع عن إقراره وللشهود بترك الشهادة والستر عليه [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لهزال في قصة ماعز : يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ] فلا تشرع فيه يمين بحال النوع الثاني : الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب فقال أحمد : القول قول رب المال من غير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقال الشافعي و أبو يوسف و محمد : يستحلف لأنها دعوى مسموعة أشبه حق الآدمي
ولنا أنه حق لله تعالى أشبه الحد ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعى عليه أن عليه كفارة يمين أو ظاهر أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين ولا تسمع الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى لأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية له عليه مثل أن يدعي سرقة ماله ليضمن السارق أو يأخذ منه ما سرقه أو يدعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ مهرها منه سمعت دعواه ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى

في الشهادة
مسألة : قال : وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنى بها في هذا البيت وشهد الآخران أنه زنى بها في البيت الآخر فالأربعة قذفه وعليهم الحد
وجملته أن من شروط صحة الشهادة على الزنا اجتماع الأربعة على فعل واحد فإن لم يجتمعوا لم تكمل الشهادة وكان الجميع قذفه عليهم الحد فإن شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت وشهد اثنان أنه زنا بها في بيت آخر فما اجتمعوا على الشهادة بزنا واحد لأن الزنا في هذا البيت غير الزنا في الآخر فلم تكمل شهادتهم ويحدون حد القذف وبهذا قال مالك و الشافعي في أحد قوليه وقال أبو بكر : تكمل شهادتهم ويحد المشهود عليه واستبعده أبو الخطاب وقال : هذه سهو من الناقل لأنه يخالف الأصول والإجماع والحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بها ؟
وقال النخعي وأصحاب الرأي و أبو ثور و الشافعي في قول : لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة ولا على المشهود عليه لأنهم لم يشهدوا زنا واحد يجب الحد به
ولنا أنهم لم يشهدوا بزنا واحد فلزمهم الحد كما لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة وأنه زنى بغيرها ولأنه لا يخلو من أن تكون شهادتهم بزنا واحد أو باثنين فإن كانت بفعل واحد مثل أن يعين الجميع وقتا واحدا لا يمكن زناه فيه في الموضعين فاثنان منهم كاذبان يقينا واثنان منهما لو خلوا من المعارضة لشهادتهم لكانا قذفه فمع التعارض أولى وإن كانت شهادتهم بفعلين كانوا قذفه كما لو عينوا في شهادتهم أنه زنى مرة أخرى وما ذكروه يبطل الأصل الذي ذكرناه
فصل : وكذلك كل شهادة على فعلين مثل أن يشهد اثنان أنه زنى بامرأة وآخران أنه زنى بأخرى أو يشهدان أنه زنى بها في يوم وآخران أنه زنى بها في آخر أو يشهدان أنه زنى بها ليلا وآخران أنه زنى بها نهارا أو يشهدان أنه زنى بها غدوة ويشهد آخران أنه زنى بها عشيا وأشباه هذا فأنهم قذفه في هذه المواضع وعليهم الحد لما ذكرناه فإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية منه أخرى وكانتا متباعدتين فالحكم فيه كما ذكرنا وقال أبو حنيفة : تقبل شهادتهم ويحد المشهود عليه استحسانا وهو قول أبي بكر
ولنا أنهما مكانان لا يمكن وقوع الفعل الواحد فيهما ولا يصح نسبته إليهما فأشبها البيتين وأما إن كانتا متقاربتين تمكن نسبته إلى كل واحد منهما لقربه منها كملت الشهادة لإمكان صدقهم في نسبته إلى الزاويتين جميعا
فصل : ومتى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل أن يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا يوم السبت ويشهد الآخر أنه غصبه دينارا يوم الجمعة أو يشهد أحدهما أنه غصبه بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه بمصر أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر أنه غصبه ثوبا فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل لم يشهد به شاهدان وهكذا إن اختلفا في زمن القتل أو مكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف لم تكمل الشهادة لأن ما يشهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة لم تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان والمكان فأما إن اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض وشهد آخر أنه سرق مع الزوال كيسا اسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوه وشهد الآخر أنه سرق عشيا لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر : تكمل : الأول أصح لأن كل فعل لم يشهد به إلا واحد على ما قدمناه
وإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافا يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن إيجابهما جميعا لأنه يكون إيجابا بالحق عليه بشهادة واحد ولا إيجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر فأما إن شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في الزمان والمكان أو الصفة ثبتا جميعا لأن كل واحد منهما قد شهدت به بينة عادله لو انفردت أثبت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لإمكان الجمع بينهما إلا أن يكون الفعل مما لا يمكن تكرره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة ولا نعلم أيتهما هي بخلاف ما تكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما جميعا يثبتان إن ادعاهما وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما دعاه دون ما لم يدعه
وإن شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كيسا أسود وشهد آخران أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض أو شهد اثنان أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشيا فقال القاضي : يتعارضان : وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلا والصحيح أن هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين أبيض وأسود فتشهد كل بينة بأحدهما ويمكن أن يسرق كيسا غدوة ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشيا ومع إمكان الجمع لا تعارض فعلى هذا إن ادعاهما المشهود له ثبت له في الصورة الأولى وأما في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل واحد فلا يجب أكثر من ضمانة وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه وإن شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو شهد أحدهما في مكان وشهد آخر بسرقته في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض وشهد آخر بغصب كيس أسود فادعاهما المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد شهد له به شاهد وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه
فصل : فأما الشهادة على الإقرار مثل أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي يوم الخميس بدمشق أنه قتله أو قذفه أو غصبه كذا أوأن له في ذمته كذا و يشهد آخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت بحمص كملت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال زفر : لا تكمل شهادتهما لأن كل إقرار لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة فأشبه الشهادة على الفعل
ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالإقرار به فكملت شهادتهما كما لو كان الإقرار بهما واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيرة من الإقرار أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قتله في يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا ويحقق ما ذكرنا أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات متفرقة وأماكن مختلفة فيشهدهم على إقراره وإن كان الإقرار على فعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهم أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الجمعة أو قال أحدهما : أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعربية وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي شهد به أحدهما غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه اقر أنه غصبه دينار وشهد الآخر أنه أقر أنه غصبه دراهم لم تكمل الشهادة وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضى فلا يعتبر في الشهادة ولم يؤثر والأول أصح
فصل : فإن شهد أحدهما أنه باع أمس وشهد الآخر أنه باع اليوم أو شهد أحدهما أنه طلقها أمس وشهد الآخر أنه طلقها اليوم فقال أصحابنا : تكمل الشهادة وقال الشافعي : لا تكمل الشهادة لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغصب في وقتين
ووجه قول أصحابنا بأن المشهود به شيء واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحدا فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية
فصل : وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل الواحد فإن شهد أحدهما أنه تزوجها أمس وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم جميعا لأن النكاح الأمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين إلا شاهد واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل وكذلك القذف فإنه لا تكمل إلا الشهادة أن يشهد على قذف واحد
فصل : فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد وشهد آخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة وحكم به لأنه لا يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد به الشاهد فلم يختلف الفعل وكملت الشهادة كما لو شهدا في وقتين على إقرار بالغصب قال القاضي : لا تكمل الشهادة بها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على إقرارين فأنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحدالشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين و لأنه إذا أمكن جعل الشهادة على واحد لم تحمل على اثنين كالإقرارين وكما لو شهد بالغصب اثنان وشهدعلى الإقرار به اثنان وإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أنه أقر بغصبه منه وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شيء واحد وإن شهد أنه أخذ من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فترد إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى دارا في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما أن هذه الدار لفلان وقال الآخر أشهد أن هذه الدار دار فلان قال : شهادتهما جائزة
فصل : ومن شهد بالنكاح فلا بد من ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد يعتقد أن النكاح صحيح وهو فاسد وإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه ؟ على روايتين أحدهما : يشترط ذكرها لأن الناس يختلفون في شروطه فاشترط ذكرها كالنكاح والثاني : لا يشترط ذكر شروطه لأنه لا يشترط ذكرها في الدعوى فكذلك في الشهادة به بخلاف النكاح وإن شهد بالرضاع فلا بد من ذكر أنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه وعدد الرضعات لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات وفي الرضاع المحرم وإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها ولا بد من ذكر أن ذلك كان في الحولين وإن شهد بالقتل فلا بد من وصف القتل فيقول جرحه فقتله أو ضربه بكذا فقتله ولو قال : ضربه فمات لم يحكم بذلك لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل فقال : أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال له شريح : فمات منه أو فقتله ؟ فأعاد القول الأول وأعاد شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا فمات منه فقال له شريح : قم فلا شهادة لك رواه سعيد ومن شهد بالزنا فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها ومكان الزنا وصفته لأن اسم الزنا يطلق على ما لا يوجب الحد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أو له في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال : لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان لأنه محل للفعل فلم يعتبر ذكره كالزمان وإن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر سرقة نصاب من الحرز وذكر المسروق منه وصفة السرقة وإن شهد بالقذف فلا بد من ذكر المقذوف وصفة القذف وإن شهد بمال احتاج إلى تحريزه بمثل ما ذكرنا في الدعوى وإن ترك الشاهد شيء يحتاج إلى ذكره سأله الحاكم عنه كما سأل شريح الشاهد الذي شهد عنده أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات وإن حرر المدعي دعواه أو حرر أحد الشاهدين شهادته وشهد بها وقال الآخر : أشهد بمثل ذلك أو قال حين حرر المدعي دعواه أشهد بذلك أو بهذا أجزأه
مسألة : قال : ولو جاء أربعة متفرقون والحاكم جالس في مجلس حكمه لو يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد
هذه مسألة قد ذكرناها في كتاب الحدود بما أغنى عن إعادتها هنا
مسألة : قال : ومن حكم بشهادتهما بجرح أو قتل ثم رجعا وقالا عمدنا اقتص منهما وإن قالا أخطأنا غرما الدية أو أرش الجرح
وجملته الأمر أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم يخل من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يرجعوا قبل الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكى عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم وقال : يحكم بها لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز الحكم بها كما لو شهد بقتل رجل ثم علم حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز الحكم به كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولأن الشك لا يزيل ما حكم به كما لو تغير اجتهاده
الحال الثاني : أن يرجع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فينظر فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص لم يجز استيفاؤه لأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات ولأن المحكوم به عقوبة ولم يتعين استحقاقها ولا سبيل إلى جبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وفارق المال فإنه يمكن جبره بإلزام الشاهدين عوضه والحد والقصاص لا ينجبر بإيجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب منه عوض وإنما شرع للزجر والتشفي والانتقام لا للجبر فإن قيل : فقد قلتم أنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهدان استوفي في أحد الوجهين قلنا : الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور وأنهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذبا ولا أنه كان فاسقا حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد الاستيفاء لم يلزمه شيء والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا وإن كان المشهود به مالا استوفى ولم ينقص حكمه في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكى سعيد بن المسيب و الأوزاعي أنهما قالا : ينقض الحكم وإن استوفى الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما ثبت به فينقض الحكم كما لو تبين أنهما كانا كافرين
ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أوإقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم وهو شهادة العدول وفي مسألتنا لن يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلين صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى فإنها تدرأ بالشبهات
الحال الثالث : أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شيء سواء كان المشهود به مالا أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين ثم ينظر فإن كان المشهود به إتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح نظرنا في رجوعهما فإن قالا : عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد
وقال أصحاب الرأي : لا قود عليهما لأنهما لم يباشرا الإتلاف فأشبها حافر البئر وناصب السكين إذا تلف بهما شيء
ولنا أن عليا رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا : أخطأنا ليس هذا هو السارق فقال علي لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة فيكون إجماعا ولأنهما تسببا إلى قتله أو قطعه بما يفضي إليه غالبا فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر ونصب السكين فإنه لا يفضي إلى القتل غالبا
وقد ذكرنا هذه المسألة في القصاص فأما إن قالا : عمدنا الشهادة عليه ولا نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما والعاقلة لا تحمل اعترافا وإن قال أحدهما : عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف دية مغلظة وعلى الآخر نصف دية مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب لأنه قتل عمد وخطأ
وإن قال كل واحد منهما : عمدت وأخطأ صاحبي احتمل أن يجب القصاص عليهما لاعتراف كل واحد منهما بعمد نفسه واحتمل وجوب الدية لأن كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئا وهذا لا يوجب القصاص والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره لا باقرار غيره فعلى هذا تجب عليهم دية مغلظة وإن قال أحدهما عمدنا جميعا وقال الآخر : عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني وجهان كالتي قبلها
وإن قالا جميعا : أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن قال أحدهما : عمدنا معا وقال الآخر : أخطأنا معا فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف دية مخففة لأن كلا منهما يؤاخذ بحكم إقراره وإن قال كل واحد منهما : عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي ؟ فعليهما القصاص لإقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الإنسان بإقرار صاحبه وإن قال أحدهما : عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإذا قال عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي فهي كالتي قبلها وإن قال : عمدنا فعليه القصاص وفي الأول وجهان وإن قال : أخطأنا فلا قصاص على واحدا منهما وإن جهل حال الآخر بأن يجن أو يموت أو لا يقدر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة
فصل : وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم وفي أنه لا يستوفي العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل برجوعه كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لومه حكم إقراره فإن أقر بما يوجب القصاص وجب عليه وإن أقر بما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها وإن اقر بالخطأ وجب عليه نصيبه من الدية المخففة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص ونحوه فما ثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة فرجع الزائد منهم قبل الحكم والاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفاء لأن ما بقي من البينة كاف في إثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهما إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى
مسألة : قال : وإن كانت شهادتهما بمال غرماه ولم يرجع به على المحكوم له به سواء كان المال قائما أو تالفا
أما كونه لا يرجع به على المحكوم له به فلا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا سواء ما حكيناه عن سعيد بن المسيب و الأوزاعي وقد ذكرنا الكلام معهما فيما مضى فأما الرجوع به على الشاهدين فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي القديم وقال في الجديد : لا يرجع عليهما بشيء إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما إتلاف للمال ولا يد عادية عليه فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما
ولنا أنهما أخرجا ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى إتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص ويحقق هذا أنه إذا ألزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقولهم إنهما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف المال فهما تسببا إلى تلفه فيلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر البئر وناصب السكين

في الشهادة
مسألة : قال : وإن كان محكوما به عبدا أو أمة غرما قيمته
أما إذا شهد بالعبد أو الأمة لغير مالكه فالحكم في ذلك كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من الخلاف فيه لأنها من جملة المال وإن شهدا بحريتهما ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتها لسيدهما بغير خلاف بينهم فيه فإن المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ههنا وهو حجة عليه فيما خالف فيه فإن إخراج العبد عن يد سيده بالشهادة بحريته كإخراجه عنها بالشهادة به لغير مالكه فإذا لزمه الضمان ثم لزمه ههنا وغرما القيمة لأن العبيد من المتقومات لا من ذوات الأمثال
فصل : وإن شهدوا بطلاق امرأتين تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجع عن الشهادة وكان قبل الدخول فالواجب عليهما نصف المسمى وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي في أحد قوليه : يجب مهر المثل لأنهما أتلفا عليه البضع فلزمهما عوضه وهو مهر المثل وفي القول الآخر لزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما ملك نصف البضع بدليل إنما يجب عليه نصف المهر
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما أخرجته من ملكه بردتها أو إسلامها أو قتلها نفسها فإنها لا تضمن شيئا ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها لم يغرم شيئا وإنما وجب عليهما نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقراره عليه فرجع عليهما كما يرجع به عل من فسخ نكاحه برضاع أو غيره
وقوله أنه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه ولأن العقد ورد على جميعه والصداق واجب جميعه ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماءه لها وتملك طلبه إذا لم تقبضه وإنما يسقط نصفه بالطلاق وأما إن كان الحكم بالفرقة بعد الدخول فلا ضمان عليهما وبه قال أبو حنيفة
وعن أحمد رواية أخرى عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه نكاحا وجب عليه به عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما لو شهدا بذلك قبل الدخول
وقال الشافعي : يلزمهما له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع عليه وقد سبق الكلام معه في هذا ولا يصح القياس على ما قبل الدخول لأنهما قررا عليه نصف المسمى وكان بعرض السقوط وههنا قد تقرر المهر كله بالدخول فلم يقررا عليه شيئا ولم يخرجا من ملكه متقوما فأشبه ما لو أخرجنا من ملكه بقتلها أو أخرجته هي بردتها
فصل : وإن شهدا على المرأة بنكاح فحكم به الحاكم ثم رجعا نظرت فإن طلقها الزوج قبل دخوله بها لم يغرما شيئا لأنهما لم يفوتا عليهما شيئا وإن دخل بها وكان الصداق المسمى بقدر مهر المثل أو أكثر منه ووصل إليها فلا شيء عليهما لأنها أخذت عوض ما فوتاه عليها وإن كان دونه فعليهما ما بينهما وإن لم يصل إليهما فعليهما ضمان مهر مثلها لأنه عوض ما فوتاه عليها
فصل : وإن شهدا بكتابة عبده ثم رجعا نظرت فإن عجز ورد في الرق فلا شيء عليهما فإن أدى وعتق فعليهما ضمان جميعه لأنهما فوتاه عليه بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما ما بين قيمته وما قبضه من كتابته والأول لأن ما قبضه من كسب عبده فلا يحسب عليه وإن أراد تغريمهما بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما قبل انكشاف الحال فينبغي أن يغرمهما ما بين قيمته سلميا و مكاتبا وإن شهدا باستيلاد أمته ثم رجعا فينبغي أن يرجع عليهما بما نقصتها الشهادة من قيمتها وإن عتقت بموته رجع الورثة بما بقي من قيمتها
فصل : وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع وجب أن يوزع بينهم على عددهم قلوا أو أكثروا قال أحمد : في رواية إسحاق بن منصور : إذا شهد بشهادة ثم رجع وقد أتلف مالا فإنه ضامن بقدر ما كانوا في الشهادة فإن كانوا اثنين فعليه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو كانوا عشرة فعليه العشر وسواء رجع وحده أو رجعوا جميعا وسواء رجع الزائد عن القدر الكافي في الشهادة أو من ليس بزائد فلو شهد أربعة بالقصاص فرجع واحد منهم وقال : عمدنا قتله فعليه القصاص وإن قال : أخطأنا فعليه ربع الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو نصف الدية وإن شهد ستة بالزنا على محصن فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص أو سدس الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدية وبهذا قال أبو عبيد وقال أبو حنيفة : إن رجع واحد أو اثنان فلا شيء عليهما لأن بينة الزنا قائمة فدمه غير محقون وإن رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وإن رجع أربعة فعليهم نصف الدية وإن رجع خمسة فعليهم ثلاثة أرباعها وإن رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص الشافعي فيما إذا رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف وأصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة فرجع أحدهم فقال أبو إسحاق لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية ؟ على وجهين قال ابن الحداد : عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنا إذا كان زائدا فإن دم المشهود عليه بالزنا غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولي القصاص وحده واختلفوا فيما إذا شهد بالمال ثلاثة فرجع أحدهم على وجهين : أحدهما : يضمن الثلث والثاني : لا شيء عليه
ولنا أن الإتلاف حصل بشهادتهم فالراجع مقر بالمشاركة فيه عمدا عدوانا لمن هو مثله في دلك فلزمه القصاص كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته فأشبه الثاني من شهود القصاص والرابع من شهود الزنا ولأنه أحد من حصل الإتلاف بشهادته فلزمه من الضمان بقسطه كما لو رجع الجميع ولأن ما تضمنه كل واحد مع اتفاقهم على الرجوع يضمنه إذا انفرد بالرجوع كما لو كانوا أربعة وقولهم : إن دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا قتل ولم يبق له دم بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص كما لو شهدت لرجل باستحقاق القصاص فاستوفاه ثم أقر بأنه قتله ظلما وأن الشهود شهدوا بالزور والتفريق بين القصاص والرجم بكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله ولأن كل واحد مؤاخذ بإقراره ولا يعتبر قول شريكه ولهذا لو أقر أحد الشريكين بعمدهما وقال الآخر : أخطأنا وجب القصاص على المقر بالعمد
فصل : وإذا حكم الحاكم في المال بشهادة رجل وامرأتين ثم رجعوا عن الشهادة توزع الضمان عليهم على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه وإن رجع أحدهم وحده فعليه من الضمان حصته وإن كان الشهود رجلا وعشرة نسوة فرجعوا فعلى الرجل السدس وعلى امرأة نصف السدس وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي لأن كل امرأتين كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل أن يجب عليهن النصف وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف و محمد لأن الرجل نصف البينة بدليل أنه لو رجع وحده قبل الحكم كان كرجوعهن فيكون الرجل حزبا والنساء حزبا فإن رجع بعض النسوة وحده أو الرجل فعلى الراجع مثل ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة وأصحابه متى رجع من النسوة ما زاد على اثنين فليس على الراجعات شيء وقد مضى الكلام معهم في هذا
فصل : وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين والثالث عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد مما رجع عنه بقسطه فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم مقر بأنه فوت على المشهود عليه ربع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة أن لا يلزم الراجع عن الثلاثمائة لو الأربعمائةأكثر من خمسين خمسين لأن المائتين لاتلزم الراجع عن الثلاثمائة لأن المائتين التي رجعا عنهما قد بقي بها شاهدان
فصل : وإذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان على جميعهم وقال أبو حنيفة : لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بشرط دون السبب الموجب للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنا ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين
ولنا أن قتله حصل بمجموع الشهادتين فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعهم بالزنا وفي كيفية الضمان وجهان
أحدهما : يوزع على عدد رؤوسهم كشهود الزنا لأن القتل حصل من جميعهم والثاني : على شهود الزنا النصف وعلى شهود الإحصان النصف لأنهم حزبان فلكل حزب نصف فإن شهد أربعة بالزنا واثنان منهم بالإحصان ثم رجعوا فعلى الوجه الأول على شاهدي الإحصان الثلثان وعلى الآخران الثلث لأن على شاهدي الإحصان الثلث لشهادتهما به والثلث لشهادتهما بالزنا وعلى الآخرين الثلث لشهادتهما بالزنا وحده
وعلى الوجه الثاني على شهود الإحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما بالإحصان ونصف الباقي لشهادتهما بالزنا ويحتمل أن لا يجب على شاهدي الإحصان إلا النصف لأن كل واحد منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة فكانت الدية بينهم على عدد رؤوسهم لا على عدد جناياتهم كما لو قتل اثنان واحدا جرحه أحدهما جرحا والآخر جرحين
فصل : وإذا شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد على ضمان مائة درهم وقيمة العبد مائتان فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا رجع السيد على الشاهدين بمائة لأنه تمام القيمة وكذلك لو شهدا على رجل أنه طلق زوجته قبل الدخول على مائة ونصف المسمى مائتان غرما للزوج مائة لأنهما فوتاها بشهادتهما المرجوع عنها
فصل : وإذا شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه وشهد آخران بدخوله بها ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهداء النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون عليهم النصف وعلى الآخرين النصف لأنهما قرراه وشاهدا النكاح أوجباه فقسم بين الأربعة أرباعا وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق لم يلزمهم شيء لأنهما لم يفوتا عليه شيئا يدعيه ولا أوجبا عليه ما لم يكن عليه واجبا
فصل : وإن شهد شاهدا فرع على شاهدي أصل فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجع شاهدا الفرع فعليهما الضمان لا أعلم بينهم في ذلك خلافا وإن رجع شاهدا الأصل وحدهما لزمهما الضمان أيضا وبه قال الشافعي و محمد بن الحسن
وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه لا ضمان عليهما وهو قول أبي حنيفة و أبي يوسف لأن الحكم تعلق بشهادة شاهدي الفرع بدليل أنهما شهادة جعلا شاهدي الأصل شهادة فلم يلزم شاهدي الأصل ضمان لعدم تعلق الحكم بشهادتهما ولنا أن الحق ثبت بشهادة شاهدي الأصل بدليل اعتبار عدالتهما فإذا رجعا ضمنا كشاهدي الفرع
فصل : وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين فرجع الشاهد غرم جميع المال ونص عليه أحمد في رواية جماعة وقال مالك و الشافعي : يلزمه النصف لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف كما لو كانا شاهدين
ولنا أن الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كشاهدين يحققه أن اليمين قول الخصم وقول الخصم ليس بحجة وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته الحاكم بالحكم وبهذا ينفصل عما ذكروه ولو سلمنا أنها حجة لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته بخلاف شهادة الشاهد الآخر قال أبو الخطاب : ويتخرج أن لا يلزمه إلا النصف المحكوم به إذا قلنا ترد اليمين على المدعي
فصل : وإذا رجعوا عن الشهادة بعد الحكم وقالوا عمدنا ووجب عليهم القصاص لم يعزروا لأن القصاص يغني عن تعزيزهم وإن كان في مال عزروا وغرموا لأنهم جنوا جناية كبيرة وارتكبوا جريمة عظيمة وهي شهادة الزور ويحتمل أن لا يعزروا لأن رجوعهم توبة منهم فيسقط عنهم التعزير ولأن شرعية تعزيرهم تمنعهم الرجوع خوفا منه فلا يشرع وإن قالوا أخطأنا لم يعزروا لأن الله تعالى قال { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } هذا إن كان قولهم يحتمل الصدق في الخطأ وإن لم يحتمله عزروا ولم يقبل قولهم
مسألة : قال : وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين ثم بان أنهما كافران أو فاسقان كانت دية اليد في بيت المال
وجملته أن الحاكم إذا حكم بشهادة اثنين في قطع أو قتل وأنفذ ذلك ثم بان أنهما كافران أو فاسقان أو عبدان أو أحدهم فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنهما صادقان فيما شهدا به وإنما الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما ويجب الضمان على الحاكم أو الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا قصاص عليه لأنه مخطئ وتجب الدية وفي محلها روايتان :
إحداهما : في بيت المال لأنه نائب المسلمين ووكيلهم وخطأ الوكيل في حق موكله عليه ولأن خطأ الحاكم يكثر لكثرة تصرفاته وحكوماته فإيجاب ضمان ما يخطئ فيه على عاقلته إجحاف بهم فاقتضى ذلك التخفيف عنه بجعله في بيت المال ولهذا المعنى حملت العاقلة دية الخطأ عن القاتل
والرواية الثانية : هي على عاقلته مخففة مؤجلة لما روى أن امرأة ذكرت عند عمر بسوء فأرسل إليها فأجهضت ذا بطنها فبلغ ذلك عمر فشاور الصحابة فقال بعضهم : لا شيء عليك إنما أنت مؤدب وقال علي : عليك الدية فقال عمر عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك يعني قريشا لأنهم عاقلة عمر ولو كانت في بيت المال لم يقسمها على قومه ولأنه من خطئه فتحمله عاقلته كخطئه في غير الحكومة و للشافعي قولان كالروايتين : فإذا قلنا أن الدية على عاقلته لم تحمل إلا الثلث فصاعدا ولا تحمل الكفارة لأن العاقلة لا تحمل الكفارة في محل الوفاق كذا ههنا وتكون الكفارة في ماله وإذا قلنا أنه في بيت المال فينبغي أن يكون فيه القليل والكثير لأن جعله في بيت المال لعله أنه نائب عنهم وخطأ النائب على مستنيبه وهذا يدخل يكثر خطؤه فجعل الضمان في ماله يجحف به وإن قال لكثرة تكرره وسواء تولى الحاكم الاستيفاء بنفسه أو أمر من تولاه قال أصحابنا : وإن كان الولي استوفاه فهو كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم سلطه على ذلك ومكنه منه وللولي يدعي أنه حقه فإذا قيل إذا كان الولي استوفى حقه فينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق شهوده كان الضمان على المستوفي دون الحاكم كذا هاهنا قلنا : ثم حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حق فوجب عليه رده أو ضمانه إن تلف وهاهنا لم يحصل في يده شيء وإنما أتلف شيئا بخطأ الإمام وتسليطه عليه فافترقا
فصل : وإن شهد بالزنا أربعة فزكاهم اثنان ورجم المشهود عليه ثم بان أن الشهود فسقة أو عبيد أو بعضهم فلا ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم يقينا والضمان على المزكين وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال القاضي : الضمان على الحاكم لأنه حكم بقتله من غير تحقيق شرطه ولا ضمان على المزكين لأن شهادتهما شرط وليست الموجبة وقال أبو الخطاب في رؤوس المسائل : الضمان على الشهود الذين شهدوا بالزنا
ولنا أن المزكين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهما الضمان كشهود الزنا إذا رجعوا ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الضمان على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقوله إن شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا أن شهود الإحصان يلزمهم الضمان وإن لم يشهدوا بالسبب وقد نص عليه أحمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنا لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف المزكين فإنه تبين كذبهم وأنهم شهدوا بالزور وأما إن تبين فسق المزكين فالضمان على الحاكم لأن التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فيلزمه الضمان كما لو قبل الشهادة شهود الزنا من غير تزكية ثم تبين فسقهم
فصل : ولو جلد الإمام إنسانا بشهادة شهود ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام ضمان ما حصل من أثر الضرب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفه : لا ضمان عليه
ولنا أنها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو قتله
فصل : ولو حكم الحاكم بمال بشهادة شاهدين ثم بان أنهما فاسقان أو كافران فإن الإمام ينقض حكمه ويرد المال إن كان قائما وعوضه إن كان تالفا فإن تعذر ذلك لإعساره أو غيره فعلى الحاكم ضمانه ثم يرجع على المشهود له وعن أحمد رواية أخرى لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين ويغرم الشهود المال وكذلك الحكم إذا شهد عنده عدلان أن الحاكم قبله بشهادة فاسقين ففيه روايتان ولا يغرم الشهود المال وكذلك الحاكم إذا شهد واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا ولا خلاف بين الجميع في أنه ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده أنه حكم بشهادة كافرين فقيس على ذلك ما إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد نص الله تعالى على التبين فيها فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وأمر بإشهاد العدول وقال { وأشهدوا ذوي عدل منكم } واعتبر الرضا بالشهداء فقال تعالى { ممن ترضون من الشهداء } فيجب نقض الحكم لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الإسلام ولأن الفسق معنى لو ثبت عند الحاكم قبل الحكم منعه فإذا شهد شاهدان أنه كان موجودا حالة الحكم وجب نقض الحكم كالكفر والرق في العقوبات إذا ثبت هذا فإن أبا حنيفة قال لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين لا قبل الحكم ولا بعده ومتى جرح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسق ولكن يسأله عن الشاهدين ولا تسمع على الفسق شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع في الدعوى والبينة
ولنا أنه معنى يتعلق الحكم به فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية وقوله لا يتعلق به حق أحد ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعده وتبرئته من أخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب أن تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهدين ولم يدعه لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة الفسق أدى إلى ظلم المشهود عليه لأنه يمكن أن لا يعرف فسق الشاهدين إلا شهود المشهود عليه فإذا لم تسمع شهادتهم وحكم عليه بشهادة الفاسقين كان ظالما له فأما إن قامت البينة أنه حكم بشهادة والدين أو والدين أو ولدين أو عدوين نظر في الحاكم الذي حكم بشهادتهما فإن كان ممن يرى الحكم به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يخالف نصا ولا إجماعا وإن كان ممن لا يرى الحكم بشهادتهم نقضه لأن الحاكم به يعتقد بطلاته والفرق بين المال والإتلاف أن المال إن كان باقيا وجب رده إلى صاحبه لأن كل واحد أحق بماله وإن كان تالفا وجب ضمانه على آخذه لأنه أخذه بغير إذن صاحبه ولا استحقاق لأخذه أما الإتلاف فإنه لم يحصل به في يد المتلف شيء برده ولم يمكن تضمينه لأنه إنما أتلف بحكم الحاكم وتسليطه عليه وهو لا يقر بعداوته بل يقول استوفيت حقي ولم يثبت خلاف دعواه ولم يمكن تضمين الشهود لأنهم يقولون شهدنا بما علمنا وأخبرنا بما رأينا وسمعنا ولم نكتم شهادة الله تعالى التي لزمنا أداؤها ولم يثبت كذبهم فوجب إحالة الضمان على الحاكم لأنه حكم من غير وجود شرط الحكم ومكن من إتلاف المعصوم من غير بحث عن عدالة الشهود وكان التفريط منه فوجب إحالة الضمان عليه

إذا ادعى عبد أن سيده أعتقه حلف مع شاهده وصار حرا
مسألة : قال : وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه حلف مع شاهده وصار حرا
وروي عن أحمد في هذا روايتان أحدهما : أن العتق يثبت بشاهد ويمين وهو اختيار أبي بكر لأنه إزالة ملك فيثبت بشاهد ويمين كالبيع والهبة ولأنه إتلاف للمال فيقبل فيه شاهد ويمين كالإتلاف بالفعل وإفضاؤه إلى تكميل الأحكام لا يمنع ثبوته بشاهد ويمين بدليل أن الولادة تثبت بشهادة النساء وينبني عليها النسب الذي لا يثبت بشهادتهن والرواية الثانية : لا نثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنها ليست بمال ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال في غالب الأحوال فأشبهت الحدود والقصاص والله أعلم

في شهادة الزور
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة زور أدب وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك
وجملته ذلك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قد نهى الله عنها في كتابه مع نهيه عن الأوثان فقال تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } وقد [ روي عن خريم بن فاتك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ] رواه أبو داود وروي عن ابن مسعود من قوله وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ] متفق عليه ورو أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال [ شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار ] فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه يقول شريح و القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و مالك و الشافعي و عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وقال أبو حنيفة : لا يعزر ولا يشهر لأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار وروى عنه الطحاوي أنه يشهر وأنكره المتأخرون
ولنا أنه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار من وجهين أحدهما : أنه يختص بضرره والثاني : أنه أوجب كفارة شاقة هي أشد من التعزير ولأنه قول عمر رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا وإذا ثبت هذا فإن تأديبه غير مقدور وإنما هو مفوض إلى رأي الحاكم إن رأى ذلك بالجلد جلده وإن رآه بحبس أو كشف رأسه وإهانته وتوبيخه فعل ذلك ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي : لا يزيد على تسع وثلاثين لئلا يبلغ به أدنى الحدود وقال ابن أبي ليلى : يجلد خمسة وسبعين سوطا وهو أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق : يجلدان مائة مائة ويغرمان الصداق
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى ] متفق عليه وقال القاسم و سالم يخفق سبع خفقات وقال شريح يجلد أسواطا فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق أو قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجده إن كان من أهل المسجد ويقول الموكل به : إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول : هذا شاهد زور فاعرفوه وهذا مذهب الشافعي وأتى الوليد بن عبد الملك بشاهد زور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا : سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به ولا يسخم وجهه ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار : يلبب ويدار به على حلق المسجد فيقول : من رآني فلا يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق رؤوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق والذي شهدوا له معهم
ولنا أن هذا مثله وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وأنه حبسه يوما وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما يراه ما لم يخرج إلى مخالفة نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شيء من ذلك حتى يحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك إما بإقراره أو يشهد على رجل بفعل في الشام في وقت ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل وهو حي أو أن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل أنه فعل شيئا في وقت وقد مات قبل ذلك الوقت أو لم يولد إلا بعده وأشباه هذا مما يتقين به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب به لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه وقد قال الله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ]
فصل : ومتى علم أن الشاهدين شهدا زور تبين أن الحكم كان باطلا ولزم نقضه لأنا تبينا كذبهما فيما شهدا به بطلان ما حكم به فإن كان المحكوم به مالا رد إلى صاحبه وإن كان إتلافا فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه إلا أن يثبت ذلك بإقرارهما على أنفسهم من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعا منهما عن شهادتهما وقد بينا حكم ذلك
فصل فإذا تاب شاهد الزور وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها وعدالته قبلت شهادته وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال مالك لا تقبل شهادته أبدا لأن ذلك لا يؤمن منه
ولنا أنه تائب من ذنبه فقبلت توبته كسائر التائبين وقوله : لا يؤمن منه ذلك قلنا مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن منهم معاودة ذنوبهم ولا غيرها وشهادتهم مقبولة والله أعلم

فيما لو غير العدل شهادته
مسألة : قال : وإذا غير العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها ونقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته
وهذا مثل أن يشهد بمائة ثم يقول : هي مائة وخمسين أو يقول بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به أخيرا وبهذا قال أبو حنيفة و الثوري و سليمان بن حبيب المحاربي و إسحاق وقال الزهري : لا تقبل شهادته الأولى ولا الآخرة لأن كل واحدة منهما ترد الأخرى وتعارضها ولأن الأولى مرجوع عنها والثانية غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه وخطأه في شهادته فلا يؤمن أن يكون في الغلط كالأولى وقال مالك : يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة وهو غير متهم فلم يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم
ولنا أن شهادته الآخرة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط الحكم فيعتبر استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه فلا ينقض بعد تمامه
فصل : وإن شهد بألف ثم قال قبل الحكم قضاه منه خمسمائة فسدت شهادته ذكره أبو الخطاب فقال : إذا شهد أن عليه ألفا ثم قال أحدهم قضاه منه خمسمائة بطلت شهادته وذلك أنه شهد بأن الألف جميعه عليه وإذا قضاه خمسمائة لم تكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضا فتفسد شهادته وفارق هذا ما لو شهد بألف ثم قال بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة وإقرار بغلط نفسه وهذا لا يقول هذا على سبيل الرجوع والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائة فإنه قال : إذا شهد بألف ثم قال أحدهما قبل الحكم : قضاه منه خمسمائة أفسد شهادته والمشهود له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائة فصحح شهادته في نصف الألف الباقي وأبطلها في النصف الذي ذكر أنه قضاه لأن ذلك بمنزلة الرجوع عن الشهادة به فأشبه ما لو قال : أشهد بألف بل خمسمائة
قال أحمد ولو جاء بعد هذا المجلس فقال : أشهد أنه قضاه منه خمسمائة لم يقبل منه لأنه قد أمضى الشهادة فهذا يحتمل أنه أراد إذا جاء بعد الحكم فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب بشهادتهما وحكم الحاكم ولا تقبل شهادته بالقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد فأما إن شهد أنه أقرضه ألفا ثم قال : قضاه منه خمسمائة قبلت شهادته في باقي الألف وجها واحدا لأنه لا تناقض في كلامه ولا اختلاف

إذا شهد الشهود واختلفت شهادتهم
مسألة : قال : إذا شهد شاهد بألف وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب
وجملة ذلك أنه إذا شهد أحد الشاهدين بشيء وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به وهذا قول شريح و مالك و الشافعي و ابن أبي ليلى و أبي يوسف و محمد و إسحاق و أبي عبيد وحكي عن الشعبي أنه شهد عنده رجلان وشهد أحدهما أنه طلقها تطليقه وشهد الآخر أنه طلقها تطليقتين فقال قد اختلفتما قوما وحكي عن أبي حنيفة أنه شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة لأن الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين فلم يشهد بكل إقرار إلا واحد
ولنا أن الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهم على صاحبه وما ذكره من أن كل إقرار إنما يشهد به واحد يبطل بما إذا شهد أحدهما أنه اقر بألف غدوة وشهد الآخر أنه أقر بألف عشيا فإن الشهادة تكمل مع أن كل إقرار إنما يشهد به واحد فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق وهذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلق الشهادة أو لم تختلف الأسباب والصفات فأما إن اختلفت مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وشاهد بخمسمائة من ثمن مبيع ويشهد شاهد بألف بيض وآخر بخمسمائة سود أو يشهد شاهد بألف دينار والآخر بخمسمائة درهم لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها ويحلف مع أحدهما ويستحق ما شهد به
فصل : فإن شهد له الشاهدان ويحلف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات دخلت الخمسمائة في الألف ووجب له بالشهادتين مائة وإن اختلفت الأسباب والصفات وجب له الألف والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان
فصل : وإن شهد له شاهد أنه باعه هذا العبد بألف وشهد آخر أنه باعه إياه بخمسمائة لم تكمل البينة لاختلافهما في صفة البيع وله أن يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه وإن شهد له بكل عقد شاهدان ثبت البيعان وإن أضاف البيع إلى وقت واحد مثل أن يشهد أنه باعه هذا العبد مع الزوال بألف وشهد آخر أنه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما وكل بينة تكذب الأخرى وإن شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له أن يحلف مع أحدهما ولا يتعارضان لأن التعارض إنما يكون بين البينتين الكاملتين
فصل : وإن شهد أحدهما أنه غصبه ثوبا قيمته درهمان وشهد آخر أن قيمته ثلاث ثبت له ما اتفقا عليه وهو درهمان وله أن يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما بدرهم فأشبه ما لو شهد أحدهما بألف وآخر بخمسمائة وإن شهد شاهدان أن قيمته درهمان وشاهدان أن قيمته ثلاثة ثبت له درهمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان وهما حجة فيجب الأخذ بهما كما يؤخذ بالزيادة في الأخبار وكما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بألفين فإنه يجب له ألفان قال القاضي : ويتوجه لنا مثل هذا بناء على مسألة الألف وخمسمائة
ولنا أن من شهد أن قيمته درهمان ينفي أن تكون قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في الدرهم وتخالف الزيادة في الأخبار فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف لا ينفي أن عليه ألفا آخر فإن قيل فلم قلتم إنه إذا شهد بكل واحد من القيمتين شاهدان تعارضتا وإن شهد واحد لم تتعارضا وكان له أن يحلف مع الشاهد بالزيادة عليها ؟ قلنا : لأن الشاهدين حجة وبينة فإذا كملت من الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما وأما الشاهد الواحد فليس بحجة وحده إنما يصير حجة مع يمين فإذا حلف مع أحدهما كملت الحجة بيمينه ولم يعارضهما ما ليس بحجة كما لو شهد بأحدهما شاهدان وبالآخر شاهد واحد

من ادعى شهادة عدل فأنكر أن عنده شهادة
مسألة : قال : ومن ادعى شهادة عدل فأنكر أن تكون عنده ثم شهد بها بعد ذلك وقال : كنت أنسيتها قبلت منه
وجملة ذلك أن العدل إذا أنكر أن تكون عنده شهادة ثم شهد بها قال : كنت أنسيتها قبلت ولم ترد شهادته وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحاق ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يجوز أن يكون نسيها وإذا كان ناسيا لها فلا شهادة عنده فلا نكذبه مع إمكان صدقه ولا يشبه هذا إذا ما قال : لا بينة لي ثم أتى ببينة حيث لا تسمع فإن ذلك إقرار منه على نفسه بعدم البينة والإنسان يؤاخذ بإقراره وقول الشاهد : لا شهادة عندي ليس بإقرار فإن الشهادة ليست له إنما هي حق فيكون منكرا لها فإذا اعترف بها كان إقرارا بعد الإنكار وهو مسموع بخلاف الإنكار بعد الإنكار ولأن الناسي للشهادة لا شهادة له عنده فهو صادق في إنكاره فإذا ذكرها صارت عنده فلا تنافي بين القولين وصار هذا كمن أنكر أن يكون عنده شهادة قبل أن يستشهد ثم استشهد بعد ذلك فصارت عنده بخلاف من أنكر أن له بينة فإنه لا يخرج عن أن يكون له بينة بنسيانها

من شهد بشهادة يجر إلى نفسه يعضها
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل
وجملته أن من شهد بشهادة له بعضها مثل أن يشهد الشريك لشريكه بمال من الشركة أو يشهد على زيد بدار له ولعمرو فإن شهادته تبطل في الكل وقال الشافعي : فيهما قولان : أحدهما كقولنا والثاني : تصح شهادته لغيره لأنه أجنبي فتصح شهادته له كما لو لم يكن له فيها شرك ويتخرج لنا مثل هذا بناء على قولنا في عبد بين ثلاثة اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم فادعى أنهم قبضوها منه فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض فإن شهادتهما تقبل عليه ويشاركهما فيما أخذا من المال
ولنا أنها شهادة رد بعضها للتهمة فترد جميعها كما لو شهد المضارب لرب المال بمال من المضاربة ولو شهد بدين لأبيه وأجنبي أو شهد بشهادة ترد في بعض ما شهد به بطلت كلها

حكم ما لو مات رجل وخلف ابنا وألف درهم
مسألة : قال : وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم وصدقه الأب وادعى آخر مثل ذلك وصدقه الابن فإن كان في مجلس واحد كان الألف بينما وإن كان في مجلسين كان الألف للأول ولا شيء للثاني
وجملته أن الميت إذا خلف وارثا وتركة فأقر الوارث لرجل بدين على الميت يستغرق ميراثه فقد أقر بتعلق دينه بجمع التركة استحقاقه لجميعها فإذا أقر بعد ذلك لآخر نظرت فإن كان المجلس صح الإقرار واشتركا في التركة لأن حالة المجلس كلها كحالة واحدة بدليل القبض فيما يعتبر القبض فيه وإمكان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار وإن كان في مجلس آخر لم يقبل إقراره لأنه يقر بحق على غيره فإنه يقر بما يقتضي مشاركة الأول في التركة ومزاحمته فيها وتنقيص حقه منها ولا يقبل إقرار الإنسان على غيره وقال الشافعي : يقبل إقراره ويشتركان فيها لأن الوارث يقوم مقام الموروث ولو أقر الموروث لهما لقبل فذلك الوارث ولأن منعه من الإقرار يفضي إلى إسقاط حق الغرماء فإنه قد لا يتفق حضورهم في مجلس واحد فيبطل حقه بغيبته ولأن من قبل إقراره أولا قبل اقراره ثانيا إذا لم يتغير حاله كالموروث
ولنا أنه أقر بما يتعلق بمحل تعلق به حق غيره على وجه يضر به تعلقا يمنع صحة تصرفه فيه فلم يقبل كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون أو الجاني وأما الموروث فإن أقر في صحته صح لأن الدين لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته وإن أقر في مرضه لم يحاص المقر له غرماء الصحة لذلك وإن أقر في مرضه لغريم يستغرق دينه تركته ثم أقر لآخر في مجلس آخر صح وشارك الأول والفرق بينه وبين الوارث أن إقراره الأول لم يمنعه التصرف في ماله ولا أن يتعلق به دين آخر بأن يستدين دينا آخر فلم يمنع ذلك تعلق الدين بتركته الإقرار بخلاف الوارث فإنه لا يملك أن يعلق بالتركة دينا آخر بفعله فلا يملكه بقوله ولا يملك التصرف في التركة ما لم يلتزم قضاء الدين
فصل : وإن مات وترك ألفا فأقر به ابنه لرجل ثم أقر به لغيره فهو للأول ولا شيء للثاني فيه سواء كان في مجلس أو مجلسين لأنه باعترافه للأول ثبت له الملك فيه فصار إقراره للثاني إقرار له بملك غيره فلم يقبل وتلزم المقر غرامته للثاني لأنه فوته عليه بإقرار لغيره فأشبه ما لو غصبه منه فدفعه إلى غيره

في إشارة المريض بالإقرار
مسألة : قال : ومن ادعى دعوى على مريض فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها حتى يقول بلسانه
وجملته أن إشارة المريض لا تقوم مقام نطقه وسواء كان عاجزا عن الكلام أو قادرا عليه وبهذا قال الثوري وقال الشافعي : يقبل إقراره بإشارته إذا كان عاجزا عن الكلام لأنه إقرار بالإشارة من عاجز عن الكلام فأشبه إقرار الأخرس
ولنا أنه غير ميئوس من نطقه فلم تقم إشارته مقام نطقه كالصحيح وبهذا فارق الأخرس فأنه ميئوس من نطقه ولهذا لو ارتج عليه في الصلاة لم تصح صلاته بغير قراءة بخلاف الأخرس والآيسة بفرق بينها وبين من ارتفع حيضها مع إمكانه في العدة ولأن عجزه عن النطق غير متحقق فإنه يحتمل أن يترك الكلام لصعوبته عليه ومشقته لا لعجزه وإن صار إلى حال يتحقق الإياس من نطقه لم يوثق بإشارته لأن المرض الذي أعجزه عن النطق لم يختص بلسانه فيجوز أن يكون أثر في عقله أو في سمعه فلم يدر ما قيل له بخلاف الأخرس ولأن الأخرس قد تكررت إشارته حتى صارت عند من يعاشره كاليقين ومثله النطق وهذا لم يتكرر إشارته فلعله لم يرد الإقرار إنما أراد الإنكار أو إسكات من يسأله ومع هذه الفروق لا يصح القياس

فيمن قال لا بينة لي ثم جاء ببينة
مسألة : قال : ومن ادعى دعوى وقال لا بينة ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل لأنه مكذب لبينته
وبهذا قال محمد بن الحسن وقال أبو يوسف و ابن المنذر : تقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يجوز أن ينسى أن يكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلم فلا يثبت بذلك أنه كذب بينته وقال بعض أصحاب الشافعي : وإن كان الأشهاد أمرا تولاه بنفسه لم تسمع بينته لأنه أكذبها وإن كان وكيله أشهد على المدعى عليه أو شهد من غير علمه أو من غير أن يشهدهم سمعت بينته لأنه معذور في نفيه إياها وهذا القول حسن ولنا أنه أكذب بينته بإقراره أنه لا يشهد له أحد فإذا شهد له إنسان كان تكذيبا له ويفرق الشاهد إذا قال لا شهادة عندي ثم قال كنت نسيتها لأن ذلك إقرار لغيره بعد الإنكار وههنا هو مقر لخصمه بعدم البينة فلم يقبل رجوعه عنه والحكم في ما إذا قال كل بينة لي زور كالحكم في ما إذا قال لا بينة لي على ما ذكرنا من الخلاف فيه

إذا قال : ما علم لي بينة ثم جاء بينة سمعت
فصل : وإن قال : ما أعلم لي بينة ثم أتى ببينة سمعت لأنه يجوز أن تكون له بينة لم يعلمها ثم علمها قال أبو الخطاب : ولو قال ما أعلم لي بينة فقال شاهدان نحن نشهد لك سمعت بينته

تقبل شهادة الوصي على من هو موصى عليهم
مسألة : قال : وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته وإن شهد لهم لم يقبل إذا كانوا في حجره
أما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه خلافا فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعا ولا يدفع عنهم بها ضررا وأما شهادته لهم إذا كانوا في حجره فغير مقبولة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشعبي و الثوري و مالك و الشافعي و الأوزاعي و أبو حنيفة و ابن أبي ليلى وأجاز شريح و أبو ثور شهادته لهم إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي منهم فقبلت شهادته لهم كما بعد زوال الوصية
ولنا أنه شهد بشيء هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها ويتصرف فيها فلم تقبل شهادته كما لو شهد بمال نفسه ولأنه يأخذ من مالهم عند الحاجة فيكون متهما في الشهادة به فأما قوله إذا كانوا في حجره فإنه يعني أنه لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم قبلت شهادته لزوال المعنى الذي منع قبولها والحكم في أمين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء

تقبل شهادة من يخنق أحيانا في حالة إفاقته
مسألة : قال : وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في إفاقته
قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ولا أحسبه إلا مذهب أهل الكوفة وذلك لأن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها وهو في وقت الأداء من أهل التحصيل والعقل الثابت فقبلت شهادته كالصبي إذا كبر ولأنه عدل غير متهم فقبلت شهادته كالصحيح وزوال عقله في غير حال الشهادة لا يمنع قبولها كالصحيح الذي ينام كالمريض الذي يغمى عليه في بعض الأحيان

قبول شهادة الطبيب في الموضحة
مسألة : قال : وتقبل شهادة الطبيب في الموضحة إذا لم يقدر على طبيبين وكذلك البيطار في داء الدابة
وجملته أنه إذا اختلف في الشجة هل هي موضحة أو لا فيما كان أكثر منها كالهاشمة والمنقله والآمة والدامغة أو أصغر منها كالباضعة والمتلاحمة والسمحاق أو في الجائفة وغيرها من الجراح التي لا يعرفها الأطباء أو اختلفا في داء يختص بمعرفته الأطباء أو في داء الدابة فظاهر كلام الخرقي أنه إذا قدر على طبيبين أو بيطارين لا يجزئ واحد لأنه مما يطلع عليه الرجال فلم تقبل فيه شهادة واحد كسائر الحقوق فإن لم يقدر على اثنين أجزأ واحد لأنه مما لا يمكن كل واحد أن يشهد به لأنه مما يختص به أهل الخبرة من أهل الصنعة فاجتزئ فيه بشهادة واحد بمنزلة العيوب تحت الثياب يقبل فيها قول المرأة الواحدة فقبول قول الرجل الواحد أولى

قول أحمد في أنواع الشهادة
فصل : قال أحمد رحمه الله : إذا قال : اشهد على مائة درهم فشهد على مائة دون مائة كره إلا أن يقول أشهد ولي على مائة ومائة يحيكه كله للحاكم كما كان وقال أحمد : إذا شهد على ألف وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائة ومائتين فقال له صاحب الحق أريد أن تشهد لي على مائة لم يشهد إلا بألف قال القاضي : وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد قال الله تعالى { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } ولأنه لو ساغ للشاهد أن يشهد ببعض ما أشهد عليه لساغ للقاضي أن يقضي ببعض ما شهد به الشاهد
وقال أبو الخطاب : عندي يجوز أن يشهد بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد بمائة فإذا شهد بمائة لم يكن كاذبا في شهادته فجاز كما لو كان قد أقرضه مائة مرة وتسعمائة مرة أخرى والأول أصح لما ذكره القاضي ولأن شهادته بمائة ربما أوهمت أن هذه المائة غير التي شهدت بأصله فيؤدي إلى إيجابها عليه مرتين
فصل : قال أحمد : إذا شهد بألف درهم ومائة دينار فله من دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي : لأنه لما جاز أن يحمل مطلق العقد على ذلك جاز أن تحمل الشهادة عليه والله أعلم

كتاب الدعاوى والبينات
الدعوى في اللغة إضافة الإنسان إلى نفسه شيئا ملكا أو استحقاقا أو صفقة أو نحو ذلك وهي في الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شيء عليه
وقال ابن عقيل : الدعوى الطلب قال الله تعالى { ولهم ما يدعون } وقيل : المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره أو إثبات حق في ذمته والمدعى عليه من ينكر ذلك وقيل : المدعي من إذا ترك لم يسكت والمدعى عليه من إذا ترك سكت وقد يكون كل واحد منهما مدعيا ومدعى عليه بأن يختلفا في العقد فيدعى كل واحد منهما أن الثمن غير الذي ذكره صاحبه والأصل في الدعوى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وفي حديث [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف

حكم ما لو ادعى زوجية امرأة فأنكرته وشرائط ادعاء النكاح وحكم المرأة تدعي على زوجها النكاح وتذكر معه حقا من حقوق النكاح
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته ولم تكن له بينة فرق بينهما ولم يحلف
وجملته أنه النكاح لا يستحلف فيه رواية واحدة ذكره القاضي وهو قول أبي حنيفة ويتخرج أن يستحلف في كل حق لآدمي وهو قول الشافعي و ابن المنذر ونحوه قول أبي يوسف ومحمد لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق لآدمي فيستحلف فيه كالمال ثم اختلفوا فقال أبو يوسف و ومحمد : يستحلف في النكاح فإن نكل ألزم النكاح وقال الشافعي : إن نكل ردت اليمين على الزوج فحلف وثبت النكاح
ولنا أن هذا مما لا يحل بذله فلم يستحلف فيه كالحد يحقق هذا أن الابضاع مما يحتاط فيها فلا تباح بالنكول ولا به وبيمين المدعي كالحدود وذلك لأن النكول ليس بحجة قوية إنما هو سكوت مجرد يحتمل أن يكون لخوفه من اليمين أو للجهل بحقيقة الحال و للحياء من الحلف والتبذل في مجلس الحاكم ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضى به فيما يحتاط له ويمين المدعي إنما هي قول نفسه لا ينبغي أن يعطى بها أمرا فيه خطر عظيم وأثم كبير ويمكن من وطء امرأة يحتمل أن تكون أجنبية منه
وأما الحديث فإنما تناول الأموال والدماء فلا يدخل النكاح فيه ولو دخل فيه كل دعوى لكان مخصوصا بالحدود فالنكاح في معناه بل النكاح أولى لأنه لا يكاد يخلو من شهود لكون الشهادة شرطا في انعقاده أو من اشتهاره فيشهد بالاستفاضة والحدود بخلاف ذلك إذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما ويحال بينه وبينها ويخلى سبيلها وإن قلنا أنها تحلف على الاحتمال الآخر فنكلت لم يقض بالنكول وتحبس في أحد الوجهين حتى تقر أو تحلف وفي الآخر يخلى سبيلها وتكون فائدة شرع اليمين التخوف والردع لتقر إن كان المدعي محقا تحلف فتبرأ إن كان مبطلا
فصل : وإذا ادعى رجل نكاح امرأة احتاج إلى ذكر شرائط النكاح فيقول : تزوجتها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها إن كانت ممن يعتبر رضاها وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع ملك فأشبه ملك العبد ألا ترى أنه لا يحتاج أن يقول : وليست معتدة ولا مرتدة ؟
ولنا أن الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود والمشهود ومنهم من لا يشترط ومنهم من يشترط إذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من لا يشترطه وقد يدعي نكاحا يعتقده صحيحا والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلم بها ما لم تذكر الشروط وتقوم البينة بها وتفارق المال فإن أسبابه تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك اشترطنا لصحة البيع شروطا سبعة وربما لا يحسن المدعي عدها ولا يعرفها والأموال مما يتساهل فيها ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى وعدم العدة والردة لم يختلف الناس فيه والأصل عدمها ولا تختلف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حرا فقياس ما ذكرناه أنه يحتاج إلى ذكر عدم الطول وخوف العنت لأنهما من شرائط صحة نكاحها وأما إن ادعى استدامة الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر الشروط في أحد الوجهين يثبت في الاستفاضة ولو اشترط ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط لأنه دعوى نكاح فأشبه دعوى العقد
فصل : وإن ادعت المرأة النكاح على زوجها وذكرت معه حقا من حقوق النكاح كالصداق والنفقة ونحوها سمعت دعواها بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها كما لو ادعت ملكا أضافته إلى الشراء وإن أفردت دعوى النكاح فقال القاضي : تسمع دعواها أيضا لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها فيه كالبيع وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر لا تسمع دعواها أيضا لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها حقا لغيرها فإن قلنا بالأول سئل الزوج فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله من غير يمين لأنه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلأن لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل أن يستحلف لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تشرع فيه اليمين وإن قامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها فأما إباحتها له فيتبنى على باطن الأمر فإن علم أنها زوجته حلت له لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وإن علم أنها ليست امرأته إما لعدم العقد أو لبينونتها منه لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر ؟ يحتمل وجهين أحدهما : يمكن منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية والثاني : لا يمكن منها لإقراره على نفسه بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال : هي أختي من الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرنا من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب ما ذكرنا في هذا الفصل

حكم سائر العقود غير النكاح من حيث الكشف وذكر الشروط
فصل : فأما سائر العقود غير النكاح كالبيع والإجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر الشروط في أصح الوجهين لأنها لا يحتاط لها ولا تفتقر إلى الولي والشهود فلم تفتقر إلى الكشف كدعوى العين وسواء كان المبيع جارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت الجارية وكذلك إذا كان المدعى عينا أو دينا لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه أن يقول : استحق هذه العين التي في يده أو أستحق كذا وكذا في ذمته ويقول في البيع : إني اشتريت منه هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج أن يقول وهي ملكه أو وهي ملكي ونحن جائز الأمر وتفرقنا عن تراض وذكر أبو الخطاب في العقود وجها آخر أنه يشترط ذكر شروطها قياسا على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين الوجهين و وجها ثالثا أنه إن كان المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد يستباح به الوطء فأشبه النكاح وإن كان المبيع غيرها لم يشترط لعدم ذلك والأول أولى لأنها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكره سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة فيمكن الحاكم الحكم بها وقد ذكرنا سائر الدعاوى فيما سبق بما أغنى عن إعادته ههنا

حكم ما لو ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد بينة وحكم ما لو كان في يد رجل شاه فادعاها آخر
مسألة : قال : ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد منهما بينة حكم للمدعي ببينته ولم يلتفت إلى بينه المدعى عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمرنا بسماع بينة المدعي ويمين المدعى عليه وسواء شهدت بينة المدعى عليه أنها له أو قالت ولدت في ملكه عليه
وجملة ذلك أن من ادعى شيئا في يد غيره فأنكره ولكل واحد منهما بينة فإن بينة المدعي تسمى بينة الخارج وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا تعارضنا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال وهذا قول إسحاق وعنه رواية ثانية إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك وقالت : نتجت في ملكه أو اشتراها أو نسجها أو كانت بينته أقدم تاريخا قدمت وإلا قدمت بينة المدعي وهو قول أبي حنيفة و أبي ثور في النتاج والنساج فيما لا يتكرر نسجه فأما ما يتكرر نسجه كالصوف والخز فلا تسمع بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم [ اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير فأقام كل واحد منهم البينة بأنها له أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم للذي هي في يده ] وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة أن بينة المدعى عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح و الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي و أبي عبيد وقال : هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي عن طاوس وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال : لا تقبل بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده رواية واحدة واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن جنبة المدعى عليه أقوى لأن الأصل معه ويمينه تقدم على يمين المدعي فإذا تعارضت البينتان وجب إبقاء يده على ما فيها وتقديمه كما لو لم تكن بينة لواحد منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدمت بينته ليده
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] فجعل جنس البينة في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعى عليه بينة ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة ولأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليد كما أن شاهدي الفرع لما كانا مبينين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما
فصل : وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها معها وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف صاحب اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كم لو لم تكن لواحد منهما بينة
ولنا أن إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام أو أحدهما أرجح بوجه من الوجوه ولا نسلم أن البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل بها وتسقط المرجوحة
فصل : فإن كانت البينة لأحدهما دون الآخر نظرت فإن كانت البينة للمدعي وحده حكم بها ولم يحلف بغير خلاف في المذهب وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري و أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال شريح و عون بن عبد الله و النخعي و الشعبي و ابن أبي ليلى يستحلف الرجل مع بينته قال شريح لرجل : لو أثبت عندي كذا وكذا شاهدا ما قضيت لك حتى تحلف
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولأن البينة إحدى حجتي الدعوى فيكتفي بها كاليمين قال أصحابنا : و لا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والصغير والكبير والمجنون والمكلف
وقال الشافعي : إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه أحلف المشهود له لأنه لا يمكنه أن يعبر عن نفسه في دعوى القضاء والإبراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لنزول الشبهة وهذا حسن فإن قيام البينة للمدعي بثبوت حقه لا ينفي احتمال القضاء والإبراء بدليل أن المدعى عليه لو ادعاه سمعت دعواه وبينته فإن كان حاضرا مكلفا فسكوته عن دعوى ذلك دليل على انتفائه فيكتفي بالبينة وإن كان غائبا أو ممن لا قول له نفي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين لنفيه وإن لم تكن للمدعي بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا إن قلنا بتقديمها مع التعارض وإنه لا يحلف معها فمع انفرادها أولى وإن قلنا بتقديم بينة المدعى عليه فيجب أن يكتفي بها عن اليمين لأنها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فما هو أقوى منه أولى ويحتمل أن تشرع اليمين أيضا لأن البينة ههنا يحتمل أن يكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد إلا ما أفادته اليد والتصرف وذلك لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه
فصل : وإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه وأنه أودعها للداخل أو أعاره إياها أو آجرها منه ولم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا نعلم فيه خلافا وإن كان لكل واحد منهما بينة فبينة الخارج مقدمة وهذا قول الشافعي
وقال القاضي : بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في المعنى لأنه ثبت أن المدعي صاحب اليد وأن يد الداخل نائبة عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي ] ولأن اليمين في حق المدعى عليه فتكون البينة للمدعي كما لو لم يدع الإيداع يحققه أن دعواه الإيداع زيادة في حجته وشهادة البينة بها تقوية لها فلا يجوز أن تكون مبطلة لبينته وإن ادعى الخارج أن الداخل غصبه إياها وأقاما بينتين فهي للخارج ويقتضي قول القاضي أنها للداخل والأولى ما ذكرناه
فصل : فإن كان في يد رجل شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد رجل آخر فادعاها كل واحد منهما كلها ولا بينة لواحد منهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وإن أقاما بينتين وقلنا تقدم بينة الخارج فلكل واحد منهما ما في يد صاحبه وإن قلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد منهما ما في يده من غير يمين
فصل : فإن كان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما أن الشاة التي في يد صاحبه له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وإن أقاما بينتين فلكل واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه ولا تعارض بينهما وإن كل واحد منهما قال : هذه الشاة التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في الملك إذ يستحيل أن يكون كل واحد منهما يثبت الأخرى والحكم على ما تقدم : وإن ادعى كل واحد منهما أن الشاتين لي دون صاحبي وأقاما بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل واحد منهما ما في يده
فصل : وإذا ادعى زيد شاة في يد عمرو أقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على زيد وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها وإن قلنا بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع فإن كان حكم بها لزيد لأن عمرو لا بينة له ردت إلى عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج لم نقض حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وإن كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضا وردها الحاكم لفسقها ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضا لأن الفاسق إذا ردت شهادته لفسقه ثم أعادها بعد لم تقبل وإن لم يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأن حكم الحاكم الأصل جريانه على العدل والإنصاف والصحة فلا ينقض بالاحتمال فإن جاء ثالث فادعاها وأقام البينة فبينته وبينة زيد متعارضتان ولا يحتاج إلى إقامة بينة لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى إعادتها كالبينة إذا شهدت ووقف الحكم على البحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم من غير إلى إعادة شهادتها وكذا ههنا
فصل : وإن كان في يد رجل شاة فادعاها رجل أنها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى الذي هي بيده أنها في يده منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد له بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على غير ملك فكانت بينة الملك أولى فإن شهدت بينة بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان تقدم التاريخ من جهة بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان :
إحداهما : تقدم بينة الخارج وهو قول أبي يوسف و محمد و أبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي لقوله صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي ] ولأن بينة الداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما تفيده اليد أشبهت الصورة التي قبلها
الثانية : تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنهت تضمنت زيادة فإن كانت بالعكس فشهدت بينة الداخل أنه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج أنه يملكها منذ سنتين قدمت بينة الخارج إلا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم : فيها قولان وإن ادعى الخارج أنها ملكه منذ سنة وادعى الداخل أنه اشتراها منذ سنتين ولقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ السنين إلا أن بينة الداخل تشهد بنتاج أو بشراء أو غنيمة أو إرث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو سبب من أسباب الملك ففي أيهما تقدم روايتان ذكرناهما وإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من الآخر قضي له بها لأن بينة الابتياع شهدت بأمر حدث خفي على البينة الأخرى فقدمت عليها كتقديم بينة الجرح على بينة التعديل

حكم لو كانت الدابة في يد لهما وقدم كل واحد بينة
مسألة قال ولو كانت الدابة في أيديهما فأقام أحدهما البينة أنها له وأقام الآخر البينة أنها له نتجت في ملكه سقطت البينتان وكانا كمن لا بينة لهما وكانت اليمين لكل واحد منهما على صاحبه في النصف المحكوم له به
وجملته أنه إذا تنازع رجلان في عين في أيدهما فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم تكن لهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين لا نعلم في هذا خلافا لأن يد كل واحد منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن نكلا جميعا عن اليمين فهي بينهما أيضا لأن كل واحد منهما يستحق ما في يد الآخر بنكوله وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضي له بجميعها لأنه يستحق ما في يده بيمينه وما في يد صاحبه إما بنكوله وإما بيمينه التي ردت عليه عند نكول صاحبه وإن كانت لأحدهما بينة دون الآخر حكم له بها لا نعلم في هذا خلافا وإن أقام كل واحد منهما بينة وتساوتا تعارضت البينتان وقسمت العين بينهما نصفين وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لما روى أبو موسى رضي الله عنه [ أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبعير بينهما نصفين ] رواه أبو داود ولأن كل واحد منهما داخل في نصف العين خارج عن نصفها فتقدم بينة كل واحد منهما فيما في يده عند من يقدم بينة الداخل وفيما في يد صاحبه عند من يقدم بينة الخارج فيستويان على كل واحد من القولين
وذكر أبو الخطاب فيها رواية أخرى أنه يقرع بينهما فمن خرجت قرعته حلف أنه لا حق للآخر فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما والأول أصح للخبر والمعنى واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين فروي أنه يحلف وهذا ذكره الخرقي لأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا وتساويا وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهذا أحد قولي الشافعي بناء على أن اليمين تجب على الداخل مع بينته وكل واحد منهما داخل في نصفها فيحكم له به ببينته ويحلف معها في أحد القولين والرواية الأخرى أن العين تقسم بينهما من غير يمين وهو قول مالك و أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهو أصح للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا يصح قياس هاتين البينتين على الخبرين المتساويين لأن كل بينة راجحة في نصف العين على كل واحد من القولين وقد ذكرنا أن البينة الراجحة يحكم بها من غير حاجة إلى يمين فأما إن شهدت إحدى البينتين بأن العين لهذا وشهدت الأخرى أنها لهذا الآخر نتجت في ملكه فقد ذكرنا الترجيح بهذا روايتين : إحداهما : لا يرجح به وهو اختيار الخرقي لأنهما تساويا في ما يرجع إلى المختلف فيه وهو ملك العين الآن فوجب تساويهما في الحكم والثانية : تقدم بينة النتاج وما في معناه وهو مذهب أبي حنيفة لأنها تتضمن زيادة علم وهو معرفة السبب والأخرى خفي عليها ذلك فيحتمل أن تكون شهادتهما مستندة إلى مجرد اليد والتصرف فتقدم الأولى عليها كتقدم بينة الجرح على التعديل وهذا قول القاضي فيما إذا كانت العين في يد غيرهما
فصل : فإن شهدت إحداهما أنها له منذ سنة وشهدت الأخرى أنها له منذ سنتين فظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما وهو أحد قولي الشافعي وقال القاضي : قياس المذهب تقديم أقدمهما تاريخا وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي لأن المتقدمة التاريخ أثبت الملك له في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى فيثبت الملك فيه ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان وتعارضت البينتان في الملك في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تجب استدامته وأن لا يثبت لغيره ملك إلا من جهته ووجه قول الخرقي أن الشاهد بالملك الحادث أحق بالترجيح لجواز أن يعلم به دون الأول ولهذا لو ذكر أنه اشتراه من الآخر أو وهبه له لقدمت بينته اتفاقا فإذا لم يرجح بهذا فلا أقل من التساوي وقولهم أنه يثبت الملك في الزمن الماضي من غير معارضة قلنا إنما يثبت تبعا لثبوته في الحال ولو انفرد بأن يدعي الملك في الماضي لم تسمع دعواه ولا بينته إن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء ذكره القاضي : وقال أبو الخطاب : يحتمل أن يحكم به لمن لم يوقت وهو قول أبي يوسف و محمد
ولنا أنه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح من تقديم الملك ولا غيره فوجب استواؤهما كما لو أطلقتا أو استوى تاريخهما
فصل : ولا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ويتخرج أن ترجح بذلك مأخوذا من قول الخرقي ويتبع الأعمى أوثقهما في نفسه وهذا قول أبي حنيفة و مالك لأن أحد الخبرين يرجح بذلك فكذلك الشهادة لأنها خبر ولأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن به أقوى وقال الاوزاعي : يقسم على عدد الشهود فإذا شهد لأحدهما شاهدان وللآخر أربعة قسمت العين بينهما أثلاثا لأن الشهادة سبب الاستحقاق فيوزع الحق عليها
ولنا أن الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية وتخالف الخبر فأنه مجتهد في قبول خبر الواحد دون العدد فرجح بالزيادة والشهادة يتفق فيها على خبر الاثنين فصار الحكم متعلقا بهما دون اعتبار الظن ألا ترى أنه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وإن كثرن حتى صار الظن بشهادتهن أغلب من شهادتين من شهادة الذكرين ؟ وعلى هذا لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال فإذا اجتمعتا تعارضتا فإما إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان
أحدهما : يتعرضان لأن كل واحد منهما حجة بمفرده فأشبها الرجلين مع الرجل والمرأتين
والثاني : يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيهما ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين فيجب تقديمها كتقديمها على اليمين المنكر وهذا الوجه أصح إن شاء الله و للشافعي قولان كالوجهين

حكم لو كانت دار في يد اثنين وثلاثة وأربعة
فصل : إذا كان في أيديهما دار فادعاها أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها ولا بينة لديهما فهي بينهما نصفين نص عليه أحمد وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه ولا يمين على الآخر لأن النصف المحكوم له به لا منازع له فيه ولا نعلم في هذا خلافا إلا أنه حكى عن ابن شبرمة أن لمدعي الكل ثلاثة أرباعها لأن النصف له لا منازع فيه والنصف الآخر يقسم بينهما على حسب دعواهما فيه
ولنا أن يد مدعي النصف على ما يدعيه فكان القول قوله فيه مع يمينه كسائر الدعاوى فإن كان لكل واحد منهما بينة بما يدعيه فقد تعارضت بينتهما فالنصف لمدعي الكل والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي فتكون الدار كلها لمدعي الكل وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه فإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فالنصف لصاحب الكل لا منازع له فيه ويقرع بينهما في النصف الآخر فمن خرجت له القرعة حلف وكان له وإن كان لكل واحد بينة تعرضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما وإن قلنا : تستعمل البينتان أقرع بينهما وقدم من تقع له القرعة في أحد الوجهين
والثاني : يقسم النصف المختلف فيه بينهما فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها
فصل : فإن كانت الدار في يد ثلاثة ادعى أحدهما نصفها وادعى الآخر ثلثها وادعى الآخر سدسها فهذا اتفاق منهم على كيفية ملكهم وليس ههنا اختلاف ولا تجاحد فإن ادعى كل واحد منهم باقي الدار وديعة أو عارية معي وكانت لكل واحد منهم بما ادعاه من الملك بينة قضي له به لأن بينته تشهد له بما ادعاه ولا معارض لها وإن لم تكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهم وأقر في يده ثلثها
فصل : فإن ادعى أحدهم جميعها وادعى الآخر نصفها والآخر ثلثها فإن لم تكن لواحد منهم بينة قسمت بينهم أثلاثا وعلى كل واحد منهم اليمين على ما والحكم له به وأن يد كل واحد منهم على ثلثها وإن كانت لأحدهم بينة نظرت فإن كانت لمدعي الجميع فهي له وإن كانت لمدعي النصف أخذه والباقي بين الآخرين نصفين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الآخر على الربع الذي يأخذه جميعه فإن كانت البينة لمدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الآخر على جميع ما يأخذه وإن كانت لكل واحد بما يدعيه بينة فإن قلنا تقدم بينة صاحب اليد قسمت بينهم أثلاثا لأن يد كل واحد منهم الثلث وإن قلنا تقدم بينة الخارج فينبغي أن تسقط بينة صاحب الثلث لأنها داخلة ولمدعي النصف السدس لأن بينته خارجة فيه ولمدعي الكل خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لكونه لا منازع له فيه فإن أحدا لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة عنهما وقيل : بل لمدعي الثلث السدس لأن بينة مدعي الكل ومدعي النصف تعارضتا فيه فتساقطتا وبقي لمن هو في يده ولا شيء لمدعي النصف لعدم ذلك فيه وسواء كان لمدعي الثلث بينة أو لم تكن وإن كانت العين في يد غيرهم واعترف أنه لا يملكها ولا بينة لهم فالنصف لمدعي الكل لأنه ليس منهم من يدعيه ويقرع بينهم في النصف الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو لصاحب النصف حلف وأخذه وإن خرجت لصاحب الثلث حلف وأخذ الثلث ثم يقرع بين الآخرين في السدس فمن قرع صاحبه حلف وأخذه
وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه فالنصف لمدعي الكل لما ذكرنا والسدس الزائد يتنازعه مدعي الكل ومدعي النصف والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارضت البينات فيه فإن قلنا تسقط البينات أقرعنا بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن قرع صاحبه حلف وأخذه ويكون الحكم فيه كما لو لم تكن لهم بينة وهذا قول أبي عبيد وقول الشافعي إذ كان بالعراق
وعلى الرواية التي نقول إذا تعارضت البينات قسمت العين بين المتداعين فلمدعي الكل النصف ونصف السدس الزائد عن السدس عن الثلث وثلث الثلث ولمدعي النصف السدس وثلث الثلث ولمدعي الثلث ثلثه وهو التسع فتخرج المسألة من ستة وثلاثين سهما لمدعي الكل النصف ثمانية عشر سهما ونصف السدس ثلاثة والتسع أربعة فذلك خمسة وعشرون سهما ولصاحب النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة وهو التسع وهذا قياس قول قتادة و الحارث العكلي و ابن شبرمة و حماد و أبي حنيفة وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يأخذ مدعي الكل النصف ويوقف الباقي حتى يتبين ويروي هذا عن مالك وهو قول للشافعي
وقال ابن أبي ليلى وقوم من أهل العراق : تقسم العين بينهم على حسب عول الفرائض لصاحب الكل ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان فتصبح من أحد عشر سهما
وسئل سهل بن عبد الله بن أبي أوس عن ثلاثة ادعوا كيسا وهو بأيديهم ولا بينة لهم وحلف كل واحد منهم على ما ادعاه ادعى أحدهم جميعه وادعى آخر ثلثه وادعى آخر نصفه فأجاب فيهم بشعر يقول :
( نظرت أبا يعقوب في الحسب التي ... طرت فأقامت منهم كل قاعد )
( فللمدعي الثلثين ثلث وللذي ... استلاط جميع المال عند التحاشد )
( من المال نصف غير ما ... سينوبه وحصته من نصف ذا المال زائد )
( وللمدعي نصفا من المال ربعه ... ويؤخذ نصف السدس من كل واحد )
وهذا قول من قسم المال بينهم على حسب العول فكأن المسألة عالت من ستة إلى ثلاثة عشر ولذلك أنه أخذ مخرج الكسور وهي ستة فجعلها لمدعي الكل وثلثها أربعة لمدعي الثلثين ونصفها ثلاثة لمدعي النصف صارت ثلاثة عشر
فصل : فإن كانت الدار في أيدي أربعة فادعى أحدهم جميعها والثاني ثلثيها والثالث نصفها والرابع ثلثها ولا بينة لهم حلف كل واحد وله ربعها لأنها في يده فالقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن أقام كل واحد منهم بما ادعاه بينة قسمت بينهم أرباعا أيضا لأننا إن قلنا قدم بينة الداخل فكل واحد منهم داخل في ربعها فتقدم بينة فيه وإن قلنا تقدم بينة الخارج فإن الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما فأنكرهما وأقام كل واحد منهم بدعواه تعارضتا وأقر الشيء في يد من هو في يده وإن كانت الدار في يد خامس لا يدعيها ولا بينة لواحد منهم بما ادعاه فالثلث لمدعي الكل لأن لا ينازعه فيه ويقرع بينهم في الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو لمدعي الثلثين أخذه وإن وقعت لمدعي النصف أخذه وأقرع بين الباقين في الباقي وإن وقعت لصاحب الثلث أخذه وأقرع بين الثلاثة في الثلث الباقي وهذا قول أبي عبيد و الشافعي إذ كان بالعراق إلا أنهم عبروا عن بعبارة أخرى فقالوا : لمدعي الكل الثلث ويقرع بينه وبين مدعي الثلثين في السدس الزائد عن النصف ثم يقرع بينهما بين مدعي النصف في السدس الزائد عن الثلث ثم يقرع بين الأربعة في الثلث الباقي و يكون الإقراع في ثلاثة مواضع وعلى الرواية الأخرى : الثلث لمدعي الكل ويقسم السدس الزائد عن النصف بينه وبين مدعي الثلثين ثم يقسم السدس الزائد عن الثلث بينهما وبين مدعي النصف أثلاثا ثم يقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا وتصح المسألة من ستة وثلاثين سهما لصاحب الكل ثلثها اثنا عشر ونصف السدس الزائد على النصف ثلاثة وثلث السدس الزائد عن الثلث سهمان وربع الثلث الباقي ثلاثة فيحصل له عشرون سهما وهي خمسة أتساع الدار ولمدعي الثلثين ثمانية أسهم تسعان وهي مثل ما لمدعي الكل بعد الثلث الذي انفرد به ولمدعي النصف خمسة أسهم تسع وربع تسع ولمدعي الثلث ثلاثة نصف السدس وعلى قول من قسمها على العول هي من خمسة عشر لصاحب الكل ستة ولصاحب الثلثين أربعة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان وعلى قول أبي ثور لصاحب الكل الثلث ويوقف الباقي حتى يتبين

ما لو كانت دابة أو عين في يد غيرهما واعترف أو أنكر
مسألة قال : ولو كانت الدابة في يد غيرهما واعترف أنه يملكها وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا قرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه
وجملته أن رجلين إذا تداعيا عينا في يد غيرهما فأنكرهما القول قوله مع يمينه بغير خلاف نعلمه وإن اعترف أنه لا يملكها قال : لا أعرف صاحبها أو قال : هي لأحدكما لا أعرفه عينا أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف أنها له وسلمت إليه لما [ روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم تكن لواحد منهم بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه و سلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها ] رواه أبو داود ولأنهما تساويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما ولا يد والقرعة تميز عند التساوي كما لو اعتق عبيدا لا مال له غيرهم في مرض موته وأما إن كانت لأحدهما بينة حكم بها بغير حكم بها بغير خلاف نعلمه وإن كانت لكل واحد منهما ففيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب :
إحداهما : تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة وهذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين أن تكون معهما بينة أو لم تكن وروي هذا عمر وابن الزبير وبه قال إسحاق و أبو عبيد وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي وبذلك لما روى ابن المسيب [ أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر وجاء مل منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه و سلم بينهما ] رواه الشافعي في مسنده ولأن البينتين حجتان تعرضتا من غير ترجيح إحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين
والرواية الثانية : تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان إحداهما تقسم العين بينهما وهو قول الحارث العكلي و قتادة و ابن شبرمة و حماد و أبي حنيفة وقول الشافعي لما روى أبو موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعير وأقام كل واحد منهما البينة أنه له فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم به بينهما نصفين ولأنهما تساويا في دعواه فيتساويان في قسمته
والرواية الثانية : تقدم إحداهما بالقرعة وهو قول الشافعي وله قول رابع يوقف الأمر حتى يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الأمر فوجب التوقف كالحاكم إذا لم يتضح له الحكم في قضيته
ولنا الخبران وإن تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل إذا تعذر الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما إذا ثبت هذا فإننا إذا قلنا إن البينتين تسقطان أقرع بينهما فمن خرجت له قرعته حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة وإن قلنا يعمل في البينتين ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين قال أبو الخطاب : عليه اليمين مع البينة ترجيحا لها وعلى هذا القول تكون هذه الرواية كالأولى في هذا الحكم وإنما يظهر الفرق بينهما في شيء آخر سنذكره إن شاء الله تعالى
فصل : فإن أنكرهما من العين في يده وكانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما بينة فإن قلنا تستعمل البينتان أخذت العين من يده وقسمت بينهما على قول من يرى القسمة أو تدفع إلى من تخرج له القرعة على قول من يرى ذلك وإن قلنا تسقط البينتان حلف صاحب اليد وأقرت في يده كما لو لم تكن لهما بينة وإن اقر بها بعد ذلك لهما أو لأحدهما قبل إقراره وإن أقر بها في الابتداء لأحدهما صار منهما المقر له صاحب اليد لأن من هي في يده مقر بأن يده نائبه عن يده وإن أقر لهما جميعا فاليد لكل واحد منهما في الجزء الذي أقر به لذلك
فصل : وإن تداعيا عينا في يد غيرهما فقال : هي لأحدكما لا أعرفه عينا أو قال : لا أعرف صاحبها أهو أحدكما أو غيركما أو قال : أودعنيها أحدكما أو رجل لا أعرفه عينا فادعى كل واحد منهما أنك تعلم أني صاحبها أو أني الذي أودعتكها أو طلبت يمينه لزمه أن يحلف له لأنه لو أقر له لزمه تسليمها إليه ومن لزمه الحق مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار ويحلف على ما دعاه من نفي العلم وإن صدقاه فلا يمين عليه وإن صدقه أحدهما حلف للآخر وإن أقر بها لواحد منهما أو غير صار المقر له صاحب اليد فإن قال غير المقر له احلف لي أن العين ليست ملكي أو أني لست الذي أودعتكها لزمه اليمين على ما ادعاه من ذلك لما ذكرنا وإن نكل عن اليمين قضي عليه بقيمتها وإن اعترف بها لهما كان الحكم فيها كما لو كانت في أيديهم ابتداء وعليه اليمين لكل واحد منهما في النصف المحكوم به لصاحبه وعلى كل واحد منهما اليمين لصاحبه في النصف المحكوم له به
فصل : وإذا كان في يد رجل دار فادعاها نفسان قال أحدهما آجرتكها وقال الآخر هي داري أعرتكها أو قال هي داري ورثتها من أبي أو قال هي داري ولم يذكر شيئا آخر فأنكرها صاحب اليد وقال : هي داري فالقول قوله مع يمينه وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما بما ادعاه بينة تعارضتا وكان الحكم على ما ذكرنا فيما مضى إلا على الرواية التي تقدم فيها البينة الشاهدة بالسبب فإن بينة من ادعى أنه ورثها مقدمة لشهادتها بالسبب وإن أقام أحدهما بينة أنه غصبها منه وأقام الآخر بينة أنه أقر له بها فهي للمغصوب منه ولا تعارض بينهما لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون غصبها من هذا وأقر بها لغيره وإقرار الغاصب باطل وهذا مذهب الشافعي فتدفع إلى المغصوب منه ولا يغرم للمقر له شيئا لأنه ما حاب بينه وبينها وإنما حالت البينة بينهما ولو أقر بها لأحدهما أو أقر أنه غصبها من غيره لزمه تسليمها إلى من أقر له بها أولا ولزمه غرامتها للآخر لأنه حال بينه وبينها بإقراره الأول
فصل : نقل ابن منصور عن أحمد في رجل أخذ من رجلين ثوبين أحدهما بعشرة والآخر بعشرين ثم لم يدر أيهما ثوب هذا من ثوب هذا فادعى أحدهما ثوبا من هذين الثوبين يعني وادعاه الآخر يقرع بينهما فأيهما أصابته القرعة حلف وكان الثوب الجيد له والآخر للآخر وإنما قال ذلك لأنهما تنازعا عينا في يد غيرهما

فيما إذا تداعيا عينا وقال كل واحد هي لي
فصل : إذا تداعيا عينا فقال كل واحد منهما هذه العين لي اشتريتها من زيد بمائة ونقدته إياها ولا بينة لواحد منهما فإن أنكرهما زيد حلف وكانت العين له وإن أقر بها لأحدهما سلمها إليه وحلف للآخر وإن أقر لكل واحد منهما بنصفها سلمت إليهما وحلف لكل واحد منهما على نصفها وإن قال لا أعلم لمن هي منكما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها وإن حلف البائع أنه له ثم أقر بها لأحدهما سلمت إليه ثم إن أقر بها للآخر لزمته غرامتها له وإن أقام كل واحد منهما بما ادعاه بينة نظرنا فإن كانت البينتان مؤخرتين بتاريخين مختلفين مثل أن يدعي أحدهما أنه اشتراها في المحرم وادعى الآخر أنه اشتراها في صفر وشهدت بينة كل واحد منهما للآخر بدعواه فهي للأول لأنه ثبت أنه باعها للأول فزال ملكه عنها فيكون بيعه في صفر باطلا لكونه باع ما لا يملكه ويطالب برد الثمن وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو أحدهما مطلقة والأخرى مؤرخة تعارضتا لتعذر الجمع فينظر في العين فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على الخلاف في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الداخل جعلها لمن هي في يده ومن قدم بينة الخارج جعلها للخارج وإن كانت في يد البائع وقلنا تسقط البينتان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لهما وكانت له وإن أقر لأحدهما سلمت إليه وحلف للآخر وإن أقر لهما فهي بينهما ويحلف لكل واحد منهما على نصفها كما لو لم تكن لهما بينة وإن قلنا لا تسقط البينتان لم يلتفت إلى إنكاره ولا اعترافه وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي لأنه قد ثبت زوال ملكه وأن يده لا حكم لها فلا حكم لقوله فمن قال : يقرع بينهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له مع يمينه وهذا قول القاضي لم يذكر شيئا سوى هذا ومن قال : تقسم بينهما قسمت وهذا ذكره الخطاب
وقد نص عليه أحمد في رواية الكوسج في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة وأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق النصف من السلعة بنصف الثمن فيكونان شريكين
وحمل القاضي هذه الرواية على أن العين في أيديهما أو على أن البائع أقر لهما جميعا وإطلاق الرواية يدل على صحة قول أبي الخطاب
فعلى هذا إن كان المبيع مما لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضة فلكل واحد منهما الخيار لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختارا الإمساك رجع كل واحد منهما بنصف الثمن وإن اختارا الفسخ رجع كل واحد منهما بجميع الثمن وإن اختار أحدها الفسخ توفرت السلعة كلها على الآخر إلا أن يكون الحاكم قد حكم له بنصف السلعة ونصف الثمن فلا يعود النصف الآخر إليه وهذا قول الشافعي في كل مبيع
فصل : فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد بمائة وهي ملكه الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه وأقام كل واحد منهما بدعواه بينة فهذه تشبه التي قبلها في المعنى فإن كانت في يد أحد المشترين انبنى ذلك على الروايتين في تقديم بينة الداخل والخارج وإن كانت في يديهما قسمت بينهما لأن بينة كل واحد منهما داخلة في أحد النصفين خارجة في النصف الآخر وإن كانت في يد أحد البائعين فأنكرهما وادعاها لنفسه فإن قلنا تسقط البينتان حلف وكانت له وإن أقر بها لأحدهما صار الداخل إلا أن يقر له بعد أن يحلف أنها له وإن قلنا تقدم إحداهما بالقرعة فهي لمن تخرج له القرعة مع يمينه وإن قلنا تقسم بينهما قسمت ورجع كل واحد منهما بنصف ثمنها وإن كان المبيع مما يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد أو كان المشتري مقرا بقبضه فلا خيار لواحد منهما ولا رجوع بشيء من الثمن لاعترافه بسقوط الضمان عن البائع وإن كان من المكيل والموزون ولم يقبض فلكل واحد منهما الخيار في الفسخ والإمضاء فإن اختار أحدهما الفسخ لم يتوفر المبيع على الآخر لأن البائع اثنان بخلاف التي قبلها =

18.

مجلد 18.  المغني - ابن قدامة ]

الكتاب : المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 


 = حكم ما لو كانت دار في يد رجل فادعاها عليه رجلان
فصل : ولو كان في يد رجل دار فادعى عليه رجلان كل واحد منهما يزعم أنه غصبها منه وأقام بذلك بينة فالحكم في هذه كالحكم فيما إذا ادعى كل واحد منهما أنني اشتريتها منه على ما مضى من التفصيل فيه وإن اتفق تاريخهما أو كانتا مطلقتين أو إحداهما تعرضتا وإن قدم تاريخ إحداهما فهل ترجح بذلك على وجهين فإما إن شهدت البينة أنه أقر بغصبها من كل واحد منهما لزمه دفعها إلى الذي أقر له بها أولا ويغرم قيمتها للآخر
فصل : فإن ادعى كل واحد منهما أنك اشتريتها مني بألف وأقام بذلك بينة واتفق تاريخهما مثل أن يقول كل واحد منهما : اشتراها مني مع الزوال يوم كذا ليوم واحد فهما متعارضتان فإن قلنا تسقطان رجع إلى قول المدعى عليه فإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وإن أقر لأحدهما فعليه له الثمن ويحلف للآخر وإن أقر لهما فعليه لكل واحد منهما الثمن لأنه يحتمل أن يشتريها من أحدهما ثم يهبها للآخر ويشتريها منه وإن قال : اشتريتها منكما صفقة واحدة بألف فقد أقر لكل واحد منهما بالنصف الثمن وله أن يحلفه على الباقي وإن قلنا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة وجب له الثمن ويحلف للآخر ويبرأ وإن قلنا تقسم الثمن بينهما ويحلف لكل واحد منهما على الباقي فإن كان التاريخان مختلفين أو كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة ثبت العقدان ولزمه الثمنان لأنه يمكن أن يشتريها من أحدهما ثم يملكها الآخر فيشتريها منه وإن أمكن صدق البينتين و الجمع بينهما وجب تصديقهما فإن قيل : فلم قلتم إنه إذا كان البائع واحدا والمشتري اثنان فأقام أحدهما بينة أنه اشتراها في المحرم وأقام الآخر بينة أنه اشتراها في صفر يكون الشراء الثاني باطلا ؟ قلنا : لأنه إذا ثبت الملك الأول لم يبطله بأن يبيعه الثاني ملك نصفه ويجوز أن يبيع البائع ما ليس له فافترقا فإن قيل : كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة احتمل أن يكون تاريخهما واحدا فيتعارضان والأصل براءة ذمة المشهود عليه فلا تشتغل بالشك قلنا : أنه متى أمكن صدق البينتين وجب تصديقهما ولم يكن ثم شك وإنما يبقى الوهم لا تبطل به البينة لأنها لو بطلت به لم يثبت بها حق أصلا لأنه ما من بينة إلا ويحتمل أن يكون كاذبة أو غير عادلة أو متهمة أو معارضة ولم يلتفت إلى هذا الوهم كذا ههنا

حكم ما لو شهد رجلان هذا الغلام ابن هذا الميت
فصل : وإذا مات رجل فشهد رجلان أن هذا الغلام ابن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه وشهد آخران لآخر أن هذا الغلام ابن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه فلا تعارض بينهما وثبت نسب الغلامين منه ويكون الإرث بينهما لأنه يجوز أن تعلم كل بينة ما لا تعلمه الأخرى

حكم ما لو ادعى رجل عبدا أو ادعى زوجية امرأة
فصل : وإذا ادعى رجل عبدا في يد آخر أنه اشتراه منه وادعى العبد أن سيده أعتقه ولا بينة بينهما فأنكرهما حلف لهما والعبد له وإن أقر لأحدهما ثبت ما أقر له به ويحلف الآخر وإن قام أحدهما بينة بما ادعاه ثبت أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قدمنا الأولى وبطلت الأخرى لأنه إن سبق العتق لم يصح البيع لأن بيع الحر لا يصح وإن سبق البيع لم يصح العتق لأنه أعتق عبد غيره فإن قيل يحتمل أنه عاد إلى ملكه فأعتقه قلنا قد ثبت الملك للمشتري فلا يبطله عتق البائع وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة تعرضتا لأنه لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فإن كان في يد المشتري انبنى ذلك على الخلاف في تقديم بينة الداخل والخارج فإن قدمنا بينة الداخل فهو للمشتري وإن قدمنا بينة الخارج قدم العتق لأنه خارج وإن كان في يد البائع وقلنا إن البينتين تسقطان بالتعارض صارا كمن لا بينة لهما ويرجع إلى السيد فإن أنكرهما حلف لهما وإن أقر بالعتق ثبت ولو يحلف العبد لأنه لو أقر بأنه ما أعتقه لم يلزمه شيء فلا فائدة في إحلافه ويحلف البائع للمشتري وإن أقر للمشتري ثبت الملك ولم يحلف العبد لأنه لو أقر له كان أعتقه لم يلزمه غرم فلا فائدة في أحلافه وإن قلنا يستعملان فاعترف لأحدهما لم يرجح باعترافه لأن ملكه قد زال فإن قلنا ترجح إحدى البيتين بالقرعة أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته قدمناه قال أبو بكر : هذا قياس قول أبي عبد الله فعلى هذا يحلف من خرجت له القرعة في أحد الوجهين وإن قلنا يقسم قسمنا العبد فجعلنا نصفه مبيعا ونصفه حرا ويسري العتق إلى جمعية إن كان البائع موسرا لأنه البينة قامت عليه بأنه أعتقه مختارا وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما
فصل : إذا ادعى رجل زوجية امرأة فأقرت بذلك قبل إقرارها لأنها أقرت على نفسها وهي غير متهمة فإنها لو أرادت ابتداء النكاح لم تمنع منه وإن ادعاها اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل منها لأن الآخر يدعي ملك نصفها وهي معترفة أن ذلك قد ملك عليها فصار إقرارها بحق غيرها ولأنها متهمة فإنها لو أرادت ابتداء تزويج أحد المتداعين لم يكن لها ذلك قبل الانفصال من دعوى الآخر فإن قيل فلو تداعيا عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما قبل قلنا لا يثبت الملك بإقراره في العين وإنما يجعله كصاحب اليد فيحلف والنكاح لا يستحق باليمين فلم ينفع الإقرار به ههنا فإن كان لأحد المتداعيين بينة حكم له بها لأن البينة حجة في النكاح وغيره وإن أقاما بينتين تعارضتا وسقطتا وحيل بينهما وبينها ولا يرجح أحد المتداعيين بإقرار المرأة لما ذكرنا ولا بكونها في بينة ويده لأنه اليد لا تثبت على حرة ولا سبيل إلى القسمة ههنا ولا إلى القرعة لأنه لا بد مع القرعة من اليمين ولا مدخل لها في النكاح

حكم ما لو قال لعبده قتلت فأنت حر
فصل : إذا قال السيد لعبده إن قتلت فأنت حر ثم مات فادعى أنه قتل وأنكر الورثة فالقول قولهم مه أيمانهم لأن الأصل عدم القتل فإن أقام بينة بدعواه عتق وإن أقام الورثة بينة بموته قدمت بينة العبد في أحد الوجهين لأنها تشهد بزيادة وهي القتل والثاني : تتعارضان لأن أحدهما تشهد بضد ما شهدت به الأخرى فيبقى على الرق إن قال إن مت في رمضان فعبدي سالم حر وإن مت في شوال فعبدي غانم حر ثم مات فادعى كل واحد منهما موته في الشهر الذي يعتق بموته فيه وأنكر الورثة فالقول قولهم مع أيمانهم وإن أقروا لأحدهما عتق بإقرارهم وإن أقام كل واحد منهم بينة فبجب عتقه ففيه ثلاثة أوجه
أحدها : تقدم بينة سالم لأن ومعها زيادة علم فإنه أثبت ما يجوز أن يخفى على البينة وهو موته في رمضان
والثاني يتعارضان ويبقى العبدان على الرق لأنهما سقطا فصارا كمن لا بينة لهما
والثالث : يقرع بينهما فيعتق من تقع له القرعة وإن قال إن برئت من مرضي هذا فسالم حر وإن مت منه فغانم حر فمات وادعى كل واحد منهما موجب عتقه أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق لأنه لا يخلو من أن يكون بريء أو لم يبرأ فيعتق أحدهما على كل حال ولم تعلم عينه فيخرج بالقرعة كما لو اعتق أحدهما فأشكل علينا ويحتمل أن يقدم قول غانم لأن الأصل عدم البرء وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه فقال أصحابنا : يتعارضان يبقى العبدان رق وهذا مذهب الشافعي لأن كل واحد منهما تكذب الأخرى وثبت زيادة تنفيها الأخرى ولا يصح هذا القول لأن التعارض أثره في إسقاط البينتين ولم يكونا أصر لعتق أحدهما فكذلك إذا سقطتا وذلك لأنه لا يخلو من إحدى الحالتين اللتين علق على كل واحد منهما عتق أحدهما فيلزم وجوده كما لو قال : إن كان هذا الطائر غرابا فسالم حر وإن لم يكن غرابا فغانم خر ولم يعلم حاله ولكن يحتمل وجهين : أحدهما أن يقرع بينهما كما في مسألة الطائر لأن البينتين إذا تعارضتا قدمت إحداهما بالقرعة وفي رواية ثانية تقدم رواية سالم لأنها شهدت بزيادة هي البرء وإن أقر الورثة لأحدهم عتق بإقرارهم ولم يسقط حق الآخر مما ذكر إلا أن يشهد اثنان عدلان منهم بذلك مع انتفاء التهمة ويعتق وحده إذا لم تكن للآخر بينة

حكم ما لو كان ادعى سالم أن سيده اعتقه في مرض موته
فصل : وإذا ادعى سالم أن سيده أعتقه في مرض موته وادعى عبد الآخر غانم أنه أعتقه في مرض موته وكل واحد منهما ثلث ماله فأقام كل واحد منهما بدعواه بينة فلا تعارض بينهما لأن ما شهدت به كل بينة لا ينفي ما شهدت به الأخرى ولا تكذب إحداهما الأخرى فيثبت إعتاقه لهما ثم ينظر فإن كانت البينين مؤرخين بتاريخين مختلفين عتق الأول ورق الثاني إلا أن يجيز الورثة لأن المريض إذا تبرع بتبرعات يعجز ثلثه عن جميعها قدم الأول فالأول وإن اتفق تاريخهما أو أطلقتا أو إحداهما فهما سماء لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى فيستويان ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر إلا أن يجيز الورثة لأنه لا يخلو أما أن يكون أعتقهما معا يقرع بينهما [ كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في العبيد الستة الذين أعتقهم سيدهم عند موته ولم يكن له مال غيرهم ] أو يكون أعتق أحدهم قبل صاحبه وأشكل علينا فيخرج بالقرعة كما في مسألة الطائر وقيل : يعتق من كل واحد نصفه وهو قول الشافعي لأنه أقرب إلى التعديل بينهما فإن في القرعة قد يرق السابق المستحق للعتق ويعتق الثاني المستحق للرق وفي القسمة لا يخلو المستحق للعتق من حرية ولا المستحق للرق من الرق ولذلك قسمنا المختلف فيه على إحدى الروايتين إذا تعارضت به بينتان والأول المذهب لأنه لا يخلو من الشبهة إحدى الصورتين اللتين ذكرنهما والقرعة ثابتة في كل واحدة بينهما وقولهم إن في القرعة احتمال إرقاق نصف الحر قلنا : في القسمة إرقاق نصف الحر يقينا وتحرير نصف الرقيق يقينا وهو أعظم ضررا وإن كانت قيمة أحدهما الثلث وقيمة الآخر دون الثلث فكان الأول أو الذي خرجت قرعته الثلث عتق ورق الآخر وإن كان هو الناقص عن الثلث عتق وعتق من الآخر تمام الثلث وإن كانت لأحدهما بينة ولا بينة للآخر أو فاسقة عتق صاحب البينة العادلة ورق الآخر وإن كان لكل واحد منهما بينة عادلة إلا أن إحداهما تشهد أنه أعتق سالما في مرضه والأخرى تشهد بأنه أوصى بعتق غانم وكان سالم ثلث المال وعتق وحده ووقف عتق غنام على إجازة الورثة لأن التبرع يقدم على الوصية وإن كان سالم أقل من الثلث عتق من غانم تمتم الثلث وإن شهدت إحداهما أنه أوصى بعتق سالم وشهدت الأخرى أنه أوصى بعتق غانم قهما سواء ويقرع بينهما سواء اتفق تاريخهما أو اختلف لأنه الوصية يستوي فيها المتقدم والمتأخر وقال أبو بكر وابن أبي موسى : يعتق نضف كل واحد منهما بغير قرعة لأن القرعة إنما تجب إذا كان أحدهما عبدا والآخر حرا ولا كذلك هاهنا فيجب أن تقسم الوصية بينهما ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر وصيته كما لو وصى لاثنين بمال والأول قياس المذهب لأن الإعتاق بعد الموت كالإعتاق في مرض الموت وقد ثبت في الإعتاق فيمرض الموت أنه يقرع بينهما لحديث عمران بن حصين فكذلك بعد الموت في مرض الموت ولأن المقتضى لتكميل العتق في أحدهما في الحياة موجود بعد الممات فيثبت فأما إن صرح فقال إذا مت فنصف كل واحد من سالم وغانم حر أو في لفظه ما يقتضيه أو دلت عليه القرينة ثبت ما اقتضاه
فصل : فإن خلف المريض ابنين لا وارث له سواهما فشهدا أنه اعتق سالما في مرض موته وشهد أجنبيان أنه أعتق غانما في مرض موته وكل واحد ثلث ماله ولم يطعن الابنان في شهادتهما وكانت البينتان عادلتين فالحكم فيما إذا كانا أجنبيين سواء لأنه قد ثبت أن الميت أعتق العبدين فإن طعن الاثنان في شهادة الأجنبيين وقالا ما أعتق غانما في مرض موته وكل ثلث ماله إنما أعتق سالما لم يقبل شهادتهما في رد شهادة الأجنبية لأنها بينة عادلة مثبتة والأخرى نافية وقول المثبت يقدم على قول النافي ويكون الحكم ما إذا لم يطعن الورثة في شهادتهما في أنه يعتق أن يقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة ويرق إذا تأخر تاريخه أو خرجت القرعة لغيره وأما الذي شهد به الابنان فيعتق كله لإقرارهما بإعتاقه وحده واستحقاقه للحرية وهذا قول القاضي وقيل : يعتق ثلثاه إن حكم بعتق سالم وهو الثلث الباقي لأن العبد الذي شهد به الأجنبيان كالمغصوب من التركة وكالذاهب من التركة بموت أو تلف فيعتق ثلث الباقي وهو ثلثا غانم والأول أصح لأن المعتبر خروجه من الثلث حال الموت وحال الموت في قول الابنين لم يعتق سالم إنما عتق بالشهادة فيكن ذلك بمنزلة موته بعد موت سيده فلا يمنع من عتق من خرج من الثلث قبل موته فإن كان الابنان فاسقان ولم يردا شهادة الأجنبية تثبت العتق لسالم ولم يزاحمه من شهد له الابنان لفسقهما لأن شهادة الفاسق كعدمها فلا يقبل قولهما في إسقاط حق ثبت بينة عادلة وقد أقر الابنان بعتق غانم فينظر فإن تقدم تاريخ عتقه أو أقرع فخرجت القرعة له عتق كله كما قلنا في التي قبلها وإن تأخر تاريخ عتقه أو خرجت القرعة لغيره لم يعتق منه شيء لأن الابنين لو كانا عدلين لم يعتق منه شيء فإذا كانا فاسقين أولى
وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي : يعتق نصفه في الأحوال كلها لأنه استحق العتق بإقرار الورثة مع ثبوت العتق للآخر بالبينة العادلة فصار بالنسبة كأنه أعتق العبدين فيعتق منه نصفه وهذا لا يصح فإنه لو أعتق العبدين لأعتقنا أحدهما بالقرعة لأنه في حال تقدم تاريخ عتق من شهدت له البينة لا يعتق منه شيء ولو كانت بينته عادلة فمع فسوقها أولى وإن كذبت الورثة الأجنبية فقالت : ما أعتق غانما إنما أعتق سالما عتق العبدان وقيل : يعتق من سالم ثلثاه والأول أولى
فصل : فإن شهد عدلان أجنبيان أنه وصى بعتق سالم وشهد عدلان وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم ووصى بعتق غانم وقيمتها سواء أو كانت قيمة غانم أكثر قبلت شهادتهما وبطلت وصية سالم لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا ولا يدفعان عنها ضررا فإن فهما يثبتان لأنفسهما ولاء غانم قلنا وهما يسقطان ولاء سالم وعلى أن الولاء إثبات سبب الميراث وهذا لا يمنع قبول الشهادة بدليل ما لو شهدا بعتق غانم من غير معارض ثبت عتقه ولهما ولاؤه ولو شهدا بثبوت نسب أخ لهما قبلت شهدتهما مع ثبوت سبب الإرث لهما وتقبل شهادة المرأة لأخيه بالمال وإن جاز أن يرثه فإن كان الوارثان فاسقين لم يقبل شهادتهما في الرجوع ويلزمهما قرارهما لغانم فيعتق سالم بالبينة العادلة ويعتق غانم بإقرار الورثة بالوصية بإعتاقه وحده
وذكر القاضي و أصحاب الشافعي أنه إنما يعتق ثلثاه لأنه لما أعتق سالم بشهادة الأجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم نصف التركة فيعتق ثلثاه وهو ثلث التركة
ولنا أن الوارثة تقر بأنه حين الموت ثلث التركة وأن عتق سالم إنما كان بشهادتهما بعد الموت فصار كالمغصوب بعد الموت ولو غضب بعد الموت لم يمنع عتق غانم كله فكذلك الشهادة بعتقه وقد ذكر القاضي فيما إذا شهدت بينة عادلة بإعتاق سالم في مرضه ووارثة فاسق بإعتاق غانم في مرضه وأنه لم يعتق سالما أن غانما يعتق كله وهذا مثله
فأما إن كانت قيمة غانم أقل بمن قيمة سالم فالورثة متهمة لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته فترد شهادتها في الرجوع كما ترد شهادتهما بالرجوع عن الوصية ويعتق سالم وغانم كله أو ثلثاه وهو ثلث الباقي على ما ذكرنا من الاختلاف فيما إذا كانت فاسقة وإن لم تشهد الورثة بالرجوع عن عتق سالم لكن شهدت بالوصية بعتق غانم وهو بينة عادلة ثبت الوصيتان سماء كانت قيمتها سواء أو مختلفة فيعتقا إن خرجا من الثلث وإن لم يخرجا من الثلث أقرع بينهما فيعتق من خرجت له القرعة ويعتق تمام الثلث من الآخر وسواء تقدمت إحدى الوصيتين على الأخرى أو لو استوتا لأن المتقدم والمتأخر من الوصايا سواء
فصل : ولو شهدت بينة عادلة أنه وصي لزيد بثلث ماله وشهدت بينة أخرى أنه رجع عن الوصية لزيد ووصى لعمر بثلث ماله وشهدت بينة ثالثة أنه رجع عن الوصية لعمرو ووصى لبكر بثلث ماله صحت الشهادات كلها وكانت الوصية لبكر سماء كانت البينتان من الورثة أو لم تكن لأنه لا تهمه في حقهم وإن كانت شهادة البينة الثالثة أنه رجع عن إحدى الوصيتين لم تفد هذه الشهادة شيئا لأنه قد ثبت بالبينة الثانية أنه رجع عن وصية زيد وهي إحدى الوصيتين فعلى هذا تثبت الوصية لعمرو وإن كانت البينة الثانية شهدت الوصية لعمرو ولم تشهد بالرجوع عن زيد فشهدت الثالثة بالرجوع عن إحدى الوصيتين تشهد أن لهذا على أحد هذين ألفا وأن لأحد هذين على هذا ألفا ويكون الثلث بين الجميع أثلاثا
وقال أبو بكر : قياس قول أبي عبد الله أنه يصح بالرجوع عن إحدى الوصيتين ويقرع بينهما فمن خرجت له قرعة الرجوع عن وصيته بطلت وصيته وهذا قول أبي موصى وإذا صح الرجوع عن إحداهما بعير تعين صحت الشهادة به كذلك ووجه ذلك أن الوصية تصح الشاهدة فيها بالمجهول فجازت في الرجوع منه غير تعين المرجوع عن وصيته
فصل : وإن شهد شاهدان أنه وصي لزيد بثلث ماله وشهد واحد أنه أوصى لعمرو بثلث ماله انبنى هذا على إن الشاهد واليمين هل يعارض الشاهدين أو لا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يعارضهما فيحلف عمرو مع شاهده ويقسم الثلث بينهما لأن الشاهد واليمين حجة في المال فأشبه الشاهدين
والثاني : لا يعارضهما لأن الشاهدين أقوى فيرجحان على الشاهد واليمين فعلى هذا ينفرد زيد بالثلث وتقف وصية عمرو على إجازة الورثة فإما إن شهد واحد أنه رجع عن وصية زيد ووصى لعمرو بثلثه فلا تعارض بينهما ويحلف عمرو مع شاهده وتثبت الوصية لعمرو والفارق بين المسألتين أن في الأولى تقابلت البنتان فقدمتا أقواهما وفي الثانية لم يتقابلا وإنما يثبت الرجوع وهو يثبت بالشاهد واليمين لأن المقصود به المال وهذا مذهب الشافعي والله أعلم

حكم ما لو كان في يده دار فادعاها رجل فأقر بها لغيره
مسألة : قال : ولو كان في يده دار فادعاها رجل فأقر بها لغيره فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها وإن كان غائبا وكانت للمدعي بينة حكم بها للمدعي ببينته وكان الغائب على خصومته متى حضر
وجملته أن الإنسان إذا ادعى دارا في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست لي إنما هي لفلان وكان المقر له بها حاضرا سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لأن من هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده وإقرارالإنسان بما في يده إقرار صحيح فيصير خصما للمدعي فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه وإن قال للمدعي : احلفوا لي المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين لأنه لو أقر له بها بعد اعترافه لزمه الغرم كما لو قال : هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فإنها تدفع إلى زيد ويدفع قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار فإن رد المقرله الإقرار وقال ليست لي وإنما هي للمدعي وحكم له بها وإن لم يقل للمدعي ولكن قال : ليست لي فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان
أحدهما : تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا بها للمدعي فمع عدم ادعائه لها أولى
والثاني : لا تدفع إليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف أنها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الثاني ذكره القاضي والأول أولى لما ذكرنا من دليله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله بناء على القول برد اليمين إذ نكل المدعى عليه وإن قال المقر له : هي لثالث انتقلت الخصومة إليه وصار بمنزلة صاحب اليد لأنه أقر له بها من اليد له حكما وأما إن أقر بها المدعى عليه لمجهول قيل له ليس هذا بجواب فإن أقررت بها لمعروف وإلا جعلناك ناكلا وقصيبنا عليك فإن أصر قضي عليه بالنكول وإن اقر بها لغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها لأن الحاضر يعترف أنها ليست له ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا فتكون الخصومة معه فإن قال المدعي : احلفوا لي المدعى عليه أحلفناه لما تقدم وإن أقر بها للمدعي لم تسلم إليه لأنه اعترف أنها لغيره ويلزمه أن يغرم له قيمتها لأنه فوتها عليه بإقراره بها لغيره وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى بها وكان الغائب على خصومته متى حضر له أن يقدح في بينة المدعي وأن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي وإن أقام بينة أنه ملكه فهل يقضى بها ؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو سبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضى بها ؟ على وجهين وإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها الحاكم لما فيها من فائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي ويتخرج أن يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل وأن للمودع المخاصمة في الوديعة إذا غصبت ولأنها بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده أنها معه بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين : أحدهما : أن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك المؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها والثاني : أن بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل ويخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق فإنه يقضي بها وجها واحدا ومتى عاد المقر بها لغيره وادعاها لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرنا

فيما لو طلب المدعي أن يكتب له محضرا بما جرى
فصل : وإذا طلب المدعي أن يكتب له محضرا بما جرى لزمته إجابته فيكتب له محضرا : حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان بن فلان أو خليفة القاضي فلان بن فلان إن كان نائبا فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني فادعى دارا في يديه ويعينها ويذكر حدودها وصفتها فاعترف بها المدعى عليه لفلان بن فلان الفلاني وهو حينئذ غائب عن بلد القاضي فأقام المدعي بينة وهي فلان بن فلان الفلاني وفلان بن فلان الفلاني فشهدا عنده للمدعى بما ادعاه وعرف الحاكم عدالتهما بما يسوغ معه قبول شهادتهما أو يشهد عنده بعدالتهما فلان بن فلان فقبل شهادتهما فقضى بها على الغائب جعل كل ذي حجة على حجته فإن كان الغائب قد قدم ولم يأت بحجة زاد وقدم الغائب المقر له بها فلان ولم يأت بحجة تدفع المدعي عن دعواه وإن قام عند حضوره بينة زاد وأقام بينة وكانت بينة المدعي مقدمة على بينته لأنها بينة خارج

حكم ما لو ادعى إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا
فصل : إذا ادعى إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا ولا وارث له سواهما وترك دارا في يد هذا الرجل فأنكر صاحب اليد فأقام المدعي بينة بما ادعاه ثبتت الدار للميت وانتزعت الدار من يد المنكر ودفع نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب يكريه له وكذلك إن كان المدعى مما ينقل ويحول وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان مما ينقل ولا يحول أو مما ينحفظ ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه لأن الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من يد من هو في يده كما لو ادعى أحد الشريكين دارا مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي نصيبه ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا
ولنا أنها تركه ميت ثبتت بينته فوجب أن ينزع نصيب الغائب كالمنقول وكما لو كان أخوة صغيرا أو مجنونا ولأن فيما قاله ضررا لأنه قد يتعذر على الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان أو يغيبان أو تزول عنهما عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق الشريك الأجنبي إجمالا وتفصيلا أما الإجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا ينتزع نصيب شريكه الأجنبي وأما التفصيل فأن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل أنه يقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ولأن الأخ يشاركه فيما أخذه تعذر عليه أخذ الباقي فأما إن كان دينا في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب الغائب فيه وجهان : أحدهما : يقبضه كما يقبض العين
والثاني : لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط من أن يكون أمانة في يد الأمين لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والأول أولى لأنه في الذمة أيضا يعرض للتلف بالفلس والموت وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا دفعنا إلى الحاضر نصف الدار أو الدين لم نطالبه بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال أصحابنا : سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا يحتمل أن لا تقبل شهادتهما في نفي وارث وآخر حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأن من ليس من أهل المعرفة ليس جهله بالوارث دليلا على عدمه ولا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة ولا يسلم إلى الحاضر نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطوفها ويأمر مناديا ينادي أن فلانا مات فإن كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه أنه لو كان له وارث لظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمينا ؟ يحتمل وجهين وهكذا الحكم إذا كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة ولكن لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواه فإن كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملا وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فإن كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن لجواز أن يكون له أربع نسوة وإن كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم تعط شيئا وإن ثبت موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون لا ثلاث جدات ولا تعطى العصبة شيئا فإن كان الوارث أخا لم يعط شيئا لجواز أن يكون للميت وارث يحجبه وإن كان معه أم أعطيت السدس عائلا والمرأة ربع الثمن عائلا والزوج الربع عائلا لأنه اليقين فإن المسألة قد تعول مع وجود الزوج مثل أن يخلف أبوين وابنين وزوجا فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم

حكم ما لو اختلف في دار في يد أحدهما وأقام أحدهما بينة
فصل : وإذا اختلف في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن هذه الدار كانت أمس ملكه أو منذ شهر فهل تسمع هذه البينة ويقضى بها ؟ على وجهين : أحدهما : تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله
والثاني : لا تسمع قال القاضي : هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدع المدعي الملك في الحال فلا تسمع بينة على ما لم يدعه ولكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد إنها كانت ملكه أمس فقبضها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنها إذا لم تبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلاله اليد لجواز أن تكون ملكه أمس ثم تنتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلا فوجب القضاء باستدامة الملك السابق وإن أقر المدعى عليه أنها كانت ملك للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره وحكم به في الصحيح لأنه حينئذ يحتاج إلى بيان سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى البينة ويفارق البينة من وجهين :
أحدهما : أنه أقوى من البينة لكونه شهادة من الإنسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة ولهذا يسمع في المجهول ويقضى به بخلاف البينة والثاني : أن البينة لا تسمع إلى على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداء وإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها وجهان وإن أقر المدعى عليه بذلك فالصحيح أنه تسمع ويقضى به لما ذكرنا

حكم ما لو ادعى أمة أنها له
فصل : وإن ادعى أمة أنها له وأقام بينة فشهدت أنها ابنة أمته أو ادعى ثمرة فشهدت له البينة أنها ثمرة شجرته لم يحكم له بها لجواز أن تكون ولدتها قبل تملكها وأثمرت الشجرة هذه الثمرة قبل ملكه إياها وإن قالت البينة ولدتها أو ثمرتها في ملكه حكم له بها لأنها شهدت أنها ملكه ونماء ملكه ما لم يرد سبب ينقله عنه فإن قيل فقد قلتم لا تقبل شهادته بالملك السابق على الصحيح وهذه شهادة بملك سابق قلنا الفرق بينهما على تقدير التسليم أن النماء تابع للملك في الأصل فإثبات ملكه في الزمن الماضي على وجه التبع وجرى ما قال : ملكته منذ سنة وأقام البينة بذلك فإن ملكه يثبت في الزمن الماضي تبعا للحال ويكون له نماء فيما مضى ولأن البينة ههنا شهدت بسبب الملك وهو ولادتها أو وجودها في ملكه فقويت بذلك ولهذا لو شهدت بالسبب في الزمن الماضي فقالت : أقرضه ألفا أو باعه ثبت الملك وإن يذكره فمع ذكره أولى
وإن شهدت له البينة أن هذا الغزل من قطنه وهذا الدقيق من حنطته وأن هذا الطائر من بيضته حكم له به وإن لم يضفه إلى ملكه لأن الغزل عين القطن وإنما تغيرت صفته والدقيق أجزاء الحنطة تفرقت والطير هو أجزاء البيضة استحال وكأن البينة قالت : هذا غزله ودقيقه وطيره وليس كذلك الولد والثمرة فإنهما غير الأم والشجرة ولو شهد أن هذه البيضة من طيره لم يحكم له بها حتى يقولا باضها في ملكه لأن البيضة غير الطير وإنما هي من نمائه فهي كالولد ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كما ذكرنا

حكم ما لو كان في يد زيد دار فادعاها عمرو
فصل : وإذا كانت في يد زيد دار فادعاها عمرو وأقام البينة أنه اشتراها من خالد بثمن مسمى نقده إياه أوإن خالدا وهبه تلك الدار لم تقبل بينته بهذا حتى يشهد أن خالدا باعه إياها أو وهبها له وهو يملكها أو يشهد أنها دار عمرو اشتراها من خالد أو يشهد أنه باعها أو وهبها أو سلمها إليه وإنما لم تسمع البينة بمجرد الشراء والهبة لأن الإنسان قد يبيع ما لا يملكه ويهبة فلا تقبل شهادتهم به فإن انضم إلى ذلك الشهادة للبائع بالملك أو شهدوا للمشتري بالملك أو شهدوا للمشتري بالملك أو شهدوا بالتسليم فقد شهدوا بتقديم اليد أو بالملك للمدعى أو لمن باعه فالظاهر أنه ملكه لأن اليد تدل على الملك وهذا مذهب الشافعي وإنما قبلناها وهي شهادة بملك ماض لأنها شهدت بالملك مع السبب وظاهر استمراره بخلاف ما إذا لم يذكر السبب

حكم ما لو كان في يد رجل طفل لا يعبر عن نفسه
فصل : وإذا كان في يد رجل طفل لا يعبر عن نفسه وادعى أنه مملوكه قبلت دعواه ولم يحل بينه وبينه لأن اليد دليل الملك والصبي ما لم يعبر عن نفسه فهو كالبهيمة والمتاع إلا أن يعرف أن سبب يده غير الملك مثل أن يلتقطه فلا يقبل دعواه لرقه لأن اللقيط محكوم بحريته وأما غيره فقد وجد فيه دليل الملك من غير معارض فيحكم برقه فإذا بلغ فادعى الحرية لم تقبل دعواه لأنه محكوم برقه قبل دعواه وإن لم يدع ملكه لكنه كان يتصرف فيه بالاستخدام وغيره فهو كما لو ادعى رقه ويحكم له برقه لأن اليد دليل الملك فإن ادعى أجنبي نسبه لم يقبل لما فيه من ضرر على السيد لأن النسب مقدم على الولاء في الميراث فإن أقام البينة بنسبه ثبت ولم يزل الملك عنه لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك بأن يتزوج بأمة أو يسبي الصغير ثم يسلم أبوه إلا أن يكون الأب عربيا فلا يسترق ولده في رواية وهو قول الشافعي القديم وإن أقام بينة أنه حر فهو حر لأن ولد الحرة لا يكون إلا حرا وإن كان الصبي مميزا يعبر عن نفسه فادعى من هو في يده رقه ولم يعرف تقدم اليد قبل تمييزه إلا أننا إن رأينا في يده وهما يتنازعان ففيه وجهان : أحدهما : لا يثبت ملكه عليه لأنه معرب عن نفسه ويدعي الحرية أشبه البالغ والثاني : يثبت ملكه عليه لأنه صغير ادعى رقه وهو في يده فأشبه الطفل فأما البالغ إذا ادعى رقه فأنكر لم يثبت رقه إلا ببينة وإن لم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه في الحرية لأنها الأصل وهذا الفصل بجميعه مذهب الشافعي و أبي الثوري وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا : متى أقام إنسان بينة أنه ولده ثبت النسب والحرية لأن ظهور الحرية في ولد الحر أكثر من احتمال الرق الحاصل باليد لا سيما إذا لم يعرف من الرجل كفر ولا تزوج بأمه فلا ينفى احتمال الرق وهذا القول هو الصواب إن شاء الله

حكم ما لو ادعى اثنان رق بالغ في أيديهما فأنكر
فصل : إن ادعى اثنان رق بالغ في أيديهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه وإن اعترف لهما بالرق ثبت رقه فإن ادعاه كل واحد منهما لنفسه فاعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يكون بينهما نصفين لأن يدهما عليه فأشبه الطفل والثوب
ولنا أنه إنما حكم برقه باعترافه فكان مملوكا لمن اعترف له كما لو لم تكن يده عليه ويخالف الثوب والطفل فإن الملك حصل فيهما باليد وقد تساويا فيه وههنا حصل بالاعتراف وقد اختص به أحدهما فكان مختصا به فإن أقام كل واحد منهما بينة أنه مملوكه تعارضتا وسقطتا ويقرع بينهما أو يقسم بينهما على ما مضى من التفصيل فيه فإن قلنا بسقوطهما ولم يعترف لهما بالرق فهو حر وإن اعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وإن أقر لهما معا فهو بينهما لأن البينتين سقطتا وصارتا كالمعدومتين فإن قلنا بالقرعة أو القسمة فأنكرهما لم يلتفت إلى إنكاره وإن اعترف لأحدهما لم يلتفت إلى اعترافه لأن رقه ثابت بالبينة فلم تبق له يد على نفسه كما قلنا فيما إذا ادعى رجلان دارا في يد ثالث وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه واعترف أنها ليست له ثم أقر أنها لأحدهما لم يرجح بإقراره

حكم لو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها
فصل : ولو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها لم يقبل منه ولا يخلى بينه وبينها ولو ادعى رقها قبل منه إذا كانت طفلة لا تعبر عن نفسها لأن الدليل الملك وإما المدعي للنكاح فهو مقر بحريتها أو بأنها غير مملوكة له واليد لا تثبت على حر فإذا كبرت فاعترفت له بالنكاح قبل إقرارها

حكم ما لو ادعى ملك عين وأقام البينة فادعى آخر أنه اشتراها منه
فصل : ولو ادعى ملك عين وأقام به بينة وادعى آخر أنه باعها منه أو وهبها إياه أو أوقفها عليه أو ادعت امرأته أنه أصدقها إياها أو اعتقها وأقام بذلك بينة قضي لها بغير خلاف نعلمه لأن بينة هذا شهدت بأمر خفي على البينة الأخرى والبينة الأخرى شهدت بالأصل فيمكن أنه كان ملكه ثم صنع به ما شهدت به البينة الأخرى ولو مات رجل وترك دارا فادعى ابنه أنه خلفها ميراثا وادعت امرأته أنه أصدقها إياها وأقاما بينتين حكم بها للمرأة ولأنها تدعي أمرا زائدا خفي على بينة الابن وسواء شهدت البينة بالشراء وما في معناه بأنه باع ملكه أو ما في يده أو لم تشهد بذلك وسواء شهدت بالبيع والقبض أو لم تذكر القبض وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يثبت الملك للمشتري ولا تزال يد البائع إلا أن تشهد البينة بأنه باع ملكه أو ما في يده لأن البيع المطلق ليس بحجة لأنه قد يبيع ما لا يملك
ولنا أن بينة البائع أثبت الملك له فإذا أقامت بثينة الشراء عليه كانت حجة عليه في إزالة ملكه عنها إلى المشتري فوجب القضاء له بها ولو ادعى إنسان دارا في يد رجل أنه لي منذ سنة وأقام بهذا بينة فجاء ثالث فادعى أنه اشتراها من مدعيها منذ سنتين وأقام بهذا بينة ثبت لمدعي الشراء وليس في شهادة البينة الأولى أنه تملكها منذ سنة يستمر ما يبطل أنها له منذ سنتين لأنه لا تنافي بين ملكها منذ سنتين وملكها منذ سنة فإن المالك منذ سنتين يستمر في السنة الثانية فإن قالت بينة الشراء هو مالكها ثبت الملك بغير خلاف وإن لم تقل ذلك كان فيه من الخلاف ما قد ذكرنا

فصل : حكم ما لو ادعى رجل ملك دار في يد آخر وادعى الآخر أنها في يده منذ سنتين
فصل : ولو ادعى رجل ملك دار في يد آخر وادعى صاحب اليد أنها في يده منذ سنتين وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه فهي لمدعي الملك بلا خلاف نعلمه لأنه لا تنافي بين الدعوتين ولا البينتين لأنها قد تكون ملكا له وهي في يد الآخر وإن ادعى دابته أنها له منذ عشر سنين وأقام بهذا بينة فوجدت الدابة لها أقل من عشر سنين فالبينة كاذبة لها والدابة لمن هي في يده

حكم لو شهد شاهدان على رجل أنه اقر لفلان بألف
فصل : وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أقر لفلان بألف وشهد أحدهما أنه قضاه ثبت الإقرار فإن حلف مع شاهده على القضاء ثبت وإلا حلف المقر له أنه لم يقضه ويثبت له الألف وإن شهد أحدهما أنه له عليه ألفا وشهد الآخر أنه قضاه ألفا ثبت عليه الألف لأن شاهد القضاء لم يشهد بألف عليه وإنما تضمنت شهادته أنها كانت عليه والشهادة لا تقبل إلا صريحة بخلاف المسألة الأولى فأن البينة أثبتت الألف بشهادتها الصريحة بها ولو ادعى أنه أقرضه ألفا فقال : لا يستحق علي شيئا فأقام بينة بالقرض وأقام المدعي عليه أنه قضاه ألفا ولم يعرف التاريخ برئ بالقضاء لأنه لم يثبت عليه إلا ألف واحد ولا يكون القضاء إلا لما عليه فلهذا جعل القضاء للألف الثابتة وإن قال : ما أقرضتني ثم أقام بينة بالقضاء لم تقبل بينته في أنه قضاه للقرض لأنه بإنكاره القرض تعين صرفها إلى القضاء غيره ولو لم ينكر القرض إلا بينة القضاء كانت مؤرخة بتاريخ سابق على القرض لم يجز صرفها إلى القضاء القرض لأنه لا يقضي القرض قبل وجوده

حكم ما لو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا
مسألة : قال : ولو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى المسلم أن أباه مات مسلما وادعى الكافر أن أباه مات كافرا فالقول قول الكافر مع يمينه لأن المسلم باعترافه بأخوة الكافر يعترف بأن أباه كان كافرا مدعيا لإسلامه وإن لم يعترف بأخوة الكافر ولم تكن بينة بأخوته كان الميراث بينهما نصفين لتساوي أيديهما
وجملته أنه إذا مات رجل لا يعرف دينه وخلف تركة وابنين يعترفان أنه أبوهما أحدهما مسلم والآخر كافر فادعى كل واحد منهما أنه مات على دينه وأن الميراث له دون أخيه فالميراث للكافر لأن دعوى المسلم لا تخلو من أن يدعي كون الميت مسلما أصليا فيجب كون أولاده مسلمين ويكون أخوه الكافر مرتدا وهذا خلاف الظاهر فإن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام أو يقول إن أباه كان كافرا فأسلم قبل موته فهو معترف بأن الأصل ما قاله أخوه مدع زواله وانتقاله والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت زواله وهذا معنى قول الخرقي : إن المسلم باعترافه بأخوة الكافر معترف أن أباه كان كافرا مدعيا لإسلامه وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنهما في الدعوى سواء فالميراث بينهما نصفين كما لو تنازع اثنان عينا في أيديهما ويحتمل أن يكون الميراث للمسلم منهما وهو قول أبي حنيفة لأن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ويثبت للميت فيها إذا لم يعرف أصل دينه حكم الإسلام في الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقف الموقوف على أكفان موتى المسلمين ولأن هذا حكمه حكم الموتى المسلمين في تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وسائر أحكامه فذلك في ميراثه ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ويجوز أن يكون أخوه الكافر مرتدا لم تثبت عند الحاكم ردته ولم ينته إلى الإمام خبره وظهور الإسلام بناء على هذا أكثر من ظهور الكفر بناء على كفر أبيه ولهذا جعل الشرع أحكامه أحكام المسلمين فيما عدا المتنازع فيه وقال القاضي : قياس المذهب أنا ننظر فإن كانت التركة في أيديهما قسمت بينهما نصفين وإن لم تكن في أيديهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف واستحق كما قلنا فيما إذا تداعيا عينا ويقتضي كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما فهي له مع يمينه وهذا لا يصلح لأن كل واحد منهما يعترف أن هذه التركة تركة هذا الميت وأنه إنما يستحقها بالميراث فلا حكم ليده وقال أبو الخطاب : يحتمل أن يقف الأمر حتى يعرف أصل دينه أو يصطلحا وهذا قول الشافعي ولنا ما ذكرناه من الدليل على ظهور كفره وعند ذلك يتعين الترجيح لقوله وصرف الميراث إليه وأما ظهور حكم الإسلام في الصلاة عليه فلأن الصلاة لا ضرر فيها على أحد وكذلك تغسيله ودفنه وأما قوله إن الإسلام يعلو ولا يعلى فإنما يعلو إذا ثبت والنزاع في ثبوته وهذا فيما إذا لم يثبت فأما إن ثبت أصل دينه فالقول قول من ينفيه عليه مع يمينه وهذا قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : القول قول المسلم على كل حال لما ذكرنا في التي قبلها ولنا أن الأصل بقاء ما كان عليه وكان القول قول من يدعيه كسائر المواضع فأما إن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر وادعى كل واحد منهما أن الميت أبوه دون الآخر فهما سواء في الدعوة لتساوي أيديهما ودعاويهما فإن المسلم والكافر في الدعوة سواء ويقسم ميراثه نصفين كما لو كان في أيديهما دار فادعاها كل واحد منهما ولا بينة لهما ويحتمل أن يقدم قول المسلم لما ذكرناه والله أعلم

حكم ما لو أقام بينة أنه مات مسلم
مسألة : قال : وإن أقام المسلم بينة أنه مات مسلما وأقام الكافر بينة انه مات كافرا أسقطت البينتان وكانا كمن لا بينية لهما وإن قال شاهدان : نعرفه كان كافرا وقال شاهدان : نعرفه كان مسلما فالميراث للمسلم لأن الإسلام يطرأ على الكفر إذا لم يؤرخ شهود معرفتهم
وجملته ذلك انه إذا خلف الميت ولدين مسلما وكافرا فادعى المسلم انه مات مسلما وأقام بذلك بينة وأقام الكافر بينة من المسلمين أنه مات كافرا ولم يعرف أصل دينه فهما متعرضتان وإن عرف أصل دينه نظرنا في لفظ الشهادة فإن شهدت كل واحدة منهما كان آخر كلامه التلفظ بما شهدت به فهما متعارضان وإن شهدت إحداهما أنه مات على دين الإسلام وشهدت الأخرى أنه مات على دين الكفر قدمت بينة من يدعي انتقاله عن دينه لأن المبقية له على أصل دينه ثبتت شهادتها على الأصل الذي تعرفه لأنهما إذا عرفا أصل دينه ولم يعرفا انتقاله عنه جاز لهما أن يشهدا أنه مات على دينه الذي عرفاه والبينة الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى فقدمت عليها كما لو شهدا بأن هذا العبد كان ملكا لفلان إلى أن مات وشهد آخران أنه أعتقه أو باعه قبل موته قدمت بينة العتق والبيع فأما إن قال شاهدان : نعرفه قبل موته قد كان مسلما وقال شاهدان نعرفه كان كافرا نظرنا في تاريخهما فإن كانتا وؤرختين بتاريخين مختلفين عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت أنه انتقل عما شهدت به الأولى إلى ما شهدت به الآخرة وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة قدمت بينة المسلم لأن المسلم لا يقر على الكفر في دار الإسلام وقد يسلم الكافر فيقر وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد نظرت في شهادتهما فإن كانت على اللفظ فهما متعرضتان وإن لم تكن على اللفظ ولم يعرف أصل دينه فهما متعارضتان وأن عرف أصل دينه قدمت الناقلة له عن أصل دينه وكل موضع تعارضت البينتان فقال الخرقي : تسقط البينتان ويكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا روايتين آخرتين : إحداهما : يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ والثانية : تقسم بينهما ونحو هذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تقدم بينة الإسلام على كل حال وقد مضى الكلام معه وقول الخرقي فيما إذا قال شاهدان نعرفه كان مسلما وقال شاهدان نعرفه كان كافرا محمول على من لم يعرف أصل دبنه أو على أن أصل دينه الكفر أما من كان مسلما في الأصل فينبغي أن تقدم بينة الكفر لأن بينة الإسلام يجوز أن تستند إلى ما كان عليه في الأصل

حكم ما لو خلف ابنا مسلما وأخا كافرا
فصل : وإن خلف ابنا مسلما وأخا كافرا فاختلفا في دينه حال الموت فالحكم فيها كالتي قبله وهكذا سائر الأقارب إلا أن يخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين أو غيرهما من الأقارب يختلفون في دينه فإن كون الأبوين كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فثبت أنه كان كافرا وإن الابنين يدعيان إسلامه فيكون القول قول الأبوين وإن كانا مسلمين فالقول قولهما في إسلامه لأن كفره ينبني على أنه كان مسلما فارتد أو أن أبويه كانا كافرين فأسلما بعد بلوغه والأصل خلافه

حكم ما لو مات مسلم وخلف زوجة كافرة وورثة غيرها
فصل : ولو مات مسلم وخلف زوجة كافرة وورثة سواها وكانت الزوجة كافرة ثم أسلمت فادعت أنها أسلمت قبل موته فأنكرها الورثة فالقول قول الورثة لأن الأصل عدم ذلك وإن لم يثبت أنها كافرة فادعى عليها الورثة أنها كانت كافرة فأنكرتهم فالقول قولها لأن الأصل عدم ما ادعوه عليها وإن ادعوا أنه طلقها قبل موته فأنكرتهم فالقول قولها وإن اعترف بالطلاق وانقضاء العدة وادعت أنها راجعها فالقول قولهم وإن اختلفوا في انقضاء عدتها فالقول قولها في أنها لم تنقض لأن الأصل بقاؤها ولا نعلم في هذا كله خلافا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي و أبو ثور ولو خلف ولدين مسلمين اتفقا على أن أحدهما كان مسلما حين موت أبيه وادعى الآخر أنه اسلم في حياة أبيه وجحده أخوه فالميراث للمتفق عليه لأن الأصل بقاء الكفر إلى أن يعلم زواله وعلى أخيه اليمين ويكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل أخيه إلا أن يكون ثبت أنه كان مسلما قبل القسمة فإن من أسلم على الميراث قبل أن يقسم قسم له وإن كان أحدهما حرا والآخر رقيقا ثم عتق واختلفا في حريته عند الموت فالقول قول من ينفيها وإن لم يثبت أنه كان رقيقا ولا كافرا فادعى عليه أنه كذلك فأنكر فالقول قوله والميراث بينهما لأن الأصل الحرية والإسلام وعدم ما سواهما

حكم ما لو أسلم أحد الابنين في غرة شعبان وأسلم الآخر في غرة رمضان
فصل : وإن أسلم أحد الابنين في غرة شعبان وأسلم الآخر في غرة رمضان واختلفا في موت أبيهما فقال الأول منهما مات في شعبان فورثته وحدي وقال الآخر مات في رمضان فالميراث بينهما لأن الأصل بقاء حتى يعلم زوالها فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ففيه وجهان : أحدهما : يتعارضان والثاني : تقدم بينة موته في شعبان لأن معها زيادة علم لأنها بينت موته في شعبان ويجوز أن يخفى ذلك على البينة الأخرى

حكم ما لو اختلفا في دار
فصل : وإن اختلفا في دار فادعى أن هذه داري ورثتها عن أبي وادعى الآخر أنها داره ورثها عن أبيه وليس أحدهما أخا للآخر وكانت في يد أحدهما فهي للذي هي في يده سواء كان مسلما أو كافرا وإن كانت في أيديهم فهي بينهما وإن كان لكل واحد منهم بينة وهي في أيديهما تعارضتا وكان الحكم فيها على ما قدمنا في مثلها

حكم ما لو ماتت امرأة وابنها فقال الزوج ماتت قبل ابنها
مسألة : قال : وإذا ماتت امرأة وابنها فقال زوجها : ماتت قبل ابنها فورثناها ثم مات ابني فورثته وقال أخوها : مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين
وجملته أنه إذا مات جماعة يرث بعضهم بعضا واختلف الأحياء من ورثتهم في أسبقهم بالموت كامرأة وابنها ماتا فقال الزوج : ماتت المرأة أولا فصار ميراثها كله لي ولابني ثم مات ابني فصار ميراثه لي وقال أخوها : مات ابنها فورثت ثلث ماله ثم ماتت فكان ميراثها بيني وبينك نصفين حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وجعلنا ميراث كل واحد منهما للأحياء من ورثته دون من مات معه لأن سبب استحقاق الحي من موروثه موجود وإنما يمتنع لبقاء موروث الآخر بعده وهذا أمر مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك فيكون ميراث الابن لأبيه لا مشارك له فيه وميراث المرأة بين أخيها وزوجها نصفين وهذا مذهب الشافعي فإن قيل فقد أعطيتم الزوج نصف ميراث المرأة وهو لا يدعي إلا الربع قلنا : بل هو مدع له كله ربعه بميراثه منها وثلاثة أرباعه بإرثه من ابنه قال أبو بكر : وقد ثبتت البنوة بيقين فلا يقطع ميراث الأب منه إلا ببينة تقوم للأخ وهذا تعليل لقول الخرقي في هذه المسألة وذكر قولا آخر أنه يحتمل أن الميراث بينهما نصفين قال : وهذا اختياري أن كل رجلين ادعيا مالا يمكن صدقهما فيه فهو بينهما نصفين وهذا لا يدري ما أراد به إن أراد أن مال المرأة بينهما نصفين فهو قول الخرقي وليس بقول آخر إن أراد أن مالها ومال الابن بينهما نصفين لم يصح لأنه يفضي إلى إعطاء الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقينا لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه وإن أراد أن ثلث مال الابن يضم إلى مال المرأة فيقتسمانه نصفين لم يصح لأن نصف ذلك للزوج باتفاق منهما لا ينازعه الأخ فيه وإنما النزاع بينهما في نصفه ويحتمل أن يكون هذا مراده كما لو تنازع الأخ فيه وإنما النزاع بينهما خفي كما لو تنازع رجلان دارا في أيديهما فادعاها أحدهم كلها وادعى الآخر نصفها فإنها تقسم بينهما نصفين وتكون اليمين على مدعي النصف إلا أن الفرق بين هذه المسألة وتلك أن الدار في أيديهما فكل واحد منهما في يده نصفها فمدعي النصف يدعيه وهي في يده فقبل قوله فيه مع يمينه وفي مسألتنا يعترفان أن هذا ميراث عن الميتين فلا يد لأحدهما عليه لاعترافهما بأنه لم يكن لهما وإنما هو ميراث يدعيانه عن غيرهما وإن أراد أن يضم سدس مال الابن إلى نصف مال المرأة فيقسم بينهما نصفين فله وجه لأنهما تساويا في دعواه فيقسم بينهما كما لو تنازعا دابة في أيديهما وعلى كل واحد منهما اليمين فيما حكم له به والذي يقتضيه قول أصحابنا في الغرقي والهدمى أن يكون سدس ميراث الابن للأخ وباقي الميراثين للزوج لأننا نقدر أن المرأة ماتت أولا فيكون ميراثها لابنها وزوجها ثم مات الابن فورث الزوج كل ما في يده فصار ميراثها كله لزوجها ثم نقدر أن الابن مات أولا فورثه أبواه لأمه الثلث ثم ماتت فصار الثلث بين أخيها وزوجها نصفين لكل واحد منهما السدس فلم يرث الأخ إلا سدس مال الابن كما ذكرنا ولعل هذا القول يختص بمن جهل موتهما واتفق وارثهما على الجهل به والقولان المتقدمان قول الخرقي وقول أبي بكر فيما إذا ادعى ورثة كل ميت أنه مات أخيرا وأن الآخر مات قبله فإن كان لأحدهما بينة بما ادعاه حكم بها وإن أقاما بينتين تعارضتا وهل تسقطان أو تستعملان فيقرع بينهما أو يقتسمان ما اختلفا فيه ؟ يخرج على الروايات الثلاث والله أعلم

حكم ما لو كان في يد رجل دار فادعت امرأته أنه أصدقها إياها
فصل : ولو كان في يد رجل دار فادعت امرأته أنه أصدقها إياها أو أنها اشترتها منه فأنكرها فالقول قوله مع يمينه لأن القول قول المنكر مع يمينه وإن أقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة المرأة لأنها تشهد بزيادة خفيت على بينة الرجل وإن مات الرجل وخلف ابنا فادعى الابن أنه خلف الدار ميراثا وادعت المرأة أنه أصدقها إياها أو باعها إياها وأقاما بينتين قدمت بينة المرأة لذلك فإن لم تكن بينة فالقول قول الابن مع يمينه لا نعلم في هذا خلافا

حكم ما لو ادعى رجل أنه اكترى بيتا من دار لرجل أخر
فصل : وإذا ادعى رجل أنه اكترى بيتا من دار لرجل شهرا بعشرة فادعى الرجل أنه اكترى الدار كلها بعشرة ذلك الشهر ولا بينة لواحد منهما فقد اختلفا في صفة العقد في قدر المكترى فيتحالفان وقد مضى حكم التحالف في البيع وذكر أبو الخطاب فيما إذا ادعى البائع أنه باعه عبده هذا بعشرة وقال المشتري بل هو والعبد الآخر بعشرة فالقول قول البائع مع يمينه ولم يجعل بينهما تحالفا لأن المشتري يدعي بيعا في العبد الزائد ينكره البائع والقول قول المنكر وهذا مثله فعلى هذا يكون القول قول المكري مع يمينه إذا عدمت البينة وإن أقام أحدهما بدعواه بينة حكم له وإن كان مع كل واحد بينة تعرضتا سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد أو إحداهما مؤرخة والأخرى مطلقة لأن العقد على البيت مفردا وعلى الدار كلها في زمن واحد محال فإن تسقطان فالحكم فيه كما لو لم يكن بينهما بينة وإن قلنا يقرع بينهما قدمنا قول من تقع له القرعة وهذا قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي وعلى قول أبي الخطاب تقدم بينة المكتري لأنها تشهد بزيادة وهو قول بعض أصحاب الشافعي فإن قيل فهلا أوجبتم الأخريين معا على المكتري كما قلتم فيما إذا قامت البينة أنه تزوجها يوم الخميس بألف فقامت بينة أخرى أنه تزوجها يوم الجمعة بمائة يجب المهران قلنا : ثم يجوز أن يكون المهران مستقرين بأنها يتزوجها يوم الخميس ويدخل بها ثم يخالعها ثم يتزوجها يوم الجمعة وأما الأجرة فلا يستقر إلا بمضي الزمان فإذا عقد عقدا قبل مضي المدة لم يجز أن تجب الأجرتان

حكم ما لو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا
مسألة : قال : ولو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا وشهد آخران على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفا كان على ولي الصبي أن يطالب أحدهما بالألف إلا أن تكون كل بينة لم تشهد بالألف الذي شهدت به الأخرى فيأخذ الولي الألفين
أما إذا كانت كل بينة شهدت بألف غير معين فإن الولي يطالب بالألفين جميعا لأن كل واحد من الرجلين ثبت عليه أحد الألفين فيلزمه أداؤها وعلى الولي أن يطالب بها كما لو أقر كل واحد منهما بألف وأما إن كان المشهود به ألفا معينا فشهدت بينة أن هذا الرجل هو الآخذ لها لم يجب إلا ألف واحد وللولي مطالبة أيهما شاء لأنه قد ثبت أن كل واحد منهما أخذ الألف فإن كان لم يرده فقد استقر في ذمته وإن كان رده إلى الصبي لم تبرأ ذمته برده إليه لأنه ليس له قبض صحيح فإن غرمه الذي لم يرده لم يرجع على أحد لأنه استقر عليه وإن غرمه الراد له رجع على الذي لم يرده فإن غرمه أحدهما فادعى أن الضمان استقر على صاحبه ليرجع عليه فالقول قول الآخر مع يمينه لأن الأصل عدم استقراره عليه

حكم ما لو إلينا أهل الحرب فأقر بعضهم بنسب بعض
مسألة : قال : ولو أن رجلين حربيين جاءا من أرض الحرب فذكر كل واحد منهما أنه أخو صاحبه جعلناهما أخوين وإن كانا سبيا فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما إلا أن تقوم بما ادعياه بينة من المسلمين فثبت النسب ويورث كل واحد منهما من أخيه
وجملته أن أهل الحرب إذا دخلوا إلينا مسلمين أو غير مسلمين فأقر بعضهم بنسب بعض ثبت نسبهم كما يثبت نسب أهل دار الإسلام من المسلمين وأهل الذمة بإقرارهم ولأنه إقرار لا ضرر على أحد فيه فيقبل كإقرارهم بالحقوق المالية ولا نعلم في هذا خلافا وإن كانوا سبيا فأقر بعضهم بنسب بعض وقامت بذلك بينة من المسلمين ثبت أيضا سواء كان الشاهد أسيرا عندهم أو غير أسير ويسمى الواحد من هؤلاء حميلا أي محمولا كما يقال للمقتول قتيل وللمجروح جريح لأنه حمل من دار الكفر وقيل سمي حميلا لأنه حمل نسبه على غيره وإن شهد بنسبه الكفار لم تقبل وعن أحمد رواية أخرى أن شهادتهم في ذلك تقبل لتعذر شهادة المسلمين به وفي الغالب أشبه شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم والمذهب الأول لأننا إذا لم نقبل شهادة الفاسق فشهادة الكافر أولى وإنما لم يقبل إقرارهم لما في ذلك من ضرر على السيد بتفويت إرثه بالولاء على تقدير العتق وإن صدقهما معتقهما قبل لأن الحق له وإن لم يصدقهما ولم تقم بينة بذلك لم يرث بعضهم من بعض وميراث كل واحد منهما لمعتقه وهذا قول الشافعي فيما إذا أقر بنسب أب أو أخ أو جد أو ابن عم وإن أقر بنسب ففيه ثلاثة أوجه : أحدهما : لا يقبل والثاني يقبل لأنه يملك أن يستولد فملك الإقرار به والثالث : إن أمكن أن يستولد بعد عتقه قبل لأنه يملك الاستيلاد بعد عتقه وإلا لم يقبل لأنه لا يملك قبل عتقه أو يستولد قبل عتقه ويروى عن ابن مسعود ومسروق والحسن وابن سيرين أن إقراره يقبل فيما يقبل فيه الإقرار من الأحرار الأصليين وبه قال أبو حنيفة لأنه مكلف أقر بنسب وإرث مجهول النسب يمكن صدقه فيه ووافقه المقر له فيه فقبل كما لو أقر من له أخ بنسب ابن وبهذا الأصل يبطل ما ذكروه
ولنا ما روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلا حتى تقوم به بينة رواه سعيد وقال أيضا : حدثنا سفيان عن ابن جدعان عن سعيد بن المسيب قال : كتب عمر بن الخطاب أن لا تورث حميلا إلا ببينة ولأن إقراره يتضمن إسقاط حق معتقه من ميراثه فلم يقبل كما لو أقر أنه مولى لغيره فإن غيره شريكه في ولائه وفارق الإقرار من الحر الذي له أخ لأن الولاء نتيجة الملك فجرى مجراه ولأن الولاء ثبت عن عوض والأخوة بخلافه إلا ترى أنه لو قال لغيره أعتق عبدك عني وعلي ثمنه صح ولم يثبت له إلا الولاء ؟ وإذا ثبت أنه بعوض كان أقوى من النسب وإنما قدمنا النسب في الميراث لقربه لا لقوته كما نقدم ذوي الفروض على العصبة مع قربهم

إذا كان مختلفي الدين لم يثبت النسب بإقرارهم
فصل : وإذا كانا مختلفي الدين لم يثبت النسب بإقرارهما وإن لم يتوارثا لأنه يحتمل أن يسلم الكافر منهما فيرث ولذلك لو أقرا بالنسب في حال رقهما لم يثبت لاحتمال التوارث بالعتق وإن ولد لكل واحد منهما ابن من حرة فأقر كل واحد منهما للآخر أنه ابن عمه احتمل أن يقبل إقراره لأنه لا ولاء عليه فيقبل إقراره لوجود المقتضي لقبوله وانتفاء المعارض واحتمل أن لا يقبل لأنه يرثه المسلمون ولأنه إذا لم يقبل إقرار الأصول فالفروع أولى فإن قلنا يقبل إقرارهم فأقر أحدهما لأبي الآخر أنه عمه لم يثبت الإقرار بالنسبة إلى ابن أخيه لأنه لو ثبت لورث عمه دون مولاه المعتق له وهل يثبت بالنسبة إلى العم فيرث ابن أخيه ؟ يحتمل أن يثبت لانتفاء الولاء عن ابن الأخ فلا تفضي صحة الإقرار إلى إسقاط الولاء والأولى أنه لا يثبت لأنه لم يثبت بالنسبة إلى أحد الطرفين فلم يثبت في الآخر

حكم لو اختلف الزوجان في متاع البيت
مسألة : قال : وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا فادعى كل واحد منهما ما في البيت أن له أو ورثته حكم بما كان يصلح للرجال للرجل وما كان يصلح للنساء للمرأة وما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين
وجملة ذلك أن الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت أو في بعضه فقال كل واحد منهما جميعه لي أو قال كل واحد منهما هذه العين لي وكانت لأحدهما بينة ثبت له بلا خلاف وإن لم يكن لواحد منهما بينة فالمنصوص عن أحمد أن ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة والسلاح وأشباه ذلك القول فيه قول الرجال مع يمينه وما يصلح للنساء كحليهن وقمصهن ومقانعهن ومغازلهن فالقول قول المرأة مع يمينها وما يصلح لهما كالمفراش والأواني فهو بينهما وسواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق الحكم وسواء اختلفا في حال الزوجية أو بعد البينونة وسواء اختلفا أو اختلف ورثتهما أحدهما وورثة الآخر قال أحمد : في رواية الجماعة منهم يعقوب بن بختان في الرجل يطلق زوجته أو يموت فتدعي المرأة المتاع فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان من متاع النساء فهو للنساء وما استقام أن يكون بين الرجال و النساء فهو بينهما وإن كان المتاع على يدي غيرهما فمن أقام البينة دفع إليه وإن لم تكن لهما بينة أقرع بينهما فمن كانت له القرعة حلف وأعطى المتاع وقال في رواية مهنا : وكذلك إن اختلفا وأحدهما مملوك وبهذا قال الثوري و ابن أبي ليلى
وقال القاضي : هذا إنما هو فيما إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم وأما ما كان في يد أحدهما من طريق المشاهدة فهو له مع يمينه وإن كان في أيديهما قسم بينهما نصفين سواء كان يصلح لهما أو لأحدهما وهذا قول أبي حنيفة و محمد بن الحسن إلا أنهما قالا : ما يصلح لهما ويدهما عليه من طريق الحكم فالقول فيه قول الرجل مع يمينه وإذا اختلف أحدهما وورثة الآخر فالقول قول النافي منهما لأن اليد المشاهدة أقوى من اليد الحكمية بدليل أنه لو تنازع الخياط وصاحب الدار في الإبرة والمقص كانت للخياط
وقال أبو يوسف : القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهاز مثلها وقال مالك : ما صلح لكل واحد منهما فهو له وما صلح لهما كان للرجل سواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق الحكم لأن البيت للرجل ويده أقوى عليه لأن عليه السكنى
وقال الشافعي و زفر و البتي : كل ما في البيت بينهما نصفين فيحلف كل واحد منهما على نصفه ويأخذه وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما لأنهما تساويا في ثبوت يدهما على المدعي وعدم البينة فلم يقدم أحدهما على صاحبه كالذي يصلح لهما أو كان في يدهما من حيث المشاهدة عند من سلم ذلك
ولنا أن أيديهما جميعا على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يدا وتصرفا فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها أو قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه أو جدارا متصلا بداريهما معقودا ببناء أحدهما أو له عليه أزج
ولنا على أبي حنيفة والقاضي أنهما تنازعا فيما في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في اليد الحكمية فأما ما كان يصلح لهما فإنه في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في أيديهما من جهة المشاهدة والدلالة على أنه ليس للنافي أن وارث الميت قائم مقامه أشبه ما لو وكل أحدهما لنفسه وكيلا فإما إذا لم يكن لهما يد حكمية بل تنازع رجل وامرأة في عين غير قماش بينهما فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما وإن كانت في يد أحدهما فهي له وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها فمن خرجت له القرعة فهي له واليمين على من حكمنا بها له في كل المواضع لأنه ليس لهما يد حكمية فأشبها سائر المختلفين

حكم ما لو كان في الدكان نجار وعطار
فصل : وإذا كان في الدكان نجار وعطار فاختلفا فيما فيها حكم بآلة كل صناعة لصاحبها فآلة العطارين للعطار وآلة النجارين للنجار وإن لم يكونا في دكان واحد اختلفا في عين لم يرجح أحدهما بصلاحية العين المختلف فيها له كما ذكرنا في الزوجين ويكون ذلك كتنازع الأجنبيين

إذا اختلف المكري والمكتري في شيء في الدار
فصل : وإذا اختلف المكري والمكتري في شيء في الدار نظرت فإن كان مما ينقل ويحول كالأثاث والأواني والكتب فهي للمكتري لأن العادة أن الإنسان يكري داره فارغة من رحله وقماشه وإن كان في شيء مما يتبع في البيع كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة والسلالم المسمرة والمفاتيح والرحى المنصوبة وحجرها التحتاني فهو للمكري لأنه من توابع الدار فأشبه الشجرة المغروسة فيها وإن كانت الرفوف موضوعة على أوتاد فقال أحمد : إذا اختلفا في الرفوف فهي لصاحب الدار فظاهر هذا العموم في الرفوف كلها وقال القاضي : كلام أحمد محمول على المسمرة فأما غير المسمرة فهي بينهما إذا تحالفا لأنها لا تتبع في البيع فأشبهت القماش وهذا ظاهر يشهد للمكتري وللمكري ظاهر يعارض هذا وهو أن المكري يترك الرفوف في الدار ولا ينقلها عنها فإذا تعارض الظاهران من الجانبين استويا وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا إذا تخالفا كانت بينهما وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف وذكر القاضي في موضع آخر و أبو الخطاب أنه إن كان للرف شكل منصوب في الدار فهو لصاحب الدار مع يمينه وإن لم يكون له شكل منصوب تحالفا وكان بينهما لأنه إذا كان له شكل منصوب في الدار فالشكل التابع للدار فهو لصاحبها والظاهر أن أحد الرفين لمن له الآخر وكذلك إن اختلفا في مصراع باب مقلوع فالحكم فيه كما ذكرنا لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه فكان أحدهما لمن له الآخر كالحجر الفوقاني من الرحى والمفتاح مع السكرة ووجه ظاهر كلام أحمد في أن الرفوف لصاحب الدار على كل حال أن العادة جارية بترك الرفوف في الدار ولم تجر بنقل المكتري لها معه فكانت لصاحب الدار كالذي له شكل منصوب ولأنها إذا كانت لها أوتاد منصوبة فالأوتاد لصاحب الدار فكذلك ما نصبت له كالحجر الفوقاني من الرحى إذا كان السفلاني منصوبا ومفتاح السكرة المسمرة

إذا كان الخياط في دار فاختلفا في الإبرة والمقص
فصل : وإذا كان الخياط في دار غيره فاختلفا في الإبرة والمقص فهي للخياط لأن تصرفه فيهما أكثر وأظهر والظاهر معه لأن الإنسان إذا دعا خياطا ليخيط له فالعادة أنه يحمل معه إبرته ومقصه وإن اختلفا في القميص فهو لصاحب الدار إذ ليست العادة أن يحمل القميص معه يخيطه في دار غيره وإنما العادة أن يخيط قميص صاحب الدار فيها وإن اختلف صاحب الدار والنجار في القدوم والمنشار وآلة النجارة فهي للنجار وإن اختلفا في الخشبة والمنجورة والأبواب والرفوف المنشورة فهي لصاحب الدار وإن اختلف النجاد ورب الدار في قوس الندف فهي للنجاد وإن اختلفا في الفرش والقطن والصوف فهو لصاحب الدار وإن اختلف رب الدار والسقا في القربة فهي للسقا وإن اختلفا في الخابية والجرار فهي لصاحب الدار لما ذكرنا

حكم ما لو تنازعا دابة أو عمامة أو اختلفا في أرض ونهر
فصل : وإذا تنازع رجلان دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ زمامها فالراكب أولى بها لأن تصرفه فيها أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعتها وإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر آخذ بزمامها فهي لصاحب الحمل لذلك وإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر راكب عليها فهي للراكب لأنه أقوى تصرفا وإن اختلفا في الحمل فادعاه الراكب وصاحب الدابة فهو للراكب لأن يده على الدابة والحمل معا فأشبه ما لو اختلف الساكن وصاحب الدار في قماش فيها وإن تنازع صاحب الدابة والراكب في السرج فهو لصاحب الدابة لأن السرج في العادة يكون لصاحب الفرس وإن تنازع اثنان في ثياب على عبد لأحدهما فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها وإن تنازع صاحب الثياب والآخر في العبد اللابس لها فهما سواء لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب ومذهب الشافعي في هذا الفصل والذي قبله كما ذكرنا
فصل : فإن اختلف صاحب أرض ونهر في حائط بينهما فهو لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هو لصاحب النهر لأنه لنفعه وقال أبو يوسف و محمد هو لصاحب الأرض لأنه متصل بأرضه
ولنا أنه حاجز بين ملكيهما فكانت يدهما عليه فيكون لهما كما لو تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما أو حائط بين داريهما وما ذكروه من الترجيحين متقابل فيستويان وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما فهو بينهما لذلك وكل موضوع قلنا يقسم بينهما نصفين فإنما يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يحصل له دون النصف الآخر لأن ما يحصل له لا يفيده الحلف عليه شيئا فلا يستحلف عليه كالمدعي لا يحلف ما يأخذه المدعى عليه
فصل : وإن تنازعا عمامة طرفها في يد أحدهما وباقيها في يد الآخر أو قميصا كمه في يد أحدهما وباقيه مع الآخر فهما سواء فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها بدليل أنه لو كان باقيها على الأرض فنازعه فيها غيره كانت له وإذا كانت في أيديهما تساويا فيها ولو كانت في دار فيها أربعة أبيات وفي أحد أبياتها ساكن وفي الثلاثة الباقية ساكن آخر فاختلفا فيها كان لكل واحد ما هو ساكن فيه لأن كل بيت ينفصل عن صاحبه ولا يشارك الخارج منه الساكن فيه في ثبوت اليد عليه ولو تنازعا الساحة التي يتطرق منه إلى البيوت فهي بينهما نصفين لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها فأشبهت العمامة في ما ذكرنا

حكم ما لو كان له على أحد حق وقدر له على المال
مسألة : قال : ومن كان له على أحد حق فمنعه منه وقدر له على مال لم يأخذ منه مقدار حقه لما روي عن البني صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] رواه الترمذي
جملته أنه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئا بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قدر حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه عينا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وإن كانت من جنس حقه لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت دينا في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب المشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعا له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار لم يجز أخذ شيء من ماله بغير خلاف وإن أخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا أو عوضه إن كان تالفا ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف التي قبلها وإن كان مانعا له بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان أم يجز له الأخذ أيضا بغيره لأنه قدر على استيفاء حقه بمن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله وإن لم يقدر على ذلك لكونه جاحدا له ولا بينة له به أو لكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك أو نحو هذا فالمشهور في المذهب أنه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل : وقد جعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ وجها في المذهب أخذا من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه و سلم [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] وقال أبو الخطاب : ويتخرج لنا جواز الأخذ فإن كان المقدور عليه من جنس حقه بقدره وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه مأخوذ من حديث هند ومن قول أحمد في المرتهن : يركب ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضا
وقال الشافعي : إن لم يقدر على استخلاص حقه بعينه فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وإن كانت له بينة وقدر على استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك أنه لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ بقدر حقه وأن كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس
وقال أبو حنيفة : له أن يأخذ بقدر حقه إن كان عينا أو ورقا أو من جنس حقه وإن كان المال عرضا لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعارضة إلا برضا من المتعارضين قال الله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } واحتج من أجاز الأخذ بحديث هند حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه وإذا جاز لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير علمه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال صلى الله عليه و سلم [ لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ] ولأنه إن أخذ من غير جنس حقه كان معاوضة بغير تراض وإن أخذ من جنس حقه له تعين الحق بغير رضا صاحبه فإن التعين إليه ألا ترى أن لا يجوز له أن يقول اقضني حقي من هذا الكيس دون هذا ؟ ولأن كل ما لا يجوز له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز أخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له وأما حديث هند فإن أحمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالشفقة في المحاكمة في كل وقت والمخاصمة كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوما يعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران أحدهما : أن للمرأة من التبسيط في ماله بحكم العادة ما يؤثر قي إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الأجنبي والثاني : أن النفقة تراد لإحياء النفس وإبقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى نقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن لها أخذه فعلى هذا إن أخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا وإن كان تالفا وجب مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما فإن كان من جنس دينه تقاصا في قياس المذهب وإن كان من غير جنسه لزمه غرمه ومن جوز من أصحابنا الأخذ فإنه قال إن وجد من جنس حقه جاز له الأخذ منه بقدر حقه من غير زيادة وليس له الأخذ من غير جنس حقه مع قدرته على أخذه من جنسه وإن لم يجد إلا من غير جنس حقه فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه من نفسه وتلحقه فيه تهمة ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا : الرهن ينفق عليه إذا كان مركوبا أو محلوبا يركب ويحلب بقدر النفقة وهي من غير الجنس واختلاف أصحاب الشافعي فمنهم من جوز له هذا : و منهم من قال : يواطئ رجلا يدعى عليه عند الحاكم دينا فيقر له بملك الشيء الذي أخذه فيمتنع عليه الدعوى من قضاء الدين لبيع الحاكم الشيء المأخوذ ويدفعه إليه

حكم ما لو كان على إنسان حق وأقام به الشاهدين
فصل : إ ذا ادعى إنسان على إنسان حقا وأقام به شاهدين فلم يعرف الحاكم عدالتهما فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده أجيب إلى ذلك لأنة الظاهر من المسلمين العدالة ولأن الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود وإن أقام شاهدا واحدا وسأل حبس غريمه ليقيم شاهدا آخر وكان الحق مما لا يثبت إلا بشاهدين لم يحبس المدعى عليه لأن البينة ما تمت والحبس عذاب فلا يتوجه عليه دون تمام البينة وإن كان الحق مما يثبت بشاهد ويمين ففيه وجهان : أحدهما يحبس له لأن الشاهد الواحد حجة في المال وإنما اليمين مقوية له والثاني : لا يحبس وهو الصحيح لأنه إن يحبس ليقيم شاهدا آخر يتم به البينة فهو كالحقوق التي لا يثبت إلى بشاهدين وإن حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه فإن الحلف ممكن في الحال فإن حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شيء ويحتمل أن يقال : إن كان المدعى باذلا لليمين والتوقف لأجل إثبات عدالة الشاهد حبس لما ذكرنا في التي قبلها وإن كان التوقف عن الحكم بغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي : وكل موضع حبس فيه بشاهدين استديم الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم وكل موضع حبس فيه بشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له : إن جئت بشاهد آخر إلى ثلاث وإلا أطلقناه

حكم لو ادعى العبد أن سيده أعتقه
فصل : وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين ولم يعدلا فسأل العبد الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة الشهود فعلى الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة وينفق عليه من كسبه ويحبس الباقي فإن عدل الشاهدين سلم إليه الباقي من كسبه وإن فسقا رد إلى سيده وإنما حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا ولأننا لو لم نحل بينهما أفضى إلى أن تكون أمة فيطأها وإن أقام شاهدا واحدا وسأل أن يحال بينهما ففيه وجهان
وإن أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بينه وبينها وإن أقامت شاهدا واحدا لم يحل بينهما لأن البينة لم تتمم وهذا مما لا يثبت إلا بشاهدين فلا يثبت بشاهد واحد والله أعلم

كتاب العتق
العتق في اللغة الخلوص ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير أي خالصتها وسمى البيت الحرام عتيقا لخلوصه من أيدي الجبابرة وهو في الشرع تحرير رقبة وتخليصها من الرق يقال : عتق العبد وأعتقته أنا وهو عتيق ومعتق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى { فتحرير رقبة } وقال تعالى : { فك رقبة } وأما السنة فما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار حتى إنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفرج بالفرج ] متفق عليه في أخبار كثيرة سوى هذا وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به

العتق من أفضل القرب إلى الله تعالى
فصل : والعتق من أفضل القرب إلى الله تعالى لأن الله تعالى جعله كفارة للقتل والوطء في رمضان والأيمان وجعله النبي صلى الله عليه و سلم فكاكا لمعتقه من النار ولأن فيه تخليصا للآدمي المعصوم من ضرر الرق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمكنه من التصرف في نفسه ومنافعه على حسب إرادته واختياره وإعتاق الرجل أفضل من إعتاق المرأة لما روى كعب بن مرة البهزي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إيما رجل أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامه عظما من عظامه وأيما رجل مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامهما عظما من عظامه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار تجزي بكل عظم من عظامها عظما من عظامها ]
والمستحب عتق من له دين وكسب ينتفع بالعتق فأما من يتضرر بالعتق كمن لا كسب له تسقط نفقته عن سيده فيضيع أو يصير كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة فلا يستحب عتقه وإن كان ممن يخاف عليه المضي إلى دار الحرب والرجوع عن دين الإسلام أو يخاف عليه الفساد كعبد يخاف أنه إذا أعتق واحتاج سرق وفسق وقطع الطريق أو جارية يخاف منها الزنا والفساد كره إعتاقه وإن غلب على الظن إفضاؤه إلى هذا كان محرما لأن التوسل إلى الحرام حرام وإن أعتقه صح لأنه إعتاق صدر من أهله في محله فصح كإعتاق غيره

يحصل العتق بالقول والملك والاستيلاء
فصل : ويحصل العتق بالقول والملك والاستيلاء ونذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى ولا يحصل بالنية المجردة لأنه إزالة ملك فلا يحصل بالنية المجردة كسائر الإزالة وألفاظه تنقسم إلى صريح وكناية فالصريح لفظ الحرية والعتق وما تصرف منهما نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو أعتقتك لأن هذين الفظين وردا في الكتاب والسنة وهما يستعملان في العتق عرفا فكانا صريحين فيه فمتى أتى بشيء من هذه الألفاظ حصل به العتق وإن لم ينو شيئا عتق أيضا
قال أحمد في رجل لقي امرأة في الطريق فقال : تنحى يا حرة فإذا هي جاريته قال قد عتقت عليه وقال في رجل قال لخدم قيام في وليمة مروا أنتم أحرار وكانت معهم أم ولد له لم يعلم بها قال : هذا عندي تعتق أم ولده ويحتمل أن لا تعتق في هذين الموضعين لأنه قصد باللفظة الأولى غير العتق فلم تعتق بها كما لو قال عبدي حر يريد أنه عفيف كريم الأخلاق وباللفظة الثانية أراد غير أم ولده فأشبه ما لو نادى من نسائه فأجابته غيرها فقال : أنت طالق يحسبها التي ناداها فإنها لا تطلق على رواية وهكذا ههنا فأما أن قصد غير العتق كالرجل يقول عبدي هذا حر يريد عفته وكرم أخلاقه أو يقول لعبده ما أنت حر إلا أي إنك لا تطيعني ولا ترى لي عليك حقا ولا طاعة فلا يعتق في ظاهر المذهب
قال حنبل : سئل أبو عبد الله عن رجل قال لغلامه أنت حر وهو يعاتبه فقال : إذا كان لا يريد به العتق يقول كأنك حر ولا يريد أن يكون حرا أو كلاما نحو هذا رجوت أن لا يعتق وأنا أهاب المسألة لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فانصرف إليه كما نوى بكناية العتق العتق وبهذا قال الثوري و ابن المنذر قال : وإن طلب استحلافه حلف وبيان احتمال اللفظ لما أراده أن المرأة الحرة تمدح بهذا فيقال : امرأة حرة يعنون عفيفة وتمدح المملوكة به أيضا ويقال للحي الكريم الأخلاق حر قالت سبيعة ترثي عبد المطلب شعرا :
( ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة ... ويوم على حر كريم الشمائل )
وأما الكناية فنحو قوله : لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة واذهب حيث شئت وقد خليتك فهذا نوى به العتق عتق لأنه يحتمله وإن ينوه به لم يعتق لأنه يحتمل غيره ولم يرد به كتاب ولا سنة ولا عرف استعمال وذكر القاضي و أبو الخطاب في قوله : لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك : روايتين إحداهما : أنه صريح والثانية : أنه كناية وهو الصحيح لما ذكرناه فأما إن قال : لا رق لي عليك ولا ملك لي عليك وأنت لله فقال القاضي : هو صريح نص عليه أحمد وذكر أبو الخطاب فيه روايتين ولا خلاف في المذهب أنه يعتق به إذا نوى وممن قال يعتق بقوله أنت لله إذا نوى الشعبي و المسيب بن رافع و حماد و الشافعي و قال أبو حنيفة : لا يعتق به لأن مقتضاه أنت عبد الله أو مخلوق لله وهذا لا يقتضي العتق
ولنا أنه يحتمل أنه حر لله أو عتيق لله أو عبد لله وحده لست بعبد لي ولا لأحد سوى الله فإذا نوى الحرية به وقعت كسائر الكنايات وما ذكروه لا يصح لأن احتماله لما ذكروه لا يمنع احتماله لما ذكرناه بدليل سائر الكنايات فإنها تحتمل العتق وغيره ولو لم تحتمل إلا العتق لكانت صريحة فيه وما يحتمل أمرين انصرف إلى أحدهما بالنية وهذا شأن الكنايات وما ذكروه من الاحتمال يدل على أن هذا ليس بصريح وإنما هو كناية وقوله : لا ملك لي عليك ولا رق لي عليك خبر عن انتفاء ملكه ورقه لم يرد به شرع ولا عرف استعمال في العتق فلم يكن صريحا فيه كقوله : ما أنت عبدي ولا مملوكي وقوله لامرأته ما أنت امرأتي ولا زوجتي

حكم ما لو قال لأمته أنت طالق ينوي العتق
فصل : وإن قال لأمته : أنت طالق ينوي العتق به ففيه روايتان : إحداهما : لا تعتق به وهو قول أبي حنيفة لأن الطلاق لفظ وضع لإزالة الملك عن المنفعة فلم يزل به الملك عن الرقبة كفسخ الإجارة ولأن ملك الرقبة لا يستدرك بالرجعة فلا ينحل بالطلاق كسائر الأملاك والرواية الثانية : هو كناية تعتق به الأمة إذا نوى العتق وهو قول مالك و الشافعي ولأن الرق أحد الملكين على الآدمي فيزول بلفظ الطلاق كالآخر أو فيكون اللفظ الموضوع لإزالة أحدهما كناية في إزالة الآخر كالحرية في إزالة النكاح ولأن فيه معنى الإطلاق فإذا نوى به إطلاقها من ملكه فقد نوى بلفظه ما يحتمله فتحصل به الحرية كسائر كنايات العتق

حكم ما لو قال لأكبر منه هذا ابني
فصل : فإن قال لأكبر منه و لمن لا يولد لمثله هذا ابني مثل أن يقول من له عشرون سنة لمن له خمس عشر سنة هذا ابني لم يعتق ولم يثبت نسبه وقال أبو حنيفة : يعتق وخرجه أبو الخطاب وجها لنا لأنه اعترف بما تثبت به حريته فأشبه ما لو أقر بها
ولنا أنه قول يتحقق كذبه فيه فلم تثبت له الحرية كما لو قال لطفل : هذا أبي أو لطفلة هذه أمي قال ابن المنذر : هذا من قول النعمان شاذ لم يسبقه أحد إليه ولا تبعه أحد عليه وهو محال من الكلام وكذب يقينا ولو جاز هذا القول جاز أن يقول الرجل لطفل هذا أبي ولأنه لو قال لزوجته وهي أسن منه هذه ابنتي و قال لها وهو أسن منها أمي لم تطلق كذا هذا

فيما يصح العتق منه وما لا يصح
فصل : فإن قال لأمته أنت حرام على ما ينوي به العتق عتقت وذكر أبو الخطاب أن فيها رواية أخرى لا تعتق كقوله لها أنت طالق والصحيح أنها تعتق به لأنه يحتمل : أنت حرام علي لكونك حرة فتعتق به كقوله : لا سبيل لي عليك
فصل : ويصح العتق من كل من يجوز تصرفه في المال وهو العاقل الرشيد سواء كان مسلما و ذميا أو حربيا ولا نعلم في هذا خلافا إلا عن أبي حنيفة ومن وافقه في أن عتق الحربي لا يصح لأنه لا ملك له على التمام بدليل إباحة أخذه منه وانتفاء عصمته في نفسه وماله
ولنا أنه يصح طلاقه فصح إعتاقه كالذمي ولأنه مالك بالغ عاقل رشيد فصح إعتاقه كالذمي وقولهم لا ملك له لا يصح فإنهم قد قالوا : أنهم يملكون أموال المسلمين بالقهر فلأن يثبت لهم في غير ذلك أولى
فصل : ولا يصح من غير جائز التصرف فلا يصح عتق الصبي والمجنون قال ابن المنذر هذا قول عامة أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك الحسن و الشعبي و الزهري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ] ولأنه تبرع في المال فلم يصح منهما كالهبة ولا يصح عتق السفيه المحجور عليه وهو قول القاسم بن محمد وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يصح عتقه قياسا على طلاقه وتدبيره
ولنا أنه محجور عليه في ماله لحظ نفسه فلم يصح عتقه كالصبي ولأنه تصرف في المال في حياته فأشبه بيعه وهبته ويفارق الطلاق لأن الحجر عليه في ماله والطلاق ليس بتصرف فيه ويفارق التدبير لأنه تصرف فيه بعد موته وغناه عنه بالموت ولهذا صحت وصيته ولم تصح هبته المنجزة وعتق السكران مبني على طلاقه وفيه من الخلاف ما فيه ولا يصح عتق المكره كما لا يصح طلاقه ولا بيعه ولا شيء من تصرفاته
فصل : ولا يصح العتق من غير المالك فلو أعتق عبيد ولده الصغير أو يتيمه الذي في حجره لم يصح وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : يصح عتق عبد ولده الصغير لقوله صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] ولأن عليه ولاية وله فيه حق فصح إعتاقه كماله
ولنا أنه عتق من غير مالك فلم يصح كإعتاق عبد ولده الكبير قال ابن المنذر : لما ورث الأب من مال ابنه السدس مع ولده دل على أنه لا حق له في سائره
وقوله صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] لم يرد به حقيقة الملك وإنما أراد المبالغة في وجوب حقه عليك وإمكان الأخذ من مالك وامتناع مطالبتك له بما أخذ منه ولهذا لا ينفذ إعتاقه لبد ولده الكبير الذي ورد الخبر فيه وثبوت الولاية له على مال ولده أبلغ من امتناع إعتاقه عبده ولأنه إنما أثبت الولاية عليه لحظ الصبي ليحفظ ماله عليه وينميه له ويقوم بمصالحة التي يعجز الصبي عن القيام بها وإذا كان المقصود الولاية الحفظ اقتضت منع التضييع والتفريط بإعتاقه رقيقه والتبرع بماله ولو قال رجل لعبد آخر : أنت حر من مالي فليس بشيء فإن اشتراه بعد ذلك فهو مملوكه ولا شيء عليه وبهذا قال مالك و الشافعي وعامة الفقهاء ولو بلغ رجلا أن رجلا قال لعبده : أنت حر من مالي فقال : قد رضيت فليس بشيء وبهذا قال الثوري و إسحاق

حكم ما لو كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه وأحكام مختلفة
مسألة : قال : أبو القاسم رحمه الله : وإذا كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه معا أو وكل نفسان الثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل و عتق كل واحد منهم حقه وهو معسر فقد صار حرا وولاؤه بينهم أثلاثا
وجملته أن العبد متى كان لثلاثة فأعتقوه معا إما بأنفسهم بأن يتلفظوا بعتقه معا أو يعلقوا عتقه على صفة واحدة فتوجد أو يوكلوا واحدا فيعتقه أو يوكل نفسان منهم الثالث فيعتقه فإنه يصير حرا وولاؤه بينهم على قدر حقوقهم فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إنما الولاء لمن أعتق ] وكل واحد منهم قد أعتق حقه فيثبت له الولاء عليه وهذا لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا فأما إن أعتقه سادته الثلاثة واحدا بعد واحد وهم معسرون أو كان المعتقان الأولان معسرين والثالث موسرا فالصحيح فيه أنه يعتق على كل واحد منهم حقه وله ولاؤه وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي ابن المنذر فيما أعتق المعسر نصيبه قولين شاذين
أحدهما : باطل لأنه لا يمكن أن يعتق نصفه منفردا إذ لا يمكن أن يكون إنسان نصفه حرا ونصفه عبد كما لا يمكن أن يكون نصف المرأة طالقا ونصفها زوجة ولا سبيل إلى عتقه جميعه فبطل كله
والثاني : يعتق كله وتكون قيمة نصيب الذي لم يعتق في ذمة المعتق يتبع بها إذا أيسر كما لو أتلفه وهذان القولان شاذان لم يقلهما من يحتج بقوله ولا يعتمد على مذهبه ويردهما قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطى شركاؤه حصصهم وعتق جميع العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق ] متفق عليه وإذا ثبت أنه لا يعتق على المعسر إلا نصيبه فباقي العبد على الرق وإذا أعتقه مالكه عتق بإعتاقه وكان لكل واحد منهم ولاء ما أعتق لأن الولاء لمن أعتق ويفارق العتق الطلاق لكون المرأة لا يمكن الاشتراك فيها ولا ورود النكاح على بعضها ولا تكون إلا لواحد فنظيره إذا كان العبد لواحد فأعتق لواحد جزءا منه فإنه يعتق جميعه
فصل : وإذا قال كل واحد من الشركاء للعبد إذا دخلت الدار فنصيبي منك حر فدخل عتق عليهم جميعا وسواء قالوا ذلك دفعة واحدة أو في دفعات متفرقة لأن العتق في أنصبائهم يقع دفعة واحدة وإن اختلفت أوقات تعليقه
مسألة : قال : ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله وصار لصاحبه عليه قيمة ثلثيه
وجملته أن الشريك إذا أعتق نصيبه من العبد وهو موسر عتق نصيبه ولا نعلم خلافا فيه لما فيه من الأثر ولأنه جائز التصرف أعتق ملكه الذي لم يتعلق به حق غيره فينفذ فيه كما لو أعتق جميع العبيد المملوك له وإذا أعتق نصيبه سرى العتق إلى جميعه فصار جميعه حرا وعلى المعتق قيمة أنصباء شركائه والولاء له وهذا قول مالك و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي و أبي يوسف و محمد و إسحاق
وقال البتي : لا يعتق إلا حصة المعتق ونصيب الباقين باق على الرق ولا شيء على المعتق لما روى ابن التلب عن أبيه [ أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه و سلم ] ذكره أحمد ورواه ولأنه لو باع نصيبه لاختص البيع به فكذلك العتق إلا أن تكون جارية نفيسة يغالى فيها فيكون ذلك بمنزلة الجناية من المعتق للضرر الذي أدخله على شريكه
وقال أبو حنيفة لا يعتق إلا حصة المعتق ولشريكه الخيار في ثلاثة أشياء إن شاء أعتق وإن شاء استسعى لعبد وإن شاء ضمن شريكه فيعتق حينئذ
ولنا الحديث الذي رويناه وهو حديث صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه عن نافع عن ابن عمر فأثبت النبي صلى الله عليه و سلم العتق في جميعه وأوجب قيمة نصيب شريك المعتق الموسر عليه ولم يجعل له خيرة ولا لغيره
وروى قتادة عن أبي المليح عن أبيه [ أن رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك فرفع له ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال ليس لله شريك ] قال أبو عبد الله : الصحيح أنه عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسل وليس في عن أبيه هذا معنى كلامه وقول البتي شاذ يخالف الأخبار كلها فلا يعول عليه وحديث التلب يتعين حمله على المعسر جميعا بين الأحاديث وقياس العتق على البيع لا يصح فإن البيع لا يسري فيما إذا كان العبد كله له والعتق يسري فإنه لو باع نصف عبده لم يسر ولو أعتق نصفه عتق كله وإذا ثبت هذا فإن ولاءه يكون له لأنه عتق بإعتاقه من ماله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الولاء لمن أعتق ] ولا خلاف في هذا عند من يرى عتقه عليه
فصل : ولا فرق في هذا بين كون الشركاء مسلمين أو كافرين أو بعضهم مسلما وبعضهم كافرا ذكره القاضي وهو قول الشافعي
وقال أبو الخطاب في الكافر وجه أنه إذا أعتق نصيبه من مسلم أنه لا يسري إلى باقيه ولا يقوم عليه لأنه لا يصح شراء الكافر عبدا مسلما
ولنا عموم الخبر ولأن ذلك ثبت لإزالة الضرر فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب والغرض ههنا تكميل العتق ودفع الضرر عن الشريك دون التمليك بخلاف الشراء ولو قدر أن ههنا تمليكا لكان تقديرا في أدنى زمان حصل ضرورة تحصيل العتق ولا ضرر فيه فإن قدر فيه ضرر فهو مغمور بالنسبة إلى ما يحصل من العتق فوجوده كالعدم وقياس هذا على الشراء غير صحيح لما بينهما من الفرق والله أعلم
مسألة : قال : فإن أعتقاه بعد عتق الأول وقبل أخذ القيمة لم يثبت لهما فيه عتق لأنه قد صار حرا بعتق الأول له
يعني أن العتق يسري إلى جميعه باللفظ لا يدفع القيمة فيعتق كله لفظ بالعتق ويصير حرا وتستقر القيمة عليه فلا يعتق بعد ذلك غيره وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و أبو يوسف و محمد و إسحاق و ابن المنذر و الشافعي في قوله واختاره المزني وقال الزهري و عمرو بن دينار و مالك و الشافعي في قوله له : لا يعتق إلا بدفع القيمة ويكون قبل ذلك ملكا لصاحبه ينفذ عتقه فيه ولا ينفذ تصرفه فيه بغير العتق وهذا مقتضى قول أبي حنيفة واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم [ قوم عليه قيمة العدل فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق جميع العبد ] وفي لفظ رواه أبو داود [ فإن كان موسرا يقوم عليه قيمة عدل ولا وكس ولا شطط ثم يعتق ] فجعله عتيقا بعد دفع القيمة ولأن العتق إذا ثبت بعوض ورد الشرع به مطلقا لم يعتق إلا بالأداء كالمكاتب وللشافعي قول ثالث أن العتق مراعى فإن دفع القيمة تبينا أنه كان عتق من حين أعتق نصيبه وإن لم يدفع القيمة تبينا أنه لم يكن عتق لأن فيه احتياطا لهما جميعا
ولنا حديث ابن عمر روي بألفاظ مختلفة تجتمع في الدلالة على الحرية باللفظ فمنها لفظ رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من اعتق شركا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق ] رواه البخاري و أبو داود و النسائي وفي لفظ رواه ابن أبي مليكة عن نافع عن ابن عمر [ فكان له مال فقد عتق كله ] وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر [ وكان للذي يعتق ما يبلغ ثمنه فهو يعتق كله ] وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شقصا في مملوك فهو حر من ماله ] وهذه النصوص في محل النزاع فإنه جعله حرا عتيقا بإعتاقه مشروطا بكونه موسرا ولأنه عتق بالسراية فكانت حاصلة عقيب لفظه كما لو أعتق حرا من عبيده ولأن القيمة معتبرة وقت الإعتاق ولا ينفذ تصرف الشريك فيه بغير الإعتاق وعند الشافعي لا ينفذ بالإعتاق أيضا فدل على أن العتق حصل فيه بالإعتاق الأول فأما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الواو لا تقتضي ترتيبا وأما العطف يتم في اللفظ الآخر فلم يرد بها الترتيب فإنها قد ترد لغير الترتيب كقوله تعالى { ثم الله شهيد على ما يفعلون } أما العوض فإنما وجب على المتلف بالإعتاق بدليل اعتباره بقيمته حين الإعتاق وعدم اعتبار التراضي فيه ووجوب القيمة لم يثبت لهما فيه عتق ولا لهما عليه ولاء وولاءه كله للعتق الأول وعليه القيمة لأنه قد صار حرا بإعتاقه وعند المالك يكون ولاؤه بينهم أثلاثا ولا شيء على المعتق الأول من القيمة ولو أن المعتق الأول لم يؤد القيمة حتى أفلس عتق العبد وكانت القيمة في ذمته دينا يزاحم بها الشريكان عندنا وعند مالك لا يعتق منه إلا ما عتق ولو كان المعتق جارية حاملا فلم تؤد القيمة حتى وضعت حملها فليس على المعتق إلا قيمتها حين أعتقها لأنه حينئذ حررها وعند مالك يقوم ولدها أيضا ولو تلف العبد قبل أداء القيمة مات حرا والقيمة على المعتق لأنه فوت عليه رقه وعند مالك لا شيء على المعتق ما لم يقوم ويحكم بقيمته فهو في جميع أحكامه عبد
فصل : والقيمة معتبرة حين اللفظ بالعتق لأنه حين الإتلاف وهو أحد أقوال الشافعي وللشريك مطالبة المعتق بالقيمة على الأقوال كلها فإن اختلفا في قدرها رجع إلى قول المقومين فإن كان العبد قد مات أو غاب أو تأخر تقويمه زمنا تختلف فيه القيم ولم تكن بينة فالقول قول المعتق لأنه ينكر الزيادة والأصل براءة ذمته منها وهذا أحد قولي الشافعي وإن اختلف في صناعة في العبد توجب زيادة القيمة فالقول قول المعتق لذلك إلا أن يكون العبد يحسن الصناعة في الحال ولم يمض زمن يمكن تعليمها فيه فالقول قول الشريك لأننا علمنا صدقة وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول المعتق لأن الأصل براءة ذمته والثاني : القول قول الشريك لأن الأصل بقاء ما كان وعدم الحدوث وإن اختلفا في عيب ينقص كسرقة أو إباق فالقول قول الشريك لأن الأصل السلامة فبالجهة التي رجحنا قول المعتق في نفي الصناعة يرجح قول الشريك في نفي العيب وإن كان العيب فيه بحال الاختلاف واختلفا في حدوثه فالقول قول المعتق لأن الأصل براءة الذمة وبقاء ما كان على ما كان وعدم حدوث العيب فيه ويحتمل أن يكون القول قول الشريك لأن الأصل براءته من العيب حين الإعتاق
فصل : والمعتبر في اليسار في هذا أن يكون له فضل عن قوته يومه وليلته وما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية من الكسوة والمسكن وسائر ما لا بد له منه يدفعه إلى شريكه ذكره أبو بكر في التنبيه وإن وجد بعض ما يفي بالقيمة قوم عليه قدر ما يملكه منه ذكره أحمد في رواية ابن منصور وهو قول مالك وقال أحمد لا تباع فيه دار ولا رباع ومقتضى هذا أن لا يباع له أصل مال قال مالك و الشافعي : يباع عليه سوار بيته وما له بال من كسوته ويقضى عليه في ذلك ما يقضى عليه في سائر الدعاوى والمعتبر في ذلك حال تلفظه بالعتق لأنه حال الوجوب فإن أيسر المعسر بعد ذلك لم يسر إعتاقه وإن أعسر الموسر لم يسقط ما وجب عليه فلم يسقط بإعساره كدين الإتلاف نص على هذا أحمد
فصل : إذا قال أحد الشريكين لشريكه إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك فأعتق نصيبه عتقا معا ولم يلزم المعتق شيء وقيل يعتق كله على المعتق لأن إعتاق نصيبه شرط عتق نصيب شريكه فيلزم أن يكون سابقا عليه والأول أولى لأنه أمكن العمل بمقتضى شرطه فوجب حمله عليه كما لو وكله في إعتاق نصيبه مع نصيبه فأعتقهما معا وإن قال : إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر فقال أصحابنا : إذا أعتق نصيبه سرى وعتق عليه وقوم عليه ولا يقع إعتاق شريكه لأن السراية سبقت فمنعت عتق الشريك ويحتمل أن يعتق عليهما جميعا لأن عتق نصيبه سبب للسراية وشرط لعتق نصيب الشريك فلم يسبق أحدهما الآخر لوجودهما في حال واحد وقد يرجح وقوع عتق الشريك لأنه تصرف منه في ملكه والسراية تقع في غير الملك على خلاف الأصل فكان نفوذ عتق الشريك أولى ولأن سراية العتق على خلاف الأصل لكونها إتلافا للملك المعصوم بغير رضاه وإلزاما للمعتق غرامة لو يلتزمها بغير اختياره وإنما يثبت لمصلحة تكميل العتق فإذا حصلت هذه المصلحة بإعتاق المالك كان أولى وأن قال إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل إعتاقك نصيبك وقعا معا إذا أعتق نصيبه وهذا مقتضى قول أبي بكر والقاضي ومقتضى قول ابن عقيل أن يعتق كله على المعتق ولا يقع اعتاق شريكه لأنه أعتق في زمن ماض ومقتضىلا قول ابن سريج ومن وافقه ممن قال بسراية العتق أن لا يلح إعتاقه لأنه يلزم من عتقه نصيبه تقدم عتق الشريك وسرايته فيمتنع إعتاق نصيب هذا ويمتنع عتق نصيب الشريك ويفضي إلى الدور فيمتنع الجميع وقد مضى الكلام في هذا في مسائل الطلاق والله تعالى أعلم
مسألة : قال : وإن أعتقه الأول وهو معسر وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه ونصيبه شريكه وكان ثلث ولائه للمعتق الأول وثلثاه للمعتق الثاني
ظاهر المذهب أن المعسر إذا أعتق نصيبه من العبد استقر فيه العتق ولم يسر إلى نصيب شريكه بل يبقى على الرق فإذا إعتق الثاني نصيبه وهو موسر عتق عليه جميع ما بقي منه نصيبه بالمياسرة ونصيب شريكه الثالث بالسراية وصار له ثلثا ولائه وللأول ثلثه وهذا قول إسحاق و أبي عبيد و ابن المنذر و داود و ابن جرير وهو قول مالك و الشافعي على الوجه الذي بيناه من قولهما فيما مضى وروي عن عروة أنه اشترى عبدا أعتق نصفه كان عروة يشاهره شهر عبد وشهر حر وروي عن أحمد أن المعسر إذا أعتق نصيبه استسعى العبد في قيمة حصة الباقين حتى يؤديها فيعتق وهو قول ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و أبي يوسف ومحمد لما روى أبو هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شقصا له في مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه ] متفق عليه ورواه أبو داود وقال ابن ليلى و ابن شبرمة : فإذا استسعى في نصف قيمته ثم أيسر معتقه رجع عليه بنصف القيمة لأنه هو ألجأه إلى هذا وكلفه إياه وعن أبي يوسف و محمد أنهما قالا : يعتق جميعه وتكون قيمة نصيب الشريك في ذمته لأن العتق لا يتبعض فإذا وجد في البعض سرى إلى جميعه كالطلاق ويلزم المعتق القيمة لأنه المتلف لنصيب صاحبه بإعتاقه فوجبت قيمته في ذمته كما لو أتلفه بقتله وقال أبو حنيفة : لا يسري العتق وإنما يستحق به إعتاق النصيب الباقي فيتخير شريكه بين إعتاق نصيبه ويكون الولاء بينهما وبين أن يستسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أداه إليه عتق والولاء بينهما
ولنا حديث ابن عمرو وهو حديث صحيح ثابت عند جميع العلماء بالحديث ولأن الاستسعاء إعتاق بعوض فلم يجبر عليه كالكتابة ولأن في الاستسعاء إضرار بالشريك والعبد أما الشريك فأنا نحيله على سعاية لعله لا يحصل منها شيء أصلا وإن حصل فربما يكون يسيرا متفرقا ويفوت عليه ملكه وأما العبد فأنا نجبره على سعاية لم يردها وكسب لم يتخيره وهذا ضرر في حقهما وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] قال سليمان بن حرب : أليس إنما ألزم المعتق ثمن ما بقي من العبد لئلا يدخل على شريكه ضرر ؟ فإذا أمره بالسعي وإعطائه كل شهر درهمين ولم يقدر على تملكه فأي ضرر أعظم من هذا فأما حديث الاستسعاء فقال الأثرم : ذكره سلمان بن حرب فطعن فيه وضعفه وقال أبو عبد الله ليس في الاستعساء ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروة وأما شعبة وهشام الدستوائي فلم يذكراه وحدث به معمر ولم يذكر في السعاية : قال أبو داود : و همام أيضا لا يقوله قال المروذي : وضعف أبو عبد الله حديث سعيد وقال ابن المنذر : لا يصح حديث الاستسعاء وذكر همام أن ذكر الاستسعاء من فتيا قتادة وفرق بين الكلام الذي هو من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وقول قتاده وقال بعد ذلك : فكان قتادة يقول إن لم يكن له مال استسعى قال ابن عبد البر : حديث أبي هريرة يدور على قتادة وقد اتفق شعبة و هشام و همام على ترك ذكره وهم الحجة في قتادة فالقول قولهم فيه عند جميع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم غيرهم فأما قول أبي حنيفة وقول صاحبيه فلا شيء معهم يحتجون به من حديث قوي ولا ضعيف بل هو مجرد رأي وتحكم يخالف الحديثين جميعا قال ابن عبد البر : لم يقل أبو حنيفة و زفر بحديث ابن عمر ولا حديث أبي هريرة على وجهه وكل قول يخالف السنة فمردود على قائله والله المستعان
فصل : إذا قلنا بالسعاية احتمل إلا يعتق كله وتكون القيمة في ذمة العبد دينا يستسعى في أدائها ونكون أحكامه أحكام الأحرار فإن مات وفي يده مال كان لسيده بقية السعاية وباقي ماله موروث ولا يرجع العبد على أحد وهذا قول أبي يوسف و محمد ويحتمل أن لا يعتق حتى يؤدي السعاية فيكون حكمه قبل أداها حكم من بعضه رقيق إذا مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل ما يكون له على قول من لم يقل بالسعاية لأنه إعتاق بأداء مال فلم يعتق قبل أدائه كالمكاتب وقال ابن أبي ليلى و ابن شبرمة يرجع العبد على المعتق إذا أيسر لأنه كلفه السعاية بإعتاقه
ولنا أنه حق لزم العبد في مقابلة حريته فلم يرجع به أحد كمال الكتابة ولأنه لو رجع به على لسيد لكان هو الساعي في العوض كسائر الحقوق الواجبة عليه
مسألة : قال : و لو كان المعتق الثاني معسرا عتق نصيبه منه وكان ثلثه رقيقا لمن لم يعتق فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق وثلثاه للمعتق الأول والمعتق الثاني بالولاء إذا لم يكن له وارث أحق منهما
إنما كان كذلك لأن المعسر لا يعتق إلا نصيبه والأول والثاني معسران فلم يعتق على كل واحد إلا نصيبه ونصيبا الثلثان وبقي ثلثه رقيقا للثالث فإذا خلف العبد مالا فثلثه للذي لم يعتق لأنه مالك لثلثه وثلثاه ميراث لأنه ملكهما بجزئه الحر فإن كان له وارث نسيب يرث ماله كله أخذه لأنه أحق من المعتق وإن لم يكن له وارث ونسيب فهو للمعتقين بالولاء وإن كان له ذو فرض يرث البعض أخذ فرضه منه وباقيه للمعتقين وهذا القول فيما إذا لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته كسبه ولم يهايئه فإما إن قاسمه أو هيأه فلا حق له في تركته لأنها حصلت بالجزء الحر فتكون جميعها ميراثا لورثته دون مالك ثلثه إذ لا حق له في الجزء الحر فلا يكون له حق فيما كسبه به ولا فيما ملكه به
فصل : ومن قال بالسعاية فإنه يستسعى حين أعتقه الأول فإذا أعتق الثاني نصيبه انبنى ذلك على القول في حريته هل حصلت بإعتاق الأول أولا ؟ فمن جعله حرا لم يصحح عتق الثاني لأنه عتق بإعتاق الأول ومن لم يجعله حرا صحح عتق الثاني لأنه أعتق جزءا مملوكا له من عبد وإذا مات قبل أداء سعايته فقد مات وثلثه رقيق فيكون حكمه في الميراث حكم ما ذكرنا في القول الآخر
فصل : إذا حكمنا بعتق بعضه ورق باقيه فإن نفقته في حياته وفطرته وإكسابه بينه وبين سيده على قدر ما فيه من الحرية والرق وإن تراضينا على المهايأة بينهما كانت نفقة العبد وكسبه في أيامه له وعليه وفي أيام سيده يكون كسبه لسيده ونفقته عليه فأما الأكساب النادرة كاللقطة والهبة والوصية فذكر القاضي أنه تدخل في المهايأة لأنها من أكسابه فأشبهت المعتادة وذكر غيره من أصحابنا وجها آخر أنه لا تدخل في المهايأة وتكون بينهما على كل حال لأن المهايأة معاوضة فكأنه تعاوض عن نصيبه من كسبه في يوم سيده بنصيب سيده في يومه فلا تتناول المعاوضة المجهول وما لا يغلب على الظن وجوده فأما الميراث فلا يدخل في المهايأة ولا يستحق سيده منه شيئا لأنه إنما يرث بجزئه الحر ويملك هذا العبد بجزئه الحر جميع أنواع الملك ويرث ويورث بقدر ما فيه من الحرية وقد مضى ذكر ذلك
فصل : ومن أعتق عبده وهو صحيح جائز التصرف صح عتقه بإجماع أهل العلم وإن اعتق بعضه عتق كله في قول جمهور العلماء وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما وبه قال الحسن و الحكم و الأوزاعي و الثوري و الشافعي قال ابن عبد البر : عامة العلماء بالحجاز والعراق قالوا يعتق كله إذا أعتق نصفه وقال طاوس : يعتق في عتقه ويرق في رقه وقال حماد و أبو حنيفة : يعتق منه ما أعتق ويسعى في باقيه وخالف أبا حنيفة أصحابه فلم يروا عليه سعايه وروي عن مالك في رجل أعتق نصف عبد ثم غفل عنه حتى مات فقال : أرى نصفه حرا ونصفه رقيقا لأنه تصرف في بعضه فلم يسر إلى باقيه كالبيع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وعتق عليه جميع العبد ] وإذا أعتق عليه نصيب شريكه كان بينهما على عتق جميعه إذا كان كله ملكا له وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شقصا له في مملوك فهو حر من ماله ] ولأنه إزالة ملك لبعض مملوكه الآدمي فزال عن جمعية عن جميعه كالطلاق ويفارق البيع فإنه لا يحتاج إلى سعاية ولا ينبني على التغليب والسراية إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يعتق جزءا كبيرا كنصفه وثلثه أو صغيرا كعشره وعشر عشره ولا نعلم في هذا خلافا بين القائلين بسراية العتق إذا كان مشاعا وإن أعتق جزءا معينا كرأسه أو يده أو إصبعه عتق كله أيضا وبهذا قال قتادة و الشافعي و إسحاق وقال أصحب الرأي : إن اعتق رأسه أو ظهره أو بطنه أو جسده أو نفسه أو فرجه عتق كله لأن حياته لا تبقى بدون ذلك وإن أعتق يده أو عضوا تبقى حياته بدونه لم يعتق لأنه يمكن إزالة ذلك مع بقائه فلم يعتق بإعتاقه كشعره أو سنه
ولنا أنه أعتق عضو من أعضائه فيعتق جميعه كرأسه فأما إذا أعتق شعره أو سنه أو ظفره لم يعتق وقال قتادة و الليث في الرجل يعتق ظفر عبده يعتق كله لأنه جزء من أجزائه أشبه أصبعه
ولنا أن هذه الأشياء تزول ويخرج غيرها فأشبهت الشعر والريق وقد ذكر ذلك في الطلاق وما ذكر في الطلاق فالعتاق مثله والله أعلم
مسألة : قال : وإذا كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه فإن كانا عدلين كان للعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا
أما إذا كان الشريكان معسرين فليس في دعوى أحدهما على صاحبه إعتاق نصيبه اعترف بحريه ولا ادعاء لاستحقاق قيمته على المعتق لكون عتق المعسر يقف على نصيبه ولا يسري إلى غيره فلم يكن في دعواه أكثر من أنه شاهد على صاحبه بإعتاق نصيبه فإذا لم يكونا عدلين فلا أثر لكلامهما في الحال ولا عبرة بقولهما ن لأن غير العدل لا تقبل شهادته وإن كانا عدلين فشهادتهما مقبولة لأن كل واحد منهما لا يجز إلى نفسه بشهادته نفعا ولا يدفع بها ضررا وقد حصل للعبد بحرية كل نصف منه شاهد عدل فإن حلف معهما عتق كله وإن حلف مع أحدهما صار نصفه حرا على الرواية التي تقول إن يعتق شاهد ويمين وإن لم يحلف مع أحد منهما لو يعتق منه شيء لأن العتق لا يحصل بشاهد من غير يمينه بلا خلاف نعمله وإن كان أحدهما عدلا دون الآخر فله أن يحلف مع شهادة العدل ويصير نصفه حرا ويبقى نصفه الآخر رقيقا
فصل : ومن قال بالاستسعاء فقد اعترف بأن نصيبه قد خرج عن يده فيخرج العبد كله ويستسعى في قيمته لاعتراف كل واحد منهما بذلك في نصيبه
فصل : وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق عليه ولم يسر إلى النصف الذي كان له لأن عتقه حصل باعترافه بحربته بإعتاق شريكه ولا يثبت له عليه ولاء لأنه لا يدعي إعتاقه بل يعترف بأن المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن يسترقه ظلما فهو كمخلص الأسير من أيدي الكفار
وقال أبو الخطاب يسري لأنه شراء حصل به الأعتاق فأشبه شراء بعض ولده وإن أكذب نفسه في شهادته على شريكه ليسترق ما اشتراه لم يقبل منه لأنه رجوع عن الإقرار بالحرية فلم يقبل كما لو أقر بحرية عبده ثم أكذب نفسه وهل يثبت له الولاء عليه إن أعتقه ؟ يحتمل أن لا يثبت لما ذكرنا ويحتمل أن يثبت لأننا نعلم أن على العبد ولاء ولا يدعيه أحد سواه ولا ينازعه فيه فوجب أن يقبل قوله فيه وإن اشترى كل واحد منهما نصيب صاحبه صار العبد كله حرا لا ولاء عليه لواحد منهما فإن اعتق كل واحد منهما ما اشتراه ثم أكذب نفسه في شهادته فهل يثبت له الولاء على من أعتقه ؟ على وجهين وإن اقر كل واحد منهما بأنه كان أعتق نصيبه وصدق الآخر في شهادته بطل البيعان ويثبت لكل واحد منهما الولاء على نصفه لأن أحدا لا ينازعه فيه وكل واحد منهما يصدق الآخر في استحقاق الولاء ويحتمل أن يثبت الولاء لهما وإن لم يكذب واحد منهما نفسه لأننا نعلم أن الولاء عليه ثابت لهما ولا يخرج عنهما وأنه بينهما إما بالعتق الأول لهما وأمما بالثاني لأنهما إن كانا صادقين في شهادتهما فقد ثبت الولاء لكل واحد منهما على النصف الذي أعتقه أولا وإن كانا كاذبين فقد أعتق كل واحد نهما نصفه بعد أن اشتراه وإن كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا فلا ولاء للصادق منهما لأنه لم يعتق النصف الذي كان له أولا ولا صح عتقه في الذي اشتراه لأنه كان حرا قبل شرائه والولاء كله للكاذب لأنه أعتق النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي لشريكه فأعتقه وكل واحد منهما يساوي صاحبه في الاحتمال فيقسم بينهما
فصل : وكل من شهد على سيد عبد بعتق عبده ثم اشتراه عتق عليه وإن شهد اثنان عليه بذلك فترد شهادتهما ثم اشترياه أو أحدهما عتق وبهذا قال الشافعي والأوزعي و مالك و ابن منذر وهو قياس قول أبي حنيفة ولا يثبت للمشتري ولاء على العبد لأنه لا يدعيه ولا للبائع لأنه ينكر عتقه ولو كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا موسرين فعتق عليهما أو كانا معسرين عدلين فحلف العبد مع كل واحد عتق أو شهد مع كل واحد منهما عدل آخر وعتق العبد أو ادعى عبد أن سيده أعتقه فأنكر وقامت البينة بعتقه عتق ولا ولاء على العبد في هذه المواضع كلها لأن أحدا لا يدعيه ولا يثبت لأحد حق ينكره فإن عاد من ثبت إعتاقه فاعترف به ثبت له الولاء لأنه لا مستحق له سواء وإنما لم يثبت له لإنكاره له فإذا اعترف زال الإنكار وثبت له وأما الموسران إذا اعتق عليهما فإن صدق أحدهما صاحبه في أنه أعتق نصيبه وحده أو أنه سبق بالعتق فالولاء له وعليه غرامة نصيب الآخر فإن اتفقا على أن كل واحد منهما أعتق نصيبه دفعة واحدة فالولاء بينهما وأن ادعى كل واحد منهما أنه المعتق وحده أو أنه السابق بالعتق تحالفا وكان الولاء بينهما نصفين
مسألة : قال : وإن كان الشريكان موسرين فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما بحريته وصار مدعيا على شريكه نصف قيمته فإن لم تكن بينه فيمين كل واحد منهما لشريكه
وجملة ذلك أن الشريكين الموسرين إذا ادعى كان واحد منهما أن شريكه أعتق نصيبه فكل واحد منهما معترف بحرية نصيبه شاهد على شريكه بحرية نصفه الآخر لأنه يقول لشريكه : أعتقت نصيبك فسرى العتق إلى نصيبي فعتق كله عليك ولزمك لي قيمة نصيبي فصار العبد حرا لاعترافهما بحريته وبقي كل واحد منهما يدعي قيمة حصته على شريكه فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم تكن بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئا فإن نكل أحدهما قضي عليه وإن نكلا جميعا تساقط حقاهما لتماثلهما ولا فرق في هذه الحال بين العدلين والفاسقين والمسلمين والكافرين لتساوي العدل والفاسق والمسلم والكافر في الاعتراف والدعوى بخلاف التي قبلها
فصل : وإن كان أحد الشريكين موسرا والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده لاعترافه بأن نصيبه قد صار حرا بإعتاق شريكه الموسر الذي يسري عتقه ولم يعتق نصيب الموسر لأنه يدعي أن المعسر الذي لا يسري عتقه أعتق نصيبه خاصة فعتق وحده ولا تقبل المعسر عليه لأنه يجر بشهادته إلى نفسه نفعا لكونه يوجب عليه بشهادته نصف قيمتة فعلى هذا إن لم تكن للعبد بينة سواه حلف الموسر وبرئ من القيمة العتق جميعا ولا ولاء للمعسر في نصيبه لأنه لا يدعيه ولا للموسر لذلك أيضا وإن عاد المعسر فأعتقه وادعاه ثبت له وإن أقر الموسر باعتاق نصيبه وصدق المعسر عتق نصيبه أيضا وعليه غرامة نصيب المعسر وثبت له الولاء وإن كان للعبد بينة أجنبية تشهد باعتاق الموسر وكانت عدلين ثبت العتق ووجبت القيمة للمعسر عليه وإن كانت رجلا واحدا حلف العبد معه ويثبت العتق في إحدى الروايتين والأخرى لا يثبت العتق وللمعسر أن يحلف معه ويستحق قيمة نصيبه سواء حلف العبد أو لم يحلف لأن الذي يدعيه مال يقبل فيه شاهد ويمين
فصل : وإن ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وأنكر الآخر وكان المدعى عليه موسرا عتق نصيب المدعي وحده لاعترافه بحريته بسرايه عتق شريكه وصار مدعيا نصف القيمة على شريكه ولا يسري لأنه لا يعترف أنه المعتق له وإنما أعتق باعترافه بحريته لا بإعتاقه له ولا ولاء له عليه لإنكاره له قال : القاضي : وولاؤه موقوف وإن كان المدعي عدلا لم تقبل شهادته لأنه يدعي نصف قيمته على شريكه فيجر بشهادته نفعا ومن شهد بشهادة يجر إليه بها نفعا بطلت شهادته كلها وأما إن كان المدعى عليه معسرا فالقول قوله مع يمينه ولا يعتق منه شيء وإن كان المدعي عدلا حلف العبد مع شهادته وصار نصفه حرا وقال حماد : إن كان المشهود عليه موسرا سعى له وإن كان معسرا سعى لهما وقال أبوحنيفة إن كان معسرا سعىالعبد وولاؤه بينهما وإن كان موسرا فولاء نصفه موقوف فإن اعترف أنه أعتق استحق الولاء وإلا كان الولاء لبيت المال
فصل : إذا قال أحد الشريكين : إن كان هذا الطائر غرابا فنصيبي حر وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فنصيبي حرا وطار ولم يعلما حاله فأن كانا موسرين عتق العبد كله وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده لما ذكرنا وإن كانا معسرين لم يعتق نصيب واحد منهما لأنه لم يتعين الحنث فيه فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر عتق نصفه لأننا علمنا حرية نصفه ولم يسر إلى النصف الآخر وإن اشترى العبد أجنبي عتق نصفه لأن نصفه حر يقينا فلم يملك جميعه

حكم ما لو مات رجل وخلف ابنين وعبدين وأحوال العتق في المرض
مسألة : قال : وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما وهما متساويان في القيمة فقال أحد الابنين : أبي أعتق هذا وقال الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق ثلثاه إن لم يجز الابنان عتقه كاملا وكان الآخر عبدا وإن وقعت القرعة على الآخر عتق منه ثلثه وكان لمن قرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه فصار ثلث كل واحد من العبدين حرا
هذه المسألة محمولة على أن العتق كان في مرض الموت أو بالوصية لأنه لو أعتقه في صحته لعتق كله ولم يقف على إجازة الورثة فإما إذا اعترفا أنه أعتق أحدهما في مرضه فلا يخلو من أربعة أحوال إما أن يعينا العتق في أحدهما فيعتق منه ثلثاه لأن ذلك ثلث جميع ماله إلا أن يجيزا عتق جميعه فيعتق والثاني : أن يعين كل واحد منهما العتق في واحد غير الذي عينه أخوه فيعتق من كل واحد منهما ثلثه لأن كل واحد منهما حقه نصف العبدين فيقبل قوله في عتق حقه من الذي عينه وهو ثلثا النصف الذي له وذلك هو الثلث ولأنه يعترف بحرية ثلثيه فيقبل قوله في حقه منهما وهو الثلث ويبقى الرق في ثلثه فله نصفه وهو السدس ونصف العبد الذي ينكر عتقه
والحال الثالث : أن يقول أحدهما : أبي أعتق هذا ويقول الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما ـ وهي مسألة الكتاب ـ فتقوم القرعة مقام تعيين الذي لم يعين فإن وقعت على الذي عينه أخوه عتق منه ثلثاه كما عيناه بقولهما وإن وقعت على الآخر كان كما لو عين كل واحد منهما عبدا يكون لكل واحد منهما سدس العبد الذي عينه ونصف العبد الذي ينكر عتقه فيصير ثلث كل واحد من العبدين حرا
والحال الرابع : أن يقولا أعتق أحدهما ولا ندري من منهما فإنه يقرع بين العبدين فمن وقعت عليه القرعة عتق منه ثلثاه إن لم يجيزا عتق جميعه وكان الآخر رقيقا
فصل : فإن رجع الابن الذي جهل عين المعتق فقال : قد عرفته قبل القرعة فهو كما لو عينه ابتداء من غير جهل وإن كان بعد القرعة فوافقها تعيينه لم يتغير الحكم وإن خالفها عتق من الذي عينه ثلثه بتعيينه فإن عين الذي عينه أخوه عتق ثلثاه وإن عين الآخر عتق منه ثلثه وهل يبطل العتق في الذي عتق بالقرعة ؟ على وجهين

حكم ما لو كان لرجل نصف عبد ولآخر ثلثه ولآخر سدسه
مسألة : قال : وإذا كان لرجل ونصف عبد ولآخر ثلثه ولآخر سدسه فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس معا وهما موسران عتق عليهما وضمنا حق شريكهما فيه نصفين وكان ولاؤه بينما أثلاثا لصاحب النصف ثلثاه ولصاحب السدس ثلثه
وجملته أن العبد إذا كان مشتركا بين جماعة فأعتق اثنان منهم أو أكثر وهم موسرون سرى عتقهم إلى باقي العبد ويكون الضمان بينهم على عدد رؤوسهم يتساوون في ضمانه وولائه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يقسم بينهما على قدر أملاكهم وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه لأن السراية حصلت بإعتاق ملكيهما وما وجب بسبب الملك كان على قدره كالنفقة واستحقاق الشفعة
ولنا أن عتق النصيب إتلاف لرق الباقي وقد اشتركا فيه فيتساويان في الضمان كما لو جرح أحدهما جرحا والآخر جرحين فمات منهما أو ألقى أحدهما جزءا من النجاسة في مانع وألقى الآخر جزأين وبفارق الشفعة فإنها تثبت لإزالة الضرر عن نصيب الذي لم يبع فكان استحقاقه على القدر نصيبه ولأن الضمان ههنا لدفع الضرر منهما وفي الشفعة لدفع الضرر عنهما والضرر منهما يستويان في إدخاله على الشريك وفي الشفعة ضرر صاحب النصف أعظم من ضرر صاحب السدس فاختلفا
وإذا ثبت هذا كان ولاؤه بينهما أثلاثا لأننا إذا حكمنا بأن الثلث معتق عليهما نصفين فنصف الثلث سدس إذا ضممناه إلى النصف الذي لأحدهما صار ثلثين وإذا ضممنا السدس الآخر إلى السدس المعتق صار ثلثا وعلى الوجه الآخر يصير الولاء بينهما أرباعا : لصاحب النصف ثلاثة أرباعه ولصاحب السدس ربعه والضمان بينهما كذلك
فأما قوله فأعتقاه معا فلأنه شرط في الحكم الذي ذكرناه اجتماعهما في العتق بحيث لا يسبق أحدهما الآخر بأن يتلفظا به معا أو يوكل أحدهما صاحبه فيعتقهما معا أو يوكل وكيلا فيعتقهما أو يعلقا عتقه على شرط فيوجد فإن سبق أحدهما صاحبه عتق عليه نصيب شريكيه جميعا وكان الضمان عليه والولاء له كله وقوله : وهما موسران شرط آخر فإنه سراية العتق يشترط لها اليسار فإن كان أحدهما موسرا وحده قوم عليه جميع نصيب من لم يعتق لأن المعسر لا يسرى عتقه فيكون الضمان على الموسر خاصة فإن كان أحدهما يجد بعض ما يخصه قوم عليه ذلك القدر وباقيه على الآخر مثل أن يجد صاحب السدس قيمة نصف السدس فيقوم عليه ويقوم الربع على صاحب النصف ويصير ولاؤه بينهم أرباعا لصاحب السدس ربعه وباقيه لمعتق النصف لأنه كان لأحدهما معسرا قوم الجميع على الآخر فإذا كان موسرا ببعضه قوم الباقي على صاحب النصف لأنه موسر

حكم ما لو كانت الأمة بين شريكين فأصابها أحدهما
مسألة : قال : وإذا كانت الأمة بين شريكين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم يبلغ بح الحد وضمن نصف قيمتها لشريكه وصارت أم ولد له وولده حر وإن كان معسرا كان في ذمته نصف مهر مثلها وإن لم تحبل فعليه نصف مهر مثلها وهي على ملكيهما
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في تحريم وطء الجارية المشتركة لأن الوطء يصادف ملك غيره من غير نكاح ولم يحله الله في غير ملك ولا نكاح بدليل قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وأكثر أهل العلم لا يوجبون فيه الحد لأن له فيه ملكا فكان ذلك شبهة درائة للحد وأوجبه أبو ثور لأنه وطء محرم لأجل كونه في ملك غيره فأشبه ما لو لم يكن فيها ملك
ولنا أنه وطء صادف ملكه فلم يوجب به حد كوطء زوجته الحائض ويفارق ما لا ملك له فيها فإنه لا شبهة له فيها ولهذا لو سرق عينا له نصفها لم يقطع ولو لم يكن له فيها ملك قطع ولا خلاف في أنه يعزر لما ذكرنا في حجة أبي ثور ثم لا يخلو من حالين إما أن لا تحمل منه فهي باقية على ملكهما وعليه نصف مهر مثلها لأنه وطء سقط فيه الحد للشبهة فأوجب مهر مثل كما لو وطئها يظنها امرأته وسواء كانت مطاوعة أو مكرهة لما ذكرنا ولأن وطء جارية غيره يوجب المهر وإن طاوعت لأن المهر لسيدها فلا يسقط بمطاوعتها كما لو أدبت في قطع عضو من أعضائها ويكون الواجب نصف المهر بقدر ملك الشريك فيها الحال الثاني : أن يحبلها وتضع ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان فإنها تصير بذلك أم ولد للواطئ كما لو كانت خالصة له وتخرج بذلك من ملك الشريك كما تخرج بالإعتاق وسواء كان الواطئ موسرا أو معسرا لأن الإيلاد أقوى من الإعتاق ولزومه نصف قيمتها لأنه أخرج نصفها من ملك الشريك فلزمته قيمته كما لو أخرجه بالإعتاق أو الإتلاف فإن كان موسرا أداه وإن كان معسرا فهو في ذمته كما لو أتلفها والولد حر يلحق نسبه بوالده لأنه من وطء في محل له فيه ملك فأشبه ما لو وطئ زوجته وقال القاضي : الصحيح عندي أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إذا كان معسرا بل يصير نصفها أم ولد ونصفها قنا باقيا في ملك الشريك لأن الإحبال كالعتق ويجري مجراه في التقويم والسراية فاعتبر سرايته اليسار كالعتق وهذا قول أبي الخطاب أيضا ومذهب الشافعي فعلى هذا إذا ولدت احتمل أن يكون الولد كله حرا لاستحالة انعقاد الولد من حر وعبد واحتمل أن يكون نصفه حرا ونصفه رقيقا لأن نصف أمه أم ولد ونصفها قن لغير الواطئ فكان نصف الولد حرا وكان نصفه رقيقا كولد المعتق بعضها وبهذا يتبين أنه لم يستحيل انعقاد الولد من حر وقن
ووجه قول الخرقي أن بعضها أم ولد كما لو كان الواطئ موسرا ويفارق الإعتاق فإن الاستيلاد أقوى ولهذا ينفذ من جميع المال من المريض ومن الصبي والمجنون والإعتاق بخلافه
فصل : قال أبو الخطاب : وهل نلزمه قيمة الولد ومهر الأمة ؟ على وجهين : أحدهما : لا يلزمه وهو ظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكرهما لأن الأمة صارت مملوكة له فلم يلزمه مهر مملوكته ولا قيمة ولدها لأن الولد خلق حرا فلم يقوم عليه ولده الحر والوجه الثاني : يلزمه لشريكه نصف مهر مثلها ونصف قيمة ولدها لأن الوطء صادف ملك غيره وإنما انتقلت بالوطء الموجب للمهر فيكون الوطء سبب الملك ولا يثبت الحكم إلا بعد تمام سببه فليزم حينئذ تقدم الوطء على ملكه فيكون في ملك غيره فوجب مهر المثل وفعله ذلك منع انخلاق الولد على ملك الشريك فيجب عليه نصف قيمته كوالد المغرور وقال القاضي : إن وضعت الولد بعد التقويم فلا شيء على الواطئ لأنها وضعته في ملكه وقت الوجوب حالة الوضع ولا حق للشريك فيها ولا في ولدها وإن وضعته قبل التقويم فهل تلزمه قيمة نصفه ؟ على الروايتين ذكرهما أبو بكر واختار أنه تلزمه قيمته
فصل : ولا فرق بين أن يكون له في الأمة ملك كثير أو يسير وقد ذكر الخرقي فيما إذا وطئ جارية من المغنم أنها تصير أو ولد إذا أحبلها وإن كان إنما له فيها سهم يسير من أكثر من ألف سهم

حكم لو ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر
مسألة : قال : وإن ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله وكان لشريكه عليه قيمة منه وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلا بمقدار ما ملك وإن ملك بعضه بالميراث لم يعتق منه إلا مقدار ما ملك موسرا أو معسرا
قد ذكرنا فيما تقدم أن من ملك ذا رحم فهو حر لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من ملك ذا رحم فهو محرم فهو حر ] رواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي وروى ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ]
وسئل أحمد عن ضمرة فقال : ثقة إلا أنه روى حديثين ليس لهما أصل : أحدهما : هذا الحديث وروى عن إبراهيم عن الأسود عن عمر أنه قال [ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ] وقد ذكرنا هذا وما فيه من الخلاف فيما تقدم فأما إن ملك سهما ممن يعتق عليه مثل أن يملك سهما من ولده فإنه يعتق عليه ما ملك منه سواء ملكه بعوض أو بغير عوض كالهبة والاغتنام والوصية وسواء ملكه باختياره كالذي ذكرناه أو بغير اختياره كالميراث لأن كل ما يعتق به الكل البعض كالإعتاق بالقول ثم ينظر فإن معسرا لم يسر العتق واستقر في ذلك الجزء ورق الجزء الباقي لأنه لو لم يسر إعتاقه مع تصريحه بالعتق وقصده إياه فهاهنا أولى وإن كان موسرا وكان الملك باختياره كالملك بغير الميراث سرى إلى باقيه فعتق جميع العبد ولزمه لشريكه قيمة باقيه لأنه فوته عليه وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف وقال قوم : لا يعتق عليه إلا ما ملك سواء ملكه بشراء أو غيره لأن هذا لم يعتقه وإنما عتق عليه بحكم الشرع عن غير اختيار منه فلم يسر كما لو ملكه بالميراث وفارق ما أعتقه لأنه باختياره قاصدا إليه
ولنا أنه فعل سبب العتق اختيارا منه وقصدا إليه فسرى ولزمه الضمان كما لو وكل من أعتق نصيبه وفارق الميراث فإنه حصل من غير قصده ولا فعله ولأن من باشر سبب السراية اختيارا لزمه ضمانها كمن جرح إنسانا فسرى جرحه ولأن مباشرته لما تسببه إليه في لزم حكم السراية واحد بدليل استواء الحافز والدافع في ضمان الواقع فأما إن ملكه بالميراث لم يسر العتق فيه واستقر في ما ملكه ورق الباقي سواء كان موسرا أو معسرا لأنه لن يتسبب إلى إعتاقة وإنما حصل بغير اختياره وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف وعن أحمد ما يدل على يسري إلى نصيب شريكه إذا كان موسرا لأنه عتق عليه بعضه وهو موسر فسرى إلى باقيه كما لو وصى له به فقبله والمذهب الأول لأنه لم يعتقه ولا تسبب إليه فلم يضمن ولم يسر كالأجنبي وفارق ما تسبب إليه

حكم لو ورث الصبي والمجنون جزءا ممن يعتق عليهما
فصل : وإن ورث الصبي والمجنون جزءا ممن يعتق عليهما عتق ولم يسر إلى باقيه لأنه إذا لم يسر في حق المكلف ففي حقهما أولى وإن وهب لهما أو وصي لهما به وهما معسران فعلى وليهما قبوله لأنه نفع لهما بإعتاق من غير ضرورة يلحق بهما وإن كانا موسرين ففيه وجهان مبينان على أنه هل يقوم عليهما باقية إذا ملكا بعضه ؟ ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقوم ولا يسري العتق إليه لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره فأشبه ما لو ورثه
والثاني : يقوم عليه لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله فأشبه الوكيل فعلى هذا الوجه ليس لوليه قبوله لما فيه من الضرر وعلى الأول يلزمه قبوله لأنه يقع بغير ضرر إذا كان ممن لا تلزمه نفقته وإذا قلنا ليس له أن يقبله فقبله احتمل أن لا يصح القبول لأنه فعل ما لم يأذن الشرع فيه فأشبه ما لو باع ماله بغبن واحتمل أن يصح وتكون الغرامة عليه لأنه ألزمه هذه الغرامة فكانت عليه كنفقة الحج إذا حجه

إذا باع عبدا لذي رحمه وأجنبي في صفقة واحدة
فصل : وإذا باع عبدا لذي رحمه وأجنبي صفقة واحدة عتق كله إذا كان ذو الرحم معسرا وضمن لشريكه قيمة حقه منه وقال القاضي : لا يضمن لشريكه شيئا لأن ملكه لم يتم إلا بقبول شريكه فصار كأنه أذن له في إعتاق نصيبه
ولنا أنه عتق عليه نصيبه بملكه لاختياره فوجب أن يقوم عليه باقيه مع يساره كما لو انفرد بشرائه ولا نسلم أنه لا يصح قبوله إلا بقبول شريكه

وإن كانت أمة مزوجة ولها ابن موسر فاشتراها
فصل : وإذا كانت أمة مزوجة ولها ابن موسر فاشتراها هو وزوجها وهي حامل منه صفقة واحدة عتق نصيب الابن من أمه وسرى إلى نصيب الزوج ويقوم عليه وعتق الحمل عليهما معا لأنه ابن الزوج وأخو الابن ولا يجب أحدهما على الآخر شيء منه لأنه عتق عليهما في حال واحدة ولو كانت المسألة بحالها فوهبت لهما أوصي لهما بها فقبلاها في حالة واحدة فكذلك وإن قبلها أحدهما قبل الآخر نظرنا فإن قبل الابن أولا عتقت عليه الأم وحملها حصته من الأم بالملك وتبعها حصته من الحمل وسرى العتق إلى الباقي من الأم والولد وعليه قيمة باقيهما للزوج وإن قبل الزوج أولا عتق عليه الحمل كله نصيبه بالملك وباقيه بالسراية وقوم عليه ثم إذا قبل الابن عتقت عليه الأم كلها و يتقاصان ويرد كل واحد منهما الفضل على صاحبه ومن قال في الوصية إن الملك لا يثبت فيها بالموت فالحكم فيه كما لو قبلاها دفعة واحدة

حكم ما لو كان لرجل نصف عبدين تساوين في لقيمة فأعتق أحدهما
فصل : وإذا كان لرجل نصف عبدين متساويين في القيمة لا يملك غيرهما فأعتق أحدهما في صحته عتق وسرى إلى نصيب شريكه لأنه موسر بالنصف الذي له من العبد الآخر فإن أعتق النصف الآخر من العبد الآخر عتق لأنه وجوب القيمة في ذمته لا يمنع صحة عتقه ولو يسر لأنه معسر وإن أعتق الأول في مرض موته لم يسر لأنه إنما ينفذ عتقه في ثلث ماله وثلث ماله هو الثلث من العبد الذي أعتق نصفه فإذا أعتق الثاني وقف على إجازة الورثة وإن أعتق الأول في صحته وأعتق الثاني في مرضه لم ينفذ عتق الثاني لأن عليه دينا يستغرق قيمته فيمنع صحة عتقه إلا أن يجيز الورثة

حكم ما لو شهد الشاهدين على رجل أنه اعتق شركا له في عبد
فصل : إذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق شركا له في عبد فسرى إلى نصيب الشريك وغرم له قيمة نصيبه ثم رجعا عن الشهادة غرما قيمة العبد جميعه
وقال بعض أصحاب الشافعي : تلزمهما غرامة نصيبه دون نصيب شريكه لأنهما لم يشهدا إلا بعتق نصيبه فلم تلزمهما غرامة ما سواه
ولنا أنهما فوتا نصيبه وقيمة نصيب شريكه فلزمهما ضمانه كما لو فوتاه بفعلهما وكما لو شهدا عليه بجرح ثم سرى الجرح ومات المجروح فضمن الدية ثم رجعا عن شهادتهما

حكم ما لو شهد شاهدان على ميت بعتق عبد
فصل : وإن شهد شاهدان على ميت بعتق عبد في مرض موته وهو ثلث ماله فحكم حاكم بشهادتهما وعتق العبد ثم شهد آخران بعتق آخر وهو ثلث ماله ثم رجع الأولان عن الشهادة نظرنا في تاريخ شهادتهما فإن كانت سابقة ولم تكذب الورثة رجوعهما عتق الأول ولم يقبل رجوعهما ولم يغرما شيئا ويحتمل أن يلزمهما شراء الثاني وإعتاقه لأنهما منعا عتقه بشهادتهما المرجوع عنها وإن صدقوهما في رجوعهما وكذبوهما في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا عليهما بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه عليهم بشهادتهم المرجوع عنها وإن كان تاريخها متأخرا عن الشهادة الأخرى بطل عتق المحكوم له بعتقه لأننا تبينا أن الميت قد أعتق ثلث ماله قبل إعتاقه ولم يغرم الشاهدان شيئا لأنهما ما فوتا شيئا وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما أو اتفق تاريخهما أقرع بينهما فإن خرجت على الثاني عتق وبطل عتق الأول ولا شيء على الشاهدين لأن الأول باق على الرق وإن خرجت قرعة الأول عتق نظرنا في الورثة فإن كذبوا الشاهدين الأولين في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا على الشاهدين بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه بغير حق فإن كذبوهما في رجوعهما لم يرجعوا عليهما بشيء لأنهم يقرون بعتق المحكوم بعتقه

حكم ما لو كان ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته
مسألة : قال : وإذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته أو دبرهم أو دبر أحدهم وأوصى بعتق الآخرين ولم يخرج من ثلثه إلا واحد لتساوي قيمتهم أقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق فمن وقع له سهم الحرية عتق دون صاحبيه
وجملة ذلك أن العتق في مرض الموت والتدبير بالعتق يعتبر خروجه من الثلث لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يجز من عتق الذي أعتق ستة مملوكين في مرضه إلا ثلثهم ولأنه تبرع بمال أشبه الهبة فإن أعتق أكثر من الثلث لم يجز إلا الثلث فإن أعتق عبيدا في مرضه واحدا بعد واحد بدئ بالأول فالأول حتى يستوفي الثلث وإن وقع العتق دفعة واحدة لم يخرجوا من الثلث أقرع بينهما فأخرج الثلث بالقرعة ومسألة الخرقي فيما إذا وقع العتق دفعة واحدة ولم يكن له ماله سواهم
وأما إن دبرهم استوى المقدم والمؤخر لأن التدبير عتق معلق بشرط وهو الموت والشرط إذا وجد ثبت المشروط به في وقت واحد وكذلك الوصي بعتقه يستوي وهو والتدبير لأن الجميع عتق بعد الموت فمتى أعتق ثلاثة أعبد متساوين في القيمة هم جميع ماله دفعة واحدة أو دبرهم أو وصى بعتقهم أو دبر بعضهم بعتق باقيهم ولم يجز الورثة أكثر من الثلث أقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق فمن خرج له سهم الحرية عتق ورق صاحباه وبهذا قال عمر بن عبد العزيز وابان بن عثمان ومالك مالك و إسحاق و داود و ابن جرير
وقال أبو حنيفة : يعتق منكل واحد ثلثه ويستسعى في باقيه وروى نحو هذا عن سعيد بن مسيب وشريح و النخعي و قتادة و حماد لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون في الاستحقاق كما كان يملك ثلثهم وحده وهو ثلث ماله أو كما له أوصى بكل واحد منهم لرجل وأنكر أصحاب أبي حنيفة القرعة وقالوا : هي القمار وحكم الجاهلية ولعلهم يردون الخبر الوارد في هذه المسألة لمخالفته قياس الأصول وذكر الحديث لحماد فقال : هذا قول الشيخ - يعني إبليس - فقال له يا محمد بن ذكوان : وضع القلم عن ثلاثة أحدهم المجنون حتى يفيق - يعني أنه مجنون - فقال له حماد ما دعاك إلى هذا ؟ فقال محمد : أنت فما دعاك إلى هذا ؟ وهذا قليل في جواب حماد وكان حريا أن يستتاب عن هذا فإن تاب وإلا ضربت عنقه
ولنا ما روى عمران بن الحصين [ أن رجلا من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لا مال غيرهم فجزاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ستة فأعتق اثنين وأرق أربعة ] وهذا نص في محل النزاع وحجة لنا في الأمرين المختلف فيهما وهما جمع الحرية واستعمال القرعة وهو حديث صحيح ثابت رواه مسلم و أبو داود وسائر أصحاب السنن ورواه عن عمران بن الحصين الحسن وابن سيرين وأبو المهلب ثلاثة أئمة ورواه الإمام أحمد عن إسحاق بن عيس عن هشيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي زيد الأنصاري عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال أحمد : أبو زيد الأنصاري رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وروي نحوه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه حق في تفريقه ضرر فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار إذا طلبها أحدج الشريكين ونظيره من القسمة ما لو كانت دار بيت أثنين لأحدهما ثلثها وللآخر ثلثها وفيها ثلاثة مساكن متساوية لا ضرر في قسمتها فطلب أحدهما القسيمة فإنه يجعل كل بيت سهما ويقرع بينهم بثلاثة أسهم لصاحب الثلث سهم وللآخر سهمان
وقولهم إن الخبر قياس الأصول نمنع ذلك بل هو موافق له لما ذكرناه وقياسهم فاسد لأنه إذا كان ملكه ثلثهم وحده لم يمكن جمع نصيبه والوصية لا ضرر في تفريقها بخلاف مسألتنا وإن سلمنا مخالفته قياس الأصول فقول رسول الله صلى الله عليه و سلم واجب الإتباع سواء وافق القياس أو خالفه لأنه قول المعصوم الذي جعل الله تعالى قوله حجة على الخلق أجمعين وأمرنا بإتباعه وطاعته وحذر العقاب في مخالفة أمره وجعل الفوز في طاعته والضلال في معصيته وتطرق الخطأ إلى القائس أغلب من تطرقه الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والأئمة بعدهم في روايتهم على أنهم قد خالفوا قياس الأصول بأحاديث ضعيفة فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ونقضوا الوضوء بالقهقهة في الصلاة دون خارجها وقولهم في مسألتنا في مخالفة القياس والأصول أشد وأعظم والضرر في مذهبهم أعظم وذلك لأن الإجماع منعقد على أن صاحب الثلث في الوصية وما في معناها لا يحصل له شيء حتى يحصل للورثة مثلاه وفي مسألتنا يعتقون الثلث ويستسعون العبد في الثلثين فلا يحصل للورثة شيء في الحال أصلا وربما لا يحصل منها في الشهر إلا الدرهم أو درهمان فيكون هذا في حكم من لم يحصل له شيء وفيه ضرر على العبيد لأنهم يجيزونهم على الكسب والسعاية عن غير اختيار منهم وربما كان المجبر على ذلك جارية فيحملها ذلك البغاء أو عبيدا فيسرق أو يقطع للطريق وفيه ضرر على الميت حيث أفضوا بوصيته إلى الظلم والإضرار وتحقيق ما يوجب له العقاب من ربه والدعاء عليه من عبيد وورثته وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي ذكرنا في حق الذي فعل قال [ لو شهدته لم يدفن في مقابر المسلمين ] قال ابن عبد البر في قول الكوفيين ضروب من الخطأ والاضطراب مع المخالفة قال الله تعالى { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مري } وقال تعالى { فساهم فكان من المدحضين } وأما السنة فقال أحمد : وفي لقرعة خمس سنن أقرع بين نسائه و [ أقرع في ستة مملوكين وقال لرجلين استهما ] وقال : [ مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ] وقال : [ لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لا ستهموا عليه ] وفى الحديث الزبير أن صفيه جاءت بثوبين ليكفن فيهما حمزة رضي الله عنه فوجدنا إلى جنبه قتيلا فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر فأقرعنا عليهما ثم كفنا كل واحد في الثوب الذي صار له وتشاج الناس يوم القادسيه في الأذان فأقرع بينهم سعد وأجمع العلماء على استعمالها في القسمة ولا أعلم بينهم خلافا في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر بأحدهن وإذا أراد البداية بالقسمة بينهن وبين الأولياء إذا تساووا وتشاحوا يتولى التزويج أو من يتولى استيفاء القصاص وأشباه هذا

كيفية القرعة والعتق
في كيفية القرعة قال أحمد : قال سعيد بن جبير : يقرع بينهما بالخواتيم أقرع بين اثنين في ثوب فأخرج خاتم هذا وخاتم هذا ثم قال يخرجون بالخواتيم ثم تدفع إلى رجل فيخرج منها واحدا وقال أحمد : بأي شيء خرجت ما يتفقان عليه وقع الحكم به سواء كان رقاعا أو خواتيم قال أصحابنا المتأخرين : الأولى أن يقطع رقاعا صغارا متساوية ثم تلقى في حجر رجل لم يحضر أو يعطى عليها بثوب ثم يقال له : أدخل فأخرج ببندقية فينفضها ويعلم ما فيها وهذا قول الشافعي وفي كيفية القرعة ست مسائل
المسألة الأولى : أن يعتق عددا من العبيد لهم ثلث صحيح كثلاثة أو ستة أو تسعة قيمتهم متساوين ولا مال له غيرهم فيخرجون ثلاثة أجزاء جزءا للحرية وجزأين للرق وتكتب ثلاث رقاع في واحدة حرية وفي اثنين رق ويترك في ثلاثة بنادق وتغطى بثوب ويقال لرجل لم يحضر أخرج على أسم هذا الجزء فإن خرجت قرعة الحرية عتق ورق الجزءان الآخران وإن خرجت قرعة رق وأخرجت أخرى على جزء أخر فإن خرجت قرعة الرق رق وعتق الجزء الثالث لأن الحرية تعينت فيهم وإن شئت كتبت اسم الجزء في رقعة ثم أخرجت رقعة على الحرية فإذا خرجت رقعة على الحرية عتق المسمون فيها رق والباقون وإن خرجت رقعة ثم أخرجت على الرق رق المسمون فيها ثم تخرج أخرى على الرق فيرق المسمون فيها ويعتق الجزء الثلث وإن خرجت الثانية على الحرية عتق المسمون فيها دون الثالث
المسألة الثانية : إن تمكن قسمتهم وقيمتهم مختلفة يمكن تعديلهم بالقيمة كستة قيمة اثنين منهم ثلاثة آلاف وقيمة اثنين ألفا وقيمة اثنين ألف ألف فيجعل الاثنين الأوسطيين جزءا ويجعل اثنين قيمة أحدهما ثلاثة آلاف مع قيمة ألف جزءا والآخران جزءا فيكونون ثلاثة أجزاء متساوية في العدد والقيمة على ما قدمنا في المسألة الأولى قيل لأحمد لم يستووا في القيمة ؟ قال يقومون بالثمن
المسألة الثالثة : يكونون متساوين في العدد مختلفين في القيمة ولا يمكن الجمع بين تعديلهم بالعدد والقيمة معا ة ولكن يمكن تعديلهم بكل واحد منهما منفردا كستة أعبد قيمة أحدهم ألف وقيمة الثاني ألف وقيمة الثالث ألف فإنهم يعدلون بالقيمة دون العدد نص عليه أحمد وقال : إذا كانت قيمة واحد مثل اثنين قوم لأنه لا يجوز أن يقع العتق في أكثر من الثلث ولا أقل وفي قسمتهم بالعدد تكرار القرعة وتبعيض العتق حتى الثلث فكان التعديل بالقيمة أولى بيان ذلك أننا لو جعلنا الذي قيمته ألف آخر فخرجت قرعة الحرية لهما احتجا أن نعيد القرعة بينهما فإذا خرجت على القليل القيمة عتق وأعتق من الذي قيمته ألف تمام الثلث
وإن وقعت قرعة الحرية على لثنين قيمتهما دون الثلث عتقا ثم أعيدت لتكميل الثلث فإذا وقعت على واحد كملت الحرية منه فحصل ما ذكرناه من التبعيض والتكرار ولأن قسمتهم بين المشتركين فيهم إنما يعدلون فيها بالقيمة دون الأجزاء فعلى هذا يجعل الذي قيمته ألف جزءا والاثنين اللذين قيمتهما ألف جزءا والثلاثة الباقين جزءا ثم يقرع بينهم على ما ذكرنا
المسألة الرابعة : أمكن تعديلهم بالقيمة دون العدد كسبعة قيمة أحدهم ألف وقيمة اثنين ألف وقيمة أربعة ألف فيعدلون بالقيمة دون العدد كما ذكرنا
المسألة الخامسة : أمكن تعديلهم بالعدد دون القيمة كستة أعبد قيمة اثنين ألف وقيمة اثنين سبعمائة وقيمة اثنين خمسمائة فهل هنا نجزئهم بالعدد لتعذر تجزئهم بالقيمة فيجعل كمل اثنين جزءا ويضم كل واحد ممن قيمتهم قليلة إلى الحد ممن قيمتهما كثيرة ويجعل المتوسطين جزءا ويقرع بينهم فإن وقعت قرعة الحرية على جزء قيمته أكثر من الثلث أعيدت القرعة بينهما فيعتق من تقع له قرعة الحرية ثم يكمل الثلث من الباقين بالقرعة
المسألة السادسة : لم يمكن تعديلهم بالعدد ولا بالقيمة كخمسة أعبد قيمة أحدهم ألف واثنان ألف واثنان ثلاثة آلاف احتمل أن يجزئهم ثلاثة أجزاء فيجعل أحدهم أكثر قيمة جزءا ويضم إلى الثاني كثير القيمة أقل من الباقين قيمة ويجعلهما جزءا ويقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق لأن هذا اقرب إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ويعدل الثلث بالقيمة على ما تقدم واحتمل أن لا يجزئهم بل تخرج القرعة على واحد واحد حتى يستوفي الثلث فيكتب خمس رقع بأسمائهم ثم يخرج رقعة على الحرية فمن خرج اسمه فيها عتق ثم يخرج الثانية فمن خرج اسمه فيه اعتق منه تمام الثلث وإن كانوا ثمانية قيمتهم سواء ففيهم ثلاثة أوجه أحدهما : أن يكتب ثمانية رقاع بأسمائهم ثم يخرج على الحرية رقعة بعد أخرى حتى يستوفى الثلث والثاني أن يجزئهم أربعة أجزاء ثم يقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق قمن خرج له بسهم الحرية عتق ثم يقرع بين الستة بسهم حرية وسهمي رق فمن خرج له سهم الحرية أعيدت بينهما فمن خرج له سهم الحرية أعيدت بينهما فمن خرج له سهم الحرية كمل الثلث منه والثالث : أن يجزئهم ثلاثة أجزاء وثلاثة وثلاثة اثنان ويقرع بينهما بسهم حرية وسهمي رق فإن خرج سهم الحرية للاثنين عتقا وكمل الثلث بالقرعة من الباقين وإن خرجت لثلاثة أقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق وذكر هذين الوجهين الآخرين أبو الخطاب وروي عن أحمد خمسة أو أربعة يجعل أكثرهم قيمة مكان اثنين إن كانا قيمة وإلا أقرع بين ثلاثة قيمتهم واحدة ثم يقرع بين الذي بقي والذي تصيبه القرعة ينظر ما بقي من قيمته الثلث فيعتق حصته فإن كان جميع ماله عبدين أقرعنا بينهما بسهم رق على كل حال

إذا كان لمعتق مال غير العبد
فصل : وإن كان للمعتق مال غير العبد مثلا قيمة العبيد أو أكثر عتق العبيد كلهم لخروجهم من الثلث وإن كان أقل من مثليهم عتق من العبيد قدر ثلث المال كله فإذا كان العبيد كلهم نصف المال عتق ثلثاهم وإن كانا ثلثي المال عتق نصفهم وإن كانوا ثلاثة أرباعه عتق أربعة أتساعهم وطريقة أن تضرب قيمة العبد في ثلاثة ثم تنسب إليه مبلغ التركة فما خرج بالنسبة عتق من العبيد مثلها فإذا كان قيمة العبد ألفا وباقي التركة ألف ضربت قيمة العبد في ثلاثة تكن ثلاثة آلاف ثم تنسب إليها الألفين تكن ثلثها فيعتق ثلثاهم وإن كان قيمة العبد ثلاثة آلاف وباقي التركة ألف ضربت قيمتهم في ثلاثة تكن تسعة آلاف تنسب إليها التركة كلها تكن أربعة أتساعها وإن كان قيمتهم أربعة آلاف وباقي التركة ألف ضربت قيمتهم في ثلاثة تكن اثني عشر ألفا ونسبت إليها خمسة آلاف تكن ربعها وسدسها فيعتق من العبيد ربعهم وسدسهم

إذا كان على الميت دين يحيط بالتركة
فصل : وإن كان على الميت دين يحيط بالتركة لم يعتق منهم شيء وإن كان يحيط ببعضها قدم الدين لأن العتق وصية وقد قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الدين قبل الوصية ولأن قضاء الدين واجب وهذا تبرع وتقديم الواجب متعين وإن كان الدين بقدر نصف العبيد جعلوا جزأين وكتبت رقعتان رقعة للدين ورقعة للتركة وتخرج واحدة منهما على أحد الجزأين فمن خرجت عليه رقعة الدين بيع فيه وكان الباقي من جميع التركة يعتق ثلثهم بالقرعة على ما تقدم وإن كان الدين بقدر ثلثهم كتبت ثلاث رقاع رقعة للدين واثنتان للتركة وإن كان بقدر ربعهم كتب أربع رقاع رقعة للدين وثلاثة للتركة ثم يقرع بين من خرجت له رقاع التركة وإن كتب رقعة للدين ورقعة للحرية ورقعتان للتركة جاز وقيل لا يجوز لئلا تخرج رقعة الحرية قبل قضاء الدين والأول أصح لأنه إنما يمنع من العتق قبل قضاء الدين إذا لم يكن له وفاء فأما إذا كان له وفاء لم يمنع منه بدليل ما لو كان العتق في أقل من ثلث الباقي بعد وفاء الدين فإنه لا يمنع من العتق قبل وفائه

حكم ما لو أعتق في مرض موته ثلاثة لا يملك غيرهم أو دبر الثلاثة
فصل : وإذا أعتق في مرض موته ثلاثة لا يملك غيرهم أو واحدا منهم غير معين فمات أحدهم أقرعنا بين الميت والأحياء فإن وقعت على الميت حسبناه من التركة وقومناه حين الإعتاق سواء مات في حياة سيده أو بعده قبل القرعة وبهذا قال الشافعي وقال مالك : إن مات قبل موت سيده أقرعنا بين الحيين لأنهما جميع التركة ولهذا لا يعتق إلا ثلثهما ولا يعتبر الميت لأنه ليس بمحسوب من التركة ولأنه لو اعتق الحيين بعد موته لأعتقنا ثلثهما
ولنا أن الميت أحد المعتقين فوجب أن يقرع بينه وبينهم كما لو مات بعد سيده ولأن المقصود تكميل الأحكام وحصول ثواب العتق ويحصل هذا في الميت فوجب أن يدخل في القرعة كما لو مات بعد سيده فأما إن وقعت القرعة على الحي نظرنا في الحي فإن كان الميت مات قبل موت السيد أو بعده قبل قبض الوارث له لم نحسبه من التركة لأنه لم يصل إلى الوارث فتكون التركة الحيين فيخرج ثلثهما ممن وقعت عليه القرعة وتعتبر قيمته حين الإعتاق لأنه حين إتلافه وتعتبر قيمة التركة بأقل الأمرين من حين الموت إلى حين قبض الوارث لأن الزيادة فائدة تجددت على ملك الوارث فلا تحسب عليه من التركة والنقصان قبل القبض لم يحصل له ولم ينتفع به فأشبه الشارد والآبق وإنما يحسب عليه ما حصل في يده ولا يحسب الميت من التركة لأنه ما وصل إلى الورثة فيكمل ثلث الحيين ممن وقعت عليه القرعة وإن كان موته بعد قبض الورثة حسب من التركة لأنه وصل إليهم وجعلناه كالحي في تقويمه معهم والحكم بإعتاقه إن وقعت عليه القرعة أو من الثلثين إن وقعت القرعة على غيره وتحسب قيمته أقل الأمرين من حين موت سيده إلى حين قبضه ونحو هذا قال الشافعي
فصل : وإن دبر الثلاثة أو وصى بعتقهم فمات أحدهم في حياته بطل تدبيره والوصية فيه وأقرع بين الحيين فأعتق من أحدهما ثلثهما لأن الميت لا يمكن الحكم بوقوع العتق فيه لكونه مات قبل الوقت الذي يعتق فيه وقبل أن يتحقق شرط العتق بخلاف التي قبلها فإن العتق حصل من حين الإعتاق وإنما القرعة تنبيه وتكشفه ولهذا يحكم بعتقه من حين الإعتاق حتى يكون كسبه له وحكمه حكم الأحرار في سائر أحواله وإن مات المدبر بعد موت سيده أقرع بينه وبين الأحياء لأنه قد حصل العتق من حين موت السيد

حكم ما لو قال في مرض موته أحدكم حرا وكلكم حر
مسألة قال : ولو قال لهم في مرض موته أحدكم حرا أو كلكم حر ومات فكذلك
أما إذا قال لهم كلكم حر فهي المسألة التي تقدمت وشرحناها وأما إذا قال أحدكم حر فإنه يقرع بينهم فيخرج أحدهم بالقرعة فيعتق ويرق الباقون وسواء كان للميت مال سواهم أو لم يكن إذا كان يخرج من الثلث وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث ولو كان المعتق حيا ولم ينو واحد بعينه لم يكن له التعيين وأعتق أحدهم بالقرعة وإن قال : أردت واحدا منهم بعينه قبل منه وتعينت الحرية فيه وقال أبو حنيفة و الشافعي : له تعيين أحدهم فيعتق من عينه وإن لم يكن نواه حالة القول ويطالب المعتق بالتعيين فإذا عين أحدهم تعين حسب اختياره ولم يكن لسائر العبيد الاعتراض عليه لان تعيين العتق ابتداء فإذا أوقعه غير معين كان له تعيينه كالطلاق
ولنا أن مستحق العتق غير معين يملك تعيينه كما لو أعتق الجميع في مرضه ولم يخرجوا من الثلث وكما لو أعتق معينا ثم نسيه والطلاق كمسألتنا فأما إن مات المعتق ولم يعين فالحكم عندنا لا يختلف وليس للورثة التعيين بل يخرج المعتق بالقرعة وقد نص الشافعي على هذا إذا قالوا لا ندري أيهم أعتق وقال أبو حنيفة : لهم التعيين لأنهم يقيمون مقام موروثوهم وقد سبق الكلام في المعتق

حكم ما لو اعتق إمائه ثم وطئ إحداهن
فصل : ولو أعتق إحدى إمائه ثم وطئ إحداهن لم يتعين الرق فيها وبهذا قال أبو حنيفة و قال الشافعي يتعين الرق فيها لأن الحرية عنده تتعين بتعيينه ووطؤه دليل عل تعيينه وقد سبق الكلام على هذا الأصل ولأن المعتقة واحدة فلم تتعين بالوطء كما لو أعتق واحدة ثم نسيها

إذا أعتق واحدا في عينه ثم نسبه
فصل : وإذا أعتق واحد بعينه ونسيه فقياس قول أحمد أن يعتق أحدهم بالقرعة وهذا قول الليث وقال الشافعي يقف الأمر حتى يذكر فإن مات قبل أن يتبين أقرع الورثة بينهم وقال ابن وهب يعتقون كلهم
وقال مالك إن أعتق عبدا له ومات ولم يبين فكانوا ثلاثة عتق منهم بقدر ثلثهم وإن كانوا أربعة عتق منهم بقدر ربع قيمتهم وعلى هذا فيقرع بينهم فإن خرجت القرعة على من قيمته اقل من الربع أعيدت القرعة حتى تكمل
وقال أصحاب الرأي إن قال الشهود : نشهد أن فلانا أعتق أحد عبيده ولم يسم عتق ثلث كل واحد منهم وسعى في باقيه أو ربع كل واحد منهم إن كانوا أربعة وإن قالوا نشهد أن فلانا أعتق بعض عبيده ونسيناه فشهادتهم باطلة ونحو هذا قول الشعبي و الأوزاعي ولم يذكروا ما ذكره أصحاب الرأي في الشهادة
ولنا أن مستحق العتق غير معين فأشبه ما لو عتق جميعهم في مرض موته فإن أقرع بينهم فخرجت القرعة لواحد ثم قال المعتق ذكرت أن المعتق غيره ففيه وجهان :
أحدهما : يرد الأول إلى الرق ويعتق الذي عينه لأنه تبين له المعتق فعتق دون غيره كما لو لم يقرع
والثاني : يعتقان معا وهو قول الليث ومقتضى قول ابن حامد لأن الأول ثبتت الحرية فيه بالقرعة فلا تزول كسائر الأحرار ولأن قول المعتق ذكرت من كنت نسيته يتضمن إقرار عليه بحرية من ذكره وإقرارا على غيره فقبل إقراره على نفسه ولم يقبل على غيره وأما إذا لم يقرع فإنه يقبل قوله فيعتق من عينه ويرق غيره فإذا قال : أعتقت هذا عتق ورق الباقون وإن قال : أعتقت هذا لا بل هذا عتقا جميعا لأنه أقر بعتق الأول فلزمهثم أقر بعتق الثاني فلزمه ولم يقبل رجوعه عن إقراره الأول فكذلك الحكم في إقرار الوارث

إذا ملك نصف عبد فدبره أو أعتقه في مرض موته وأحكام في العتق والتدبير
مسألة : قال وإذا ملك نصف عبد فدبره أو أعتقه في مرض موته فعتق بموته وكان ثلث ماله يفي بقيمة النصف الذي لشريكه أعطي وكان كله حرا في إحدى الروايتين والأخرى لا يعتق إلا حصته وإن حمل ثلث ماله قيمة حصة شريكه
وجملته أنه إذا ملك شقصا من عبد في مرض موته أو دبره أو وصى بعتقه ثم مات ولم يف ثلث ماله بقيمة نصيب الشريك لم يعتق إلا نصيبه بلا خلاف نعلمه بين أهل العلم إلا قولا شاذا أو قول من يرى السعاية وذلك أنه ليس من ماله إلا الثلث الذي استغرقته قيمة الشقص فيبقى معسرا بمنزلة من أعتق في صحته شقصا وهو معسرا فإما إن كان ثلث ماله يفي بقيمة حصة شريكه ففيه روايتان :
إحداهما : يسري إلى نصيب الشريك فيعتق العبد جميعه ويعطى الشريك قيمة نصيبه من ثلثه لأن ثلث المال للمعتق والملك فيه تام وله التصرف فيه بالتبرع والإعتاق وغيره فجرى مجرى مال الصحيح فيسري عتقه كسراية عتق الصحيح الموسر والرواية الثانية لا يعتق إلا حصته لأنه بموته يزول ملكه إلى ورثته فلا يبقى شيء يقضى منه الشريك وبهذا قال الأوزاعي لأن الميت لا يضار
وقال القاضي ما أعتقه في مرض موته سرى وما دبره أو وصى بعتقه لم يسر وقال : الرواية في سراية العتق حال الحياة أصح والرواية في وقوفه في التدبير أصح وهذا مذهب الشافعي لأن العتق في الحياة ينفذ في حال ملك العتق وصحة تصرفه وتصرفه في ثلثه كتصرف الصحيح في جميع ماله وأما التدبير والوصية فإنما يحصل العتق به في حال يزول ملك المعتق وتصرفاته والله أعلم
مسألة : قال : وكذلك الحكم إذا دبر بعضه وهو مالك لكله
وجملته أنه إذ دبر بعض عبده وهو أن يقول : إذا مت فنصف عبدي حر ثم مات فإن كان النصف المدبر ثلث ماله من غير زيادة عتق ولم يسر لأنه لو دبره كله لم يعتق منه إلا ثلثه فإذا لم يدبر إلا ثلثه كان أولى وإن كن العبد كله يخرج من الثلث ففي تكميل الحرية روايتان : أحدهما : تكمل وهو قول أكثر الفقهاء لأن أبا حنيفة وأصحابه يرون التدبير كالإعتاق في السراية وهو أحد قولي الشافعي لأنه إعتاق لبعض عبده فعتق جميعه كما لو أعتقه في حياته والرواية الثانية : لا يكمل العتق فيه لأنه لا يمنع جواز البيع فلا يسري كتعليقه بالصفة
فصل : فأما إن عتق بعض عبده في مرضه فهو كعتق جميعه إن يخرج من الثلث عتق جميعه وإلا عتق منه بقدر الثلث لأن الإعتاق في المرض كالإعتاق في الصحة إلا في اعتباره من الثلث وتصرف المريض في ثلثه في حق أجنبي كتصرف الصحيح في جميع ماله كما لو أعتق شركا له في عبد وثلثه يحتمل جميعه وعنه لا يعتق منه إلا ما عتق
فصل : وإذا دبر أحد الشريكين حصته صح ولو يلزمه في الحال لشريكه شيء وهذا قول الشافعي فإذا مات عتق الجزء الذي دبره إذا خرج من ثلث ماله وفي سرايته إلى نصيب الشريك ما ذكرنا في المسألة وقبلها وقال مالك : إذا دبر نصيبه تقاوماه فإن للمدبر صار مدبرا كله وإن صار للآخر صار رقيقا كله
وقال الليث : يغرم المدبر لشريكه قيمة نصيبه ويصير العبد كله مدبرا فإن لم يكن له مال سعى العبد في قيمة نصيب الشريك فإذا أداها صار مدبرا كله وقال أبو يوسف و محمد : يضمن المدبر للشريك قيمة حقه موسرا أو معسرا ويصير المدبر له
وقال أبو حنيفة : الشريك بالخيار إن شاء الله دبر وإن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد وإن شاء ضمن صاحبه إن كان موسرا ولنا أنه تعليق للعتق على صفة فصح في نصيبه كما لو علق بموت شريكه

حكم ما لو اعتقهم وثلثه يحتملهم ثم ظهر عليه الدين
مسألة : قال : ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم فأعتقناهم ثم ظهر عليه دين يستغرقهم بعناهم في دينه
وجملته أن المريض إذا أعتق عبيده في المرض أو دبرهم أو وصى بعتقهم ومات ثم ظهر عليه دين وهم يخرجون من ثلثه في الظاهر فأعتقهم ثم ظهر عليه دين يستغرق التركة تبينا بطلان عتقهم وبقاء رقهم فيباعون في الدين ويكون عتقهم وصية والدين مقدم على الوصية ولهذا قال علي رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن الدين قبل الوصية ولأن الدين مقدم على الميراث بالاتفاق لهذا تباع التركة في قضاء الدين وقد قال الله تعالى { من بعد وصية يوصي بها أو دين } والميراث مقدم على الوصية في الثلثين فما تقدم على الميراث يجب أن يقدم على الوصية وبهذا قال الشافعي ورد ابن أبي ليلى عبدا أعتقه سيده عند الموت وعليه دين قال أحمد : أحسن ابن أبي ليلى
وذكر أبو الخطاب عن أحمد رواية في الذي يعتق عبده في مرضه وعليه دين أنه يعتق منه بقدر الثلث ويرد الباقي وقال قتادة و أبو حنيفة و إسحاق يسعى العبد في قيمته
ولنا أنه تبرع في مرض موته بما يعتبر خروجه من الثلث فقدم عليه الدين كالهبة ولأنه يعتبر من الثلث فقدم عليه الدين كالوصية وخفاء الدين لا يمنع ثبوت حكمه ولهذا يملك الغريم استيفاء فعلى هذا تبين أنه أعتقهم وقد استحقهم الغريم بدينه فلم ينفذ عتقه كما لو أعتق ملك غيره فإن قال الورثة : نحن نقص الدين وتمضي العتق ففيه وجهان
أحدهما : لا ينفذ حتى يبتدئوا العتق لأن الدين كان مانعا منه فيكون باطلا ولا يصح بزوال المانع بعده والثاني : ينفذ العتق لأن المانع منه إنما هو الدين فإذا سقط وجب نفوذه كما لو أسقط الورثة حقوقهم من ثلثي التركة نفذ العتق في الجميع ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وقالوا إن أصل الوجهين إذا تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره وعلى الميت دين وقضي الدين هل ينفذ ؟ فيه وجهان

حكم ما لو اعتق المريض ثلاثة أعبد ولا مال له غيرهم
فصل : فإن أعتق المريض ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع الورثة فأعتقوا واحدا وأرقوا اثنين ثم ظهر عليه دين يستغرق نصفهم ففيه وجهان : أحدهما : تبطل القرعة لأن الدين شريك في الإقراع فإذا حصلت القسمة مع عدمه كانت باطلة كما لو قسم شريكان دون شريكهما الثالث
الثاني : يصح الإقراع لأنه لا يمكن إمضاء القسمة وإفراد حصة الدين من كل واحد من النصيبين لأن القرعة دخلت لأجل العتق دون الدين فيقال للورثة اقضوا ثلثي الدين وهو بقدر قيمة نصف العبدين اللذين بقيا إما من العبيد وإما من غيرهم ويجب رد نصف العبد الذي عتق فإذا كان الذي أعتق عبدين أقرعنا بينهما فإذا خرجت القرعة على أحدهما فكان بقدر سدس التركة عتق وبيع الآخر في الدين وإن كان أكثر عتق منه بقدر السدس وإن كان أقل عتق وعتق من الآخر تمام السدس
مسألة : قال : ولو أعتقهم وهو ثلاثة فأعتقنا منهم واحدا لعجز ثلثه عن أكثر منه ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم
وجملته أنه إذا أعتق ثلاثة في مرضه لم يعرف له مال غيرهم أو دبرهم أو وصى بعتقهم لم يعتق منهم إلا ثلثهم ويرق الثلثان إذا لم يجز الورثة عتقهم فإذا فعلنا ذلك ظهر له مال بقدر مثليهم تبينا أنهم قد عتقوا من حين أعتقهم أو من حين موته إن كان دبرهم لأنه التدبير وتصرف المريض في الثلث ماله جائز نافذ وقد بان أنهم ثلث ماله وخفاء ذلك علينا لا يمنع كونه موجودا فلا يمنع كون العتق واقعا فعلى هذا يكون حكمهم حكم الأحرار من حين أعتقهم فيكون كسبهم لهم وإن كانوا قد تصرف فيهم ببيع أو هبة أو رهن أو تزويج بغير إذن كان ذلك باطلا وإن كانوا قد تصرفوا فحكم تصرفهم تصرف الأحرار فلو تزوج عبد منهم بغير إذن سيده كان نكاحه صحيحا والمهر عليه واجب وإن ظهر له مال بقدر قيمتهم عتق ثلثاهم لأنهما ثلث جميع المال فيقرع بين الاثنين اللذين أوقفناهما فيعتق أحدهما ويرق الآخر إن كانا متساويين في القيمة وإن ظهر له مال بقدر نصفهم وإن كان بقدر ثلثهم عتق أربعة أتساعهم وكلما ظهر له مال عتق من العبدين اللذين رقا بقدر ثلثه

حكم ما لو وصى بعتق بد له يخرج من ثلثه
فصل : وإذا وصى بعتق عبد له يخرج من ثلثه وجب على الوصي إعتاقه فإن أوصى بذلك ورثته لزمهم إعتاقه فإن امتنعوا أجبرهم السلطان فإن أصروا على الامتناع أعتقه السلطان أو من ينوب منابه كالحاكم لأن هذا حق الله تعالى وللعبد ومن وجب عليه ذلك ناب السلطان عنه أو نائبه كالزكاة والديون فإذا أعتقه الوارث أو السلطان عتق وما اكتسبه في حياة الموصي فهو للموصي يكون من جملة تركته إن بقي بعده لأنه كسب عبده القن وما كسبه بعد موته وقبل اعتاقه فهو للوارث قال القاضي : هو للعبد لأنه كسبه بعد استقرار سبب العتق فيه فكان له ككسب المكاتب قال بعض أصحاب الشافعي فيه قولان مبنيان على القولين في كسب العبد الموصي به قبل قبول الوصية
ولنا أنه عبد قن فكان كسبه للورثة كغير الموصي بعتقه كالمعلق عتقه بصفة وفارق المكاتب فإنه يملك كسبه قبل عتقه فكذلك بعده ويبطل ما ذكروه بأم الولد فإن عتقها قد استقر سببه في حياة سيدها وكسبها له والموصي به لا نسلمه وإن سلمناه فالفرق بينهما أن الموصى به قد تحقق فيه سبب الملك وإنما وقف على شرط هو القبول فإذا وجد الشرط استند الحكم إلى ابتداء السبب وفي الوصية بالعتق ما وجد السبب وإنما أوصى بإيجاده وهو العتق أن يعتق نفسه وإن مات العبد بعد تمام موت سيده وقبل إعتاقه فما كسبه للورثة على قولنا ولا أعلم قول من خالفنا فيه

حكم ما لو علق عتق عبده على شرط
فصل : فإن علق عتق عبده على شرط في صحته فوجد في مرضه اعتبر خروجه من الثلث قاله أبو بكر قال : وقد نص أحمد على مثل هذا في الطلاق وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يعتق من رأس المال وهو مذهب الشافعي لأنه لا يتهم فيه فأشبه العتق في صحته
ولنا أنه عتق في حال تعلق حق الورثة بثلثي ماله فاعتبر من الثلث كالمنجز وقولهم لا يتهم فيه قلنا وكذلك العتق المنجز لا يتهم فيه لأن الإنسان لايتهم بمحاباة غير الوارث وتقديمه على وارثه وإنما منع منه لما فيه من الضرر بالورثة وهذا حاصل ههنا ولو قال : إذا قدم زيد وأنا مريض فأنت حر فقدم وهو مريض كان معتبرا من الثلث وجها واحدا

حكم ما لو عتق عبدا وللعبد مال
فصل : وإذا أعتق عبدا وله مال فماله لسيده وروى هذا عن ابن مسعود وأبي أيوب وأنس ابن مالك وبه قال قتادة و الحكم و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن حماد و البتي و داود ابن أبي هند و حميد وقال الحسن و عطاء و الشعبي و مالك وأهل المدينة يتبعه ماله لما روى عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد ] ورواه الإمام أحمد بإسناده وغيره وروى حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أعتق عبدا لم يعرض لماله
ولنا ما روى الأثرم بإسناده عن ابن مسعود أن قال لغلامه عمير : يا عمير إني أريد أعتقك عتقا هنيئا فأخبرني بمالك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره بماله فماله لسيده ] ولأن العبد وماله كانا جميعا للسيد فأزال ملكه عن أحدهما فبقي ملكه في الآخر كما لو باعه وقد دل على هذا حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] فأما حديث ابن عمر فقال أحمد : يرويه عبد الله بن أبي جعفر من أهل مصر وهو ضعيف في الحديث كان صاحب فقه فإما في الحديث فليس هو فيه بالقوي وقال أبو الوليد هذا حديث خطأ فأما فعل ابن عمر فأنه تفضل منه على معتقه قيل للإمام احمد كان هذا عندك على التفضل ؟ فقال أي لعمري على التفضل قيل له فكأنه عندك للسيد ؟ فقال نعم للسيد مثل البيع سواء

حكم ما لو قال للعبد أنت حر
مسألة : قال : وإذا قال لعبده أنت حر في وقت سماه لم يعتق حتى يأتي ذلك الوقت
وجملة ذلك أن السيد إذا علق عتق عبده أو أمته على مجيء وقت مثل قوله أنت حر في رأس الحول لم يعتق حتى يأتي رأس الحول وله بيعه وهبته وإجارته ووطء الأمة وبهذا قال الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر قال احمد : إذا قال لغلامه أنت حر إلى أن يقدم فلان ومجيء فلان واحد وإلى رأس السنة وإلى رأس الشهر إنما يريد إذا جاء رأس السنة أو جاء رأس الهلال منه وإذا قال أنت طالق إذا جاء الهلال إنما تطلق إذا جاء رأس الهلال وقال إسحاق كما قال أحمد وحكي عن مالك أنه إذا قال لعبده أنت حر في رأس الحول عتق في الحال والذي حكاه ابن المنذر عنه أنها إذا كانت جارية لم يطأها لأنه لا يملكها ملكا تاما ولا يهبها ولا يلحقها بسببه رق وإن مات السيد قبل الوقت كانت حره عند الوقت من رأس السنة وقد روي عن احمد أنه لا يطؤها لأن ملكه غير تام عليها والأول أصح لما روى عن أبي ذر قال لعبده : أنت عتيق إلى رأس الحول فلولا أن العتق يتعلق بالحول لم يعلقه عليه لعدم فائدته ولأنه علق العتق بصفة فوجب أن يتعلق بها كما لو قال : إذا أديت إلي ألفا فأنت حر واستحقاقها للعتق لا يمنع الوطء كالاستيلاد ولا يلزم المكاتبة لأنها اشترت نفسها من سيدها بعوض وزال ملكه عن إكسابها بخلاف مسألتنا
فصل : وإذا جاء الوقت وهو في ملكه عتق بغير خلاف نعلمه وإن خرج عن ملكه ببيع أو ميراث أو هبة لم يعتق وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال النخعي و ابن أبي ليلى : إذا قال لعبده : إن فعلت كذا فأنت حر فباعه بيعا صحيحا ثم فعل ذلك الفعل عتق وانتفض البيع قال ابن أبي ليلى : إذا حلف بالطلاق لا كلمت فلانا ثم طلاقها طلاقا بائنا ثم كلمه حنث وعامة أهل العلم على خلاف هذا القول لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا طلاق ولا عتاق ولا بيع فيما لا يملك ابن آدم ] ولأنه لا ملك له فلم يقع طلاقه ولا عتاقه كما لو لم يكن له مال متقدم
فصل وإذا قال لعبده : إن لم أضربك عشرة أسواط فأنت حر ولم ينو وقتا بعينه لم يعتق حتى يموت ولم يوجد الضرب وإن باعه قبل ذلك صح بيعه ولم ينفسخ في قوله أكثر أهل العلم وقال مالك ليس بيعه فإن باعه فسخ البيع
ولنا أنه باعه قبل وجود الشرط فصح ولم ينفسخ كما لو قال : إن دخلت فأنت حر وباعه قبل دخولها
فصل : وإذا قال لعبده : إن دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم اشتراه ودخل الدار عتق وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : فيها قولان :
أحدهما لا يعتق لأن ملكه فيه متأخر عن عقد الصفة فلم يقع العتق فيه كما لو عقد الصفة في حال زوال ملكه عنه
ولنا أنه علق الصفة في ملكه وتحقق الشرط في ملكه فوجب أن يحنث كما لو لم يزل ملكه عنه وفارق ما إذا علقها في حال زوال ملكه وتحقق الشرط في ملكه لأنه لو نجز العتق لم يقع فإذا علقه كان أولى بعدم الوقوع بخلاف مسألتنا فأما إن دخل الدار بعد بيعه ثم اشتراه ودخل الدار فالمنصوص عن أحمد أنه لا يعتق
وذكر عنه رواية أخرى أن يعتق وروي عنه في الطلاق أنه يقع لأن التعليق والشرط وجدا في ملكه فأشبه ما لو لم يتخللهما دخول و وجه الأول أن العتق معلق على شرط لا يقتضي التكرار فإذا وجد مرة انحلت اليمين وقد وجد الدخول في ملك غيره فانحلت اليمين فلم يقع العتق به بعد ذلك ويفارق العتاق الطلاق من حيث أن النكاح الثاني ينبني على النكاح الأول بدليل أن طلاقه في النكاح الأول يحسب عليه في النكاح الثاني وينقص به عدد طلاقه والملك باليمين بخلافه
فصل : وإذا قال لعبد له مقيد هو حر إن حل قيده ثم قال هو حر إن لم يكن في قيده عشرة أرطال فشهد شاهدان عند الحاكم أن وزن قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه وأمر بحل قيده فوزن فوجد وزنه عشرة أرطال عتق العبد بحل قيده وتبينا أنه عتق بشرط الذي حكم الحاكم بعتقه به وهو يلزم الشاهدان ضمان قيمته ؟ فيه وجهان : أحدهما : أنه يلزمهما ضمانها لأن شهادتهما الكاذبة سبب عتقه وإتلافه فضمناه كالشهادة المرجوع عنها ولأن عتقه حصل بحكم المبني على الشهادة الكاذبة فأشبه الحكم بالشهادة التي يرجعان عنها وهذا قول أبي حنيفة
والثاني : لا ضمان عليهما وهو قول أبي يوسف و محمد لأنه عتقه لم يحصل بالحكم المبني على شهادتهما وإنما حصل بحل قيده ولم يشهدا به فوجب أن لا يضمنا كما لو لم يحكم الحاكم
فصل : وإن قال لعبده أنت حر متى شئت لم يعتق حتى يشاء بالقول فمتى شاء عتق سواء كان على الفور أو التراخي وإن قال أنت حر إن شئت فكذلك ويحتمل أن يقف ذلك على المجلس لأن ذلك بمنزلة التخيير ولو قال لامرأته اختاري نفسك لم يكن لها الاختيار إلا على الفور فإن تراخى ذلك بطل خيارها كذا تعليقه بالمشيئة من غير أن يقرنه بزمن يدل على التراخي وإن قال : أنت حر كيف شئت احتمل أن يعتق في الحال وهو قول أبي حنيفة لأن كيف لا تقتضي شرطا ولا وقتا ولا مكانا فلا تقتضي توقيف العتق وإنما هي صفة للحال فتقتضي وقوع الحرية على أي حال شاء ويحتمل أن لا يعتق حتى يشاء وهو قول أبي يوسف و محمد لأن المشيئة تقتضي الخيار أن لا يعتق قبل اختياره كما لو قال أنت حر متى شئت لأن كيف تعطي ما تعطي وأي فحكمها حكمهما
وقد ذكر أبو الخطاب في أنه إذا قال لزوجته : أنت طالق متى شئت وحيث شئت لم تطلق حتى تشاء فيجيء ههنا مثله

أقسام تعليق العتق
فصل : وتعليق العتق على أداء شيء ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : تعليقه عل صفة محضة كقوله إن أديت إلى ألفا فأنت حر فهذه صفة لازمة لا سبيل إلى أبطالها لأنه ألزمها نفسه طوعا فلم يملك إبطالها كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت حر ولو اتفق السيد والعبد على إبطالها لم تبطل بذلك ولو أبرأه السيد من الألف لم يعتق بذلك ولم يبطل الشرط لأنه لا حق له في ذمته يبرئه منه وإنما هو تعليق على شرط محض وإن مات السيد انفسخت الصفة لأن ملكه زال عنه فلا ينفذ عتقه في ملك غيره وإن زال ملكه ببيع أو هبة زالت الصفة فإن عاد إلى ملكه عاد كما ذكرنا من قبل ومتى وجدت الصفة عتق ولم يحتج إلى تجديد إعتاق من جهة السيد لأنه إزالة ملك معلق على صفة وهو قابل للتعليق فيوجد الصفة كالطلاق وما كسبه العبد وجود الشرط فهو لسيده لأنه لم يوجد عقد يمنع كونه كسبه لسيده وإن كان معلق عتقه أمة فولدت لم يتبعها ولدها في أحد الوجهين لأنها أمة فأشبه ما لو قال : إن دخلت الدار فأنت حرة ولا تجب عليها قيمة نفسها لأنه عتق من السيد بصفة فأشبه ما لو باشر عتقها ولا يعتق حتى يؤدي الألف بكاملها وذكر القاضي أن من أصلنا أن العتق المعلق بصفة يوجد بعضها كما لو قال : أنت حر إن أكلت رغيفا فأكل بعضه وهذا لا يصح لوجوه أحدها أن الألف شرط العتق وشروط الأحكام يعتبر وجودها بكمالها لثبوت الأحكام وتنفي بانتفائها بدليل سائر شروط الأحكام
الثاني : أنه إذا علقه على وصف ذي عدد فالعدد وصف في الشرط ومتى علق الحكم على شرط ذي وصف لا يثبت ما لم توجد الصفة كما لو قال لعبده : إن خرجت عاريا فأنت حر فخرج لابسا لا يعتق فكذلك العدد
الثالث : أنه متى كان اللفظ ما يدل على الكل لم يحنث بفعل البعض وكذلك لو حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا صمت صياما لم يحنث حتى يصوم يوما ولو قال لامرأته إن حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من الحيضة وقد ذكر القاضي هذه المسائل ونظائرها وذكر الألف ههنا يدل على إرادته أداء الألف كاملة
الرابع : أننا لا نسلم هذا الأصل الذي ادعاه وأنه إذا قال له أنت حر إن أكلت رغيفا لم يعتق بأكل بعضه وإنما إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه حنث في رواية في موضع يحتمل إرادة البعض ويتناوله اللفظ كمن حلف لا يصلي فشرع في الصلاة أو لا يصوم فشرع في الصوم أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه ونحو هذا لأن الشارع في الصلاة والصيام قد صلى وصام ذلك الجزء الذي شرع فيه والقدر الذي شربه من الإناء هو ماء الإناء وقرينة حالة تقتضي الامتناع من الكل ومتى فعل البعض فما امتنع من الكل فحنث لذلك ولو حلف على فعل شيء لم يبرأ إلا بفعل الجميع وفي مسألتنا تعليق الحرية على أداء الألف يقتضي وجوه أدائها فلا يثبت الحكم المعلق عليها دون أدائها كمن حلف ليؤدين ألفا لك يبرأ حتى يؤديها
الخامس : أن موضع الشرط في الكتاب والسنة وأحكام الشريعة على أنه لا يثبت المشروط بدون شرطه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ] فلو قال بعضهامقتصرا عليه لم يستحق العقوبة وقال [ من أحيى أرض ميتة فهي له ] فلو شرع في الاحياء لم تكن له ولوقال في المسابقة : من سبق إلى خمس إصابات فهو سابق فسبق إلى أربع لم يكن سابقا ولو قال : من رد ضالتي فله دينار فشرع في ردها لم يستحق شيئا فكيف يخالف موضوعات الشرع واللغة بغير دليل وإنما الذي جاء عن احمد في الأيمان فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه يحنث لأن اليمين على الترك يقصد بها المنع فنزلت منزلة النهي والنهي عن الفعل شيء يقتضي المنع من بعضه بخلاف تعليق المشروط على الشرط والله أعلم
القسم الثاني : صفة جمعت معاوضة وصفة المغلب فيها حكم المعاوضة وهي الكتابة الصحيحة فهي متساوية للصفة المحضة في العتق بوجودها وأنه لا يجب عليه قيمة نفسه وأن الولاء لسيده وتخالفها في أنه لو أبرأه السيد مع المال منه وعتق لأن ذمته مشغولة به فبرئ منه بإبرائه كثمن المبيع أولا ينفسخ بموت السيد ولا بيع المكاتب ولا هبته لأنه عقد معاوضة لازم أشبه البيع وما كسبه قبل الأداء فهو له وما فضل في يده بعد الأداء فهو له وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها
القسم الثالث : صفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم الصفة وهي الكتابة الفاسدة نحو الكتابة على مجهول أو نجم واحد مع إخلال شرط من شروط الكتابة فتساوي الصفة المحضة في أنه لا يعتق بالأداء لأنه عتق معلق على شرط ولا تلزمه قيمة نفسه ولا يبطل بجنون المكاتب ولا الحجر عليه لأن الحجر للرق لا يمنع صحته كتابته فلا يقضي حدوثه إبطالها وإن أدى حال جنونه عتق لأن الصفة وجدت
وقال أبو بكر : لا يعتق بذلك ويفارقهما في أن السيد فسخها ورفعها لأنها فاسدة والفاسد يشرع رفعه وإزالته ويفارق الكتابة الصحيحة في أنها تبطل بموت السيد وجنونه والحجر عليه لسفه لأنه عقد جائز من جهته فبطل بهذه الأمور كالوكالة والمضاربة وقد قال أحمد : إذا وسوس فهو بمنزلة الموت وهذا قول القاضي وقال أبو بكر : لا تبطل بشيء من ذلك لأنه عقد كتابة فلم يبطل بذلك كالصحيحة وتفارق الصفة المحضة في أن كسب العبد قبل الأداء له وما فضل في يده بعد الأداء فهو له دون سيده ويتبع المكاتبة ولدها حملا لها على الكتابة الصحيحة في أحد الوجهين فيهما وفي الآخر لا يستحق كسبه ولا يتبع المكاتبة ولدها لأن العتق حصل بالصفة لا بالكتابة بمحرم كالخمر والخنزير فقال القاضي : هي كتابة فاسدة حكمها حكم ما ذكرنا ويعتق فيها الأداء وقال أبو بكر لا يعتق فيها بالأداء وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى ما كوتب عليه عتق ما لم تكن الكتابة محرمة وينبغي أن يقال أن علق العتق على أداء المحرم عتق به كما لو علق العتق على السرقة وشرب الخمر وإن قال : كاتبتك على خمر لم يعتق بأدائه كقول أبي بكر والله أعلم

حكم ما لو قال لعبده أنت حر وعليك ألف
فصل : وإذا قال لعبده أنت حر وعليك ألف عتق ولا شيء عليه لأنه أعتقه بغير شرط وجعل عليه عوضا لم يقبله فيعتق ولم يلزمه الألف هكذا ذكر المتأخرون من أصحابنا ونقل جعفر بن محمد قال : سمعت أبا عبد الله قيل له : إذا قال أنت حر وعليك ألف درهم قال : جيد قيل له : فإن لم يرض العبد قال : لا يعتق إنما قاله له على أن يؤدي إليه ألف درهم فإن لم يؤد فلا شيء وإن قال أنت حر على ألف فكذلك في إحدى الروايتين لأن على ليست من أدوات الشرط ولا البدل فأشبه قوله وعليك ألف والثانية إن قبل العبد عتق ولزمته الألف وإن فلم يقبل لم يعتق وهذا قول مالك و الشافعي و أبي حنيفة لأنه أعتقه بعوض فلم يعتق بدون قبوله كما لو قال : أنت حر بألف وهذه الراوية أصح لأن على تستعمل للشرط والعوض قال الله تعالى { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } وقال تعالى { فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } ولو قال في النكاح زوجتك ابنتي فلانة على صداق خمسمائة درهم فقال الآخر قبلت صح النكاح وثبت الصداق وقال الفقهاء إذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها كان ذلك جائزا فأما إذا قال أعتقتك على أن تخدمني سنة فقبل فقيها روايتان كالتي قبلها وقيل : إن لم يقل العبد لم يعتق رواية واحدة فعلى هذا إذا قبل العبد عتق في الحال ولزمه خدمته سنة فإن مات السيد قبل كمال السنة رجع العبد بقيمة ما بقي من الخدمة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تقسط قيمة العبد على خدمة السنة فيسقط مها بقدر ما مضى ويرجع عليه بما بقي من قيمته
ولنا أن العتق عقد لا يلحقه الفسخف فإذا تعذر فيه استيفاء العوض رجع إلى قيمته كالخلع في النكاح والصلح في دم العمد وإن قال أنت حر على أن تعطيني ألفا فالصحيح أنه لا يعتق حتى يقبل فإذا قبل عتق ولزمه الألف وإن قال أنت حر بألف لم يعتق حتى يقبل فيعتق ويلزمه ألف

حكم ما لو أعتق أمته بصفة وهي حامل
وإذا علق عتق أمته بصفة وهي حامل تبعها ولدها في ذلك لأنه كعضو من أعضائها فإن وضعته قبل وجود الصفة ثم وجدت الصفة عتق لأنه تابع في الصفة فأشبه ما لو كان في الصفة فأشبه ما لو كان في البطن وإن كانت حائلا حين التعليق ثم وجدت الصفة وهي حامل عتقت هي وحملها لأن العتق وجد فيها وهي حامل فتبعها ولدها كالمنجز وإن حملت بعد التعليق وولدت قبل وجود الصفة ثم وجدت بعد ذلك لم يعتق الولد لأن الصفة لم تتعلق به لا في حال التعليق ولا في حال العتق وفيه وجه آخر أنه يتبعها في العتق قياسا على ولد المدبرة وإن بطلت الصفة ببيع أو موت لم يتعلق الولد لأنه إنما يبيعها العتق لا في الصفة فإذا لم توجد فيها لم يوجد فيه بخلاف ولد المدبرة فإنه تبعها في التدبير فإذا بطل فيها بقي فيه

حكم ما لو أسلمت أم ولد النصراني
مسألة : قال : وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من غشيانها والتلذذ بها وأجبر على نفقتها فإن أسلم حلت له وإذا مات عتقت
هذه المسألة يؤخر شرحها إلى باب عتق أمهات الأولاد فإنه أليق بها

حكم ما لو قال لأمته أول ولد أو كل ولد تلدينه أو أول غلام تلدينه فهو حر
مسألة : قال : وإذا قال لأمته أول ولد تلدينه فهو حر فولدت اثنين أقرع بينهما أصابته القرعة فهو حر إذا أشكل أولهما خروجا
إنما كان كذلك لأن أحدهما استحق العتق ولم يعلم بعينه فوجب إخراجه من القرعة كما قال لعبيده كذلك أحدكم حر وقد سبق القول في هذه المسألة فأما إن علم أولهما خروجا فهو الحر وحده وهذا قول مالك و الثوري و أبي هاشم و الشافعي و ابن المنذر وقال الحسن و الشعبي و قتادة : إذا ولدت ولدين في بطن فهما حران
ولنا أنه إنما أعتق الأول والذي خرج أولا هو أمل المولدين فاختص العتق به كما لو ولدتهما في بطنين
فصل : فإن ولدت الأول ميتا والثاني حيا فذكر الشريف أنه يعتق الحي منهما وبه قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف و ومحمد و الشافعي : لا يعتق واحد منهما وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن شرط العتق إنما وجد في الميت وليس بمحل للعتق فانحلت اليمين به وإنما قلنا إن شرط العتق إنما وجد فيه لأنه أول بدليل أنه لو قال لأمته إذا ولدت ولدا فأنت حرة ولدا ميتا عتقت ووجه الأول أن العتق يستحيل في الميت فتعلقت اليمين بالحي كما لو قال : إن ضربت فلانا فعبدي حر فضربه حيا عتق وإن ضربه ميتا لم يعتق لأنه معلوم من طريق العادة أنه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق فيه وهو أن يكون حيا فتصير الحياة مشروطة فيه فكأنه قال : أول ولد تلدينه حيا فهو حر
فصل : وإن قال لأمته كل ولد تلدينه فهو حر عتق كل ولد ولدته في قول جمهور العلماء منهم مالك و الشافعي و الأوزاعي و الليث و الثوري قال ابن المنذر ولا أحفظ عن غيرهم فإن باع الأمة ثم ولدت لم يعتق ولدها لأنها ولدتهم بعد زوال ملكه
فصل : فإن قال : أول غلام أملكه فهو حر انبنى ذلك على العتق قبل ذلك قبل الملك وفيه روايتان فإن قلنا يصح عتق أول من يملكه فإن ملك اثنين عتق أحدهما بالقرعة في قياس قول أحمد فإنه قال في رواية مهنا : إذا قال أول من يطلع من عبيدي فهو حر فطلع اثنان أو جميعهم فإنه يقرع بينهما جميعا لأن الأولية وجدت فيهما فتثبت الحرية فيهما كما لو قال في المسابقة : من سبق فله عشرة فسبق اثنان اشتركا في العشرة وقال النخعي : يعتق أيهما شاء وقال أبو حنيفة لا يعتق واحد منهما لأنه لا أول فيهما لأن كل واحد منهما مساو للآخر ومن شرط الأولية سبق الأول
ولنا أن هذين لم يسبقهما غيرهما فكانا أول كالواحد وليس شرط أن يأتي بعده ثان بدليل ما لو ملك واحدا ولم يملك بعده شيئا وإذا كانت الصفة موجودة فيهما فأما أن يعتقا جميعا أو يعتق أحدهما وتعينه القرعة على ما ذكرنا من قبل وكذلك الحكم فيما إذا قال : أول ولد تلدينه فهو حر فولدت اثنين وخرجا جميعا فالحكم فيهما كذلك

حكم ما لو قال : آخر عبد أملكه فهو حر
فصل : وإن قال : آخر عبد أملكه فهو حر فملك عبيدا لم يحكم بعتق واحد منهم حتى يموت لأنه ما دام حيا فهو يحتمل أن يملك عبدا يكون هو الآخر فإذا مات عتق آخرهم وتبينا أنه كان حرا حين ملكه فيكون إكسابه له وإن كانت أمة أولادها أحرار من حين ولدتهم لأنهم أولاد حرة وإن كان وطئها فعليه مهرها لأنه وطئ حرة أجنبية ولا يحل له أن يطأها حين ملكها حتى يملك بعدها غيرها لأنه ما لم يملك بعدها غيرها فهي آخر في الحال وإنما يزول ذلك بملك غيرها فوجب أن يحرم الوطء وإن ملك اثنين دفعة واحدة ثم مات فالحكم في عتقهما كالحكم فيما إذا ملك اثنين في المسألة التي قبلها

حكم ما لو قال العبد لرجل : اشترني من سيدي بهذا المال
مسألة : قال : وإذا قال العبد لرجل : اشترني من سيدي بهذا المال فأعتقني ففعل فقد صارا حرا وعلى المشتري أن يؤدي إلى البائع مثل الذي اشتراه به وولاؤه للذي اشتراه إلا أن يكون قال له : بعني بهذا المال فيكون الشراء والعتق باطلا ويكون السيد قد أخذ ماله
وجملته أن العبد إذا دفع إلى أجنبي مالا وقال : اشترني من سيدي بهذا المال فأعتقني : ففعل لم يحل من أن يشتريه بعين المال أو في ذمته ثم ينقد المال فإن اشتراه في ذمته فأعتقه فالشراء صحيح والعتق جائز لأنه ملكه بالشراء فنفذ عتقه له وعلى المشتري أداء الثمن الذي اشتراه به لأنه لزمه الثمن بالبيع والذي دفعه إلى السيد كان ملكا له لا يحتسب له به من الثمن فيبقى الثمن واجبا عليه يلزمه أداؤه وكان العتق من ماله والولاء له وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وأما إن اشتراه بعين المال فالشراء باطل والعتق غير واقع لأنه اشترى بعين مال غيره شيئا يغير إذنه فلم يصح الشراء ولم يقع العتق لأنه أعتق مملوك غيره بغير إذنه ويكون السيد قد أخذ ماله لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده
وعلى الرواية التي تقول إن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود يصح البيع والعتق ويكون الحكم كما لو اشتراه في ذمته ونحو هذا قال النخعي و إسحاق فإنهما قالا : اشتراه والعتق جائزان ويرد المشتري مثل الثمن من غير تفريق
وقال الحسن : البيع والعتق باطلان وقال الشعبي : لا يجوز ذلك ويعاقب من فعله من غير تفريق أيضا وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق وفيه توسيط بين المذهبين فكان أولى إن شاء الله تعالى

حكم ما لو كان عبد بين شريكين فأعطى أحدهما خمسين دينار ويعتق نصيبه
فصل : ولو كان العبد بين شريكين فأعطى العبد أحدهما خمسين دينارا على أن يعتق نصيبه منه فأعتقه وسرى إلى باقيه إن كان موسرا ورجع عليه شريكه بنصف الخمسين وبنصف قيمة العبد لأن ما في يد العبد يكون بين سيديه لا ينفرد به أحدهما إلا أن نصيب المعتق ينفذ فيه العتق وإن كان العوض مستحقا إذا لم يقع العتق على عينها وإنما سمى خمسين ثم دفعها إليه وإن أوقع العتق على عينها يجب أن يرجع على العبد بقيمة ما أعتقه بالعوض المستحق ويسري العتق إلى نصيبه شريكه فيرجع بقيمته ويكون الولاء للمعتق

حكم ما لو وكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه
فصل : ولو وكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه فقال الوكيل : نصيبي حر عتق وسرى إلى نصيب شريكه ويكون الولاء له وإن أعتق نصيب الموكل عتق وسرى إلى نصيبه والولاء للموكل وإن أعتق نصف العبد ولم ينو شيئا احتمل أن ينصرف إلى نصيبه لأنه لا يحتاج إلى نية ونصيب شريكه يفتقر إلى النية ولم ينو ذلك واحتمل أن ينصرف إلى نصيب شريكه لأنه أمره بالإعتاق فانصرف إلى ما أمر به ويحتمل أن ينصرف إليهما لأنهما تساويا فانصرف إليهما وأيهما حكمنا بالعتق عليه ضمن مأذون له في العتق وقد أعتق بالسراية فلم يضمن كمن أذن له في إتلاف شيء فإنه لا يضمنه وإن أتلفه بالسراية وإذا أعتق نصيب شريكه لم يلزم شريكه الضمان لأنه مباشر لسبب الإتلاف فلم يجب له ضمان ما تلف به كما لو قال أجنبي : أعتق عبدك فأعتقه والله أعلم

كتاب التدبير
ومعنى التدبير عتق عبده بموته والوفاة دبر الحياة يقال : دابر الرجل يدابر مدابرة إذا مات فسمي العتق بعد الموت تدبيرا لأنه إعتاق في دبر الحياة والأصل فيه السنة والإجماع
أما السنة فما روى جابر [ أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر منه فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من يشتريه مني ؟ فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه وقال : أنت أحوج منه ] متفق عليه
وأما الإجماع فقال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من دبر عبده أو أمته ولم يرجع عن ذلك حتى مات والمدبر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين إن كان عليه وإنفاذ وصايا إن كان وصى وكان السيد بالغا جائز الأمر أن الحرية تجب أولها

إذا قال لعبده أو أمته أنت مدبر أو قد دبرتك أو أنت حر بعد موتي فقد صار مدبرا
مسألة : قال : وإذا قال لعبده أو أمته أنت مدبر أو قد دبرتك أو أنت حر بعد موتي فقد صار مدبرا
وجملة ذلك أنه إذا علق صريح العتق بالموت فقال : أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق بعد موتي صار مدبرا بلا خلاف نعلمه وأما إن قال : أنت مدبر أو قد دبرتك فإنه يصير مدبرا بنفس اللفظ من غير افتقار إلى نية وهذا منصوص الشافعي
وقال بعض أصحابه في قوله آخر أنه ليس بصريح في التدبير ويفتقر إلى النية لأنهما لفظان لم يكثر استعمالهما فافتقر إلى النية كالكنايات
ولنا أنهما لفظان وضعا لهذا العقدفلم يفتقر إلى النية كالبيع ويفارق الكنايات فإنهما غير موضوعة له ويشاركهما فيه غيرها فافتقر إلى النية للتعيين ويرجح أحد المحتملين بخلاف الموضوع

يعتق المدبر بعد الموت من ثلث ماله
فصل : ويعتق المدبر بعد الموت من ثلث المال في قول أكثر أهل العلم ويروي ذلك عن علي وابن عمر وبه قال شريح و ابن سيرين و الحسن و سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز و الزهري و قتادة و حماد و مالك وأهل المدينة و الثوري وأهل العراق و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي عن ابن مسعود ومسروق ومجاهد والنخعي وسعيد بن جبير أنه يعتق من رأس المال لأنه عتق فينفذ من رأس المال كالعتق في الصحة وعتق أم الولد
ولنا أنه تبرع بعد الموت فكان من الثلث كالوصية ويفارق العتق في الصحة فإنه لم يتعلق به حق غير المعتق فينفذ في الجميع كالهبة المنجزة
وقد نقل حنبل عن أحمد أنه يعتق من رأس المال وليس عليها عمل قال أبو بكر : هذا قول قديم رجع عنه أحمد إلى ما نقله الجماعة

إذا اجتمع المرض والتدبير قدم العتق
فصل : وإن اجتمع العتق والتدبير قدم العتق لأنه أسبق وإن اجتمع التدبير والوصية بالعتق تساويا لأنهما جميعا عتق بعد الموت ويحتمل أن يقدم التدبير لأن الحرية تقع فيه عند الموت والوصية تقف على الإعتاق بعده

يجوز التدبير مطلقا ومقيدا
فصل : ويجوز التدبير مطلقا ومقيدا فالمطلق تعليق العتق بالموت من غير شرط آخر كقوله : أنت حر بعد موتي والمقيد ضربان : أحدهما : خاص نحو أن يقول إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا أو في بلدي هذا أو عامي هذا فأنت حر فهذا حائز على ما قال إن مات على الصفة التي شرطها عتق العبد وإلا لم يعتق
وقال مهنا : سألت أحمد عمن قال لعبده أنت حر مدبر اليوم ؟ قال : يكون مدبرا ذلك اليوم فإن مات ذلك اليوم صار حرا يعني إذا مات المولى
الضرب الثاني : أن يعلق التدبير على صفة مثل أن يقول : إن دخلت الدار أو إن قدم زيد أو إن شفى الله مريضي فأنت حر مدبر أو فأنت حر بعد موتي فهذا لا يصير مدبرا في الحال لأنه علق التدبير على شرط وإذا وجد صار مدبرا وعتق بموت سيده وإن لم يوجد الشرط في حياة السيد ووجد بعد موته لم يعتق لأن إطلاق الشرط في حياة السيديقتضي وجوده في الحياة بدليل ما لو علق عليه عتقا منجزا فقال : إذا دخلت الدار فأنت حر فدخلها بعد موته لم يعتق وكما لو قال لوكيله بع عبدي فمات الموكل قبل بيعه بطلت وكالته ولأن المدبر من علق عتقه بالموت وهذا قبل الموت لم يكن مدبرا وبعد الموت لا يمكن حدوثه التدبير وإن قال : إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر فذكر أبو الخطاب فيها روايتين : أحدهما : لا يعتق وهو قياس المنصوص عنه في قوله أنت حر بعد موتي بيوم أو شهر فإنه قال : لا يعتق لأنه معلق العتق بصفة توجد في ملك غيره عليه فلم يعتق كالمنجز
والثانية : يعتق وهو الذي ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه صرح بذلك فحمل عليه كما لو وصى بإعتاقه وكما لو وصى ببيع سلعة ويتصدق بثمنها ويفارق التصرف بعد البيع فإن الله تعالى جعل للإنسان التصرف بعد موته في ثلثه بخلاف ما بعد البيع والأول أصح إن شاء الله تعالى ويفارق الوصية بالعتق وبيع السلعة لأن الملك لا يستقر للورثة فيه ولا يملكون التصرف فيه بخلاف مسألتنا وقولهم حصل له التصرف في ثلثه قلنا إنما يتصرف فيه تصرفا يثبت عقيب موته ويمنع انتقاله إلى الوارث وإن يثبت للوارث فهو ثبوت غير مستقر وقد قيل يكون مراعى فأن قبل الوصية له تبينا أن الملك كان له حين الموت وإن لم يقبل تبينا أنه كان للوارث فعلى قولنا لا يعتق بالدخول بعد الموت للوارث التصرف فيه كيف يشاء ومن صحح هذا الشرط احتمل أن يمنع الوارث من التصرف في رقبته لأنه يستحق العتق فأشبه الموصى بعتقه واحتمل أن لا يمنعه لأنه علق عتقه على صفة غير الموت فلم يمنع من التصرف فيه كما لو قال لعبده إن دخلت فأنت حر فأما كسبه قبل عتقه فهو للوارث لأن الملك فيه مستقر قبل وجود الشرط كما لو كان الوارث هو الذي علق عتقه

حكم ما لو قال لعبده أنت حر بعد موتي
فصل : فإن قال أنت حر بعد موتي بشهر أو قال بيوم فقال أحمد في رواية مهنا : لا يعتق ولا تصح هذه الصفة وقال أيضا : سألت أحمد عن رجل قال لعبده أنت حر بعد موتي بشهر بألف درهم فقال : هذا كله لا يكون شيئا بعد موته وهذا اختيار أبي بكر وذكر القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى فيها رواية أخرى أنه يعتق إذا وجدت الصفتان الموت ومضي المدة المذكورة وبهذا قال الثوري و أبو يوسف و إسحاق ووجه الروايتين ما تقدم وقال أصحاب الرأي لا يعتق حتى يعتقه الوارث وعلى قول من قال يعتق يكون فبل الموت ملكا للوارث وكسبه له كأم الولد في حياة السيد وإن كان أمة فولدت قبل وجود الصفة فولدها يتبعها في التدبير ويعتق بوجود كما تعتق هي
فصل إذا قال لعبده : إذا قرأت القرآن فأنت حر بعد موتي فقرأ القرآن جميعه صار مدبرا وإن قرأ بعضه لم يصر مدبرا وإن قال : إذا قرأت قرآنا فأنت حر بعد موتي فقرأ بعض القرآن صار مدبرا لأنه في الأولى عرفه واللام المقتضية للاستغراق فعاد إلى جميعه إلى جميعه وههنا نكره فاقتضى بعضه فإن قيل فقد قال الله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وقال { إذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } ولم يرد جميعه قلنا قضية اللفظ تتناول جميعه لأن الألف واللام للاستغراق وإنما حمل على بعضه بدليل فلا يحمل على البعض في غير ذلك الموضع بغير دليل ولأن قرينة الحال تقتضي قراءة جميعه لأن الظاهر أنه أراد ترغيبه في قراءة القرآن بتعلق الحرية ومجازاته على قراءته بالحرية والظاهر أنه لا يجازي بهذا الأمر الكثير ولا يرغب به إلا فيما يشق أما قراءته آية أو آيتين فلا
فصل : فإن قال لعبده إن شئت فأنت حر بعد موتي أو إذا شئت أو متى شئت أو أي وقت شئت فأنت حر بعد موتي فهو تدبير بصفة فمتى شاء في حياة سيده صار مدبرا يعتق بموت سيده كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فدخلها في حياته وإن مات السيد قبل مشيئة بطلت الصفة كما لو مات في المسألة الأخرى قبل دخول الدار وإن قال متى شئت بعد موتي فأنت حر أو أي وقت شئت بعد موتي فأنت حر فهذا تعليق للعتق على صفة بعد الموت وقد ذكرنا أنه لا يصح وأن قول القاضي صحته فعلى قوله يكون ذلك على التراخي فمتى شاء بعد الموت سيده عتق وما كان له من كسب قبل مشيئته فهو لورثة سيده لأنه عبد قبل ذلك التراخي بخلاف الموصى به فإن كسبه قبل القبول وجهين :
أحدهما : أنه يكون للموصي له لأننا تبينا أنه ملكه من حين الموت وههنا لا يثبت الملك قبل المشيئة وجها لوجه لأنه عتق معلق على شرط فلا يثبت العتق قبل الشرط وجه واحدا وذكر القاضي في قوله : إذا شئت أو إن شئت فأنت حر بعد موتي أنه على الفور فإن شاء في المجلس صار مدبرا وإن تراخت المشيئة عن المجلس بطلت لم يصر مدبرا بالمشيئة بعده بناء على قوله : اختاري نفسك فإن الاختيار يقف على المجلس وهذا في معناه وإن قال : إن شئت بعد موتي أو إذا شئت بعد موتي فأنت حر كان على الفور أيضا فمتى شاء عقب موت سيده أو في مجلس صار حرا وإن تراخت مشيئته عن المجلس لم يثبت فيه حرية وقد ذكر في الطلاق أنه إذا قال : أنت طالق إن شئت وشاء أبوك فشاءا معا وقع الطلاق سواء شاءا على الفور أو التراخي أو شاء على الفور والآخر على التراخي وهذا مثله فخرج في كل مسألة مثل ما ذكر في الأخرى
فصل : إذا قال لعبده : إذا مت فأنت حر أولا ؟ أو قال فأنت حر ؟ أو لست بحر ؟ لم يصر مدبرا لأنه استفهام ولم يقطع بالعتق فأشبه ما لو قال لزوجته أنت طالق ؟ وقد ذكرنا في الطلاق
فصل : وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه لم يسر التدبير إلى نصيب شريكه موسرا كان أو معسرا وذكر أبو الخطاب وجها انه يسري تدبيره إذا كان موسرا ويقوم عليه نصيب شريكه و للشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه تعليق للعتق بصفة فلم يسر كتعليقه بدخول الدار ويفارق الاستيلاد فإنه آكد ولهذا يعتق من جميع المال ولو قتلت سيدها لم يبطل حكم استيلادها ولا يجوز بيعها والمدبر بخلاف ذلك فعلى هذا إن مات المدبر عتق نصيبه إن خرج من الثلث وهو يسري إلى نصيب شريكه إن كان موسرا ؟ فيه روايتان ذكرهما الخرقي في غير هذا الموضع وإن أعتق الشريك نصيبه قبل موت المدبر وهو موسر عتق وسرى إلى نصيب المدبر
وذكر القاضي و أبو الخطاب فيها وجهين و للشافعي فيها قولان : أحدهما : كقولنا والثاني لا يسري عتقه وهو قول أبي حنيفة لأن المدبر قد استحق الولاء على العبد بموته فلم يكن للآخر إبطاله
ولنا قوله عليه الصلاة و السلام [ من أعتق شركا له في عبد فكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطى شركاؤه حصصهم وإلا فقد عتق منه ما عتق ] ولأنه إذا سرى إلى إبطال الملك الذي هو آكد من الولاء فالولاء أولى وما ذكروه لا أصل له ويبطل بما إذا علق عتق نصيبه بصفة

حكم لو دبر كل واحد نصيبه فمات أحدهما
فصل : وإن دبر كل واحد منهما نصيبه فمات أحدهما عتق نصيبه وبقي نصيب الآخر على التدبير إن لم يف ثلثه بقيمة حصة شريكه وإن كان يفي به فهل يسري العتق إليه ؟ على روايتين وإن قال كل واحد منهما إذا متنا فأنت حر فقال أبو بكر : قال أحمد : إذا مات أحدهما فنصيبه حر وظاهر هذا أن أحمد جعل هذا اللفظ تدبيرا من كل واحد منهما لنصيبه ومعناه إذا مات كل واحد منا فنصيبه حر فأنه قابل الجميلة بالجميلة فيصرف إلى مقابله البعض كقوله : ركب الناس دوابهم ولبسوا ثيابهم وأخذوا رماحهم يريد لبس كل إنسان ثوبه وركب دابته واخذ رمحه وكذلك إن قال : اعتقوا عبيدهم كان معناه أعتق كل واحد عبده وقال القاضي : هذا تعليق للحرية بموتهما جميعا وإنما قال أحمد : يعتق نصيبه بناء على أن وجود بعض صفة يقوم مقام جميعها ولا يصح هذا لأنه لو كانت هذه العلة لعتق العبد كله لوجود بعض صفة كل واحد منهما ولأننا قد أبطلنا هذا القول بما ذكرنا من قبل ومقتضى قول القاضي أن لا يعتق شيء منه قبل موتهما جميعا وإن قال كل واحد منهما : أردت أن العبد حر بعد آخرنا موتا انبنى هذا على تعليق الحرية على صفة توجد بعد الموت وقد ذكرنا الخلاف في ذلك فإن فإن قلنا بجواز ذلك عتق بعد موت الآخر منهما عليهما جميعا وإن قلنا : لا يصح ذلك عتق نصيب الآخر منهما بالتدبير وفي سرايته إلى باقيه إن ثلثه يحتمل ذلك روايتان
وإن قال كل واحد منهما إذا مت قبل شريكي فنصيبي له فإذا مات فهو حر وإن مت بعده فنصيبي حر فقد وصى كل واحد منهما الآخر فإذا مات أحدهما صار العبد كله للآخر فإذا مات عتق كله عليه وصار ولاؤه كله له إن قلنا لا يصح تعليق العتق على صفة بعد الموت وإن قلنا يصح عتق عليهما وولاؤه بينهما

حكم بيع المدبر أو المدبرة في الدين
مسألة : قال : وله بيعة في الدين
ظاهر كلام الخرقي أنه لا يباع في الدين وقد أومأ إليه أحمد وقال مالك : لا يباع إلا في دين يغلب رقبة العبد فإذا كان العبد يساوي ألفا فكان عليه خمسمائة لم يبع العبد وروي عن أحمد أنه قال : أنا أرى بيع المدبر في الدين وإذا كان فقيرا لا يملك شيئا رأيت أن يبيعه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد باع المدبر لما علم أن صاحبه لا يملك شيئا غيره باعه النبي صلى الله عليه و سلم لما علم حاجته وهذا قول إسحاق و أبي خيثمة وقالا : إن باعه من غير حاجة أجزناه ونقل جماعة عن أحمد جواز بيع المدبر مطلقا في الدين وغيره مع الحاجة وعدمها قال إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد عن بيع المدبر إذا كان بالرجل حاجة إلى ثمنه قال : له أن يبيعه محتاجا كان إلى ذلك أو غير محتاج وهذا هو الصحيح
وروي مثل هذا عن عائشة وعمر بن عبد العزيز و طاوس و مجاهد وهو قول الشافعي وكره بيعه ابن عمر وسعيد بن المسيب والشعبي و النخعي و ابن سيرين و الزهري و الثوري و الأوزاعي و الحسن بن صالح وأصحاب الرأي ومالك لأن ابن عمر رضي الله عنهما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لا يباع مدبر ولا يشترى ] ولأنه استحق العتق بموت سيده أشبه أم الولد
ولنا ما روى جابر رضي الله عنه [ أن رجلا أعتق مملوكا له عن دبر فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من يشتريه مني فباعه من نعيم بن عبد لله بثمانمائة درهم فدفعها إليه وقال أنت أحوج منه ] متفق عليه قال جابر : عبد قبطي مات عام أول في إمارة ابن الزبير وقال أبو إسحاق الجوزاني : صحت أحاديث بيع المدبر باستقامة الطريق والخبر إذا ثبت استغنى به عن غيره من رأي الناس ولأنه عتق بصفة ثبت بقول المعتق فلم يمنع البيع كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت حر ولأنه تبرع بمال بعد الموت فلم يمنع البيع في الحياة كالوصية قال أحمد : هم يقولون : من قال : غلامي حر رأس الشهر فله بيعه قبل رأس الشهر وإن قال : غدا فله بيعه اليوم وإن قال : إذا مت قال : لا يبيعه فالموت أكثر من الأجل ليس هذا قياسا إن جاز أن يبيعه قبل رأس الشهر فله أن يبيعه قبل مجيء الموت وهم يقولون في من قال إن مت من مرضي هذا فعبدي حر ثم لم يمت من مرضه ذلك فليس بشيء وإن قال : إن مت فهو حر لا يباع وهذا متناقض إنما أصله الوصية من الثلث فله أن يغير وصيته ما دام حيا فأما خبرهم فلم يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو من قول ابن عمر وقال الطحاوي هو عن ابن عمر وليس بمسند عن النبي صلى الله عليه و سلم ويحتمل أنه أراد بعد الموت أو على الاستحباب أما أم الولد فإن عتقها يثبت بغير اختيار سيدها وليس بتبرع ويكون من جميع المال ولا يمكن إبطاله بحال والتدبير بخلافه ووجه قول الخرقي أن النبي صلى الله علبيه وسلم إنما باع المدبر عند الحاجة فلا يتجاوز به موضع الحاجة
مسألة : قال : ولا تباع المدبرة في الدين إلا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى : الأمة كالعبد
لا نعلم هذا التفريق بين المدبرة والمدبر عن غير إمامنا رحمه الله وإنما احتاط في رواية المنع من بيعها لأن فيه إباحة فرجها وتسليط مشتريها على وطئها مع وقوع الخلاف في بيعها وحلها فكرة الإقدام على ذلك مع الاختلاف فيه والظاهر أن هذا المنع منه كان على سبيل الورع لا على التحريم البات فإنه إنما قال : لا يعجبني بيعها فالصحيح جواز بيعها فإن عائشة باعت مدبرة لها سحرتها ولأن المدبرة في معنى المدبر فما ثبت فيه فيها
مسألة : قال : فإن اشتراه بعد ذلك رجع في التدبير
وجملة ذلك أن السيد إذا دبر عبده ثم باعه ثم اشتراه عاد تدبيره لأنه علق عتقه بصفة فإذا باعه ثم اشتراه عادت الصفة كما لو قال أنت حر إن دخلت الدار ثم باعه ثم اشتراه فذكر القاضي أن هذا مبني على أن التدبير تعليق بصفة وفيه رواية أخرى أنه وصية فتبطل بالبيع ولا تعود لأنه لو وصى بشيء ثم باعه بطلت الوصية ولم تعد بشرائه ومذهب الشافعي مثل هذا إلا أن عود الصفة بعد الشراء له فيه قولان والصحيح ما قال الخرقي لأن التدبير وجد فيه التعليق بصفة فلا يزول حكم التعليق بوجود معنى الوصية فيه بل هو جامع للأمرين وغير ممتنع وجود الحكم بسببين فيثبت حكمها فيه

فيما لو أدبره ثم قال : قد رجعت
مسألة : قال : ولو دبره ثم قال : قد رجعت في تدبيري أو قد أبطلته لم يبطل لأنه لق العتق بصفة في إحدى الروايتين والأخرى يبطل التدبير
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بطلان التدبير بالرجوع عنه فيه قولا فالصحيح أنه لا يبطل لأنه علق العتق بصفة فلا يبطل كما لو قال لعبده : إذ دخلت الدار فأنت حر والثانية يبطل لأنه جعل له نفسه بعد موته فكان ذلك وصية فجاز الرجوع فيه بالقول كما لو وصى له بعبد آخر وهذا قول الشافعي القديم وقوله الجديد كالرواية الأولى وهو الصحيح لأنه تعليق للعتق بصفة ولا يصح القول بأنه وصية به لنفسه لأنه لا يملك نفسه وإنما تحصل فيه الحرية ويسقط عنه الرق ولهذا لا تقف الحرية على قبوله ولا اختياره وتتنجز عقيب الموت كتنجزها عقيب سائر الشروط ولأنه غير ممتنع أن يجمع الأمرين فثبت فيه حكم التعليق في امتناع الرجوع ويجتمعان في حصول العتق بالموت

إذا قال لمدبره : إذا أديت لورثتي كذا فأنت حر
فصل : إذا قال السيد لمدبره : إذا أديت إلى ورثتي كذا فأنت حر فهو رجوع عن التدبير وينبني على الروايتين إن قلنا له الرجوع بالقول فظاهره أنه بطل التدبير ههنا وإن قلنا ليس له الرجوع لم يؤثر القول شيئا وإن دبره كله ثم رجع في نصفه صح إذا قلنا له الرجوع في جميعه لأنه لما صح أن يدبر نصف ابتداء صح أن يرجع في تدبير نصفه وإن غير التدبير فكان مطلقا فجعله مقيدا صار مقيدا إن قلنا بصحة الرجوع في التدبير وإلا فلا وإن كان مقيدا فأطلقه على كل حال لأنه زيادة فلا يمنع منها وإذا دبر الأخرس وكانت إشارته أو كتابته معلومة صح تدبيره ويصح رجوعه إن قلنا بصحة الرجوع في التدبير لأن إشارته وكتابته تقوم مقام نطق الناطق في أحكامه وإن دبر وهو ناطق ثم صار أخرس صح رجوعه بإشارته المعلومة أو كتابته وإن لم تفهم إشارته فلا عبرة بها لأنه لا يعلم رجوعه

حكم فيما إذا رهن المدبر
فصل : وإذا رهن المدبر لم يبطل تدبيره لأنه تعليق للعتق بصفة فإن مات السيد وهو رهن عتق وأخذ من تركة سيده قيمته فتكون رهنا مكانه لأن عتقه بسبب من جهة سيده فأشبه ما لو باشره بالعتق ناجزا

حكم ما لو أرتد المدبر ولحق في دار الحرب
فصل : وإن ارتد المدبر ولحق بدار الحرب لم يبطل تدبيره لأن ملك سيده باق عليه ويصح التصرف فيه بالعتق والهبة والبيع إن كان مقدورا عليه فإن سباه المسلمون لم يملكوه لأنه مملوك لمعصوم ويرد إلى سيده إن علم به قبل قسمه ويستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن لم يعلم به حتى قسم لم يرد إلى سيده في إحدى الروايتين
والأخرى إذا اختار سيده أخذه بالثمن الذي حسب به على آخذه أخذه وإن لم يختر أخذه بطل تدبيره ومتى عاد إلى سيده بوجه من الوجوه عاد تدبيره وإن لم يعد إلى سيده بطل تدبيره كما لو بيع وكان رقيقا لمن هو في يده وإن مات سيده قبل سبيه عتق فإن سبي بعد هذا لم يرد إلى ورثة سيده لأن ملكه زال عنه بحريته فصار كأحرار دار الحرب ولكن يستتاب فإن تاب وأسلم صار رقيقا يقسم بين الغانمين وإن لم يتب قتل ولم يجز استرقاقه لأنه لا يجوز إقراره على كفره قال القاضي : لا يجوز استرقاقه إذا أسلم وهو قول الشافعي لأن في استرقاقه إبطال ولاء المسلم الذي أعتقه
ولنا أن هذا لا يمنع قتله وإذهاب نفسه وولائه فلأن لا يمنع تملكه أولى ولأن المملوك الذي لم يعتقه سيده يثبت الملك فيه للغانمين إذا لم يعرف مالكه بعينه ويثبت فيه إذا قسم قبل العلم بمالكه والملك آكد من الولاء فلأن يثبت مع الولاء وحده أولى
فعلى هذا لو كان المدبر ذميا فيلحق بدار الحرب ثم مات سيده أو أعتقه ثم قدر عليه المسلمون فسبوه ملكوه وقسموه وعلى قول القاضي ومذهب الشافعي : لا يملكونه : فإن كان سيده ذميا جاز استرقاقه في قول القاضي ولأصحاب الشافعي في استرقاقه وجهان :
أحدهما : يجوز وهذا حجة عليهم لأن عصمة مال الذمي كعصمة مال المسلم بدليل قطع سارقه سواء كان مسلما أو ذميا ووجوب ضمانه وتحريم تملك ماله إذا أخذه الكفار ثم قدر عليه المسلمون فأدركه صاحبه قبل القسمة
وقال القاضي : الفرق بينهما أن سيده هاهنا لو لحق بدار الحرب جاز تملكه فجاز تملك عتقه بخلاف المسلم قلنا إنما جاز استرقاق سيده لزوال عصمته وذهاب عاصمه وهو ذمته وعهده وأما إذا ارتد مدبره فإن عصمة ولاءه ثابتة بغصمة من له ولاؤه وهو ومسلم في ذلك سواء فإذا جاز إبطال ولاء أحدهما جاز في الآخر مثله

حكم ما لو أرتد سيد المدبر
فصل : فإن ارتد سيد المدبر فذكر القاضي أن المذهب أنه يكون موقوفا فإن عاد إلى الإسلام فالتدبير باق لحاله لأنا تبينا أن ملكه لم يزل وإن قتل أو مات على ردته لم يعتق المدبر لأنا تبينا أن ملكه زال بردته
وقال أبو بكر : قياس قول أبي عبد الله أن تدبيره يبطل بالردة فإن عاد للإسلام استأنف التدبير وقال الشافعي : التدبير باق ويعتق بموت سيده لأن التدبير سبق ردته فهو كبيعه وهبته قبل ارتداده وهذا ينبني على القول في مال المرتد هل هو باق على ملكه أو قد زال بردته ؟ وقد ذكر في باب المرتد فأما إن دبر في حال ردته فتدبيره مراعى فإن عاد إلى الإسلام تبينا أن تدبيره وقع صحيحا وإن قتل أو مات على ردته تبينا أنه وقع باطلا ولم يعتق المدبر
وقال ابن أبي موسى : تدبيره باطل وهذا قول أبي بكر لأن الملك عنده يزول بالردة وإذا أسلم رد إليه تملكا مستأنفا

ما لو ولدته المدبرة فهو في منزلتها
مسألة : قال : وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فولدها بمنزلتها
وجملته أن الولد الحادث من المدبرة بعد تدبيرها لا يخلو من حالتين : أحدهما أن يكون موجودا حال تدبيرها ويعلم ذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر من حين التدبير فهذا يدخل معها في التدبير بلا خلاف نعلمه لأنه بمنزله عضو من أعضائها فإن بطل التدبير في الأم لبيع أو موت أو رجوع بالقول لم يبطل في الولد لأنه ثابت فيه أصلا الحال الثاني : أن تحمل به بعد التدبير فهذا يتبع أمه في التدبير ويكون حكمه كحكمها في العتق بموت سيدها في قول أكثر أهل العلم وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب و القاسم و مجاهد و الشعبي و النخعي وعن بن عبد العزيز و الزهري و مالك و الثوري و الحسن بن صالح وأصحاب الرأي
وذكر القاضي أن حنبلا نقل عن احمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشرط المولى قال فظاهر أنه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها وهذا قول جابر بن زيد و عطاء و للشافعي قولان كالمذهبين أحدهما : لا يتبعها وهو اختيار المزني لأن عتقها معلق بصفة تثبت بقول المعتق وحده فأشبهت من علق عتقها بدخول الدار وقال جابر بن زيد : إنما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت فإن ثمرته لك ما عشت ولأن التدبير وصية وولد الموصى بها قبل الموت لسيدها
ولنا ما روي عن عمر وابن جابر أنهم قالوا : ولد المدبرة بمنزلتها ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا فكان إجماعا ولأن الأم استحقت الحرية بموت سيدها فيتبعها ولدها كأم الولد ويفارق التعليق بصفة في الحياة والوصية من جهة أن التدبير آكد من كل واحد منهما لأنه اجتمع فيه الأمران وما وجد فيه سببان آكد مما وجد في أحدهما وكذلك لا تبطل بالموت ولا بالرجوع عنه فعلى هذا إن بطل التدبير في الأم لمعنى اختص بها من بيع أو موت أو رجوع لم يبطل في ولدها ويعتق بموت سيدها كما لو كانت أمه باقية على التدبير فإن لم يتسع الثلث لهما جميعا أقرع بينهما فأيهما وقعت القرعة عليه عتق إن احتمله الثلث وإلا عتق منه بقدر الثلث وإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء كمل من الآخر كما لو دبر عبدا وأمه معا وأما الولد الذي وجد قبل التدبير فلا نعلم خلافا في أنه لا يتبعها لأنه لا يتبع في العتق المنجز ولا في حكم الاستيلاد ولا في الكتابة فلأن لا يتبع في التدبير أولى قال الميموني : قلت لأحمد : ما كان من ولد المدبرةقبل أن تدبر يتبعها ؟ قال : لا يتبعها من ولدها ما كان قبل ذلك إنما يتبعها ما كان بعد ما دبرت
وقال حنبل : سمعت عمي يقول في الرجل يدبر الجارية ولها ولد ؟ وقال ولدها معها وجعل أبو الخطاب هذه رواية في أن ولدها قبل التدبير يتبعها وهذا بعيد والظاهر أن أحمد لم يرد أن ولدها قبل التدبير معها وإنما أراد ولدها بعد التدبير على ما صرح به في غير هذه الرواية فإن ولدها الموجود لا يتبعها في عتق ولا كتابة ولا استيلاد ولا بيع ولا هبة ولا رهن ولا شيء من الأسباب الناقلة للملك في الرقبة

حكم ما لو علق عتق أمته بصفة
فصل : فإن علق عتق أمته بصفة نظرنا فإن كانت حاملا حين التعليق تبعها فيه لأنه كعضو من أعضائها وإن كانت حاملا حين وجود الصفة عتق معها لذلك وإن حملت بعد التعليق وولدت قبل وجود الصفة لم يتبعها في الصفة ولم يعتق بوجودها وفيه وجه آخر أنه يعتق بها ويتبع أمه في ذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه اتباعه إياها أنها استحقت الحرية فتبعها ولدها كالمدبرة
ولنا أنه يملكها ملكا كاملا ويباح له التصرف في رقبتها بأنواع التصرفات بغير خلاف فلم يعتق ولدها بعتقها كالموصي بعتقها الموكل فيه وتفارق المدبرة فإن التدبير آكد لما ذكرنا ولهذا اختلف في جواز بيعها والتصرف فيها

في حكم ولد المدبرة
فصل : فأما ولد المدبر فحكمه حكم أمه لا نعلم فيه خلافا وهذا قول ابن عمر و عطاء و الزهري و الأوزاعي و الليث وذلك لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية وإن تسرى بإذن سيده فولد له أولاد فروي عن أحمد أنهم يتبعونه في التدبير
وروى ذلك عن مالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن إباحة التسري تنبني على ثبوت الملك وولد الحر من أمته يتبعه في الحرية دونها كذلك ولد المدبر من أمته يتبعه دونها ولأنه ولد يستحق الحرية من أمته فيتبعه في ذلك كولد المكاتب من أمته
فصل : وإذا ولدت المدبرة فرجع في تدبيرها وقلنا بصحة الرجوع لم يتبعها ولدها لأن الولد المنفصل لا يتبع في الحرية ولا في التدبير ففي الرجوع أولى وإن رجع في تدبيره وحده جاز لأنه إذا جاز الرجوع في الأم المباشرة بالتدبير ففي غيرها أولى وإن رجع في تدبيرها جاز كما لو دبرها وابنها المنفصل وإن دبرها حاملا ثم رجع في تدبيرها حال حملها لم يتبعها الولد في الرجوع لأن التدبير اعتاق والاعتاق مبني على التغليب والسراية والرجوع عنه بعكس ذلك فلم يتبع الولد فيه وهذا كما لو ولد له توأمان فأقر بأحدهما لزماه جميعا وإن نفى أحدهما لم ينتف الآخر وإن رجع فيهما جميعا جاز وإن رجع في أحدهما دون الآخر جاز وإن دبر الولد دون أمه أو الأم دون ولدها جاز لأنه يجوز أن يعتق كل واحد منهما دون صاحبه فجواز أن يدبر أحدهما دون صاحبه أولى ولأنه تعليق العتق بصفة فجاز في أحدهما دون الآخر كالتعليق بدخول الدار وإن دبر أمته ثم قال إن دخلت الدار فقد رجعت في تدبيري لم يصح لأن الرجوع لا يصح تعليقه بصفة وإن قال : كلما ولدت ولدا فقد رجعت في تدبيره لم يصح لذلك
فصل : وإذا اختلفت المدبرة وورثة سيدها في ولدها فقالت : ولدتهم بعد تدبيري فعتقوا معي وقال الورثة : بل ولدتهم قبل تدبيرك فهم مملوكون لنا فالقول قول الورثة مع أيمانهم لأن الأصل بقاء رقهم وانتفاء الحرية عنهم فإذا لم تكن بينة فالقول قول من يوافق قوله الأصل

كسب المدبر في حياته لسيده
فصل : وكسب المدبر في حياة سيده لسيده وله أخذه منه لأن التدبير لا يخرج عن شبهه بالوصية بالعتق أو التعليق له على صفة أو بالاستيلاد وكل هؤلاء كسبهم لسيدهم فكذلك المدبر فإن اختلف هو وورثة سيده فيما في يده بعد عتقه فقال : كسبته بعد حريتي وقالوا بل قبل ذلك فالقول قوله لأنه في يده ولم يثبت ملكهم عليه بخلاف الولد فإنه كان رقيقا لهم فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الورثة عند من يقدم بينة الخارج وبينة المدبر عند من يقدم بينة الداخل وإن أقر المدبر أن ذلك كان في يده في حياة سيده ثم تجدد ملكه عليه بعد موته فالقول قول الوارث لأن الأصل معهم فإن أقام المدبر بينة بدعواه قبلت وتقدم على بينة الورثة إن كانت لهم بينة لأن بينة المدبر تشهد بزيادة وإن لم يقر المدبر بأنه كان في يده في حياة سيده فأقام بينة وبه فهل تسمع بينتهم ؟ على وجهين :

للسيد إصابة مدبرته
مسألة : قال : وله إصابة مدبرته
يعني له وطؤها روي عن ابن عمر أنه دبر أمتين وكان يطؤهما وممن رأى ذلك ابن عباس وسعيد بن مسيب و عطاء و الثوري و النخعي و مالك و الأوزاعي و الليث و الشافعي قال أحمد : لا أعلم أحدا كره ذلك غير الزهري وحكي عن الأوزاعي أنه كان يقول : إن كان يطؤها قبل تدبيرها فلا بأس بوطئها بعده وإن كان لا يطؤها قبله لم يطأها بعد تدبيرها
ولنا أنها مملوكته لم تشتر نفسها منه فحل له وطؤها لقول الله تعالى { أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } وكأم الولد

ابنة المدبرة كأمها في حل وطئها
فصل : وابنة المدبرة كأمها في حل وطئها إن لم يكن وطئ أمها وعنه ليس له وطؤها لأن حق الحرية ثبت لها تبعا أشبه ولد المكاتبة
ولنا أن ملك سيدها تام عليها فحل له وطؤها للآية وكأمها واستحقاقها للحرية لا يزيد على استحقاق أمها ولم يمنع ذلك وطأها وأما ولد المكاتبة فألحقت بأمها يحرم وطؤها فكذلك ابنتها وأم هذه يحل وطؤها فيجب إلحاقها بها وكلام أحمد محمول على أنه وطئ فحرمت عليه لذلك

في إنكار التدبير
مسألة قال : ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه إلا بشاهدين عدلين أو شاهد ويمين العبد
وجملته أن العبد إذا ادعى على سيده أنه دبره فدعواه صحيحة لأنه يدعي استحقاق العتق ويحتمل أن لا تصح الدعوى لأن السيد إذا أنكر التدبير كان بمنزلة إنكار الوصية وإنكار الوصية وإبكار الوصية رجوع عنها في أحد الوجهين فيكون إنكار التدبير رجوعا عنه والرجوع عنه يبطله في أحد الوجهين فتبطل الدعوى والصحيح أن الدعوى صحيحة لأن الصحيح أن الرجوع عن التدبير لا يبطله ولا أبطله فما ثبت كون الإنكار رجوعا ولو ثبت ذلك فلا يتعين الإنكار جوابا للدعوى فإنه يجوز أن يكون جوابها إقرارا فإذا ثبت هذا فإن السيد إن أقر فلا كلام وإن أنكر ولم تكن للعبد بينة فالقول قول المنكر مع يمينه لأن الأصل عدمه وإن كانت للعبد بينة حكم بها ويقبل فيه شاهدان عدلان بلا خلاف وإن لم يكن له إلا شاهد واحد وقال : أنا حلف معه أو شاهد وامرأتان ففيه روايتان :
إحداهما : لا يحكم به وهو مذهب الشافعي لأن الثابت به الحرية وكمال الأحكام وهذا ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه بالنكاح والطلاق والثانية : يثبت بذلك لأنه لفظ يزول به ملكه عن مملوكه فأشبه البيع وهذا أجود لأن البينة إنما تراد لإثبات الحكم على المشهود عليه وهي في حقه إزالة ملكه عن ماله فثبت بهذا وإن حصل به غرض آخر للمشهود له فلا يمنع ذلك من ثبوته بهذه البينة ولأن العتق مما يتشوف إليه ويبنى على التغليب والسراية فينبغي أن يسهل طريق إثباته وإن كان الاختلاف بين العبيد وورثه السيد بعد موته فهو كما لو كان الخلاف مع السيد إلا أن الدعوى صحيحة بغير خلاف لأنهم لا يملكون الرجوع وأيمانهم على نفي العلم لأن الخلاف في فعل موروثهم وأيمانهم على نفي فعله وتجب اليمين على كل واحد من الورثة ومن نكل منهم عتق نصيبه ولم يسر إلى باقيه وكذلك إن أقر لأن إعتاقه بفعل الموروث لا بفعل المقر ولا الناكل

في التدبير
مسألة : قال : وإذا دبر عبده ومات وله مال غائب أو دين موسرا أو معسر عتق من المدبر ثلثه وكلما اقتضى من دينه شيء أو حضر من ماله الغائب شيء عتق من المدبر مقدار ثلثه كذلك من يعتق الثلث حتى كله
وجملة ذلك أن السيد إذا أدبر عبده ومات وله مال سواه يفي بثلثي ماله إلا أنه غائب أو دين في ذمة إنسان لم يعتق جميع العبد لجواز أن يتلف الغائب أو يتعذر استيفاء الدين فيكون العبد جميع التركة هو شريك الورثة فيها له ثلثها ولهم ثلثاها فلا يجوز أن يحصل على جميعها ولكنه يتنجز عتق ثلثه ويبقى ثلثاه موقوفين لأن ثلثه حر على كل حال لأن أسوأ الأحوال أن لا يحصل من سائر المال شيء فيكون العبد جميع التركة فيعتق ثلثه كما لو لم يكن له مال سواه وكلما اقتضى من الدين شيء أو حضر من الغائب شيء عتق من المدبر قدر ثلثه فإذا كانت قيمته مائة وقدم من الغائب مائة عتق ثلثه الثاني فإذا قدمت مائة أخرى عتق ثلثه الباقي وإن بقي له دين بعد ذلك أو مال غائب لو يؤثر بقاؤه لأن الحاصل من المال يخرج المدبر كله من ثلثه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ولهم وجه آخر لا يعتق منه شيء حتى يستوفي من الدين شيء أو يقدم من الغائب شيء فيعتق من العبد قدر نصفه لأن الورثة لم يحصل لهم شيء والعبد شريكهم فلا يجوز أن يحصل على شيء ما لم يحصل لهم مثلاه فإن تلف الغائب ويئس من استيفاء الدين عتق ثلثه حينئذ وملكوا ثلثيه لأن العبد صار جميع التركة وهذا لا يصح لأن ثلث العبد خارج من الثلث يقينا وإنما الشك في الزيادة عليه وما خرج من الثلث يقينا يجب أن يكون يقينا حرا لأن التدبير صحيح ولا خلاف في انه ينفذ في الثلث ووقف هذا الثلث عن العتق مع يقين حصول العتق فيه ووجود المقتضي له وعدم الفائدة في وقفه لا معنى له وكون الورثة لم يحصل لهم شيء لمعنى اختص بهم لا يوجب أن لا يحصل له شيء مع عدم ذلك المعنى فيه إلا ترى أنه لو ابرأ غريمه من دينه وهو جميع التركة فإنه يبرأ من ثلثه ولم يحصل للورثة شيء ؟ ولو كان الدين مؤجلا فأبرأه منه برئ من ثلثه في الحال وتأخر استيفاء الثلثين إلى الأجل ولو كان الغريم معسرا برئ من ثلثه في الحال وتأخر الباقي إلى الميسرة ولأن تأخير عتق الثلث لا فائدة للورثة فيه ويفوت نفعه للمدبر فينبغي أن لا يثبت فإذا ثبت هذا فإن العبد إذا عتق كله بقدوم الغائب أو استيفاء الدين تبينا أنه كان حرا حين الموت فيكوم كسبه له إنما عتق بالتدبير ووجود الشرط الذي علق عليه السيد حريته وهو الموت وإنما وقفناه للشك في خروجه من الثلث فإذا زال الشك تبينا أنه كان حاصلا قبل زوال الشك وإن تلف المال تبينا أنه كان ثلثاه رقيقا ولم يعتق منه سوى ثلثه وإن تلف بعض المال رق من المدبر ما زاد على قدر ثلث الحاصل من المال
فصل : وإن كان المدبر عبدين وله دين يخرجان من ثلث المال على تقدير حصوله أقرعنا بينهما فيعتق ممن تخرج له القرعة قدر ثلثهما وكان باقيه والعبد الآخر موقوفا فإذا استوفى من الدين شيء كمل من عتق من وقعت له القرعة قدر ثلثه وما فضل عتق من الآخر كذلك حتى يعتقا جميعا أو مقدار الثلث منهما وإن تعذر استيفاء الدين لم يرد العتق قدر ثلثهما وإن خرج الذي وقعت له القرعة مستحقا بطل العتق فيه وعتق من الآخر ثلثه
فصل : وإذا دبر عبدا قيمته مائة وله مائة دينار عتق ثلثه ورق ثلثه ووقف ثلثه على استيفاء الثلث الباقي وإذا كانت له مائة حاضرة مع ذلك عتق من المدبر ثلثاه ووقف ثلثه على استيفاء الدين
فصل : وإن دبر عبده وقيمته مائة وله ابنان وله مائتان دينا على أحدهما عتق من المدبر ثلثاه لأن حصة الذي عليه الدين منه كالمستوفي ويسقط عن الذي عليه الدين منه نصفه لأنه قدر حصته من الميراث ويبقى الآخر عليه مائة كلما استوفى منها شيئا عتق قدر ثلثه وإن كانت المائتان دينا على الابنين بالسوية عتق المدبر كله لأن كل واحد منهما عليه قدر حقه وقد حصل ذلك بسقوطه من ذمته
فصل : فإن دبر عبدا قيمته مائة وخلف ابنين ومائتي درهم دينا له على أحدهما ووصى لرجل بثلث ماله عتق من المدبر ثلثه وسقط عن الغريم مائة وكان للموصى له سدس العبد وللبنين ثلثه ويبقى سدس العبد موقوفا لأن الحاصل من المال ثلثاه وهو العبد والمائة الساقطة عن الغريم وثلث ذلك مقسوم بين المدبر والوصي فحصة المدبر منه ثلثه يعتق في الحال ويبقى له السدس موقوفا فكلما اقتضى من المائة الباقية شيء عتق من المدبر قدر سدسه ويكون المستوفي بين الابنين والوصي أثلاثا فإذا استوفيت كلها حصل للابن ثلثاها وثلث العبد وهو قدر حقه وكمل في المدبر عتق نصفه وحصل للوصي سدس العبد وثلث المائة وهو قدر حقه وإن كان الدين على أجنبي لم يعتق من المدبر إلا سدسه لأن الحاصل من التركة هو العبد وثلثه بينه وبين الوصي الآخر وللوصي سدسه ولكل ابن سدسه ويبقى ثلثه موقوفا فكلما اقتضى من الدين شيء عتق من المدبر قدر سدسه وكان المستوفى بين الابنين والوصي أسداسا للوصي وسدسه ولهما خمسة أسداسه فيحصل لكل واحد نصف المائة وثلثها وسدس العبد وهو قدر حقه ويحصل للوصي سدس المائتين وسدس العبد وهو قدر حقه ويعتق من المدبر نصفه وهو قدر حقه
مسألة : قال : وإذا دبر قبل البلوغ كان تدبيره جائزا إذا كان له عشر سنين فصاعدا وكان يعرف الدبير وما قلته في الرجل فالمرأة مثله إذا كان لها تسع سنين فصاعدا
وجملته أن تدبير الصبي المميز ووصيته جائزة وهذا إحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي قال بعض أصحابه : هو أصح قوليه
وروي ذلك عن عمر و شريح و عبد الله بن عتبة وقال الحسن و أبو حنيفة : لا يصح تدبيره كالمجنون وهو الرواية الثانية عن مالك والقول الثاني للشافعي لأنه لا يصح إعتاقه فلم يصح تدبيره كالمجنون
ولنا ما روى سعيد عن هيثم عن يحي عن ابن سعيد عن أبي بكر بن محمد أن غلاما من الأنصار أوصى لأخوال له من غسان بأرض يقال لها بئر جشم قومت بثلاثين ألفا فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأجاز الوصية قال يحي بن سعيد : وكان الغلام ابن عشر سنين أو اثنتا عشرة سنة
وروي أن قوما سألوا عمر رضي الله عنه عن غلام من غسان يافع وصى لبنت عمه فأجاز عمر وصيته ولم نعرف له مخالفا ولأن صحة وصيته وتدبيره أحظ له بيقين لأنه ما دام باقيا لا يلزمه فإذا مات كان ذلك صلة وأجرا فصح كوصية المحجور عليه لسفه ويخالف العتق لأن فيه تفويت ماله عليه في حياته ووقت حاجته فما تقييد من يصح تدبيره بمن له عشر فلقول النبي صلى الله عليه و سلم [ اضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] وهو الذي ورد فيه الخبر عن عمر رضي الله عنه واعتبروا المرأة بتسع لقول عائشة رضي الله عنها : إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم مرفوعا ولأن السن الذي يمكن بلوغها فيه ويتعلق به أحكام سوى ذلك
فصل : ويصح منه الرجوع إن قلنا بصحة الرجوع من المكلف لأن من صحت وصيته صح رجوعه كالمكلف وإن أراد بيع المدبر قام وليه في بيعه مقامه وإن أذن له وليه في بيعه فباعه صح منه
فصل : ويصح تدبير المحجور عليه لسفه ووصيته لما ذكرنا في الصبي ولأن لا تصح وصية المجنون ولا تدبيره لأنه لا يصح شيء من تصرفاته وإن كان يجن يوما ويفيق يوما صح تدبيره في إفاقته
فصل : ويصح تدبير الكافر ذميا كان أو حربيا في دار الإسلام ودار الحرب لأنه له ملكا صحيحا فصح تصرفه فيه كالمسلم فإن قيل لو كان ملكه صحيحا لم يملك عليه بغير اختياره قلنا هذا لا ينافي الملك بدليل أنه يملك في النكاح ويملك زوجته عليه بغير اختياره ومن عليه الدين إذا امتنع من قضائه أخذ من ماله بقدر ما عليه بغير اختياره وحكم تدبيره حكم تدبير المسلم على ما ذكرنا فإن اسلم مدبر الكافر بإزالته ملكه عنه وأجبر عليه لئلا يبقى الكافر ملكا للمسلم كغير المدبر ويحتمل أن يترك في يد عدل وينفق عليه من كسبه فإن لم يكن له كسب أجبر سيده على الإنفاق عليه
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه بناء على بيع المدبر غير جائز ولان في بيعه إبطال سبب العتق وإزالة غرضيته فكان إبقاؤه أصلح فتعين كأم الولد فإن قلنا يبيعه فباعه بطل تدبيره وإن قلنا يترك في يد عدل فإنه يستنيب من يتولى استعماله استكسابه وينفق عليه من كسبه وما فضل فلسيده وإن لم يف بنفقته فالباقي على سيده وإم اتفق هو وسيده على المخارجه جاز وينفق على نفسه مما فضل من كسبه فإذا مات سيده عتق إن خرج من الثلث وإلا عتق منه بقدر الثلث وبيع الباقي على الورثة إن كانوا كفارا وإن اسلموا بعد الموت ترك وإن رجع سيده في تدبيره وقلنا بصحة الرجوع بيع عليه وإن كان المدبر كمستأمن وأراد أن يرجع به إلى دار الحرب ولم يكن اسلم لم يمنع من ذلك وإن كان قد اسلم منع منه لأننا نحول بينه وبينه في دار الإسلام فأولى أن يمنع من التمكن به في دار الحرب
مسألة : قال : وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره
إنما يبطل تدبيره بقتله سيده لمعنيين : أحدهما : أنه قصد استعجال العتق بالقتل المحرم فعوقب بنقيض قصده وهو إبطال التدبير كمنع الميراث بقتل الموروث ولأن العتق فائدة تحصل بالموت فتنفى بالقتل كالإرث والوصية والثاني : إن التدبير وصية فتبطل بالقتل كالوصية بالمال ولا يلزم على هذا عتق أم الولد لكونه آكد فإنها صارت بالاستيلاد بحال لا يمكن نقل الملك فيها بحال ولذلك لم يجز بيعها ولا هبتها ولا رهنها ولا الرجوع عن ذلك بالقول ولا غيره والإرث نوع من النقل فلو لم تعتق بموت سيدها لانتقل الملك فيها إلى الوارث ولا سبيل إليه بخلاف المدبر ولأن سبب حرية أم الولد الفعل والبعضية التي حصلت بينها وبين سيدها بواسطة ولدها وهذا أكد من القول ولهذا انعقد استيلاد المجنون ولم ينفذ إعتاقه ولا تدبيره وسرى حكم استيلاد المعسر إلى نصيب شريكه بخلاف الإعتاق وعتقت من رأس المال والتدبير لا ينفذ إلا في الثلث ولا يملك الغرماء إبطال عتقها وإن كان سيدها مفلسا بخلاف المدبر ولا يلزم من الحكم في موضع تأكد الحكم فيما دونه كما لم يلزم الحاقة به في هذه المواضع التي افترقا فيها إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون القتل عمدا أو خطا كما لا فرق بين ذلك في حرمان الإرث وإبطال وصية القاتل
فصل : فأما سائر جناياته غير قتل سيده فلا تبطل تدبيره ولكن إن كانت جناية موجبة للمال أو موجبة للقصاص فعفا الوالي إلى مال تعلق المال برقبته فمن جوز بيعه جعل سيده بالخيار بين تسليمه فيباع في الجناية وبين فدائه فإن سلمه في الجناية فبيع فيها بطل تدبيره وإن عاد إلى سيده عاد تدبيره وإن اختار فداءه وفداه بما يفدي به العبد فهو مدبر بحاله ومن لم يجز بيعه عين فداءه على سيده كأم الولد وإن كانت الجناية موجبة للقصاص فاقتص منه في النفس بطل تدبيره وإن اقتص منه في الطرف فهو مدبر بحاله وإذا مات سيده بعد جنايته وقبل استيفائها عتق على كل حال سواء كانت موجبة للمال أو القصاص لأن صفة العتق وجدت فيه فأشبه ما لو باشره به فإن كان الواجب قصاصا استوفى سواء كانت جنايته على عبد أو حر لأن القصاص قد استقر وجوبه عليه في حال رقه فلا يسقط بحدوث الحرية فيه وإن كان الواجب عليه مالا في رقبته فدي بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته وإن جنى على المدبر فأرش الجناية لسيده فإن كانت الجناية على نفسه وجبت قيمته لسيده وبطل التدبير بهلاكه فإن قيل فهلا جعلتم قيمته قائمة مقامه كالعبد المرهون الموقوف إذا جنى عليه ؟ قلنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه : أحدها : إن كل واحد من الوقف والرهن لازم فتعلق الحق ببدله والتدبير غير لازم لأنه يمكن إبطاله بالبيع وغيره فلم يتعلق الحق ببدله
الثاني : أن الحق في التدبير للمدبر فبطل حقه بفوات مستحقة والبدل لا يقوم مقامه في الاستحقاق والحق في الوقف للموقوف عليه وفي الرهن للمرتهن وهو باق فيثبت حقه في بدل محل حقه
الثالث : أن المدبر إنما ثبت حقه بوجود موت سيده فإن هلك قبل سيده فقد هلك قبل ثبوت الحق له فلم يكن له بدل بخلاف الرهن والوقف فإن الحق ثابت فيهما فقام بدلهما مقامهما وبين الرهن والمدبر فرق رابع وهو أن الواجب القيمة ولا يمكن وجود تدبير فيها ولا قيامها مقام المدبر فيه وإن أخذ عبدا مكانه فليس هو البدل إنما هو بدل القيمة بخلاف الرهن فإن القيمة يجوز أن تكون رهنا فإن قيل فهذا يلزم عليه الموقف فإنه إذا قتل أخذت قيمته فاشترى بها عبدا يكون وقفا مكانه قلنا قد حصل الفرق بين المدبر والرهن من الوجوه الثلاثة وكونه لا يحصل الفرق بينه وبين الوقف من هذا الوجه لا يمنع أن يحصل الفرق بينه وبين الرهن به
فصل : وإذا دبر السيد عبده ثم كاتبه جاز نص عليه أحمد وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والحسن ولفظ حديث أبي هريرة عن مجاهد قال : دبرت امرأة من قريش خادما لها ثم أرادت أن تكاتبه قال : فكنت الرسول إلى أبي هريرة فقال كاتبيه فإن أدى كتابته فذاك وإن حدث بك حدث عتق قال وأراده قال علي ما كان عليه له ولان التدبير إن كان عتقا بصفة لم يمنع الكتابة كالذي علق عتقه بدخول الدار وإن كان وصية لم يمنعها كما لو وصى بعتقه ثم كاتبه ولأن التدبير والكتابة سببان للعتق فلم يمنع أحدهما الآخر كتدبير المكاتب وذكر القاضي أن التدبير يبطل بالكتابة إذا قلنا هو وصية كما لو وصى به لرجل ثم كاتبه وهذا يخالف ظاهر كلام أحمد وهو غير صحيح في نفسه ويفارق التدبيرالوصية به لرجل لأن المقصود الكتابة والتدبير لا يتنافيان إذا كان المقصود منهما جميعا العتق فإذا اجتمعا كان لحصوله آكد لحصوله فإنه إذا فات عتقه من أحدهما حصل بالآخر وأيهما وجد قبل صاحبه حصل العتق به ومقصود الوصية به والكتابة يتنافيان لأن الكتابة تراد للعتق والوصية تراد لحصول الملك فيه للموصي له ولا يجتمعان إذا ثبت هذا فإنه إن أدى في حياة السيد صار حر بالكتابة وبطل التدبير وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير إن خرج من الثلث وبطلت الكتابة وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق وكان على الكتابة فيما بقي فإن أدى البعض ثم مات سيده عتق كله وسقط باقي الكتابة إن خرج من الثلث وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط مما بقي من الكتابة بقدر ثلث المال وأدى ما بقي

كتان المكاتب
الكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته مؤجلا سميت كتابة لأن السيد يكتب بينه وبينه كتابا بما اتفقا عليه وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضم لأن المكاتب يضم بعض النجوم إلى بعض ومنه سمي الخرز كتابا لأنه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه وقال الحريري :
( وكاتبين وما خطت أناملهم ... حرفا ولا قرأوا ما خط في الكتب )
وقال ذو الرمة في ذلك المعنى :
( وفراء عرفته أنأى خوارزها ... مشلشل صنعته بينها الكتب )
يصف قربة يسيل الماء من بين خرزها وسميت الكتيبة كتيبة لانضمام بعضها إلى بعض والمكاتب يضم بعض نجومه إلى بعض والنجوم ههنا الأوقات المختلفة لأن العرب كانت لا تعرف الحساب وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم كما قال بعضهم :
( ذا سهيل أو الليل طلع ... فابن اللبون الحق والحق جذع )
فسميت الأوقات نجوما والأصل في الكتاب والسنة والإجماع أما فقول الله تعالى { يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } وأما السنة فما روى سعيد عن سفيان والزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا كان لأحدكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه ] وروى سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أعان غارما أو غازيا أو مكاتبا في كتابته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله ] في أحاديث كثيرة سواهما الأمة على مشروعية الكتابة

حكم ما لو سأل العبد سيده مكاتبته
فصل : إذا سأل العبد سيده مكاتبته استجب له إجابته إذا علم فيه خيرا ولم يجب ذلك في ظاهر المذهب وهو قول عامة أهل العلم منهم الحسن و الشعبي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أنها واجبة إذا دعا العبد المكتسب الصدوق سيده إليها فعليه إجابته وهو قول عطاء و الضحاك و عمرو بن دينار و داود وقال إسحاق : أخشى أن يأثم إن لم يفعل ولا يجبر عليه ووجه ذلك قول الله تعالى { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } وظاهر الأمر الوجوب وروي ابن سيرين أبا محمد بن سيرين كان عبدا لأنس بن مالك فسأله أن يكاتبه فأبى فأخبر سيرين عمر بن الخطاب بذلك فرفع الدرة على أنس وقرأ عليه { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فكتابه أنس
ولنا أنه إعتاق بعوض فلم يجب كالاستسعاء والآية محمولة على الندب وقول عمر رضي الله عنه يخالف فعل أنس ولا خلاف بينهم في أن من لا خير فيه لا تجب أجابته قال أحمد صدق وصلاح ووفاء بمال الكتابة ونحو هذا قال إبراهيم و عمرو بن دينار وغيرهم وعبارتهم في ذلك مختلفة قال ابن عباس : غنى وإعطاء المال وقال مجاهد : غنى وأداء وقال النخعي : صدق ووفاء وقال عمرو بن دينار : مال وصلاح وقال الشافعي : قوة على الكسب وأمانة وهل تكره كتابة من لا كسب له أولا ؟ قال القاضي : ظاهر كلام أحمد كراهيته وكان ابن عمر رضي الله عنه يكرهه وهو قول مسروق و الأوزاعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يكره ولم يكرهه الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وطائفة من أهل العلم لأن جويرية بنت الحارث كاتبها ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم تستعينه في كتابتها فأدى عنها كتابتها وتزوجها واحتج ابن المنذر بأن بريرة كاتبت ولا حرفة لها ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم ووجه الأول ما ذكرنا في عتقه وينبغي أن ينظر في المكاتب فإن كان ممن يتضرر بالكتابة ويضيع لعجزه عن الإنفاق على نفسه ولا يجد من ينفق عليه كرهت كتابته وإن كان يجد من يكفيه مئونته لم تكره كتابته لحصول النفع بالحرية من غير ضرر فأما جويرية فأنها كانت ذات أهل ومال وكانت ابنة سيد قومه فإن عتقت رجعت إلى أهلها فأخلف الله لها خيرا من أهلها فتزوجت رسول الله صلى الله عليه و سلم وصارت إحدى أمهات المؤمنين وأعتق الناس ما كان بأيديهم من قومها حين بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوجها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يروا امرأة أعظم بركة على قومها منها وأما بريرة فإن كتابتها تدل على إباحة ذلك وأنه ليس بمنكر ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في كراهته وقال مسروق : إذا سأل العبد مولاه المكاتبة فإن كان له مكسبة أو كان له مال فليكاتبه وإن لم يكن له مال ولا مكسبه فليحسن ملكته ولا يكلفه إلا طاقته

لا تصح الكتابة إلا ممن يصح تصرفه
فصل : ولا تصح الكتابة إلا ممن يصح تصرفه فأما المجنون والطفل فلا تصح مكاتبتهما لرقيقهما ولا مكاتبة سيدهما لهما وأما الصبي المميز فإن كاتب عبده بإذن وليه صح ويحتمل أن لا يصح بناء على قولنا إنه لا يصح بيعه بإذن وليه ولأن هذا عقد إعتاق فلم يصح منه العتق بغير مال فأما إن لم يأذن وليه فلا يصح بحال وإن كان المميز سيده صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يصح فيهما جميعا بحال لأنه ليس بمكلف فأشبه المجنون
ولنا أنه يصح تصرفه وبيعه بأذن وليه فصحت منه الكتابة بذلك كالمكلف ودليل تصرفه قول الله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } والابتلاء الاختبار له بتفويض التصرف إليه ليعلم هل يقع منه وجه المصلحة أو لا ؟ وهل يغبن في بيعه وشرائه أو لا ؟ وإيجاب السيد لعبده المميز المكاتبة إذن له في قبولها إذا ثبت هذا فإن كان السيد المكاتب طفلا أو مجنونا فلا حكم لتصرفه ولا قوله وإن كاتب المكلف عبده الطفل أو المجنون لن يثبت لهذا التصرف حكم الكتابة الصحيحة ولا الفاسدة لأنه لا حكم لقولهما ولكن إن قال : إن أديتما إلى فأنتما حران فأديا عتق بالصفة لا بالكتابة وما في أيديهما لسيدهما وإن لم يقل ذلك لم يعتقا ذكره أبو بكر وقال القاضي : يعتقان وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة تتضمن معنى الصفة فيحصل العتق ههنا بالصفة المحضة كما لو قال : إن أديت إلي فأنت حر
ولنا أنه ليس بصفة صريحا ولا معنى وإنما هو عقد باطل فأشبه البيع الباطل

حكم لو كاتب الذمي عبده المسلم
فصل : وإذا كاتب الذمي عبده المسلم صح لأنه عقد معاوضة أو عتق بصفه وكلاهما يصح منه وإذا ترافعا إلى الحاكم بعد الكتابة نظر في العقد فإن كان موافقا للشرع أمضاه سواء ترافعا قبل إسلامهما أو بعده وإن كاتب كتابه فاسدة مثل كتابة فاسدة مثل أن يكون العوض خمرا أو خنزيرا أو غير ذلك من أنواع الفساد ففيه ثلاث مسائل :
إحداهما : أن يكونا قد تقايضا حال الكفر فتكون الكتابة ماضية والعتق حاصل لأن ما تم في حال الكفر لا ينقضه الحاكم ويحكم بالعتق سواء ترافعا قبل الإسلام أو بعده
الثانية : تقايضا بعد الإسلام ثم ترافعا إلى الحاكم فإنه يعتق أيضا لأن هذه كتابة فاسدة ويكون حكمها حكم الفاسدة المعقودة في الإسلام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
الثالثة : ترافعا قبل قبض العوض الفاسد أو قبض بعضه فإن الحاكم يرفع هذه الكتابة ويبطلها لأنها كتابة فاسدة لم يتصل بها قبض تنبرم به ولا فرق بين إسلامهما أو إسلام أحدهما فيما ذكرناه لأن التغليب لحكم الإسلام وقال أبو حنيفة : إذا كاتبه على خمر ثم أسلما لم يفسد العقد ويؤدي قيمة الخمر لأن الكتابة كالنكاح ولو أمهرها خمرا ثم اسلما بطل الخمر ولم يبطل النكاح
ولنا أن هذا عقد لو عقده المسلم كان فاسدا فإذا أسلم قبل التقايض أو أحدهما حكم بفساده كالبيع الفاسد ويفارق النكاح فإنه لو عقده المسلم بخمر كان صحيحا وإن سلم مكاتب الذمي لم تنفسخ الكتابة لأنها وقعت صحيحة ولا يجبر على إزالة ملكه لأنه خارج بالكتابة عن تصرف الكافر فيه فإن عجز أجبر على إزالة ملكه عنه حينئذ وإن اشترى مسلما فكاتبه لم تصح الكتابه لأن الشراء باطل ولم يثبت له به ملك وإن أسلم عبده فكاتبه بعد إسلامه لم تصح كتابته لأنه يلزمه إزالة ملكه عنه والكتابة لا تزال الملك فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وقال القاضي : له كتابته لأنه يخرج بها عن تصرف سيده فيه فإن عجز عاد رقيقا قنا وأجبر على إزالة ملكه عنه حينئذ

حكم ما لو كاتب الحربي عبده
فصل : وإن كاتب الحربي عبده صحت كتابته سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يصح لأن ملكه ناقص وحكى عن مالك أنه لا يملك بدليل أن للمسلم تملكه عليه
ولنا قول الله تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } وهذه الإضافة إليهم تقتضي صحة أملاكهم فتقتضي صحة تصرفاتهم فإذا ثبت هذا فإذا كاتب عبده ثم دخلا مستأمنين إلينا لم يتعرض الحاكم لهما وإن ترفعا إليه نظر بينهما فإن كانت كتابتهما صحيحة ألزمهما حكمها وإن كانت فاسدة بين لهما فسادها وإن جاءا وقد قهر أحدهما صاحبه بطلت الكتابة لأن العبد إن قهر سيده ملكه فبطلت كتابته لخروجه عن ملك سيده وإن قهره السيد على إبطال الكتابة ورده رقيقا بطلت لأن دار الكفر دار قهر وإباحة ولهذا لو قهر حر حرا على نفسه ملكه وإن دخلا من غير قهر فقهر أحدهما الآخر في دار الإسلام لم تبطل الكتابة وكانا على ما كانا عليه قبله لأن دار الإسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهرإلا بالحق وإن دخلا مستأمنين ثم أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا وإن أراد السيد الرجوع وأخذ المكاتب معه فأبى المكاتب الرجوع معه لم يجبر لأنه بالكتابة زال ملكه وسلطانه عنه وإنما له في ذمته حق ومن له في ذمة غيره حق لا يملك إجباره على السفر معه لأجله ويقال للسيد إن أردت الإقامة في دار الإسلام لتستوفي مال الكتابة فاعقد الذمة وأقم إن كانت مدتها طويلة وإن أردت توكيل
من يقبض لك نجوم الكتابة فافعل فإذا أدى نجوم الكتابه عتق ثم هو مخير إن أحب أن يقيم في دار الإسلام عقد على نفسه الذمة وإن أحب الرجوع لم يمنع وإن عجز وفسخ السيد كتابته عاد رقيقا ويرد إلى سيده والأمان له باق لأنه من مال سيده وسيده عقد الأمان لنفسه وماله فإذا إنتقض الأمان في نفسه بعوده لم ينتفض في ماله وإن كاتبه في دار الحرب فهرب ودخل إلينا بطلت الكتابة فإن ملكه زال عنه بقهره على نفسه فأشبه ما قهره على غيره من ماله وسواء جاءنا مسلما أو غير مسلم وإن جاءنا بإذن سيده فالكتابة بحالها لأنه لم يقهر سيده فإن دخل إلينا بأمان بإذن سيده ثم سبى المسلمون سيده وقتل انتقلت الكتابة إلى ورثته كما لو مات حتف أنفه وإن من عليه الإمام أو فاداه أو هرب فالكتابة بحالها وإن استرقه الإمام فالمكاتب موقوف إن عتق سيده فالكتابة بحالها وإن مات أو قتل فالمكاتب للمسلمين مبقي على ما بقي من كتابته يعتق بأدائه إليهم وولاؤه لهم وإن عجز فهو رقيق لهم وإن أراد المكاتب الأداء قبل عتق سيده وموته أدى إلى الحاكم أو إلى أمينة وكان المال المقبوض موقوفا على ما ذكرناه ويعتق المكاتب بالأداء وسيده رقيق لا يثبت له ولاء وقال أبو بكر :
يكون الولاء للمسلمين وقال القاضي : يكون موقوفا فإن عتق سيده فهو له وإن مات على رقة فهو للمسلمين وإن كان استرقاق سيده بعد عتق المكاتب وثبوت الولاء عليه فقال القاضي : يكون ولاؤه موقوفا فإن عتق السيد كان الولاء له وإن قتل أو مات على رقه بطل الولاء لأنه رقيق لا يورث فيبطل الولاء لعدم مستحقه وينبغي أن يكون للمسلمين لأن مال من لا وارث له للمسلمين فكذلك الولاء والله أعلم

حكم ما لو كاتب المرتد عبده
فصل : وإن كاتب المرتد عبده فعلى قول أبي بكر : الكتابة باطلة لأن ملكه زال بردته وعلى الظاهر من المذهب كتابته موقوفة إن اسلم تبينا أنها كانت صحيحة وإن قتل أو مات على ردته بطلت وإن أدى في ردته لم يحكم بعتقه ويكون موقوفا فإن أسلم سيده تبينا صحة الدفع إليه وعتقه وإن قتل أو مات على ردته فهو باطل والعبد رقيق وإن كاتبه وهو مسلم ثم ارتد وحجر عليه لم يكن للعبد الدفع إليه ويؤدي إلى الحاكم و يعتق بالأداء وإن دفع إلى المرتد كان موقوفا كما ذكرنا وإن كاتب المسلم عبده المرتد صحت كتابته لأنه يصح بيعه فإذا أدى عتق وإن أسلم فهو على كتابته

كتابة المريض صحيحة
فصل : وكتابة المريض صحيحة فإن كان مرض الموت اعتبر من ثلثه لأنه بيع ماله بماله فجرى مجرى الهبة وكذلك يثبت الولاء على المكاتب لكونه معتقا فإن خرج من الثلث كانت الكتابة لازمة وإن لم يخرج من الثلث لزمت الكتابة في قدر الثلث وسائره موقوف على إجازة الورثة فإن أجازت جازت وإن ردتها بطلت وهذا قول الشافعي وقال ابن الخطاب في رؤوس المسائل تجوز الكتابة من رأس المال لأنه عقد معاوضة أشبه البيع

حكم ما لو كاتب عبده أو أمته على أنجم
مسألة : قال : وإذا كاتب عبده أو أمته على أنجم فأديت الكتابة فقد صار العبد حرا وولاؤه لمكاتبه
في هذه المسألة ثلاث فصول :
الفصل الأول : إن ظاهر هذا الكلام أن الكتابة لا تصح حالة ولا تجوز إن مؤجلة منجمة وهو ظاهر المذهب وبه قال الشافعي و قال مالك و أبو حنيفة : تجوز حالة لأنه عقد على عين فإذا كان عوض في الذمة جاز أن يكون حالا كالبيع
ولنا أنه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم عقدوا الكتابة ولم ينقل عن واحد منهم أنه عقدها حالة ولو جاز ذلك لم يتفق جميعهم على تركه ولأن الكتابة عقد معاوضة يعجز عن أداء عوضها في الحال فكام من شرطه التأجيل كالسلم على أبي حنيفة ولأنها عقد معاوضه يلحقه الفسخ من شرطه ذكر العوض فإذا وقع على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض لم يصح كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند محله ويفارق البيع لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض لأن المشتري يملك المبيع والعبد لا يملك شيئا وما في يده لسيده وفي التنجيم حكمتان أحدهما : ترجع إلى المكاتب وهي التخفيف عليه لأن الأداء مفرقا أسهل ولهذا تقسط الديون على المعسرين عادة تخفيفا عليهم
والأخرى : للسيد وهي أن مدة الكتابة تطول غالبا فلو كانت على نجم واحد لم يظهر عجزه إلا في آخر المدة فإذا عجز عاد إلى الرق وفاتت منافعه في مدتة الكتابة كلها على السيد من غير نفع حصل له وإذا كانت منجمة نجوما فعجز عن النجم الأول فمدته يسيرة وإن عجز عما بعده فقد حصل للسيد نفع بما أخذه من النجوم قبل عجزه وإذا ثبت هذا فأقله نجمان فصاعدا وهذا مذهب الشافعي
ونقل عن أحمد أنه قال : من الناس من يقول نجم واحد ومنهم من يقول نجمان ونجمان أحب إلى وهذا يحتمل أن يكون معناه إني أذهب إلى أن لا يجوز إلا نجمان ويحتمل أن يكون المستحب نجمين ويجوز نجم واحد
قال ابن أبي موسى : وهذا على طريق الاختيار وان جعل المال كله في نجم واحد جاز لأنه عقد يشترط فيه التأجيل فجاز أن يكون إلى أجل واحد كالسلم ولأن اعتبار التأجيل ليتمكن من تسليم العوض وهذا يحصل بنجم واحد
ووجه الأول ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني وهذا يقتضي أن هذا أقل ما تجوز عليه الكتابة لأن أكثر من نجمين يجوز بالإجماع
وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه غضب على عبد له فقال : لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين ولو كان يجوز أقل من هذا لعاقبه به في الظاهر
وفي حديث بريرة أنها أتت عائشة رضي الله عنها فقالت : يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولأن الكتابة مشتقة من الضم وهو ضم نجم إلى نجم فدل ذلك على افتقارها إلى نجمين والأول أقيس ولا بد أن تكون النجوم معلومة ويعلم في كل نجم قدر ما يؤديه ولا يشترط تساوي النجوم ولا قدر المؤدى في كل نجم فإذا قال : كاتبتك على ألف إلى عشر سنين تؤدى عند انقضاء كل سنة مائة أو قال تؤدي منها مائة عند انقضاء خمس سنين وباقيها عند تمام العشرة أو قال تؤدى في آخر العام الأول مائة وتسعمائة عند انقضاء السنة العاشرة فكل هذا جائز وإن قال : تؤدى في كل عام مائة جاز ويكون أجل كل مائة عند انقضاء السنة وظاهر قول القاضي وأصحاب الشافعي أنه لا يصح لأنه لم يتبين وقت الأداء من العام
ولنا أن بريرة قالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية ولأن الأجل إذا علق بمدة تعلق بأحد طرفيها فإن كان بحرف إلى تعلق بأولها كقوله إلى شهر رمضان وإن كان بحرف في كان إلى آخرها لأنه جعل جميعها وقتا لأدائها فإذا أدى في آخرها كان مؤديا لها في وقتها فلم يتعين عليه الأداء قبله كتأدية الصلاة في آخر وقتها فإن قال يؤديها في عشر سنين أو إلى عشر سنين لم يجز لأنه نجم واحد ومن أجاز الكتابة على نجم واحد أجازه وإن قال : يؤدي بعضها في نصف المدة وباقيها في آخرها لم يجز لأن البعض مجهول يقع على القليل والكثير
الفصل الثاني : أنه إذا كاتبه على أنجم مدة معلومة صحت الكتابة وعتق بأدائها سواء نوى بالكتابة الحرية أو لم ينوي وسواء قال : إذا أديت إلي فأنت حر أو لم يقل وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي : لا يعتق حتى يقول : إذا أديت إلي فأنت حر وينوي بالكتابة الحرية ويحتمل في مذهبنا مثل ذلك لأن الكتابة يحتمل المخارجة ويحتمل العتق بالأداء فلابد من تمييز أحدهما عن الآخر ككنايات العتق
ولنا أن الحرية موجب عقد الكتابة فتثبت عند تمامه كسائر أحكامه ولأن الكتابة عقد وضع للعتق فلن يحتج إلا لفظ العتق ولا نيته كالتدبير ما ذكروه من استعمال الكتابة في المخارجة إن ثبت فليس بمشهور فلم يمنع وقوع الحرية به كسائر الألفاظ الصريحة على أن الفظ المحتمل ينصرف بالقرائن إلى أحد محتمليه كلفظ التدبير في معاشه أو غير ذلك وهو صريح في الحرية فهاهنا أولى
الفصل الثالث : أنه لا يعتق قبلا أداء جميع الكتابة قال أحمد في عبد بين رجلين كاتباه على ألف فأدى تسع مائة ثم أعتق أحدهما نصيبه ؟ قال : لا يعتق إلا نصف المائة
وقد روي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وعائشة و سعيد بن المسيب و الزهري أنهم قالوا : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم رواه عنهم الأثرم وبهذا قال القاسم و سالم و سليمان بن يسار و عطاء و قتادة و الثوري و ابن شبرمه و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أم سلمة
وروى سعيد بإسناده عن أبي قلابة قال : كن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لا يحتجبن من مكاتب ما بقي عليه دينار وبإسناده عن عطاء أن ابن عمر كاتب غلاما على ألف دينار فأدى إليه تسع مائة دينار وعجز عن مائة دينار فرده ابن عمر في الرق وذكر أبو بكر والقاضي و أبو الخطاب أنه إذا أدى ثلاثة أرباع الكتابة وعجز عن ربعها عتق لأنه يجب رده إليه فلا يرد إلى الرق بعجزه عنه لأنه عجز عن أداء حق هو له لا حق للسيد فلا معنا لتعجيزه فيما يجب رده إليه وقال علي رضي الله عنه : يعتق منه بقدر ما أدى لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراث ورث بحساب ما عتق منه ويؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنه إذا أدى الشرط فلا رق عليه وروي ذلك عن النخعي وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذا أدى قدر قيمته فهو غريم وقضى به شريح وقال الحسن في المكاتب : إذا عجز استسعى بعد العجز سنتين
ولنا ما روى سعيد ثنا هشيم عن حجاج عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال [ أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق ] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] رواه أبو داود ولأنه عوض عن المكاتب فلا يعتق قبل أدائه كالقدر المتفق عليه ولأنه لو أعتق بعضه لسرى إلى باقيه كما لو باشره بالعتق فإن العتق لا يتبعض في الملك فأما حديث ابن عباس فمحمول على المكاتب لرجل مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بكتابته وأنكر الآخر فادى إلى المقر أو ما أشبهها من الصور جمعا بين الأخبار وتوفيقا بينهما وبين القياس ولأن قول لنبي صلى الله عليه و سلم [ إذا كان لأحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه ] دليل على اعتبار جميع ما يؤدي ويجوز أن يتوقف العتق على أداء الجميع وإن جاز رد بعضه إليه كما لو قال : إذا أديت إلي ألفا فأنت حر لله على رد ربعها إليك فإنه لا يعتق قبل أداء جميعها وإن وجب عليه رد بعضها

فيما تجوز الكتابة عليه
فصل : وتجوز الكتابة على كل مال يجوز السلم فيه لأنه مال يثبت في الذمة مؤجلا في معاوضة فجاز ذلك فيه كعقد السلم فإن كان من الأثمان وكان في بلد نقد واحد جاز إطلاقه لأنه ينصرف بالإطلاق إليه فجاز ذلك فيه كالبيع وإن كان فيه نقود أحدها أغلب في الاستعمال جاز الإطلاق أيضا وانصرف إليه عند الإطلاق كما لو انفرد وإن كانت مختلفة متساوية في الاستعمال وجب بيانه بجنسه وما يتميز به من غيره من النقود وإن كان من غير الأثمان وجب وصفه بما يوصف به في السلم وما لا يصح في السلم فيه لا يجوز أن يكون عوضا في الكتابة لأنه عقد معاوضة يثبت عوضه في الذمة فلم يجز بعوض مجهول كالسلم فإن كاتبه على عبد مطلق لم يصح ذكره أبو بكر وهو قول الشافعي وذكر القاضي فيه وجهين أحدهما : لا يجوز والآخر : يجوز وهو قول أبي حنيفة و مالك لأن العتق معنى لا يلحقه الفسخ فجاز أن يكون الحيوان المطلق عوضا فيه كالعقل
ولنا أن ما لا يجوز أن يكون عوضا في البيع والإجازة لا يجوز أن يكون عوضا في الكتابة كالثوب المطلق ويفارق العقل لأنه بدل عن متلف مقدر في الشرع وههنا عوض في عقد فأشبه البيع ولأن الحيوان الواجب في العقل ليس بحيوان مطلق بل هو مقيد بجنسه وسنه فلم يصح الإلحاق به ولأن الحيوان المطلق لا تجوز الكتابة عليه بغير خلاف بين الناس فيما علمناه وإنما الخلاف في العبد المطلق ولم يرد به الشرع بدلا في موضع علمناه إذا ثبت هذا فإن من صحح الكتابة به أوجب له عبدا وسطا وهو السندي ويكون وسطا من السنديين في قيمته كقولنا في الصداق ولا تصح الكتابة على حيوان مطلق غير العبد فيما علمناه ولا على ثوب ولا دار ولذلك لا تجوز على ثوب من ثيابه ولا عمامة من عمائمه ولا غير ذلك من المجهولات وإن وصف ذلك بأوصاف المسلم صح وممن أجاز الكتابة على العبيد الحسن و سعيد بن جبير و النخعي و الزهري و ابن سيرين و مالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي برزة وحفصة رضي الله عنهما

تصح الكتابة على خدمة ومنفعة مباحة وحكم ذلك
فصل : وتصح الكتابة على خدمة ومنفعة مباحة لأنها أحد العوضين في الإجازة فجاز أن تكون عوضا في الكتابة كالأثمان ويشترط العلم بها كما يشترط في الإجازة فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار صح ولا يحتاج إلى ذكر الشهر وكونه عقيب العقد لأنه إطلاقه يقتضي ذلك وإن عين الشهر لوقت لا يتصل بالعقد مثل أن يكاتبه في المحرم على خدمته في رجب ودينار صح أيضا كما يجوز أن يؤجره دار شهر رجب في المحرم وقال أصحاب الشافعي : لا يجوز على شهر لا يتصل بالعقد ويشترطون ذكر ذلك ولا يجوزون إطلاقه بناء على قولهم في الإجازة وقد سبق ذكر الخلاف فيه في باب الإجازة ويشترط كون الدينار المذكور مؤجلا لأن الأجل شرط في عقد الكتابة فإن جعل محل الدينار بعد الشهر بيوم أو أكثر صح بغير خلاف نعلمه وإن جعل محله في الشهر أو بعد انقضائه صح أيضا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال القاضي : لا يصح لأنه يكون نجما واحدا وهذا لا يصح لأن الخدمة كلها لا تكون في وقت محل الدينار وإنما يوجد جزء منها يسير مقاربا له وسائرها فيما سواه ولأن الخدمة بمنزلة العوض الحاصل في ابتداء مدتها ولهذا يستحق عوضها جميعه عند العقد فيكون محلها غير محل الدينار وإنما جازت حالة لأن المنع من الحلول في غيرها لأجل العجز عنه في الحال وهذا غير موجود في الخدمة فجازت حاله وإن جعل محل الدينار قبل الخدمة وكانت الخدمة غير متصلة بالعقد بحيث يكون الدينار مؤجلا والخدمة بعده جاز وإن كانت الخدمة متصلة بالعقد لم يتصور كون الدينار قبله ولم تجز في أوله لأنه حالا ومن شرط التأجيل
فصل : وإن كاتبه على خدمة مفردة في مدة واحدة مثل أن كتابه على خدمة شهر معين أو سنة معينة فحكمه حكم الكتابة على نجم واحد على ما مضى من القول فيه ويحتمل أن يكون كالكتابة على أنجم لأن الخدمة تستوفي بأوقات متفرقة بخلاف المال فإن جعله على شهر بعد شهر كأن كاتبه في أول المحرم على خدمة فيه وفي رجب صح لأنه على نجمين وإن كاتبه على منفعة في الذمة معلومة كخياطة ثياب عينها أو بناء حائط وصفه صح أيضا إذا كاتبه على نجمين وإن قال : كاتبتك على أن تخدمني هذا الشهر وخياطة كذا عقيب الشهر صح في قول الجميع وإن قال على أن تخدمني شهرا من وقتي هذا وشهرا عقيب هذا الشهر صح أيضا وعند الشافعي لا يصح
ولنا انه كاتبه على نجمين فصح كالتي قبلها

إذا كاتب العبد وله مال فماله لسيده وولاؤه لسيده
فصل : وإذا كاتب العبد وله مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المكاتب وإن كانت له سرية أو ولد فهو لسيده وبهذا قال الثوري و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي وقال الحسن و عطاء و النخعي و سليمان بن موسى و عمرو بن دينار و مالك و ابن أبي ليلى في المكاتب : ماله له ووافقنا عطاء و سليمان بن موسى و النخعي و عمرو بن دينار و مالك في الولد واحتج لهم بما روى عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد ]
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] متفق عليه والكتابة بيع ولأنه باعه نفسه فلم يدخل معه غيره كولده وأقاربه ولأنه هو وماله كانا لسيده فإذا وقع العقد على أحدهما بقي الآخر على ما كان عليه كما لو باعه لأجنبي وحديثهم ضعيف قد ذكرنا ضعفه
المسألة : قال : وولاؤه لمكاتبه
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن ولاء المكاتب لسيده إذا أدى إليه وبه يقول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأن الكتابة إنعام وإعتاق له لأن كسبه كان لسيده بحكم ملكه إياه فرضي به عوضا عنه وأعتق رقبته عن منفعته المستحقة له بحكم الأصل فكان معتقا له منعما عليه فاستحق ولاءه لقوله صلى الله عليه و سلم [ الولاء لمن أعتق ] وفي حديث بريرة أنها قالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فقالت عائشة : إن شاء أهلكك أن أعدها لهم عدة واحد ويكون ولاؤك لي فعلت فرجعت بريرة إلى أهلها فذكرت ذلك لهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم وهذا يدل على ثبوت الولاء على المكاتب لسيده كان متقررا عندهم والله أعلم

إعطاء المكاتب
مسألة : قال : ويعطى مما كوتب علبيه الربع لقوله الله تعالى { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم }
الكلام في الإيتاء في خمسة فصول : وجوبه وقدره جنسه ووقت جوازه ووقت وجوبه
الفصل الأول : فإنه يجب على السيد إتيان المكاتب شيئا مما كوتب عليه روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي و إسحاق وقال بريدة و الحسن و النخعي و الثوري و مالك و أبو حنيفة ليس بواجب لأنه عقد معاوضة فلا يجب فيه الإيتاء كسائر عقود المعاوضات
ولنا قول الله تعالى { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } وظاهر الأمر الوجوب وقال علي رضي الله عنه في تفسيرها : ضعوا عنهم ربع مال الكتابة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئا وتخالف الكتابة سائر العقود فإن القصد بها الرفق بالعقد بخلاف غيرها ولأن الكتابة يستحق بها الولاء على العبد مع المعاوضة فلذلك يجب أن يستحق العبد على السيد شيئا فإن قيل المراد بالإتياء إعطاؤه سهما من الصدقة أو الندب إلى التصدق عليه وليس ذلك بواجب بدليل أن العقد يوجب العوض عليه فكيف يقتضي إسقاط شيء منه ؟ قلنا : أما الأول فإن عليا وابن عباس رضي الله عنهما فسراه بما ذكرناه وهما أعلم بتأويل القرآن وحمل عنه الأمر على الندب يخالف مقتضى الأمر فلا يصار إليه إلا بدليل وقولهم إن العقد يوجب عليه فلا يسقط عنه قلنا إنما يجب للرفق به عند آخر كتابته مواساة له وشكرا لنعمه الله تعالى كما تجب الزكاة مواساة من النعم التي أنعم الله تعالى بها على عبده ولأن العبد وولي جمع هذا المال وتعب فيه فاقتضى الحال لمواساته منه كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإطعامه من الطعام الذي ولي حره ودخانه واختص هذا بالوجوب لأن فيه معونة على
العتق وإعانة لمن يحق على الله تعالى عونه فإن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله ليه وسلم [ ثلاثة حق على الله تعالى عونهم : المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن
الفصل الثاني : في قدره وهو الربع ذكره الخرقي و أبو بكر وغيرهما من أصحابنا وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وقال قتادة العشر وقال الشافعي و ابن منذر : يجزئ ما يقع عليه الاسم وهو قول مالك إلا أنه عنده مستحب لقول الله تعالى { من مال الله الذي آتاكم } و ( من ) للتبعيض والقليل بعض فيكتفي به وقال ابن عباس : وضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئا ولأنه قد ثبت أن المكاتب لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة بما ذكرنا من الأخبار ولو وجب إيتاؤه الربع لوجب أن يعتق إذا أدى ثلاثة أرباع الكتابة ولا يجب عليه أداء مال يجب رده إليه وروي عن ابن عمر أنه كاتب عبدا له خمسة وثلاثين ألفا فأخذ منه ثلاثين وترك له خمسة
ولنا ما روى أبو بكر بإسناده عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } فقال ربع الكتابة وروي موقوفا على علي ولأنه مال يجب إيتاؤه مواساة بالشرع فكان مقدورا كالزكاة ولأن حكمة إيجابه الرفق بالمكاتب وإعانته على تحصيل العتق وهذا لا يحصل باليسير الذي هو أقل ما يقع عليه الاسم فلم يجز أن يكون هو الواجب وقول الله تعالى { وآتوهم من مال الله } وإن ورد غير مقدر فإن السنة تبينه وتبين قدره كالزكاة
الفصل الثالث : في جنسه إن قبض مال الكتابة تم إعطاؤه منه جاز لأن الله تعالى أمر بالإيتاء منه وإن وضع عنه مما وجب عليه جاز لأن الصحابة رضي الله عنهم فسروا الإيتاء بذلك ولأنه ابلغ في النفع وأعون على حصول العتق فيكون أفضل من اليتاء وتحصل دلالة الآية عليه من طريق التنبيه وإن أعطاه من جنس مال الكتابة من غيره جاز ويحتمل أن لا يلزم المكاتب قبوله وهو ظاهر كلام الشافعي لأن الله تعالى أمر بالإيتاء منه
ولنا أنه لا فرق في المعنى بين الإيتاء منه وبين الإيتاء من غيره إذا كان من جنسه فوجب أن يتساويا في الإجزاء وغير المنصوص إذا كان في معناه ألحق به وكذلك جاز الحط وليس هو بإيتاء لما كان في معناه وإن آتاه من غير جنسه مثل أن يكاتبه على دراهم فيعطيه دنانير أو عروضا لم يلزمه قبوله لأنه لم يؤته منه ولا من جنسه ويحتمل الجواز لأن الرفق به ويحصل به
الفصل الرابع في وقت جواز وهو من حين العقد لقول الله تعالى { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم } وذلك يحتاج إليه من حين العقد وكلما عجله كان أفضل لأنه يكون أنفع كالزكاة
الفصل الخامس : في وقت جوازه وهو من حين العتق لأن الله تعالى أمر بإيتائه من المال الذي أتاه وإذا أتا المال عتق فيجب إتاؤه حين أذن قال علي رضي الله عنه : الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني فإن مات السيد قبل إيتاءه فهو دين في تركته لأنه حق واجب فهو كسائر ديونه وإن ضاقت التركة عنه وعن غيره من الديون تحاصوا في التركه بقدر حقوقهم ويقدم ذلك على الوصايا لأنه دين وقد قضى النبي صلى الله عليه و سلم أن الدين قبل الوصية والله الموفق

فيما لو عجلت الكتابة قبل محلها
مسألة : قال : وإن عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الأخذ وعتق من وقته في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى إذا ملك ما يؤدي وقد صار حرا الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : فيما إذا عجل المكاتب الكتابة قبل محلها فالمنصوص عن أحمد أنه يلزم قبولها ويعتق المكاتب وذكر أبو بكر في رواية أخرى أنه لا يلزم قبول المال إلا عند نجومه لأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له ولم يرضى في زواله فلم يزل كما لو علق عتقه على شرط لم يعتق قبله والصحيح في المذهب الأول وهو مذهب الشافعي إلا أن القاضي قال : أطلق احمد و الخرقي هذا القول وهو مقيد بما لا ضرر في قبضه قبل محله كالذي لا يفسد ولا يختلف قديمه وحديثه ولا يحتاج إلا مؤنه في حفظه ولا يدفعه في حال خوف يخاف ذهابه فإن أختل أحد هذه الأمور لم يلزم قبضه مثل أن يكون مما يفسد كالعنب والرطب والبطيخ أو يخاف تلفه كالحيوان فإنه ربما تلف قبل المحل ففاته مقصودة وإن كان مما يكون حديثه خيرا من قديمه لم يلزمه أيضا أخذه لأنه ينقص إلى حين الحلول وإن كان مما يحتاج إلى مخزن كالطعام والقطن لم يلزمه أيضا لأنه يحتاج في إبقائه إلى وقت المحل إلى موته فيتضرر بها ولو كان غير هذا إلا أن البلد مخوف يخاف نهبه لم يلزمه أخذه لأن في أخذه ضررا لم يرض بالتزامه وكذلك لو سلمه إليه في طريق مخوف أو موضع يتضرر بقبضه فيه لم يلزمه قبضه ولم يعتق المكاتب ببذله
قال القاضي : والمذهب عندي أن في قبضه تفصيلا على حسب ما ذكرناه في السلم ولأنه لا يلزم الإنسان التزام ضرر لم يقتضيه العقد ولا رضي بالتزامه وأما ما لا ضرر في قبضه فإذا عجله لزم السيد أخذه وذكر أبو بكر أنه يلزمه قبوله من غير تفصيل اعتمادا على إطلاق أحمد القول في لك وهو ظاهر إطلاق الخرقي لما روى الأثرم بإسناده عن أبي بكر بن حزم أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إني كاتبت على كذا وكذا وإني أيسرت بالمال فأتيته به فزعم أنه لا يأخذه إلا نجوما فقال عمر رضي الله عنه يا يرفا خذ هذا المال فاجعله في بيت المال وأد إليه نجومافي كل عام وقد عتق هذا فلما رأى ذلك سيده أخذ المال وعن عثمان بنحو هذا
ورواه سعيد بن منصور في سننه عن عمر وعثمان جميعا قال : حدثنا هشيم عن ابن عوف عن محمد بن سيرين أن عثمان قضى بذلك ولأن الأجل حق لمن عليه الدين فإذا قدمه فقد رضي بإسقاطه حقه فسقط كسائر الحقوق فإن قيل إذا علق عتق عبده فعل في وقت ففعله في غيره لم يعتق فكذلك إذا قال إذا أديت إلى ألفا في رمضان فأداه في شعبان لم يعتق قلنا تلك الصفة مجردة لا يعتق إلا بوجودها والكتابة معاوضة يبرأ فيها بأداء العوض فافترقا وكذلك لو أبرأه من العوض في المكاتبة عتق ولو أبرأه من المال في الصفة المجردة لم يعتق والأولى إن شاء الله ما قاله القاضي في أن ما كان في قبضه ضرر لم يلزمه قبضه ولم يعتق ببذله لما ذكره من الضرر الذي لم يقتضيه العقد وخبر عمر رضي الله عنه لا دلاله فيه على وجوب قبض ما فيه ضرر ولأن أصحابنا قالوا : لو لقيه في بلد آخر فدفع إليه نجوم الكتابة أو بعضها فامتنع من أخذها لضرر فيه من خوف أو مؤنه حمل لم يلزمه قبوله لما عليه من الضرر فيه وإن لم يكن فيه ضرر لزمه قبضه كذا هاهنا وكلام أحمد رحمه الله محمول على ما إذا لم يكن في قبضه ضرر وكذلك قول الخرقي و أبي بكر
فصل : إذا أحضر المكاتب مال الكتابة أو بعضه ليسلمه فقال السيد : هذا حرام أو غصب لا أقبله منك سئل العبد عن ذلك فإن اقر به لم يلزم السيد قبوله لأنه لا يلزمه أخذ المحرم ولا يجوز له وإن أنكر وكانت للسيد بينة بدعواه لم يلزمه قبوله وتسمع بينته لأن له حقا في أن لا يقتضي دينه من حرام ولا يأمن من أن يرجع صاحبه عليه به وإن لم تكن له بينة فالقول قول العبد مع يمينه فإن نكل عن اليمين لم يلزم السيد قبوله أيضا وإن حلف قيل للسيد إما أن تقبضه وإما أن تبرئه ليعتق فإن قبضه وكان تمام كتابته عتق ثم ينظر فإن ادعى أنه حرام مطلقا لم يمنع منه لأنه لا يقر به لأحد وإنما تحريمه فيما بينه وبين الله تعالى وإن ادعى أنه غصبه من فلان لزمه دفعه إليه إن ادعاه لأن قوله وإن لم يقبل في حق المكاتب فإنه يقبل في حق نفسه كما لو قال رجل لعبد في يد غيره هذا حر وأنكر ذلك من العبد في يده يقبل قوله عليه فإن انتقل إليه بسبب من الأسباب لزمته حريته وإن أبرأه من مال الكتابة حين امتنع المكاتب من قبضه لم يلزمه قبضه لأنه لم يبق له عليه حق وإن لم يبرئه ولم يقبضه كان له دفع ذلك إلى الحاكم ويطالبه بقبضه فينوب الحاكم في قبضه عنه ويعتق العبد كما
رويناه عن عمر وعثمان في قبضهما مال الكتابة حين امتنع المكاتب من قبضه
فصل : وإذا كاتبه على جنس لم يلزمه قبض غيره فلو كاتبه على دنانير لم يلزمه قبض دراهم ولا عرض وإن كاتبه على دراهم لم يلزمه أخذ الدنانير ولا العروض ولإن كاتبه على عرض موصوف لم يلزمه قبض غيره وإن كاتبه على نقد وأعطاه من جنسه خيرا منه وكان ينفق فيما ينفق فيه الذي كاتبه عليه لزمه أخذه لأنه زاده خيرا وإن كان لا ينفق في بعض البلدان التي ينفق فيها ما كاتبه عليه لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه ضررا
الفصل الثاني : إذا ملك ما يؤدي فالصحيح أنه لا يعتق حتى يؤدي روي ذلك عن عمر وابنه وزيد وعائشة رضى الله عنهم فإنهم قالوا : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وهو قول أكثر أهل العلم وعن أحمد رضي الله عنه رواية أخرى أنه إذا ملك ما يؤدي عتق لما روى سعيد قال : حدثنا سفيان عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا كان لأحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه ] ورواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح فأمرهن بالحجاب بمجرد ملكه لما يؤديه ولأنه مالك لوفاء مال الكتابة أشبه ما لو أداه فعلى هذه الرواية يصير حرا بملك الوفاء فمتى امتنع منه أجبره الحاكم عليه وإن هلك ما في يديه قبل الأداء صار دينا في ذمته وقد صار حرا ووجه الرواية الأولى ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] وقوله [ أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد ] رواه سعيد وفي رواية [ من كاتب عبده على مائة أوقية فاداها إلا عشر أواق أو قال عشرة
دراهم ثم عجز فهو رقيق ] ورواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب ولأنه عتق علق بعوضه فلم يعتق قبل أدائه كما لو قال : إذا أديت إلي ألفا فأنت حر فعلى هذه الرواية إن أدى عتق وإن لو يؤد لم يعتق فإن امتنع من الأداء فقال أبو بكر : يؤديه الإمام منه ولا يكون ذلك عجزا ولا يملك السيد الفسخ وهو قول أبي حنيفة ويحتمل كلام الخرقي أنه لم يؤد عجزه السيد إن أحب فإنه قال : إذا لم يؤد نجما حتى حل نجم آخر عجزه السيد إن أحب وعاد عبدا غير مكاتب ونحوه قال الشافعي فإنه قال : إن شاء عجز نفسه وامتنع من الأداء ووجه أن العبد لا يجبر على اكتساب ما يؤديه في الكتابة فلا يجبر على الأداء كسائر العقود الجائزة ووجه الأول أنه يثبت للعقد استحقاق الحرية بملك ما يؤدي فلم يملك إبطالها كما لو أدى فإنه تلف المال قبل أدائه جاز بعجزه واسترقاقه وجها واحدا

حكم ما لو مات وأدى بعض كتابته وفي يده وفاء وفضل
مسألة : قال وإذا أدى بعض كتابته ومات وفي يده وفاء وفضل فهو لسيده إحدى الروايتين والأخرى لسيده بقية كتابته والباقي لورثته
يحتمل أن هذه المسألة مبنية على ما قبلها فإذا قلنا إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد مات رقيقا فانفسخت الكتابة بموته وكان ما في يده لسيده وإن قلنا إنه عتق بملك ما يؤدي فقد مات حرا وعليه لسيده بقيه كتابته لأنه دين له عليه والباقي لورثته
قال القاضي : الأصح أنه تنفسخ الكتابة بموته وبموت عبدا وما في يده لسيده رواه الأثرم بإسناده عن عمر وزيد والزهري وبه قال إبراهيم وعمر بن عبد العزيز و قتادة و الشافعي لما ذكرناه في التي قبلها ولأنه مات قبل أداء مال الكتابة فوجب أن تنفسخ كما لو لم يكن له مال ولأنه عتق علق بشرط مطلق فينقطع بالموت كما لو قال : إذا أديت إلى ألفا فأنت حر
والرواية الثانية : يعتق ويموت حرا ولسيده بقية كتابته وما فضل لورثته روي ذلك عن علي وابن مسعود ومعاوية وبه قال عطاء و الحسن و طاوس و شريح و النخعي و الثوري و الحسن بن صالح و مالك و إسحاق وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة قال : يكون حرا في آخر جزء من حياته وهذا قول القاضي ووجه هذه الرواية ما قدمناه في التي قبلها ولأنها معاوضة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا تنفسخ بموت الآخر كالبيع ولأن العبد أحد من تمت به الكتابة فلم تنفسخ بموته كالسيد والأولى أولى وتفارق الكتابة البيع لأن كل واحد من المتعاقدين غير معقود عليه ولا يتعلق العقد بعينه فلم ينفسخ يتلفه والمكاتب هو المعقود عليه والعقد يتعلق بعينه فإذا تلف قبل تمام الأداء انفسخ العقد كما لو تلف المبيع قبل قبضه ولأنه مات قبل وجود شرط حريته ويتعذر وجوده بعد موته

حكم ما لو مات ولم يخلف وفاء
فصل : وإذا مات ولم يخلف وفاء فلا خلاف في المذهب أن الكتابة تنفسخ بموته ويموت عبدا وما في يده لسيده وهو قول أهل الفتوى من أئمة الأمصار إلا أن يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة عند أبي بكر والقاضي ومن وافقهما فإنه يموت حرا في مقتضى قولهم
وقال مالك : إن كان له ولد حر انفسخت الكتابة وإن كان له مملوك في كتابته أجبر على دفع المال كله إن كان له مال وإن لم يكن له مال أجبر على الاكتساب والأداء
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه يعتق منه بقدر ما أدى وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بقدر ما أدى ويؤدي المكاتب بحصة ما أدى ] وعن عمر وعلي رضي الله عنهما و النخعي : إذا أدى الشطر فلا رق عليه
وقال ابن مسعود : إذا أدى قدر قيمته فهو غريم وقد ذكرنا الجواب عن هذه الأقوال كلها فيما تقدم بما أغنى عن إعادته إن شاء الله تعالى

لا تنفسخ الكتابة بالجنون
فصل : ولا تنفسخ الكتابة بالجنون لأنها عقد لازم فلم تنفسخ بالجنون كالرهن وفارق الموت لأن العقد على العين والموت يفوت العين بخلاف الجنون ولأن القصد من الكتابة العتق والموت ينافيه ولهذا لا يصح عتق الميت والجنون لا ينافيه بدليل صحة عتق المجنون فعلى هذا إن أدى إليه المال عتق لأن السيد إذا قبض منه فقد استوفى حقه الذي كان عليه وله أخذ المال من يده فيتضمن ذلك براءته من المال فيعتق بحكم العقد وإن لم يؤد كان للسيد أن يحضره عند الحاكم ويثبت الكتابة بالبينة فيبحث الحاكم عن ماله فإن وجد له مالا سلمه في الكتابة وعتق وإن لم يجد له مالا جعل له أن يعجزه ويلزمه الإنفاق عليه لأنه عاد قنا ثم إن وجد له الحاكم بعد ذلك مالا يفي بمال الكتابة أبطل فسخ السيد لأن الباطن بان بخلاف ما حكم به فبطل حكمه كما إذا أخطأ النص وحكم بالاجتهاد إلا أنه يرد على السيد ما أنفقه من حين الفسخ لأنه لم يكن مستحقا عليه في الباطن وإن أفاق عليه فأقام البينة أنه كان قد دفع إليه مال الكتابة بطل أيضا فسخ السيد ولا يرد عليه ما أنفقه لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته فكان متطوعا بذلك فلم يرجع به وينبغي أن يستحلف السيد الحاكم أنه ما استوفى مال الكتابة وهذا قول أصحاب الشافعي ولم يذكره أصحابنا وهو حسن لأنه استوفاه والمجنون لا يعبر عن نفسه فيدعيه فيقوم الحاكم مقامه في استحلافه عليه

قتل المكاتب كموته في انفساخ الكتابة
فصل : وقتل المكاتب كموته في انفساخ الكتابة على ما أسلفنا من الخلاف سواء كان القاتل السيد أو الأجنبي ولا قصاص على قاتله الحر لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فإن كان القاتل سيده ولم يخلف وفاء انفسخت الكتابة وعاد ما في يده إلى سيده ولم يجب عليه شيء لأنه لو وجب لوجب له فإن قيل فالقاتل لا يستحق بالقتل شيئا من تركة المقتول قلنا ههنا لا يرجع إليه مال المكاتب ميراثا بل بحكم ملكه عليه لزوال الكتابة وإنما يمنع القاتل الميراث خاصة ألا ترى أن من له دين مؤجلا إذا قتل من عليه الحق حل دينه وفيرواية وأم الولدإذا قتلت سيدها عتقت وإن كان المكاتب قد خلف وفاء وقلنا إن الكتابة تنفسخ بموته فالحكم كذلك وإن قلنا لا تنفسخ بموته فله القيمة على سيده تصرف إلى ورثته كما لو كانت الجناية على بعض أطرافه في حياته فإن كان الوفاء يحصل بإيجاب القيمة ولا يحصل بدونها وجبت كما لو خلف وفاء لأن دية المقتول كتركته في قضاء ديونه منها وانصرافها إلى وارثه بينهم على فرائض الله تعالى ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يخلف وارثا أو لا يخلف وارثا وذكر القاضي أنه إذا لم يخلف وارثا سوى سيده لم تجب القيمة عليه بحال
ولنا أن من لا وارث له يصرف ماله إلى المسلمين ولا حق لسيده فيه لأن صرفه إلى سيده بطريق الإرث والقاتل لا ميراث له وإن كان القاتل أجنبيا وجبت القيمة لسيده إلا في الموضع الذي لا تنفسخ الكتابة فإنها تجب لورثته والله أعلم

إذا مات السيد كان العبد على كتابته
مسألة : قال : وإذا مات السيد كان العبد على كتابته وما أدى فبين ورثة سيده مقسوما كالميراث
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وذلك لأنه عقد لازم من جهته لا سبيل إلى فسخه فلم ينفسخ بموته كالبيع والإجارة إذا ثبت هذا فإن المكاتب يؤدي نجومه أو ما بقي منها إلى ورثته لأنه دين لمورثهم ويكون مقسوما بينهم على قدر مواريثهم كسائر ديونه فإن كان له أولاد ذكور وإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين ولا يعتق حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه فإن أدى إلى بعضهم دون بعض لم يعتق كما لو كان بين شركاء فأدى إلى بعضهم فإن كان بعضهم غائبا وكان له وكيل دفع نصيبه إلى وكيله وإن لم يكن له وكيل دفع نصيبه إلى الحاكم وعتق وإن كان موليا عليه دفع نصيبه إلى وليه إما ابنه أو وصية أو الحاكم أو أمينة فإن كان له وصيان لم يبرأ إلا بدفع إليهما معا وإن كان الوارث رشيدا قبض لنفسه ولا تصح الوصية إلى غيره ليقبض له لأن الرشيد ولي نفسه وإن كان بعضهم رشيدا وبعضهم موليا عليه فحكم كل واحد منهم حكمه لو انفرد وإن أذن يعضهم له في الأداء إلى الآخر وكان الذي أذن له في ذلك رشيدا فأدى إلى الأخر جميع حقه عتق نصيبه فإن كان معسرا لم يسر إلى نصيب شريكه وإن كان موسرا عتق عليه كله وقوم عليه كما لو كان بين شريكين فاعتق أحدهما نصيبه وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو أحد قولي الشافعي وقال القاضي : لا يسري عتقه وإن كان موسرا وهو القول الثاني للشافعي وقال أبو حنيفة : لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة لأنه أدى بعض مال الكتابة فأشبه ما لو أداه إلى السيد وإن أبرأه من مال الكتابة برئ منه وعتق وإن أبرأه بعضهم عتق نصيبه وكذلك إن أعتق نصيبه منه عتق والخلاف في هذا كله كالخلاف فيما إذا أدى إلى بعضهم بإذن الآخر
ولنا على أنه يعتق نصيب من أبرأه من حقه عليه أو استوفى نصيبه بإذن شركائه أنه أبرأه من جميع ماله عليه فوجب أن يلحقه العتق كما لو أبرأه سيده من جميع مال الكتابة وفارق ما إذا أبرأه سيده من بعض مال الكاتبه لأنه ما أبرأه من جميع حقه
ولنا على سراية عتقه أنه إعتاق لبعض العبد الذي يجوز إعتاقه من موسر جائز التصرف غير محجور عليه فوجب أن يسري عتقه كما لو كان قنا ولأنه عتق حصل بفعله واختياره فسرى كمحل الوفاق فإن قيل في السراية ضرر بالشركاء لأنه قد يعجز فيرد إلى الرق قلنا : إذا كان العتق في محل الوفاق يزيل الرق المتمكن الذي لا كتابة فيه فلأن يزيل عرضيه ذلك بطريق الأولى

ولاء العبد لسيده وإن عجز فهو عبد لسائر الورثة
مسألة : قال : وولاؤه لسيده وإن عجز فهو لسائر الورثة
أما إذا عجز ورد في الرق فإنه يكون عبدا لجميع الورثة كما لو لم يكن مكاتبا لأنه من مال موروثهم فكان بينهم كسائر المال وأما إذا أدى مال الكتابة وعتق فقال الخرقي : يكون ولاؤه لمكاتبه يختص به عصباته دون أصحاب الفروض وهذا قول أكثر الفقهاء وهو اختيار أبي بكر ونقله إسحاق بن منصور عن أحمد رحمه الله وإسحاق وروى حنبل و صالح بن أحمد عن أبيه قال : اختلف الناس في المكاتب يموت سيده وعليه بقية من كتابته قال بعض الناس الولاء للرجال والنساء وقال بعض الناس لا ولاء للنساء لأن هذا إنما هو دين على المكاتب ولا يرث النساء من الولاء إلا ما كاتبن أو أعتقن ولكل وجه والذي أراه ويغلب علي أنهن يرثن وذلك لأن المكاتب لو عجز بعد وفاه السيد رد رقيقا وهذا قول طاوس و الزهري وذلك لأن المكاتب انتقل إلى الورثة بموت المكاتب ولاؤه لهم كما لو انتقل إلى المشتري ولأنه يؤدي إلى الورثة فكان ولاؤه لهم كما لو أدى إلى المشتري ووجه الأول أن السيد هو المنعم بالعتق فكان الولاء له كما لو أدى إليه ولأن الورثة إنما ينتقل إليهم ما بقي للسيد وإنما بقي للسيد دين في ذمة المكاتب والفرق بين الميراث والشراء أن السيد نقل حقه في البيع باختياره فلم يبقى له فيه حق من وجه والوارث يخلف الموروث ويقوم مقامه ويبني على ما فعله موروثه ولا ينتقل إليه شيء أمكن بقاؤه لموروثه والولاء مما أمكن بقاؤه للموروث فوجب أن لا ينتقل عنه

فيما لو أعتق الورثة المكاتب أو باعوه
فصل : فإن أعتقه الورثة صح عتقهم لأنه ملك لهم فصح عتقهم له ولأن السيد لو أعتقه نفذ عتقه وهم يقومون مقام موروثهم ويكون ولاؤه لهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الولاء لمن أعتق ] وإن أعتق بعضهم نصيبه فعتق عليه كله قوم عليه نصيب شركائه وكان ولاؤه له وإن لم يسر عتقه لكونه معسرا أو لغير ذلك فله ولاء ما أعتقه للخبر ولأنه منعم عليه بالعتق فكان الولاء له كغير المكاتب وقال القاضي : إن أعتقوه كلهم قبل عجزه كان الولاء للسيد وإن أعتق بعضهم لم يسر عتقه ثم ينظر فإن أدى إلى الباقين عتق كله وكان ولاءه للسيد وإن عجز فردوه إلى الرق كان ولاء نصيب المعتق له لأنه لولا إعتاقه لعاد سهمه رقيقا كسهام سائر الورثة فلما أعتقه كان هو المنعم عليه فكان عليه الولاء له دونهم فأما إن أبرأه الورثة كلهم عتق وكان ولاؤه على الروايتين اللتين ذكرناهما فيما إذا أدى إليهم لأن الإبراء جرى مجرى استيفاء ما عليه ويحتمل أن يكون الولاء لهم لأنهم أنعموا عليه بما عتق به فأشبه ما لو أعتقوه وإن أبرأه بعضهم من نصيبه كان في ولائه ما ذكرنا من الخلاف والله أعلم
فصل : إذا باع الورثة المكاتب أو وهبوه صح بيعهم وهبتهم لأنهم يقومون مقام المكاتب والمكاتب يملك بيعه وهبته فكذلك ورثته ويكون عند المشتري والموهوب له مبقى على كتابته فإن عجز فعجزه عاد رقيقا له وإن أدى وعتق كان ولاؤه لمن يؤدي إليه على الرواية التي تقول إن ولاءه للورثة إذا أدى إليهم وأما على الرواية الأخرى فيحتمل أن لا يصح بيعه ولا هبته لأن ذلك يقتضي إبطال سبب ثبوت الولاء للسيد الذي كاتبه وليس للورثة ويحتمل أن يصح ويكون الولاء للسيد إن عتق بالكتابة لأن السيد عقدها فعتق بها فكان ولاؤه له ويفارق ما لو باعه السيد لأن بيعة السيد أبطل حق نفسه وله ذلك بخلاف الورثة فإنهم لا يملكون إبطال حق موروثهم

إذا وصى السيد بمال الكتابة صح
فصل : وإن وصى السيد بمال الكتابة لرجل صح فإن سلم مال الكتابة إلى الموصى له أو وكيله أو وليه إن كان محجورا عليه برئ منه وعتق وولاؤه لسيده الذي كاتبه لأنه المنعم عليه وإن أبرأه من المال عتق أيضا لأنه برئ من مال الكتابة فأشبه ما لو أدى وإن أعتقه لم يعتق لأنه لا يملك رقبته ولا وصى له بها وإنما وصى له بالمال الذي عليه وإن عجز ورد في الرق عاد عبدا للورثة وما قبضه الوصي الموصى له من المال فهو له لأنه قبضه بحكم الوصية الصحيحة والأمر في تعجيزه إلى الورثة لأن الحق ثبت لهم بتعجيزه ويصير العبد لهم فكانت الخيرة في ذلك إليهم وأما الموصى له فإن حقه ووصيته تبطل بتعجيزه فلم يكن له في ذلك حق وإن وصى بمال الكتابة للمساكين ووصى إلى رجل بقبضه وتفريقه بينهم صح ومتى سلم المال إلى الوصي برئ وعتق وإن أبرأه منه لم يبرأ لأن الحق لغيره إن دفعه المكاتب إلى المساكين لم يبرأ منه ولم يعتق لأن التعيين إلى الوصي دونه وإن وصى بدفع المال إلى غرمائه تعين القضاء منه كما لو وصى به عطية له وإن كان إنما أوصى بقضاء ديونه مطلقا كان على المكاتب أن يجمع بين الورثة والوصي بقضاء الدين ويدفعه إليهم بحضرته لأن المال للورثة ولهم أن يقضوا الدين منه ومن غيره وللوصي في قضاء الدين حق فيه لأن لهم منعهم من التصرف في التركة قبل قضاء الدين

إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدا
فصل : إذا مات رجل وخلف ابنين وعبدا فادعى العبد أن سيده كاتبه فصدقاه ثبتت الكتابة لأن الحق لهما وإن أنكراه وكانت له بينة بدعواه ثبتت الكتابة وعتق بالأداء إليهما وإن عجز فلهما رده إلى الرق وإن لم يعجزاه وصبرا عليه لم يملك الفسخ وإن عجزه أحدهما وأبى الآخر تعجيزه بقي نصفه على الكتابة وعاد نصفه الآخر رقيقا وإن لم تكن له بينة فالقول قولهما مع أيمانهما لأن الأصل بقاء الرق وعدم الكتابة وتكون أيمانهم على نفي العلم فيحلفان بالله أنهما لا يعلمان أن أباهما كاتبه لأنها يمين على نفي فعل الغير فإن حلفا ثبت رقه وإن نكلا قضي عليها أو ردت اليمين عليه على قول من قضى بردها فيحلف العبد وتثبت الكتابة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي برق نصفه وكتابة نصفه وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر ثبتت الكتابة في نصفه وعليه البينة في نصفه الآخر فإن لم تكن له بينة وحلف المنكر صار نصفه مكاتبا ونصفه رقيقا قنا فأن شهد المقر على أخيه قبلت شهادته لأنه لا يجر بها إلى نفسه نفعا ولا يدفع بها ضرر فإن كان معه شاهد آخر كملت الشهادة وثبتت الكتابة في جمعيه وإن لم يشهد معه غيره فهل يحلف العبد معه ؟ على روايتين وإن لم يكن عدلا أو لم يحلف العبد معه وحلف المنكر كان نصفه مكاتبا ونصفه رقيقا ويكون كسبه بينه وبين المنكر نصفين ونفقته من كسبه لأنها على نفسه وعلى مالك نصفه فإن لم يكن له كسب كان على المنكر نصف نفقته ثم إن اتفق هو ومالك نصفه على المهايأة معاومة أو مشاهرة أو كيفما كان جاز وإن طلب ذلك أحدهما وامتنع الآخر فظاهر كلام أحمد أنه يجبر عليها وهو قول أبي حنيفة لأن المنافع مشتركة بينهما فإذا أراد أحدهما حيازة نصيبه من غير ضرر لزم الآخ إجابته كالأعيان ويحتمل أن لا يجبر وهو قول الشافعي لأن المهايأة تأخير حقه الحال لأن المنافع في هذا اليوم مشتركة بينهما فلا تجب الإجابة إليه كتأخير ديته الحال فإن اقتسما الكسب مهايأة أو مناصفة فلم يف بأداء نجومه فللمقر رده في الرق وما في يده له خاصة لأن المنكر قد أخذ حقه من الكسب وإن اختلف المنكر والمقر فيما يد المكاتب فقال المنكر هذا كان في يده قبل دعوى الكتابة وكسبه في حياة أبينا وأنكر ذلك المقر فالقول قوله مع يمينه لأن المنكر يدعي كسبه في وقت الأصل عدمه فيه ولأنه لو اختلف هو المكاتب في ذلك كان القول قول المكاتب فكذلك من يقوم مقامه وإن أدى الكتابة عتق نصيب المقر خاصة ولم يسر إلى نصيب شريكه لأنه لم يباشر العتق ولم يتسبب إليه وإنما كان السبب من أبيه وهذا حاك عن أبيه مقر بفعله فهو كالشاهد ولأن المقر يزعم أن نصيب أخيه حر أيضا لأنه قد قبض من العبد مثل ما قبض فقد حصل أداء مال الكتابة إليهما جميعا فعتق كله بذلك وولاء هذا النصف للمقر لأن أخاه لا يدعيه وهذا المقر يدعي أنه كله قد عتق بالكتابة وهذا الولاء الذي على هذا النصف نصيبي من الولاء وقال أصحاب الشافعي في ذلك وجهان : أحدهما : كقولنا
والثاني : الولاء بين الاثنين لأنه يثبت لموروثهما فكان لهما بالميراث والصحيح ما قلناه لما ذكرناه ولا يمنع ثبوت الولاء للأب واختصاص أحد الابنين به كما لو ادعى أحدهما دينا لأبيه على إنسان وأنكره الآخر فإن المدعي يأخذ نصيبه من الدين ويختص به دون أخيه وإن كان يرثه عن الأب وكذلك لو ادعياه معا وأقاما به شاهدا وواحدا فحلف أحدهما مع الشاهد وأبى الآخر فإن أعتق أحدهما حصته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وهذا قول الخرقي لقول النبي صلى اله عليه وسلم [ من اعتق شركا له من عبد وكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطي شركاؤه حصصهم ] ولأنه موسرا عتق نصيبه من عبد مشترك فسرى إلى باقيه كغير المكاتب وقال أبو بكر والقاضي : لا تعتق إلا حصته لأنه إن كان المعتق المقر فهو منفذ وإن كان المنكر لم يصر إلى نصيب المقر لأنه مكاتب لغيره وفي سراية العتق إليه إبطال سبب الولاء عليه فلم يجز ذلك

حكم سفر المكاتب وسؤاله
مسألة : ولا يمنع المكاتب من السفر
وجملته أن المكاتب لا يمنع من السفر قريبا كان أو بعيدا وهذا قول الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و الثوري و الحسن بن صالح و أبي حنيفة ولم يفرق أصحابنا بين السفر الطويل وغيره لكن قياس المذهب أن له منعه من سفر تحل نجوم كتابته قبله لأنه يتعذر معه استيفاء النجوم في وقتها والرجوع في وقته عند عجزه فمنع منه كالغريم الذي يحل عليه الدين قبل مدة سفره واختلف قول الشافعي فقال في موضع : له السفر وفي قول ليس له السفر فقال بعض أصحابه : فيها قولان وقال بعضهم : ليست على قولين إنما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي قال له السفر إذا كان قصيرا لأنه في حكم الحاضر والموضع الذي منع منه إذا كان بعيدا يتعذر معه استيفاء نجومه والرجوع في رقه عند عجزه
ولنا أن المكاتب في يد نفسه وإنما للسيد عليه دين فأشبه الحر المدين وما ذكروه لا أصل له ويبطل بالحر الغريم
فصل : فإن شرط عليه في الكتابة أن لا يسافر فقال القاضي : الشرط باطل وهو قول الحسن و سعيد بن جبير و الشعبي و النخعي و أبي حنيفة لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح شرطه كشرط ترك الاكتساب ولأنه غريم فلم يصح شرط ترك السفر عليه كما لو أقرضه رجل قرضا بشرط أن لا يسافر وقال أبو الخطاب : يصح الشرط وله منعه من السفر وهو قول أبي مالك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ المسلمون على شروطهم ] ولأنه شرط له فيه فائدة فلزم كما لو شرط نقدا معلوما وبيان فائدته أنه لا يأمن إباقة وأنه لا يرجع إلى سيده فيفوت العبد الذي عليه ويفارق القرض فإنه عقد جائز من جانب المقرض متى شاء طالب بأخذه ومنع الغريم من السفر قبل إيفائه فكان المنع من السفر حاصلا بدون شرطه بخلاف الكتابة فإنه لا يمكن السيد منعه من السفر إلا بشرطه وفيه حفظ عبده وماله فلا يمنع من تحصيله وهذا أصح إن شاء الله تعالى وأولى فعلى هذا الوجه لسيده منعه من السفر فإن سافر بغير إذنه فله رده إن أمكنه وإن لم يمكنه رده احتمل أن له تعجيزه ورده إلى الرق لأنه لم يف بما شرطه عليه أشبه ما لو لم يف بأداء الكتابة وأحتمل أن لا يملك ذلك لأنه مكاتب كتابة صحيحه لم يظهر عجزه فلم يملك تعجيزه كما لو لم يشترط عليه
فصل : وإن شرط في كتابته أن لا يسأل فقال أحمد : قال جابر بن عبد الله هم على شروطهم إن رأيته يسأل تنهاه فإن قال لا أعود لم يرده عن كتابه في مرة فظاهر هذا أن الشرط صحيح لازم وأنه إن خالف مرة لم يعجزه وإن خالف مرتين أو أكثر فله تعجيزه قال أبو بكر : إذا رآه يسأل مرة في مرة عجزه كما إذا حل نجم في نجم عجزه فاعتبر المخالفة في مرتين كحلول نجمين وإنما صح الشرط لقوله صلى الله عليه و سلم [ المسلمون على شروطهم ] ولأن له في هذا فائدة وغرضا صحيحا وهو أن لا يكون كلا على الناس ولا يطعمه من صدقتهم وأوساخهم
وذكر أبو الخطاب أنه لا يصح الشرط لأن الله تعالى جعل للمكاتب سهما من الصدقة بقوله تعالى { وفي الرقاب } وهم المكاتبون فلم يصح اشتراط ترك طلب ما جعله الله تعالى له

الحكم في زواج المكاتب وتسرية وتزويج عبيده وإمائه وإعتاق رقيقه وأحكام التصرف في ماله وحجة وبيعه
مسألة : قال : وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده
وهذا قول الحسن و مالك و الليث و ابن أبي ليلى و أبي حنيفة و الشافعي و أبى يوسف وقال الحسن بن صالح : له ذلك لأنه عقد معاوضة أشبه البيع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر ] ولأن على السيد فيه ضررا لأنه ربما عجز فيرجع إليه ناقص القيمة ويحتاج أن يؤدي المهر والنفقة من كسبه فيعجز عن تأدية نجومه فيمنع من ذلك كالتبرع به
إذا ثبت هذا فإنه إذا تزوج لم يصح تزويجه وقال الثوري : نكاحه موقوف إن أدى تبينا أنه كان صحيحا وإن عجز فنكاحه باطل
ولنا الخبر ولأنه تصرف منع منه للضرر فلم يصح كالهبة وما ذكره لا أصل له فإذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان بعده فعليه مهر مثلها يؤدى من كسبه لأنه بمنزلة جنايته وإن أتت بولد نسبه لأنه من وطء في نكاح فاسد فإن كانت المرأة حر فهو حر وإن كانت أمه فولدها رقيق لسيدها فإما إن أذن له سيده في النكاح صح منه في قولهم جميعا فإن الخبر يدل بمفهومه على صحة تزويجه إذا أذن له ولأن المنع من نكاحه لحق سيده فإذا أذن له زال المانع ولأنه لو أذن لعبده القن في النكاح صح منه فالمكاتب أولى
فصل : وليس له التسري بغير إذن سيده لأن ملكه غير تام وقال الزهري : لا ينبغي لأهله أن يمنعوه من التسري
ولنا أن ملكه ناقص وعلى السيد فيه ضرر فيمنع منه كالتزويج وبيان الضرر فيه أنه ربما أحبلها والحبل مخوف في بنات آدم وربما تلفت وربما ولدت فصارت أم ولد فيمتنع عليه بيعها في أداء كتابتها وإن عجزت رجعت إلى السيد ناقصة فإذا منع من التزويج لضرره فهذا أولى فأما إن أذن له سيده في التسري جاز له
وقال الشافعي : لا يجوز له ذلك وإن أذن فيه سيده في أحد القولين لأنه أمر يضر به وربما أفضى إلى منعه من العتق فلم يجز وإن أذن فيه سيده ولأنه ناقص الملك فلم يجز له التسري كوطء الجارية المشتركة
ولنا أنه لو أذن لعبده القن في التسري جاز فالمكاتب أولى ولأن المنع كان لأجل الضرر بالسيد فجاز تأديبه كالتزويج إذا ثبت هذا فإنه إذا تسرى بإذن سيده أو غير إذنه فلا حد عليه لشبهة الملك ولا مهر عليه لأنه لو وجب لوجب له ولا يجب على الإنسان شيء لنفسه وإن حبلت فالنسب لا حق به لأن الحد إذا سقط بالشبهة لحقه النسب ويكون الولد مملوكا له لأنه ابن أمته ولا يعتق عليه لأن ملكه غير تام وليس له بيعه لأنه ولده ويكون موقوفا على كتابته فإن أدى عتق وعتق الولد لأنه ملك لأبيه الحر وإن عجز وعاد إلى الرق فولده رقيق أيضا ويكونان مملوكين للسيد فأما الأمة فإن ولدت قبل عتقه وعجزت فإنها تصير أم ولد للمكاتب وليس له بيعها نص عليه أحمد لأن ولدها له حرمة الحرية ولا يجوز بيعه ويعتق بعتق أبيه فكذلك أمه فعلى هذا لا يجوز بيعها وتكون موقوفة على المكاتب إن عتق فهي أو ولده وإن رق رقت
وقال القاضي في موضع : لا تصير أم ولد بحال وله بيعها لأنه حملت بمملوك في ملك غير تام و للشافعي قولان كهذين الوجهين وإن وضعت بعد عتقه لأقل من ستة أشهر تبينا أنها حملت به في حال رقه فالحكم على ما مضى وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر حكمنا حملته حرا لأننا لم نتيقن وجوده في حال الرق وتكون أم ولد لأنها علقت بحر في ملكه و للشافعي من التفصيل نحو مما ذكرنا
فصل : وليس للمكاتب أن يزوج عبيده وإماءه بغير إذن سيده وهذا قول الشافعي و ابن المنذر وذكر عن مالك أن له ذلك إذا كان على وجه النظر لأنه عقد على منفعة فملكه كالإجارة وهو الذي قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل
وحكي عن القاضي أنه قال في الخصال : له تزويج الأمة دون العبد وهو قول أبي حنيفة لأنه يأخذ عوضا عن تزويجها بخلاف العبد ولأنه عقد ذمة على منافعها فأشبه إجارتها
ولنا أن على السيد فيه ضررا لأنه إن زوج العبد لزمته نفقة امرأته ومهرها وشغله بحقوق النكاح ونقص قيمته وإن زوج الأمة ملك الزواج بضعها ونقصت قيمتها وقلت الرغبات فيها وربما امتنع بيعها بالكلية وليس ذلك من جهات المكاتب فربما عجزه ذلك عن أداء نجومه وإن عجز عاد رقيقا للسيد مع ما تعلق بهم من الحقوق ولحقهم من النقص فلم يجز له كإعتاقهم وفارق إجارة الدار فإنها من جهات المكاسب عادة فعلى هذا إن وجب تزويجهم لطلبهم ذلك وحاجتهم إليه باعهم فإن العبد متى طلب التزويج خير سيده بين بيعه وتزويجه وإن أذن له السيد في ذلك جاز لأن الحق له والمنع من أجله فجاز بإذنه
فصل : وليس له إعتاق رقيقه إلا بإذن سيده وبهذا قال الحسن و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبو حنيفة لأن فيه ضررا على سيده بتفويت ماله فيما لا يحصل له به فأشبه الهبة فإن أعتق لم يصح إعتاقه ويتخرج أن يصح ويقف على إذن سيده
وقال أبو بكر : هو موقوف على آخر أمر المكاتب فإن أدى عتق معتقه وإن لم يؤد رق قال القاضي : وهذا قياس المذهب كقولنا في ذوي الأرحام : أنهم موقوفون
ولنا أنه تبرع بماله بغير أذن سيده فكان باطلا كالهبة ولأنه تصرف تصرفا منع منه لحق سيده فكان باطلا كسائر ما يمنع منه ولا يصح قياسه على ذوي أرحامه لأن عتق ذوي أرحامه ليس بتصرف منه وإنما يعتقهم الشرع على مالكهم بملكهم والمكاتب ملكه ناقص فلم يعتق به فإذا عتق كمل ملكه فعتقوا حينئذ والمعتق إنما يعتق بالإعتاق الذي كان باطلا فلا تتيقن صحته إذا كمل الملك لأن كمال الملك في الثاني لا يوجب كونه كاملا حين الإعتاق وكذلك لا يصح سائر تبرعاته بأدائه فأما إن أذن فيه سيده صح قال الشافعي في أحد القولين : لا يصح لأن تبرعه بماله يفوق المقصود من كتابته وهو العتق الذي هو حق الله تعالى أو فيه حق له فلا يجوز تفويته ولأن العتق لا ينفك من الولاء والعبد ليس من أهله ولأن ملك المكاتب ناقص والسيد لا يملك إعتاق ما في يده ولا هبته فلم يصح لأنه فيه
ولنا أن الحق لا يخرج عنهما فإذا اتفقا على التبرع به جاز كالراهن والمرتهن وما ذكروه يبطل بالنكاح فإنه لا يملك ولا يملكه السيد عليه وإذن له فيه جاز وأما الولاء فإنه يكون موقوفا فإن عتق المكاتب كان له وإلا فهو لسيده كما يرق مماليكه من ذوي أرحامه هذا قول القاضي وقال القاضي أبو بكر : يكون لسيده لأن إعتاقه أنا صح بإذن سيده فكان كالنائب له
فصل : والمكاتب محجور عليه فماله فليس له استهلاكه ولا هبته وبهذا قال الحسن و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا لأن حق سيده لم ينقطع عنه لأنه قد يعجز فيعود إليه ولأن القصد من الكتابة تحصيل العتق بالأداء وهبة ماله تفوت ذلك وإن أذن فيه سيده جاز و قال أبو حنيفة لا يجوز لأنه يفوت المقصود بالكتابة وعن الشافعي فيه كالمذهبين
ولنا أن الحق لا يخرج عنهما فجاز باتفاقهما كالراهن والمرتهن فأما الهبة بالثواب فلا تصح وقال الشافعي في أحد قوليه : تصح لأن فيها معاوضة
ولنا أن الاختلاف في تقدير الثواب يوجب الغرر فيها ولأن عوضها يتأخر فتكون كالبيع نسيئة وإن أذن فيها السيد جازت وإن وهب لسيده جاز لأن قبوله الهبة إذن فيها وكذلك إن وهب لابن سيده الصغير
فصل : ولا يحابي في البيع ولا يزيد في الثمن الذي اشتري به ولا يعير دابته ولا يهدي هدية وأجاز ذلك أصحاب الرأي ويحتمل جواز إعادة دابتة وهدية المأكول ودعائه إليه لأن ذلك يجوز للمأذون له ولا ينحط المكاتب عن درجته ووجه الأول أنه تبرع بماله فلم يجز كالهبة ولا يوصي بماله ولا يحط عن المشتري شيئا ولا يقرض ولا يضمن ولا يتكفل بأحد وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي لأن ذلك تبرع بماله فمنع منه كالهبة
فصل : وليس له أن يحج إن احتاج إلى إنفاق ماله فيه ونقل الميموني عن أحمد للمكاتب أن يحج من المال الذي جمعه إذا لم يأت نجمه وهذا محمول على أنه يحج بإذن سيده أما بغير إذنه فلا يجوز لأنه تبرع بما ينفق مالا فيه فلم يجز كالعتق ؟
فأما إن أمكنه الحج من غير إنفاق ماله كالذي تبرع إنسان بإحجاجه أو يخدم من ينفق عليه فيجوز إذا لم يأت لأن هذا يجري مجرى تركة وليس للكسب وليس ذلك مما يمنع منه
فصل : وليس للمكاتب أن يكاتب إلا بإذن سيده وهذا قول الشافعي و الحسن لأن الكتابة نوع إعتاق فلم تجز من المكاتب كالمنجز ولأنه لا يملك الإعتاق فلم يملك الكتابة كالمأذون له في التجارة واختار القاضي جواز الكتابة وهو الذي ذكره أبو خطاب في رؤوس المسائل وهو قول مالك و أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي لأنه نوع معاوضة فأشبه البيع وقال أبو بكر : هو موقوف كقوله في العتق المنجز فإن أذن فيها السيد صحت وقال الشافعي : فيها قولان وقد ذكرنا فيما تقدم فإذا كاتب عبده فعجزا جميعا صار رفيقين للسيد وإن أدى المكاتب الأول ثم الثاني فولاء كل واحد منهما لمكاتبه وإن أدى الأول وعجز الثاني صار رقيقا للأول وإن عجز الأول وأدى الثاني فولاءه للسيد الأول وإن أدى الثاني قبل عتق الأول عتق قال أبو بكر : وولاءه للسيد وهو قول أبي حنيفة لأن العتق لا ينفك عن الولاء والولاء لا يوقف لأنه سبب يورث به فهو كالنسب ولأن الميراث لا يقف كذلك سببه وقال القاضي : هو موقوف إن أدى عتق والولاء له وإلا فهو للسيد وهذا أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الولاء لمن أعتق ] ولأن العبد ليس بملك له ولا يجوز أن يثبت له الولاء على من لم يعتق في ملكه من لم يعتق في ملكه وقولهم لا يجوز أن يقف كما لا يقف النسب والميراث فليس كذلك فإن النسب يقف على بلوغ الغلام وانتسابه إذا لم تلحقه القافة بأحد الواطئين وكذلك الميراث يوقف على أن الفرق بين النسب والميراث وبين الولاء أن الولاء لا يجوز أن يقع لشخص ثم ينتقل وهو ما يجره موالى الأب من مولى الأم فجاز أن يكون موقوفا والنسب والميراث بخلاف ذلك فإن مات المعتق قبل عتق المكاتب وقلنا الولاء للسيد ورثه وإن قلنا هو موقوف فميراثه أيضا موقوف
فصل : وليس له أن يبيع نسيئة وإن باع السلعة بأضعاف قيمتها وهذا مذهب الشافعي لأن فيه تغريرا بالمال وهو ممنوع من التغرير بالمال لتعلق حق السيد به
قال القاضي : ويتخرج الجواز بناء على الضارب أن له البيع نسيئة في إحدى الروايتين فيخرج ههنا مثله وسواء أخذ بالثمن ضمينا أو رهنا أولم يأخذ لأن الغرر لم يزل فإن الرهن يحتمل أن يتلف ويحتمل أن يفلس الغريم والضمين ويحتمل أن يجوز مع الرهن أو الضمين لأن الوثيقة قد حصلت به والعوارض نادرة على خلاف الأصل فإن باع بأكثر مما يساوي حالا وجعل الزيادة مؤجلة جاز لأن الزيادة ربح وإن اشترى نسيئة جاز لأنه لا غرر فيه ولا يجوز أن يدفع به رهنا لأن الرهن أمانة وقد يتلف أو يجحده الغريم وليس له أن يدفع ماله سلما لأنه في معنى البيع نسيئة وله أن يستلف في ذمته لأنه في معنى الشراء نسيئة وليس له أن يقرض لأنه تبرع بالمال وفيه خطر به وله أن يقترض لأنه ينتفع بالمال وليس له أن يدفع ماله مضاربة لأنه يسلمه إلى غيره فيغرر به وله أن يأخذ المال قراضا لأنه من أنواع الكسب ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على ما ذكرنا
فصل : وللمكاتب أن يبيع ويشتري بإجماع من أهل العلم لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق ولا يحصل إلا بأداء عوضه ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب والبيع والشراء من أقوى جهات الاكتساب فإنه قد جاء في بعض الآثار أن تسعة أعشار الرزق في التجارة وله أن يأخذ ويعطي فيما فيه الصلاح لماله والتوفير عليه وله أن ينفق مما في يده من المال على نفسه في مأكله ومشربه وكسوته بالمعروف مما لا غناء له عنه وعلى رقيقه والحيوان الذي له وله تأديب عبيده وتعزيرهم إذا فعلوا ما يستحقون ذلك لأنه من مصلحة ملكه فملكه كالنفقة عليهم ولا يملك إقامة الحد عليهم لأن هذا موضع ولايته وليس هو من أهلها وله المطالبة بالشفعة والأخذ بها لأنه نوع شراء فإن كان المشتري للشقص سيده فله أخذه منه لأن له أن يشتري منه وإن اشترى المكاتب شقصا لسيده فيه شركة فله أخذه من المكاتب بالشفعة لأنه مع سيده في باب البيع والشراء كالأجنبي وإن وجبت للسيد على مكاتبه شفعة فادعى المكاتب أن سيده عفا عنها سمعت دعواه وإن أنكره السيد كان عليه اليمين وإن أذن السيد لمكاتبه في البيع بالمحاباة صح منه وكان لسيده الأخذ بالشفعة لأن بيعه بالمحاباة مع إذن سيده فيه صحيح و يصح إقرار المكاتب بالبيع والشراء والعيب والدين لأنه يصح تصرفه فيه بذلك ومن ملك شيئا فله الإقرار به

الربا بين العبد وسيده
مسألة : قال : ولا يبيعه سيده درهما بدرهمين
وجملته أن الربا يجري بين العبد وبين سيده فلم يجز أن يبيعه دهما بدرهمين كالأجنبيين وقال ابن أبي موسى : لا ربا بينهما لأنه عبد في الأظهر من قوله ولا ربا بين العبد وسيده ولهذا جاز أنم يعجل لسيده ويضع عنه بعض كتابته وله وطء مكاتبته إذا شرط ولو حملت منه صارت له بذلك أم ولد ووجه قول الخرقي أن السيد مع مكاتبه في باب المعاملة كالأجنبي بدليل أن لكل واحد منهما الشفعة على صاحبه ولا يملك كل واحد منهما التصرف فيما في يد صاحبه وإنما يتعلق لسيده حق فيما بيده بعرضية أن يعجزه فيعود إليه وهذا لا يمنع جريان الربا بينهما كالأب مع ابنه فعلى هذا القول لا يجوز التفاضل بينهما فيما يحرم التفاضل فيه بين الأجنبيين ولا النساء فيما يحرم النساء فيه بين الأجانب

فيما لو كان لكل واحد منهما على صاحبه دين
فصل : فإن كان لكل واحد منهما على صاحبه دين مثل إن كان للسيد على المكاتب دين من المكاتبة أو غيرها وللمكاتب على سيده دينا وكانا نقدا من جنس واحد حالين أو مؤجلين أجلا واحدا تقاصا وتساقطا لأنهما إذا تساقطا بين الأجانب فمع السيد ومكاتبه أولى وإن كانا نقدين من جنسين مختلفين كدراهم ودنانير فقال ابن أبي موسى لو كان له على سيده ألف درهم ولسيده عليه مائة دينار فجعلها قصاصا بها جاز بخلاف الحرين
وقال القاضي : لا يجوز هذا لأنه بيع دين بدين وقد نهى الرسول صلى الله عليه و سلم عن بيع الدين بالدين ولأنه لا يجوز بين الأجنبيين فلم يجز بين المكاتب وسيده كسائر المحرمات وفارق العبد القن فإنه باق في تصرف سيده وما في يده ملك خالص لسيده له أخذه والتصرف فيه فعلى هذا لا يجوز مع التراضي به وعلى قول أبي موسى يجوز إذا تراضيا بذلك وتبايعاه ولا يثبت التقابض قبل تراضيهما به لأنه بيع فأما إن كانا عرضين أو عرضا ونقدا لم تجز المقاصة فيهما بغير تراضيهما بحال سواء كان القرض من جنس حقه أو غير جنسه وإن تراضيا بذلك لم يجز أيضا لأنه بيع دين بدين وإن قبض أحدهما الآخر حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضا عن ماله في ذمته جاز إذا لم يكن الثابت في الذمة عن سلم فإن ثبت عن سلم لم يجز أخذ عوضه قبل قبضه وفي الجملة إن حكم المكاتب مع سيده في هذا حكم الأجانب إلا على قول ابن موسى الذي ذكرناه والله أعلم

ليس للرجل أن يطأ مكاتبه إلا أن يشترط وليس له وطء ابنتها ولا جاريتها
مسألة : قال : وليس للرجل أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط
الكلام في هذه المسألة من فصلين :
الفصل الأول : في وطئها بغير شرط وهو حرام في قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسييب و الحسن و الزهري و مالك و الليث و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وقيل له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطء عن السعي عما هي فيه لأنها ملك يمينه فتدخل في عموم قوله تعالى { أو ما ملكت أيمانهم }
ولنا أن الكتابة عقد أزال ملك استخدامها وملك عوض منفعة بضعها فيما إذا وطئت بشبهة فزال حل وطئها كالبيع والآية مخصوصة بالمزوجة فنقيس عليها محل النزاع ولأن الملك ههنا ضعيف لأنه قد زال عن منافعها جملة ولهذا لو وطئت بشبهة كان المهر لها وتفارق أم الولد فإن ملكه باق عليها وإنما يزول بموته فأشبهت المدبرة والموصى بها وإنما امتنع البيع لأنها استحقت العتق بموته استحقاقا لازما لا يمكن زواله
الفصل الثاني : إذا شرط وطأها فله ذلك وبه قال سعيد بن المسيب قال سائر من ذكرنا ليس له وطؤها لأنه لا يملكه مع إطلاق العقد فلم يملكه بالشرط كما لو زوجها أو أعتقها
وقال الشافعي : إذا شرط ذلك في عقد الكتابة فسد لأنه شرط فاسد فأفسد العقد كما لو شرط عوضا فاسدا وقال مالك : لا يفسد العقد به لأنه لا يخل بركن العقد ولا شرطه فلم يفسده كالصحيح
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ المؤمنون عند شروطهم ] ولأنها مملوكة له شرط نفعها فصح كشرط استخدامها يحقق هذا أن منعه من وطئها مع بقاء ملكه عليها ووجود المقتضى لحل وطئها إنما كان لحقها فإذا شرطه عليها جاز كالخدمة ولأنه استثنى بعض ما كان له فصح كاشتراط الخدمة وفارق البيع لأنه يزيل ملكه عنها
فصل : فإن وطئها مع الشرط فلا حد عليه ولا تعزير ولا مهر لأنه وطء يملكه ويباح له فأشبه وطأها قبل كتابتها وإن وطئها من غير شرط فقد أساء وعليه التعزير لأنه وطء محرم ولا حد عليه في قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن و الزهري فإنهما قالا : عليه الحد لأنه عقد عليها عقد معاوضة يحرم الوطء فأوجب الحد بوطئها كالبيع
ولنا أنها مملوكته فلم يجب الحد بوطئها كأمته المستأجرة والمرهونة وتخالف البيع فإنه يزيل الملك والكتابة لا تزيله بدليل قوله عليه السلام [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] وعليه مهرها لها لأنه استوفى منفعتها الممنوع من استيفائها فكان عليه عوضها كمنافع بدنها
فصل : وإن أولدها صارت أم ولد له سواء وطئها بشرط أو بغير شرط لأنه أحبلها بحر في ملكه فكانت أم ولده كغير المكاتبة والولد حر لأنه ولده من مملوكته ويلحقه نسبه لذلك ولأنه من وطء سقط فيه الحد للشبهة فأشبه ولد المغرور ولا تلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه
فصل : وليس له وطء بنتها لأنها تابعة لأمها موقوفة معها فلم يبح وطؤها كأمها ولا يباح ذلك بالشرط لأن حكم الكتابة ثبت فيها تبعا ولم يكن وطؤها مباحا حال العقد بشرطه فإن وطئها فلا حد عليه لأنها ملكه ويأثم ويعزر لأنه وطئ فرجا محرما ولها مهر عليه حكمه حكم كسبها يكون لأمها تستعين به في كتابتها لأن ذلك سبب حريتها وإن أحبلها صارت أم ولد له حر والولد حر لأنه أحبلها بحر في يملكه ويلحقه نسبه ولا تجب عليه قيمتها لأن أمها لا تملكها ولا قيمة ولدها لأنها وضعته في ملكه
فصل : وليس له وطء جارية مكاتبته ولا مكاتبه اتفاقا فإن فعل أثم وعزر ولا حد عليه لشبهة الملك لأنه يملك مالكها وعليه مهرها لسيدها وولده منها حر يلحقه نسبه لأن الحد سقط لشبهة الملك وتصير أم ولد وعليه قيمتها لسيدها لأنه أخرجها بوطئه عن ملكه وكان عليه قيمتها لسيده ولا تجب عليه قيمة الولد لأنها وضعته في ملكه ويحتمل أن تلزمه قيمته لأنه أخرجه بوطئه عن أن يكون مملوكا لسيدها فأشبه ولد المغرور

لا يملك السيد إجبار مكاتبته ولا ابنتها ولا أمتها على التزويج
فصل : ولا يملك إجبار مكاتبته ولا ابنتها ولا أمتها على التزويج لأنه زال ملكه بعقد الكتابة عن نفعها ونفع بعضها وعن عوضه وليس لواحدة منهما التزويج بغير إذن لأن عليه ضررا في ذلك فإن يثبت للزواج حقا فيها فربما عجزت وعادت إليه على وجه لا يملك وطأها فإن تراضيا بذلك جاز لأن الحق يخرج عنهما وهو وليها وولي ابنتها وجاريتها جميعا لأن الملك له فأشبه الجارية القن والمهر للمكاتبة على ما ذكرنا في مهرهن إذا وطئهن السيد

أن وطئ السيد أمته ولم يشترط أدب
مسألة : قال : فإن وطئها ولم يشترط أدب ولم يبلغ به حد الزاني وكان عليه مهر مثلها
وجملة الأمر أن السيد إذا وطئ مكاتبته من غير شرط فقد ذكرنا أنه لا حد عليه لكن إن كانا عالمين بالتحريم عزرا وإن كانا جاهلين عزرا وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا عزر العالم وعزر الجاهل ولا يخرج بالوطء عن الكتابة فقال الليث : طاوعته فقد فسخت كتابتها وعادت قنا
ولنا أنه عقد لازم فلم ينفسخ بالمطاوعة على الوطء كالإجازة والبيع بعد لزومه فأما المهر فإنه يجب لها أكرهها أو طاوعته وبه قال الحسن و الثوري و الحسن بن صالح و الشافعي وقال قتادة : يجب إذا أكرهها ولا يجب إذا طاوعته ونقله المزني عن الشافعي لأن المطاوعة بذلت نفسها بغير عوض فصارت كالزانية ومنصوص الشافعي وجوبه في الحالين وأنكر أصحابه ما نقله المزني وقالوا : لا يعرف وقال مالك لاشيء عليه لأنها ملكه
ولنا أنه عوض منفعتها فوجب لها كعوض بدنها ولأن المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها ولهذا لو وطئها أجنبي كان المهر لها وإنما وجب في حال المطاوعة لأن الحد يسقط عنه لشبهة الملك فوجب لها المهر كما لو وطئ امرأة بشبهة عقد مطاوعة فإن تكرر وطؤها وكان قد أدى مهر الوطء الأول فللثاني مهر أيضا لأن الأداء قطع حكم الأول وإن لم يكن أدى عن الأول لم يجب إلا مهر واحد لأن هذا عن وطء الشبهة فلم يكن إلا مهرا واحدا كالوطء في النكاح الفاسد

إذا وجب لها المهر ولها المطالبة
فصل : وإذا وجب لها المهر فإن كان لم يحل عليها نجم فلها المطالبة وإن كان قد حل عليها فكان المهر من غير جنسه فلها المطالبة به أيضا وإن كان من جنس تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله

حكم ما لو علقت المكاتبة من سيدها
مسألة : قال : فإن علقت منه فهي مخيرة بين العجز وتكون أم ولد وبين المضي على كتابتها فإن أدت عتقت وإن عجزت عتقت بموته وإن مات قبل عجزها انعتقت لأنها من أمهات الأولاد ويسقط عنها ما بقي من كتابتها وما في يدها لورثة سيدها
وجملته أن السيد إذا استولد مكاتبته فالولد حر لأنه من مملوكته ونسبه لاحق به ولا تجب قيمته لذلك وتصير أم ولد له لذلك ولا تبطل كتابتها لأنه عقد لازم من جهة سيدها وقد اجتمع لها سببان يقتضيان العتق أيهما سبق صاحبه ثبت حكمه هذا قول الزهري و مالك و الثوري و الليث و الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال الحكم : تبطل كتابتها لأنها سبب للعتق فتبطل بالاستيلاد كالتدبير
ولنا أنها عقد معاوضة فلا تبطل بالوطء كالبيع ولأنها سبب للعتق لا يملك السيد الرجوع عنه فلم تبطل بذلك كالتعليق بصفة وما ذكروه يبطل بالتعليق بالصفة وتفارق الكتابة التدبير من وجوه أحدها : أن حكم التدبير والاستيلاد واحد وهو العتق عقيب الموت والاستيلاد أقوى لأنه يعتبر من رأس المال ولا سبيل إلى إبطاله بحال فاستغنى به عن التدبير والكتابة سبب يتعجل بها العتق بالأداء ويكون ما فضل من كسبها لها ويملك بها منافعها وكسبها وتخرج عن تصرف سيدها وهذا لا يحصل بالاستيلاد فيجب أن تبقى لبقاء فائدتها : الثاني : أن الكتابة أقوى من التدبير للزومها وكونها لا تبطل بالرجوع عنها ولا بيع المكاتب ولا هبته
الثالث : أن التدبير تبرع والكتابة عقد معاوضة لازم فإذا ثبت هذا فإنه يجتمع لها سببان كل منهما يقتضي الحرية فأيهما تم قبل صاحبه ثبتت الحرية به كما لو انفرد لأن انضمام أحدهما إلى الآخر مع كونه لا ينافيه لا يمنع ثبوت حكمه فإن أدت عتقت بالكتابة وما فضل من كسبها فهو لها لأن المعتق بالكتابة له ما فضل من نجومه وإن عجزت وردت في الرق بطل حكم الكتابة وبقي لها حكم الاستيلاد منفردا كما لو لم تكن مكاتبة وله وطؤها وتزويجها وإجارتها وتعتق بموته وما في يدها لورثة سيدها وإذا مات سيدها قبل عجزها انعتقت لأنها أم ولد وتسقط الكتابة لأن الحرية حصلت فسقط العوض المبذول في تحصيلها كما لو باشرها سيدها بالعتق وما في يدها لورثة سيدها في قول الخرقي و أبي الخطاب لأنها عتقت بحكم الاستيلاد وبطل حكم المكاتبة فأشبهت غير المكاتبة وقال القاضي في المجرد و ابن عقيل في كتابه : ما فضل في يدها لها وهو قول الشافعي لأن العتق إذا وقع في الكتابة لا يبطل حكمها كالإبراء من نجوم الكتابة ولأن ملكها كان ثابتا على ما في يدها ولم يحدث إلا ما يزيل حق سيدها عنها فيقتضي زوال حقه عما في يدها وتقرير ملكها وخلوصه لها كما اقتضى ذلك في نفسها وهذا أصح والله أعلم

حكم ما لو عتق السيد المكاتبة
فصل : وإن أعتقها سيدها عتقت وسقطت كتابتها وما في يدها لها في قول القاضي ومن وافقه فأما على قول الخرقي ومن وافقه فقياسه أن يكون لسيدها كما لو عتق بالاستيلاد ويحتمل أن يكون لها على قولهم أيضا لأن السيد أعتقها برضاه فيكون رضا منه بإعطائها مالها بخلاف العتق بالاستيلاد فإنه حقل بغير رضا الورثة ولأنه لو كان مال المكاتب يصير للسيد بإعتاقه لتمكن السيد من أخذ مال المكاتب متى شاء فمتى كان له غرض في أخذ ماله إما لكثرته وفضله عن نجوم كتابته وإما لغرض له في بعض أعيان ماله أعتقه وأخذ ماله وهذا ضرر على المكاتب لم يرد الشرع به ولا يقتضيه عقد الكتابة فوجب أن لا يشرع

حكم ما لو أتت بولد من غير سيدها بعد الاستيلاء
فصل : وإن أتت بولد من غير سيدها بعد استيلادها فله حكمها في العتق بكل واحد من السببين أيهما سبق عتق به كالأم سواء لأنه بائع لها فيثبت له ما يثبت لها وإن ماتت والمكاتبة بقي للولد سبب الاستيلاد وحده وإن اختلفا في ولدها فقالت ولدته بعد كتابتي أو بعد ولادتي قال السيد : بل قبله فقال أبو بكر : القول قول السيد مع يمينه
وهذا قول الشافعي لأن الأصل كون الأمة وولدها رقيقا لسيدهما التصرف فيهما وهي تدعي ما يمنع التصرف وإن زوج مكاتبه أمته ثم باعها منه واختلفا في ولدها فقال السيد هو لي لأنها ولدته قبل بيعها لك وقال المكاتب بل بعده فالقول قول المكاتب لأنهما اختلفا في ملكه ويد المكاتب عليه فكان القول قول صاحب اليد مع يمينه كسائر الأموال ويفارق ولد المكاتبة لأنها لا تدعي ملكه

حكم ما لو كانت بين شريكين فكاتبها فوطئها أحدهما أو كلاهما وحكم الولد إذا كان ولد
فصل : إذا كانت الأمة بين شريكين فكاتباها ثم وطئها أحدهما أدب فوق أدب الواطئ لمكاتبته الخالصة له لأن الوطء هاهنا حرم من وجهين الشركة والكتابة فهو آكد وإثمه أعظم وأدبه أكثر وعليه مهر مثلها على ما أسلفنا فيما إذا كان السيد واحدا فإن لم يكن حل نجم قبضت المهر فإذا حل نجمها سلمته إليهما وإن حل نجمها وهو من جنس مال الكتابة وكان في يدها بقدره دفعته إلى الذي لم يطأها واحتسبت على الواطئ بالمهر وإن لم يكن في يدها شيء وكان بقدر نجمها أو دونه أخذت من الواطئ نصفه وسلمته إلى الآخر وإن لم يكن من جنس مال الكتابة فاتفقا على أخذه عوضا عن مال الكتابة فالحكم فيه كما لو كان من جنسها وإن لم يتفقا قبضته ودفعته مما عليها من مال الكتابة من عوضه أو غيره وإن عجزت فسخا الكتابة وكان في يدها بقدر المهر أخذه الذي لم يطأ وسقط المهر من ذمة الواطئ وإن لم يكن في يدها شيء للذي لم يطأ أن يرجع على الواطئ بنصفه لأنه وطئ جارية مشتركة بينهما فإن حبلت منه صارت أم ولد له وعليه نصف قيمتها لشريكه مع نصف المهر الواجب لها موسرا كان معسرا إلا أنه إن كان موسرا أداه في الحال وإن كان معسرا فهو في ذمته وهذا ظاهر كلام الخرقي ذكر مثل هذا في باب العتق فعلى هذا تصير أم ولد للواطئ ومكاتبته له كأنه اشتراها وتكون مبقاة على ما بقى من كتابتها وتعتبر قيمتها بما تساوي مكاتبته مبقاة على ما بقي عليها من كتابتها واختار القاضي أنه إن كان معسرا لم يسر الإحبال لأنه بمنزلة الإعتاق بالقول يعتبر اليسار في سرايته ونصيب الواطئ قد ثبت له حكم الاستيلاد وحكم الكتابة ونصيب شريكه لم يثبت له إلا حكم الكتابة فإن أدت إليهما عتقت وبطل حكم الاستيلاد وإن عجزت وفسخا الكتابة ثبت لنصفها حكم الاستيلاد ونصفها قن لا يقوم على الوارث وإن كان موسرا لأنه ليس بمعتق وإن مات الواطئ قبل عجزها عتق نصيبه وسقط حكم الكتابة فيه وكان الباقي مكاتبا وإن كان الواطيء موسرا فقد ثبت لنصفها حكم الإستيلاد ونصفها الآخر موقوف فإن أدت إليهما عتقت كلها وولاؤها لهما وإن عجزت وفسخا الكتابة قومناها حينئذ على الواطئ فيدفع إلى شريكه قيمة نصيبه وتصير جميعها أم ولد فإن مات عتقت عليه وكان ولاؤها له وهذا مذهب الشافعي وله قول آخر أنها تقوم على الموسر وتبطل الكتابة في نصف الشريك وتصير جميعها أم ولد ونصفها مكاتبا للواطئ فإن أدت نصيبه إليه عتقت وسرى إلى الباقي لأنه ملكه وعتق جميعها
وإن عجزت ففسخ الكتابة كانت أم ولد له خاصة فإذا مات عتقت كلها
ولنا أن بعضها أم ولد فكان جميعها كذلك كما لو كان الشريك موسرا يحقق هذا أن الولد حاصل من جميعها وهو كله من الواطئ ونسبه لاحق به فيجب أن يثبت ذلك لجميعها ويفارق الإعتاق فإنه أضعف على ما بيننا من قبل
ولنا على أن الكتابة لا تبطل بالتقويم أنها عقد لازم فلا تبطل مع بقائها بفعل صدر منه كما لو استولدها وهي في ملكه وكما لو لم تحبل منه فأما الولد فإنه حر لأنه من وطء فيه شبهة ونسبه لاحق به وكذلك ولا يلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه
وروي عن أحمد في هذا روايتان : أحداهما : لا تجب قيمته لأن نصيب شريكه انتقل إليه من حين العلوق وفي تلك الحال لم تكن له قيمه فلم يضمنه والثانية : عليه نصف قيمته لأنه كان من سبيل هذا النصف أن يكون مملوكا لشريكه فقد تلف رقه عليه فكان عليه نصف قيمته وقال القاضي : هذه الرواية أصح على المذهب وذكر هاتين الروايتين أبو بكر واختار أنها إن وضعته بعد التقويم فلا شيء على الواطئ وإن وضعته قبل التقويم غرم نصف قيمته فإن ادعى الواطئ الاستبراء وأتت بالولد لأكثر من ستة أشهر من حين الاستبراء لم يلحق به ولم تصر أم ولد وكان حكم ولدها حكمها وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من حين الاستبراء لحق به كما لو كان قبل الاستبراء لأنا تبينا أنها كانت حاملا وقت الاستبراء فلم يكن ذلك استبراء
فصل : وإن وطئاها جميعا فقد وجب لها على كل واحد منهما مهر مثلها فإن كانت في الحالين على صفة واحدة فهما سواء في الواجب عليهما وإن كانت بكرا حين وطئها الأول فعليه مهر بكر وعلى الآخر مهر ثيب فإن كان نجمها لم يحل فلها مطالبتهما بالمهرين وإن كان النجم قد حل وهو من جنس المهر تقاصا على ما ذكرنا في المقاصة فإن أدت إليهما عتقت وكان لهما المطالبة بالمهرين وإن عجزت عن نفسها وفسخا الكتابة بعد قبضها المهرين لم يملك أحدهما مطالبة الآخر بشيء لأنها قبضتهما وهي مستحقة لذلك فإن كانا في يدها اقتسماهما وإن تلفا أو بعضهما فلاشيء لهما لأن السيد له دين على مملوكه وإن كان الفسخ قبل قبض المهرين وهما سواء سقط عن كل واحد ما عليه وإن كان أحدهما أكثر من الآخر تقاص منهما بقدر أقلهما على الآخر بنصف الزيادة وإن قبضت البعض من أحدهما دون الآخر رجع المقبوض منه على الآخر بنصف ما عليه وإن قبضت البعض من أحدهما دون الآخر أو قبضت من أحدهما أكثر من الآخر رجع من قبض منه الأكثر على الأخر بنصف الزيادة التي أداها وإن أفضاها أحدهما بوطئه فعليه لها ثلث قيمتها لأن الإفضاء في الحرة يوجب ثلث ديتها فوجب في الأمة ثلث قيمتها مع المهر
فصل : ويحتمل أن يلزمه في الإفضاء قدر نقصها وقال القاضي : تلزمه قيمتها وهو مذهب الشافعي والخلاف في ذلك فرع على الواجب في لإفضاء الحرة وقد ذكرناه فإن فسخت الكتابة رجع من لم يفضها على الآخر بنصف قيمة الإفضاء على الخلاف الذي ذكرناه وإن ادعى كل واحد منهما على الآخر أنه الذي أفضاها أو وطئها حلف كل واحد منهما وبرئ وإن نكل أحدهما قضي عليه وإن كان الخلاف في ذلك قبل عجزها فادعت على أحدهما فالقول قوله مع يمينه وإن دعت على أحدهما غير معين لم تسمع الدعوى
فصل : فإن أولدها كل واحد منهما واتفقا على السابق منهما فعلى قول الخرقي تصير أم ولد له وولده حر لاحق النسب به والخلاف في ذلك كالخلاف فيما إذا انفراد بإيلادها سواء
وأما الثاني : فعلى قول الخرقي قد وطئ أم ولد غيره بشبهة فلا تصير أو ولد له لأنها مملوكة غيره فأشبه ما لو باعها ثم أولدها وعليه مهرها لها لأن الكتابة لم تبطل الولد حر لأنه من وطء شبهة وعليه قيمته للأول لأنه فوت رقه عليه فكان من سبيله أن يكون رقيقا له حكمه حكم أمه فتلزمه قيمته على هذه الصفة وقد ذكرنا في وجوب نصف قيمة الأول خلافا فإن قلنا بوجوبها تقاصا بما كنا لكل لواحد منهما على صاحبه في القدر الذي تساويا فيه ويرجع ذو الفضل بفضله وتعتبر القيمة يوم الولادة لأنها أول حال أمكن التقويم فيها وذكر القاضي في هذه المسألة أربعة أحوال :
أحدها : أن يكونا موسرين فالحكم على ما ذكرنا إلا أنه جعل المهر الواجب على الثاني للأول وهذا مذهب الشافعي ولا يصح لأن الكتابة لا تبطل في الاستيلاد ومهر المكاتبة لها دون سيدها ولأن سيدها لو وطئها لوجب عليه المهر فلأن لا يملك المهر واجب على غيره أولى ولأنه عوض نفعها فكان لها كأجرتها
الثاني : أن يكون الأول موسرا والثاني معسرا فيكون كالحال الذي قبله سواء قال القاضي : إلا أن ولده يكون مملوكا لإعساره بقيمته وهذا غير صحيح لأن الولد لا يرق لإعسار والده بدليل ولد المغرور من أمة والوطء بشبهة وكل موضع حكمنا بحرية الولد لا يختلف بالإعسار واليسار وإنما يعتبر اليسار في سراية العتق وليس عتق هذا بطريق السراية إنما هو لأجل الشبهة في الوطء فلا وجه لاعتبار اليسار فيه والصحيح أنه حر وتجب قيمته في ذمة أبيه
الحال الثالث : أن يكونا معسرين فإنها تصير أم ولد لهما جميعا نصفها أم ولد للأول ونصفها أم ولد للثاني قال : وعلى كل واحد منهما نصف مهرها لصاحبه وفي ولد كل واحد منهما وجهان : أحدهما : أن يكون كله حرا وفي ذمة أبيه ونصف قيمته لشريكه
والثاني : نصفه حر وباقيه عبد لشريكه إلا أن نصف ولد الأول عبد قن لأنه تابع للنصف الباقي من الأم وأما النصف الباقي من ولد الثاني فحكمه حكم أمه لأنه ولد منها بعد أن ثبت لنصفها حكم الاستيلاد للأول فكان نصفه الرقيق تابعا لها في ذلك ولعل القاضي أراد ما إذا عجزت وفسخت الكتابة فأما إذا كانت باقية على الكتابة فإن لها المهر كاملا على كل واحد منهما وإذا حكم برق نصف ولدها وجب أن يكون له حكمها في الكتابة لأن ولد المكاتبة يكون تابعا لها
الحال الرابع : أن يكون الأول معسرا والثاني موسرا فحكمه حكم الثالث سواء إلا أن ولد الثاني حر لأن الحرية ثبتت لنصفه بفعل أبيه وهو موسر فسرى إلى جميعه وعليه نصف قيمته لشريكه ولم تقوم عليه الأم لأن نصفها أم ولد للأول ولو صح هذا لوجب أن لا يقوم عليه نصف الولد لأن حكمه حكم أمه في هذا فإذا منع حكم الاستيلاد السراية في الأم منعه فيما هو تابع لها ومذهب الشافعي في هذه المسألة قريب مما ذكر القاضي
فصل : وإن اختلفا في السابق منهما فادعى كل واحد منهما أنه السابق فعلى قولنا لها المهر على كل واحد منهما وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية لأنه يقول صارت أم ولد لي بإحبالي إياها ووجب لشريكي علي نصف قيمتها ولي عليه قيمة ولده لأنه يقول : أولدتها بعد أن صارت أم ولد لي وهل يكون مقرا له بنصف قيمة ولده ؟ على وجهين سبق ذكرهما فعلى هذا إن استوى ما يدعيه وما يقر به تقاصا وتساقطا ولا يمين لواحد منهما على صاحبه لأنه يقول لي عليك مثل ما لك علي والجنس واحد فتساقطا وإن زاد ما يقر به فلا شيء عليه لأن خصمه يكذبه في إقراره وإن زاد ما يدعيه فله اليمين على صاحبه في الزيادة ويثبت للأمة حكم العتق في نصيب كل واحد منهما بموته لإقراره بذلك ولا يقبل قوله على شريكه في إعتاق نصيبه
وقال أبو بكر في الأمة قولان أحدهما : يقرع بينهما فتكون أم ولد لمن تقع له والثاني تكون أم ولد لهما ولا يطئوها واحد منهما قال : وبالأول أقول وأما القاضي فاختار أنهما إن كانا موسرين فكل واحد منهما يدعي المهر على صاحبه ويقر له بنصفه وهذا مذهب الشافعي لأن المهر عندهم لسيدها دونها ولا يعتق شيء منها بموت الأول لاحتمال أن تكون أم ولد للآخر وأما إذا مات الآخر عتقت لأن سيدها قد مات يقينا وإن كانا معسرين فكل واحد منهما مقر بأن نصفها أم ولده ويصدقه الآخر لأن الاستيلاد لا يسري مع الإعسار وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر والآخر يصدقه فيتقاصان إن تساويا وإن فضل أحدهما صاحبه نظرت فإن كل واحد منهما يدعي الفضل تحالفا وسقط وإن كان كل واحد منهما يقر للآخر بالفضل سقط لتكذيب المقر له به وفي الولد وجهان أحدهما : يكون حرا فيكون كل واحد منهما يدعي على الآخر نصف قيمة الولد والوجه الثاني : نصفه حر فيقر بأنه نصف الولد مملوك لشريكه فيكون الولدان بينهما من غير يمين وعلى الوجه الأول يتقاصان إن تساوت قيمة الولدين ولا يمين في الموضعين فأيهما مات عتق نصيبه وولاؤه له وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فالموسر يقر للمعسر بنصف المهر ونصف قيمة الولد ونصف مهرها ويدعي عليه جميع المهر وقيمة الولد والمعسر يقر للموسر بنصف المهر ونصف قيمة الولد ونصف مهرها فيسقط إقرار الموسر للمعسر بنصف قيمة الجارية لكونه لا يدعيه ولا يصدقه فيه ويتقاصان بالمهر لاستوائهما فيه ويدفع المعسر إلى الموسر نصف قيمة الولد لإقراره به ويحلف على ما يدعيه عليه من الزيادة لأنه ادعى عليه جميع قيمة الولد فأقر له بنصفها ويحلف له الموسر على نصف قيمة الولد الذي ادعاه المعسر عليه
فأما الجارية فإن نصيب الموسر منها أم ولد بغير خلاف بينهما فيه وباقيها يتنازعانه فإن مات الموسر أولا عتق نصيبه وولاؤه لورثته فإذا مات المعسر عتق باقيها وإن مات المعسر أولا لم يعتق منها شيء فإذا مات الموسر عتق جميعها ويجيء على قول أبي بكر أن يقرع بينهما في النصف المختلف فيه
فصل : فإن وطئاها معا فأتت بولد لم يخل من ثلاثة أقسام : أحدها : أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما مثل أن تأتي به بعد استبرائها منهما أو بعد أربع سنين منذ وطئها كل واحد منهما أو قبل مضي ستة أشهر منذ وطئها كل واحد منهما فإن الولد منفي عنهما وهو مملوك هما حكمه حكم أمه في العتق بأدائها وإذا ادعى كل واحد منهما الاستبراء منه قبل منه لأن دعوى الاستبراء في الأمة كاللعان في الحرة
القسم الثاني : أن يكون من أحدهما بعينه دون صاحبه فالحكم فيه كالحكم فيما إذا ولدت من أحدهما بعينه من وجوب المهر لها وقيمة نصفها لشريكه مع الخلاف في ذلك وأما الذي لم تحبل من وطئه فإن كان الأول فعليه المهر لها وإن كان هو الثاني فقد وطئ أم ولد غيره فإن كانت الكتابة باقية فعليه المهر لها أيضا وإن كانت الكتابة قد فسخت فالمهر للذي استولدها وقد وجب للثاني على الأول نصف قيمتها وفي قيمة نصف الولد روايتان : فإن كان المهرللأول تقاصا بقدر أقل الحقين وإن كان المهر لها رجع بحقه على الذي أحبلها وأما القاضي فقال في هذا القسم : الحكم في الأول كالحكم فيه إذا انفرد بالوطء على ما مضى من التفضيل والتطويل
وأما الثاني فإن وطئها بعد ولادتها من الأول نظرنا فإن وطئها بعد الحكم بكونها أم ولد للأول فعليه مهر مثلها فإن كان فسخ الكتابة في حق نفسه لعجزها فالمهر له لأنها أم ولده وإن كان لم يفسخ فالمهر بينه وبينها نصفين وإن وطئها بعد زوال الكتابة في حقه وقبل الحكم بأنها أم ولد للأول سقط عنه نصف مهرها لأن نصفها قن له وعليه النصف لها إن لم يكن الأول فسخ الكتابة أو له إن كان فسخ وإن كان الأول معسرا فنصيبه منها أم ولد له ولها عليهما المهران والحكم فيما إذا عجزت أو أدت قد تقدم فأما إن كان الولد من الثاني فالحكم في وطء الأول كالحكم فيه إذا وطئ منفردا فلم يحبلها
وأما الثاني فإن كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه عند العجز فأن فسخا الكتابة قومناهم عليه وصارت أم ولد له وإن رضي الثاني بالمقام على كتابة قومنا عليه نصيب الأول وصارت كلها أم ولد له ونصفها مكاتب ويرجع الأول على الثاني بنصف المهر ونصف قيمة الولد على إحدى الروايتين ورجع الثاني على الأول بنصف المهر فيتقاصان به إن كان باقيا عليهما وإن كان الثاني معسرا فالحكم فيه كما ولدت من الأول وكان معسرا لا فضل بين المسألتين
القسم الثالث : أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما فإنه يرى القافة معهما فيلحق بمن ألحقوا به منهما فمن ألحق به فحكمه حكم ما لو عرف أنه منه بغير قافة

حكم ما لو كاتب نصف عبد
مسألة : قال : وإذا كاتب نصف عبد فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده صار حرا بالكتابة إن كان الذي كاتبه معسرا وإن كان موسرا عتق عليه كله وصار نصف قيمته على الذي كاتبه لشريكه
وجملته أن الرجل إذا كان له نصف عبد كانت له مكاتبته وصح منه سواء كان باقيه حرا أو مملوكا لغيره وسواء أذن فيه الشريك أو لم يأذن وهذا ظاهر كلام الخرقي و أبي بكر وقول الحكم و ابن أبي ليلى حكي ذلك عن الحسن البصري و الحسن بن صالح و مالك و العنبري وكره الثوري و حماد كتابته بغير إذن شريكه
وقال الثوري : إن فعل رددته إلا أن يكون نقده فيضمن لشريكه ما في يده وقال أبو حنيفة : تصح بإذن الشريك ولا تصح بغير إذنه وهذا أحد قولي الشافعي إلا أن أبا حنيفة قال : إذنه فيما مضى في ذلك يقتضي الإذن في تأدية مال الكتابة من جميع كسبه ولا يرجع الآذن بشيء منه وقال أبو يوسف و محمد : يكون جميعه مكاتبا
وقال الشافعي في أحد قوليه : إن كان باقيه حرا صحت كتابته وإن كان باقيه ملكا لم تصح كتابته سواء أذن فيه الشريك أم لم يأذن لأن كتابته تقتضي إطلاقه في رد الكسب والمسافرة وملك نصفه يمنع ذلك ويمنعه أخذ نصيبه من الصدقات لئلا يصير كسبا له ويستحق سيده نصفه ولأنه إذا أدى عتق جميعه فيؤدي إلى أن يؤدي نصف كتابته ويعتق جميعه
ولنا أنه عقد معاوضة على نصفه فصح كبيعه ولأنه ملك له يصح بيعه وهبته فصحت كتابته كما لو ملك جميعه ولأنه ينفذ إعتاقه فصحت كتابته كالعبد الكامل و كما لو كان باقيه حرا عند الشافعي أو أذن فيه الشريك عند الباقين
وقولهم إنه يقتضي المسافرة والكسب وأخذ الصدقة قلنا : أما المسافرة فليست من المقتضيات الأصلية فوجود مانع منها لا يمنع أصل العقد وأما الكسب وأخذ الصدقة فإنه لا يمنع كسبه وأخذه الصدقة يجزئه بالمكاتبة ولا يستحق الشريك شيئا منه لأنه إنما استحق ذلك بالجزء المكاتب ولا حق للشريك فيه فكذلك فيما حصل به كما لو ورث شيئا يجزئه الحر وأما الكسب فإن هايأه مالك نصفه فكسب في نوبته شيئا لم يشاركه فيه أيضا وإن لم يهايئه فكسب بجملته شيئا كان بينهما له بقدر ما فيه من الجزء المكاتب ولسيده الباقي لأنه كسبه يجزئه المملوك فأشبه ما لو قبل كتابته فيقسم بين سيديه
وقولهم إنه يفضي إلى أن يؤدي بعض الكتابة فيعتق قلنا يبطل هذا بما لو علق عتق نصيبه على أداء مال فإنه يؤدي عوض البعض ويعتق الجميع على أننا نقول : لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة فإن جميع الكتابة هو الذي كاتبه عليه مالك نصفه ولم يبق منها شيء فلا يعتق حتى يؤدي جميعها ولأنه لا يعتق الجميع بالأداء وإنما يعتق الجزء المكاتب لا غير وباقيه إن كان المكاتب معسرا لم يعتق وإن كان موسرا عتق بالسراية لا بالكتابة ولا يمنع هذا كما لو أعتق بعضه عتق جميعه فإذا جاز جميعه بإعتاق بعضه بطريق السراية جاز ذلك فيما يجري مجرى العتق
إذا ثبت هذا فإنه إذا كاتب نصيبه لم تسر الكتابة ولم يتعد الجزء الذي كاتبه لأن الكتابة عقد معاوضه فلم يسر كالبيع وليس للعبد أن يؤدي إلى مكاتبه شيئا حتى يؤدي إلى شريكه مثله سواء أذن الشريك في كتابته أو لم يأذن لأنه إنما أذن في كتابة نصيبه وذلك يقتضي أن يكون نصيبه باقيا له ولا يقتضي أن يكون معروفا في الكتابة وهذا إذا كان الكسب بجميعه فإن أدى الكتابة من جميع كسبه لم يعتق لأن الكتابة صحيحة تقتضي العتق ببراءته من العوض وذلك لا يحصل بدفع ما ليس له وإن أدى إليهما جميعا عتق كله لأن نصفه يعتق بالأداء فإذا عتق سرى إلى سائرة وإن كان الذي كاتبه موسرا لأن عتقه بسبب من جهته فلزمته قيمته كما لو باشره بالعتق أو كما لو علق عتق نصيبه على صفة فعتق بها ويرجع الشريك على المكاتب بنصف قيمته كما لو باشره بالعتق فأما إن ملك العبد شيئا بجزئه المكاتب مثل أن هايأه سيده فكسب شيئا في نوبته أو أعطى من الصدقة من سهم الرقاب أو من غيره فلا حق لسيده فيه وله أداء جميعه في كتابته لأنه إنما استحق ذلك بما فيه من الكتابة فأشبه النصف الباقي بعد إعطاء الشريك حقه فلو كان ثلثه حرا وثلثه مكاتبا وثلثه رقيقا فورث بجزئه الحر ميراثا وأخذ بجزئه المكاتب من سهم الرقاب فله دفع ذلك كله في كتابته لأنه ما استحق بجزئه الرقيق شيئا منه فلا يستحق مالكه منه شيئا وإذا أدى جميع كتابته عتق فإذا كان الذي كاتبه معسرا لم يسر العتق ولم يتعدى نصيبه كما إذا واجهه بالعتق إلا على الرواية التي نقول فيها بالاستسعاء فإنه يستسعي في نصيب الذي لم يكاتب وإن كان موسرا سرى إلى باقيه

حكم ما لو كان العبد كله ملكا لرجل
فصل : وإذا كان العبد كله ملكا لرجل فكاتبه بعضه جاز قال أبو بكر لأنها معاوضة فصحت في بعضه كالبيع فإذا أدى جميع كتابته عتق كله لأنه إذا سرى العتق فيه إلى ملك غيره فإلى ملكه أولى ويجب أن يؤدي إلى سيده مثلي كتابته لأن النصف ما يكسبه يستحقه سيده بما فيه من الرق ونصفه يؤدى في الكتابة إلا أن يرضى سيده بتأدية الجميع في الكتابة فيصح وإذا استوفي المال كله عتق نصفه بالكتابة وباقيه في السراية

في حكم ما لو كان ملكا لرجلين فكاتباه
فصل : وإذا كان العبد لرجلين فكاتباه معا جاز سواء تساويا في العوض أو اختلفا فيه وسواء اتفقا نصيبهما فيه أو اختلفا وسواء كان في عقد واحد أو عقدين وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي : لا يجوز أن يتفاضلا في المال مع التساوي في الملك ولأن التساوي في المال منع التفاضل في الملك لأن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر من قدر ملكه ثم عجز رجع عليه الآخر بذلك
ولنا أن كل واحد منهما يعقد على نصيبه عقد معاوضة فجاز أن يختلفا في العوض كالبيع وما ذكروه لا يلزم لأن انتفاع أحدهما بمال الآخر إنما يكون عند العجز وليس ذلك من مقتضيات العقد وإنما يكون عند زواله فلا يضر ولأنه إنما يؤدي إليهما على التساوي وإذا عجز قسم ما كسبه بينهما على قدر الملكين فلم يكن أحدهما منتفعا إلا بما يقابل ملكه وعاد الأمر بعد زوال الكتابة إلى حكم الرق كأنه لم يزل فإن قيل فالتساوي في الملك يقتضي التساوي في أدائه إليهما ويلزم منه وفاء كتابته أحدهما قبل الآخر فيعتق نصيبه ويسري إلى نصيب صاحبه ويرجع عليه الآخر بنصف قيمته قلنا : يمكن أداء كتابته إليهما دفعة واحدة فيعتق عليهما ويمكن أن يكاتب أحدهما على مائة في نجمين في كل نجم خمسون ويكاتب الآخر على مائتين في نجمين في النجم الأول خمسون
وفي الثاني : مائة وخمسون ويكون وقتهما واحدا فيؤدي إلى كل واحد منهما حقه على أن أصحابنا قالوا : لا يسري العتق إلى نصيب الآخر ما دام مكاتبا فعلى هذا القول لا يفضي إلى ما ذكروه على أنه وإن قدر إفضاؤه إليه فلا مانع فيه من صحة الكتابة فأنه لا يخل بمقصود الكتابة وهو العتق بها ويمكن وجود سراية العتق من غير ضرر بأن يكاتبه على مثلي قيمته فإذا عتق عليه غرم لشريكه نصف قيمته وسلم له باقي المال وحصل له ولاء العبد ولا ضرر في هذا ثم لو كان فيه ضرر لكن قد رضي به حين كتابته على أقل مما كاتبه به شريكه والضرر المرضي به من جهة المضرور لا عبرة به كما لو باشره بالعتق أو أبرأه من مال الكتابة فإنه يعتق عليه ويسري عتقه ويغرم لشريكه وهو جائز فهذا أولى بالجواز ولا يجوز أن يختلفا في التنجيم ولا في أن يكون لأحدهما في النجوم قبل النجم الأخير أكثر من الآخر في أحد الوجهين لأنه لا يجوز أن يؤدي إليهما إلا على السواء ولا يجوز تقديم أحدهما بالأداء على الآخر واختلافهما في ميقات النجوم وقدر المؤدى فيهما يقضي إلى ذلك
والثاني : يجوز لأنه يمكن أن يعجل لمن تأخر نجمه قبل محله ويعطي من قل نجمه أكثر من الواجب له ويمكن أن يأذن له أحدهما في الدفع إلى الآخر قبله أو أكثر منه ويمكن أن ينظره من حل نجمه أو يرضى من له الكثير بأخذ دون حقه وإذا أمكن إفضاء العقد إلى مقصودة فلا تبطل باحتمال عدم الإفضاء إليه
فصل : وليس للمكاتب أن يؤدي إلى أحدهما أكثر من الآخر ولا يقدم أحدهما على الآخر ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه خلافا لأنهما سواء فيه فيستويان في كسبه وحقهما متعلق بما في يده تعلقا واحدا فلم يكن له أن يخص أحدهما بشيء منه دون الآخر ولأنه ربما عجز فيعود إلى الرق ويتساويان في كسبه فيرجع أحدهما على الآخر بما في يده من الفضل بعد انتفاعه به مدة فإن قبض أحدهما دون الآخر شيئا لم يصح القبض وللآخر أن يأخذ من حصته إذا لم يكن أذن في القبض وإن أذن فيه ففيه وجهان ذكرهما أبو بكر : أحدهما : يصح لأن المنع لحقه فجاز بإذنه كما لو أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه أو أذن البائع للمشتري في قبض البيع قبل توفية ثمنه أو أذنا للمكاتب في التبرع ولأنهما لو أذنا له في الصدقة بشيء صح قبض المتصدق عليه له كذلك ههنا والثاني : لا يجوز وهذا اختيار أبو بكر ومذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي واختيار المزني لأن ما في يد المكاتب ملك له فلا ينفذ إذن غيره فيه وإنما حق سيده في ذمته الأول أصح إن شاء الله تعالى لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا اتفقوا على شيء فلا وجه للمنع وقولهم أنه ملك للمكاتب تعليق على العلة ضد ما تقضيه لأن كونه ملكا له يقتضي جواز تصرفه فيه على حسب اختياره وإنما المنع لتعلق حق سيده به فإذا أذن زال المانع فصح التقبيض لوجود مقتضيه وخلوه من المانع ثم يبطل لما ذكرنا من المسائل فعلى هذا الوجه إذا دفع إلى أحدهما مال الكتابة بإذن صاحبه عتق نصيبه من المكاتب لأن استوفى حقه ويسري العتق إلى باقيه وعليه قيمة حصة شريكه لأن عتقه بسببه هذا قول الخرقي ويضمنه في الحال بنصف قيمته مكاتبا مبقى على ما بقي عليه من كتابته وولاؤه كله له وما في يده من المال الذي لم يقبض منه بقدر ما قبضه صاحبه والباقي بين العبد وبين سيده الذي عتق عليه لأن نصفه عتق بالكتابة ونصفه بالسراية فحصة ما عتق بالكتابة للعبد وحصة ما عتق بالسراية لسيده وعلى ما اخترناه يكون الباقي كله للعبد لأن الكسب كان ملكا له فلا يزول ملكه عنه بعتقه كما لو عتق بالأداء قال أبو بكر والقاضي : لا يسري العتق في الحال وإنما يسري عند عجزه فعلى قولهما يكون باقيا على الكتابة فإن أدى إلى الآخر عتق عليهما وولاؤه لهما وما بقي في يده من كسبه فهو له وإن عجز وفسخت كتابته قوم على الذي أدى إليه وكان ولاء جميعه له وتنفسخ الكتابة في نصفه وإن مات فقد مات ونصفه حر ونصفه رقيق لسيده الذي لم يعتق نصيبه أن يأخذ مما خلفه مثل ما أخذ شريكه من مال الكتابة وله نصف ما يبقى والباقي لورثة العبد فإن لم يكن له وارث من نسبه فهو للذي أدى إليه بالولاء وإن قلنا لا يصح القبض فما أخذه القابض بينه وبين شريكه ولا يعتق حصته من المكاتب لأنه لم يستوف عوضه ولغير القابض مطالبة القابض بنصيبه ما قبضه كما لو قبضه بغير إذنه سواء وإن لم يرجع غير القابض بنصيبه حتى أدى المكاتب إليه كتابته صح وعتق عليهما جميعا وإن مات العبد قبل استيفاء الآخر حقه فقد مات عبدا ويستوفي الذي لم يقبض من كسبه بقدر ما أخذه صاحبه والباقي بينهما قال أحمد في رواية ابن منصور في عبد بين رجلين كاتباه فأدى إلى أحدهما كتابته ثم مات وهو يسعى للآخر لمن ميراثه ؟ قال أحمد : كل ما كسب العبد في كتابته فهو بينهما ويرجع هذا على الآخر بنصيبه مما أخذ وميراثه بينهما قال ابن منصور : قال إسحاق بن راهويه كما قال
فصل : وإن عجز مكاتبهما فلهما الفسخ والإمضاء فإن فسخا جميعا أو أمضيا الكتابة جاز ما اتفقا عليه وإن فسخ أحدهما وأمضى الآخر جاز وعاد نصفه رقيقا قنا ونصفه مكاتبا قال القاضي تنفسخ الكتابة في جميعه وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة لو بقيت في نصفه لعاد ملك الذي فسخ الكتابة إليه ناقصا
ولنا أنها كتابة في ملك أحدهما فلم تنفسخ بفسخ الآخر كما لو انفرد بكتابته ولأنهما عقدان مفردان فلم ينفسخ أحدهما بفسخ الآخر كالبيع وما حصل من النقص لا يمنع لأنه إنما حصل ضمنا لتصرف الشريك في نصيبه فلم يمنع كإعتاق الشريك ولأن من أصلنا أنه تصح مكاتبة أحدهما نصيبه فإذا لم يمنع العقد في ابتدائه فلأن يبطل في دوامه أولى ولأن ضرره حصل بعقده وفسخه فلا يزول بفسخ غيره ولأن في الفسخ الكتابة ضررا بالمكاتب وسيده وليس دفع الضرر عن الشريك الذي فسخ بأولى من دفع الضرر عن الذي لم يفسخ بل دفع الضرر عن الذي لم يفسخ أو لوجوه ثلاثة أحدها : أن ضرر الذي فسخ حصل ضمنا لبقاء عقد شريكه في ملك نفسه وضرر شريكه يزول عقده وفسخ تصرفه في ملكه والثاني : أن الضرر الذي فسخ لم يعتبره الشرع في موضع ولا أصل لما ذكروه من الحكم ولا يعرف له نظير فيكون بمنزلة المصلحة المرسلة التي وقع الإجماع على اطراحها وضرر شريكه بفسخ عقده معتبر في سائر عقوده من بيعه وهبته ورهنه وغير ذلك فيكون أولى الثالث : أن ضرر الفسخ يتعدى إلى المكاتب فيكون ضررا باثنين وضرر الفاسخ لا يتعداه ثم لو قدر تساوي الضررين لوجب ابقاء الحكم على ما كان عليه ولا يجوز احداث الفسخ من غير دليل راجح عن الذي حصل ضمنا لبقاء عقد شريكه في ملك نفسه وضرر شريكه يزول عقده وفسخ تصرفه في ملكه

في زكاة مال المكاتب إذا عتق
مسألة قال : وإذا عتق المكاتب استقبل بما في يده من المال حولا ثم زكاه إن كان نصابا
وجملته أن المكاتب لا زكاة عليه بلا خوف نعلمه فإذا عتق صار من أهل الزكاة حينئذ فيبتدئ حول الزكاة من يوم عتق فإذا تم الحول وجبت الزكاة إن كان ناصبا وإن لم يكن ناصبا فلا شيء فيه ويصير هذا كالكافر إذا أسلم وفي يده مال زكوي يبلغ نصابا فإنه يستقبل به حولا من حين أسلم لأنه صار حينئذ من أهل الزكاة وكذلك العبد إذا عتق وفي يده مال أبقاه له سيده

إذا لم يؤد المكاتب نجما حتى حل نجم آخر عجزه السيد وعاد عبدا وعلى السيد أن يطالبه بأدائه حين حلوله
مسألة : قال : وإذا لم يؤد نجما حتى حل نجم آخر عجزه السيد إن أحب وعاد عبدا غير مكاتب
وجملته أن الكتابة عقد لازم لا يملك السيد فسخها قبل عجز المكاتب بغير خلاف نعلمه وليس له مطالبة المكاتب قبل حلول النجم لأنه إنما ثبت في العقد مؤجلا وإذا حل النجم فللسيد مطالبته بما حل من نجومه لأنه دين له حل فأشبه دينه على الأجنبي وله الصبر عليه وتأخيره به سواء كان قادرا على الأداء أو عاجزا عنه لأنه حق له سمح بتأخيره أشبه دينه على الأجنبي فإن اختار الصبر عليه لم يملك العبد الفسخ بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المكاتب إذا حل نجم أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما ثابتين على العقد الأول فإن أجله به ثم بدا له الرجوع فله ذلك لأن الدين الحال لا يتأجل بالتأجيل كالقرض وإن حل عليه نجمان فعجز عنهما فاختار السيد فسخ كتابته ورده إلى الرق فله ذلك بغير حضور حاكم ولا سلطان ولا تلزمه الاستنابة فعل ذلك ابن عمر وهو قول شريح و النخعي و أبي حنيفة و الشافعي وقال ابن أبي ليلى : لا يكون عجزه إلا عند قاض وحكي نحو هذا عن مالك وقال الحسن : إذا عجز استؤني بعد العجز سنتين وقال الأوزواعي : شهرين ونحو ذلك
ولنا ما روى سعيد بإسناده عن ابن عمر أنه كاتب غلاما له على ألف دينار فأدى إليه تسعمائة دينار وعجزه عن مائة دينار فرده إلى الرق وبإسناده عن عطية العوفي عن ابن عمر أأنه كاتب عبده على عشرين ألفا فأدى عشرة آلاف ثم أتاه فقال إني قد طفت العراق والحجاز فردني في الرق فرده
وروي عن أنه كاتب عبدا له على ثلاثين ألفا فقال له أنا عاجز فقال له امح كتابتك فقال امح أنت وروى سعيد بإسناده عن عمروا بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فقال [ أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشرة أواق فهو رقيق ] ولأنه عقد عجز عن عوضه فملك مستحقه فسخه كالسلم إذا تعذر المسلم فيه ولأنه فسخ عقد مجمع عليه فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ المعتقة تحت العبد فإن قيل فلم كانت الكتابة لازمة من جهة السيد غير لازمة من جهة العبد ؟ قلنا هي لازمة من جهة الطرفين ولا يملك العبد فسخها بحال وإنما له أن يعجز نفسه ويمتنع من الكسب وإنما كان له ذلك لوجهين : أحدهما : أن الكتابة تتضمن إعتاقا بصفة ومن علق عتق عبده بصفة لم يملك إبطالها ويلزم وقوع العتق بالصفة ولا يلزم العبد الإتيان بالصفة ولا يجبر عليها الثاني أن الكتابة لحظ العبد دون سيده وكان العقد لازما لم ألزم نفسه حظ غيره وصاحب الحظ بالخيار فيه كمن ضمن لغيره شيئا أو كفل له أو رهن عنده رهنا
فصل : فأما إن حل نجم واحد فعجز عن أدائه فظاهر الكلام الخرقي أنه ليس للسيد للفسخ حتى يحل نجمان قبل أدائهما وهي إحدى الروايتين عن أحمد قال القاضي : هو ظاهر كلام أصحابنا وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الحكم و ابن أبي ليلى و أبي يوسف و الحسن بن صالح
وقال ابن أبي موسى : وروي عن أحمد أنه لا يعود رقيقا حتى يقول قد عجزت وقيل عنه : إذا أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق واتبع بما بقي
والرواية الثانية : أنه إذا عجز عن نجم واحد فلسيده فسخ الكتابة وهو قول الحارث العكلي و أبى حنيفة و الشافعي لأن السيد دخل على أن يسلم له مال الكتابة على الوجه الذي كاتبه عليه ويدفع إليه المال في نجومه فإذا لم يسلم له لم يلزمه عتقه ولما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا ولأنه عجز عن أداء النجم في وقته فجاز فسخ كتابته كالنجم الأخير
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا يرد المكاتب في الرق حتى يتوالى عليه نجمان ولأن ما بين النجمين محل لأداء الأول فلا يتحقق العجز عنه حتى يفوت محله بحلول الثاني
فصل : وإذا حل النجم وماله حاضر عنده طولب بأدائه ولم يجز الفسخ قبل الطلب كما لا يجوز فسخ البيع والسلم بمجرد وجوب الدفع قبل الطلب فإن طلب منه فذكر أنه غائب عن المجلس في ناحية من نواحي البلد أو قريب منه على مسافة لا تقتصر فيها الصلاة يمكن إحضاره قريبا لم يجز فسخ الكتابة وأمهل بقدر ما يأتي به إذا طلب الإمهال لأن هذا يسير لا ضرر فيه وإن كان معه مال من غير جنس مال الكتابة فطلب الإمهال ليبيعه بجنس مال الكتابة أمهل وإن كان المال غائبا أكثر من مسافة القصر لم يلزم الإمهال وهذا قول الشافعي
وقال أبو حنيفة : إن كان له مال حاضر أو غائب يرجو قدومه استؤني يومين وثلاثة لا أزيده على ذلك لأن الثلاثة آخر حد القلة والقرب لما بينا فيما مضى وما زاد عليها في حد الكثرة وهذا كله قريب بعضه من بعض فأما إذا كان قادرا على الأداء واجدا لما يؤديه فامتنع من أدائه وقال قد عجزت فقال الشريف أبو جعفر وجماعة من أصحابنا المتأخرين : يملك السيد فسخ الكتابة وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : إذا حل نجم فلفم يؤده حتى حل نجم آخر عجزه السيد إن أحب فعلق جواز الفسخ على عدم الأداء وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو بكر بن جعفر : ليس له ذلك ويجبر على تسليم العوض وهو قول أبي حنيفة و مالك و الأوزاعي وقد ذكرنا هذا فيما تقدم فأما إن كان قادرا على أداء المال كله ففيه رواية أخرى أنه يصير حرا بملك ما يؤدي وقد سبق ذكرها

حكم ما لو حل النجم والمكاتب غائب
فصل : وإذا حل النجم والمكاتب غائب بغير إذن سيده فله الفسخ وإن كان سافر بإذنه لم يكن له أن يفسخ لأنه أذن في السفر المانع من الأداء ولكن يرفع أمره إلى الحاكم ويثبت عنده حلول مال الكتابة ليكتب الحاكم إلى المكاتب فيعلم بما ثبت عنده فإن كان عاجزا عن أداء المال كتب بذلك إلى الحاكم الكاتب ليجعل للسيد فسخ الكتابة وإن كان قادرا على الأداء طلبه بالخروج إلى البلد الذي فيه السيد ليؤدي مال الكتابة أو يوكل من يفعل ذلك فإن فعله في أول حال الإمكان عند خروج القافلة إن كان لا يمكنه الخروج إلا معهما لم يجز الفسخ وإن أخره عن حال الإمكان ومضى زمن المسير ثبت للسيد خيار الفسخ فإن وكل السيد في بلد المكاتب من يقبض منه مال الكتابة لزمه الدفع إليه فإن امتنع من الدفع ثبت للسيد خيار الفسخ وإن كان قد جعل للوكيل الفسخ عن امتناع المكاتب من الدفع إليه جاوز وله الفسخ إذا ثبتت وكالته ببينة بحيث يأمن المكاتب إنكار السيد وكالته وإن لم يثبت ذلك لم يلزم المكاتب الدفع إليه وكان له عذر يمنع جواز الفسخ لأنه لا يأمن أن يسلم إليه فينكر السيد وكالته ويرجع على المكاتب بالمال وسواء صدقه في أنه وكيل أو كذبه وإن كتب حاكم البلد الذي فيه السيد إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليقبض منه المال لم يلزمه ذلك لأن هذا توكيل لا يلزم الحاكم الدخول فيه فإن الحاكم لا يكلف القبض للبالغ الرشيد فإن اختار القبض جرى مجرى الوكيل ومتى قبض منه المال عتق

حكم إذا دفع العوض في الكتابة فبان مستحقا
فصل : قال : وإذا دفع العوض في الكتابة فبان مستحقا تبين أنه لم يعتق وكان هذا الدفع كعدمه لأنه لم يؤد الواجب عليه وقيل له إن أديت الآن وإلا فسخت كتابك وإن كان قد مات بعد الأداء فقد مات عبدا فإن بان معيبا مثل أن كاتبه على عروض موصوفة فقبضها فأصاب بها عيبا بعد قبضها نظرت فإن كان قد رضي بذلك وأمسكها استقر العتق فإن قيل كيف يستقر العتق ولم يعطه جميع ما وقع عليه العقد ؟ فإن ما يقابل العيب لم يقبضه فأشبه ما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة قلنا إمساكه المعيب راضيا به رضا منه بإسقاط حقه فجرى مجرى إبرائه من بقية كتابته وإن اختار إمساكه وأخذ أرش العيب أو رده فله ذلك قال أبو بكر : قياس قول أحمد رحمه الله أنه لا يبطل العتق وليس له الرد وله الأرش لأن العتق إتلاف واستهلاك فإذا حكم بوقوعه لم يبطل كعقد الخلع ولأنه ليس المقصود منه المال فأشبه الخلع
وقال القاضي : يتوجه أن له الرد ويحكم بارتفاع العتق الواقع لأن العتق إنما استقر باستقرار الأداء وقد ارتفع الأداء فارتفع العتق وهذا مذهب الشافعي لأن الكتابة عقد معاوضة يلحقه الفسخ بالتراضي فوجب أن يفسخ بوجود العيب كالبيع وإن اختار إمساكه وأخذ الأرش فله ذلك وتبين أن العتق لم يقع ولأننا تبينا أن ذمته لم تبرأ من مال الكتابة ولا يعتق قبل ذلك وظن وقوع العتق لا يوقعه إذا بان الأمر بخلافه كما لو بان العوض مستحقا وإن تلفت العين عند السيد أو حدث بها عنده عيب استقر أرش العيب والحكم في ارتفاع العتق على ما ذكرناه فيما مضى ولو قال السيد لعبده : إن أعطيتني عبدا فأنت حر فأعطاه عبدا فبان حرا أو مستحقا لم يعتق بذلك لأنة معناه : إن أعطيته ملكا ولم يعطه إياه ملكه ولم يملكه إياه

حكم ما إذا دفع مال الكتابة ظاهرا
فصل : وإذا دفع إليه مال الكتابة ظاهرا فقال له السيد : أنت حر ثم بان العوض مستحقا لم يعتق بذلك لأن ظاهره الإخبار عما حصل له بالأداء ولو ادعى المكاتب أن سيده قصد بذلك عتقه وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه لأن الظاهر معه وهو أخير بما نوى

ما قبض من نجوم كتابته استقبل بزكاته حولا
مسألة : قال : وما قبض من نجوم كتابته استقبل بزكاته حولا
وجملته أن ما يأخذه من نجوم كتابته كمال استفاده بكسب غيره فيملكه بأخذه يستقبل به حولا لأنه لا يملك ما في يد مكاتبه ولهذا جرى الربا بينهما ولا زكاة عليه في الدين الذي على المكاتب لأن ملكه عليه غير تام فوجب أن يستقبل به بما يأخذه منه حولا كما لو أخذه من أجنبي

حكم ما لو جنى المكاتب جناية أو جنايات أو جني عليه
مسألة : قال وإذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته فإن عجز كان سيده مخيرا بين أن يفديه بقيمته إن كانت أقل من جنايته أو يسلمه
وجملة ذلك ان المكاتب إذا جنى جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته ويؤدي من المال الذي في يده وبهذا قال الحسن و الحكم و حماد و ألأوزاعي و مالك و الحسن بن صالح و الشافعي و أبو ثور وقال عطاء و النخعي و عمرو بن دينار : جنايته على سيده قال عطاء : و يرجع سيده بها عليه وقال الزهري : إذا قتل رجلا خطأ كانت كتابته وولاؤه لولي المقتول إلا أن يفديه سيده
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يجني جان إلا على نفسه ] ولأنها جناية عبد فلم تجب في ذمة سيده كالقن إذا ثبت هذا فإنه يبدأ بأداء الجناية قبل الكتابة سواء حل عليه نجم أو لم يحل وهذا المنصوص عليه عن أحمد والمعمول به في المذهب وذكر أبو بكر قولا آخر أن السيد يشارك ولي الجناية فيضرب بقدر ما حل من نجوم كتابته لأنهما دينان فيتحاصان كسائر الديون
ولنا أن أرش الجناية من العبد يقدم على سائر الحقوق المتعلقة به ولذلك قدمت على حق المالك وحق المرتهن وغيرهما فوجب أن يقدم هاهنا يحققه أن أرش جنايته مقدم على ملك السيد في عبده فيجب تقديمه على عوضه وهو مال الكتابة بطريق الأولى لأن الملك فيه قبل الكتابة كان مستقرا ودين الكتابة غير مستقر فإذا قدم على المستقر فعلى غيره أولى لأن أرش الجناية مستقر فيجب تقديمه على الكتابة التي ليست مستقرة
إذا ثبت هذا فإنه يفدي نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه إن كان أرش الجناية أقل فلا يلزمه أكثر من موجب جنايته وهو أرشها وإن كان أكثر لم يكن عليه أكثر من قيمته لأنه لا يلزمه أكثر من بدل المحل الذي تعلق به الأرش فأن بدأ بدفع المال إلى ولي الجناية فوفى بما يلزمه من أرش الجناية وإلا باع الحاكم منه ما بقي من أرش الجناية وباقيه باق على كتابته وإن اختار الفسخ فله ذلك ويعود عبدا غير مكاتب مشتركا بين السيد مبين المشتري فإن أبقاه على الكتابة فأدى عتق بالكتابة وسرى العتق إلى باقيه إن كان المكاتب موسرا ويقوم عليه وإن كان معسرا عتق منه ما عتق وباقيه رقيق وإن لم يكن في يده مال ولم يف بالجناية إلا قيمته كلها بيع كله فيها وبطلت كتابته فإن بدأ بدفع المال إلى سيده نظرنا فإن كان ولي الجناية سأل الحاكم فحجر على المكاتب وكان النظر فيه إلى الحاكم فلا يصح دفعه إلى سيده ويرتجعه الحاكم ويدفعه إلى ولي الجناية فإن وفى وإلا كان الحكم فيه على ما ذكرنا من قبل وإن لم يكن الحاكم حجر عليه صح دفعه إلى سيده لأنه يقضي حقا عليه فجاز كما لو قضى بعض غرمائه قبل الحجر عليه ثم إن كان ما دفعه إليه جميع مال الكتابة عتق ويكون الأرش في ذمته فيضمن ما كان عليه قبل العتق وهو أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه لا يلزمه أكثر مما كان واجبا بالجناية وإن أعتقه السيد فعليه فداؤه بذلك لأنه أتلف محل الاستحقاق فكان عليه فداؤه كما لو قتله وإن عجز ففسخ السيد كتابته فداه أيضا بما ذكرناه وقال أبو بكر فيما إذا فداه سيده قولان يعني روايتين إحداهما : يفديه بأقل الأمرين والثانية : يفديه بأرش جنايته بالغة ما بلغت
فصل : وإذا جنى المكاتب جنايات تعلقت برقبته واستوى الأول والآخر في الاستيفاء ولم يقدم الأول على الثاني لأنها تعلقت بمحل واحد وكذا إن كان بعضها في حال كتابته وبعضها بعد تعجيزه فهي سواء ويتعلق جميعها بالرقبة فإن كان فيها ما يوجب القصاص فلولي الجناية استيفاءه وتبطل حقوق الآخرين وإن عفا إلى مال صار حكمه حكم الجناية الموجبة للمال فإن أبرأه بعضهم استوفى الباقون لأن حق كل واحد يتعلق برقبته يستوفيه إذا انفرد تزاحموا فإذا أبرأه بعضهم سقط حقه وتزاحم الباقون كما لو انفردوا كما في الوصايا وإن أدى وعتق فالضمان عليه وإن أعتقه سيده فالضمان عليه وأيهما ضمن فالواجب عليه أقل الأمرين كما ذكرنا في الجناية الواحدة ولأنه لو عجزه الغرماء وعاد قنا بيع وتحاصوا في ثمنه كذلك هاهنا فأما إن عجزه سيده فعاد قنا خير بين فداء وتسليمه فإن اختار فداءه ففيه روايتان
إحداهما : يفديه بأقل الأمرين كما لو أعتقه أو قتله والثانية : يلزمه أرش الجنايات كلها بالغة ما بلغت لأنه لو سلمه احتمل أن يرغب فيه راغب بأكثر من قيمته فقد فوت تلك الزيادة باختيار إمساكه فكان عليه جميع الأرش ويفارق ما إذا أعتقه أو قتله لأن المحل فيهما تلفت ماليته فلم يمكن تسليمه ولم يجب أكثر من قيمته والمحل باق وهاهنا يمكن تسليمه وبيعه وإن أراد المكاتب فداء نفسه قبل تعجيزه أو عتقه ففيه روايتان : أحدهما : يفدي نفسه بأقل الأمرين والثاني : بأرش الجنايات بالغة ما بلغت لأن محل الأرش قائم غير تالف ويمكن تعجيز نفسه في كل جناية يباع فيها فأشبه ما لو عجزه سيده
فصل : وإن جنى المكاتب على سيده فيما دون النفس فالسيد خصمه فيها فإن كانت موجبة للقصاص وجب كما تجب على عبده القن لأن القصاص يجب للزجر فيحتاج إليه العبد في حق سيده وإن عفا على مال أو كانت موجبة للمال ابتداء وجب له لأن المكاتب مع سيده كالأجنبي يصح أن يبايعه ويثبت له في ذمته المال والحقوق كذلك الجناية ويفدي نفسه بأقل الأمرين في إحدى الروايتين والأخرى يفديها بأرش الجناية بالغة ما بلغت فإن وفي ما في يده بما عليه فلسيده مطالبته به وأخذه وإن لم يف به فلسيده تعجيزه فإذا عجزه وفسخ الكتابة سقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية لأنه عاد عبد قنا ولا يثبت للسيد على عبده القن مال وإن أعتقه سيده ولا مال في يده سقط الأرش لأنه كان تعلقا برقبته وقد أتلفها فسقط وإن كان في يده مال لم يسقط لأن الحق كان متعلقا بالذمة وما في يده من المال فإذا تلفت الرقبة بقي الحق متعلقا بالمال فاستوفى منه كما لو عتق بالأداء وهل يجب أقل الأمرين أو أرش الجناية كله ؟ على وجهين ويستحق السيد مطالبته بأرش الجناية قبل أداء مال الكتابة لما ذكرنا من قبل في حق الأجنبي وإن اختار تأخير الأرش والبداية بقبض مال الكتابة جاز و يعتق إذا قبض مال الكتابة
كله وقال أبو بكر : لا يعتق بالأداء قبل أرش الجناية لوجوب تقديمه على مال الكتابة
ولنا أن الحقين جميعا للسيد فإذا تراضيا على تقديم أحدهما على الآخر جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما ولأنه لو بدأ بأداء الكتابة قبل أرش الجناية في حق الأجنبي عتق ففي حق السيد أولى ولأن أرش الجناية لا يلزم أداؤه قبل اندمال الجرح فيمكن تقدم وجوب الأداء عليه فإذا ثبت هذا فإنه إذا ادعى عتق ويلزمه أرش الجناية سواء كان في يده مال أو لم يكن لأنه عتق بسبب من جهته فلم يسقط عليه بخلاف ما إذا أعتقه سيده فإنه اتلف محل حقه وهاهنا بخلافه وهل يلزمه اقل الأمرين أو جميع الأرش ؟ على وجهين
وإن كانت جنايته على نفس سيده فلورثته القصاص في العمد أو العفو على مال وفي الخطأ المال وفيما يفدي به نفسه روايتان وحكم الورثة مع المكاتب حكم سيده معه لأن الكتابة انتقلت إليهم العبد لو عاد قنا لكان لهم وإن جنى على موروث سيده فورثه سيده فالحكم فيه كما لو كانت الجناية على سيده فيما دون النفس على ما مضى
فصل : وإن اجتمع على المكاتب أرش جناية وثمن مبيع أو عوض قرض أو غيرهما من الديون مع مال الكتابة وفى يده مال يفي بها فله أن يؤديها ويبدأ بما شاء منها كالحر وأن لم يف بها ما في يده وكلها حالة ولم يحجر الحاكم عليه فخص بعضهم بالقضاء صح كالحر وإن كان فيها مؤجل فعجله بغير إذن سيده لم يجز لأن تعجيله تبرع فلم يجز بغير إذن سيده كالهبة وإن كان يأذن سيده جاز كالهبة وإن كان التعجيل للسيد فقبوله بمنزله إذنه وإن كان الحاكم قد حجر عليه بسؤال غرمائه فالنظر إلى الحاكم وإنما يحجر عليه بسؤالهم فإن حجر عليه بغير سؤالهم لم يصح لأن الحق لهم ولا يستوفي بغير إذنهم وإن سأله سيده الحجر عليه لم يجبه إلى ذلك لأن حقه غير مستقر فلا يحجر عليه من أجله فإذا حجر عليه بسؤال الغرماء فقال القاضي : عندي أنه يبدأ بقضاء ثمن المبيع وعوض القرض يسوي بينهما ويقدمهما على أرش الجناية ومال الكتابة لأن أرش الجناية محل الرقبة فإذا لم يحصل مما في يده استوفى من رقبته وهذا مذهب الشافعي واتفق أصحابنا و الشافعي على تقديم أرش الجناية على مال الكتابة على ما مضى بيانه
فصل : وإذا جنى بعض عبيد المكاتب جناية توجب القصاص فللمجني عليه الخيار بين القصاص والمال فإن اختار المال أو كانت الجناية خطأ أو شبه عمد أو إتلاف مال تعلق أرشها برقبته وللمكاتب فداؤه بأقل من الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه بمنزله شرائه وليس له فداؤه بأكثر من قيمته كما لا يجوز له أن يشتريه بذلك إلا أن يأذن فيه سيده فإن كان الأرش أقل من قيمته لم يكن له تسليمه لأنه تبرع بالزيادة وإن زاد الأرش على قيمته فهل يلزمه تسليمه أو يفديه بأقل الأمرين ؟ على روايتين
فصل : فإن ملك المكاتب ابنه أو بعض ذوي المحرم أو ولد له ولد من أمته فجنى جناية تعلق أرشها برقبته وللمكاتب فداؤه بغير إذن سيده كما يفدي غيره من عبيده
وقال القاضي في المجرد ليس له فداؤه بغير إذنه وهو مذهب الشافعي لأنه إتلاف لماله فإن ذوي رحمه ليسوا بمال له ولا يتصرف فيهم فلم يجز له إخراج ماله في مقابلتهم ولأن شراءهم كالتبرع ويفارق العبد الأجنبي فإنه ينتفع به وله صرفه في كتابته فكان له فداؤه وشراؤه كسائر الأموال لكن إن كان لهذا الجاني كسب فدي منه وإن لم يكن له كسب بيع في الجناية إن استغرقت قيمته وإن لم تستغرقها بيع بعضه فيها وما بقي للمكاتب
ولنا أنه عبد له جني فملك فداؤه كسائر عبيده ولا نسلم أنه لا يملك شراءه وقولهم لا يتصرف فيه قلنا إلا إن كسبه له وإن عجزه المكاتب صار رقيقا معه لسيده وإن أدى المكاتب لم يتضرر السيد بعتقهم وانتفع به المكاتب وإذا دار أمره بين نفع وانتفاء ضر وجب أن لا يمنع منه وفارق التبرع فإنه يفوت المال على السيد فإن قيل بل فيه مضرة وهو منعه من أداء الكتابة فإنه إذا صرف المال فيه ولم يقدر على صرفه في الكتابة عجز عنها قلنا هذا الضرر لا يمنع المكاتب منه بدليل ما لو ترك الكسب مع إمكانه أو امتنع من الأداء مع قدرته عليه فإنه لا يمنع منه ولا يجبر على كسب ولا أداء فكذلك لا يمنع مما هو في معناه ولا مما يفضي إليه ولأن غاية الضرر في هذا المنع من إتمام الكتابة وليس إتمامها واجبا عليه فأشبه ترك الكسب بل هذا أولى الوجهين :
أحدهما : أن هذا فيه نفع للسيد لمصيرهم عبيدا له والثاني : أن فيه نفعا للمكاتب بإعتاق ولده وذوي رحمه ونفعهم بالإعتاق على تقدير الأداء فإذا لم يمنع مما يساويه في المضرة من غير نفع فيه فلأن لا يمنع مما فيه نفع لازم لإحدى الجهتين أولى وولد المكاتبة يدخل في كتابتها والحكم في جنايته كالحكم في ولد المكاتب سواء
فصل : وإن جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية موجبها المال لم يثبت لها حكم لأنه لا يجب للسيد على عبده مال وإن كان موجبها قصاصا فقال أبو بكر : ليس له القصاص لأنه إتلاف لماله باختياره وهذا الذي ذكره أبو الخطاب في رؤوس المسائل وقال القاضي : له القصاص لأنه من مصلحة ملكه فإنه لو لم يستوفهه أفضى إلى إقدام بعضهم على بعض وليس له العفو على مال لما ذكرنا ولا يجوز بيعه في أرش الجناية لأن الأرش لا يثبت له في رقبة عبده فإن كان الجاني من عبيد ابنه لم يجز بيعه لذلك وقال أصحاب الشافعي : يجوز بيعه في أحد الوجهين لأنه يملك بيعه قبل جنايته فيستفيد بالجناية ملك بيعه
ولنا أنه عبده فلم يجب له عليه أرش كالأجنبي وما ذكروه ينتقض بالرهن إذا جنى على راهنه
فصل : وإن جنى عبد المكاتب عليه جناية موجبها المال كانت هدرا لما ذكرنا وإن كان موجبها القصاص فله أن يقتص إن كان فيما دون النفس لأن العبد يقتص منه لسيده وإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال فإن كان الجاني أباه لم يقتص منه لأن الوالد لا يقتل بولده وأن جنى المكاتب عليه لم يقتص منه لأن السيد لا يقتص منه لعبده وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يقتص منه لأن حكم الأب معه حكم الأحرار بدليل أنه لا يملك بيعه والتصرف فيه وجعلت حريته موقوفة على حريته قال : ولا نعلم موضعا يقتص فيه النملوك من مالكه سوى هذا الموضع
فصل : وإذا جني على المكاتب فيما دون النفس فأرش الجناية له دون سيده لثلاثة معان : أحدها أن كسبه له وذلك عوض عما يتعطل بقطع يده من كسبه والثاني : أن المكاتبة تستحق المهر في النكاح لتعلقه بعضو من أعضائها كذلك بدل العضو والثالث : أن السيد يأخذ مال الكتابة بدلا عن نفس المكاتبة فلا يجوز أن يستحق عنه عوضا آخر ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون الجاني سيده فلا قصاص عليه لمعنيين أحدهما : أنه حر والمكاتب عبد والثاني : أنه مالكه ولا يقتص من المالك لمملوكه ولكن يجب الأرش ولا يجب إلا باندماج الجرح على ما ذكرنا في الجنايات ولأنه قبل الاندمال لا تؤمن سرايته إلى نفسه فيسقط أرشه فإذا ثبت هذا فإنه إن سرى الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة وكان الحكم فيه كما لو قتله وإن اندمل الجرح وجب أرشه له على سيده فإن كان من جنس مال الكتابة وقد حل عليه نجم تقاصا وإن كان غير جنس مال الكتابة أو كان النجم لم يحل لم يتقاصا ويطالب كل واحد منهما بما يستحقه وإن اتفقا على أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر وكانا من جنسين لم يجز لأنه بيع دين بدين فإن قبض أحدهما حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضا عن حقه جاز وإن رضي المكاتب بتعجيل الواجب له عما لم يحل من نجومه جاز إذا كان من جنس مال الكتابة
الحال الثانية : إذا كان الجاني أجنبيا حرا فلا قصاص أيضا لأن الحر لا يقتل بالعبد ولكن ينظر إن سرى الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة وعلى الجاني قيمته لسيده وإن اندمل الجرح فعليه إرشه له فإن أدى الكتابة وعتق ثم سرى الجرح إلى نفسه وجبت ديته لأن اعتبار الضمان بحاله الاستقرار ويكون ذلك لورثته فإن كان الجاني السيد أو غيره من الورثة لم يرث منه شيئا لأن القاتل لا يرث ويكون لبيت المال إن لم يكن له وارث ومن اعتبر الجناية بحالة ابتدائها أوجب على الجاني قيمته ويكون لوراثته أيضا
الحال الثالث : إذا كان الجاني عبدا أو مكاتبا فإن كان موجب الجناية القصاص وكانت على النفس انفسخت الكتابة وسيده مخير بين القصاص والعفو على مال يتعلق برقبة الجاني وإن كانت فيما دون النفس مثل أن يقطع يده أو رجله فللمكاتب استيفاء القصاص وليس لسيده منعه كما أن المريض يقبض ولا يعترض عليه ورثته والمفلس يقبض ولا يعترض عليه غرماؤه وإن عفا على مال ثبت له وإن عفا مطلقا أو إلى غير مال انبنى ذلك على الروايتين في موجب العمد إن قلنا موجبة القصاص عينا صح ولم يثبت له مال وليس للسيد مطالبته باشتراط مال لأن ذلك تكسب ولا يملك السيد إجباره على الكسب وإن قلنا الواجب أحد أمرين ثبتت له دية الجرح لأنه لما سقط القصاص تعين المال ولا يصح عفوه عن المال لأنه لا يملك التبرع به بغير إذن سيده وإن صالح على بعض الأرش فحكمه حكم العفو إلى غير المال
فصل : وإذا مات المكاتب وعليه ديون وأروش جنايات ولم يكن ملك ما يؤدي في كتابته انفسخت كتابته وسقط أرش الجنايات لأنها متعلقة برقبته وقد تلفت ويستوفي دينه مما كان في يده فإن لم يف بها سقط الباقي
قال أحمد : ليس على سيده قضاء دينه هذا كان يسعى لنفسه وإن كان قد ملك ما يؤدي في كتابته انبنى ذلك على روايتين في يعتق المكاتب بملك ما يؤديه وقد ذكرنا فيه روايتين الظاهر منهما أنه لا يعتق بذلك فتنفسخ الكتابة أيضا ويبدأ بقضاء الدين على ما ذكرنا في الحال الأول وهذا قول زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب و الحسن و شريح و عطاء و عمرو بن دينار و أبى الزناد و يحيى الأنصاري وربيعة و الأوزاعي و وأبي حنيفة و الشافعي والرواية الثانية : أنه إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا فعلى هذا يضرب السيد مع الغرماء بما حل من نجومه
وروي نحو هذا عن شريح و النخعي و الشعبي و الحكم و حماد و ابن أبي ليلى و الثوري و الحسن بن صالح لأنه دين له حال فيضرب به كسائر الديون ويجيء على قول من قال إن الدين يحل بالموت أن يضرب بجميع مال الكتابة لأنه قد صار حالا والمذهب الأول الذي نقله الجماعة عن أحمد
وقد روى سعيد في سننه حدثنا هشيم أنا منصور وسعيد وعن قتادة قال : ذكرت لسعيد بن المسيب قول شريح في المكاتب إذا مات وعليه دين وبقية من مكاتبة فقلت : إن شريح قضى أن مولاه يضرب مع الغرماء ؟ فقال : سعيد أخطأ شريح قضى زيد بالدين قبل المكاتبة

حكم ما لو كاتبه ثم دبره
مسألة : قال : وإذا كاتبه ثم دبره فإذا أدى صار حرا وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي من كتابته وإلا عتق منه بمقدار الثلث وسقط من الكتابة بمقدار ما عتق وكان على الكتابة فيما بقي
وجملة ذلك إن تدبير المكاتب صحيح لا نعلم فيه خلافا لأنه تعليق عتق بصفة وهو يملك إعتاقه وإن كان وصية فهو وصية بإعتاقه وهو يملكه فعند هذا إن أدى عتق بالأداء لأنه سبب للعتق ويبطل التدبير للغني عنه وما في يده له وإن عجز وفسخت الكتابة بطلت كتابته وصار مدبرا غير مكاتب فإذا مات السيد عتق إن خرج من الثلث وما في يده لسيده وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وإن مات السيد قبل أدائه وعجزه عتق بالتدبير إن حمله الثلث وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق لأن مال الكتابة عوض عنه فإذا عتق نصفه وجب أن يسقط نصف الكتابة لأنه لم تبق الكتابة إلا في نصفه فلم يبق عليه من مالها إلا بقدر ذلك وهو الكتابة فيما بقي وما في يده له وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
وقال أصحابنا : إذا عتق بالتدبير بطلت الكتابة ما في يده لسيده كما لو بطلت الكتابة بعجزه لأنه عبد عتق بالتدبير فكان ما في يده لسيده كغير المكاتب والصحيح الأول إن شاء الله تعالى لأنه مكاتب بريء من مال الكتابة فعتق بذلك وكان ما في يده كما لو لأبرأه سيده يحققه أن ملكه كان ثابتا على ما في يده ولم يحدث ما يزيله وإنما الحادث مزيل لملك سيده عنه فيبقى ملكه كما لو عتق بالأداء

حكم ما لو قال لمكاتبه متى عجزت بعد موتي فأنت حر
فصل : إذا قال السيد لمكاتبه : متى عجزت بعد موتي فأنت حر فهذا تعليق للحرية على صفة تحدث بعد الموت وقد ذكرنا فيه اختلافا فيما مضى فإن قلنا لا يصح فلا كلام وإن قلنا يصح فمتى عجز بعد الموت صارا حرا بالصفة فإن ادعى العجز قبل حلول النجم لم يعتق لأنه لم يجب عليه شيء يعجز عنه وإن ادعى ذلك بعد حلول نجمه ومعه ما يؤديه لم يصح قوله لأنه ليس بعاجز وإن لم يكن معه مال ظاهر فصدقه الورثة عتق وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم المال وعجزه فإذا حلف عتق وإذا عتق بهذه الصفة كان ما في يده له إن لم تكن كتابته فسخت لأن العجز لا تنفسخ به الكتابة وإنما يثبت به استحقاق الفسخ والحرية تحصل بأول وجوده فتكون الحرية قد حصلت له في حال كتابته فيكون ما في يده له كما لو عتق بالإبراء من مال الكتابة ومقضى قول بعض أصحابنا أن تبطل كتابته ويكون بيده لورثة سيده :

حكم ما لو كاتب عبدا في صحته ثم أعتقه في مرض موته
فصل : وإذا كاتب عبدا في صحته ثم أعتقه في مرض موته أو أبرأه من مال الكتابة فإن كان يخرج من ثلثه الأقل من قيمته أو مال كتابته عتق مثل أن يكون له سوى المكاتب مائتان وقيمةالمكاتب مائة ومال الكتابة مائة وخمسون فإنا نعتبر قيمته دون مال الكتابة وهي تخرج من الثلث ولو كان مال الكتابة مائة وقيمته مائة وخمسون اعتبرنا مال الكتابة ونفذ العتق ويعتبر الباقي من مال الكتابة دون ما أدى منها وإنما اعتبرنا الأقل لأن قيمته إن كانت أقل فهي قيمة ما أتلف بالإعتاق ومال الكتابة ما استقر عليه فإن للعبد إسقاطه بتعجيز نفسه أو يمتنع من أدائه فلا يجبر عليه فلم يحتسب له يه وإن كان عوض الكتابة أقل اعتبرناه لأنه يعتق بأدائه ولا يستحق السيد عليه سواه وقد ضيف ملكه فيه وصار عوضه وإن كان كل واحد منهما لا يخرج من الثلث مثل أن يكون ماله سوى المكاتب قيمته مائة فإننا نضم الأقل من قيمته أو مال كتابته فإن أداه عتق وإلا رق منه ثلثه
ويحتمل أنه إذا كان مال الكتابة مائة وخمسين فيبقى ثلثه بخمسين فأداها أن يقول قد زاد مال الميت لأنه حسب على الورثة بمئة وحصل لهم بثلثه خمسون فقد زاد مال الميت فينبغي أن يزيد ما عتق منه لأن هذا المال يحصل لهم بعقد السيد والإرث عنه ويجب أن يكون المعتبر من مال الكتابة ثلاثة أرباعه لأن ربعه يجب إيتاؤه للمكاتب فلا يحسب من مال الميت فعلى هذا إذا كان ثلاثة أرباع مال المكاتب مائة وخمسين وقيمة العبد مائة وللميت مائة أخرى عتق من العبد ثلثاه وحصل للورثة من كتابة العبد خمسون عن ثلث العبد المحسوب عليهم بثلث المائة فقد زاد لهم ثلث الخمسين فيعتق من العبد قدر ثلثها وهو تسع الخمسين وذلك نصف تسعه فصار العتق ثابتا في ثلثيه ونصف تسعه وحصل للورثة المائة وثمانية أتساع الخمسين وهو مثلا ما عتق منه فإن قيل لم أعتقتم بعضه وقد بقي عليه مال الكتابة وقد قلتم إن المكاتب لا يعتق منه شيء حتى يؤدي جميع مال الكتابة ؟ قلنا إنما أعتقنا بعضه ههنا بإعتاق سيده لا بالكتابة ولما كان العتق في مرض موته نفذ في ثلث ماله وبقي باقيه لحق الورثة والموضع الذي لا يعتق إلا بأداء جميع الكتابة إذا كان عتقه بها لأنه إذا بقي عليه شيء فما حصل للاستيفاء ويختص المعاوضة فلم تثبت الحرية في العوض

حكم ما لو وصى السيد بإعتاق المكاتب
فصل : وإن وصى سيده بإعتاقه أو إبرائه من الكتاب وكان يخرج من ثلثه أقل الأمرين من قيمته أو مال كتابته فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أعتقه في مرضه أو أبرأه إلا أنه يحتاج ههنا إلى إيقاع العتق لأنه أوصى به وإن لم يخرج الأقل منهما من ثلثه أعتق منه بقدر الثلث ويسقط من الكتابة بقدر ما عتق ويبقى باقيه على باقي الكتابة فإن أداه عتق جميعه وإن عجز عتق منه بقدر الثلث ورق الباقي وقياس المذهب أن يتنجز عتق ثلثه في الحال كقولنا فيمن دبر عبدا له وله مال غائب أو دين في ذمة موسرا أو معسر أنه يعتق ثلثه في الحال وإن لم يحصل للورثة في الحال شيء ولأن حق الورثة متحقق الحصول فإنه إن أدى وإلا عاد الباقي قنا : وذكر القاضي فيه وجها آخر أنه لا يتنجز عتق شيء منه إذا لم يذكر للميت مال سواه لئلا يتنجز للوصية ما عتق منه ويتأخر حق الوارث وكذلك لو كان له مال غائب أو دين حاضر لم تنجز وصيته من الحاضر والأول أصح لما ذكرناه وأما الحاضر والغائب فإنه إن كان أوصى له بالحاضر أخذ ثلثه في الحال ووقف الباقي على قدوم الغائب فقد حصل للموصي له ثلثه الحاضر ولم يحصل للورثة شيء في الحال فهو كمسألتنا ولم يكمل له جميع وصيته لأن الغائب غير موثوق بحصوله فإنه ربما تلف بخلاف ما نحن فيه فأما الزيادة الحاصلة بزيادة مال الكتابة فإنها تقف على أداء مال الكتابة

حكم ما لو ادعى المكاتب وفاء المكاتبة
مسألة : قال : وإذا ادعى المكاتب وفاء كتابته وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا
وهذا قول الشافعي رضي الله عنه لأن النزاع بينهما في أداء المال والمال يقبل فيه الشاهد واليمين فإن قيل : القصد بهذه الشهادة العتق وهو ما لا يثبت بشاهد ويمين قلنا بل يثبت بشاهد ويمين في روايته وإن سلمنا أنه لا يثبت بذلك لكن الشهادة هاهنا إنما هي بأداء المال والعتق يحصل عند أدائه بالعقد الأول ولم يشهد الشاهد به ولا يبنهما فيه نزاعا ولا يمنع أن يثبت بشهادة الواحد ما يترتب عله أمر لا يثبت إلا بشاهدين كما أن الولادة ثبتت بشهادة المرأة الواحدة ويترتب عليها ثبوت النسب الذي لا يثبت بشهادة النساء ولا بشاهد واحد
فصل : فإن لم يكن للعبد شاهد وأنكر السيد فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر وإن قال العبد لي شاهد غائب أنظر ثلاثا فإن جاء به وإلا حلف السيد ثم متى جاء شاهده وأدى الشهادة ثبتت حريته وإن جاء بشاهد فجرح فقال لي شاهد غائب عدل أنظر ثلاثا لما ذكرنا
فصل وإن أقر السيد بقبض مال الكتابة عتق العبد إذا كان ممن يصح إقراره وإن أقر بذلك في مرض موته قبل لأنه إقرار لغير وارث وإقرار المريض لغير وارثه مقبول وإذا قال استوفيت كتابتي كلها عتق العبد وإن قال استوفيتها كلها إن شاء الله تعالى وإن شاء زيد عتق ولم يؤثر الاستثناء لأن هذا الاستثناء لا مدخل له في الإقرار
قال أحمد في رواية أبي طالب إذا قال له علي ألف إن شاء الله كان مقرا بها لأن هذا الاستثناء تعليق بشرط إنما هو المستقبل وأما الماضي فلا يمكن تعليقه لأنه قد وقع على صفة لا يتغير عنها بالشرط وإنما يدل الشرط فيه على الشك فيه فكأنه قال استوفيت كتابتي وأنا أشك فيه فيلغو الشك ويثبت الإقرار وإن قال : استوفيت آخر كتابتي وقال : إنما أردت أني استوفيت النجم الآخر دون ما قبله وادعى العبد إقراره باستيفاء الكل فالقول قول السيد لأنه أعرف بمراده
فصل : إذا أبرأه السيد من مال الكتابة برئ وعتق لأن ذمته خلت من مال الكتابة فأشبه ما لو أداه وإن أبرأه من بعضه برئ منه وكان على الكتابة فيما بقي لأن الإبراء كالأداء وإن كاتبه على دنانير فأبرأه من دراهم أو على دراهم فأبرأه من دنانير لم تصح البراءة لأنه أبرأه مما لا يجب له عليه إلا أن يريد بقدر ذلك مما لي عليك فإن اختلفا فقال المكاتب إنما أردت من قيمة ذلك وقال السيد بل ظننت أن لي عليك النقد الذي أبرأتك منه فلم تقع البراءة موضعها فالقول قول السيد مع يمينه لأنه اعترف بنيته وإن مات السيد واختلف المكاتب مع ورثته فالقول قولهم مع أيمانهم أنهم لا يعلمون موروثهم أراد ذلك وإن مات المكاتب واختلف ورثته وسيده فالقول قول السيد لما ذكرنا

لا يكفر المكاتب بغير الصوم
مسألة : قال : ولا يكفر المكاتب بغير الصوم
وجملته أن المكاتب إذا لزمته كفارة ظهار أو جماع في نهار رمضان أو قتل أو كفارة يمين لم يكن له التكفير بالمال لأنه عبد ولأنه في حكم المعسر بدليل أنه لا تلزمه زكاة ولا نفقة قريب وله أخذ الزكاة لحاجته وكفارة العبد والمعسر الصيام وإن أذن له سيده قي التكفير بالمال جاز لأنه بمنزله التبرع ويجوز له التبرع بإذن سيده ولأن المنع لحقه وقد أذن فيه ولا يلزمه التكفير بالمال إذا أذن فيه السيد لأن عليه ضررا فيه لما يفضي إليه من تفويت حريته كما أن التبرع لا يلزمه بإذن سيده
وقال القاضي : المكاتب كالعبد القن في التكفير ومتى أذن له سيده في التكفير بالمال انبنى على ملك العبد إذا ملكه سيده فإن قلنا لا يملك لم يصح تكفيره بعتق ولا إطعام ولا كسوة سواء ملكه سيده أو لم يملكه وسواء أذن فيه أو لم يأذن لأنه يكفر بما ليس بمملوك له فلم يصح وإن قلنا يملك بالتمليك صح تكفيره بالطعام إذا أذن فيه وإن أذن له في التكفير بالعتق فهل يصح ؟ على روايتين سبق ذكرهما في تكفير العبد والصحيح أن هذا التفصيل لا يتوجه في المكاتب لأنه يملك المال بغير خلاف وإنما ملكه ناقص لتعلق حق سيده به فإذا أذن له سيده فيه صح كالتبرع

حكم ولد المكاتبة بالعتق وولد ولدها
مسألة : قال : وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها
وجملته أنه يصح مكاتبة الأمة كما تصح مكاتبة العبد لا خلاف بين أهل العلم فيه وقد دل عليه حديث بريرة وحديث جويرية بنت الحارث ولأنها داخلة في عموم قوله { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ولأنها يمكنها التكسب والأداء فهي كالعبد وإذا أتت المكاتبة بولد من غير سيدها إما من نكاح أو غيره فهو تابع لها موقوف على عتقها فإن عتقت بالأداء أو الإبراء عتق وإن فسخت كتابتها وعادت إلى الرق عاد رقيقا
وهذا قول شريح و مالك و أبي حنيفة و الثوري و إسحاق وسواء في هذا ما كان حملا حال الكتابة وما حدث بعدها وقال أبو ثور و ابن المنذر : هو عبد قن لا يتبع أمه و للشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن الكتابة غير لازمة من جهة العبد فلا تسري إلى الولد كالتعليق بالصفة
ولنا أن الكتابة سبب ثابت للعتق لا يجوز إبطاله فسرى إلى الولد كالاستيلاد ويفارق التعليق بالصفة فإن السيد يملك إبطاله بالبيع إذا ثبت هذا فالكلام في الولد في فصول أربعة في قيمته إذا تلف وفي كسبه وفي نفقته وفي عتقه أما قيمته إذا تلف فقال أبو بكر : هو لأمه تستعين بها على كتابتها لأن السيد لا يملك التصرف فيه مع كونه عبدا فلا يستحق قيمته ولأنه بمنزلة جزء منها ولو جني على جزء منها كان أرشه لها كذلك ولدها وإذا لم يستحقها هو كانت لأمه لأن الحق لا يخرج عنهما ولأن ولدها لو ملكته بهبة أو شراء كانت قيمته لها فكذلك لو تبعها يحققه أنه إذا تبعها صار حكمه حكمها ولا يثبت ملك السيد في منافعه ولا في أرش الجناية عليه كما لا يثبت له ذلك فيها وقال الشافعي في أحد قوليه : تكون القيمة لسيدها لأنها لو قتلت كانت قيمتها لسيدها فكذلك ولدها والفرق بينهما أن الكتابة تبطل بقتلها فيصير مالها لسيدها بخلاف ولدها فإن العقد باق بعد قتله فنظير هذا إتلاف بعض أعضائها والحكم في إتلاف بعض أعضائها كالحكم في إتلافه
أما كسبه وأرش الجناية عليه فينبغي أيضا أن يكون لأمه لأن ولدها جزء منها تابع لها فأشبه بقية أجزائها ولأن أداءها لكتابتها سبب لعتقه وحصول الحرية له فينبغي أن يصرف فيه بمنزلة صرفه إليه إذ في عجزها رقه وفوات كسبه عليه وإما نفقته فعلى أمه لأنها تابعة لكسبه وكسبه لها فنفقه عليها وأما عتقه فإنه يعتق بأدائها أو إبرائها ويرق بعجزها لأنه تابع لها وإن ماتت المكاتبة على كتابتها بطلت كتابتها وعاد رقيقا قنا إلا أن تخلف وفاء فيكون على الروايتين وإن عتقها سيدها لم يعتق ولدها لأنه إنما تبعها في حكم الكتابة وهو العتق بالأداء وما حصل الأداء وإنما حصل عتقها بأمر لا يتبعها فيه فأشبه ما لو لم تكن مكاتبة ومقتضى قول أصحابنا الذين قالوا تبطل كتابتها بعتقها أن يعود ولدها رقيقا ومقتضى قولنا أنه يبقى على حكم الكتابة ويعتق بالأداء لأن العقد لم يوجد ما يبطله وإنما سقط الأداء عنها لحصول الحرية بدونه فإذا لم يكن لها ولد يتبعها في الكتابة ولا في يدها مال يأخذه لم يظهر حكم بقاء العقد ولم يكن في بقائه فائدة فانتفى لانتفاء فائدته وفي مسألتنا في بقائه فائدة لإفضائه إلى عتق ولدها فينبغي أن يبقى
ويحتمل أن يعتق بإعتاقها لأنه جرى مجرى إبرائها من مال الكتابة والحكم فيما إذا عتق بالاستيلاد أو تدبير أو تعليق بصفة كالحكم فيما إذا عتقها لأنها بغير الكتابة وإن عتق السيد الولد دونها صح عتقه نص أحمد في رواية مهنا لأن مملوك فصح عتقه كأمه ولأنه لو أعتقه معها لصح ومن صح عتقه مع غيره صح مفردا كسائر مماليكه
وقال القاضي : وقد كان يجب أن لا ينفذ عتقه لأن فيه ضررا بأمه بتفويت كسبه عليها لأنها كانت تستعين به في كتابتها ولعل أحمد نفذ عتقه تغليبا للعتق والصحيح أنه يعتق وما ذكره القاضي من الضرر لا يصح لوجوه : أحدها : أن الضرر إنما يحصل في حق من له كسب بفضل عن نفقته فأما من لا كسب له فتخليصها من نفقته نفع محض فلا ضرر في إعتاقه لأنه لا يفضل لها من كسبه شيء ينتفع به فكان ينبغي أن لا يقيد الحكم الذي ذكره بهذا القيد الثاني : أن النفع بسكبها ليس بواجب لها بدليل أنه لا يملك إجباره على الكسب فلم يكن الضرر بفواته معتبرا في حقها الثالث : أن مطلق الضرر لا يكفي في منع العتق الذي تحقق مقتضيه ما لم يكن له أصل يشهد بالاعتبار ولم يذكر له أصلا ثم هو ملغي بعتق المفلس والراهن وسراية العتق إلى ملك الشريك فإنه يعتق مع وجود الضرر بتفويت الحق اللازم فهذا أولى
فصل : فأما ولد ولدها فإن حكمه حكم أمه لأن ولد المكاتب لا يتعبه وأما ولد بنتها فهو كبنتها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تسري الكتابة إليه لأن السراية إنما تكون مع الاتصال وهذا ولد منفصل فلا تسري إليه بدليل أن ولد أم الولد قبل أن يستولدها لا يسري إليه الاستيلاد وهذا الولد اتصل بأمه دون جدته
ولنا أن ابنتها ثبت لها حكمها تبعا فيجب أن يثبت لابنتها حكمها تبعا كما يثبت حكم أمها ولأن البنت تبعت أمها فيجب أن يتبعها ولدها لأن عليه اتباعها لأنها موجودة في ولدها ولأن البنت تعلق بها حق العتق فيجب أن يسري إلى ولدها كالمكاتبة وهذا الخلاف في ولد البنت التابعة لأمها في الكتابة فأما المولودة قبل الكتابة فلا تدخل في الكتابة فابنتها أولى

في جواز بيع المكاتب وهبته والوصية به ويحكم مشتريه وبيع الدين الذي على المكاتب وحكم ما لو وصى بماله لرجل وحكم ما لو كانت الكتابة فاسدة وصحة الكتابة لمكاتب
مسألة : قال : ويجوز بيع المكاتب
وهذا قول عطاء و النخعي و الليث و ابن المنذر وهو قديم قولي الشافعي قال : ولا وجه لقول من كاتب قال لا يجوز وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنه يجوز بيعه وهو قول مالك وأصحاب الرأي والجديد من قولي الشافعي لأنه عقد يمنع استحقاق كسبه فيمنع بيعه كبيعه وعتقه وقال الزهري وأبو الزناد يجوز بيعه برضاه ولا يجوز إذا لم يرض وحكى ذلك عن أبي يوسف لأن بريرة إنما بيعت برضاها وطلبها ولأن لسيده استيفاء منافعه برضاه ولا يجوز بغير رضاه كذلك بيعه
ولنا ما روى عروة عن عائشة أنها قالت : جاءت بريرة إلي فقالت يا عائشة إني كاتبت أهلي علة تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة ونفست فيها ارجعي إلى أهلك إن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت عليهم ذلك فأبوا وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي إنما الولاء لمن أعتق ] فقام رسول الله في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : [ ما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرطه أوثق وإنما الولاء لمن أعتق ] متفق عليه
قال ابن المنذر [ بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه و سلم وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ] ففي ذلك أبين البيان أن بيعه جائز ولا أعلم خبرا يعارضه ولا أعلم في شيء من الأخبار دليلا على عجزها وتأوله الشافعي على أنها كانت قد عجزت وكان بيعها فسخا لكتابتها وهذا التأويل بعيد يحتاج إلى دليل في غاية القوة وليس في الخبر ما يدل عليه بل قولها أعينيني على كتابتي دلالة على بقائها على الكتابة ولأنها أخبرتها أن نجومها في كل عام أوقية فالعجز إنما يكون بمضي عامين عند من لا يرى العجز إلا بحلول نجمين أو بمضي عام عند الآخرين والظاهر أن شراء عائشة لها كان في أول كتابتها ولا يصح قياسه على أم الولد لأن سبب حريتها مستقر على وجه لا يمكن فسخه بحال فأشبه الوقف والمكاتب يجوز رده إلى الرق وفسخ كتابته إذا عجز فافترقا
قال ابن أبي موسى : وهل للسيد أن يبيع المكاتب بأكثر مما عليه ؟ على الروايتين ولأن المكاتب عبد مملوك لسيده لم يتحتم عتقه فجاز بيعه كالمعلق عتقه بصفة والدليل على أنه مملوك قول النبي صلى الله عليه و سلم [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] وإن مولاته لا يلزمها أن تحتجب منه بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه ] فيدل على أنها لا تحتجب قبل ذلك
وقد روينا في هذا عن نبهان مولى أم سلمة أنه قال : قالت لي أم سلمة : يا نبهان هل عندك ما تؤدي ؟ قلت نعم فأخرجت الحجاب بيني وبينها وروت هذا الحديث قال فقلت لا والله عندي ما أؤدي ولا أنا بمؤد وإنما سقط الحجاب عنها منه لكونه مملوكها ولأنه يصح عتقه ولا يصح عتق من ليس بمملوك ويرجع عند العجز إلى كونه قنا ولو صار حرا ما عاد إلى الرق ويفارق إعتاقه لأنه يزيل الرق بالكلية وليس بعقد وإنما هو إسقاط للملك فيه وإما بيعه فلا يمنع مالكه بيعه وأما البائع فلم يبق له فيه ملك بخلاف مسألتنا
فصل : وتجوز هبته والوصية به ونقل الملك فيه لأنه في معنى بيعه وقد روي عن أحمد أنه منع هبته لأن الشرع إنما ورد ببيعه والصحيح جوازها لأن ما كان في معنى المنصوص عليه ثبت الحكم فيه
مسألة : قال : ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب فإذا أدى صار حرا وولاؤه لمشتريه فإن لم يبين البائع للمشتري أنه مكاتب فهو مخير بين أن يرجع في الثمن أو يأخذ ما بينه سليما ومكاتبا
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع ولا يجوز إبطالها ولا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن بيع السيد مكاتبه على أن يبطل كتابته ببيعه إذا كان ماضيا فيها مؤديا ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها غير جائز وذلك لأنها عقد لازم فلا تبطل ببيع العبد كإجازته ونكاحه ويبقى على كتابته عند المشتري وعلى نجومه كما لو كان عند البائع مبقي على ما بقي عليه من كتابته ويؤدي إلى المشتري كما كان يؤدي إلى البائع فإن عجز فهو عبد لمشتريه لأنه صار سيده وإن أدى عتق وولاؤه لمشتريه لأن حق المكاتب فيه انتقل إلى المشتري فصار المشتري هو المعتق ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لعائشة [ ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق ] ولما أراد أهلها اشتراط ولائها أنكر ذلك وأخبر ببطلانه وإذا لم يعلم المشتري كونه مكاتبا ثم علم ذلك فله فسخ البيع أو أخذ الأرش لأن الكتابة عيب لكون المشتري لا يقدر على التصرف فيه ولا يستحق كسبه ولا استخدامه ولا الوطء إن كانت أمة وقد انعقد سبب زوال الملك فيه فيملك الفسخ بذلك كمشتري الأمة المزوجة أو المعيبة فيتخير حينئذ بين فسخ البيع والرجوع بالثمن وبين إمساكه وأخذ الأرش وهو قسط ما بينه مكاتبا وبينه رقيقا قنا فيقال : كم قيمته مكاتبا وكم قيمته لو كان غير مكاتب ؟ فإذا قيل قيمته مكاتبا مائة وقيمته غير مكاتب مائة وخمسون والثمن مائة وعشرون فقد نقصته الكتابة ثلث قيمته فيرجع بثلث ثمنه وهو أربعون ولا يرجع بالخمسين التي نقصت بالكتابة من قيمته على ما قرر في البيع
فصل : فأما بيع الدين الذي على المكاتب من نجومه فلا يصح وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال عطاء و عمرو بن دينار و مالك : يصح لأن السيد يملكها في ذمة المكاتب فجاز بيعها كسائر أمواله
ولنا أنه دين غير مستقر فلم يجز بيعه كدين السلم ودليل عدم الاستقرار أنه معرض للسقوط بعجز المكاتب ولأنه لا يملك السيد إجبار العبد على أدائه ولا إلزامه بتحصيله فلم يجز بيعه كالعدة بالتبرع ولأنه غير مقبوض وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع ما لم يقبض فإن باعه فالبيع باطل وليس للمشتري مطالبة المكاتب بتسليمه إليه وله الرجوع بالثمن على البائع إن كان دفعه إليه فإن سلم المكاتب إلى المشتري نجومه ففيه وجهان : أحدهما : يعتق لأن البيع تضمن الإذن في القبض فأشبه قبض الوكيل والثاني : لا يعتق لأنه لم يستنبه في القبض وإنما قبض لنفسه بحكم البيع الفاسد فكان القبض أيضا فاسدا ولم يعتق بخلاف وكيله فإنه استنابه ولو صرح بالإذن فليس بمستنيب له في القبض وإنما أذنه بحكم المعاوضة فلا فرق بين التصريح وعدمه فإن قلنا يعتق بالأداء برئ المكاتب من مال الكتابة ويرجع السيد على المشتري بما قبضه لأنه كالنائب عنه فإن كان من جنس الثمن وكان قد تلف تقاصا بقدر أقلهما ورجع ذو الفضل بفضله وإن قلنا لا يعتق بذلك فمال الكتابة باق على المكاتب ويرجع المكاتب على المشتري بما دفعه إليه ويرجع المشتري على البائع فإن سلمه المشتري إلى البائع لم يصح التسليم لأنه قبضه بغير إذن المكاتب فأشبه ما لو أخذه من ماله بغير إذنه فإن كان من غير جنس مال الكتابة تراجعا بما لكل واحد منهما على الآخر وإن باعه ما أخذه بما له في ذمته وكان مما يجوز البيع فيه جاز إذا كان ما قبضه السيد باقيا وإن كان قد تلف ووجبت قيمته وكانت من جنس مال الكتابة تقاصا وإن كان مقبوض من جنس مال الكتابة فتحاسبا به جاز
فصل : وإذا كانت المكاتبة ذات ولد يتبعها في الكتابة فباعهما معا صح لأنهما ملكه ولا مانع من بيعهما ويكونان عند المشتري كما كانا عند البائع سواء وإن باع أحدهما دون صاحبه أو باع أحدهما لرجل وباع الآخر لغيره لم يصح لوجهين :
أحدهما أنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها في البيع إلا بعد البلوغ في إحدى الروايتين والثاني : أن الولد تابع لأمه ولها كسبه وعليها نفقته فصار في معنى مملوكها فلم يجز التفريق بينه وبينها ويحتمل أن يجوز ذلك إذا كان بالغا لأنه محل للبيع صدر فيه التصرف من أهله ويكون عند من هو عنده على ما كان عليه قبل بيعه لها كسبه وأرش الجناية عليه وعليها نفقته ويعتق بعتقها كما لو بيع والله أعلم
فصل : وإن وصى بالمكاتب لرجل فقال أبو بكر : قال أحمد : الوصية به جائزة لأنه يرى بيعه وكذلك هبته ويقوم من انتقل إليه مقام مكاتبه في الأداء إليه وإن عجز عاد إليه رقيقا له قنا وإن عتق فالولاء له كما ذكرنا في المشتري سواء فإن عجز في حياة الموصي لم تبطل الوصية لأن رقه لا ينافي الوصية وإن أدى وعتق في حياة الموصي بطلت الوصية ومن منع بيع المكاتب منع الوصية فيه وهبته فإن قال إن عجز ورق فهو لك بعد موتي صحت الوصية إذا عجز في حياة الموصي وإن عجز بعد موته لم يستحقه لأن الشرط بطل بموته كما لو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فلم يدخلها حتى مات سيده وإن قال إن عجزت بعد موتي فهو لك فهذا تعليق للوصية على صفة توجد بعد الموت وقد ذكرنا في صحتها وجهين
فصل : وإن وصى بكتابته لرجل صحت الوصية لأنها تصح بما ليس بمستقر كما تصح بما لا يملكه في الحال من ثمرة شجرة وحمل جاريته وللموصي له أن يستوفي المال عند حلوله وله أن يبرئ منه فإذا استوفى أو أبرأه منه عتق المكاتب والولاء لسيده لأنه المنعم عليه وإن عجز المكاتب فأراد الوارث تعجيزه وأراد الموصي له إنظاره فالقول قول الوارث لأن حق الموصي له في المال ما دام العقد قائما وحق الوارث متعلق به إذا عجزه يرده في الرق وليس للموصي له إبطال حق الوارث من تعجيزه وإن أراد الوارث إنظاره وأراد الموصي له تعجيزه لم يكن له الحق في التعجيز والفسخ للوارث ولا حق للموصي له في ذلك ولا بيع لأن حقه يسقط به ومتى عجز عاد عبدا للورثة وإن وصى لرجل بما تعجله المكاتب صح لأنها وصية بصفة فإن عجل شيئا فهو للموصى له وإن لم يعجل شيئا حتى حلت نجومه بطلت الوصية
فصل : وإن وصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته لآخر صحت الوصيتان فإن أدى إلى صاحب المال أو أبرأه منه عتق قال أصحابنا : وتبطل وصية صاحب الرقبة ويحتمل أن لا تبطل ويكون الولاء له لأنه أقامه مقام نفسه في استحقاق الرقبة ولو لم يوصي بها لكان الولاء له فإذا وصى بها كان الولاء لمن وصى له بها ولأنه لو وصى له بالمكاتب مطلقا لكان الولاء له فكذلك إذا وصى برقبته لأن الولاء يستفاد من الوصية بالرقبة دون الوصية بالمال وإن عجز فسخ صاحب الرقبة كتابته وكان رقيقا له وبطلت الوصية بالمال وإن كان صاحب المال قد قبض من كتابته شيئا فهو له وإن اختلفا في فسخ الكتابة عند العجز قدم قول صاحب الرقبة لأنه يقوم مقام الورثة على ما بيناه فيما تقدم وقياس هذه المسألة أنه لو وصى لرجل برقبة المكاتب دون مال الكتابة أنه لا يصح لأن الوصية بالرقبة دون المال صحيحة فيما إذا وصى بها لرجل وحده وأوصي بالمال لآخر
فصل : وإذا كانت الكتابة فاسدة فأوصى لرجل بما في ذمة المكاتب لم تصح الوصية لأنه لا شيء في ذمته وإن قال وصيت لك بما أقبضه من مال المكاتبة صح لأن الكتابة الفاسدة يؤدى فيها المال كما يؤدى في الصحيحة وإن وصى برقبة المكاتب صح لأن الوصية برقبة المكاتب تصح في الكتابة الصحيحة ففي الفاسدة أولى
فصل : وتصح الوصية لمكاتبه لأنه مع سيده في المعاملة كالأجنبي ولذلك جاز أن يدفع إليه زكاته فإن قال ضعوا عن مكاتبي بعض كتابته أو بعض ما عليه وضعوا ما شاؤوا قليلا كان أو كثيرا من أول نجومه أومن آخرها وإن قال ضعوا عنه نجما من نجومه فلهم أن يضعوا أي نجم شاؤوا كما لو قال ضعوا أي نجم شئتم وسواء كانت نجومه متفقة أو مختلفة لأن اللفظ يتناول واحدا منها غير معين وإن قال : ضعوا عنه أي نجم شاء كان ذلك إلى مشيئته فيلزمهم وضع النجم الذي يختار وضعه لأن سيده جعل المشيئة له وإن قال : ضعوا عنه أكبر نجومه لزمهم أن يضعوا أكبرها مالا لأنه أكبرها قدرا وإن قال : ضعوا عنه أكثر نجومه لزمهم أن يضعوا عنه أكثر من نصفها لأن أكثر الشيء يزيد على نصفه فإذا كانت نجومه خمسة وضعوا ثلاثة وإن كانت ستة وضعوا أربعة ويحتمل أن ينصرف ذلك إلى واحد منها أكبرها مالا بمنزلة قوله أكبر نجومه فإن كانت نجومه متساوية تعين الاحتمال الأول وإن قال : ضعوا عنه أوسط نجومه فلم يكن فيها إلا وسط واحد تعينت الوصية فيه مثل أن تكون نجومه متساوية القدر والأجل وعددها منفرد فيتعين وضع أوسطها عددا فإذا كانت خمسة فالأوسط الثالث وإن كانت سبعة فالأوسط الرابع وإن كان عددها مزدوجا وهي مختلفة المقدار فبعضها مائة وبعضها مائتان وبعضها ثلاثمائة فأوسطها المائتان فتعين الوصية فيه لأنه أوسطها وإن كانت متساوية القدر مختلفة الأجل مثل أن يكون اثنان منها إلى شهر وواحد إلى شهرين وواحد إلى ثلاثة اشهر تعينت الوصية فيما هو إلى شهرين لأنها أوسطها
وإن اتفقت هذه المعاني الثلاثة في واحد تعينت فيه وإن كان لها أوسط في القدر وأوسط في الأجل وأوسط في العدد يخالف بعضها بعضا فذلك إلى اختيار الورثة فلهم وضع ما شاؤوا منها وإن اختلف الورثة والمكاتب فيما أراد الموصي منه القول فالقول قول الورثة مع أيمانهم أنهم لا يعلمون ما أراد الموصي ثم التعيين إليهم ومتى كان فيها أوسطان عين الورثة أحدهما ومتى كان العدد وترا فأوسطه واحد فإن كان شفعا كأربعة وستة فأوسطه اثنان وهكذا القول فيما إذا وصى بأوسط نجومه وإن قال : ضعوا عنه ما خف أو قال ما يثقل أو ما يكثر كان ذلك إلى تقدير الورثة لأن كل شيء يخف إلى جنب ما هو أخف منه كما قال أصحابنا فيما إذا وصى بمال عظيم أو كثير أو ثقيل أو خفيف وإن قال : ضعوا عنه أكثر ما عليه وضع عنه نصفه وأدنى زيادة وإن قال ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثل نصفه فذلك ثلاثة أرباع وأدنى زيادة وإن قال : ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثله فذلك الكتابة كلها وزيادة عليها فيصح في الكتابة ويبطل في الزيادة لعدم محلها وإن قال : ضعوا عنه ما شاء فشاء وضع كل ماعليه وضع ماعليه لأن وصيته تتناوله وإن قال ضعوا عنه ماشاء من مال الكتابة لم يكن له وضع الكل لأن من للتبعيض فلا تتناول الجميع ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرناه

حكم ما لو اشترى المكاتب أباه أو ذا رحمه وحكم كسبهم
مسألة : قال : وإذا اشترى المكاتب أباه أو ذا رحمة من المحرم عليه نكاحه لم يعتقوا حتى يؤدي وهم في ملكه فإن عجز فهم عبيد لسيده
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أنه يصح أن يشتري من ذوي أرحامه من يعتق عليه بغير إذن سيده وهذا قول الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي
وقال الشافعي : لا يصح لأنه تصرف يؤدي إلى إتلاف ماله لأنه يخرج من ماله ما يجوز له التصرف فيه في مقابلة ما لا تجوز له التصرف فيه فأشبه الهبة فإن أذن له سيده فيه فمنهم من قال يجوز قولا واحدا وهو قول مالك لأن المنع لحق سيده فجاز بإذنه ومنهم من قال : فيه قولان
ولنا انه اشترى مملوكا لا ضرر في شرائه فصح كالأجنبي وبيانه أنه يأخذ كسبهم وإن عجز صاروا رقيقا لسيده ولأنه يصح أن يشتريه غيره فصح شراؤه كالأجنبي ويفارق الهبة لأنها تفوت المال بغير عوض ولا نفع يرجع إلى المكاتب ولا السيد ولأنه تحقق السبب وهو صدور التصرف من أهله في محله ولم يتحقق المانع لأن ما ذكروه لا نص فيه ولا أصل فيه ولا أصل له يقاس عليه
الفصل الثاني : أنهم لا يعتقون بمجرد ملكه لهم لأنه لو باشرهم بالعتق أو اعتق غيرهم لم يقع العتق فلا يقع بالشراء الذي أقيم مقامه ولا يجوز له بيعهم ولا هبتهم ولا إخراجهم عن ملكه وقال أصحاب الرأي : له بيع من عدا المولودين والوالدين لأنهم ليست قرابتهم قرابة حرية ولا تعصيبية فأشبهوا الأجانب
ولنا أنه ذو رحم يعتق عليه إذا عتق ولا يجوز بيعه كالوالدين والمولودين ولأنه لا يملك بيعهم إذا كان حرا فلا يملكه مكاتبا كوالديه ولأنهم نزلوا منزلة أجزائه فلم يملك بيعهم كيده فإذا أدى وهم في ملكه عتقوا لأنه كمل ملكه فيهم وزال تعلق حق سيده عنهم فعتقوا حينئذ وولاؤهم له دون سيدهم لأنهم عتقوا عليه بعد زوال ملك سيده عنه فيكونون بمنزلة ما لو اشتراهم بعد عتقه وإن عجز ورد في الرق صاروا عبيدا للسيد لأنهم من ماله فيصيرون للسيد بعجزه كعبيده الأجانب
فصل : وكسبهم للمكاتب لأنهم مماليكه ونفقتهم عليه بحكم الملك لا بحكم القرابة وإن أعتقهم السيد لم يعتقوا لأنه لا يملكهم فلا يملك التصرف فيهم وإن أعتقهم المكاتب بغير إذن سيده لم يعتقوا لتعلق حق سيده بهم وإن أعتقهم بإذنه عتقوا كما لو أعتق غيرهم من عبيده وإن أعتقه سيده عتق وصاروا رقيقا للسيد كما لو عجز لأن كتابته تبطل بعتقه كما تبطل بموته وعلى ما اخترناه يعتقون لأنه عتق قبل فسخ الكتابة فوجب أن يعتقوا كما لو عتق بالإبراء من مال الكتابة أو بأدائه يحقق هذا أن الكتابة عقد لازم يستفيد بها المكاتب ملك رقيقه واكتسابه ويبقى حق السيد في ملك رقبته على وجه لا يزول إلا بأداء أو ما يقوم مقامه فلا يتسلط السيد على إبطالها فيما يرجع إلى إبطال حق المكاتب وإنما يتسلط على إبطال حقه من رقبة المكاتب فينفذ في ماله دون ما للمكاتب وقد ذكرنا مثل هذا فيما مضى وإن مات المكاتب ولم يخلف وفاء عاد رقيقا وقال أبو يوسف و محمد : يسعون في الكتابة على نجومها وكذلك أم ولده وقال أبو حنيفة في الولد خاصة إن جاء بالكتابة حالة قبلت منه وعتق
ولنا أنه عبد للمكاتب فصار بموته لسيده إذا لم يخلف وفاء كالأجنبي وإن خلف وفاءا انبنى على الروايتين في فسخ الكتابة على ما تقدم

حكم ما لو وهب للمكاتب بعض ذوي رحمه
فصل : وإن وهب له بعض ذوي رحمه فله قبوله وإن وصى له به فله قبول الوصية لأنه إذا ملك شراءه مع ما فيه من بذل ماله فلان يجوز بغير عوض أولى وإذا ملكه فحكمه حكم ما لو اشتراه

يجوز أن يشتري المكاتب امرأته والمكاتبة زوجها
فصل : ويجوز أن يشتري المكاتب امرأته والمكاتبة زوجها لأن ذلك يجوز لغير المكاتب فجاز للمكاتب كشراء الأجانب وينفسخ النكاح بذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ينفسخ لأن المكاتب لا يملك بدليل أنه يجوز له التسري ولا يعتق والده وولده إذا اشتراه فأشبه العبد القن
ولنا أن المكاتب يملك ما اشتراه بدليل أنه يثبت له الشفعة على سيده على سيده ولسيده عليه ويجري الربا بينه وبينه وإنما منع من التسري لتعلق حق سيده بما في يده كما يمنع الراهن من الوطء مع ثبوت ملكه ولم يعتق عليه ذوو رحمة لذلك فإذا اشترى أحدهما الآخر فله التصرف فيه لأنه أجنبي منه

حكم ما إذا زوج السيد ابنه من مكاتبته برضاها
فصل : وإذا زوج السيد ابنه من مكاتبته برضاها ثم مات السيد وكانت من ورثته انفسخ النكاح وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا ينفسخ النكاح لأنها لا ترثه وإنما تملك نصيبها من الدين الذي عليه بدليل أن الوارث لو أبرأ المكاتب من الدين عتق وكان الولاء للميت لا للوارث فإن عجز وعاد رقيقا انفسخ النكاح حينئذ لأنها ملكت نفسها منه
ولنا أن المكاتب مملوك لسيده ولا يعتق بموته فوجب أن ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه ولأنها لا يجوز لها ابتداء نكاحه لأجل الملك فانفسخ نكاحها بتجديد ذلك فيه كالعبد القن وأما كون الولاء للميت فلأن السبب وجد منه فنسب العتق إليه وثبت الولاء له إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن ترثه كله و ترث نصيبها منه لأنها إذا ملكت منه جزءا انفسخ النكاح فيه فبطل في باقيه لأنه لا يتجزأ وكذلك لو اشترت زوجها أو جزءا منه أو ورثت شيئا من العبد القن بطل نكاحها وإن كانت لا ترث أباها لمانع من موانع الميراث فنكاحها باق بحاله والحكم في سائر الورثة من النساء كالحكم في البنت وكذلك لو تزوج رجل مكاتبة فورثها أو ورث شيئا منها انفسخ نكاحه لذلك والله أعلم

حكم ما لو كان العبد لثلاثة فقال : بيعوني نفسي
مسألة : قال : وإن كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم فقال بيعوني نفسي بها فأجابوه فلما عاد إليهم ليكتبوا له كتابا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا وشهد الرجلان عليه بالأخذ فقد صار العبد حرا بشهادة الشريكين إذا كانا عدلين ويشاركهما فيما أخذا من المال وليس على العبد شيء
اعترض على الخرقي في هذه المسألة حيث أجاز له شراء نفسه بعين ما في يده مع أنه قد ذكر في باب العتق إذا قال العبد لرجل اشترني من سيدي بهذا المال وأعتقني فاشتراه بعين المال كان الشراء والعتق باطلين ويكون السيد قد أخذ ماله وقد أجاب القاضي عن هذا الإشكال بوجوه : منها أن يكون مكاتبا وقوله بيعوني من نفسي بهذا أي أعجل لكم الثلاثمائة وتضعون عني ما بقي من كتابتي ولهذا ذكرهما في باب المكاتب الثاني : أن يكون المال في يد العبد لأجنبي قال له اشتر نفسك بها من غير أن يملكه إياها الثالث : أن يكون عتقا بصفة تقديره إذا قبضنا منك هذه الدراهم فأنت حر والرابع : أن يكون رضي سادته ببيعة نفسه بما في يده وفعلهم ذلك معه إعتاق منهم له مشروطا بتأدية ذلك إليهم فتكون صورته صورة البيع ومعناه العتق بشرط الأداء كما لو قال بعتك نفسك بخدمتي سنة فإن منافعه مملوكة لسيده وقد صح هذا فيها فكان هاهنا وهذا الوجه إن شاء الله تعالى لأنه لا يحتاج إلى تأويل ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره لم يجز تأويله بغير دليل وإذا تعذر هذا فمتى اشترى العبد نفسه من سادته عتق لأن البيع يخرجه من ملكهم ولا يثبت عليه ملك آخر إلا أنه هاهنا لا يعتق إلا بالقبض لأنا جعلناه عتقا مشروطا بالقبض وبهذا قال الخرقي فقد صار العبد حرا بشهادة الشريكين اللذين شهدا بالقبض ولو عتق بالبيع لعتق باعترافهم به لا بالشهادة بالقبض ومتى أنكر أحدهم أخذ نصيبه من الثمن فشهد عليه شريكاه فكانا عدلين قبلت شهادتهما لأنهما عدلان شهدا للعبد بأداء ما يعتق به فقبلت شهادتهما كالأجنبيين ورجع المشهود عليه عليهما فيشاركهم فيما أخذاه لأنهما اعترفا بأخذ مائتين من ثمن العبد والعبد مشترك بينهم فثمنه يجب أن يكون بينهم ولأن ما في يد العبد لهم والذي أخذاه كان في يده فيجب أن يشرك الجميع فيه ويكون بالسوية وشهادتهما فيما لهما فيه نفع غير مقبولة ودفع مشاركته لهما فلم تقبل شهادتهما فيه وقبلت شهادتهما فيما ينتفع به العبد دون ما ينتفعان به كما لو أقر بشيء لغيرهما لهما فيه نفع فإن إقرارهما يقبل فيما عليهما دون ما لهما
وقياس المذهب أن لا تقبل شهادتهما على شريكهما بالقبض لأنهم يدفعان بها عن أنفسهما مغرما ومن شهد شهادة جر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل وإنما يقبل ذلك في الإقرار لأن العدالة غير معتبرة فيه والتهمة لا تمنع من صحته بخلاف الشهادة فعلى هذا القياس يعتق نصيب الشاهدين بإقرارهما ويبقى نصيب المشهود عليه موقوفا على القبض وله مطالبته بنصيبه أو مشاركة صاحبه فيما أخذ فإن شاركهما أخذ منهما ثلثي مائة ورجع على العبد بتمام المائة ولا يرجع المأخوذ منه على الآخر بشيء لأنه إن أخذ من العبد فهو يقول ظلمني وأخذ مني مرتين وإن أخذ من الشاهدين فهما يقولان ظلمنا وأخذ منا ما لا يستحقه علينا ولا يرجع المظلوم على غير ظالمه وإن كانا غير عدلين فكذلك سواء قلنا إن شهادة العدلين مقبولة أو لا لأن غير العدل لا تقبل شهادته وإنما يؤاخذ بإقراره فإن أنكر الثالث البيع فنصيبه باق على الرق إذا حلف إلا أن يشهدا عليه بالبيع ويكونان عدلين فتقبل شهادتهما لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بهذه الشهادة نفعا

حكم ما لو كان العبد بين شريكين فكاتباه بمائة فادعى دفعها إليهما أو إلى أحدهما
فصل : وإذا كان العبد بين شريكين فكاتباه بمائة فادعى دفعها إليهما وصدقاه عتق فإن أنكرا أو لم تكن بينة فالقول قولهما مع أيمانهما وإن أقر أحدهما ونكر الآخر عتق نصيب المقر وأما المنكر فعلى قول الخرقي تقبل شهادة شريكه عليه إذا كان عدلا فيحلف العبد مع شهادته ويصير حرا ويرجع المنكر على الشاهد فيشاركه فيما أخذه وأما القياس فيقتضي أن لا تسمع شهادة شريكه عليه لأنه يدفع بشهادته عن نفشه مغرما والقول قول سيده مع يمينه فإذا حلف فله مطالبة شريكه بنصف ما اعترف به وهو خمسة وعشرون لأن ما قبضه كسب العبد وهو مشترك بينهما فإن المنكر ينكر قبض شريكه فكيف يرجع عليه قلنا إنما ينكر قبض نفسه وشريكه مقر بالقبض ويجوز أن يكون قد قبض فلم يعلم به وإذا أقر بمتصور لزمه حكم إقراره ومن حكمه جواز رجوع شريكه عليه فإن قيل لو كان عليه دين لأثنين فوفي أحدهما لم يرجع الآخر على شريكه فلم يرجع هاهنا قلنا إن كان الدين ثابتا بسبب واحد فما قبض أحدهما منه يرجع الآخر عليه كمسألتنا وعلى أن يفارق الدين لكون الدين لا يتعلق بما في يد الغريم إنما يتعلق بذمته فحسب ن والسيد يتعلق حقه بما في يد المكاتب ولا يدفع شيئا منه إلى أحدهما إن كان حق الآخر ثابتا فيه
إذا ثبت هذا فأنه إن رجع على العبد بخمسين استقر ملك الشريك فيه على ما أخذه ولم يرجع العبد عليه بشيء لأنه إنما قبض حقه وإن رجع على الشريك رجع عليه بخمسة وعشرين وعلى العبد بخمسة وعشرين ولم يرجع أحدهما على الآخر بما أخذه منه لما ذكرنا من قبل وإن عجز العبد عن أداء ما يرجع به عليه فله تعجيزه واسترقاقه ويكون نصفه حرا ونصفه رقيقا ورجع على الشريك بنصف ما أخذه ولا تسري الحرية فيه لأن الشريك والعبد يعتقدان أن الحرية ثابتة في جميعه وإن هذا المنكر غاصب لهذا النصف الذي استرقه ظالم باسترقاقه والمكر يدعي رق العبد جميعه ولا يعترف بحرية شيء منه لأنه يزعم إني ما قبضت نصيبي من كتابته شريكي إن قبض شيء استحق نصفه بغير إذني فلا يعتق منه شيء بهذا القبض : سراية العتق ممتنعة على كلا القولين لأن السراية إنما تكون فيما إذا عتق بعضه وبقي بعضه رقيقا وجميعهم ينفقون على خلاف ذلك وهذا المنصوص عن الشافعي رضي الله عنه
فصل : فإن ادعى العبد أنه دفع المائة إلى أحدهما ليدفع إلى شريكه حقه ويأخذ الباقي وأنكر المدعي عليه حلف وبرئ وإذا قال إنما دفعت إلى حقي وإلى شريكي حقه ولا بينة للعبد فالقول قول المدعى عليه في انه لم يقبض إلا قدر حقه مع يمينه ولا نزاع بين العبد والأخر لأنه لم يدع عليه شيئا وله مطالبة العبد في بجميع حقوقه وله مطالبته بنصفه ومطالبة القابض بنصف ما قبض فإن اختار مطالبة العبد فله القبض منه بغير يمين وإذا اختار الرجوع على شريكه بنصفه فللشريك عليه اليمين أنه يقبض من المكاتب شيئا لأنه لو أقر بذلك لسقط حقه من الجوع فإذا أنكره لزمته اليمين فإن شهد القبض على شريكه بالقبض لم تقبل شهادته لمعنيين أحدهما : أن المكاتب لم يدع عليه شيئا وإنما تقبل البينة إذا شهدت بصدق المدعي والثاني : أنه يدفع أنه يدفع عن نفسه مغرما فإن عجز العبد فلغير للقابض أن يسترق نصفه ويقوم عليه نصيب شريكه لأن العبد معترف برقه غير مدع لحرية هذا النصيب بخلاف التي قبلها ويحتمل أن لا يقوم أيضا لأن القابض يدعي حرية جميعه والمنكر يدعي ما يوجب رقه جميعه فإنهما يقولان ما قبضه قبضة بغير حق ولا يعتق حتى يسلم إلى مثل ما سلم إليه فإذا كان أحدهما يدعي رق جميعه والآخر يدعي حرية جميعه فما اتفقا على حرية البعض دون البعض
فصل : وإن اعترف المدعى بقبض المائة على الوجه الذي ادعاه المكاتب وقال قد دفعت إلى شريكي نصفها فأنكر الشريك فالقول قوله مع يمينه وله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه وللمرجوع عليه أن يحلفه فإن رجع الشريك فأخذ منه خمسين كان له ذلك لأنه اعترف بقبض المائة كلها ويعتق المكاتب لأنه وصل إلى كل واحد منهما قدر حقه من الكتابة ولا يرجع الشرك عليه بشيء لأنه يعترف له بأداء ما عليه وبراءته منه وإنما يزعم أن شريكه ظلمه ولا يرجع على غير ظالمه فإن رجع على العبد فله أن يأخذ منه الخمسين لأنه يزعم أنه قبض شيئا من كتابته وللعبد الرجوع على القابض بها سواء صدقه في دفعها إلى المنكر أو كذبه لأنه وإن دفعها دفعا غير مبرر فكان مفرطا ويعتق العبد بأدائها فإن عجز عن أدائها فله أن يأخذها من القابض قم يسلكها فإن تعذر ذلك فله تعجيزه واسترقاق نصفه ومشاركة القابض في الخمسين التي قبضها عوضا عن نصيبه ويقوم على الشريك القابض إن كان موسرا إلا أن يكون العبد يصدقه في دفع الخمسين إلى شريكه ولا يقوم لأنه يعترف أنه حر وأن هذا ظلمه باسترقاق نصفه الحر وإن أمكن الرجوع على القابض بالخمسين ودفعها إلى المنكر فامتنع من ذلك فهل يملك المنكر تعجيزه واسترقاق نصفه ؟ على وجهين بناء القول في تعجيز العبد نفسه مع القدرة على الأداء إن قلنا له ذلك للمنكر استرقاقه وإن قلنا ليس له ذلك فليس للمنكر استرقاقه لأن قادر على الأداء فإن قيل فلم لا يرجع المنكر على القابض بنصف ما قبضه إذا استرق نصف العبد ؟ قلنا لأنه لو رجع عليه بها كان قابضا جميع حقه من مال الكتابة فيعتق المكاتب بذلك إلا أن يتعذر قبضتها في نجومها فتفسخ الكتابة ثم يطالب بها بعد ذلك فيكون له الجوع بنصفها كما لو كانت غائبة في بلد آخر وتعذر تسليمها حتى فسخت الكتابة والله أعلم

حكم ما لم قال السيد كاتبتك على ألفين
مسألة : قال : وإذا قال السيد : كاتبتك على ألفين وقال العبد على ألف فالقول قول السيد مع يمينه
قال القاضي : هذا المذهب نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية الكوسج وهو قول الثوري و الأوزاعي و إسحاق وقال أبو بكر : اتفق أحمد و الشافعي على أنهما يتحالفان ويترادان وهو قول أبي يوسف و محمد لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما فيتحالفان إذا لم تكن بينة كالمتابعين وحكي عن أحمد رضي الله عنه رواية ثالثة أن القول قول المكاتب وهو قول أبي حنيفة لأنه منكر للألف الزائد والقول قول المنكر ولأنه مدعي عليه فيدخل في عموم قوله عليه السلام [ ولكن اليمين على المدعى عليه ]
ولنا أنه اختلاف في الكتابة فالقول قول السيد فيه كما لو اختلفا في أصلها ويفارق البيع من وجهين :
أحدهما أن الأصل في البيع عدم ملك كل واحد منهما لما صار إليه والأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده فالقول قوله فيه
والثاني : أن التحالف في البيع مفيد ولا فائدة في التحالف في الكتابة فإن الحاصل منه يحصل بيمين السيد وحده وبيان ذلك أن الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة ورد العبد إلى الرق إذا لم يرضى بما حلف عليه سيده وهذا يحصل من جعل القول قول السيد مع يمينه فلا يشرع التحالف مع عدم فائدته وإنما قدمنا قول المنكر في سائر المواضع لأن الأصل معه والأصل هاهنا مع السيد لأن الأصل ملكه العبد وكسبه فإذا ثبت هذا فمتى حلف السيد ثبت الكتابة ألفين كما لو اتفقا عليها وسواء كان اختلافهما قبل العتق أو بعده مثل أن يدفع إليه ألفين فيعتق ثم يدعي المكاتب أن أحدهما عن الكتابة والآخر وديعة ويقول السيد : هما جميعا مال الكتابة ومن قال بالتحالف قال إذا تحالفا فلكل واحد منهما فسخ الكتابة إلا أن يرضى بقول صاحبه وإن كان التحالف بعد العتق في مثل الصور التي ذكرناها لم ترتفع الحرية لأنها لا يمكن رفعها بعد حصولها ولا إعادة الرق بعد رفعه ولكن يرجع السيد بقيمته ويرد عليه ما أدى إليه فإن كان من جنس واحد تقاصا بقدر أقلهما وأخذ ذو الفضل فضله
فصل : وإن اختلفا في أداء النجوم فقال المكاتب أديت وعتقت وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه لأنه منكر والقول قول المنكر وإن اختلفا في إبرائه من مال الكتابة أو شيء منه فالقول قول السيد مع يمينه لذلك

حكم ما لو كاتب عبدين واستوفى من أحدهما
فصل : وإن كاتب عبدين واستوفى من أحدهما ولم يدر من أيهما استوفى فقياس المذهب أن يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر كما لو اعتق عبدا من عبيده وأنسيه فإن ادعى الآخر عليه أنه أدى فعليه اليمين أنه ما أدى إليه فإن نكل عتق الآخر فإن مات السيد قبل القرعة أقرع الورثة فإن ادعى الآخر عليهم أنه المؤدي فعليهم اليمين أنهم لا يعلمون أنه أدى لأنها يمين على نفي فعل الغير فإن أقام أحد العبدين بينة أنه عتق سواء كان قبل القرعة أو بعدها في حياة السيد أو بعد موته فإن كان ذلك قبل القرعة تعينت الحرية فيه ورق الآخر وإن كان بعدها فكذلك لأن القرعة ليست عتقا وإنما هي معينة للعتق والبينة أقوى منه فثبت بها خطأ القرعة فتبين بقاء الرق في الذي ظنننا حريته كما تبينا حرية من ظننا رقه ولأن من لم يؤد لا يصير مؤديا بوقوع القرعة له فلا يوجد حكمه الذي هو العتق يتخرج على قول أبي بكر و ابن حامد أن يعتقا على ما ذكرناه في الطلاق وكذلك الحكم فيما إذا ذكر السيد المؤدي منهما ومتى ادعى الآخر أنه أدى فله اليمين على المدعى عليه سواء كان السيد أو ورثته إلا أنه إن كان المدعى عليه السيد فاليمين على البت وإن كانت على ورثته فاليمين على نفي العلم إلا أن يدعي الأداء إليهم فتكون أيمانهم على البت أيضا وعلى كل واحد من الورثة يمين لأن كل واحد منهم يدعى عليه فلزمته اليمين كما لو انفرد بالدعوى

حكم ما لو كان للمكاتب أولاد من معتق آخر غير سيده
فصل : إذا كان للمكاتب أولاد من معتقه آخر غير سيده فقال : قد أدى إلى عتق فأنجز ولاء ولده إلي فأنكر ذلك مولى أمهم وكان المكاتب حيا فقد صار حرا بهذا القول فإنه إقرار من سيده بعتقه وينجز ولاء ولده إليه وإن كان ميتا فالقول قول مولى أمهم لأن الأصل الرق وبقاء ولائهم له فيحلف ويبقى ولاؤهم له

حكم ما لو أعتق الأمة أو كاتبها وشرط ما في بطنها
مسألة : قال : وإذا أعتق الأمة أو كاتبها وشرط ما في بطنها أو أعتق ما في بطنها دونها فله شرطه
روي نحو هذا القول عن ابن عمر وأبي هريرة و النخعي و إسحاق و ابن المنذر وقال ابن سيرين : له ما استثنى وقال عطاء و الشعبي : إذا استثنى ما في بطنها فله استثناؤه
وقال مالك و الشافعي : لا يصح استثناء الجنين لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الثنياء إلا أن تعلم ولأنه لا يصح استثناؤه في البيع فلا يصح في العتق كبعض أعضائها
ولنا قول ابن عمر وأبي هريرة ولم نعلم لهما مخالفا في الصحابة : قال أحمد أذهب إلى حديث ابن عمر العتق ولا أذهب في البيع
وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه أعتق جارية استثنى ما في بطنها ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ المسلمون على شروطهم ] وهذا قد شرط ما في بطن معتقه فكان له بمقتضى الخبر ولأنه يصح إقراره بالعتق فصح الاستثناء وأما خبرهم فنقول به والحمل معلوم فيصح استثناؤه بمقتضى الحديث ويفارق البيع فإنه عقد معاوضة يعتبر فيه العلم بصفات العوض ليعلم هل هو قائم مقام العوض أم لا ؟ والعتق تبرع لا تتوقف صحته على معرفة صفات المعتق ولا تنافيه الجهالة بها ويكفي العلم بوجوده وقد علم ذلك ولذلك صح إفراد الحمل بالعتق ولم يصح إفراده بالبيع ولأن استثناءه في البيع إذا بطل بطل البيع كله وهاهنا إذا بطل استثناءه لم يبطل العتق في الأمة ويسري الإعتاق إليه فكيف يصح إعتاقه مع تضاد الحكم فيهما ؟ ولا يصح قياسه على بعض أعضائها لأن العضو لا يتصور انفراد بالرق والحرية دون الحمل وكذلك لو أعتق عضوا من أمته صارت كلها حرة فإذا عتق بعضها سرى إلى المستثنى والولد حيوان منفرد لو أعتقه لم تسر الحرية إلى أمه ويصح انفراده بالحرية عن أمه فيما إذا أعتقه دونها وفي ولد المغرور بحرية أمه وفيما إذا وطئ بشبهة وفي ولد أم الولد غير ذلك لا يمكن ذلك في بعض الأعضاء ولأن الولد يرث ويورث ويوصى به وله وإذا قتل كان بدله موروثا ولا تختص به أمه وتجب الكفارة بقتله والديه في مقابلته فكيف يصح قياسه على أعضائها فأما إن عتق ما في بطنها دونها خلاف فلا أعلم خلافا فيه
قال إسحاق بن منصور سئل سفيان عن رجل قال : ما في بطنك حر قال : هو حر والأم مملوكة لأن ولدها منها وليست هي من ولدها قال أحمد و إسحاق : جيد
وقال مهنا : سألت أحمد رضي الله عنه عن رجل زوج أمته فقالت فقد حبلت فقال لها مولاها ما في بطنك حر ولم تكن حاملا قال : لا تعتق فأعدت عليه القول مرة أخرى فقال : لا يكون شيء إنما أراد ما في بطنها فلم يكن شيء قال المروذي : سئل أبو عبد الله عن رجل عتق عبدا له واستثنى منه خدمته شهرا فقال : جائز

في تعجيل المكاتب بعض كتابته لسيده
مسألة : قال : ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده بعض كتابته ويضع عنه بعض كتابته
وجملته أنه إذا كاتبه على ألف في نجمين إلى سنة ثم قال عجل لي خمسمائة منه حتى أضع عنك الباقي أو أبرئك من الباقي أو قال صالحني منه على خمسمائة معجلة جاز ذلك وبه يقول طاوس و الزهري و النخعي و أبو حنيفة وكرهه الحسن و ابن سيرين و الشعبي
وقال الشافعي : لا يجوز لأن هذا بيع ألف بخمسمائة وهو ربا الجاهلية وهو يزيد في الدين لأجل الأجل وهذا أيضا هبة ولأن هذا لا يجوز بين الأجانب والربا يجري بين المكاتب وسيده فلم يجز هذا بينهما كالأجانب
ولنا أن مال الكتابة غير مستقر ولا هو دين صحيح بدليل أنه لا يجبر على أدائه وله أن يمتنع من أدائه ولا تصح الكفالة به وما يؤديه إلى سيده كسب عبده وإنما جعل الشرع هذا العقد وسيلة إلى العتق وأوجب فيه التأجيل مبالغة في تحصيل مبالغه في تحصيل العتق وتخفيفا عن المكاتب فإذا أمكنه التعجل على وجه يسقط عنه بعض ما عليه كان أبلغ في حصول العتق وأخف على العبد ويحصل من السيد إسقاط بعض ماله على عبده ومن الله تعالى إسقاط ما أوجبه عليه من أجل لمصلحته وقولهم إن الربا يجري بينهما فمنعه على ما ذكر ابن أب موسى وإن سلمناه فإن إذا مفارق لسائر الربا بما ذكرناه وهذا يخالف ربا الجاهلية فإنه إسقاط لبعض الدين وربا الجاهلية يفضي إلى نفاذ مال الدين وتحمله من الدين ما يعجز عن وفائه فيحبس من أجله ويؤسر به وهذا يفضي إلى تعجيل عتق المكاتب وخلاصه من الرق والتخفيف عنه فافترقا

حكم ما لو اتفقا على الزيادة في الأجل والدين
فصل : فإن اتفقا على الزيادة في الأجل والدين مثل أن يكاتبه على ألف في نجمين إلى سنة يؤدي في نصفها خمسمائة وفي آخرها الباقي فيجعلانها إلى سنتين بألف ومائتين في كل سنة ستمائة أو مثل أن يحل عليه نجم فيقول أخرني به إلى كذا وأزيدك كذا فيحتمل أنه لا يجوز لأن الدين المؤجل إلى وقت لا يتأخر أجله عن وقته باتفاقهما عليه ولا يتغير أجله بتغيره وإذا لم يتأخر عن وقته لم تصح الزيادة التي في مقابلته ولأن هذا يشبه ربا الجاهلية المحرم وهو الزيادة في الدين للزيادة في الأجل ويفارق المسألة الأولى من هذين الوجهين فإن قيل فكما أن الأجل لا يتأخر كذلك لا يتعجل ولا يصير الدين المؤجل حالا فلم جاز المسألة الأولى ؟ قلنا إنما جاز في المسألة الأولى بالتعجيل فعلا فإنه إذا دفع إليه الدين المؤجل قبل محله جاز وجاز للسيد إسقاط باقي حقه عليه وفي هذه المسألة يأخذ أكثر مما وقع عليه لعقد فهو ضد المسألة الأولى وهو ممتنع من وجه آخر لأن في ضمن الكتابة أنك متى أديت إلي كذا فأنت حر فإذا أدى إليه ذلك فينبغي أن يعتق فإن قيل فإذا غير الأجل والعوض فكأنهما فسخا الكتابة الأولى وجعلاها كتابة ثانية قلنا لم يجر بينهما فسخ وإنما قصدا تغير العوض و الأجل على وجه لا يصح فيبطل التغيير ويبقى العقد بحاله ويحتمل أن يصح ذلك كما في المسألة الأولى فعلى هذا لو اتفقا على ذلك ثم رجع أحدهما فإن له الرجوع وكذلك في المسألة الأولى لو قال أعجل لك مال الكتابة وتسقط عني منه كذا فقال نعم ثم رجع أحدهما قبل التعجيل فله الرجوع لما ذكرنا من أن الدين المؤجل لا يتأخر عن أجله ولا يتقدم وإنما له أن يؤديه قبل محله ولمن له الدين ترك قبضه في محله وذلك إلى اختياره فإذا وعد به ثم رجع قبل الفعل لفه ذلك

حكم ما لو صالح المكاتب سيده عما في ذمته بغير جنسه
فصل : فإن صالح المكاتب سيده عما في ذمته مثل أن يصالحه عن النقود بحنطة أو شعير جاز إلا أنه لا يجوز أن يصالحه على شيء مؤجل لأنه يكون بيع دين بدين وإن صالحه عن الدراهم بدنانير أو عن الحنطة بشعير لم يجز التصرف قبل القبض لأن هذا بيع في الحقيقة فيشترط له القبض في المجلس قال القاضي : يحتمل أن لا تصح هذه المصالحة مطلقا لأن هذا دين من شرطه التأجيل فلم تجز المصالحة عليه بغيره ولأنه دين غير مستقر فهو كدين السلم وقال ابن أبي موسى : لا يجري الربا بين المكاتب وسيده فعلى قوله تجوز المصالحة كيفما كانت وكما تجوز ذلك بين العبد القن وسيده والأولى ما ذكرناه ويفارق دين الكتابة دين السلم فإنه يفارق سائر الديون بما ذكرنا في هذه المسألة فمفارقته لدين السلم أعظم والله اعلم

حكم ما لو كان العبد بين اثنين فكاتب أحدهما
مسألة : قال : وإذا كان العبد بين اثنين فكاتب أحدهما فلم يؤد كل كتابته حتى أعتق الآخر وهو موسر فقد صار العبد كله حرا ويرجع الشريك على العتق بنصف قيمته
قد ذكرنا فيما تقدم أن العبد المشرك يجوز لأحد الشريكين كتابة نصيبه منه بغير إذن شريكه ويبقى سائره غير مكاتب فإذا فعل هذا فأعتق الذي لم يكاتبه حصته منه وهو موسر عتق وسري العتق إلى باقيه فصار كله حرا ويضمن لشريكه قيمة حصته منه ويكون المرجوع بقيمته مكاتبا ويبقى على ما بقي من كتابته لأن الرجوع عليه بقيمة ما أتلف وإنما أتلف مكاتبا وإن كان المعتق معسرا لم يسر العتق على ما مضى في باب العتق وقال أبو بكر والقاضي : لا يسري العتق في الحال لكن ينظر فإن أدى كتابته عتق باقيه بالمكاتبة وكان ولاؤه بينهما وإن فسخت كتابته لعجزه سرى العتق وقوم عليه حينئذ لأن سراية العتق في الحال مفضية إلى أبطال الولاء الذي انعقد سببه ونقله عن المكاتب إلى غيره وقال ابن أبي ليلى : عتق الشريك موقوف حتى ينظر ما يصنع في الكتابة فإن أداها عتق وكان المكاتب ضامنا لقيمة نصيب شريكه وولاؤه كله للمكاتب وإن عجز سرى عتق الشريك وضمن نصف القيمة للمكاتب وكان ولاؤه كله له وأما مذهب الشافعي فلا تجوز كتابة أحد الشريكين إلا أن يأذن فيه شريكه فيكون قولان فإذا كاتبه بإذن شريكه ثم أعتق الذي لم يكاتب فهل يسري في الحال أو يقف على العجز ؟ فيه قولان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شركا له في عبد وكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة عدل ] وهذا داخل في عمومه ولأنه عتق لجزء من العبد من موسر غير محجور عليه فسرى إلى باقيه كما لو كان قنا ولأن بعض مقتضى السراية متحقق والمانع منها لم يثبت كونه مانعا فإنه لا نص فيه ولا أصل له يقاس عليه فوجب أن يثبت وقولهم إنه يفضي إلى إبطال الولاء قلنا إذا كان العتق يؤثر في إبطال الملك الثابت المستقر الذي الولاء من بعض آثاره فلأن يؤثر في نقل الولاء بمفرده أولى ولأنه لو أعتق عبدا له أولاد من معتقه قوم نقل ولاءهم إليه فإذا نقل ولاءهم الثابت بإعتاق غيرهم فلأن ينقل ولاء لم يثبت بعد بإعتاق من عليه الولاء أولى ولأنه نقل الولاء ثم عمن لم يغرم له عوضا فلأن ينقله بالعوض أولى فانتقال الولاء في موضع جر الولاء ينبه على سراية العتق وانتقال الولاء إلى المعتق لكونه أولى منه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الولاء ثم ثابت وههنا بعرض الثبوت والثاني : أن النقل حصل ثم بإعتاق غيره وههنا بإعتاقه والثالث : أنه انتقل ثم بغير عوض وهاهنا بعوض

إذا كان المعتق معسرا لم يسر عتقه
فصل : وإن كان المعتق معسرا لم يسر عتقه وكان نصيبه حرا وباقيه على الكتابة فأن أدى عتق عليهما وكان ولاؤه بينهما وإن عجز عاد الجزء المكاتب رقيقا قنا إلا على الرواية التي نقول يستسعى العبد فإنه يستسعى عند عجزه في قيمة باقيه ولا يستسعى في حال الكتابة لأن الكتابة سعاية فيما اتفقا عليه فاستغني بها عن السعاية فيما يحتاج إلى التقويم فإذا عجز وفسخت الكتابة بطلت ورجع إلى السعاية في القيمة والله أعلم

جواب أحمد في عبد بين شريكين كاتباه على ألف درهم
فصل : ونقل عن أحمد رضي الله عنه أنه سئل عن عبد بين شريكين فكاتباه على ألف درهم فأدى إليهما تسعمائة لهذا أربعمائة درهم وخمسين درهما ولهذا أربعمائة درهم وخمسين درهما ثم أن أحدهما أعتق نصيبه قال : إن كان للمعتق مال أدى إلى شريكه نصف قيمة العبد لا يحاسبه بها أحد لأنه عبد ما بقي عليه درهم ولأنه قد يجوز أن يعجزه فيعود الرق إلى الرق و يموت فيكون عنده مال فهو بينهما ونقل عنه حنبل أنه يعتق إلا نصف المائة على هذا ويكون الولاء على قدر ما أعتق فالرواية الأولى توافق قول الخرقي فإنه أوجب على العتق غرامه نصف قيمة العبد وينبغي أن تجب نصف قيمته على الصفة التي عتق عليها وهو كونه مكاتبا قد أدى كتابته إلا مائة منها وهي عشرها وأما حنبل فيحتمل أن تكون على ما قال أبو بكر والقاضي في أنه يسري العتق إلى الجزء المكاتب لغيره وقد نصرنا الرواية الأولى بما ذكرناه والله أعلم

حكم ما لو عجز المكاتب ورده في الرق وقد تصدق عليه
مسألة : قال وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان قد تصدق عليه بشيء فهو لسيده
وجملته أن المكاتب إذا عجز وفي يده مال ورد في الرق فهو لسيده سواء كان من كسبه أو من صدقه تطوع أو وصية وما كان من صدقة مفروضة ففيه روايتان : إحداهما : هو لسيده وهو قول أبي حنيفة وقال عطاء : يجعله في السبيل أحب إلي وإن أمسكه فلا بأس
الرواية الثانية : يؤخذ ما بقي في يده فيجعل في المكاتبين نقلها حنبل وهو قول شريح و النخعي و الثوري واختار أبو بكر و القاضي أنه يرد إلى أربابه وهو قول إسحاق لأنه إنما دفع ليصرف في العتق فإذا لم يصرف فيه وجب رده كالغازي والغارم وابن السبيل
ولنا أن ابن عمر رد مكاتبا في الرق فأمسك ما أخذ منه ولأنه يأخذ لحاجته فلم يرد ما أخذه كالفقير والمسكين وأما الغازي فإنه يأخذ لحاجتنا إليه بقدر ما يكفيه لغزوه وأما الغارم فإن غرم لاصلاح ذات البين فهو كالغازي يأخذ لحاجتنا وإن غرم لمصلحة نفسه فهو كمسألتنا لا يرده
فصل : وأما ما أداه إلى سيده قبل عجزه فلا يجب رده بحال لأن المكاتب صرفه في الجهة التي أخذه لها وثبت ملك سيده عليه ملكا مستقرا فلم يزل ملكه عنه كما لو عتق المكاتب ويفارق ما في يد المكاتب لأن ملك سيده لم يثبت عليه قبل هذا والخلاف في ابتداء ثبوته وما تلف في يد المكاتب لم يرجع عليه به سواء عجز أو أدى لأن ماله تلف في يده فأشبه ما لو تلف في يد سائر أصناف الصدقة وإن اشترى به عرضا وعجز العرض في يده ففيه من الخلاف مثل ما لو وجد بعينه لأن العرض عرضه وقائم مقامه فأشبه ما لو أعطى الغازي من الصدقة ما اشترى به فرسا وسلاحا ثم فضل ذلك عن حاجته

موت المكاتب قبل الأداء كعجزه
فصل : وموت المكاتب قبل الأداء كعجزه فيما ذكرنا لأن سيده يأخذ ما في يده قبل حصول مقصود الكتابة وإن أدى وبقي في يده شيء فحكمه في رده أو أخذه لنفسه حكم سيده في ذلك عند عجزه لأن ما لم يؤده في كتابته بقي بعد زوالها وإن كان قد استدان ما أداه في الكتابة وبقي عنده من الصدقة بقدر ما يقضي به دينه لم يلزمه رده لأنه محتاج إليه بسبب الكتابة فأشبه ما يحتاج إليه في أدائها

حكم ما لو تبايع المكاتبان ولم يعرف أيهما السابق
مسألة : قال : وإذا اشترى المكاتبان كل واحد منهما الآخر صح شراء الأول وبطل شراء الآخر
لا خلاف في أن المكاتب يصح شراؤه للعبيد والمكاتب يجوز بيعه على ما ذكرنا فإذا اشترى أحد المكاتبين الآخر صح شراؤه وملكه لأن التصرف صدر من أهله في محله وسواء كانا مكاتبين لسيد واحد أو لسيدين فإذا عاد الثاني فاشترى الذي اشتراه لم يصح لأنه سيده ومالكه وليس للمملوك أن يملك مالكه لأنه يفضي إلى تناقض الأحكام إذ كل واحد منهما يقول لصاحبه أنا سيدك ولي عليك مال الكتابة تؤديه إلى فإن عجزت فلي فسخ كتابتك وردك إلى أن تكون رقيقا لي وهذا تناقض وإذا تنافى أن تملك المرأة زوجها ملك اليمين لثبوت ملكه عليها في النكاح فههنا أولى ولأنه لو صح هذا لتقاص الدينان إذا تساويا وعتقا جميعا فإذا ثبت هذا فشراء الأول صحيح والمبيع هاهنا باق على كتابته فإن أدى عتق وولاؤه موقوف فإن أدى سيده كتابته كان له لأنه عتق بأدائه إليه فإن عجز فولاؤه لسيده لأن العبد لا يثبت له ولاء ولأن السيد يأخذ ماله فكذلك حقوقه هذا مقتضى قول القاضي ومقتضى قول أبي بكر أن الولاء لسيده لأن المكاتب عبد لا يثبت له الولاء فيثبت لسيده وكذلك فيما إذا عتق بإذن سيده أو كاتب عبده فأدى كتابته وهذا نظيره ويحتمل أن يفرق بينهما لكون العتق ثم بإذن السيد فيحصل الإنعام منه بإذنه فيه وهاهنا لا يفتقر إلى إذنه فلا نعمة له عليه فلا يكون له عليه ولاء ما لم يعجزه سيده والله أعلم
فصل : وإن لم يعلم السابق منهما فقال أبو بكر : يبطل البيعان ويرد كل واحد منهما إلى كتابته لأن كل واحد منهما مشكوك في صحة بيعه فيرد إلى اليقين وذكر القاضي أنه يجري مجرى ما إذا زوج الوليان فأشكل الأول منهما فيقتضي هذا أن يفسخ البيعان كما يفسخ النكاحان وعلى قول أبي بكر لا حاجة إلى الفسخ لأن النكاح إنما احتيج إلى فسخه من أجل المرأة فإنها منكوحة نكاحا صحيحا لواحد منهما يقينا فلا يزول إلا بفسخ وفي مسألتنا لم يثبت تعين البيع في واحد بعينه فلم يفتقر إلى فسخ

حكم ما لو كاتب عبيدا وما يلحق ذلك
فصل : وإذا كاتب عبيدا له صفقة واحدة بعوض واحد مثل أن يكاتب ثلاثة أعبد له بألف صح في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و سليمان بن موسى و أبو حنيفة و مالك و الحسن بن صالح و إسحاق وهو المنصوص عن الشافعي رضي الله عنه وقال بعض أصحابه : فيه قول آخر لا يصح لأن العقد مع ثلاثة كعقود ثلاثة وعوض كل منهما مجهول فلم يصح كما لو باع كل واحد منهما لواحد صفقة واحدة بعوض واحد
ولنا أن جملة العوض معلومة وإنما جهل تفصيلها فلم تمنع صحة العقد كما لو باعهم لواحد وعلى قول من قال : إن العوض يكون بينهم على السواء فقد علم أيضا تفصيل العوض وعلى كل واحد منهما ثلث وكذا يقول فيما لو باعهم لثلاثة إذا ثبت هذا فإن كل واحد منهم مكاتب بحصته من الألف ويقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد لأنه حين المعاوضة وزوال سلطان السيد عنهم فإذا أداه عتق هذا قول عطاء و سليمان بن موسى و الحسن بن صالح و الشافعي و إسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز : يتوجه لأبي عبد الله قول آخر أن العوض بينهم على عدد رؤوسهم فيتساوون فيه لأنه أضيف إليهم إضافة واحدة فكان بينهم بالسوية كما لو أقر لهم بشيء
ولنا أن هذا عوض فتسقط على العوض كما لو اشترى شقصا وسيفا وكما لو اشترى عبيدا فرد واحدا منهم بعيب أو تلف أحدهم ورد الآخر ويخالف الإقرار فإنه ليس بعوض إذا ثبت هذا فأيهم أدى حصته عتق
وهذا قول الشافعي وقال ابن أبي موسى : لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع كتابته وحكي ذلك عن أبي بكر وهو قول مالك وحكي عنه أنه إذا امتنع أحدهم عن الكسب مع القدرة عليه أجبر عليه الباقون واحتجوا بأن الكتابة واحدة بدليل أنه لا يصح من كل واحد منهم الكتابة بقدر حصته دون الباقين ولا يحصل العتق إلا بأداء جميع الكتابة كما لو كان المكاتب واحدا وقال أبو حنيفة : إن لم يقل لهم السيد إن أديتم عتقتم فأيهم أدى حصته عتق وإن أدى جميعها عتقوا كلهم ولم يرجع على صاحبيه بشيء وإن قال لهم إن أديتم عتقتم لم يعتق واحد منهم حتى تؤدى الكتابة كلها ويكون بعضهم حميلا عن بعض ويأخذ أيهم شاء بالمال وأيهم أداها عتقوا كلهم ورجعوا على صاحبيه بحصتهما ولنا أنه عقد معاوضة مع ثلاثة فاعتبر كل واحد منهم بأداء حصته كما لو اشتروا عبدا وكما لم يقل لهم إن أديتم عتقتم على قول أبي حنيفة فإن قوله ذلك لا يؤثر لأن استحقاق العتق بأداء العوض لا بهذا القول بدليل أنه يعتق بالأداء بدون هذا القول ولم يثبت كون هذا القول مانعا من العتق ولا نسلم أن هذا العقد كتابة واحدة فإن العقد مع جماعة عقود بدليل البيع ولا يصح القياس على كتابته الواحد لأن ما قدره في مقابله عتقه وهاهنا في مقابلة عتقه ما يخصه فافترقا إذا ثبت هذا فإنه شرط عليهم في العقد أن كل واحد منهم ضامن عن الباقين فالشرط فاسد والعقد صحيح وقال أبو الخطاب في الشرط رواية أخرى أنه صحيح وخرجه ابن حامد وجها بناء على الروايتين في ضمان الحر لمال الكتابة وقال الشافعي رضي الله عنه : العقد والشرط فاسدان لأن الشرط فاسد ولا يمكن تصحيح العقد بدونه لأن السيد إنما رضي بالعقد بهذا الشرط فإذا لم يثبت لم يكن راضيا بالعقد وقال مالك و أبو حنيفة : العقد والشرط صحيحان لأنه مقتضى العقد عندهما
ولنا أن مال الكتابة ليس بلازم ولا ماله إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كما لو جعل المال صفة مجردة في العتق فقال : إن أديت إلي ألفا فأنت حر ولأن الضامن لا يلزمه أكثر مما يلزم المضمون عنه ومال الكتابة لا يلزم المكاتب فلا يلزم الضامن ولأن الضمان تبرع وليس للمكاتب التبرع ولأنه لا يملك الضمان عن حر ولا عمن ليس معه في الكتابة فكذلك من معه وأما العقد فصحيح لأن الكتابة لا تفسد بفساد الشرط بدليل خبر بريرة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى
فصل : إذا مات بعض المكاتبين سقط قدر حصته نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل وكذلك إن أعتق بعضهم وعن مالك إن أعتق السيد أحدهم وكان مكتسبا لم ينفذ عتقه لأنه يضر بالباقين وإن لم يكن مكتسبا نفذ عتقه لعدم الضرر فيه وهذا مبني على أنه لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع مال الكتابة وقد مضى الكلام فيه
فصل : فإن أدى أحد المكاتبين عن صاحبه أو عن مكاتب آخر قبل أداء ما عليه بغير علم سيده لم يصح لأن هذا تبرع وليس له التبرع بغير إذن سيده وإن كان قد حل عليه نجم صرف ذلك فيه وإن لم يكن حل عليه نجم فله الرجوع فيه وإن علم السيد بذلك ورضي بقبضه عن الآخر صح لأن قبضه له راضيا به مع العلم دليل على الإذن فيه فجاز كما لو أذن فيه تصريحا وإن كان الأداء بعد أن عتق صح وسواء علم السيد أو لم يعلم فإذا أراد الرجوع على صاحبه بما أدى عنه نظرنا فإن كان قد قصد التبرع عليه لم يرجع به وإن أداه محتسبا بالرجوع عليه وكان الأداء بإذن المؤدي عنه فهو فرض يلزمه أداؤه كما لو اقترضه منه وإن كان بغير إذنه لم يرجع عليه لأنه تبرع عليه بأداء ما لا يلزمه كما لو تصدق عنه صدقة وتطوع وبهذا فارق سائر الديون وإن كان بإذنه وطلب استيفاء قدم على أداء مال الكتابة كسائر الديون وإذا عجز عن أدائه فحكمه حكم سائر الديون وهذا كله مذهب الشافعي
فصل : ولا يصح ضمان الحر لمال الكتابة وذكر القاضي فيه روايتين : أحدهما : يصح ضمانه لأنه عوض في معاوضة فصح ضمانه كثمن المبيع
ولنا ما ذكرناه من قبل ولا يصح قياسه على الثمن لأنه لازم وهذا غير لازم
فصل : وإذا أدوا ما عليهم أو بعضه ثم اختلفوا فقال من كثرت قيمته أدى كل واحد منا بقدر ما عليه فلا فضل لأحدنا على صاحبه وقال من قلت قيمته أدينا على السواء فلي الفضل عليك أو يكون وديعة لي عند سيدنا فالقول قول الأول لأن الظاهر أن من عليه دين لا يؤدي أكثر منه فرجحت دعواه بذلك فإن كان المؤدى أكثر مما عليهم واختلفوا في الزيادة فالقول قول من يدعي التساوي لأنهم اشتركوا في أدائه فكانت أيديهم عليهم فاستووا فيه كما لو كان في أيديهم مال فاختلفوا فيه
فصل : وإن جنى بعضهم فجنايته عليه دون صاحبه وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه وقال مالك رضي الله عنه : يؤدون كلهم أرشة فإن عجزوا رقوا
ولنا قول الله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يجني جان إلا على نفسه ] ولأنه لو اشترك رجلان وتعاقدا لم يحمل أحدهما جناية صاحبه فكذا هاهنا لأن ما لا يصح لا يتضمنه عقد الكتابة ولا يجب على أحدهما بفعل الآخر كالقصاص وقد بينا أن كل واحد منهما مكاتب بحصته فهو كالمنفرد بعقده

حكم ما لو شرط في كتابته أن يولي من يشاء
مسألة : قال : وإذا شرط في كتابته أن يولي من شاء فالولاء لمن أعتق والشرط باطل
أما الشرط فباطل لا نعلم في بطلانه خلافا وذلك لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كانت في بريرة ثلاث قضيات أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا الولاء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال [ اشتريها واعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ] متفق عليه وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ] فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال [ أما بعد فما بال ناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن عتق ] متفق عليه ولأن الولاء لا يصح نقله بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع الولاء وهبته وقال : [ إنما الولاء لمن أعتق ] ولأنه لحمة كلحمه النسب فلم يصح اشتراطه لغير صاحبه كالقرابة ولأنه حكم العتق فلم يصح اشتراطه لغير المعتق كما لا يصح اشتراط حكم النكاح لغير الناكح ولا حكم البيع لغير العاقد وسواء شرط أن يوالي من شاء أو شرطه لبائعه أو لرجل آخر بعينه ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط نص عليه أحمد رضي الله عنه وقال الشافعي رضي الله عنه : يفسد به كما لو شرط عوضا مجهولا ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الشروط الفاسدة في البيع
ولنا حديث بريرة فإن أهلها شرطوا لهم الولاء فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بشرائها مع هذا الشرط وقال [ إنما الولاء لمن أعتق ] ويفارق جهالة العوض فإنه ركن العقد لا يمكن تصحيح العقد بدونه وربما أفضت جهالته إلى التنازع والاختلاف وهذا الشرط زائد فإذا حذفناه بقي العقد صحيحا بحاله فإن قيل المراد بقول النبي صلى الله عليه و سلم [ اشترطي لهم الولاء ] أي عليهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لا يأمر بالشرط الفاسد واللازم تستعمل بمعنى على كقول الله تعالى { وإن أسأتم فلها } أي فعليها قلنا هذا لا يصح لوجوه أربعة : أحدها أنه يخالف وضع اللفظ والاستعمال والثاني : أن أهل بريرة أبوا هذا الشرط فكيف يأمرها النبي صلى الله عليه و سلم بشرط لا يقبلونه ؟ والثالث : أن ثبوت الولاء لها لا يحتاج إلى شرط لأنه مقتضى العتق وحكمه والرابع : أن في بعض الألفاظ [ لا يمنعنك هذا الشرط منا ابتاعي وأعتقي ] وإنما أمرها النبي صلى الله عليه و سلم بالشرط تعريفا لنا أن وجود هذا الشرط كعدمه وأنه لا ينقل الولاء عن المعتق

شروط وشروط مضادة
فصل : وإن اشترط السيد على المكاتب أن يرثه دون ورثته أو يزاحمهم في مواريثهم فهو شرط فاسد في قول العلماء منهم الحسن و عطاء و شريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي و إسحاق وأجاز إياس بن معاوية أن يشترط شيئا من ميراثه ولا يصح لأنه يخالف كتاب الله عز و جل وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل بقول النبي صلى الله عليه و سلم قال سعيد : حدثنا منصور عن ابن سيرين أن رجلا كاتب مملوكه واشترط ميراثه فلما مات المكاتب تخاصم ورثته إلى شريح فقضى شريح بميراث المكاتب لورثته فقال الرجل : ما يغني عني شرطي منذ عشرين سنة ؟ فقال شريح : كتاب الله أنزله على نبيه قبل شرطك بخمسين سنة ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط كالذي قبله
فصل : وإن شرط عليه خدمة معلومة بعد العتق جاز وبه قال عطاء و ابن شبرمه وقال مالك و الزهري : لا يصح لأنه ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط ميراثه
ولنا أنه روى عن عمر رضي الله عنه أنه أعتق كل من يصلي من سبي العرب وشرط عليهم أنكم تخدمون الخليفة من بعدي ثلاث سنوات ولأنه اشترط خدمة في عقد الكتابة أشبه ما لو شرطها قبل العتق ولأنه شرط نفعا معلوما أشبه ما لو شرط عوضا معلوما ولا نسلم أنه ينافي مقتضى العقد فإن مقتضاه العتق عند الأداء وهذا لا ينافيه
فصل : وإذا كاتبه على ألفين في رأس السنة كل شهر ألف وشرط أن يعتق عند أداء الأول صح في قياس المذهب ويعتق عند أدائه لأن السيد لو أعتقه بغير أداء شيء صح فكذلك إذا أعتقه عند أداء البعض ويبقى الآخر دينا عليه بعد عتقه كما لو باعه نفسه به

حكم ما لو أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل وأخرجه إلى سيده
مسألة : قال : وإذا أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل فأخرجه إلى سيده فأحب أخذه أخذه بما اشتراه فهو على كتابته وإن لم يجب أخذه فهو على ملك مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء وولاؤه لمن يؤدي إليه
وجملته أن الكفار إذا أسروا مكاتبا ثم استنقذه المسلمون فالكتابة بحالها فإن أخذ في الغنائم فعلم بحاله أو أدركه سيده قبل قسمه أخذه بغير شيء وكان على كتابته كمن لم يؤسر وإن لم يدركه حتى قسم وصار في سهم يعض الغانمين أو اشتراه رجل من الغنيمة قبل القسمة أو من المشركين وأخرجه إلى سيده فإن سيده أحق به بالثمن الذي ابتاعه به وفيما إذا كان غنيمة رواية أخرى أنه إذا قسم فلا حق للسيد فيه بحال فيخرج في المشتري مثل ذلك وعلى كل تقدير فإن سيده إن أخذه فهو مبقي من كتابته وإن تركه فهو في يد مشتريه مبقي على ما بقي من كتابته فيعتق الأداء في الموضعين وولاءه لمن يؤدي إليه كما لو اشتراه من سيده
وقال أبو حنيفة و الشافعي رضي الله عنهما : لا يثبت عليه ملك الكفار ويرد إلى سيده بكل حال ووافق أبو حنيفة الشافعي في المكاتب والمدبر خاصة لأنهما عنده لا يجوز بيعهما ولا نقل الملك فيهما فأشبها أم الولد وقد تقدم الكلام في الدلالة على إن ما أدركه صاحبه مقسوما لا يستحق صاحبه شيء وكذلك ما اشتراه مسلم من دار الحرب وفي أن المكاتب والمدبر يجوز بيعهما بما يغني عن إعادته هاهنا
فصل : وهل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها مع الكفار ؟ علة وجهين : أحدهما : لا يحتسب عليه بها لأن الكتابة اقتضت تمكينه من التصرف والكسب في هذه المدة فإذا لم يحصل له ذلك لم يحتسب عليه كما لو حبسه سيده فعلى هذا ينبني على ما مضى من المدة قبل الأسر وتبقى مدة الأسر كلها كأنها لم توجد
والثاني : يحتسب عليه بها لأنها من مدة الكتابة مضت بغير تفريط من سيده فاحتسب عليه بها كما لو مرض ولأنه مدين مضت مدة من أجل دينه في حبسه فاحتسب عليه بها كسائر الغرماء وفارق ما إذا حبسه سيده بما سنذكره إن شاء الله تعالى فعلى هذا إذا حل عليه نجم عند استنقاذه جازت مطالبته وإن حل ما يجوز تعجيزه يترك أدائه فلسيده تعجيزه ورده إلى الرق وهل له ذلك بنفسه أم حكم الحاكم ؟ فيه وجهان
أحدهما : له ذلك لأنه تعذر عليه الوصول إلى المال في وقته فأشبه ما لو كان حاضرا يحققه أنه لو كان حاضرا والمال غائبا يتعذر إحضاره وأداؤه في مدة قريبة لكان لسيده الفسخ فالمال هاهنا إما معدوم وإما غائب يتعذر أداؤه وفي كلتا الحالتين يجوز الفسخ
الثاني : ليس له ذلك إلا بحكم الحاكم لأنه مع الغيبة يحتاج إلى أن يبحث أله مال أم لا ؟ وليس كذلك إذا كان حاضرا فإنه يطالبه فإن أدى وإلا فقد عجز نفسه فإن فسخ الكتابة بنفسه أو بحكم الحاكم ثم خلص المكاتب فادعى أن له مالا في وقت الفسخ يفي بما عليه وأقام بذلك بينة بطل الفسخ ويحتمل أن لا يبطل حتى يثبت أنه كان يمكنه أداؤه لأنه إذا كان متعذر الأداء كان وجوده كعدمه
فصل : وإن حبسه سيده مدة فقد أساء ولا يحتسب عليه بمدته في أحد الوجوه
والثاني يحتسب عليه بمدته لأن مال الكتابة دين مؤجل فيحتسب بمدة الحبس من الأجل كسائر الديون المؤجلة فعلى هذا الوجه يلزمه أجر مثله في المدة التي حبسه فيها والأول أصح لأن على سيده تمكينه من التصرف مدة كتابته فإذا حبسه مدة وجب عليه تأخيره مثل تلك المدة ليستوفي الواجب له ولأن حبسه ولأن حبسه يفضي إلى إبطال الكتابة وتفويت مقصودها ورده إلى الرق ولأن عجزه عن أداء نجومه في محلها بسبب من سيده فلم يستحق به فسخ العقد كما لو منع البائع المشتري من أداء الثمن لم يستحق فسخ البيع ولو منعت المرأة زوجها من الإنفاق عليها لم يستحق فسخ العقد كذا ههنا
الوجه الثالث : أنه يلزم سيده أرفق الأمرين به من تخليته مثل تلك المدة أو أجر مثلها لأنه قد وجد سببهما فكان للمكاتب أنفعهما

صحة الكتابة وأحكام الكتابة الفاسدة
فصل : وإذا أوصى بأن يكاتب عبده صحت الوصية لأن الكتابة يتعلق بها حق الله تعالى وحق الآدمي فإذا أوصى به صح وتعتبر قيمته من ثلثه لأنه تبرع من جهته فإنه بيع ماله بماله فإن خرج من الثلث لزمهم كتابته ولا يعتبر مال الكتابة من ماله ذكر القاضي لأنه نماء ماله وفائدته ولأن الاعتبار بحاله الموت وهو لا يملك مال الكتابة ثم ينظر فإن عين مال الكتابة كاتبوه عليه سواء كان أقل من قيمته أو مثلها أو أكثر فإن لم يعينه كاتبوه على ما جرى العرف بكتابة مثله به والعرف أن يكاتب العبد بأكثر من قيمته لكون دينها مؤجلا ويجب رد ربعه إليه ويعتبر في ذلك رضا العبد لأن الكتابة لا تلزمه ولا يجوز إجباره عليها بخلاف ما لو وصى بعتقه فإنه يعتق ولا يقف على اختياره ولا رضاه فإن رد الوصية بطلت فإن عاد فطلبها لم تلزمه إجابته إليها لأن وصيته بطلت بالرد فأشبه الوصية بالمال وإن لم يكن ردها وجبت إجابته إليها وإذا أدى عتق وكان ولاؤه للموصى بكتابته كما لو وصي بعتقه فإن عجز فللوارث رده في الرق وإن لم يخرج من الثلث فإنه يكاتب منه ما خرج من الثلث وإن كان قد وصى بوصايا غير الكتابة لا تخرج من الثلث تحاصوا في الثلث وأدخل النقص على كل واحد منهم بقدر ماله في الوصية ويتخرج أن تقدم الكتابة بناء على الرواية التي يقدم العتق لأن الكتابة مقصودها العتق وتفضي إليه ويحتمل أن لا تقدم بحال لأن العتق تغليب وسراية ليس هو للكتابة وإفضاؤها إلى العتق لا يوجب تقديمها كما لو وصى لرجل بابنه فإنه لا يقدم مع أن القصد بوصيته العتق و يفضي إليه
فصل : فإن قال : كاتبوا أحد رقيقي فللورثة مكاتبة من شاءوا منهم في أحد الوجهين وفي الآخر يكاتبون واحدا منهم بالقرعة وإن قال أحد عبيدي فكذلك إلا أنه ليس لهم مكاتبة أمة ولا خنثى مشكل لأنه لا يعلم كون الخنثى عبدا أو أمة وإن قال أحد الإماء فليس لهم مكاتبة عبد ولا خنثى مشكل كذلك وإن كان الخنثى غير مشكل وكان رجلا فلهم مكاتبته إذا قال كاتبوا أحد عبيدي وإن كان أنثى فلهم مكاتبته وإذا قال كاتبوا أحد إمائي لأن هذا عيب فيه والعيب لا يمنع الكتابة والله أعلم
فصل : والكتابة الفاسدة أن يكاتبه على عوض مجهول أو عوض حال أو محرم كالخمر والخنزير فأما الشرط في الكتابة شرطا فاسدا فالمنصوص أنه لا يفسدها لكن يلغو الشرط وتبقى الكتابة صحيحة ويتخرج أن يفسدها بناء على الشروط الفاسدة في البيع وهذا مذهب الشافعي
وقد روى عن أبي عبد الله رحمه الله ما يدل على أن الكتابة على العوض المحرم باطلة لا يعتق بالأداء فيها وهو اختيار أبي بكر فإنه قد روى عن أحمد رضي الله عنه أنه قال : إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى ما كوتب عليه عتق ما لم تكن الكتابة محرمة فحكم بالعتق بالأداء إلا في المحرمة
واختار القاضي أنه يعتق بالأداء كسائر الكتابات الفاسدة ويمكن حمل كلام القاضي على ما إذا جعل السيد الأداء شرطا للعتق فقال : إذا أديت إلي فأنت حر فأدى إليه فإنه يعتق بالصفة المجردة لا بالكتابة ويثبت في هذه الكتابة حكم الصفة في العتق بوجودها لا بحكم الكتابة وأما غيرها من الكتابة الفاسدة فإنها تساوي الصحيحة في أربعة أحكام : أحدها : أنه يعتق بأداء ما كوتب عليه سواء صرح بالصفة فقال : إن أديت إلي فأنت حر أو لم يقل لأن معنى الكتابة يقتضي هذا فيصير كالمصرح به فيعتق بوجوده كالكتابة الصحيحة
الثاني : أنه إذا عتق بالأداء لم تلزمه قيمة نفسه ولم يرجع على سيده بما أعطاه ذكره أبو بكر وهو ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه وقال الشافعي رضي الله عنه : يتراجعان فيجب على العبد قيمته وعلى السيد ما أخذه فيتقاصان بقدر اقلهما إن كانا من جنس واحد ويأخذ ذو فضله لأنه عقد معاوضة فاسدة فوجب التراجع فيه كالبيع الفاسد
ولنا أنه عقد كتابة لمعاوضة حصل العتق فيها بالأداء فلم يجب التراجع فيها كما لو كان العقد صحيحا ولأن ما أخذه السيد فهو من كسب عبده الذي لم يملك كسبه فلم يجب عليه رده والعبد عتق بالصفة فلم تجب عليه قيمته كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر
وأما البيع الفاسد فإنه إن كان بين هذا وبين سيده فلا رجوع على السيد بما أخذه وإن كان بينه وبين غيره فإنه أخذه ما لا يستحقه ودفع إلى الآخر ما لا يستحقه بعقد المقصود منه المعاوضة وفي مسألتنا بخلافه
الثالث : أن المكاتب يملك التصرف في كسبه لأن عقد الكتابة تضمن الإذن في ذلك وله أخذ الصدقات والزكوات لأن مكاتب يعتق بالأداء فملك ذلك كما في الكتابة الصحيحة الرابع : أنه إذا كاتب جماعة كتابة فاسدة فأدى أحدهم حصته عتق على قول من قال : إنه يعتق في الكتابة الصحيحة بأداء حصته لأن معنى العقد أن كل واحد منهما مكاتب بقدر حصته متى أدى كل واحد منهما قدر حصته فهو حر ومن قال لا يعتق في الصحيحة إلا أن يؤدي الجميع فهاهنا أولى وتفارق الصحيحة في ثلاثة أحكام : أحدها أن لكل واحد من السيد والمكاتب فسخها ورفعها سواء كان ثم صفة أو لم تكن وهذا قول أصحاب الشافعي رضي الله عنه لأن الفاسد لا يلزم حكمه والصفة هاهنا مبنية عليها بخلاف الصفة المجردة ولأن السيد لم يرضى بهذه الصفة إلا بأن يسلم له العوض المسمى فإذا لم يسلم كان له إبطالها بخلاف الكتابة الصحيحة فإن العوض سلم له فكان العقد لازما له
الثاني : أن السيد إذا أبرأه من المال لم تصح البراءة ولا يعتق بذلك غير ثابت في العقد بخلاف الكتابة الصحيحة وجرى هذا مجرى الصفة المجردة في قوله إذا أديت إلي ألفا فأنت حر
الثالث : أنه لا يلزم السيد أن يؤدي إليه شيئا من الكتابة لأن العتق هاهنا بالصفة المجردة فأشبه ما لو قال : إذا أديت إلى ألفا فأنت حر واختلف في أحكام أربعة : أحدها : في بطلان الكتابة بموت السيد فذهب القاضي وأصحابه إلى بطلانها وهو قول الشافعي رضي الله عنه لأنه عقد جائز من الطرفين لا يؤول إلى اللزوم فيبطل بالموت كالوكالة ولأن المغلب فيها حكم الصفة المجردة والصفة تبطل بالموت فكذلك هذه الكتابة وقال أبو بكر : لا تبطل بالموت ويعتق بالأداء إلى الوارث وهو قول أبي حنيفة وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه مكاتب يعتق بالأداء إلى السيد فيعتق بالأداء إلى الوارث كما في الكتابة الصحيحة ولأن الفاسدة كالصحيحة قي باب العتق بالأداء وفي أن الولد يتبعه فكذلك في هذا
والثاني : في بطلانها بجنون السيد والحجر عليه لسفه والخلاف فيه في بطلانها بموته والأول أنها تبطل هاهنا لأن الصفة المجردة لا تبطل بذلك والمغلب في هذه الكتابة حكم الصفة المجردة فلا تبطل به فعل هذا لو أدى إلى سيده بعد ذلك عتق وعلى قول من أبطلها لا يعتق
الثالث : أن ما في يد المكاتب وما يكسبه وما يفضل في يده بعد الأداء له دون سيده في قول القاضي ومذهب الشافعي رضي الله عنه لأنها كتابة يعتق بالأداء فيها فكان هذا الحكم ثابتا فيها كالصحيحة وقال أبو الخطاب : ذلك لسيده في الموضعين لأن كسب العبد لسيده بحكم الأصل والعقد هاهنا فاسد لم يثبت الحكم في وجوب العوض في ذمته فلم ينقل الملك في العوض كسائر العقود الفاسدة ولأن المغلب فيها حكم الصفة المجردة وهي لا تثبت الملك له في كسبه فكذا ههنا وفارقت الكتابة الصحيحة فإنها تثبت في الملك في العوض فأثبته في المعوض الرابع : هل يتبع المكاتبة ولدها ؟ قال أبو الخطاب : فيه وجهان : أحدهما : يتبعها لأنها كتابة يعتق فيها بالأداء فيعتق ولدها كالكتابة الصحيحة والثاني : لا يتبعها وهو أقيس وأصح لما ذكرنا في الذي قبله ولأن الأصل بقاء الرق فيه فلا يزول إلا بنص أو معنى نص وما وجد واحد منهما ولا يصح القياس على الكتابة الصحيحة لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما تقدم فيبقى على الأصل والله أعلم

كتاب عتق أمهات الأولاد
أم الولد هي التي ولدت من سيدها ملكه ولا خلاف في إباحة التسري ووطء الإماء لقول الله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } وقد كانت ماريه القبطية أم ولد النبي صلى الله عليه و سلم وهي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه و سلم التي قال فيها [ اعتقها ولدها ] وكانت هاجر أم إسماعيل عليه السلام سرية إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وكان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمهات أولاد أوصى لكل واحدة منهن بأربعمائة وكان لعلي رضي الله عنه أمهات أولاد ولكثير من الصحابة وكان علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم عن عبد الله من أمهات أولاد وروي أن الناس لم يكونوا يرغبون في أمهات الأولاد حتى ولد هؤلاء الثلاثة من أمهات الأولاد فرغب الناس فيهن وروي عن سالم بن عبد الله قال : كان لابن رواحه جارية وكان يريد الخلوة بها وكانت امرأته ترصده فخلا البيت فوقع عليها فندرت به امرأته وقالت : أفعلتها ؟ قال : ما فعلت قالت : فقر إذا فقال
( شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا )
( وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا )
( وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا )
قالت : إذ أقررت فاذهب إذا فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره قال : فلقد رأيته يضحك حتى تبدو نواجذه ويقول [ هيه كيف قلت ؟ ] فأكرره عليه فيضحك

حكم ما لوطئ الرجل أمته فأتت بولد بعد ستة أشهر
فصل : فإذا وطئ الرجل أمته فأتت بولد بعد وطئه بستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه وصارت له بذلك أم ولد وإن أتت بولد تام لأقل من ستة أشهر لم يلحقه نسبه لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر بدليل ما روى الحسن أن امرأة ولدت لستة أشهر فأتى بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهم برجمها فقال له علي رضي الله عنه : ليس لك ذلك إن الله يقول { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } فقد يكون في البطن ستة أشهر والرضاع أربعة وعشرون شهرا فذلك تمام ما قال الله تعالى : { ثلاثون شهرا } فخلى عنها عمر وروي عن ابن عباس أنه قال ذلك لعثمان ومن اعترف بوطء أمته فأتت بولد يمكن أن يكون منه لحقه نسبه ولم يكن له نفيه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : حصنوا هذه الولائد فلا يطأ رجل وليدته ثم ينكر ولدها إلا ألزمته إياه رواه سعيد وعن ابن عمر قال : قال عمر : أيما رجل غشي أمته ثم ضيعها فالضيعة عليه والولد ولده رواه سعيد أيضا ولأن أمته صارت فراشا بالوطء فلحقه ولدها كالمرأة ولقوله صلى الله عليه و سلم [ الولد للفراش ] فإن نفاه سيدها لم ينتف عنه إلا أن يدعي أنه استبرأها وأتت بالولد بعد استبرائها بستة أشهر فينتفي عنه بذلك وهل يحلف على ذلك ؟ على وجهين وقد روي عن الحسن قال : إذا أنكر الرجل ولده من أمته فله ذلك وعن الشعبي أنه كان يقول : ينتفي من ولده إذا كان من أمته متى شاء
ولنا قول عمرو أنه ولد على فراشه فلم يكن له نفيه كولده من زوجته فإن أقر به لم يكن نفيه بعد ذلك لا نعلم فيه خلافا قال إبراهيم : إذا أقر بولده فليس له أن ينتفي منه فإن انتفى منه ضرب الحد وألحق به الولد قال شريح لرجل أقر بولده لا سبيل لك أن تنتفي منه وكذلك إن هنئ به فسكت أو أمن على الدعاء لأنه دليل على الرضا به فقام مقام الإقرار به وإن كان يطأ جاريته وادعى أنه كان يعزل عنها لم ينتف الولد بذلك لما روى أبو سعيد [ أنه قال : يا رسول الله إنا نصيب ونحب الأثمان أفنعزل عنهن فقال : إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها ] وعن جابر قال : [ جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل مني فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها قال : فلبث الرجل ثم أتاه فقال : إن الجارية قد حملت فقال : قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ] رواه أبو داود وعن أبي سعيد أنه قال : كنت أعزل عن جاريتي فولدت أحب الخلق إلى يعني ابنه وعن ابن عمر أن عمر قال : ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعزلونهن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه أتاها إلاألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ولأنها بالوطء صارت فراشا وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ الولد للفراش ] ولما [ تنازع عبد بن زمعة وسعد في ابن وليدة زمعة فقال عبد هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه م فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ] متفق عليه ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فيخلق منه الولد وقد روي عن ابن عمر وزيد بن ثابت ما يدل على أن الولد لا يلحق به مع العزل فروى سعيد : حدثنا سفيان عن أبي نجيح عن فتى من أهل المدينة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعزل عن جارية له فجاءت بحمل فشق عليه وقال اللهم لا تلحق بآل عمر من ليس منهم فإن آل عمر ليس بهم خفاء فولدت ولدا اسود فقال : ممن هو ؟ فقالت من راعي الإبل فحمد الله وأثنى عليه وقال : حدثنا سفيان عن حماد عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت كانت له جارية فارسية وكان يعزل عنها : فجاءت بولد فأعتق الولد وجلدها الحد وقال : إنما كنت استطبت نفسك ولا أريدك وفي رواية قال : ممن حملت ؟ قالت منك فقال كذبت وما وصل إليك مني ما يكون منه الحمل وما أطؤك إلا أني استطبت نفسك وقال الثوري و أبو حنيفة : لا تصير فراشا ولا يلحقه ولدها إلا أن يقر بولدها فيلحقه أولادها بعد ذلك ولنا ما ذكرناه وقول عمر الموافق للسنة أولى من قوله فيما خالفها

حكم لو اعترف بوطء أمته من الدبر أو دون الفرج
فصل : وإن اعترف بوطء أمته في الدبر أو دون الفرج فقد روي عن احمد رضي الله عنه أنه يلحقه ولدها وتصير فراشا بهذا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي رضي الله عنه ولأنه قد يجامع فيسبق الماء إلى الفرج والصحيح في هذا إن شاء الله تعالى أنها لا تصير بهذا فراشا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص ولا يثبت الحكم إلا بدليل ولا ينتقل عن الأصل إلا بناقل عنه إذا ثبت هذا فكل موضع لحقه الولد من أمته إذا حملت به في ملكه الولد حر الأصل لا ولاء عليه وتصير الأمة أم ولد

أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء غير أنهن لا يبعن
مسألة : قال وأحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن إلا أنهن لا يبعن
وجملة ذلك أن الأمة إذا حملت من سيدها وولدت منه ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم الإماء في حل وطئها لسيدها واستخدامها وملك كسبها وتزويجها وإجارتها وعتقها وتكليفها وحدها وعورتها وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن مالك أنه لا يملك إجارتها وتزويجها لأنه لا يملك بيعها فلا يمكن تزويجها وإجارتها كالحرة
ولنا أنها مملوكة ينتفع بها فيملك سيدها تزويجها وإجارتها كالمدبرة ولأنها مملوكة تعتق بموت سيدها فأشبهت المدبرة وإنما منع بيعها لأنها استحقت أن تعتق بموته وبيعها يمنع ذلك بخلاف التزويج والإجارة ويبطل دليلهم بالموقوفة والمدبرة عند من منع بيعها إذا ثبت هذا فإنها تخالف الأمة القن في أنها تعتق بموت سيدها من رأس المال ولا يجوز بيعها ولا التصرف فيها بما ينقل الملك من الهبة والوقف ولا ما يراد للبيع وهو الرهن ولا تورث لأنها تعتق بموت السيد ويزول الملك عنها وروى هذا عن عمر وعثمان وعائشة وعامة الفقهاء وروي عن علي وابن عباس وابن الزبير إباحة بيعهن وذهب إليه داود قال سعيد : حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس في أم الولد قال : بعها كما تبيع شاتك أو بعيرك قال قال سعيد : وحدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن الشعبي عن عبيدة قال : خطب علي الناس فقال : شاورني عمر في أمهات الأولاد فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن فقضى به عمر حياته وعثمان حياته فلما وليت رأيت أن أرقهن قال عبيدة فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده وقد روى صالح بن أحمد قال : قلت لأبي : إلى أي شيء تذهب في بيع أمهات الأولاد ؟ قال : أكرهه وقد باع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال في رواية إسحاق بن منصور : لا يعجبني بيعهن قال أبو الخطاب فظاهر هذا أنه يصح بيعهن مع الكراهية فجعل هذا رواية ثانية عن أحمد رضي الله عنه والصحيح أن هذا ليس رواية مخالة لقوله إنهن لا يبعن لأن السلف رحمة الله عليهم كانوا يطلقون إلى الكراهية على التحريم كثيرا ومتى كان التحريم والمنع مصرحا به في سائر الروايات عنه وجب حمل هذا للفظ المحتمل على المصرح به ولا يجعل ذلك اختلافا ولمن أجاز بيعهن أن يحتج بما روى جابر قال : بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا فانتهينا رواه أبو داود وما كان جائزا في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم وأبي بكر لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره ولأن نسخ الأحكام إنما يجوز في عصر الرسول صلى الله عليه و سلم لأن النص إنما ينسخ بنص مثله وأما قول الصحابي فلا ينسخ ولا ينسخ به فإن أصحاب النبي صلى الله عليه السلام كانوا يتركون أقوالهم لقول الرسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يتركونها بأقوالهم وإنما تحمل مخالفة عمر لهذا النص على أنه لم يبلغه ولو بلغه لم يعده إلى غيره ولأنها مملوكة ولم يعتقها سيدها ولا شيئا منها ولاقرابة بينه وبينها فلم تعتق كما لو ولدت من أبيه في نكاح أو غيره ولأن الأصل الرق ولم يرد بزواله نص ولا ما في معنى ذلك فوجب البقاء عليه ولأن ولادتها لو كانت موجبة لعتقها لثبت العتق بها حين وجودها كسائر أسبابه وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها تجعل في سهم ولدها لتعتق عليه و قال سعيد : حدثنا سفيان الأعمش عن زيد بن هب قال : مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة أن يبيعها في دينه فأتينا عبد الله بن مسعود فذكرنا ذلك له فقال : إن كان ولا بد فاجعلوها في نصيب أولادها
ولنا ما روى عكرمة عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه ] وقال ابن عباس : ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ أعتقها ولدها ] رواهما ابن ماجة
و ذكر الشريف أبو جعفر في مسائله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد ولا يبعن ولا يرهن ولا يرثن ويستمتع بها سيدها ما بدا له فإن مات فهي حرة وهذا فيما أظن عن عمر ولا يصح عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم بدليل قول علي كرم الله وجه : كان رأيي ورأي عمر أن لا تباع أمهات الأولاد وقوله : فقضى به عمر حياته وعثمان حياته وقول عبيده رأي علي كرم الله وجه وعمر في الجماعة أحب إلينا من راية وحده
وروي عكرمة عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه : ما من رجل كان يقر بأنه يطأ جاريته ثم يموت إلا أعتقها ولدها إذا ولدت وإن كان سقطا فإن قيل : فكيف تصح دعوى الإجماع مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم ؟ قلنا قد روي عنهم الرجوع عن مخالفة فقد روى عبيدة قال بعث إلي علي كرم الله وجهه وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقصون فإني أبغض الاختلاف وابن عباس قال : ولد أم ولد بمنزلتها وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن عمر فيدل علة موافقته لهم ثم قد ثبت الإجماع باتفاقهم قبل المخالفة واتفاقهم معصوم عن الخطأ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته ولو جاز ذلك في بعض العصر لجاز في جميعه ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره ؟ فإن قيل : فلو كان الاتفاق في بعض العصر إجماعا حرمت مخالفته فكيف خالفه هؤلاء الأئمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام ؟ قلنا : الإجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون وهذا من المظنون فيمكن وقوع المخالفة منهم له مع كونه حجة كما وقع منهم مخالفة النصوص الظنية ولا تخرج بمخالفتهم عن كونها حجة كذا ههنا
فأما قول جابر بعنا أمهات الأولاد في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر فليس فيه تصريح بأنه كان بعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا علم أبي بكر فيكون ذلك واقعا من فعلهم على انفرادهم فلا يكون فيه حجة ويتعين حمل الأمر على هذا لأنه لو كان هذا واقعا بعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وأقرا عليه لم تجز مخالفته ولم يجمع الصحابة بعدهما على مخالفتهما ولو فعلوا ذلك لم يخل من منكر ينكر عليهم ويقول : كيف يخالفون فعل رسول الله وفعل صاحب ؟ وكيف يتركون سنتهما ويحرمون ما أحلا من هذا ؟ ولأنه لو كان ذلك واقعا بعلمهما لاحتج به علي حين رأى بيعهن واحتج به كل من وافقه على بيعهن ولم يجر شيء من هذا فوجب أن يحمل الأمر على ما حملناه عليه فلا يكون فيه إذا حجة ويحتمل أنهم باعوا أمهات الأولاد في النكاح لا في الملك

في قول من أجاز بيع أم الولد
فصل : ومن أجاز بيع أم ولد فعلى قوله إن لم يبعها حتى مات ولم يكن له وارث إلا ولدها عتقت عليه وإن كان لها وارث سوى ولدها حسبت من نصيب ولدها فعتقت وكان له ما بقي من ميراثه وإن لم يبق شيء فلا شيء له وإن كانت أكثر من نصيبه وباقيها رقيق لسائر الورثة إلا على قول من قال إنه إذا ورش سهما ممن يعتق عليه سرى العتق إلى باقيه وإن لم يكن لها ولد من سيدها ورثها ورثته كسائر رقيقه

حكم ما لو أصاب الأمة وهي في ملك غيره
مسألة : قال : وإذا أصاب الأمة وهي ملك غيره بنكاح فحملت منه ثم ملكها حاملا عتق الجنين وكان له بيعها
وجملته أنه إذا تزوج أمة غيره فأولدها أو أحبلها ثم ملكها بشراء أو غيره لم تصر أم ولد له بذلك سواء ملكها حاملا فولدت في ملكه أو ملكها بعد ولادتها وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه لأنها علقت منه بمملوك فلم يثبت لها حكم الاستيلاد كما لو زنى بها ثم اشتراها ولأن الأصل الرق وإنما خولف هذا الأصل فيما إذا حملت منه في ملكه بقول الصحابة رضي الله عنهم ففيما عداه يبقى على الأصل
ونقل القاضي ابن أبي موسى عن احمد رضي الله عنه أنها تصير أم ولد في الحالين وهو قول الحسن و أبي حنيفة لأنها أم ولده وهو مالك لها فثبت لها حكم الاستيلاد كما لو حملت في ملكه ولم أجد هذه الرواية عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها إنما نقل عنه التوقف عنها في رواية مهنا فقال : لا أقول فيها شيئا وصرح في رواية جماعة سواه بجواز بيعها فقال : لا أرى بأسا أن يبيعها إنما الحسن وحده قال أنها أم ولد وقال : أكثر ما سمعنا فيه من التابعين يقولون لا تكون أم ولد حتى تلد عنده وهو يملكها فإن عبيدة السلماني يقول نبيعها و شريح و إبراهيم و عامر الشعبي وأما إذا ملكها حاملا فظاهر كلام أحمد رضي الله عنه أنها تصير أم ولد وهو مذهب مالك رضي الله عنه لأنها ولدت منه في ملكه فأشبه ما لو أحبلها في ملكه وقد صرح أحمد رضي الله عنه في رواية إسحاق بن منصور أنها لا تكون أم ولد حتى تحدث عنده حملا وروي عنه ابنه صالح قال : سألت أبي عن الرجل ينكح الأمة فتلد منه ثم يبتاعها قال : لا تكون أم ولد له قلت فإن استبرأها وهي حامل منه قال : إذا كان الوطء يزيد في الولد وكان يطؤها بعد ما اشتراها وهي حامل منه كانت أم ولد له قال ابن حامد : إن وطئها في ابتداء حملها أو توسطه كانت بذلك أم ولد له لأن الماء يزيد في سمع الولد وبصره وقال القاضي إن ملكها حاملا فلم يطأها حتى وضعت لم تصر أم ولد له وإن وطئها حال حملها فإن كان بعد أن كمل الولد وصار له خمسة أشهر لم تصر أم ولد له وإن كان وطؤها قبل ذلك صارت له بذلك أم ولد لأن عمر رضي الله عنه قال : أبعد ما اختلطت دماؤكم ودماؤهن ولحومكم ولحومهن بعتموهن ؟ فعلل بالمخالطة ههنا حاصلة لأن الماء يزيد في الولد ولأن لحرية البعض أثرا في تحرير الجميع بدليل ما إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد
وقال أبو الخطاب إن وطئها بعد الشراء فهي أم ولد وكلام الخرقي يقتضي أنها لا تكون أم ولد إلا أن تحبل منه في ملكه وهو الذي نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية إسحاق بن منصور فقال : لا تكون أم ولد حتى تحدث عنده حملا لأنها لم تعلق منه بحر فلم يثبت لها حكم الاستيلاد كما لوزنى بها ثم اشتراها ويحقق هذا أن حملها منه ما أفاد الحرية لولده فلأن لا يفيدها الحرية أولى ويفارق هذا ما إذا حملت منه في ملكه فإن الولد حر فيتحرر بتحريره وما ذكروه من زيادة الولد بالوطء غير متيقن فإن هذا الولد يحتمل أنه زاد ويحتمل أنه لم يزد فلا يثبت الحكم بالشك ولو ثبت أنه زاد لم يثبت الحكم بهذه الزيادة بدليل ما لو ما ملكها وهي حامل من زنا منه أو من غيره فوطئها لم تصر أم ولد وإن زاد الولد به ولأن حكم الاستيلاد إنما يثبت بالإجماع في حق من حملت منه في ملكه وما عداه ليس في معناه وليس فيه نص ولا إجماع فوجب أن لا يثبت هذا الحكم ولأن الأصل الرق على ما كان عليه

حكم ما لو اشترى جارية حاملا من غيره فوطئها
فصل : قال أحمد رضي الله عنه فمن اشترى جارية حاملا من غيره فوطئها قبل وضعها : فإن الولد لا يلحق بالمشتري ولا يبيعه ولكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد
وقد روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعله يريد أن يلم بها ؟ قالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له ؟ أم كيف يستخدمه وهو لا يحل له ] رواه أبو داود يعني إن استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده فإن اتخذه مملوكا يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد

لحكم ما لو وطئ الرجل جارية والده
فصل : وإذا وطئ الرجل جارية ولده فإن كان قد قبضها وتملكها ولم يكن الولد وطئها ولا تعلقت بها حاجته فقد ملكها الأب بذلك وصارت جاريته والحكم فيها كالحكم في جاريته التي ملكها بالشراء وإن وطئها قبل تملكها فقد فعل محرما لأن الله تعالى قال [ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هو العادون ] وهذه ليست زوجا له ولا ملك يمينه فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] فأضاف مال الابن إلى أبيه بلام الملك والاستحقاق فدل على أنه ملكه قلنا : لم يرد النبي صلى الله عليه و سلم حقيقة الملك بدليل أنه أضاف إليه الولد وليس بمملوك وأضاف إليه ماله في حاله إضافته إلى الولد ولا يكون الشيء مملوكا لمالكين حقيقة في حال واحدة وقد يثبت الملك لولده حقيقة بدليل حل وطء إمائه التصرف في ماله وصحة بيعه وهبته وعتقه ولأن الولد لو مات لم يرث منه أبوه إلا ما قدر له ولو كان ماله لاختص به ولو مات الأب لم يرث ورثته مال ابنه ولا يجب على الأب حج ولا زكاة ولا جهاد بيسار ابنه فعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أراد التجوز بماله بتشبيهه بمال في بعض الأحكام
إذا ثبت هذا فإنه لا حد على الأب للشبهة لأنه إذا لم يثبت حقيقة الملك فلا أقل من أن يكون شبهة تدرأ الحد فإن الحدود تدرأ بالشبهات ولكن يعزر لأنه وطئ جارية لا يملكها وطئا محرما فكان عليه التعزير كوطء الجارية المشتركة وفيه وجه آخر لا يعزر عليه لأن مال ولده كماله ولا يصح لأن ماله مباح له غير ملوم عليه وهذا الوطء هو عاد فيه ملوم عليه وإن علقت منه فالولد حر لأنه من وطء درئ فيه الحد لشبهة الملك وكان حرا كولد الجارية المشتركة ولا تلزمه قيمته لأن الجارية تصير ملكا له بالوطء فيحصل علوقها بالولد وهي ملك له وتصير أم ولد له تعتق بموته وتنتقل إلى ملكه فيحل له وطئها بعد ذلك وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر : لا تصير أم ولد له ولا يملكها لأنه استولدها في غير ملكه فأشبه الأجنبي ولأن ثبوت أحجام الاستيلاد إنما كان بالإجماع فيما إذا استولد مملوكته وهذه ليست مملوكة له ولا في معنى مملوكته فإنها محرمة عليه فوجب أن لا يثبت لها هذا الحكم ولأن الأصل الرق فيبقى على الأصل ولأن الوطء المحرم لا ينبغي أن يكون سببا للملك الذي هو نعمة وكرامة لأنه يفضي إلى تعاطي المحرمات
ولنا أنها علقت منه بحر لأجل الملك فصارت أم ولد له كجارية المشتركة وفارق وطء الأجنبي في هذا إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه مهرها ولا قيمتها
وقال أبو حنيفة : لا يلزمه مهرها ويلزمه قيمتها لأنه أخرجها عن ملك سيدها بفعل محرم فأشبه ما لو قتلها وإنما لم يلزمه مهرها لأنه إذا ضمنها فقد دخلت قيمته البضع في ضمانها فلم يضمنه ثانيا كما لو قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها فإنه يضمن قيمة النفس دون قيمة اليد وقال الشافعي : يلزمه مهرها لأنه وطئ جارية غيره وطئا محرما فلزمه مهرها كالأجنبي وتلزمه قيمتها على القول بكونها أم ولد كما يلزم أحد الشريكين قيمة نصيب شريكه إذا استولد الجارية المشتركة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم أنت ومالك لأبيك ولأنه لا تلزمه قيمة ولدها فلم يلزمه مهرها ولا قيمتها كمملوكته ولأنه وطء وصارت به الموطوءة أم ولد لأمر لا يختص ببعضها فأشبه استيلاد مملوكته

أحكام في وطء الجارية وفيما لو ولدت نتيجة الوطء
فصل : فإن كان الولد قد وطئ جاريته ثم وطئها أبوه فأولدها فقد روي عن أحمد رضي الله عنه فيمن وقع على جارية ابنه إن كان الأب قابضا لها ولم يكن الابن وطئها فهي أم ولده وليس للابن فيها شيء قال القاضي : فظاهر هذا أن الابن إن كان قد وطئها لم تصر أم ولد للأب باستيلادها لأنها تحرم عليه تحريما مؤبدا بوطء ابنه لها ولا تحل له بحال فأشبه وطء الأجنبي فعلى هذا القول لا يملكها ولا تعتق بموته فأما ولدها فيعتق على أخيه لأنه ذو رحم منه يحتمل أن يثبت لها حكم الاستيلاد من غير أن تحل له كما لو استولد مملوكته التي وطئها ابنه فإنها تصير أم ولد مع كونها محرمة عليه على التأبيد فكذلك هاهنا وذلك لأنه وطء يدرأ فيه الحد بشبهة الملك فصارت به أم ولد كما لو لم يطأها الابن
فصل : وإن وطئ الابن جارية أبيه أو أمه فهو زان يلزمه الحد إذا كان عالما بالتحريم ولا تصير عليه أم ولد له ويلزمه مهرها وولده يعتق على جده لأنه ابن ابنه إذا قلنا إن ولده من الزنا يعتق على ابنه وتحرم الجارية على الأب على التأبيد ولا تجب بسبب قيمتها على الابن لأنه لم يخرجها عن ملكه ولم يمنعه بيعها ولا التصرف فيها بغير الاستمتاع فإن استولدها الأب بعد ذلك فقد فعل محرما ولا حد عليه لأنه وطء صادف ملكا وتصير أم ولد له لأنه استولد مملوكته فأشبه ما لو وطئ أمته المرهونة
فصل : وإن زوج أمته ثم وطئها فقد فعل محرما ولا حد عليه لأنها مملوكته ويعزر قال أحمد رضي الله عنه : يجلد ولا يرجم يعني أنه يعزر بالجلد لأنه لو وجب عليه الحد لوجب الرجم إذا كان محصنا فإن ولدها صارت أم ولده لأنه استولد مملوكته وتعتق بموته وولده حر وما ولدت بعد ذلك من الزوج فحكمه حكم أمه
فصل : ولو ملك رجل أمه من الرضاع أو أخته أو ابنته لم يحل له وطؤها فإن وطئها فلا حد عليه في أصح الروايتين لأنها مملوكته ويعزر فإن ولدت فالولد حر ونسبه لاحق به وهي أم ولده وكذلك لو ملك أمة مجوسيه أو وثنيه فاستولدها أو ملك الكافر أمة مسلمة فاستولدها فلا حد عليه ويعزر ويلحقه نسب ولده وتصير أم ولد له تعتق بموته لما ذكرنا وكذلك لو وطئ أمته المرهونة أو وطئ رب المال أمة من مال المضاربة فأولدها صارت له بذلك أم ولد وخرجت من الرهن والمضاربة وعليه قيمتها للمرتهن تجعل مكانها رهنا أو توفيه عن دين الرهن وتنفسخ المضاربة فيها وإن كان فيها ربح جعل الربح في مال المضاربة والله أعلم
مسألة : قال : وإذا علقت منه بحر في ملكه فوضعت بعض ما يستبين فيه خلق الإنسان كانت له بذلك أم ولد
ذكر الخرقي لمصيرها أم ولد شروطا ثلاثة : أحدها : أن تعلق منه بحر فأما إن علقت منه بمملوك ويتصور ذلك في الملك في موضعين : أحدهما : في العبد إذا ملكه سيده وقلنا إنه يملك فإنه إذا وطئ أمته واستولدها فولده مملوك ولا تصير الأمة أم ولد يثبت لها حكم الاستيلاد بذلك وسواء أذن له سيده في التسري بها أو لم يأذن له والثاني : إذا استولد المكاتب أمته فإن ولده مملوك له وأما الأمة فإنه لا تثبت لها أحكام أم الولد في العتق بموته في الحال لأن المكاتب ليس بحر وولده منها ليس بحر فأولى أن لا تتحرر هي ومتى عجز المكاتب وعاد إلى الرق أو مات قبل أداء كتابته فهي أمة قن كأمة العبد القن وهل يملك المكاتب بيعها والتصرف فيها ففيه اختلاف وذكر القاضي في موضع أنه لا يثبت فيها شيء من أحكام الاستيلاد ولا تصير أم ولد بحال وهذا أحد قولي الشافعي لأنها علقت بمملوك في ملك غير تام فلم يثبت لها شيء من أحكام الاستيلاد كأمة العبد القن وظاهر المذهب أنها موقوفة لا يملك بيعها ولا نقل الملك فيها فإن عتق صارت أم ولد تعتق بموته فيثبت لها من حرمة الاستيلاد وما يثبت لولدها من حرمة الحرية وقد نص أحمد رضي الله عنه على منع بيعها ومفهوم كلام الخرقي ويحتمل الوجهين جميعا
الشرط الثاني : أن تعلق منه في ملكه سواء كان وطء مباح أو محرم مثل الوطء في الحيض أو النفاس أو الصوم أو الإحرام أو الظهار أو غيره فأما إن علقت منه في غير ملكه لم تصر بذلك أم ولد سواء علقت منه بمملوك مثل أن يطأها في ملك غيره بنكاح أو زنا أو علقت بحر مثل أن يطأها بشبهة أو غر من أمة وتزوجها على أنها حرة فاستولدها أو اشترى جارية فاستولدها فبانت مستحقة فإن الولد حر ولا تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع بحال وفيه وجه آخر أنه إن ملكها بعد ذلك صارت أم ولد وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في المسألة التي قبل هذه والمقصود بذكر هذه الشروط هاهنا ثبوت الحكم عند اجتماعها وأما انتفاؤه عند انتفائها فيذكر في مسائل مفردة لها
الشرط الثالث : أن تضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان من رأس أو يد أو رجل أو تخطيط سواء وضعته حيا أو ميتا وسواء أسقطته أو كان تاما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطا وروى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه قال : أعتقها ولدها وإن كان ولدها سقطا قال الأثرم قلت لأبي عبد الله أم الولد إذا أسقطت لا تعتق ؟ فقال : إذا تبين فيه يد أو رجل أو شيء من خلقه فقد عتقت وهذا قول الحسن و الشافعي وقال الشعبي : إذا تلبث في الخلق الرابع فكان مخلقا انقضت به عدة الحرة وأعتقت به الأمة ولا أعلم في هذا خلافا بين من قال بثبوت حكم الاستيلاد فإما إن ألقت نطفة أو علقة لم يثبت به شيء من أحكام الولادة لأن ذلك ليس بولد وروى يوسف بن موسى أن أبا عبد الله قيل له ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة ؟ قال : تعتق وهذا قول إبراهيم النخعي وإن وضعت مضغة لم يظهر فيها شيء من خلق الآدمي فشهد ثقات من القوابل أن فيها صورة خفية تعلقت بها الأحكام لأنهن اطلعن على الصورة التي خفيت على غيرهن وإن لم يشهدن بذلك لكن علم أنه مبتدأ خلق آدمي إما بشهادتهن أو غير ذلك ففيه روايتان : إحداهما : لا تصير به الأمة أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة ولا يجب على الضارب المتلف له الغرة ولا الكفارة وهذا ظاهر كلام الخرقي و الشافعي وظاهر ما نقله الأثرم عن أحمد رضي الله عنه وظاهر كلام الحسن و الشعبي وسائر من اشترط أن يتبين شيء فيه خلق الإنسان لأنه لم يبن فيه شيء من خلق الآدمي أشبه النطفة والعلقة والثانية تتعلق به الأحكام الأربعة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه إذا تبين وخرج أبو عبد الله بن حامد رواية ثالثة وهو أن الأمة تصير بذلك أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة لأنه روي عن أحمد رضي الله عنه في الأمة إذا وضعت فمسته القوابل فعلمن أنه لحم ولم يتبين لحمه تحتاط في العدة بأخرى ويحتاط بعتق الأمة وظاهر هذا أنه حكم بعتق الأمة ولم يحكم بانقضاء العدة لأن عتق الأمة يحصل للحرية فاحتيط بتحصيلها والعدة يتعلق بها تحريم التزوج وحرمه الفرج فاحتيط بإبقائها وقال بعض الشافعية بالعكس لا تجب العدة ولا تصير أم ولد لأن الأصل عدم كل واحد منهما فيبقى على أصله ولا يصح لأن العدة كانت ثابتة والأصل بقاؤها على ما كانت عليه والأصل في الآدمي الحرية فتغلب ما يفضي إليها والله أعلم
مسألة : قال : فإذا مات فقد صارت حرة وإن لم يملك غيرها
يعني أن أم الولد تعتق رأس المال وإن لم يملك سواها وهذا قول كل من رأى عتقهن لا نعلم بينهم فيه خلافا وسواء ولدت في الصحة أو المرض لأنه حاصل بالتذاذه وشهوته وما يتلفه في لذاته وشهوته يستوي فيه حال الصحة والمرض كالذي يأكله ويلبسه ولأن عتقها بعد الموت وما يكون بعد الموت يستوي فيه المرض والصحة كقضاء الديون والتدبير والوصية ولا نعلم في هذه خلافا بين رأي عتقهن
قال سعيد : حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن نافع قال : أدرك ابن عمر رجلان فقالا : إنا تركنا هذا الرجل يبيع أمهات الأولاد يعنيان ابن الزبير فقال ابن عمر : أتعرفان أبا حفص ؟ فإنه قضى في أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن يستمتع بها صاحبها فإذا مات فهي حرة
وقال : حدثنا غياث عن حصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه : ما من رجل كان يقر بأنه يطأ جاريته ويموت إلا أعتقها إذا ولدت وإن كان سقطا
فصل : ولا فرق بين المسلمة والكافرة والعفيفة والفاجرة ولا بين المسلم والكافر والعفيف والفاجر في هذا في قول أئمة أهل الفتوى من أهل الأمصار لأن ما يتعلق به العتق يستوي فيه المسلم والكافر والعفيف والفاجر كالتدبير والكتابة ولأن عتقها بسبب اختلاط دمها بدمه ولحمها بلحمه فإذا استويا في النسب استويا في حكمه وروى سعيد : حدثنا هشيم أخبرنا منصور عن ابن سيرين عن أبي عطية الهمداني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في أم الولد إن أسلمت وأحصنت وعفت أعتقت وإن كفرت وفجرت وغدرت رقت وقال : حدثنا هشيم أخبرنا يحيى عن أم ولد رجل ارتدت عن الإسلام فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكتب عمر : بيعوها ليسبيها أحد من أهل دينها وإن كان مبنى عتق أمهات الأولاد على قول عمر وقد قال هذا القول فينبغي أن يختص العتق بمسلمة عفيفة دون الكفارة الفاجرة لانتفاء الدليل الذي ثبت به عتقهن والله أعلم
مسألة : قال : وإذا صارت الأمة أم ولد بما وصفنا ثم ولدت من غيره كان له حكمها في العتق بموت سيدها
وجملته أن أم ولد إذا ولدت بعد ثبوت حكم الاستيلاد لها من غير سيدها من زوج غيره فحكم ولدها في أنه يعتق بموت سيدها ويجوز فيه من التصرفات ما يجوز فيها ويمتنع فيه ما يمتنع فيها قال أحمد رضي الله عنه : قال ابن عمر وابن عباس وغيرهما ولدها بمنزلتها ولا نعلم في هذا خلافا بين القائلين بثبوت حكم الاستيلاد إلا أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : هم عبيد فيحتمل أنه أراد أنه لا يثبت لهم حكم أمهم لأن الاستيلاد مختص بها فيختص بحكمه كولد من علق عتقها بصفة ويحتمل أنه أراد أنهم عبيد حكمهم حكم أمهم مثل قول الجماعة لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية فيتبعها في سببه إذا كان متأكدا كولد المكاتبة والمدبرة بل ولد أم ولد أولى لأن سبب العتق فيها مستقر ولا سبيل إلى إبطاله بحال فإن ماتت أم ولد قبل سيدها لم يبطل حكم الاستيلاد في الولد والعتق بموت سيدها لأن السبب لم يبطل وإنما تثبت الحرية فيها أنها لم تبق محلا وكذلك ولد المدبرة لا يبطل الحكم فيه بموت أمه وأما ولد المكاتبة إذا ماتت فإنه يعود رقيقا لأن العقد يبطل بموتها فلم يبقى حكمه فيه وقد ذكرنا في هذا خلافا فيما تقدم وإن أعتق السيد أم الولد أو المدبرة لم يعتق ولدها لأنها عتقت بغير السبب الذي تبعها فيه ويبقى عتقه موقوفا على موت سيده وكذلك إن أعتق ولدهما لم يعتقا بعتقه وإن أعتق المكاتبة فقد قال أحمد و سفيان و إسحاق : المكاتبة إذا أدت أو أعتقت عتق ولدها وأم الولد والمدبرة إذا أعتقت لم يعتق ولدها حتى يموت السيد فظاهر هذا أن ولد المكاتبة يتبعها في العتق إعتاق سيدها لأنه في حكم مالها يستحق كسبه فيتبعها إذا أعتقها كمالها ولأن إعتاقها يمنع أداءها بسبب من السيد فأشبه ما لو أبرأها من مال الكتابة
فصل : فأما ولد أم الولد قبل استيلاءها وولد المدبرة قبل تدبيرها والمكاتبة قبل كتابتها فلا يتبعها لوجوده قبل انعقاد السبب فيها وزوال حكم التبعية عنه قبل تحقق السبب في أمه ولهذا لا يتبعها في العتق المنجز ففي السبب أولى وذكر أبو الخطاب في ولد المدبرة قبل التدبير روايتين فيخرج هاهنا مثله وهو بعيد لأن الولد المنفصل لا يتبعها في عتق ولا بيع ولا هبة ولا رهن ولا شيء من الأحكام سوى الإسلام بشرط كونه صغيرا فكيف يتبع في التدبير ؟ ولأنه لا نص فيه ولا قياس يقتضيه فيبقى بحاله

إذا أسلمت أم الولد النصراني منع من وطئها
مسألة : قال : وإذا أسلمت أم ولد نصراني منع من وطئها والتلذذ بها وأجبر على نفقتها فإذا أسلم حلت له وإن مات قبل ذلك عتقت
وجملة ذلك أن الكافر يصح منه الاستيلاد لأمته كما يصح منه عتقها وإذا استولد الذمي أمته ثم أسلمت لم تعتق في الحال وبهذا قال الشافعي وقال مالك : تعتق إذ لا سبيل إلا بيعها ولا إلى إقرار ملكه عليها لما فيه من إثبات ملك كافر على مسلمة فلم يجز كالأمة القن وعن أحمد رضي الله عنه رواية أخرى أنها تستسعى فإن أدت عتقت وهو قول أبي حنيفة لأن فيه جمعا بين الحقين حقها في أن لا يبقى ملك الكافر عليها وحقه في حصول عوض ملكه فأشبه بيعها إذا لم تكن أم ولد
ولنا أنه إسلام طرأ على ملك فلم يوجب عتقا ولا سعاية كالعبد القن وما ذكروه مجرد حكمة لم يعرف من الشارع اعتبارها وبقاؤها ضرر فإن في عتقها مجانا إضرار في المالك بإزالة ملكه بغير عوض وفي الاستسعاء إلزام لها بالكسب بغير رضاها وتضيع لحقه لأن فيه إحالة على سعاية لا تدري هل يحصل منها شيء أو لا ؟ وإن حصل فالظاهر أنه يكون يسيرا في أوقات متفرقة وجوده قريب من عدمه والحق أن يبقى الملك على ما كان عليه ويمنع من وطئها والتلذذ بها كي لا يطأها ويبتذلها وهو مشرك وبحال بينة وبينها ويمنع الخلوة بها لئلا يفضي إلى الوطء المحرم ويجبر على نفقتها على التمام لأنها مملوكته ومنعه من وطئها بغير معصية منها فأشبهت الحائض والمريضة وتسلم إلى امرأة ثقة تكون عندها لتحفظها وتقوم بأمرها وإن احتاجت إلى أجر أو أجر مسكن فعلى سيدها
وذكر القاضي أن نفقتها في كسبها وما فضل من كسبها فهو لسيدها وإن عجز عن نفقتها فهل يلزم سيدها تمام نفقتها ؟ على روايتين ونحو هذا مذهب الشافعي والصحيح أن نفقتها على سيدها وكسبها له يصنع به ما شاء وعليه نفقتها على التمام سواء كان لها كسب أو لم يكن لأنها مملوكة له ولم يجر بينهما عقد يسقط نفقتها ولا يملك به كسبها فأشبهت أمته القن أو ما قبل إسلامها ولأن الملك سبب لهذين الحكمين والحادث منهما لا يصلح مانعا لأن الاستيلاد لا يمنع منها بدليل ما قبل إسلامها والإسلام لا يمنع بدليل ما لو وجد قبل ولادتها واجتماعهما لا يمنع لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه ولأنه إذا لم تلزمه نفقتها ولم يكن لها كسب أفضى إلى هلاكها وضياعها ولأنه يملك فاضل كسبها فيلزمه فضل نفقتها كسائر مماليكه

حكم ما لو أعتقت أم الولد بموت سيدها وفي يدها شيء وفيما إذا أوصى لها بما ي يدها أو أوصى لمدبره أو مدبرته
مسألة : قال : وإذا عتقت أم الولد بموت سيدها فما كان في يدها من شيء فهو لورثة سيدها
إنما كان كذلك لأن أم الولد أمة وكسبها لسيدها وسائر ما في يدها له فإذا مات سيدها فعتقت انتقل ما في يدها إلى ورثته كسائر ماله وكما في يد المدبرة وتخالف المكاتبة فإن كسبها في حياة سيدها لها فإذا عتقت بقي لها كما كان لها قبل العتق
مسألة : قال : ولو أوصى لها بما في يدها كان لها إذا احتمله الثلث
وجملته أن الوصية لأم الولد تصح فلا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم القائلين بثبوت حكم الاستيلاد وبهذا قال الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي
وقد روى عن الإمام أحمد وسعيد بن منصور عن هشيم حدثنا حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب أوصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف أربعة آلاف ولأن أم الولد حرة في حال نفوذ الوصية لها لأن عتقها يتنجز بموته فلا تقع الوصية لها إلا في حال حريتها وأما قوله : إذا احتمله الثلث فلأن الوصية كلها لا تلزم إلا في الثلث فما دون وهذا منها وما زاد على الثلث يقف على إجازة الورثة فإن أجازوه جاز وإلا رد إلى الورثة ولا تعتبر قيمة أم الولد من الثلث لأنها تعتق من رأس المال فلا تحتسب من الثلث كقضاء الديون وأداء الواجبات
فصل : وإن أوصى لمدبره أو مدبرته صحت الوصية أيضا إلا أنه تعتبر قيمته وما أوصى له به من الثلث لأن التدبير تبرع فكان من الثلث كالوصية فإن خرجا من الثلث عتق وكان ما أوصى به له وصحت الوصية لأنها وقعت في حال حريته فأشبهت الوصية لأم ولده وإن لم يخرجا من الثلث اعتبرت قيمته من الثلث فيعتق منه بقدر الثلث ليعتق دون المال وإن كانت قيمته بقدر الثلث عتق ولا وصية له وإن فضل من الثلث شيء بعد عتقه فله من الوصية تمام الثلث ويقف ما زاد على إجازة الورثة

أحكام مختلفة تتعلق بأم الولد
مسألة : قال : وإذا مات عن أم ولده فعدتها حيضة
إنما كان كذلك لأن الواجب عليها استبراء نفسها لخروجها من ملك سيدها الذي كان يطؤها فكان ذلك بحيضة كما لو أعتقها سيدها في حياته وإنما سمى الخرقي هذا عدة لأن الاستبراء أشبع العدة في كونه يمنع النكاح وتحصل به معرفة براءتها من الحمل وقد ذكرنا هذه المسألة في العدد والخلاف فيها على ما مضى
مسألة : قال : وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو دونها
وجملته أن أم الولد إذا جنت تعلق أرش جنايتها برقبتها وعلى السيد أن يفديها بأقل الأمرين من قيمتها أو دونها وبهذا قال الشافعي وحكى أبو بكر عبد العزيز قولا آخر أنه يفديها بأرش جنايتها بالغة ما بلغت لأنه لم يسلمها في الجناية فلزمه أرش جنايتها بالغة ما بلغت كالقن وقال أبو ثور وأهل الظاهر : ليس عليه فداؤها وتكون جنايتها في ذمتها تتبع بها إذا عتقت لأنه لا يملك بيعها فلم يكن عليه فداؤها كالحرة
ولنا أنها مملوكة له كسبها لم يسلمها فلزمه أرش جنايتها كالقن ولا تلزمه زيادة على قيمتها لأنه لم يمتنع من تسليمها وإنما الشرع منع ذلك لكونها لم تبق محلا للبيع ولا لنقل الملك فيها وفارقت القن إذا لم يسلمها فإنه إن أمكن أن يسلمها للبيع فربما زاد فيها مزايد أكثر من قيمتها فإذا امتنع مالكها من تسليمها أوجبنا عليه الأرش بكامله وفي مسألتنا لا يحتمل ذلك فيها فإن بيعها غير جائز فلم يكن أكثر من قيمتها
فصل : وإذا ماتت قبل فدائها فلا شيء على سيدها لأنه لم يتعلق بذمته شيء وإنما تعلق برقبتها فإذا ماتت سقط الحق لتلف متعلقه وإن نقصت قيمتها قبل فدائها وجب فداؤها بقيمتها يوم الفداء لأنها لو تلف جميعها لسقط الفداء فوجب أن يسقط بعضه بتلف بعضها وإن زادت قيمتها زاد فداؤها لأن متعلق الحق زاد فزاد الفداء بزيادته كالرقيق القن وينبغي أن تحسب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد لأن ذلك نقصها فاعتبر كالمرض وغيره من العيوب ولأن الواجب قيمتها في حال فدائها وقيمتها ناقصة عن قيمة غير أم الولد فيجب أن ينقص فداؤها وأن يكون مقدار قيمتها في حال كونها أم ولد الحكم في المدبرة كالحكم في أم الولد إلا أنها يجوز بيعها في رواية فيمكن تسليمها للبيع إن اختار سيدها وإن امتنع منه فهل يفديها بأقل الأمرين ويلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ ؟ يخرج على روايتين
فصل : وإن كسبت بعد جنايتها شيئا فهو لسيدها لأن الملك ثابت له دون المجني عليه وإن ولدت فهو لسيدها أيضا لأنه منفصل عنها فأشبه الكسب وإن فداها في حال حملها فعليه قيمتها حاملا لأن الولد متصل بها فأشبه سمنها وإن أتلفها سيدها فعليه قيمتها لأنه أتلف حق غيره فأشبه ما لو أتلف الرهن وإن نقصها فعليه نقصها لأنه لما ضمن العين ضمن أجزاءها والله أعلم
مسألة : قال : فإن عادت فجنت فداها كما وصفت
وجملته أن أم الولد إذا جنت جنايات لم تخل من أن تكون الجنايات كلها قبل فداء شيء منها أو بعده فإن كانت قبل الفداء تعلق أرش الجميع برقبتها ولم يكن عليه فيها كلها إلا قيمتها أو أرش جميعها وعليه الأقل منهما ويشترك المجني عليهم في الواجب لهم فإن وفى بها وإلا تحاصوا فيه بقدر أروش جناياتهم وإن كان الثاني بعد فدائها من الأولى فعليه فداؤها من التي بعدها كما فدى الأولى وقال أبو الخطاب عن أحمد رضي الله عنه رواية ثانية إذا فداها بقيمتها مرة لم يلزمه فداؤها بعد ذلك لأنها جناية فلم يلزمه أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها وقال الشافعي رضي الله عنه في أحد قوليه : لا يضمنها ثانيا ويشارك الثاني الأول فيما أخذه كما لو كانت الجنايات قبل فدائها
ولنا أنها أم ولد جانية فلزمه فداؤها كالأولى ولأن ما أخذه الأول عوض جنايته أخذه بحق فلم يجز أن يشاركه غيره فيه كأرش جناية الحر أو الرقيق القن وفارق ما قبل الفداء لأن أرش الجنايات تعلق برقبتها في وقت واحد فلم يلزم السيد أكثر من قيمة واحدة كما لو كانت الجنايات على واحد
فصل : فإن أبرأ بعضهم من حقه توفر الواجب على الباقين إذا كانت كلها قبل الفداء وإن كانت الجناية المعفو عنها بعد فدائه توفر أرشها على سيدها والله أعلم
مسألة : قال : ووصية الرجل لأم ولده وإليها جائزة
أما الوصية لها فقد ذكرناها وأما الوصية إليها فجائزة لأنها في حال نفوذ الوصية حرة فأشبهت زوجته أو غيرها ويعتبر لصحة الوصية إليها ما يعتبر في غيرها من العدالة والعقل وسائر الشروط وسواء كانت الوصية على أولادها أو غيرهم أو وصي إليها بتفريق ثلثه أو قضاء دينه أو إمضاء وصيته أو غير ذلك
مسألة : قال : وله تزويجها وإن كرهت
وجملته أن للرجل تزويج أم ولده أحبت أم كرهت وبهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه وهو أحد قولي الشافعي واختيار المزني وقال في القديم : ليس له تزويجها إلا برضاها لأنها قد ثبت لها حكم الحرية على وجه لا يملك السيد إبطالها فلم يملك تزويجها بغير رضاها كالمكاتبة وقال في الثالث : ليس له تزويجها وإن رضيت لأن ملكه فيها قد ضعف وهي لم تكمل فلم يملك تزويجها كاليتيمة وهل يزوجها الحاكم على هذا القول ؟ فيه خلاف وقد روي عن أحمد رضي الله عنه أنه قيل له أن مالكا لا يرى تزويجها فقال : وما نصنع بمالك ؟ هذا بن عمر وابن عباس يقولان : إذا ولدت من غيره كان لولدها حكمها
ولنا أنها أمة يملك الاستمتاع بها واستخدامها فملك تزويجها كالقن وفارقت المكاتبة فإنه لا يملك ذلك منها والقول الثالث فاسد لذلك ولأنه يفضي إلى منع النكاح لامرأة بالغة محتاجة إليه وقولهم يزوجها الحاكم لا يصح فإن الحاكم لا يزوج إلا عند عدم الولي أو غيبته أو عضله ولم يوجد واحد منها إذا ثبت هذا فإنه إذا زوجها فالمهر له لأنه بمنزلة كسبها وكسبها له وإذا عتقت بموته فإن كان زوجها عبدا فلها الخيار ولأنها عتقت تحت عبد وإن كان حرا فلا خيار لها
مسألة : قال : ولا حد على من قذفها
هذا قول أكثر أهل العلم وقد روي عن أحمد رضي الله عنه أنه عليه الحد لأن ذلك يروى عن ابن عمر ولأن قذفها قذف لولدها الحر وفيها معنى يمنع بيعها فأشبهت الحرة والأول أصح لأنها أمة حكمها حكم الإماء في أكثر أحكامها ففي الحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطها ولأنها أمة تعتق بالموت أشبهت المدبرة وتفارق الحرة فإنها كاملة
فصل : ولا يجب القصاص على الحرة بقتلها لعدم المكافأة وإن كان القاتل لها رقيقا وجب القصاص عليه لأنها أكمل منه وإن جنت على عبد أو أمة جناية فيها قصاص لزمها القصاص لأنها أمة أحكامها أحكام الإماء واستحقاقها العتق لا يمنع القصاص كالمدبرة
مسألة : قال : وإن صلت مكشوفة الرأس كره لها ذلك وأجزأها
إنما كره لها كشف رأسها في صلاتها قد أخذت شبها من الحرائر لامتناع بيعها وقد سئل احمد رضي الله عنه عن أم الولد كيف تصلي ؟ قال تغطي رأسها وقدميها لأنها لا تباع وكان الحسن يحب للأمة إذا عهدها سيدها يعني وطئها أن لا تصلي إلا مجتمعة وإن صلت مكشوفة الرأس أجزأها لأنها أمة حكمها حكم الإماء قال إبراهيم : تصلي ام الولد بغير قناع وإن كانت بنت ستين سنة وقد روي عن أحمد رضي الله عنه رواية أخرى أن عورتها عورة الحرة وذكرنا ذلك في كتاب الصلاة والصحيح أن حكمها حكم الإماء وإنما خالفتهن في استحقاقها للعتق وامتناع نقل الملك فيها وهذا لا يوجب تغير الحكم في عورتها كالمدبرة ولأن الأصل بقاء حكمها في إباحة كشف رأسها ولم يوجد ما ينقل عنه من نص ولا ما في معناه فيبقى الحكم على ما كان عليه
مسألة : قال وإذا قتلت أم الولد سيدها فعليها قيمة نفسها
وجملته أن أم الولد إذا قتلت سيدها عتقت لأنها لا يمكن نقل الملك فيها وقد زال ملك سيدها بقتله فصارت حرة كما لو قتله غيرها وعليها قيمة نفسها إن لم يجب القصاص عليها وهذا قول أبى يوسف وقال الشافعي : عليها الدية لأنها تصير حرة ولذلك لزمها موجب جنايتها والواجب على الحر بقتل الحر دية
ولنا أنه جناية من أم ولد فلم يجب بها أكثر من قيمتها كما لو جنت على أجنبي ولأن اعتبار الجناية في حق الجاني بحال الجناية بدليل ما لو جنى على عبد فأعتقه سيده وهي في حال الجناية أمة فإنها إنما عتقت بالموت الحاصل بالجناية فيكون عليها فداء نفسها بقيمتها كما يفديها سيدها إذا قتلت غيره ولأنها ناقصة بالرق أشبهت القن وتفارق الحر فإنه جنى وهو كامل وإنما تعلق موجب الجناية بها لأنها فوتت رقها بقتلها سيدها فأشبه ما لو فوت المكاتب الجاني رقه بأدائه وأما إن قتلت سيدها عمدا ولم يكن لها منه ولد فعليها القصاص لورثة سيدها وإن كان له منها ولد وهو الوارث وحده فلا قصاص عليها لأنه لو وجب لوجب لولدها ولا يجب للولد على أمه القصاص وقد توقف أحمد رضي الله عنه عن هذه المسألة
في رواية مهنا وقال : دعنا من هذه المسائل وقياس مذهبه ما ذكرنا وإن كان لها منه ولد وله أولاد من غيرها لم يجب القصاص أيضا لأن حق ولدها من القصاص يسقط فيسقط كله وقد نقل مهنا عن أحمد رضي الله عنه أنه يقتلها أولاده من غيرها وهذه الرواية تخالف أصول مذهبه والصحيح أنه لا قصاص عليها ويجب عليها فداء نفسها بقيمتها كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن حقه منه والله أعلم 

والحمد لله وحده وصلى الله على محمد

==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي

  : أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي أدوات الأعراب تأليف ظاهر شوكت البياتي  الإهداء إلى صديقي الصدوق: طه هاشم الدليمي الذ...