4. مصاحف

4 مصاحف حمل المصحف بكل الصيغ

 القرآن الكريم وورد word doc iconتحميل سورة العاديات مكتوبة pdf//تحميل المصحف الشريف بصيغة pdf تحميل القرآن الكريم مكتوب بصيغة وورد

المصحف الكتاب الاسلامي

 /////////

 

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد 7. ومجلد 8. المغني ابن قدامة المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 مجلد 7. ومجلد 8. المغني ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو  محمد

7.

مجلد 7. المغني - ابن قدامة  المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد

 ----------
 =ما يضبط به المعادن والخشب والحجارة والعنبر
فصل : ويضبط النحاس والرصاص والحديد والنوع فيقول في الرصاص قلعي أو أسرب والنعومة والخشونة واللون إن كان يختلف ويزيد في الحديد ذكرا أو أنثى فإن الذكر أحد وأمضى وإن أسلم في الأواني التي يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها وردوها كالأسطال القائمة الحيطان والطسوت جاز ويضبطها بذلك كله وإن أسلم في قصاع وأقداح من الخشب جاز وبذكر نوع خشبها من جوز أو توت وقدرها في الصغر والكبر والعمق والضيق والثخنة والرقة وأي عمل ؟ وإن أسلم في سيف ضبطه بنوع حديده وطوله وعرضه ورقته وغلظه وبلده وقديم الطبع أو محدث ماض أو غيره ويصف قبضته وجفنه
فصل : والخشب على أضرب منه ما يرد للبناء فيذكر نوعه ويبسه ورطوبته وطوله ودوره أو سمكه وعرضه ويلزمه أن يدلع إليه من طرفه إلى طرفه بذلك العرض والدور فإن كان أحد طرفيه أغلظ مما وصف فقد زاده خيرا وإن كان أدق لم يلزمه قبوله وإن ذكر الوزن أو سمحا جاز وإن لم يذكره جاز وله سمح خال من العقد لأن ذلك عيب وإن كان للقسي ذكر هذه الأوصاف وزاد سهليا أو جبليا أو خوطا أو فلقه فإن الجبلي أقوى من السهلي والخوط أقوى من الفلقة ويذكر فيما للوقود الغلظة واليبس والرطوبة والوزن ويذكر فيا للنصب النوع والغلظ وسائر ما يحتاج إلى معرفته ويخرجه من الجهالة وإن أسلم في النشاب والنبل ضبطه بنوع جنسه وطوله وقصره ودقته وغلظه ولون ونصله وريشه
فصل : والحجارة منها ما هو للارحية فيضبطها بالدور والثخانة والبلد والنوع إن كان يختلف ومنها ما هو للبناء فيذكر النوع واللون والقدر والوزن ويذكر في حجارة الآنية اللون والنوع والقدر واللين والوزن ويصف البلور بأوصافه ويصف الآخر واللبن بموضع التربة واللون والدور والثخانة وإن أسلم في الجص والنورة ذكر اللون ولا يقبل ما أصابه الماء فجف ولا ما قدم قدما يؤثر ويضبط التراب بمثل ذلك ويقبل الطين الذي قد جف إن كان لا يتأثر بذلك
فصل : ويضبط العنبر بلونه والبلد وإن شرط قطعة أو قطعتين جاز وإن لم يشترط فله أن يعطيه صغارا أو كبارا وقد قيل إن العنبر نابت يخلقه الله تعالى في جنبات البحر ويضبط العود الهندي ببلده وما يعرف به المصطكا واللبان والغراء العربي وصمغ والمسك وسائر ما يجوز السلم فيه بما يختلف به

إذا كان بكيل معلوم أو وزن معلوم أو عدد معلوم
مسألة : قال : إذا كان بكيل معلوم أو وزن معلوم أو عدد معلوم
هذا الشرط الثالث وهو معرفة مقدار المسلم فيه بالكيل إن كان مكيلا وبالوزن إن كان موزونا وبالعدد إن كان معدودا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم ] ولأنه عوض غير مشاهد في الذمة فاشترط معرفة قدرة كالثمن ولا نعلم في اعتبار معرفة المقدار خلافا ويجب أن يقدره بمكيال أو وأرطال معلومة عند العامة فإن قدرة بإناء معلوم أو صنجة معنية غير معلومة لم يصح لأنه يهلك فيتعذر معرفة قدر المسلم فيه وهذا غرر لا يحتاج إليه العقد قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعلم عياره ولا في ثوب بذرع فلان لأن المعيار لو تلف أو مات فلان يبطل السلم منهم الثوري و الشافعي و أبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وإن عين مكيال رجل أو ميزانه وكانا معروفين عند العامة جاز ولم يختص بهما وإن لم يعرفا لم يجز

حكم اسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا
فصل : وإن أسلم فيما يكال وزنا أو فيما يوزن كيلا فنقل الأثرم أنه سأل أحمد عن السلم في التمر وزنا فقال : لا إلا كيلا قلت إن الناس ههنا لا يعرفون قال : وإن كانوا لا يعرفون الكيل فيحتمل هذا أنه لا يجوز في المكيل إلا كيلا ولا في الموزون إلا وزنا وهكذا ذكره القاضي و ابن أبي موسى لأنه مبيع يشترط معرفة قدره لم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل كبيع الربويات بعضها ببعض ولأنه قدر المسلم بغير ما هو مقدر به في الأصل فلم يجز كما لو أسلم في المذروع وزنا ونقل المروذي عن أحمد أنه يجوز السلم في اللبن إذا كان كيلا أو وزنا وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزنا وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا لأن اللبن لا يخلو من كونه مكيلا أو موزونا وقد أجاز السلم فيه بكل واحد منهما وهذا قول الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : ذلك جائز إذا كان الناس يتبايعون التمر وزنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى لأن الغرض معرفة قدره وخروجه من الجهالة وإمكان تسليمه يتبايعون التمر وزنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى لأن الغرض معرفة قدره وخروجه من الجهالة وإمكان تسليمه من غير تنازع فبأي قدر قدره جاز ويفارق بيع الربويات فإن التماثل فيها في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا شرط ولا نعلم هذا الشرط إذا قدرها بغير مقدارها الأصلي إذا ثبت هذا فإن الحبوب كلها مكيلة وكذلك التمر والزبيب والفستق والبندق والملح قال القاضي : وكذلك الأدهان وقال في السمن واللبن والزبد : يجوز السلم فيها كيلا ووزنا ولا يسلم في اللبأ إلا وزنا لأنه يجمد عقيب حلبه فلا يتحقق الكيل فيه
فصل : فإن كان المسلم فيه مما لا يمكن وزنه بالميزان لثقله بالميزان لثقله كالأرحية والحجارة والكبار يوزن بالسفينة فتترك السفينة في الماء ثم يترك ذلك فيها فينظر إلى أي موضع تغوص فيعلمه ثم يرفع ويترك مكانه رمل أو حجارة صغار إلى أن يبلغ الماء الموضع الذي كان بلغه ثم يوزن بميزان فما بلغ فهو زنة ذلك الشيء الذي أريد معرفة وزنه
فصل : ولا بد من تقدير المذروع بالذرع بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم
فصل : وما عدا المكيل والموزون والحيوان والمذروع فعلى ضربين معدود وغيره فالمعدود نوعان أحدهما : لا يتباين كثيرا كالجوز والبيض ونحوهما فيسلم فيه عددا وهو قول أبي حنيفة و الأوزاعي وقال الشافعي يسلم فيهما كيلا أو وزنا ولا يجوز عددا لأن ذلك يتباين ويختلف فلم يجز عددا كالبطيخ ولنا أن التفاوت يسير ويذهب ذلك باشتراط الكبر أو الصغر أو الوسط فيذهب التفاوت وإن بقي شيء يسير عفي عنه كسائر التفاوت في المكيل والموزون المعفو عنه ويفارق البطيخ فإنه ليس بمعدود والتفاوت فيه كثير لا بنضبط النوع الثاني : ما يتفاوت كالرمان والسفرجل والقثاء والخيار فهذا حكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول ففيه وجهان أحدهما : يسلم فيه عددا ويضبطه بالصغر والكبر لأنه يباع هكذا الثاني : لا يسلم فيه إلا وزنا وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي لأنه لا يمكن تقديره بالعدد لأنه يختف كثيرا ويتباين جدا ولا بالكيل لأنه يتجافى في المكيل ولا يمكن تقدير البقول بالحزم لأنه يختلف ويمكن حزم الكبيرة والصغيرة فلم يمكن تقديره بغير الوزن فتعين تقديره به

إلى أجل معلوم بالأهلة
مسألة : قال : إلى أجل معلوم بالأهلة
وهذا الشرط وهو أن يكون مؤجلا معلوما وفي هذه المسألة فصول ثلاثة

الاختلاف في جواز السلم حالا
الفصل الأول : أنه يشترط لصحة السلم كونه مؤجلا ولا يصح السلم الحال قال أحمد في رواية المروذي : لا يصح حتى يشترط الأجل وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي قال ا لشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يجوز السلم حالا السلم حالا لأنه عقد يصح مؤجلا فصح كالا كبيوع الأعيان ولأنه إذا جاز مؤجلا فحالا أجوز ومن الغرر أبعد ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم ] فأمر بالأجل وأمره يقتضي الوجوب ولأنه أمر بهذه الأمور تبينا لشروط السلم ومنعا منه بدونها وكذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن فكذلك كالأجل ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق ولا يحصل الرفق إلا بالأجل فإذا انتفى الأجل الرفق فلا يصح كالكتابة ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه اما الاسم فلأنه يسمى سلما وسلفا لتعجل أحد العوضين وتأخر الآخر ومعناه ما ذكرناه في أول الباب من أن الشارع أرخص فيه للحاجة الدعية ومع حضور ما يبيعه حالا لا حاجة إلى السلم فلا يثبت ويفارق تنوع الأعيان فإنها لم تثبت على خلاف الأصل لمعنى يختص بالتأجيل وما ذكروه من التنبيه غير صحيح لأن ذلك إنما يجزئ فيما إذا كان المعنى المقتضي موجودا في الفرع بصفة التأكيد وليس كذلك ههنا فإن العبد من الضرر ليس هو المقتضي لصحة السلم المؤجل وإنا المصحح له شيء آخر لم نذكر اجتماعهما فيه وقد بينا افتراقهما إذا ثبت هذا فإنه إن باعه ما يصح السلم فيه حالا في الذمة صح ومعناه معنى السلم وإنما افترقا في اللفظ

تحديد الاجل في السلم واشتراط العلم به
الفصل الثاني : أنه لا بد من كون الأجل معلوما لقوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إلى أجل معلوم ] ولا نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلافا فأما كيفيته فإنه يحتاج أن يعلمه بزمان بعينه لا يختلف ولا يصح أن يؤجله بالحصاد والجزاز وما أشبه ؟ وكذلك قال ابن عباس و أبو حنيفة و الشافعي و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى أنه قال : أرجو أن لا يكون به بأس وبه قال مالك و أبو ثور وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء وبه قال ابن أبي ليلى وقال أحمد : إن كان شيء يعرف فأرجو وكذلك إن قال قدوم الغزاة وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء لأن ذلك معلوم فأما نفس العطاء فهو في نفسه مجهول يختلف ويتقدم ويتأخر ويحتمل أنه أراد نفس العطاء لكونه يتفاوت تفاوتا كثيرا فأشبه إذا قال إلى رأس السنة
ولنا ما روى عن ابن عباس أنه قال : لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم ولأن ذلك يختلف ويقرب فلا يجوز أن يكون أجلا كقدوم زيد فإن قيل فقد روي عن عائشة أنها قالت [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى يهودي : أن ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة ] قلنا قال ابن المنذر : رواه حرمي بن عمارة قال أحمد : فيه غفلة هو صدوق قال ابن المنذر : فأخاف أن يكون من غفلاته إذا لم يتابع عليه ثم لا خلاف في أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح
فصل : إذا جعل الأجل إلى شهر تعلق بأوله وإن جعل الأجل اسما يتناول شيئين كجمادى وربيع ويوم النفر تعلق بأولهما وإن قال : إلى ثلاثة أشهر كان إلى انقضائها لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة وجب أن يكون ابتداؤها من حين لفظه بها وكذلك لو قال إلى شهر كان إلى آخر وينصرف ذلك إلى الأشهر الهلالية بدليل قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } وأراد الهلالية وإن كان في اثناء عشر شهرا كملنا شهرين بالهلال وشهرا بالعدد ثلاثين يوما وقيل تكون الثلاثة كلها عدديه وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع وإن قال محله شهر كذا أو يوم كذا صح وتعلق بأوله وقيل لا يصح لأنه جعل ذلك طرفا فيحتمل أوله وآخره والصحيح الأول فإنه لو قال لامرأته أنت طالق في شهر كذا تعلق بأوله وهو نظير مسألتنا فإن قيل الطلاق يتعلق بالاخطار والاغرار ويجوز تعليقه على مجهول كنزول المطر وقدوم زيد بخلاف مسألتنا قلنا إلا أنه إذا جعل محله في شهر تعلق بأوله فلا يكون مجهولا وكذا السلم
فصل : ومن شرط الأجل أن يكون مدة لها وقع في الثمن كالشهر وما قاربه وقال أصحاب أبي حنيفة لو قدره بنصف يوم جاز وقدره بعضهم بثلاثة أيام وهو قول الأوزاعي لأنها مدة يجوز فيها خيار الشرط ولأنها آخر حد القلة ويتعلق بها عندهم إباحة رخص السفر وقال الآخرون إنما اعتبر التأجيل لأن المسلم فيه معدوم في الأصل لكون السلم إنما ثبت رخصة في حق المالفيس فلا بد من الأجل ليحصل ويسلم وهذا يتحقق بأقل مدة ويتصور فيها ولنا أن الأجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق الذي شرع من أجله السلم ولا يصح ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن ولا يصح اعتباره بمدة الخيار لأن الخيار يجوز ساعة وهذا لا يجوز والأجل يجوز أن يكون أعواما وهم لا يجيزون الخيار أكثر من ثلاث وكونها آخر خد القلة لا يقتضي التقدير بها وقولهم أن المقصود يحصل بأقل مدة غير صحيح فإن السلم إنما يكون الحاجة المفاليس الذين لهم ثمارا أو زرع أو تجارات ينتظرون حصولها ولا تحصل هذه في المدة اليسيرة

في كون الأجل بالسلم معلوما بالأهلة
الفصل الثالث : في كون الأجل معلوما بالأهلة وهو أن يسلم إلى وقت يعلم بالهلال نحوه أول الشهر أو أوسطه أو آخره و يوم معلوم منه لقول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } ولا خلاف في صحة التأجيل بذلك ولو أسلم إلى عيد الفطر أو النحر أو يوم عرفة أو عاشوراء أو نحوها جاز لأنه معلوم بالأهلة وإن جعل الأجل مقدرا بغير الشهور الهلالية فذلك قسمان أحدهما : ما يعرفه المسلمون وهو بينهم مشهور ككانون وشباط أو عيد لا يختلف كالنيروز والمهرجان عند من يعرفهما فظاهر كلام الخرقي و ابن أبي موسى أنه لا يصح لأنه أسلم إلى غير الشهور الهلالية أشبه إذا أسلم الشعانين وعيد الفطير ولأن هذه لا يعرفها كثير من المسلمين أشبه ما ذكرنا وقال القاضي : يصح وهو قول الأوزاعي و الشافعي قال الأوزاعي : إذا أسلم إلى فصح النصارى وصومهم جاز لأنه معلوم لا يختلف أبه أعياد المسلمين وفارق ما يختف فإنه لا يعلمه المسلمون القسم الثاني : ما لا يعرفه المسلمون كعيد الشعانين وعيد الفطير ونحوهما فهذا لا يجوز السلم إليه لأن المسلمين لا يعرفونه ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه لأن قولهم غير مقبول ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون وإن أسلم إلى ما لا يختلف مثل كانون الأول ولا يعرفه المتعاقدان أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول عنده

قال : موجودا عند محله
مسألة : قال : موجودا عند محله
هذا الشرط الخامس وهو كون المسلم فيه عام الوجود في محله ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه وجوب تسليمه وإذا لم يكن عام الوجود لم يكن موجودا عند المحل بحكم الظاهر فلم يمكن آخر لئلا يكثر الغرر فيه فلا يجوز أن يسلم احتمل فيه أنواع نم الغرر للحاجة فلا يحتمل فيه غرر فيه كزمان أول العنب أو آخره الذي لا يوجد فيه إلا نادرا فلا يؤمن انقطاعه
فصل : ولا يجوز أن يسلم في ثمرة بستان بعينه ولا قرية صغيرة لكن لا يؤمن تلفه وانقطاعه قال ابن المنذر : إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك الثوري و مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي و إسحاق قال : وروينا [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى فقال اليهودي : من تمر حائط بني فلان فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما من حائط بين فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى ] رواه ابن ماجة وغيره ورواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم وقال : أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع ولأنه إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه لم يؤمن انقطاعه وتلفه فلم يصح كما لو أسلم في شيء قدره بمكيال معين أو صنجة معينة أو حضر خرقة وقال أسلمت إليك في مثل هذه
فصل : ولا يشترط كون المسلم فيه موجودا حال السلم بل يجوز أن يسلم في الرطب في أوان الشتاء وفي كل يوم معدوم إذا كان موجودا في المحل وهذا قول مالك و الشافعي و إسحاق ابن المنذر وقال الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يجوز حتى يكون جنسه موجودا حال العقد إلى حين المحل لأن كل زمن يجوز أن يكون محلا للمسلم فيه لموت المسلم إليه فاعتبر وجوده فيه كالمحل
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال : [ من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم وأجل معلوم ] ولم يذكر الوجود ولو كان شرطا لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة ولأنه يثبت في الذمة ويوجد في محله غالبا فجاز السلم فيه كالموجود ولا نسلم أن الدين يحل بالموت وإن سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود إذ لو لزم أفضى إلى أن يكون آجال السلم مجهولة والمحل ما جعله المتعاقدان محلا وههنا لم يجعلاه

أحكام تعذر تسليم المسلم فيه عند محله
فصل : إذا تعذر تسليم المسلم فيه عند المحل إما لغيبة المسلم إليه أو عجزه عن التسليم حتى عدم المسلم فيه أو لم تحلم الثمار تلك السمة فالمسلم بالخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد فيطالب به وبين أن يفسخ العقد ويرجع بالثمن إن كان موجودا أو بمثله إن كان مثليا وإلا قيمته وبه قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وفيه وجه آخر أنه ينفسخ العقد بنفس التعذر لكون المسلم فيه من ثمرة العام بدليل وجوب التسليم منها فإذا هلكت انفسخ العقد كما لو باعه قفيزا من صبرة فهلكت والأول الصحيح فإن العقد قد صح وإنما على دفع المسلم فيهمن غيرها جاز وإنما أجبر على دفعه من ثمرة العام لتمكنه من دفع ما هو بصفة حقه ولذلك يجب عليه الدفع من ثمرة نفسه إذا وجدها ولم يجد غيرها وليست متعينة وإن تعذر البعض فللمشتري الخيار بين الفسخ في الكل والرجوع بالثمن وبين أن يصبر إلى حين الإمكان ويطالب بحقه فإن أحب الفسخ في المفقود دون الموجود فله ذلك لأن الفساد طرأ بعد صحة العقد فلا يوجب في الكل كما لو باعه صبرتين فتلفت إحداهما وفيه وجه آخر ليس له الفسخ إلا في الكل أو يصبر على ما ذكرنا من الخلاف في الإقالة في بعض المسلم فيه وإن قلنا أن الفسخ يثبت بنفس التعذر انفسخ في المفقود دون الموجود لما ذكرنا من أن الفساد الطارئ على بعض المعقود عليه لا يوجب فساد الجميع ويثبت للمشتري خيار الفسخ في الموجود كما ذكرنا في الوجه الأول
فصل : إذا أسلم نصراني إلى نصراني في خمر ثم أسلم أحدهما فقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسلم يأخذ دراهمه كذلك قال الثوري و أحمد و إسحاق وأصحاب المسلم إليه فقد تعذر عليه إيفاؤها فصار الأمر إلى رأس ماله

قال : يقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق
مسألة : قال : ويقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق
هذا الشرط السادس وهو أن يقبض رأس مال السلم في المجلس العقد فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم يكن ذلك شرطا لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سلما ما لو تأخر إلى آخر المجلس
ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق فلا يجوز التفرق في قبل القبض كالصرف ويفارق المجلس ما بعده بدليل الصرف وإن قبض بعده ثم تفرقا فكلام الخرقي يقتضي أن لا يصح لقوله كاملا وحكي ذلك عن ابن شبرمة و الثوري وقال أبو الخطاب : هل يصح في غير المقبوض ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وهذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي وقد نص أحمد في رواية ابن المنصور : إذا أسلم ثلاثمائة درهم في أصناف شتى مائة في الحنطة ومائة في شعير ومائة في شيء آخر فخرج فيه زيوف رد علىالأصناف الثلاثة على كل صنف بقدر ما وجد من الزيوف فصح العقد ف الباقي بحصته من الثمن وقال الريف أبو جعفر فيمن أسلم ألفا إلى رجل فقبضه نصفه وأحاله بنصفه وأو كان له دين على المسلم إليه بقدر نصفه فحسبه علي من الأنف فإنه يصح السلم في النصف المقبوض ويبطل في الباقي فأبطل السلم فيما لم يقبض وصححه فيما قبض وحكي عن أبي حنيفة أنه قال : يبطل في الحوالة في الكل وفي المسألة الأخرى يبطل فيما لم يقبض ويصح فيما قبض بقسطه بناء على تفريق الصفقة

حكم وجدان الثمن رديئا بعد قبضه
فصل : وإن قبض الثمن فوجده رديئا فرده والثمن معين يبطل العقد برده ويبتدئان عقدا آخر إن أحبا وإن كان في الذمة فله إبداله في المجلس ولا يبطل العقد برده لأن العقد إنما وقع على ثمن سليم فإذا دفع إليه ما ليس بسليم كان له المطالبة بالسليم ولا يؤثر قبض المعيب في العقد وإن تفرقا ثم علم عيبه فرده ففيه وجهان أحدهما : يبطل العقد برده لوقوع القبض بعد التفرق ولا يجوز ذلك في السلم والثاني : لا يطبل لأن القبض الأول كان صحيحا بدليل ما لو أمسكه ولم يرده وهذا يدل على المقبوض وهذا قول أبي يوسف و محمد وهو أحد قولي الشافعي واختيار المزني لكن من شرطه أن يقبض البدل في مجلس الرد فإن تفرقا عن مجلس الرد قبل قبض البدل لم يصح وجها واحدا لخلو العقد عن قبض الثمن بعد تفرقهما وإن وجد بعض الثمن رديئا فردده ففي المردود التفصيل الذي ذكرناه وهل يصح في غير الرديء إذا قلنا بفساده في الرديء ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة

بطلان عقد السلم بظهور أن الدراهم مستحقة
فصل : وإن خرجت الدراهم مستحقة والثمن معين لم يصح العقد قال أحمد : إذا خرجت الدراهم مسروقة فليس بينهما بيع وذلك لأن الثمن إذا كان معيبا فقد اشترى بعين مال غيره بغير إذنه وإن كان غير معين فله المطالبة ببدله في المجلس وإن قبضه ثم تفرقا بطل العقد لأن القبض لا يصلح عوضا فقد تفرقا قبل أخذ الثمن إلا على الرواية التي تقل بصحة تصرف الفضولي وإن وجد بعضه مستحقا بطل في ذلك البعض وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة
فصل : إذا كان له في ذمة رجل دينار فجعل سلما في طعام إلى أجل لم يصح قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم منهم مالك و الأوزاعي و الثور و أحمد و إسحاق وأصحاب الرأي و الشافعي وعن ابن عمر أنه قال : لا يصح ذلك وذلك لأن المسلم فيه دين فإذا جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين ولا يصح ذلك بالإجماع ولو قال أسلمت إليك مائة درهم في كر طعام وشرطا أن يعجل له منها خمسين وخمسين إلى أجل لم يصح العقد في الكل على قول الخرقي ويخرج في صحته في قدر المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة أحدهما : يصح وهو قول أبي حنيفة والثاني : لا يصح وهو قول الشافعي وهو أصح لأن المعجل فضلا على المؤجل فيقتضي أن يكون في مقابلته أكثر مما في مقابلة المؤجل والزيادة مجهولة فلا يصح

قال : ومتى عدم الشيء من هذه الأوصاف بطل
مسألة : قال : ومتى عدم الشيء من هذه الأوصاف بطل
وجملة ذلك أن هذه الأوصاف الستة التي ذكرناها لا يحص السلم إلا بها وقد دلنا على ذلك واختلفت الرواية في شرطين آخرين أحدهما : معرفة صفة الثمن المعين ولا خلاف في اشتراط معرفة صفقته إذا كان في الذمة لأنه أحد عوضي السلم فإذا لم يكن معيبا اشترط معرفة صفته كالمسلم فيه إلا أنه إذا أطلق وفي البلد نقد معين انصرف الاطلاق إليه وقام مقام وصفه فأما إن كان الثمن معينا فقال القاضي وأبو الخطاب لا بد من معرفة وصفه واحتجا بقول أحمد : يقول أسلمت إليك كذا وكذا درهما ويصف الثمن فاعتبر ضبط صفته وهذا قول مالك وأبي حنيفة لأنه عقد لا يملك إتمامه في الحال ولا تسليم المعقود لعيه ول يؤمن انفساخه فوجب معرفة رأس المسلم فيه لرد بدله كالقرض والشركة ولأنه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقا فينفسخ العقد في قدره فلا يدري في كم بقي وكم انفسخ فإن قيل هذا موهوم والموهومات لا تعتبر قلنا التوهم معتبر ههنا لأن الأصل عدم الجواز وإنما جوز إذا وقع الأمن من الغرر ولم يوجد ههنا بدليل ما إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه أو قدر المسلم فيه بصنجة أو مكيال معين فإنه لا يصح وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لأنه ذكر شرائط السلم ولم يذكرهن وهو أحد قولي الشافعي لأنه عوض مشاهد فلم يحتج إلى معرفة قدره كبيوع الأعيان وكلام أحمد إنما تناول غير العين ولا خلاف في اعتبار أوصافه ودليلهم ينتقض بعقد الإجارة وإنه ينفسخ بتلف العين المستأجرة ولا يحتاج مع اليقين إلى معرفة الأوصاف ولأن رد الثمن إنما يستحق عند فسخ العقد لا من جهة عقده وجهالة ذلك لا يؤثر لكما لو باع المكيل أو الموزون ولأن العقد تمت شرائطه فلا يبلط بأمر موهوم فعلى القول الذي يعتبر صفاته لا يجوز أن يجعل رأس المال السلم ما لا يمكن ضبط صفاته كالجواهر وسائر ما لا يجوز لسلم فيه فإن جعلاه سلما بطل العقد ويجب رده إن كان موجودا وقيمته إن عرفت إذا كان معدوما فإن اختلفا فالقول قول المسلم إليه لأنه غارم وهكذا إن حكمنا بصحة العقد ثم انفسخ وإنا اختلفا في المسلم فيه فقال أحدهما في مائة مدي حنطة وقال الآخر في مائة مدي شعير تحالفا وتفاسخا به قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي كما لو اختلفا في ثمن المبيع

بطلان في كل مالين يحرم النساء فيهما
فصل : وكل مالين حرم النساء فيهما لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر لأن السلم من شرطه النساء والتأجيل و الخرقي منع بيع العروض بعضها ببعض نساء فعلى قوله لا يجوز إسلام بعضها في بعض وقال ابن أبي موسى : لا يجوز أن يكون رأس مال السلم إلا عينا أو ورقا وقال القاضي : وهو ظاهر كلام أحمد ههنا قال ابن المنذر : قيل أحمد يسلم ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن ؟ فلم يعجبه وعلى هذا لا يجوز أن يكون المسلم فيه ثمنا وهو قول أبي حنيفة لأنها لا تثبت في الذمة إلا ثمنا فلا تكون مثمنة وعلى الرواية التي يقول يجوز النساء في العروض يجوز أن يكون رأس مال السلم عرضا كالثمن سواء يجوز إسلامها في الأثمان قال الشريف أبو جعفر : يجوز السلم في الدراهم والدنانير وهذا مذهب مالك و الشافعي لأنها تثبت في الذمة صداقا فتثبت سلما كالعروض ولأنه لا ربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء فصح إسلام أحدهما في الآخر كالعرض في العرض ولا يصح ما قاله أبو حنيفة فإنه لو باع دراهم بدنانير صح ولا بد أن يكون أحدهما مثمنا فعلى هذا إذا أسلم عرضا في عرض موصوف بصفاته فجاءه عند الحلول بذلك العرض بعينه لزمه قبوله على أحد الوجهين لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته فلزمه قبوله كما لو كان غيره والثاني : لا يلزمه لأنه يفضي إلى كون الثمن هو المثمن ومن نصر الأول قال هذا لا يصح لأن الثمن إنما هو في الذمة وهذا عوض عنه وهكذا لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة فحل المحل وهي على صفة المسلم فيه فأحضرها فعلى احتمالين أيضا أحدهما : لا يصح لما ذكرنا ولأنه يفضي إلى أن يكون قد استمتع بها وردها خالية عن عقر والثاني : يجوز لأنه أحضر المسلم فيه على صفته ويلط الألو بما إذا وجد بها عيبا فردها واختلف أصحاب الشافعي في هاتين المسألتين على هذين الوجهين وإن فعل ذلك حيلة لينتفع بالعين أو ليطأ الجارية ثم يردها بغير عوض لم يجز وجها واحدا لأن الحيل كلها باطلة
الشرط الثاني : المختلف فيه تعيين مكان الإيفاء قال القاضي : ليس بشرط وحكاه ابن المنذر عن أحمد و إسحاق وطائفة من أهل الحديث وبه قال أبو يوسف و محمد وهو أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم ] ولم يذكر مكان الإيفاء فدل على أنه لا يشترط وفي الحديث الذي فيه أن اليهودي أسلم إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أما من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى ] ولم يذكر مكان الإيفاء ولأن عقد معاوضة فلا يشترط فيه ذكر مكان الإيفاء كبيع الأعيان وقال الثوري : يشترط ذكر مكان الإيفاء وهو الثاني للشافعي وقال الأوزاعي : هو مكروه لأن القبض يجب بحلوله ولا يعلم موضعه حينئذ فيجب شرطه لئلا يكون مجهولا وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي : إن كان لحمله مؤنة وجب شرطه وإلا فلا يجب لأنه إذا كان لحمله مؤنة اختلف فيه الغرض بخلاف ما لا يؤنه فيه وقال ابن أبي موسى إن كانا في برية لزم ذكر مكان الإيفاء في مكان العقد لأنه متى كانا في برية لم يكن التسليم في مكان العقد فإذا ترك ذكره كان مجهولا وإن لم يكونا في برية اقتضى العقد التسليم في مكانه فاكتفى بذلك عن ذكره فإن ذكره كان تأكيدا فكان حسنا فإن شرط الإيفاء في مكان سواه صح لأنه عقد بيع فصح شرط ذكر الإيفاء في غير مكانه كبيوع الأعيان ولأنه شرط ذكر مكان الإيفاء فصح كما لو ذكره في مكان العقد وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى إنه لا يصح لأنه شرط خلاف ما اقتضاه العقد لأن العقد يقتضي الإيفاء في مكانه وقال القاضي وأبو الخطاب : متى ذكر مكان الإيفاء ففيه روايتان سواء شرطه في مكان العقد أو في غيره لأن فيه غررا لأنه ربما تعذر تسليمه في ذلك المكان فأشبه تعيين المكيال واختاره أبو بكر وهذا لا يصح فإن في تعيين المكان غرضا ومصلحة لهما فأشبه تعيين الزمان وما ذكروه من احتمال تعذر التسليم فيه يبطل بتعيين الزمان ثم لا يخلو اما أن يكون مقتضى العق التسليم في مكانه فإذا شرطه فقد شرط مقتضى العقد أو لا يكون ذلك مقتضى العقد فيتعين ذكر مكان الإيفاء نفيا للجهالة عنه وقطعا للتنازع فالغرر في تركه لا في ذكره وفارق تعيين المكيال فإنه لا حاجة إليه ويفوت به علم المقدر المشترط لصحة العقد ويفضي إلى التنازع وفي مسألتنا لا يفوت به شرط ويقطع التنازع فالمعنى المانع من التقدير بمكيال بعينه مجهول هو المقتضي لشرط مكان الإيفاء فكيف يصح قياسهم عليه ؟

فساد بيع المسلم فيه قبضه وكذا الشركة فيه التولية والحوالة
مسألة : قال : وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد وكذلك الشركة فيه أو التولية والحوالة به طعاما كان أو غيره
أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا وقد [ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن ] ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه وأما الشركة فيه التولية فلا تجوز أيضا لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل وبهذا قال أكثر أهل العلم وحكي عن مالك جواز الشركة والتولية لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية
ولنا أنها معاوض في المسلم فيه قبل القبض فلم يجز كما لو كانت بلفظ البيع ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في السلم قبل قبضه كالنوع الآخر لا نعرفه وهو حجة لنا لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع فيدخلان في النهي ويحمل قوله وأرخص في الشركة والتولي على أنه أرخص فيهما في الجملية لا في هذا الموضع وأما الإقالة فإنها فسخ وليست بيعا وأما الحوالة به فغير جائزة لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عند السلم فلا يجوز وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم فيبر فعدمه عند المحل فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز ولم يجز أكثر من ذلك وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد والصحيح في المذهب خلافه وقال مالك : يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره إلا الطعام قال ابن المنذر : وقد ثبت أن ابن عباس قال : إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين رواه سعيد في سننه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] رواه أبو داود و ابن ماجة ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع فلم يجز كبيعة من يغره فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دنه في الصفات جاز لأن ذلك ليس ببيع إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما

حكم الإقامة في المسلم فيه
فصل : فأما الإقامة في المسلم فهي فجائزة لأنه فسخ قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة لأنه فسخ للعقد ورفع له من أله وليست بيعا قال القاضي : لو وقال لي عندك هذا الطعام صالحني منه على ثمنه جاز وكانت إقالة صحيحة فأما الإقالة في بعض المسلم فيه فاختلف عن أحمد فيها فروي عنه أنها لا تجز ورويت كراهتها عن ابن عمر و سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين و النخعي و سعيد بن جبير و ربيعة و ابن أبي ليلى و إسحاق وروى حنبل عن أحمد أنه قال : لا بأس بها وروي ذلك عن ابن عباس و عطاء و طاوس و محمد بن علي و حميد بن عبد الرحمن و عمر بن دينار و الحكم و الثوري و الشافعي و النعمان وأصحابه و ابن المنذر ولأن الإقالة مندوب إليها وكل معروف جاز في جميع جاز في البعض كالابراء والانظار ووجه الرواية الأولى أن السلف في الغالب يزاد فيه في الثمن من أجل التأجيل فإذا أقاله في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة فيه فلم يجز كما لو اشترط ذلك في ابتداء العقد ويخرج عليه الإبراء والأنظار فإنه لا يتعلق به شيء من ذلك
فصل : إذا أقاله رد الثمن إن كان باقيا أو مثله إن كان مثليا أو قيمته إن يكن مثليا فإن أراد أن يعطيه عوضا عنه فقال الشريف أبو جعفر : ليس له صرف ذلك الثمن في عقد آخر حتى يقبضه وبه قال أبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] ولأن هذا مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم يجز التصرف فيه قبل قبضه كما لو كان في يد المشتري وقال القاضي أبو يعلى : يجوز أخذ العوض عنه وهو قول الشافعي لأنه عوض مستقرب في الذمة فجاز أخذ العوض عنه كما لو كان قرضا ولأنه مال عاد إليه بفسخ والخبر أراد به المسلم فيه فلم يتناول وهذا فإن قلنا بهذا فحكمه حكم ما لو كان قرضا أو ثمنا في بيوع الأعيان لا يجوز جعله سلما في شيء آخر لأنه يكون بيع دين بدين ويجوز فيه ما يجوز في القرض وأثمان البياعات إذا فسخت

وإذا أسلم في جنسين ثمنا واحدا لم يجز حتى يبين ثم كل جنس
مسألة : قال : وإذا أسلم في جنسين ثمنا واحدا لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس
صورة ذلك أن يسلم دينارا واحدا في قفيز شعير ولا يبين ثمن الحنطة من الدينار ولا ثمن الشعير فلا يحص ذلك وجوزه مالك وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن كل عقد جاز على جنسين في عقدين جاز عليهما في عقد واحد كبيع الأعيان وكما لو بين ثمن أحدهما ولنا أن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه مفردا بثمن مجهول ولأن فيه غررا فأننا لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف بم يرجع وهذا غرر أثر مثله في السلم وبمثل هذا عللنا معرفة صفة الثمن وقدره وقد ذكرنا ثم وجها آخر أنه لا يشترط فيخرج ههنا مثله لأنه في معناه ولأنه لما جاز أن يسلم في شيء واحد إلى أجلين ولا يبين ثمن كل واحد منها كذا ههنا قال ابن أبي موسى : ولا يجوز أن يسلم خمسة دنانير وخمسين درهما في كر حنطة حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما من الثمن والأولى صحة هذا لأنه إذا تعذر بعض المسلم فيه رجع بقسطه منهما أن تعذر النصف رجع بنصفهما وإن تعذر الخمس رجع بدينار وعشرة دراهم

أحكام القبض في المسلم فيه ومتى يجب ومتى لا يجب
مسألة : قال : وإذا أسلم في شيء واحد على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز
قال الأثرم قلت أبي عبد الله : الرجل يدفع إلى الرجل الدراهم في الشي يؤكل فيأخذ منه كل يوم من تلك السلعة شيئا فقال على معنى السلم إذا ؟ فقتل نعم قال : لا بأس ثم قال : مثل الرجل القصاب يعطيه الدينار على أن يأخذ منه كل يوم رطلا من لحم قد وصفه وبهذا قال مالك وقال الشافعي : إذا أسلم في جنس واحد إلى أجلين فيه قولان أحدهما : لا يصح لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر وذلك مجهولا فلم يجز ولنا أن كل بيع جاز في أجل واحد جاز في أجلين وآجال كبيوع الأعيان فإذا قبض البعض وتعذر قبض الباقي ففسخ العقد رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقي فضلا عن المقبوض لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء فيسقط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله
مسألة : قال : وإذا لم يكن السلم فيه كالحديد والرصاص وما لا يفسد ولا يختلف قديمه وحديثه لم يكن عليه قبضه قبل محله
يعني بالسلم المسلم فيه سمي باسم المصدر كما يسمى المسروق سرقة والمرهون رهنا قال إبراهيم : خذ سلمك أو دون سلمك ولا تأخذ فوق سلمك ومتى أحضر المسلم فيه على الصفة المشروطة لم يخل من ثلاثة أحوال أحدها : أن يحضره في محله فيلزمه قبوله لأنه أتاه بحقه في محله قبوله كالمبيع المعين وسواء كتان عليه قي قبضه ضرر أو لم يكن فإن أبى قيل له إما أن تقبض حقك وأما إن تبرئ منه فإن امتنع قبضه الحاكم من المسلم إليه للمسلم وبرئت ذمته منه لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع بولايته وليس له أن يبرئ لأنه لا يملك الإبراء
الحال الثاني : أن يأتي به قبل محله فينظر فيه فإن كان مما في قبضه قبل محله ضرر إما لكونه مما يتغير كالفاكهة والأطعمة كلها أو كان قديمة دون حديثه كالحبوب ونحوها لم يلزم المسلم قبوله لأن له غرضا في تأخيره بأن يحتاج إلى أكله أو إطعامه في ذلك الوقت وكذلك الحيوان لأنه لا يأمن من تلفه ويحتاج إلى الإنفاق لعيه إلى ذلك الوقت وربما يحتاج إليه في ذلك الوقت دون ما قبله وهكذا إن كان مما يحتاج في حفظ إلى مؤنة كالقطن ونحوه أو كان الوقت مخوفا يخشى نهب ما يقبضه فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال كلها لأن عليه ضررا في قبضه ولم يأت محل استحقاقه له فجرى مجرى نقص صفة فيه وإن كان ما لا ضرر في قبضه بأن يكون لا يتغير كالحديد والرصاص والنحاس فإنه يستوي قديمه وحديثه ونحو ذلك الزيت والعسل ولا في قبض ضرر الخوف ولا تحمل مؤنة فعليه قبضه لأن غرضه حاصل مع زيادة تعجل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة وتعجيل الدين المؤجل الحال الثالث : أن يحضره بعد محل الوجوب فحكمه حكمن ما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما
فصل : ولا يخلو أما أن يحضر المسلم فيه على صفته أو دونها أو أجود منها فإن أحضره على صفته لزم قبوله لأنه حقه وإن أتى به دون صفته لم يلزمه قبوله لأن فيه إسقاط حقه فإن تراضيا على ذلك وكان من جنسه جاز وإن كان من غير جنسه لم يجز لما تقدم وإن اتفقا على أن يعطيه دون حقه ويزيده شيئا لم يجز لأنه أفرد صفة الجودة بالبيع وذلك لا يجز لأنه بالبيع وذلك لا يجوز ولأن البيع المسلم فيه قبل قبضه غير جائز فبيع وصفه أولى الثالث : أن يحضره أجود من الموصوف فينظر فيه فإن أتاه به من نوعه لزمه قبوله لأنه أتى بما تناوله العقد وزيادة تابعه له فينفعه ولا يضره إذ لا يفوته غرض فإن أتى به من نوع آخر لم يلزمه قبولهن لأن العقد تناول ما وصفاه على الصفة التي شرطاها وقد فات بعض الصفات فإن النوع صفة وقد فات فأشبه ما لو فات غيره من الصفات وقال القاضي : يلزمه قبوله لأنهما جنس واحد يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فأشبه الزيادة في الصفة مع اتفاق النوع والألو أجود لأن أحدهما يصلح لما لا يصلح له الآخر فإذا فوته لعيه فوت عليه الغرض المتعلق به فلم يلزمه قبوله كما لو فوت عليه صفة الجودة وهذا مذهب الشافعي فإن تراضيا على أخذ النوع بدلا عن النوع الآخر جاز لأنهما جنس واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ويضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فجاز أخذ أحدهما عن الآخر كالنوع الواحد وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يجوز له أخذه للمعنى الذي منع لزوم أخذه وقال إبراهيم : لا تأخذ فرق سلمك في كيل ولا صفة ولنا أنهما تراضيا على دفع المسلم فيه من جنسه فجاز كما لو تراضيا على دفع الرديء مكان الجيد أو الجيد مكان الرديء وبهذا ينتقض ما ذكروه فإنه لا يلزم أخذ الرديء ويجوز أخذه ولأن المسلم أسقط حقه من النوع فلم يبق بنيهما إلا صفة الجودة وقد سمح بها صاحبها
فصل : إذا جاءه بالأجود فقال خذه وزدني درهما لم يصح وقال أبو حنيفة : يصح كما لو أسلم في عشرة فجاءه بأحد عشر لنا أن الجودة صفة فلا يجوز إفرادها بالعقد كما لوكا مكيلا أو موزونا فإن جاءه بزيادة في القدر فقال خذه وزدني درهما ففعلا صح لأن الزيادة ههنا يجوز افرادها بالعقد
فصل : وليس له إلا أقل ما تقع عليه الصفة لأنه إذا أسلم إليه ذلك فقد سلم إليه ما تناوله العقد فبرئت ذمته منه وعليه أن يسلم إليه الحنطة نفيه من التبن والقصل والشعير ونحوه مما لا يتناوله اسم الحنطة وإن كان فيه تراب كثير يأخذ موضعا من المكيال لم يجز وإن كان يسيرا لا يؤثر في المكيال لولا يعيبها لزمه أخذه ولا يلزمه أخذ التمر إلا جافا ولا يلزم أن يتناهى جفافه لأنه يقع عليه الاسم ولا يلزمه أن يقبل معيبا بحال ومتى قبض المسلم فيه فوجده معيبا فله المطالبة بالبدل أو الأرش كالمبيع سواء
فصل : ولا يقبض المكيل إلا بالكيل ولا الموزون إلا بالوزن ولا يقبضه جزافا ولا بغير ما يقدر به لأن الكيل والوزن يختلفان فإن قبضه بذلك فهو كقبضه جزافا فيقدره بما أسلم يه ويأخذ قدر حقه ويرد الباقي ويطالب بالعوض وهل له أن يتصرف في قدر حقه منه قبل أ يعتبره ؟ على وجهين مضى ذكرهما في بيوع الأعيان واختلفا في قدره فالقول قول القابض مع يمينه قال القاضي : ويسلم إليه ملء المكيال وما يحمله ولا يكون ممسوحا ولا يدق ولا يهز لأن قوله أسلمت إليك في قفيز يقتضي ما يسعه المكيال وما يحمله وهو ما ذكرنا

حكم أخذ الرهن والكفيل من المسلم إليه
مسألة : قال : ولا يجوز أن يأخذ رهنا ولا كفيلا من المسلم إليه
اختلفت الرواية في الرهن والضمين في السلم فروى المروذي وابن القاسم وأبو طالب منع لك وهو اختيار الخرقي وأبي بكر وروت كراهة ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والأوزاعي وروى حنبل جوازه ورخص فيه عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذرلقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } إلى قوله : { فرهان مقبوضة } وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أن المراد به السلم ولأن اللفظ عام فيدخل السلم في عمومه ولأنه أحد نوعي البيع فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان ووجه الأول أن الرهن الضمين أن أخذا برأس مال السلم فقد أخذا بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب لأن ذلك قد ملكه المسلم إليه إن أخذا بالمسلم فيه فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من الرهن ولا من ذمة الضامن ولأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] رواه أبو داود ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه فيكون في حكم أخذا العوض والبدل عنه وهذا لا يجوز
فصل : فإن أخذ رهنا أو ضمينا بالمسلم فيه ثم تقايلا السلم أ وفسخ العقد لتعذر المسلم فيه بطل الرهن لزوال الدين الذي به الرهن وبرئ الضامن وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال ولا يشترط قبضه في المجلس لأنه ليس بعوض ولو أقرضه ألفا وأخذ به رهنا ثم صالحه من الألف على طعام معلوم في ذمته صح وزوال الرهن لزوال دينه من الذمة وبقي الطعام في الذمة ويشترط قبضه في المجلس كيلا يكون بيع دين بدين فإن تفرقا قبل القبض بطل الصلح روجع الألف إلى ذمته برهنه لأنه يعود على ما كان عليه كالعصير إذا تخمر ثم عاد خلا وهكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في ذمته فالحكم مثل ما بينا في هذه المسألة
فصل : وإذا حكمنا بصحة ضمان السلم فلصاحب الحق مطالبه من شاء منهما وأيهما قضاه برئت ذمتهما منه فإن سلم المسلم فيه إلى الضامن ليدفعه إلى المسلم جاز وكان مكيلا وإن قال : خذه عن الذي ضمت عني لم يصح وكان قبضا فاسدا مضمونا عليه لأنه إنما استحق الأخذ بعد الوفاء فإن أوصله إلى المسلم برئ بذل كلأنه سلم إليه ما سلطه المسلم إليه في التصرف فيه وإن أتلفه فعليه ضمانه لأنه قبضه على ذلك وإن صالح المسلم الضامن عن المسلم فيه بثمنه لم يصح لأن هذا إقالة فلا يصح من غير المسلم إليه وإن صالح المسلم إليه بثمنه صح وبرئت ذمته وذمة الضامن لأن هذا إقالة وإن صالح على غير صمنه لم يصح لأنه بيع المسلم فيه قبل القبض
فصل : والذي يصح أخذ الرهن به كل دين ثابت في الذمة يصح استيفاؤه من الرهن كأثمان البياعات والأجرة في الإجارات والمهر وعوض الخلع والقرض وأرش الجنايات وقيم المتلفات ولا يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب ولا مآله إلى الوجوب كالدية على العاقلة قبل الحول لأنها لم تجب بعد ولا يعلم افضاؤها إلى الوجوب فإنهم لو جنوا أو افتقروا أو ماتوا لم تجب عليهم فلا يصح أخذ الرهن بها فأما بعد الحول فيجوز أخذ الرهن بها لأنها قد استقرت في ذمتهم ويحتلم جواز أخذ الرهن بها قبل الحلول لأن الأصل بقاء الحية واليسار والعقل ولا يجوز أخذ الرهن بالجعل في الجعالة قبل العمل لأنه لم يجب ولا يعلم إفضاؤها إلى الوجوب وقال القاضي : يحتمل أخذ الرهن به لأن مآله إلى الوجوب واللزوم فأشبهت أثمان البياعات والأولى أولى لأن قضاؤه إلى الوجوب محتمل فأشبهت الدية قبل الحول ويجوز أخذ الرهن به بعد العمل لأنه قد وجب ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة لأنه غبر لازم فإن للعبد تعجيز نفسه ولا يمكن استيفاء دينه من الرهن لأنه لو عجز صار الرهن للسيد لأه من جملة مال المكاتب وقال أبو حنيفة : يجوز
ولنا أنها وثيقة لا يمكن استيفاء الحق منها فلم يصح كضمان الخمر ولا يجوز أخذ الرهن بعوض المسابقة لأنها جعالة ولم يعلم إفضاءها إلى الوجوب لأن الوجوب إنما يثبت بسبق غير المخرج وهذا غير معلوم ولا مظنون وقال بعض أصحابنا فيها وجهان هل هي إجارة أو جعالة ؟ فإن قلنا هي إجارة جاز أخذ الرهن بعضوها وقال القاضي : إن لم يكن فيها محلل فهي جعالة وإن كان فيها محلل فعلى وجهين وهذا كله يبعد لأن الجعل ليس هو ي مقابلة العمل بدليل أنه لا يستحقه إذا كان مسبوقا وقد عمل العمل وإنما هو عوض عن السبق ولا تعلم القدرة عليه ولأنه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له وإذا لم تكن إجارة مع عدم المحلل فمع وجوده أولى لأن مستق الجعل هو السابق وهو غير معين ولا يجوز استئجار رجل غير معين ثم لو كانت إجارة لكن عوضها غير واجب في الحال و لا يعلم إفضاؤه إلى الوجوب ولا يظن فلم يجز أخذ الرهن به كالجعل في رد الآبق والقطة ولا يجوز أخذ الرهن بعضو غير ثابت في الذمة كالثمن المعين والأجرة المعينة في الإجارة والمعقود في الإجارة إذا كان منافع معينة مثل إجارة الدار والعبد المعين والجمل المعين مدة معلومة أو الحمل شيء معين إلى مكان معلوم لأن هذا حق تعلق بالعين لا بالذمة ولا يمكن استيفاؤه أحق من الرهن لأن منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها وتبطل الإجارة بتلف العين وإن وقعت الإجارة على لمنفعة في الذمة كخياطة ثوب وبناء دار جاز الرهن به لأنه ثبات في الذمة ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر من ثمنه من يعمل ذلك العمل فجاز أخذ الرهن به كالدين ومذهب الشافعي في هذا كله كما قلنا
فصل : فأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض ببيع فاسد والمقبوض على وجه السوم ففيها وجهان أحدهما : لا يصح الرهن بها وهو مذهب الشافعي لأن الحق غير ثابت في الذمة فأشبه ما ذكرنا ولأنه إن رهنه على قيمتها إذا تلفت فهو رهن على ما ليس بواجب ولا يعلم إفضاؤه إلى الوجوب ون أخذ الرهن على عينها لم يصح لأنه لا يمكن استيفاؤه عينها من الرهن فأشبه أثمان البياعات المتعينة والثاني : يصح أخذ الرهن بها وهو مذهب أبي حنيفة وقال : كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها يريد ما يضمن بمثله أو قيمته كالمبيع يجوز أخذ الرهن به لأنه مضمونه بفساد العقد لأن مقصود الرهن الوثيقة بالحق وهذا حاصل فإن الرهن بهذه الأعيان يحمل الراهن على أدائها وإن تعذر أداؤها استوفى بدلها من ثمن الرهن فأشبهت الدين في الذمة
فصل : قال القاضي : كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به وما لم يجز الرهن به لم يجز أخذ الضمين به إلا ثلاثة أشياء عهدة المبيع يصح ضمانها ولا يصح الرهن بها والكتابة لا يصح الرهن بدينها وفي ضمانها روايتان وما لم يجب لا يصح الرهن به ويصح ضمانه والفرق بنيهما من وجهين أحدهما أن الرهن بهذه الأشياء يبطل الإرفاق فإنه إذا باع عبده بألف ودفع رهنا يساوي ألفا فكأنه ما قبض ولا ارتفق به والمكاتب إذا دفع ما يساوي كتابته فما ارتفق بالأجل لأنه كان يمكنه بيع الرهن أو بقاء الكتابة ويستريح من تعطيل منافع عبده والضمان بخلاف هذا الثاني : أن اضرر الرهن يعم لأنه يدوم بقاؤه عند المشتري فيمنع البائع التصرف فيه والضمان بخلافه
فصل : إذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر وإن اختلفا في أداء المسلم فيه فالقول قول المسلم لذلك وإن اختلفا في قبض الثمن فالقول قول المسلم إليه لذلك وإن اتفقا عليه وقال أحدهما : كان في المجلس قبل الفرق وقال الآخر : بعده فالقول قول يدعي القبض في المجلس لأن معه سلامه العقد وإن أقام كل واحد من ما بينة بموجب دعواه قدمت أيضا بينته لأنها مثبته والأخرى نافية

باب القرض
باب القرض نوع من السلف وهو جائز بالسنة والإجماع أما السنة فروى أبو رافع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي صلى الله عليه و سلم إبل الصداقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال يا رسول الله لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا فقال : أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء ] رواه مسلم وعن ابن مسعود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة ] وعن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ قال : لأن السائل قال : لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ] رواهما ابن ماجة وأجمع المسلمون على جواز القرض

القرض وصحته من جائز التصرف
فصل : والقرض مندوب إليه في حق المقرض مباح للمقرض لما روينا من الأحاديث لما روى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ] وعن أبي الدرداء أنه قال : لأن أقرض بدينارين ثم يردان ثم أقراضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما ولأن فيه تفريجا عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته وعونا له فكان مندوبا إليه كالصدقة عليه وليس بواجب قال أحمد : لا إثم على من سئل القرض فلم يقرض وذلك لأه من المعروف فأشبه صدقة التطوع وليس بمكروه في حق المقرض قال أحمد : ليس القرض من المسألة يعني ليس بمكروه وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يستقرض بدلي حديث أبي رافع ولو كان مكروها كان أبعد الناس منه ولأنه إنما يأخذه بعوضه فأشبه الشراء بدين في ذمته قال ابن أبي موسى : لا احب أن يحتمل بأمانته ما ليس عنده يعني ما لا يقدر على وفائه ومن أراد أن يستقرض فليعلم من يسأله القرض بحاله ولا يغره من نفسه إلا أن يكون الشيء اليسير الذي لا يتعذر رد مثله قال أحمد إذا اقترض لغيره ولم يعلمه بحاله لم يعجبني وقال : ما أحب أن يقر بجاهه لاخوانه قال القاضي : يعين إذا كان من يقترض له غير معروف بالوفاء لكونه تغريرا بمال المقرض واضرارا أما إذا كان معروفا بالوفاء لم يكره لكونه إعانة له وتفريجا لكربته
فصل : ولا يصح إلا من جائز التصرف لأنه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع وحكمه في الإيجاب والقبول حكم البيع على ما مضى ويصح بلفظ السلف والقرض لورود الشرع بها وبكل لفظ يؤدي معناهما مثل أني يقول ملكتك هذا على أن ترد علي بدله أو تود قرينة دالة على إرادة القرض فإن قال : ملكتك ولم يذكر البدل ولا وجد ما يدل عليه فهو هبة فإن اختلفتا فالقول قول الموهوب له لأن الظاهر معه لأن التمليك من غير عوض هبة

عدم ثبوت الخيار في القرض وأحكامه
فصل : ولا يثبت فيه خيار ما لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ يرغيه فأشبه الهبة والمقترض متى شاء رده فيستغني بذلك عن ثبوت الخيار له ويثبت الملك في القرض بالقبض وهو عقد لازم في حق المقرض جائز في حق المقترض فلو أراد المقر ض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك وقال الشافع : له ذلك لأن كل ما يملك المطالبة بمثله مل أخذه إذا كان موجودا كالمغصوب والعارية
ولنا أنه أزال ملكه بعضو من غير خيار فلم يكن له الرجوع فيه كالمبيع ويفارق المغصوب والعارية فإنه لم يزل ملكه عنهما ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما وفي مسألتنا بخلافه فأما المقترض فله رد ما اقترضه على المقترض إذا كان على صفته لم ينقص ولم يحدث به عيب لأنه على صفة حقه فلزمه قبوله كالمسلم فيه وكما لو أعطاه غيره ويحتمل أن لا يلزم المقرض قبول ما ليس بمثلي لأن القرض فيه يوجب رد القيمة على أحد الوجهين فإذا رده بعينه لم يرد الواجب عليه فلم يجب قبوله كالمبيع
فصل : وللمقرض المطالبة ببدله في الحال لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات فأوجبه حالا كالإتلاف ولو أقرضه تفاريق ثم لطالبه بها جملة فله ذلك لأن الجميع حال فأشبه ما لو باعه بيوعا حالة ثم طالبه بثمنها جملة وإن أجل القرض لم يتأجل وكان حالا وكل دين حل ألج لم يصر مؤجلا بتأجيله وبهذا قال الحارث العكلي و الأوزاعي و ابن المنذر و الشافعي وقال مالك و الليث ويتأجل الجميع بالتأجيل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمنون عند شروطهم ] ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء فملكا الزيادة فيه كخيار المجلس وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف كقولنا وفي ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع كقولهما لأن الأجل يقتضي جزءا من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عضوه وبدل المتلف الواجب فيه المثل من غير زيادة ولا نقص فلذلك لم يتأجل وبقية الأعواض تجوز الزيادة فيها فجاز تأجيلها ولنا أن الحق يثبت حالا والتأجيل تبرع منه ووعد فلا يلزم الوفاء به كما أعاره شيئا وهذا لا يقع عليه اسم الشرط ولو سمي فالخبر مخصوص بالعارية فيحلق به مما اختلفا فيه لأنه مثله ولنا على أبي حنيفة أنها زيادة بعد استقرار العقد فأشبه القرض وأما الإقالة فهي فسخ وابتداء عقد آخر بخلاف مسألتنا وأما خيار المجلس فهو بمنزلة ابتداء العقد بدليل أنه يجزئ فيه القبض لما يشترط قبضه والتعين لما في الذمة

قرض المكيل والموزون ونبو آدم
فصل : ويجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض ما له مثل من المكيل والموزون والأطعمة حائز ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة سلما سوى بني آدم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز قرض غير المكيل والموزون لأنه لا مثل له أشبه الجواهر ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم استسلف بكرا وليس بمكيل ولا موزون ولأ ما يثبت سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف فجاز قرضه كالمكيل والموزون وقولهم لا مثل له خلاف أصلهم فإن عند أبي حنيفة لو أتلف على رجل ثوبا ثبت في ذمته مثله ويجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته فأما ما لا يثبت في الذمة سلما كالجواهر وشبهها فقال القاضي : يجوز قرضها ويرد المستقرض القيمة لأن ما لا مثل له يضمن بالقيمة والجواهر كغيرها في القيم وقال أبو الخطاب : لا يجوز قرضها لأن القرض يقتضي رد المثل وهذه لا مثل لها ولأنه لم ينقل قرضها ولا هي في معنى ما نقل القرض منه لكونها ليس من المرافق ولا يثبت في الذمة سلما فوجب ابقاؤها على المنع ويمكن بناء هذا الخلاف على الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون فإذا قلنا الواجب رد المثل لم يجز قرض الجواهر وما لا يثبت في الذمة سلما لتعذر رد مثلها وإن قلنا الواجب رد القيمة جاز قرضه لإمكان رد القيمة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : فأما بنو آدم فقال أحمد : أكره قرضهم فيحتمل كراهية تنزيه ويصح قرضهم وهو قول ابن جريج و المزني لأنه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان ويحتمل أنه أراد كراهة التحريم فلا يصح قرضهم اختاره القاضي لأنه لم ينقل قرضهم ولا هو من المرافق ويحتمل صحة قرض العبيد دون الاماء وهو مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوي محارمهن لأن الملك بالقرض ضعيف فإنه لا يمنعه من ردها على المقرض فلا يستباح به الوطء كالملك في مجة الخيار وإذا لم يبح الوطء لم يصح القرض لعدم القاتل بالفرق ولأن الابضاع مما يحتاط لها ولو أبحنا قرضهن أفضى إلى أن الرجل يستقرض أمة فيطؤها ثم يردها من يومه ومتى احتاج إلى وطئها استقراضها فوطئها ثم ردها كما يستعير المتاع فينتفع به ثم يرده ولنا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبيد والاماء كسائر العقود ولا نسلم ضعيف الملك فإنه مطلق لسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار وقولهم متى شاء المقترض ردها ممنوع فإننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لم يملك المقترض كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو يعيب فيها وإن وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع وكما لو أسلم جارية في أخرى موصوفة بصفاتها ثم ردها بعينا عند حلول الأجل ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطء لم يمنع منه في الجواري كالبيع في مدة الخيار وعدم القائل بالفرق ليس بشيء على ما عرف في مواضعه وعدم نقله ليس بحجة فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز

اقتراض الربويات
فصل : وإذا اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز لأن القرض فيها يوجب رد المثل فإذا لم يعرف المثل لم يمكن القضاء وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز لذلك ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجة غير معروفين عند العامة لم يجز لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد المثل فأشبه السلم في مثل ذلك وقال الإمام أحمد في ماء بين قوم لهم نوب في أيام مسماة فاحتاج بعضهم إلى أن يستقي في غير نوبته فاستقرض من نوبته غيره ليرد عليه بدله في يوم نوبته فلا بأس وإن كان غير محدود كرهته فكرهه إذا لم يكن محدودا لأنه لم يمكنه رد مثله وإن كانت الدراهم يتعامل بها عددا فاستقرض عددا رد عددا وإن استقرض وزنا وزنا وهذا قول الحسن و ابن سيرين و الأوزاعي واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا واعطاه بالبصرة عددا لأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل فيما يتعامل به الناس فأشبه ما لو كانوا يتعاملون بها وزنا فرد وزنا

أحكام القرض ورد المثل في المكيل والموزون
فصل : ويجب رد المثل في المكيل والموزون لا نعلم فيه خلافا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه عن أهل العلم على أن من أسلف سلفا مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله أن ذلك جائز وإن للمسلف آخذ ذلك ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله كذا ههنا فأما غير المكيل والموزون ففيه وجهان أحدهما : يجب رد قيمته يوم القرض لأنه لا مثل له فيضمنه بقيمته كحال الإتلاف والغصب والثاني : يجب رد مثله لأن النبي صلى الله عليه و سلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة فيه فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريبا فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم تعذر المثل لأن القيمة ثبتت في ذمته تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ ثبتت في ذمته

جواز قرض الخبز
فصل : ويجوز قرض الخبز ورخص فيه أبو قلابة و مالك ومنع منه أبو حنيفة ولنا أنه موزون فجاز قرضها كسائر الموزونات وإذا أقرضه بالوزن ورد مثله بالوزن جاز وإن أخذه عددا فرده عددا فقال الشريف أبو جعفر فيه روايتان إحداهما : لا يجوز لأنه موزون أشبه سائر الموزونات والثانية : يجوز قال ابن أبي موسى إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل فلا يحتاج إلى الوزن والوزن أحب إلي ووجه الجواز ما [ روت عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصانا فقال : لا باس إن ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل ] ذكره أبو بكر في الشافي بإسناده وفيه أيضا بإسناده [ عن معاذ بن جبل أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير فقال : سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق فخذ الكبير واعط الصغير وخذ الصغير واعط الكبير خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ذلك ] ولأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق اعتبار الوزن وتدخله المسامحة فجاز كدخول الحمام من غير تقدير أجرة والركوب في سفينة الملاح وأشباه هذا فإن شرط أن يعطيه أكثر مما أقرضه أو أجود أو أعطاه مثل ما أخذ وزاده كسرة كان ذلك حراما وكذل إن أقرضه صغيرا أن يعطيه كبيرا لأن الأصل تحريم ذلك وإنما أبيح لمشقة إمكان التحرز منه فإذا قصد أو شرط أو افردت الزيادة فقد أمكن التحرز منه فحرم الأصل كما لو فعل ذلك في غيره

النهي عن كل قرض جر منفعة للمقرض
فصل : وكل قرض شرط يه أن يزيده فهو حرام بغي خلاف قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فاسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد ارفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحا أو نقدا ليعطيه خيرا نمنه وإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر وكان لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة وإن لم يكن لحمله مؤنة جاز وحكاه ابن المنذر عن علي و ابن عباس و الحسن بن علي و ابن الزبير و ابن سيرين و عبد الرحمن بن الأسود و أيوب السختياني و الثوري و أحمد و إسحاق كرهه الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب و عبدة بن أبي لبابة و مالك و الأوزاعي و الشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد على من شرط أن يكتب له بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا وقال عطاء : كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه فسئل عن ذلك عن ابن عباس فلم ير به بأسا وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأسا وممن لم ير به بأسا ابن سيرين و النخعي رواه كله سعيد وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيه في بلد أخرى ليربح خطر الطريق والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضر فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة وإن شرط في القرض أن يؤجره داره أو يبيعه شيئا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن بيع وسلف ولأنه شرط عقدا فلم يجز كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها أو على أن يهدي له هدية أو يعمل له عملا كان أبلغ في التحريم وإن فعل ذلك عن غير شرط قبل الوفاء لم يقبله ولم يجز قبوله إلا أن يكافئه أو يحبسه من دينه إلا أن يكون شيئا جرت العادة به بينهما قبل القرض لما روى الأثرم أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما فجعل يهدي إليه السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال : أعطه سبعة دراهم وعن ابن سيرين أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم فأهدي إليه أبي بن كعب من ثمرة أرضه فردها عليه ولم يقبلها فأتاه أبي فقال : لقد علم أهل المدنية أني من أطيبهم ثمرة وأنه لا حاجة لنا فيم منعت هديتنا ؟ ثم أهدي إليه بعد ذلك فقبل وعن زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق فقال : إنك تأتي أرضا فاش فيها الربا فإن أقرضت رجلا قرضا فأتاك بقرضك ومعه هدية فاقبض قرضك واردد عليه هديته رواهما الأثرم وروى البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قدمت فلقيت عبد الله بن سلام وذكر حديثا وفيه ثم قال لي : إنك بأرض فهيا الربا فاش فإذا كان لك على رجل دين فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قلت فلا تأخذه فإنه ربا قال ابن أبي موسى : ولو أقرضه قرضا ثم استعمله عملا لم يكن ليستعمله مثله قبل القرض كان قرضا جرد منفعة ولو استضاف غريمة ولم يكن العادة جرت بينهما بذلك حسب له ما أكله لما روى ابن ماجة في سننه عن أنس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك ] وهذا كله في مدة القرض فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

جواز قضاء الدين بخير منه لاشتراطه
فصل : فإن أقرضه مطلقا من غير شرط فقضاؤه خيرا نه في القدر أو الصفة أو دونه برضاهما جاز وكذلك إن كتب له بها سفتجة أو قضاء في بلد آخر جاز ورخص ف ذل كبان عمر و سعيد بن المسيب و الحسن و النخعي و الشعبي و الزهري و مكحول و قتادة و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو الخطاب : إن قضاه يخرا منه أو زاده بعد الوفاء من غير مواطأة فعلى روايتين وروي عن أبي بن كعب و ابن عباس و ابن عمر أنه يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلا لأنه إذا أخذ فضلا كان قرضا جر منفعة
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استسلف بكرا فرد خيرا منه وقال : خيركم أحسنكم قضاء ] متفق عليه وللبخاري أفضلكم أحصنك قضاء ولأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضا في القرض ولا وسيلة إيه ولا إلى استيفاء دينه فحلت كما لو لم يكن قرض قال ابن موسى : إذا زاده بعد الوفاء فعاد المستقرض بعد ذلك يلتمس منه قرضا ثانيا ففعل لم يأخذ نه لا مثل ما أعطاه فإن أخذ زيادة أو أجود مما أعطاه كان حراما قولا واحدا وإن كان الرجل معروفا بحسن القضاء لم يكره اقراضه وقال القاضي : فيه وجه آخر انه يكره لأنه يطمع في حسن عادة وهذا غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان معروفا بحسن القضاء فهل يسوغ لأحد أن يقول مسألته وتفريج كرتبه فلا يجوز أن يكون ذلك مكروها وإنما يمنع من الزيادة المشروطة ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز بصحاح أقل منها فأخذها بجميع حقه لم يجز قولا واحدا لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا

حكم إذا شرط أن يوفيه النقص مما أقرضه والحكم فيه
فصل : وإن شرط في القرض أن يوفه انقص مما أقرضه وكان ذلك مما يجري فيه الربا لم يجز لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه وإن كان في غيره لم يجز أيضا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وفي الوجه الآخر يجوز لأن القرض يقتضي النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة
فصل : ولو اقترض من رجل نصف دينار فدفع إليه دينارا صحيحا وقال : نصفه قضاء ونصفه وديعة عندك أو سلما في شيء صح وإن امتنع المقرض من قبوله فله ذلك لأن عليه في الشركة ضررا ولو اشترى بالنصف الثاني من الدينار سلعة جاز إلا أن يكون ذلك من مشارطة فقال : أقضيك صحيحا بشرط أي آخذ منك بنصفه الباقي فإنه لا يجوز لأنه لم يدفع إليه صحيحا إلا ليعطيه بالنصف الباقي فضل ما بين الصحيح والمكسور من النصف المقضي ولو لم يكن شرطا جاز فإن ترك النصف الآخر عنده وديعة جاز وكانا شريكين فيه وإن اتفقا على كسره كسراه فإن اختلفا لم يجبر أحدهما على كسره لأنه ينقص قيمته
فصل : ولو أفلس غريمه فأقرضه ألفا ليوفيه كل شهر شيئا معلوما جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء ما هو مستحق له ولو كان عليه حنطة فأقرضه ما يشتري به حنطة يوفيه إياها لم يكن محرما لذلك ولو أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلا على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ عليها شيئا ولو أقرض اكاره ما يشتري به بقرا بعمل عليها في أرضه أو بذرا يبذره فيها فإن شرط ذلك في القرض لم يجز لأنه شرط ما ينتفع به فأشبه شرط الزيادة وإن لم يكن شرطا فقال ابن أبي موسى : لا يجوز لأنه قرض جر منفعة قال ولو قال اقرضي ألفا وادفع إلي أرضك أزرعها بالثلث كان خبيثا والأولى جواز ذلك إذا لم يكن مشروطا لأن الحاجة داعية إليه والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه وإنما يحصل انتفاع المقرض ضمنا فأشبه أخذ السفتجة به وإيفاءه في بلد آخر ولأنه مصلحة لهما جميعا فأشبه ما ذكرنا

جواز اقراض الغريم المفلس لوفاء دينه
فصل : قال أحمد فيمن اقترض من رجل دراهم وابتاع بها منه شيئا فخرجت زيوفا فالبيع جائز ولا يرجع عليه شيء يعني لا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن لأنها دراهمه فعيبها عليه وإنما له على المشتري بدل ما أقرضه إياه بصفته زيوفا وهذا يحتمل أن أراد فيما إذا باعه السلعة بها وهو يعمل عيبها فأما إن باعه في ذمته بدارهم ثم قبض هذه بدلا عنها غير عالم بها فينبغي أن يجب له دراهم خالية من العيب ويرد هذه عليه وللمشتري ردها على البائع وفاء عن القرض ويبقى الثمن في ذمته وإن حسبها على البائع وفاء عن القرض ووفاه الثمن جيدا جاز قال : ولو أقرض رجلا دراهم وقال : إذا مت فأنت في حل كانت وصية وإن قال : وإن مت فأنا في حل لم يصح وذلك لأن هذا إبراء معلق على شرط ولا يصح تعليقه على الشروط والأول وصية لأنه علق ذلك على موت نفسه والوصية جائزة قال : ولو أقرضه تسعين دينارا بمائة عددا والوزن واحد وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز وإن كانت تنفق برؤوسها فلا وذلك زيادة لأن التسعين من المائة تقوم مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة ولا يجوز اشتراط الزيادة وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن كثر عددها قال : ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس ولو قال اكفل عني ولك ألف لم يجز وذلك لأن قوله اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت كما لو قال ابن لي هذا الحائط ولك عشرة وأما الكفالة فإن الكفيل يلزمه الدين فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز

وجوب قرض المثل أو المعين في القرض
فصل : قد ذكرنا أن المستقرض يرد المثل في المثليات سواء رخص سعره أو غلاه أو كان
بحالة ولو كان ما أقرضه موجودا بعينه فرده من غير عيب يحدث فيه لزم قبوله سواء تغير سعره أو لم يتغير وإن حدث به عيب لم يلزمه قبوله وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها لأنها تعيبت في ملكه نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال : يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه وسواء نقصت قيمتها قليلا أو كثيرا قال القاضي : هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها وقال مالك والليث بن سعد والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى نقص سعرها ولنا ان التحريم السلطان لها منع انفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان كثيرا مثل أن كانت عشرة بداقن فصارت عشرين بدانق أو قليلا لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت
فصل : وإذا أقرضه ما لحمله مؤنة ثم طالبه بمثله ببلد آخر لم يلزمه لأنه لا يلزمه حمله له إلى ذلك البلد فإن طالبه بالقيمة لزمه لأنه لا مؤنة لحمها فإن بترع المستقرض بدفع المثل وأبى المقرض قبوله فله ذلك لأن لعيه ضررا في قبضه لأنه ربما احتاج إلى حمله إلى المكان الذي أقرضه فيه وله المطالبة بقيمة ذلك في البلد الذي أقرضه فيه لأنه المكان الذي يجب التسليم فليه وإن كان القرض أثمانا أو ما لا مؤنة في حمله وطالبه بها وهما ببلد آخر لزمه دفعه إليه لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد
فصل : وإن أقر ذمي ذميا خمرا ثم أسلما أو أحدهما بطل القرض ولم يجب على المقترض شيء سواء كان هو المسلم أو الآخر لأنه إذا أسلم لم يجز أن يجب عليه خمر لعدم ماليتها ولا يجب بدلها لأنها لا قيمة لها ولذلك لا يضمنها إذا أتلفها وإن كان المسلم الآخر لم يجب له شيء لذلك

كتاب الرهن
الرهن هو اللغة الثبوت والدوام يقال ماء راهن أي راكد ونعمة راهنة أي ثابتة دائمة وقيل هو من الحبس قال الله تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } وقال : { كل نفس بما كسبت رهينة } وقال الشاعر :
( وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا )
شبه لزوم قلبه لها واحتباسه عندها لشدة وجده بها بالرهن الذي يلزمه المرتهن فيبقيه عنده ولا يفارقه وغلق الرهن استحقاق المرتهن إياه لعجز الراهن عن فكاكه والرهن في الشرع المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وتقرأ { فرهان } والرهان جمع رهن والرهن جمع الجمع قال الفراء وقال الزجاج : يحتمل أن يكون جمع رهن مثل سقف وسقف وأما السنة فروت عائشة رضي الله عنها [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه ] متفق عليه وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال [ قال رسول الله صلى لله عليه وسلم : الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ] رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يغلق الرهن ] وأما الإجماع فأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة

الرهن في الحضر والسفر وحكمه وأحواله
فصل : ويجوز الرهن في الحضر كما يجوز في السفر قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا مجاهدا قال : ليس الرهن إلا في السفر لأن الله تعالى شرط السفر في الرهن بقوله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعه وكانا بالمدنية ولأنها وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر كالضمان فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب لكون الكاتب يعدم في السفر غالبا ولهذا لم يشترط عدم الكاتب وهو مذكور معه أيضا
فصل : والرهن غير واجب لا نعلم فيه مخالفا لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة وقول الله تعالى : { فرهان مقبوضة } إرشاد لنا لا إيجاب علينا بدليل قول الله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } ولأنه أمر به عند اعواز الكتابة والكتابة غير واجبة فكذلك بدلها
فصل : ولا يخلو الرهن من ثلاثة أحوال أحدها : أن يقع بعد الحق فيصح بالإجماع لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى أخذ الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولأن الله تعالى قال : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فجلعه بدلا عن الكتابة فيكون في محلها ومحلها بعد وجوب الحق وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } فجعله جزاء للمداينة مذكورا بعدها بفاء التعقيب الحال الثاني : أن يقع الرهن مع العقد الموجب للدين فيقول بعتك ثوبي هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها عبدك سعدا فيقول قبلت ذلك فيصح أيضا وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الحاجة داعية إلى ثبوته فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترطه فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده وكانت الخيرة إلى المشتري والظاهر أنه لا يبذله فتفوت الوثيقة بالحق الحال الثالث : أن يرهنه قبل الحق فيقول رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها فلا يصح في ظاهر المذهب وهو اختيار أبي بكر والقاضي وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية ابن منصور وهو مذهب الشافعي واختار أبو الخطاب أنه يصح فمتى قال رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها غدا وسلمه إلي ثم أقرضه الدراهم لزم الرهن وهو مذهب مالك و أبي حنيفة لأنه وثيقة بحق فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل كضمان الدرك
ولنا أنه وثيقة لا يلزم قبله فلم تصح قبله كالشهادة ولأن الرهن تابع للحق فلا يسبقه كالشهادة والثمن لا يتقدم البيع وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال تبرعا بالقول فجاز من غير حق ثابت كالنذر بخلاف الرهن

ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضا من جائز الأمر
مسألة : قال : ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضا من جائز الأمر
يعني لا يلزم الرهن إلا بالقبض وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال بعض أصحابنا : ما كان مكيلا أو موزونا لا يلزم رهنه إلا بالقبض وفيما عداهما روايتان إحداهما : لا يلزم إلا بالقبض والأخرى : يلزم بمجرد العقد كالبيع وقد نص أحمد على هذا في رواية الميموني وحمل القاضي كلام الخرقي على المكيل والموزون خاصة وليس بصحيح فإن كلام الخرقي مع عمومه قد اتبعه بما يدل على إرادة التعميم وهو قوله : فإن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا وإن كان مما لا ينقل كالدور والأرضين فقبضه بتخلية راهنة بينه وبنيه وقال أحمد : في الدار والجارية إذا ردها إلى الراهن لم يكن رهنا في الحال وهذا كقول الخرقي وقال مالك : يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض لأنه عقد يلزم بالقبض فلز قبله كالبيع ولنا قول الله تعالى : { فرهان مقبوضة } وصفها بكونها مقبوضة ولأنه عقد ارفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض ولأنه رهن لم يقبض فلا يلزم إقباضه كما لو مات الراهن ولا يشبه البيع فإنه معاوضة وليس بارفاق وقول الخرقي من جائز الأمر يعني أن الراهن الذي يرهن ويقبض يكون جائز التصرف في ماله وهو الحر المكلف الرشيد ولا يكون محجورا عليه لصغر أو جنون أو سفه أو فليس ويعتبر ذلك في حال رهنه واقباضه لأن العقد والتسليم ليس بواجب وإنما هو إلى اختيار الراهن فإذا لم يكن له اختيار صحيح لم يصح ولأنه نوع تصرف في المال فلم يصح من المحجور عليه من غير إذن كالبيع فإن جن أحد المتراهنين قبل القبض أو مات لم يبطل الرهن لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم يبطل بجنون واحد المتعاقدين أو موته كالبيع الذي فيه الخيار ويقوم ولي المجنون مقامه فإن كان المجنون الراهن وكان الحظ في التقبيض مثل أن يكون شرطا في بيع يستضر بفسخ ونحوه أقبضه وإن كان الحظ في تركه لم يجز له تقبيضه وإن كان المجنون المرتهن قبضه وليه إن اختار الراهن وإن امتنع لم يجبر وإذا مات قام وارثه مقامه في القبض فإن مات الراهن لم يلزم ورثته تقبيضه لأنهم يقومون مقام الراهن ولم يلزمه ذلك فإن لم يكن على الميت دين سوى هذا الدين فأحب الورثة تقبيض الرهن جاز وإن كان عليه دين سواه فظاهر المذهب أنه ليس للوارث تخصيص المرتهن بالرهن نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد وهو مذهب الشافعي وذكر القاضي فيه رواية أخرى أن لهم ذلك أخذا مما نقل ابن منصور وأبو طالب عن أحمد أنه قال : إذا مات المراهن أو أفلس فالمرتهن أحق به من الغرماء ولم يعتبر وجود القبض بعد الموت أو قبله وهذا لا يعارض ما نقله علي بن سعيد لأنه خاص وهذا عام والاستدلال به على هذه الصورة يضعف جدا لندرتها فكيف يعارض به الخاص لكن يجوز أن يكون هذا الحكم مبنيا على الرواية التي لا يعتبر فيها القبض في غير المكيل والموزون فيكون الرهن قد لزم قبل القبض ووجب تقبيضه على الرهن فكذلك على وراثه ويختص هذا بما عدا المكيل والموزون وأما ما لم يلزم الرهن فيه فليس للورثة تقبيضه لأن الغرماء تعلقت ديونهم بالتركة قبل لزوم حقه في الرهن فلم يجز تخصيصه به بغير رضاهم كما لو أفلس الراهن إلا إذا قلنا أن للورثة التصرف في التركة ووفاء الدين من أموالهم فإن قيل فما الفائدة في القول بصحة الرهن إذا لم يختص به المرتهن ؟ قلنا فائدته أنه يحتمل أن يرضى الغرماء بتسليمه إليه فيتم الرهن ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين ما قبل الإذن في القبض وما بعده لكون الإذن يبطل بالجنون والموت والإغماء والحجر

تصرف الراهن في الرهن قبل القبض واشتراط استدامة القبض
فصل : ولو حجر على الراهن لفلس قبل التسليم لم يكن له تسليمه لأن فيه تخصيصا للمرتهن بثمنه وليس له تخصيص بعض غرمائه وإن حجر عليه لسفه فحكمه حكم ما لو زال عقله بجنون على ما أسلفناه وإن أغمي عليه لم يكن للمرتهن قبض الرهن وليس لأحد تقبيضه لأن المغمى عليه لا ولاية عليه وإن أغمي على المرتهن لم يكن لأحد أن يقوم مقامه في قبض الرهن أيضا وانتظر إفاقته وإن خرس وكانت له كتاب مفهومة أو إشارة معلومة فحكمه حكم المتكلمين إن أذن في القبض جاز وإلا فلا وإن لم تفهم إشارته ولا كتابته لم يجز القبض وإن كان أحد هؤلاء قد أذن في القبض فحكمه حكم من لم يأذن لأن إذنهم يبطل بما عرض لهم وجميع هذا تناوله قول الخرقي من جائز الأمر وليس أحد من هؤلاء جائز الأمر
فصل : إذا تصرف الراهن في الرهن قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا بطل الرهن الأول سواء أقبض الهبة والمبيع والرهن الثاني أولم يقبضه لأنه أخرجه عن إمكان استيفاء الدين من ثمنه أو فعل ما يدل على قصده ذلك وإن بدر العبد أو أجره أو زوج الأمة لم يبطل الرهن لأن هذا التصرف لا يمنع البيع فلا يمنع صحة الرهن ولأنه لا يمنع ابتداء الرهن فلا يقطع استدامته كاستخدامه وإن كاتب العبد انبنى على صحة رهن المكاتب فإن قلنا يجوز رهنه لم يبطل رهنه وإن قلنا لا يجوز رهنه بطل رهنه كما لو أعتقه
فصل : واستدامة القبض شرط للزوم الرهن فإذا أخرجه المرتهن عن يده باختياره زال لزوم الرهن وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق قال أحمد في رواية ابن منصور : إذا ارتهن دارا ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا وقال : فيمن رهن جارية ثم سأل المرتهن أن يبعثها إليه لتخبر لهم فبعث بها فوطئها انتقلت من الرهن فإن لم يكن وطئها فلا شيء قال أبو بكر : لا يكون رهنا في تلك الحال فإذا ردها رجعت إلى الرهن وممن أوجب استدامة القبض مالك و أبو حنيفة وهذا على القول الصحيح فأما على قول من قال ابتداء القبض ليس بشرط فأولى أن يقول : الاستدامة غير مشترطة لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في الاستدامة قال أبو الخطاب : إذا قلنا القبض شرط في الابتداء كان شرطا في الاستدامة وقال الشافعي : استدامة القبض ليست شرطا لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم يشترط استدامته كالهبة ولنا قول الله تعالى : { فرهان مقبوضة } لأنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيها شرطا كالابتداء ويفارق الهبة لأن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانيا والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء دينه من ثمنه فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه ولم تحصل وثيقة وإن أزيلت يد المرتهن لغير حق كغصب أو سرقة أو إباق العبد أو ضياع المتاع ونحو ذلك لم يزل لزوم الرهن لأن يده ثابتة حكما فكأنها لم تزل
فصل : وليس للمرتهن قبض الرهن إلا بإذن الراهن لأنه لا يلزمه تقبيضه فاعتبر إذنه في قبضه كالواهب فإن تعدى المرتهن فقبضه بغير إذن لم يثبت حكمه وكان بمنزلة من لم يقبض وإن أذن الراهن في القبض ثم رجع عن الإذن قبله زال حكم الإذن وإن رجع عن الإذن بعد قبضه لم يؤثر رجوعه لأن الرهن قد لزم لاتصال القبض به وكل موضع زال لزوم الرهن لزوال القبض اعتبر الإذن في القبض الثاني لأنه قبض يلزم به الرهن أشبه الأول ويقوم ما يدل على الإذن مقامه مثل إرساله العبد إلى مرتهنه ورده لما أخذه من المرتهن إلى يده ونحو ذلك لأن ذلك دليل على الإذن فاكتفى به كدعاء الناس إلى الطعام وتقديمه بين أيديهم يجري الإذن في أكله

والقبض فيه وجهين فإن كان مما ينقل قبض المرتهن له أخذه إياه وإن كان مما لا ينقل
مسألة : قال : والقبض فيه من وجهين فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنة منقولا وإن كان مما لا ينقل كالدور والأرضين فقبضه تخلية راهنة بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه
وجملة ذلك أن القبض في الرهن كالقبض في البيع والهبة فإن كان منقولا نقله أو تناوله وإن كان أثمانا أو شيئا خفيفا يمكن قبضه باليد فقبضه تناوله بها وإن كان مكيلا رهنه بالكيل أو موزونا رهنه بالوزن فقبضه اكتياله أو اتزانه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا سميت الكيل فكل ] وإن ارتهن الصبرة جزافا أو كان ثيابا أو حيوانا فقبضه نقله لـ [ قول ابن عمر : كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا النبي صلى الله عليه و سلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ] متفق عليه وإن كان الرهن غير منقول كالعقار والثمرة على الشجرة فقبضه التخلية بين مرتهنه وبينه من غير حائل بأن يفتح له باب الدار أو يسلم إليه مفتاحها وإن خلى بينه وبنيها وفيها قماش للراهن صح التسليم لأن اتصالها بملك الراهن لا يمنع صحة التسليم كالثمرة في الشجرة وكذلك لو رهنه دابة عليها حمل للراهن فسلمها إليه صح التسليم ولو رهن الحمل وهو على الدابة وسلمها إليه بحملها صح القبض لأن القبض حصل فيهما جميعا فيكون موجودا في الرهن منهما
فصل : وإن رهنه سهما مشاعا مما لا ينقل خلى بينه وبين سواء حضر الشريك أو لم يحضر وإن كان منقولا كالجوهرة يرهن نصفها فقبضها تناولها ولا يمكن تناولها إلا برضا الشريك فإن رضي الشريك تناولها وإن امتنع الشرك فرضي المرتهن والراهن بكونها في يد الشريك جاز وناب عنه في القبض وإن تنازع الشريك والمرتهن نصب الحاكم عدلا لا تكون في يده لهما وإن ناولها الراهن للمرتهن بغير رضا الشريك فتناولها فإن قلنا استدامة القبض شرط لم يكلفه ذلك تناول وإن قلنا ليس بشرط فقد حصل القبض لأن الرهن حصل في يده مع التعدي في غيره فأشبه ما لو رهنه ثوبا فسلمه إليه مع ثوب لغيره فتناولهما معا ولو رهنه ثوبا فاشتبه عليه بغيره فسلم إليه أحدهما لم يثبت القبض لأنه لا يعلم أنه أقبضه الرهن فإن تبين أنه الرهن تبين صحة التسليم وإن سلم إليه الثوبين معا حصل القبض لأنه قد تسلم الراهن يقينا
فصل : ولو رهنه دارا فخلى بينه وبينها وهما فيها ثم خرج الراهن صح القبض وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها ولأنه ما كان في الدار فيده عليها فما حصلت التخلية ولنا أن التخلية تصح بقوله مع التمكين منها وعدم المانع فأشبه ما لو كانا خارجين عنها ولا يصح ما ذكره ألا ترى أن خروج المرتهن منها لا يزيل يده عنها ودخوله إلى دار غيره لا يثبت يده عليها ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله فلا معنى لإعادة التخلية
فصل : وإن رهنه مالا له في يد المرتهن عارية أو وديعة أو غصبا أو نحوه صح الرهن لأنه مالك له تمكن قبضه فصح رهنه كما لو كان في يده وظاهر كلام أحمد لزوم الرهن بنفس العقد من غير احتياج إلى أمر زائد فإن قال إذا حصلت الوديعة في يده بعد الرهن فهو فلم يعتبر أمرا زائدا وذلك لأن اليد ثابته والقبض حاصل وإنما يتغير الحكم لا غير ويمكن تغير الحكم مع استدامة القبض كما لو طولب بالوديعة فجحدها لتغير الحكم وصارت مضمونه عليه من غير أمر زائد ولو عاد الجاحد فأقر بها وقال لصاحبها خذ وديعتك فقال دعها عندك وديعة كما كانت ولا ضمان عليك فيها لتغير الحكم من غير حدوث أمر زائد وقال القاضي وأصحاب الشافعي : لا يصير رهنا حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها فإن كان منقولا فبمضي مدة يمكن نقله فيها وإن كان مكيلا فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية وإن كان غائبا عن المرتهن لم يصر مقبوضا حتى يوافيه هو أو وكيله ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها لأن العقد يفتقر إلى القبض والقبض إنما يحصل بفعله أو بإمكانه ويكفي ذلك ولا يحتاج إلى وجود حقيقة القبض لأنه مقبوض حقيقة فإن تلف قبل مضي مدة يأتي قبضه فيها فهو كتلف الرهن قبل قبضه ثم هل يفتقر إلى الأذن من الراهن في القبض ؟ يحتمل وجهين أحدهما : يفتقر لأنه قبض يلزم به عقد لازم فلم يحصل بغير إذا كما لو كان في يد الراهن وإقراره في يده لا يكفي كما لو أقر المغصوب في يد غاصبه مع إمكان أخذه منه والثاني : لا يفتقر إلى إذن في القبض لأن إقراره له في يده بمنزلة في القبض فإن أذن له في القبض ثم رجع عنه قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها لم يلزم الرهن حتى يعود فيأذن صم تمضي مدة يقبضه في مثلها

رهن المضمون كالمغصوب
فصل : فإذا رهنه المضمون كالمغصوب والعارية والمقبوض في بيع فاسد أو على وجه السوم صح وزال الضمان وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يزول الضمان ويثبت فيه حكم الرهن والحكم الذي كان ثابتا فيه يبقى بحاله لأنه لا ينافي بنيهما بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضمونا ضمان الغصب وهو رهن كما كان فكذلك اتبداؤه لأنه أحد حالتي الرهن
ولنا أنه مأذون له في إمساكه رهنا لم يتجدد منه فيه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه إياه أو أبرأه من ضمانه وقولهم لا تنافي بنيهما ممنوع فإن الغاصب يده عادية يجب عليه إزالتها ويد المرتهن محقة جعلها الشرع له ويد المرتهن يد أمانة ويد الغصب والمستعير ونحوهما يد ضامنه وهذان متنافيان ولأن السبب المقتضي للضمان زال فزال الضمان لزواله كما لو رده إلى مالكه وذلك لأن سبب الضمان الغصب والعارية ونحوهما وهذا لم يبق غاصبا ولا مستعيرا ولا يبقى الحكم مع زوال سببه وحدوث سبب يخالف حكمه حكمه وأما إذا تعدى في الرهن فإنه يلزمه الضما لعدوانه لا لكونه غاصبا ولا مستعيرا وههنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه فلم يثبت
فصل : ويجوز أن يوكل في قبض الرهن ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر أحكامه وإن وكل المرتهن الراهن في قبض الرهن له نفسه لم يصح ولم يكن ذلك قبضا لأن الرهن وثيقة ليستوفي الحق منه عند تعذر استيفائه من الراهن فإذا كان في يد الراهن لم يحصل معنى الوثيقة وقد ذكرنا في البيع أن المشتري لو دفع إلى البائع غرارة وقال : كل حقي في هذه ففعل كان ذلك قبضا فيخرج ههنا كذلك

الاقرار بالرهن وتلف بعضه
فصل : وإذا أقر الراهن بتقبيض الرهن أو أقر المرتهن بقبضه كان ذلك مقبولا فيما يمكن صدقهما فيه وإن أقر الراهن بالتقبيض ثم أنكره وقال : أقررت بذلك ولم أكن قبضت شيئا أو أقر المرتهن بالقبض ثم أنكر فالقول قول المقر له فإن طلب المنكر يمينه ففيه وجهان أحدها : لا يلزمه يمين لأن الإقرار أقوى من البينة ولو قامت البينة بذلك وطلب المشهود عليه يمين خصمه لم يقبل منه فكذلك الإقرار والثاني : يلزمه اليمن وهو قول الشافعي في منصوصه لأن العادة جارية بأن الإنسان يشهد على نفسه بالقبض قبله فتسمع ولو فعلت ذلك لم تكن بينة عادلة وقال القاضي : إن كان المقر غائبا فقال أقررت فإنها لا تشهد بالحق قبله ولو فعلت ذلك لم تكن بينه عادلة وقال القاضي : إن كان المقر غائبا فقال أقررت لأن وكيلي كتب إلي بذلك ثم بان لي خلافه سمعنا قوله وأحلفنا خصمه وإن أقر أنه باشر ذلك بنفسه ثم عاد فأكذب نفسه لم يحلف خصمه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي فأما إن اختلفا في القبض فقال المرتهن قبضته وأنكر الراهن فالقول قول من هو في يده لأنه إن كان في يد الراهن فالأصل معه وهو عدم الاقباض ولم يوجد ما يدل على خلافه وإن كان في يد المرتهن فقد وجد القبض لكونه لا يحصل في يده إلا بعد قبضه وإن اختلفا في الإذن فقال الراهن : أخذته بغير إذني قال بل بإذنك وهو في يد المرتهن فالقول قوله لأن الظاهر معه فإن العقد قد وجد ويده تدل على أنه بحق ويحتلم أن يكون القول قول الراهن لأن الأصل عدم الإذن وهذا مذهب الشافعي وذكر القاضي هذين الوجهين
فصل : وإذا رهنه عينين فنلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ العقد فيها دون الباقية لأن العقد كان صحيحا فيهما وإنما طرأ انفساخ العقد في إحداهما فمل يؤثر كما لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما بعيب أو خيار أو إقالة والراهن مخير بين اقباض الباقية وبين منعها وإن كان التلف بعد قبض الأخرى فقد لزم الرهن فيها فإن كان الرهن مشروطا في بيع ثبت للبائع الخيار لتعذر الرهن بكماله فإن رضي لم يكن له المطالبة ببدل التالفة لأن الرهن لو تلف كله لم يكن له خيار فإذا تلف بعضه أولى ثم إن كان تلفها بعد قبض العين الأخرى فقد لزم الرهن فيها وإن كان قبل قبض الأخرى فالراهن مخير بين اقباضها وبين تركه فإن امتنع من تقبيضها ثبت للبائع الخيار كما لو لم تتلف الأخرى
فصل : وإن رهنه دارا فانهدمت قبل قبضها لم ينفسخ عقد الرهن لأن ماليتها لم تذهب بالكلية فإن عرصتها وأنقاضها باقية ويثبت للمرتهن الخيار إن كان الرهن مشروطا في بيع لأنها تعيبت ونقصت قيمتها فإن قيل فلم ينفسخ عقد الرهن كما تنفسخ الإجارة ؟ قلنا الإجارة عقد على منفعة السكنى وقد تعذرت وعدمت فبطل العقد لعدم المعقود عليه والرهن عقد استيثاق يتعلق بالأعيان التي فيها المالية وهي باقية فعلى هذا تكون العرصة والانقاض من الأخشاب والأحجار ونحوها من الرهن لأن العقد ورد على جميع الأعيان والانقاض منها وما دخل في العقد استقر بالقبض

رهن كل شيء يجوز بيعه
فصل : وكل عين جاز بيعها جاز رهنا لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين لتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن إن تعذر استيفاؤه م ذمة الراهن وهذا يتحقق في كل عين جاز بيعها ولأن ما كان محلا للبيع كان محلا لحكمة الرهن ومحل الشيء محل لحكمته إذا أن يمنع مانع من ثبوته أو يفوت شرط فينتفي الحكم الانتفائه فيصح رهن المشاع لذلك وبه قال ابن أبي ليلى و مالك والبتي و الأوزاعي و سوار و العنبري و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي : لا يصح رهنه إلا أن يرهنه من شريه أو يرهنها الشريكان من رجل واحد أو يرهن رجلا داره من رجلين فيقبضانها معا لأنه عقد تخلف عنه مقصودة لمعنى الشريكان من رجل واحد أو يرهن رجلا داره من رجلين فيقبضانها معا لأه عقد تخلف عنه مقصوده لمعنى اتصل به فلم يصح كما لو تزوج أخته من الرضاع بيانه أن مقصوده الحبس الدائم والمشاع لا يمكن المرتهن حبسه لأن شريكه ينتزعه يوم نوبته ولأن استدامة القبض شرط وهذا يستحق زوال اليد عنه لمعنى قارن العقد فلم يصح رهنه كالمغصوب ولنا أنها عين يجوز بيعها في محل الحق فيصح رهنا كالمفرزة ولا نسلم أن مقصوده الحبس بل مقصوده استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من غيره والمشاع قابل لذلك ثم يبطل ما ذكروه برهن القاتل والمرتد والمغصوب ورهن ملك غيره بغير إذنه من غير ولاية فإنه يصح عندهم
فصل : ويصح أن يرهن بعض نصيبه من المشاع كما يصح أن يرهن جميعه سواء رهنه مشاعا في نصيبه مثل أن يرهن نصف نصيبه أو يرهن نصيبه من معين مثل أن يكون له نصف دار فيرهن نصيبه من بيت منا بعينه وقال القاضي : يحتمل أن لا يصح رهن حصته من معين من شيء تمكن قسمته لاحتمال أن يقتسم الشركان فيحصل الرهن في صحة شريكه ولنا أنه يصح بيعه فصح رهنه كغيره وما ذكره لا يصح لأن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن بما يضر بالمرتهن فيمنع من القسمة المضرة كما يمنع من بيعه

صحة رهن المرتد والقاتل والرهن المدبر
فصل : ويصح رهن المرتد والقاتل في المحاربة والجاني سواء كانت جنايته عمدا أو خطأ على النفس وما دونها وقال القاضي : لا يصح رهن المقاتل في المحاربة واختيار أبو بكر أنه لا يصح رهن ثم إن كان المرتهن عالما بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فأبه المشتري إذا علم العيب وإن لم يكن عالما ثم علم بعد إسلامه المرتد ونداء الجاني فكذلك لأن العيب زال فهو كما لو زال عيب المبيع وإن علم قبل ذلك فله رده وفسخ البيع إن كان مشروطا في عقد بيع لأن الشرط اقتضاه سليما فإذا سلم إليه معيبا ملك الفسخ كالبيع وإن اختيار إمساكه فليس له أرش ولا شيء لأن الرهن بجملته لو تلف قبل قبضه لم يملك بدله فبعضه أولى وكذلك لو لم يعلم حتى قتل العبد بالردة أو القصاص أو أخذ في الجناية فلا أرش للمرتهن وذكر القاضي أن قياس المذهب أن له الأرش في هذه المواضع قياسا على المبيع وليس الأمر كذلك فإن المبيع عوض عن الثمن فإن فات بعضه رجع بما يقابله من الثمن ولو فات كله مثل أن يتلف المبيع قبل قبضه رجع بالثمن كله والرهن ليس بعوض ولو تلف كله قبل قبضه لما استحق الرجوع بشيء فكيف يستحق الرجوع ببدل عيبه أو فوات بعضه ؟ وإن امتنع السيد من فداء الجاني لم يجبر ويباع في الجناية لأن حق المجني عليه مقدم على الرهن فأشبه ما لو حدثت الجناية بعد الرهن فعلى هذا إن استغرق الأرش قيمته بي بيع وبطل الرهن وإن لم يستغرقها بيع منه بقدر الأرش والباقي رهن
فصل : ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب بناء على جواز بيعه ومنع منه أبو حنيفة و الشافعي لأنه علق عتقه بصفة أشبه ما لو علق عتقه بصفة توجد قبل حلول الحق
ولنا أنه عقد يقصد منه استيفاء الحق من العين أشبه ما لو علقه بصفة توجد بعد حلول الحق وما ذكروه ينتقض بهذا الأصل ويفارق التدبير التعليق بصفة تحل قبل حلول الدين لأن الرهن لا يمنع عتقه بالصفة فإذا عتق تعذر استيفاء الدين منه فلا يحصل المقصود والدين في المدبر يمنع عتقه بالتدبير ويقدم عليه فلا يمنع حصول المقصود والحكم فيما إذا علم التدبير أو يعلم كالحكم في العبد الجاني على ما فصل فيه ومتى مات السيد قبل الوفاء فعتق المدبر بطل الرهن وإن عتق بعضه بقي الرهن فيما بقي وإن لم يكن للسيد مال يفضل عن وفاء الدين بيع في الدين وبطل التدبير لأن الدين مقدم على التدبير ولا يبطل الرهن وإن كان الدين لا يستغرقه بيع منه بقدر الدين وعتق منه ثلث الباقي وما بقي للورثه

حكم رهن المكاتب ومن علق عتقه بصفة
فصل : فأما المكاتب فالصحيح أنه لا يصح رهنه وهو مذهب الشافعي استدامة القبض في الرهن شرط في الصحيح ولا يمكن ذلك في المكاتب وقال القاضي : قياس المذهب صحة رهنه وهو مذهب مالك لأنه يجوز بيعه وإيفاء الدين من ثمنه فعلى هذا يكون ما يؤديه من نجوم كتابته رهنا معه فإن عجز ثبت الرهن فيه وفي اكتسابه وإن عتق كان ما أداه من نجومه رهنا بمنزلة ما لو كسب العبد القن ثم مات
فصل : وأما من علق عتقه بصفة تحل قبل حلول الحق كمن علق عتقه بهلال رمضان ومحل الحق آخره لم يصح رهنه لكونه لا يمكن بيعه عند حلول الحق ولا استيفاء الدين من ثمنه وإن كان الدين يحل قبلها مثل أن يعلق عتقه بآخر رمضان والحق يحل في أوله صح رهنه لإمكان استيفاء الدين من ثمنه فإن كانت تحتمل الأمرين كقدوم زيد فقياس المذهب صحة رهنه لأنه في الحال محل للرهن يمكن أن يبقى حتى يستوفي الدين من ثمنه فصح رهنه كالمريض والمدبر وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ويحتلم أن لا يصح رهنه لأن فيه غررا إذ يحتمل أن يعتق قبل حلول الحق ولأصحاب الشافعي فيه اختلاف على نحو ما ذكرنا

واز رهن الجارية ورهن ما يسرع إليه الفساد والعصير
فصل : ويجوز رهن الجارية دون ولدها ورهن ولدها دونها لأن الرهن لا يزيل الملك فلا يحصل بذلك تفرقة ولأنه يمكن تسليم الولد مع أمة والأم مع ولدها فإن دعت الحاجة إلى بيعها في الدين بيع ولدها معها لأن الجمع في العقد ممكن والتفريق بينهما حرام فوجب بيعه معها فإذا بيعها معا تعلق حق المرتهن من ذلك بقدر قيمته الجارية من الثمن فإذا كانت قيمتها مائة مع أنها ذات ولد وقيمة الولد خمسون فحصتها ثلثا الثمن وإن لم يعلم المرتهن بالولد ثم علم فله الخيار في الرد والإمساك لأن الولد عيب فيها لكونه لا يمكن بيعها بدونه فإن أسمك فهو كما لو علم حال العقد ولا شيء له غيرها وإن ردها فله فسخ البيع إن كانت مشروطة فيه
فصل : ويصح رهن ما يسر إليه الفساد سواء كان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف كالعنب والرطب أو لا يمكن كالبطيخ والطبيخ ثم إن كان مما يجفف فعلى الراهن تجفيفه لأنه من مؤنة حفظه وتبقيته فيلزم الراهن كنفقة الحيوان وإن كان مما لا يجفف فإنه يباع ويقضي الدين من ثمنه إن كان حالا أو يحل قبل فساده وإن كان لا يحل قبل فساده جعل ثمنه مكانه رهنا سواء شرط في الرهن بيعه أو أطلق وقال أصحاب الشافعي : إن كان مما يفسد قبل محل الدين فشرط المرتهن على الراهن بيعه وجعل ثمنه مكانه صح وإن أطلق فعلى قولين أحدهما : لا يصح لأن بيع الرهن قبل حلول الحق لا يقتضيه عقد الرهن فلم يجب ولم يصح رهنه كما لو شرط أن لا يبيعه وذكر القاضي فيه وجهين كالقولين
ولنا أن العرف يقتضي ذلك لأن المالك لا يعرض ملكه للتلف والهلاك فإذا تعين حفظه في بيعه حمل عليه مطلق العقد كتجفيف ما يجف والانفاق على الحيوان وحرز ما يحتاج إلى حرز وأما إذا شرط أن لا يباع فلا يصح لأنه شرط ما يتضمن فساده وفوات المقصود فأشبه ما لو شرط أن لا يجفف ما يجف أو لا ينفق على الحيوان وإذا ثبت ما ذكرناه فإنه إن شرط للمرتهن بيعه أو أذن له في بيعه بعد العقد أو اتفقا على أن يبيعه الراهن أو غره باعه وإن لم يكن ذلك باعه والحاكم وجعل ثمنه رهنا ولا يقتضي الدين من ثمنه لأنه ليس له تعجيل وفاء الدين قبل حلوله وكذلك الحكم إن رهنه ثيابا فخاف تلفها أو حيوانا وخاف موته قال أحمد فيمن رهن ثيابا يخاف فسادها كالصوف أتى السلطان فأمره ببيعها
فصل : ويجوز رهن العصير لأنه يجوز بيعه وتعرضه للخروج عن المالية لا يمنع صحة رهنه كالمريض والجاني ثم ان استحال إلى حال لا يخرج فيها عن المالية كالخل فالرهن بحاله وإن صار خمرا زال لزوم العقد ووجبت اراقته فإن أريق بطل العقد فيه ولا خيار للمرتهن لأن التلف حصل في يده وإن عاد خلا عاد اللزوم بحكم العقد السابق كما لو زالت يد المرتهن عن الرهن ثم عادت إليه وإن استحال خمرا قبل القبض المرتهن له بطل الرهن ولم يعد بعوده خلا لأنه عقد ضعيف لعدم القبض فيه فأشبه إسلام أحد الزوجين قبل الدخول وذكر القاضي أن العصير إذا استحال خمرا بعد القبض بطل الرهن ثم إذا عاد خلا عاد ملكا لصحابه مرهونا بالعقد السابق لأنه يعود مملوكا بحكم الملك الأول فيعود حكم الرهن أيضا لأنه زال بزوال الملك فيعود بعودة وهذا مذهب الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : هو رهن بحاله لأنه كانت له قيمة حاله كونه عصيرا ويجوز أن يصير له قيمة فلا يجوز أن يزول الملك عنه كما لو ارتد الجاني ولأن اليد لم تزل عنه حكما ولهذا لو غصبه غاصب فتخلل في يده كان ملكا للمغصوب منه ولو زالت يده لكان ملكا للغاصب كما لو أراقه فجمعه إنسان فتخلل في يده كان له دون من أراقه وهذا القول هو قولنا الأول في المعنى إلا أن يقولوا ببقاء اللزوم فيه حال كونه خمرا ولم يظهر لي فائدة الخلاف بعد اتفاقهم على عوده رهنا باستحالة خلا وأرى القول ببقائه رهنا أقرب إلى الصحة لأن العقد لو طبل لما عاد صحيحا من غير ابتداء عقد فإن قالوا يمكن عوده صحيحا لعود المعنى الذي بطل بزواله كما أن الزوجة الكافر إذا أسلمت خرجت من حكم العقد لاختلاف دينهما فإذا أسلم الزوج في العدة عادة الزوجة بالعقد الأول لزوال الاختلاف في الدين قلنا هناك ما زالت الزوجية ولا يبطل العقد ولو بطل بانقضاء العدة لما عاد إلا بعقد جديد وإنما العقد كان موقوفا مراعى فإذا أسلم في العدة تبينا أنه لم يبطل وإن يسلم تبينا أنه كان قد بطل وههنا قد جزمتم ببطلانه

رهن الثمرة قبل بدو صلاحها ورهن المصحف والمستعار مما لا صح بيعه والمجهول والمغصوب
فصل : وهل يصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع أو الزرع الأخضر ؟ فيه وجهان أحدهما : يجوز وهو اختيار القاضي لأن الغرر يقل فيه فإن الثمرة متى تلقت عاد إلى حقه في ذمة الراهن ولأه يجوز بيعه فجاز رهنه ومتى حل الحق بيع وان اختار المرتهن تأخير بيعه فله ذلك والثاني : لا يصح وهو منصوص الشافعي لأنه لا يجوز بيعه فلا يصح رهنه كسائر ما لا يجوز بيعه وذكر القاضي انه يجوز رهن المبيع الذي يشترط قبضه كالمكيل والموزون قبل قبضه لأن قبضه مستحق فيمكن المشتري قبضه ثم يقبضه أما البيع فإنه يفضي إلى أن يربح فيما لم يضمن وهو منهي عنه ويحتمل أن لا يصح لرهنه لأنه لا يصح بيعه
فصل : وفي رهن المصحف روايتان إحداهما : لا يصح نقل الجماعة عنه الأرخص في رهن المصحف وذلك لأن المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه ولا يحصل ذلك إلا ببيعه وبيعه غير مالك و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي بناء على أنه يصح بيعه فصح رهنه كغيره
فصل : ويجوز أن يستعير شيئا يرهنه قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه على دنانير معلومة عند رجل سماه إلى وقت معلوم ففعل أن ذلك جائز وينبغي أن يذكر المرتهن والقدر الذي يرهنه به وجنسه ومدة الرهن لأن الضرر يختلف بذلك فاحتيج إلى ذكره كأصل الرهن ومتى شرط شيئا من ذلك فخالف ورهنه بغيره لم يصح الرهن لأنه لم يؤذي له في الرهن فأشبه من لم يأذن في أصل الرهن قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على ذلك وإن أذن له في رهنه يقدر من المال فنقص عنه مثل أن يأذن له في رهنه بمائة فيرهنه بخمسين صح لأن من أذن في مائة فقد أذن في خمسين وإن رهنه بأكثر مثل أ يرهنه بمائة وخمسين احتمل أن يبطل في الكل لأنه خالف المنصوص عليه فبطل كما لو قال أرهنه بدنانير فرهنه بدارهم أو بحال فرهنه بمؤجل أو بمؤجل فرهنه بحال فإنه لا يصح كذلك ههنا وهذا منصوص الشافعي والوجه الثاني : أنه يصح في المائة ويبطل في الزائد عليها لأن العقد تناول ما يجوز وما لا يجوز فجاز فيما يجوز دون غيره كتفريق الصفقة ويفارق ما ذكرنا من الأصول فإن العقد لم يتناول مأذونا فيه بحال وكل واحد من هذه الأمور يتعلق به غرض لا يوجد في الآخر فإن الراهن قد يقر على فكاكه في الحال ولا يقدر على ذلك عند الأجل وبالعكس وقد يقدر على فكاكه بأحد النقدين دون الآخر فيفوت الغرض بالمخالفة وفي مسألتنا إذا صح في المائة المأذون فيها لم يختلف الغرض فإن أطلق الرهن في الإذن من غير تعيين فقال القاضي : يصح وله رهنه بما شاء وهو قول أصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي والآخر : لا يجوز حتى يبين قدر الذين يرهنه به وصفته وحلوله وتأجيله لأن هذا بمنزلة الضمان لأن منفعة البد لسيده والعارية ما أفادت المنفعة إنما حصلت له نفعا بكون الرهن وثيقة عنه فهو بمنزلة الضمان في ذمته وضمان المجهول لا يصح ولنا أنها عارية فلم يشترط لصحتها ذكر تلك العارية لغير الرهن والدليل على أنه عارية أنه قبض ملك غيره لمنفعة نفسه منفردا بها من غر عوض فكان عارية كقبضه للخدمة وقولهم إنه ضما غير صحيح لأن الضمان يثبت في الذمة في الرقبة ولأن الضمان لازم في حق الضامن وهذا له رجوع في العبد قبل الرهن وإلزام المستعير بفكاكه بعده وقولهم ان المنافع للسيد قلنا المنافع مختلفة فيجوز أن يستعيره لتحصيل منفعة واحدة وسائر المنافع للسيد كما لو استعاره لحفظ متاع وهو مع ذلك يخيط لسيده أو يعمل له شيئا أو استعاره ليخيط له ويحفظ المتاع لسيده فإن قيل لو كان عارية لما صح رهنه لأن العارية لا تلزم والرهن لازم قلنا العارية غير لازمة من جهة المستعير فإن لصاحب العبد المطالبة بفكاكه قبل حلول الدين ولأن العارية قد تكون لازمة بدليل ما لو أعاره حائطا ليبتني عليه أو أرضا ليدفن فيها أو ليزرع فيها ما لا يحصد قصيلا إذا ثبت هذا فإنه يصح رهنه بما شاء إلى أي وقت شاء ممن شاء لأن الإذن يتناول الكل بإطلاقه وللسيد مطالبة الراهن بفكاك الرهن حالا كان أو مؤجلا في محل الحق وقبل محله لأن العارية لا تلزم متى حل الحق فلم يقبضه فللمرتهن بيع الرهن واستيفاء الدين من ثمنه ويرجع المعير على الراهن بالضمان وهو قيمة العين المستعارة أو مثلها إن كانت من ذوات الأمثال ولا يرجع بما يبعث به سواء بيعت بأقل من القيمة أو أكثر في أحد الوجهين والصحيح أنها إن بيعت بأقل من قيمتها رجع بالقيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها وإن بيعت بأكثر رجع بما بيعت به لأن العبد ملك للمعير فيكو ثمنه كله له وكذلك لو أسقط المرتهن حقه عن الراهن رجع الثمن كله إلى صاحبه فإذا قضى به دين الراهن رجع به عليه ولا يلزم من وجوب ضمان النقص أن لا تكون الزيادة لصاحب العبد كما لو كان باقيا بعينه وإن تلف الرهن ضمنه الراهن بقيمته سواء تلف بتفريط أو غير تفريط نص على هذا أحمد وذلك لأن العارية مضمونة
فصل : وإن فك المعير الرهن فأدى الدين الذي عليه بإذن الراهن رجع عليهن وإن قضاه متبرعا لم يرجع بشيء وإن قضاه بغير إذنه محتسبا بالرجوع بغير إذنه فهل يرجع ؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه ويترجح الرجوع ههنا لأن له المطالبة بفكاك عبده وأداء دينه فكاكه وإن اختلفا في الإذن فالقول قول الراهن مع ميميه لأنه منكر وإن شهد المرتهن للمعير قبلت شهادته لأنه لا يجر بها نفعا ولا يدفع بها ضررا وإن قالت : أذنت لي في رهنه بعشرة قال : بل بخمسة فالقول قول المالك لأنه منكر للزيادة وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وإن كان الدين مؤجلا فقضاه حالا بإذنه رجع به حالا وإن قضاه بغير إذنه فقال القاضي : يرجع به حالا أيضا لأنه له المطالبة بفكاك عبد في الحال
فصل : ولو استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة فرهنه عند رجلين صح لأن تعيين ما يرهن به ليس بشرط فكذلك من يرهن عنده ولأن رهنه من رجلين أقل ضررا من رهنه عند واحد لأنه ينفك منه بعضه بقضاء بعض الدين بخلاف ما لو كان رهنا عند واحد فعلى هذا إذا قضى أحدهما ما عليه من الدين خرج نصيبه من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين عقدان في الحقيقة ولو استعار عبدا من رجلين فرهنه عند واحد بمائة فقضاه نصفها عن أحد النصيبين ففيه وجهان أحدهما : لا ينفك من الرهن شيء لأنه عقد واحد منهما إنما أذن في الرهن نصيبه بخمسين فلا يكون رهنا بأكثر منها كما لو صرح له بذلك فقال : ارهن نصيبي بخمسين لا تزد عليها فعلى هذا الوجه إن كان المرتهن عالما بذلك فلا خيار له وإن لم يكن عالما بذلك والرهن مشروط في بيع احتمل أن يكون له الخيار لأنه دخل على أن يكون جزء من الرهن وثيقة بجميع الدين وقد فاته ذلك ولو كان رهن هذا العبد عند رجلين فقضى أحدهما انفك نصيب كل واحد من المعيرين من نصفه وإن قضى نصف دين أحدهما انفك في نصيب أحدهما على أحد الوجهين وفي الآخر ينفك نصف نصيب كل واحد منهما والله أعلم
فصل : ولو كان لرجلين عبدان فأذن لك واحد منهما لشريكه في رهن نصيبه من أحد العبدين فرهناهما عند رجل مطلقا صح فإن شرط أحدهما انني متى قضيت ما علي من الدين انفك الرهن في العبد الذي رهنته وفي العبد الآخر وفي قدر نصيبي من العبد الآخر فهذا شرط فاسد لأنه شرط أن ينفك بقضاء الدين رهن على دين آخر ويفسد الرهن لأن في هذا الشرط نقصا على المرتهن وكل شرط فاسد ينقص حق المرتهن يفسد الرهن فأما إن شرط أنه لا ينفك شيء من العبد حتى يقضي جميع الدين فهو فاسد أيضا لأنه شرط أن يبقى الرهن محبوسا بغير الدين الذي هو رهن به لكنه لا ينقص حق المرتهن فهل يفسد الرهن بذلك ؟ على وجهين
فصل : ولا يصح رهن ما لا يصح بيعه كأم الولد والوقف والعين المرهونة لأن المقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه وما لا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه ولو رهن العين المرهونة عند المرتهن لم يجز فلو قال الراهن للمرتهن زدني مالا ليكون الرهن الذي عند رهنا به وبالدين الأول لم يجز وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد وهو أحد قولي الشافعي وقال مالك وأبو يوسف وأبو ثور والمزني وابن المنذر : يجوز ذلك لأنه لو زاده رهنا جاز فكذلك إذا زاد في يدن الرهن ولأنه لو فدى المرتهن العبد الجاني بإذن الراهن ليكون رهنا بالمال الأول وبما فداه به جاز فكذلك ههنا ولأنها وثيقة محضة فجازت الزيادة فيها كالضمان
ولنا أنها عين مرهونة فلم يجز رهنا بدين آخر كما لو رهنها عن غير المرتهن فأما الزيادة في الرهن فيجوز لأنه زيادة استيثاق بخلاف مسألتنا وأما العبد لاجاني فيصح فداؤه ليكون رهنا بالفداء والمال الأول لكون الرهن لا يمنع تعلق الأرش بالجاني لكون الجناية أقوى ولأن لولي الجناية المطالبة ببيع الرهن وإخراجه من ارهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه ويجوز أن يزيده في الرهن الجائز حقا قبل لزومه فكذلك إذا صار جائز بالجناية ويفارق الرهن الضمان فإنه يجوز أن يضمن لغيره إذا ثبت هذا فرهنه بحق ثان كان رهنا بالأول خاصة فإن شهد بذلك شاهدان يعتقدان فساده لم ين لهما أن يشهدا به وإن اعتقدوا صحته لم يكن لهما أن يشهدا أنه رهنه بالحقين مطلقا بل يشهدان بكيفية الحال ليرى الحاك فيه رأيه
فصل : وأما رهن سواد العراق والأرض الموقوفة على المسلمين فالصحيح في المذهب أهلا يجوز بيعها فكذلك رهنها وهذا منصوص الشافعي وما كان فيها من بنائها فحكمه حكمها وما كان فيها نم غير ترابها أو الشجر المجدد فيها إن أفراده بالبيع وارهن فهل يصح ؟ على روايتين نص عليهما في البيع إحداهما : يصح لأنه طلق والثانية : لا يجوز لأنه تابع لما لا يجوز بيعه ولا رهنه فهو كأساسات الحيطان وإن رهنه مع الأرض بطل في الأرض وهل يجوز في الأشجار والبناء على الرواية التي يجوز رهنها منفردة ؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
فصل : ولا يصح رهن المجهول لأنه لا يصح بيعه فلو قال : رهنتك هذا الجراب أو البيت أو الخريطة بما فيها لا يصح لأنه مجهول وإن لم يقل بما فيها صح رهنا للعلم بها إلا أن يكون ذلك مما لا قيمة له كالجراب الخلق ونحوه ولو قال رهنتك أحد العبدين لم يصح لعدم التعيين وفي الجملة أنه يعتبر للعلم في الرهن ما يعتبر في البيع وكذلك القدرة على التسليم فلا يحص رهن الآبق ولا الجمل الشارد ولا غير مملوك
فصل : ولو رهن عبدا يعتقده مغصوبا فبان ملكه مثل أن رهن عبد أبيه فبان أن أباه قد مات وصار العبد ملكه بالميراث أو وكل إنسانا يشتري له بعدا من سيده ثم أن الموكل باع العبد أو رهنه يعتقده لسيده الأول فبان أن تصرفه بعد شراء الوكيل له ونحو ذلك صح تصرفه لأنه تصرف صدر من أهله وصادف ملكه فصح كما لو علم ويحتمل أن لا يصح لأنه اعتقده باطلا

بطلان رهن المبيع في مدة الخيار وحكم رهن المنافع وتركة الميت
فصل : ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح إلا أن يرهنه المشتري والخيار له وحده فيصح تصره ويبطل خياره وذكره أبو بكر وهو مذهب الشافعي وكذلك بيعه وتصرفاته ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها لم يصح لأنه رهن ما لا يملكه وكذلك لو رهن الأب العين التي وهبها لابنه قبل رجوعه فيها لم يصح لما ذكرناه وللشافعي في ذلك وجهان أحدهما : يصح لأن له استرجاع العين فتصرفه فيها يدل على رجوعه فيها ولنا أنه رهن ما لا يملكه بغير إذن المالك ولا ولاية عليه فلم يصح كما لو رهن الزوج ننصف الصداق قبل الدخول
فصل : ولو رهن ثمرة شجرة يحمل في السنة حملين لا يتميز أحدهما من الآخر فرهن الثمرة الأولى إلى محل تحدث الثانية على وجهلا يتميز فالرهن باطل لأنه مجهول حين حلول الحق فلا يمكن استيفاء الدين منه فلم يصح كما لو كان مجهولا حين العقد وكما لو رهنه إياها بعد اشتباهها فإن شرط قطع الأولى إذا خيف اختلاطهما بالثانية صح فإن كان الحمل المرهون بحق حال وكانت الثمرة الثانية تتميز من الأولى إذا حدثت فارهن صحيح فإن وقع التواني في قطع الأولى حتى اختلطت بالثانية وتعذر التمييز لم يطل الرهن لأنه وقع صحيحا وقد اختلط بغيره على وجه لا يمكن فصله فعلى هذا إن سمح الراهن بكون الثمرة رهنا أو اتفقا على قدر المرهون منهما فحسن وإن اختلفا فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الرهن لأنه منكر المقدر الزائد والقول قول المنكر
فصل : ولو رهنه منافع داره شهرا لم يصح لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه والمنافع تهلك إلى حلول الحق وإن رهنه أجرة داره شهرا لم يصح لأنها مجهولة وغير مملوكة
فصل : ولو رهن المكاتب من يعتق عليه لم يصح لأنه لا يملك بيعه وأجازه أبو حنيفة لأنهم لا يدخلون معه في الكتابة لو رهن العبد المأذون من يعتق على السيد لم يصح لأن ما في يده ملك لسيده فقد صار حرا بشرائه إياه
فصل : ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح في أحد الوجهين وقال أصحاب الشافعي : لا يصح إذا كان على الميت دين يستغرق الترك لأنه تعلق به حق آدمي فلم يصح رهنه كالمرهون
ولنا أنه تصرف صادف ملكه ولم يعلق به حقا فصح كما لو رهن المرتد وفارق المرهون لأن الحق تعلق به باختياره فأما في مسألتنا فالحق تعلق به بغير اختياره فلم يمنع تصرفه وهكذا كل حق ثبت من غير إثباته كالزكاة والجناية فلا يمنع ورهنه فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره فالرهن بحاله وإن لم يقض الحق فللغرماء انتزاعه لأحقهم أسبق والحكم فيه كالحكم في الجاني وهكذا الحكم لو تصرف في التركة ثم رد عليه مبيع باعه الميت بعيب ظهر فيه أو حق تجدد تعلقه بالتركة مثل أن وقع إنسان أو بهيمة في بئر حفره في غير ملكه بعد موته فالحكم واحد وهو أن تصرفه صحيح غير نافذ فإن قضى الحق من غيره نفذ وإلا فسخ البيع والرهن
فصل : قال القاضي : لا يصح رهن العبد المسلم لكافر واختار أبو الخطاب صحة رهنه إذا شرطان كونه على يد مسلم ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالك وهذا أولى لأن مقصود الرهن يحصل من غير ضرر

توكل المرتهن لغيره في قبض الرهن
مسألة : قال : وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون على يديه صار مقبوضا
وجملته أن المتراهنين إذا شرطا كون الرهن علي يدي رجل رضي به واتفقا عليه جاز وكان وكيلا للمرتهن نائبا عنه في القبض فمتى قبضه صح قبضه في جماعة الفقهاء منهم عطاء و عمرو بن دينار و الثوري و ابن المبارك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الحكم و الحارث العكلي و قتادة و ابن أبي ليلى : لا يكون مقبوضا بذلك لأن القبض من تمام العقد فتعلق بأحد المتعاقدين كالإيجاب والقبول ولنا أنه قبض في عقد فجاز فيه التوكيل كسائر القبوض وفارق القبول لأن الإيجاب إذا كان لشخص كان القول منه لأنه يخاطب به ولو وكل في الإيجاب والقبول قبل أن يوجب له صح أيضا وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا فإنه يجوز أن يجعلا الرهن على يدي من يجوز توكيله وهو الجائز التصرف مسلما كان أو كافرا عدلا أو فاسقا ذكرا أو أنثى ولا يجوز أن يكون صبيا لأنه غير جائز التصرف مطلقا فإن فعلا كان قبضه عدم القبض واحد ولا عبدا بغير إذن سيده لأن منافع العبد لسيده فلا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذن فإن أذن له السيد جاز وأما المكاتب فإن كان بجعل جاز لأن له الكسب وبذل منافعه بغير إذن السيد وإن كان بغير جعل لم يجز لأنه ليس له الترع بمنافعه
فصل : فإن جعلا الرهن في يد عدلين جاز ولهما إمساكه ولا يجوز لأحدهما الانفراد بحفظه وإن سلمه أحدهما إلى الآخر فعليه ضمان النصف لأنه القدر الذي تعدي فيه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وفي الآخر إذا رضي أحد بإمساك الآخر جاز وبهذا قال أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : إن كان مما ينقسم اقتسماه : وإلا فلكل واحد منهما إمساك جمعيه لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما فحمل الأمر على أن لكل واحد منهما الحفظ ولنا أن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما فلم يجز لأحدهما الانفراد بذلك كالوصيين لا ينفرد أحدهما بالتصرف وقولهم أن الاجتماع على الحفظ يشق ليس كذلك فإنه يمكن جعله في مخزن لكل واحد منهما عليه قفل

أحكام جعل الرهن أمانة ونقله
فصل : وما دام العدل بحاله لم يتغير عن الأمانة ولا حدثت بينه وبين أحدهما عداوة فليس لأحدهما ولا للحاكم نقل الرهن عن يده لأنهما رضيا به في الابتداء وإن اتفقا على نقله جاز لأن الحق لهما لم يعدها وكذلك لو كان الرهن في يد المرتهن فلم يتغير حاله لم يكن للراهن ولا للحاكم نقله عن يده وإن تغيرت حال العدل بفسق أو ضعيف عن الحفظ أو حدثت عداوة بينه وبينهما أو بين أحدهما فلمن طلب نقله عن يده ذلك ويضعانه في يد من يتفقان عليه فإن اختلفا وضعه الحاكم على يد عدل وإن اختلفا في تغير حاله بحيث الحاكم وعمل بما يظهر له وهكذا لو كان في يد المرتهن فتغيرت حاله في الثقة والحفظ فللراهن رفعه عن يده إلى الحاكم ليضه في يد عدل وإذا ادعى الراهن تغير حال المرتهن فانكر بحث الحاكم عن ذلك وعمل بما بان له وإن مات العدل أو المرتهن لم يكن لورثتهما إمساكه إلا بتراضيهما فإن اتفقا على ذلك جاز وإن اتفقا على عدل يضعانه على يده فلهما ذلك لأن لاحق لهما فيفوض أمره إليهما فإن اختلف الراهن والمرتهن عند موت العدل أو اختلف الراهن وورثة المرتهن رفعا الأمر إلى الحاكم ليضه على يدل عدل وإن كان الرهن في يد اثنين فمات أحدهما أو تغيرت حاله بفسق أو ضعيف عن الحفظ أو عداوة بين أحد المتراهنين أقيم مقامه عدل ينضم إلى العدل الآخر فيحفظان معا

للأمين على الرهن رده على المتعاقدين
فصل : ولو أراد العدل رده عليهما فله ذلك وعليهما قبوله وبهذا قال الشافعي : لأنه أمين متطوع بالحفظ فلا يلزمه المقام عليه فإن امتنعا أجبرهما الحاكم فإن تغيبا نصب الحاكم أمينا يقبضه لهما لأن للحاكم ولاية على الممتنع من الحق الذي عليه ولو دفعه إلى الأمين من غير امتناعهما ضمن وضمن الحاكم لأنه لا ولاية له على غير الممتنع وكذا لو تركه العدل عند آخر مع وجودهما ضمن وضمن القابض وإن امتنعا ولم يجدا حاكما فتركه عند عدل آخر لم يضمن وإن امتنع أحدهما لم يكن له دفعه إلى الآخر فإن فعل ضمن والفرق بينهما أن أحدهما يمسكه لنفسه والعدل يمسكه لهما وهذا فيما إذا كانا حاضرين فأما إذا كانا غائبين نظرت فإن كان للعدل عذر من مرض أو سفر أو نحوه رفعه إلى الحاكم فقبضه منه أو نصب له عدلا يقبضه لهما فإن لم يجدا حاكما أودعه عند نفسه وليس له دفعه إلى ثقة يودعه ند مع وجود الحاكم فإن فعل ضمن فإن لم يكن له عذر وكانت الغيبة بعيدة إلى مسافة القصر قبضه الحاكم منه فإن لم يجد حاكما دفعه إلى عدل وإن كان الغيبة دون مسافة القصر كما لو كانا حاضرين لأن ما دون مسافة القصر في حكم الإقامة وإن كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا فحكمهما حكم الغائبين وليس له دفعه إلى الحاضر منهما وفي جميع هذه الأقسام متى دفعه إلى أحدهما لزمه رده إلى يده وإن لم يفعل فعليه ضمان حق الآخر

الرهن في يد العدل ورهنه وبيعه ورهن المستعار واتلاف الرهن
فصل : إذا كان الرهن على يدي عدل وشرطا له أن يبيعه عند حلول الحق صح ويصح بيعه وبه قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : فإن عزل الراهن العدل عن البيع صح عزله ولم يملك البيع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك : لا ينعزل لأن وكالته صارت من حقوق فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه وقال ابن أبي موسى : ويتوجه لنا مثل ذلك فإن أحد قد منع الحيلة في غير موضع من كتبه وهذا يفتح باب الحيلة للراهن فإنه يشترط ذلك للمرتهن ليجيبه إليه ثم يعزله والأول هو المنصوص عنه لأن الوكالة قعد جائز فلم يلزم المقام عليها كسائر الوكالات وكونه من حقوق الراهن لا يمنع من جوازه كما لو شرطا ارهن في البيع فإنه لا يصير لازما وكذلك لو مات الراهن بعد الإذن انفسخت الوكالة وقياس المذهب أنه متى عزله عن البيع فللمرتهن فسخ البيع الذي حصل الرهن بثمنه كما لو امتنع الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع فأما إن عزله المرتهن فلا يعزل لأن العدل وكيل الراهن إذا الرهن ملكه ولو انفرد بتوكيله صح فلم ينعزل بعزل غيره لكن لا يجوز بيعه بغير إذنه وهكذا لو لم يعزلاه فحل الحق لم يبيعه حتى يستأذن المرتهن لأن البيع لحقه فلم يجز حتى يأذن فيه ولا يحتاج إلى تجديد إذن من الراهن في ظاهر كلام أحمد لأن الإذن قد وجد مرة فيكفي كما في الوكالة في سائر الحقوق وذكر القاضي وجها آخر أنه يحاج إلى تجديد إذن لأنه يكون له غرض في قضاء الحق من غيره والأول أولى فإن الإذن كاف ما لم يغير والغرض لا اعتبار به مع صريح الإذن بخلافه بدليل ما لو جد الإذن له بخلاف المرتهن فإن المبيع يفتقر إلى مطالبته بالحق ومذهب الشافعي نحو من هذا
فصل : ولو أتلف الرهن في يد العدل أجنبي فعلى الجاني قيمته يكون رهنا في يده وله المطالبة بها لأنها بدل الرهن وقائمة مقامه وله إمساك الرهن وحفظه فإن كان المتراهنان أذنا له في بيع الرهن فقال القاضي : قياس المذهب أن له بيع قيمته لأن له بيع نماء الرهن تبعا للأصل فالقيمة أولى وقال أصحاب الشافعي : ليس له ذلك لأنه متصرف بالإذن فلا يملك بيع ما لم يؤذن له في بيعه والمأذون في بيعه قد تلف وقيمته غيره وللقاضي أن يقول إنه قد أذن له في بيع الرهن والقيمة رهن يثبت لها حكم الأصل من كونه يملك المطالبة بها وإمساكها واستيفاء دينه من ثمنها فكذل بيعها فإن كانت القيمة من جنس الدين وقد أذن له في وفائه من ثمن الرهن ملك إيفاءه من القيمة لأنها بدل الرهن من جنس الدين فأشبهت ثمن المبيع

أذن المتعاقدين للعدل في بيع الرهن بنقد معين
فصل : وإذا أذنا للعدل في البيع وعينا له نقدا لم يجز له أن يخافهما وإن اختلفا فقال أحدهما : بعد بدراهم وقال الآخر : بدنانير لم يقبل قول واحد منهما لأن لكل واحد منهما فيه حقا للراهن ملك اليمين وللمرتهن حق الوثيقة واستيفاء حقه ويرفع الأمر إلى الحاكم فيأمر من يبيعه بنقد البلد سواء كان من جنس الحق أو من غير جنسه وافق قول أحمد أولم يوافق لأن الحظ في ذلك والأولى أن يبيعه بما يرى الحظ فيه فإن كان في البلد نقدان باعه بأغلبهما فإن تساويا فقال القاضي : يبيع بما يؤديه اجتهاده إليه وهو قول الشافعي : لأنه الأحظ والغرض تحصيل الحظ فإن تساويا باع بجنس الدين فإن لم يكن فيها جنس الدين عين له الحاكم ما يبيعه به وحكمه حكم الوكيل في وجوب الاحتياط والمنع من البيع بدون ثمن المثل ومن البيع نساء متى خالف لزمه ما يلزم الوكيل المخالف وذكر في البيع نساء رواية أخرى أنه يجوز بناء على الوكيل ولا يصح لأن البيع ههنا الايفاء دين حال يجب تعجيله والبيع نساء يمنع ذلك وكذا نقل في الوكيل متى وجدت في حقه قرينة دالة على منع نساء لم يجز له ذلك وإنما الروايتان فيه عند انتفاء القرائن وكل موضع حكمنا بأن البيع باطل وجب رد المبيع إن كان باقيا فإن تعذر فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري بأقل الأمرين من قيمة الرهن أو قدر الدين لأنه يقبض قيمة الرهن مستوفيا لحقه ولا رهنا فلذلك لم يكن له أن يقبض أكثر من دينه وما بقي من قيمة الرهن للراهن يرجع به على ما شاء منهما وإن استوفى دينه من الرهن رجع الراهن بقيمته على من شاء منهما ومتى ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأن العين تلفت في يده وإن ضمن العدل رجع على المشتري
فصل : ومتى قدرا له ثمنا لم يجز له بيعه بدونه وإن أطلقا فله بيعه بثمن مثله أو زيادة عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : له بيعه ولو بدراهم والكلام معه في الوكالة فإن أطلقا فباع بأقل من ثمن المثل مما يتغابن الناس به صح ولا ضمان عليه لأن ذلك لا يضبط غالبا وإن كان النقص مما لا يتغابن الناس به أو باع بأنقص مما قررا له صح البيع وضمن النقص كله ذكره أصحابنا والأولى أنه لا يصح البيع لأنه بيع لم يؤذن له فيه فأشبه ما لو خالف في النقد
فصل : وإذا باع العدل الرهن بإذنهما وقبض الثمن فتلف في يده من غير تعد فلا ضمان عليه لأنه أمين فهو كالوكيل ولا نعلم في هذا خلافا ويكون من ضمان الراهن وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : من ضمان المرتهن لأن البيع لأجله
ولنا أنه وكيل الراهن في البيع والمثمن ملكه وهو أمين له في قبضه فإذا تلف كان من ضمان موكله كسائر الأمناء وإن ادعى التلف فالقول مع يمينه لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة على ذلك وإن كلفناه البينة شق عليها وربما أدى إلى أن لا يدخل الناس مع الأمانات فإن خالفاه في قبض الثمن فقالا قبضه من المشتري وادعى ذلك فيه كما لو أبرأه من غير الثمن وإن خرج المبيع مستحقا فالعهدة على الراهن دون العدل إذا كان قد أعلم المشتري أنه وكيل وكذلك كل وكيل باع مال غيره وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : العهدة على الوكيل الكلام معه في الوكالة فإن علم المشتري بعد تلف الثمن في يد العدل رجع على الراهن ولا شيء على العدل فإن قيل فلم لا يرجع المشتري على العدل لأنه قبض الثمن بغير حق ؟ قلنا لأنه سلمه إليه على أنه أمين في قبضه يسلمه إلى المرتهن فلذلك لم يجب الضمان عليه فأما المرتهن فقد بان له أن عقد الرهن كان فاسدا فإن كان مشروطا في بيع ثبت له الخيار فيه وإلا سقط حقه فإن كان الراهن مفلسا حيا أو ميتا كان المرتهن والمشتري أسور الغرماء لأنهم متساوون في ثبوت حقهم في الذمة فاستووا في قسمة ماله بينهم فأما إن خرج مستحقا بعد ما دفع الثمن إلى المرتهن رجع المشتري على المرتهن وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يرجع على العدل ويرجع العدل على أيهما شاء من الراهن والمرتهن
ولنا أن عين ماله صار إلى المرتهن بغير حق فكان رجوعه عليه كما لو قبضه منه فأما إن كان المشتري رده بعيب لم يرجع على المرتهن لأنه قبض الثمن بحق ولا على العدل لأنه أمين ووكيل ويرجع على الراهن وإن كان العدل حين باعه لم يعلم المشتري الرجوع ليعه ويرجع هو على الراهن إن أقر بذلك أو قامت به بينة وإن أنكر ذلك فالقول قول العدل مع يمنيه فإن نكل عن اليمين فقضى عليه بالنكول أو ردت اليمين على المشتري فحلف ورجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقر أنه ظلمه وعلى قول الخرقي : القول في حدوث العيب قو المشتري مع يمينه وهو إحدى الروايتين عن أحد فإذا حلف المشتري رجع على العدل على الراهن وإن تلف العبد المبيع في يد المشتري ثم بان مستحقا قبل ورزن صمنه فللمغصوب منه تضمين من شاء من الغاصب والعد والمرتهن ويستقر الضمان على المشتري لأن التلف في يده هذا إذا علم بالغصب وإن لم يكن علاما فهل يستقر الضمان عليه أو على الغاصب ؟ على روايتين
فصل : فإن ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكره فقال القاضي وأبو الخطاب : يقبل قوله في حق الراهن ولا يقبل في حق المرتهن وهو مذهب الشافعي لأن العدل وكيل الراهن في الدفع الدين إلى المرتهن وليس بوكيل للمرتهن في ذلك إنما هو وكيله في الحفظ فقط فلم يقبل قوله عليه فيما ليس بوكيل له فيه كما لو وكل رجلا في قضاء دين فادعى أنه سلمه إلى صاحب الدين وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب في رؤوس مسائلهما : يقبل قوله على المرتهن في إسقاط الضمان عن نفسه ولا يقبل في إيجاب الضمان على غيره وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه أمين فقبل قوله في إسقاط الضمان عن نفسه كالمودع يدعي رد الوديعة فعلى هذا إذا حلف العدل سقط الضمان عنه ولم يثبت عن المرتهن أنه قبضه وعلى القول الأول يحلف المرتهن ويرجع على من شاء منهما فإن رجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقول ظلمني وأخذ مني بغير حق فلم يرجع على الراهن كما لو غصبه مالا آخر فإن رجع على الراهن فهل يرجع الراهن على العدل ؟ نظرت فإن كتان دفعه إلى المرتهن بحضرة الراهن أو ببينه فماتت أو غابت لم يرجع عليه لأنه أمين ولم يفرط في القضاء وإن دفعه إليه بغير بنيه في غيبة الراهن ففيه روايتان إحداهما : يرجع الراهن عليه لأنه مفرط في القضاء بغير ببنية فلزمه الضمان كما لو تفل الرهن بتفريطه ويحتمل أن يكون هذا معنى قول الخرقي ومن أمر رجلا أن يدفع وادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة والرواية الثانية : لا يرجع الراهن عليه لأنه أمين عليه لأنه أمين في حقه سواء صدقه في القضاء أو كذبة إلا أنه إن كذبه فله عليه اليمين
فصل : إذا غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه زال عنه الضمان ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدى فيه ثم أزال التعدي أو سافر به ثم رده لم يزل عنه الضمان لأن استئمانه زال بذلك فلم يفسد بفعله مع بقائه في يده بخلاف التي قبلها فإنه رده غلى يد نائب مالكها فأشبه ما لو ردها إلى مالكها
فصل : وإذا استقرض ذمي من مسلم مالا ورهنه خمرا لم يصح سواء جعله على يد ذمي أو غيره فإن باعها الراهن أو نائبه وجاء المقرض بثمنها لزمه قبوله فإن أتى قيل له أما أن تقبض وأما أن تبرئ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحيحة قال عمر رضي الله عنه في أهل الذمة معهم الخمر : ولوهم بيعها وخذوا من أثمانها وإن جعلها علي يد مسلم فباعها لم يجبر المرتهن على قبول الثمن لأن ذلك البيع فاسد لا يقران عليه ولا حكم له

ولا يرهن مال من أوصى إليه بحفظ ماله إلا من ثقة وقضاء بعض الدين لا يفك الرهن
مسألة : قال : ولا يرهن مال من أوصى إليه بحفظ ماله إلا من ثقة
وجملته أن ولي ليس له رهن ماله إلا عند ثقة يودع ماله عند لئلا يجحده أو يفرط فيه فيضيع
قال القاضي : ليس لولية رهن ماله إلا بشرطين أحدهما : أن يكون عند ثقة الثاني : أن يكون له فيه حظ وهو أن يكون به حاجة إلى نفقة أو سكوة و انفاق على عقاره المتهدم أو أرضه أو بهائمه ونحو ذلك وماله غائب يتوقع وردوه أو ثمره ينتظرها أو له دين مؤجل يحل أ متاع كاسد يرجو نفاقه فيجوز لولية الاقتراض ورهن ماله وإن لم يكن له شيء ينتظره فلا حفظ له في الاقتراض فيبيع شيئا من أصول ماله ويصرفه في نققته وإن لم يجد من يقرضه ووجد من يبيعه نسيئه وكان أحظ من بيع أصوله جاز أن يشتريه نسيئة ويرهن به شيئا من مال والوصي والحاكم وأمينة في هذا سواء وكذلك الأب إلا أن للأب أن يرهن من نفسه لولده ولنفسه من ولده ومن عداه بخلافه على إحدى الروايتين
فصل : فأما أخذ الرهن بمال اليتيم فيكون في بيع أو قرض وقد ذكرنا القرض في باب المصراة وفي البيع ثلاث مسائل إحداهن : أن يبيع ما يساوي مائة نقدا بمائة أو دونها نسيئة ويأخذ بها رهنا فهذا بيع فاسد أحوط وكذلك لو جعل بعض الثمن نسيئة الثانية : أن يبيعه بمائة نقدا وعشرين نسيئة يأخذ بها رهنا فهذا جائز لأنه لو باعه بمائة نقدا جاز فإذا زاد لعيها فقد زاده خيرا سواء قلت الزيادة أ كثرت الثالثة : باعه بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بها رهنا فهذا جائز أيضا ذكره القاضي وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا يجوز لأنه تغزير بماله وبيع النقد أحوط له ولنا أنه هذا عادة التجار وقد أمرنا بالتجارة وطلب الربح وهذا من جهاته والتغرير يزول بالرهن
فصل : وحكم المكاتب فيما ذكرنا حكم ولي اليتيم لأن له أن يتصرف فيما في يده له فيه الحظ أما المأذون فإن دفع له سيده مالا يتجر فيه أو لم يدفع إليه فقال القاضي : ليس له التصرف بالنسيئة لأن ديونه تتعلق بذمة السيد فيتضرر بذلك لأن الدين غرر بخلاف المكاتب
فصل : ولو كان مال اليتيم رهنا فاستعاده الوصي لليتيم جاز وإن استعاده لنفسه لم يجز لأن لا يملك التصرف في مال اليتيم لنفسه وعليه الضمان لأنه قبضه على وجه ليس له قبضه وإن فكه بمال اليتيم وأطلق فهو لليتيم قبل قوله وإن تلف قبل ذلك ضمنه وإن قال استعدته لليتم بعد هلاكه أو هلاك بعضه لم يقبل قوله لأننا حكمنا بالضمان ظاهرا فلا يزول بقوله الأولى أن يقبل قوله لأنه أمين وهو أعلم بنيته فيقبل قوله فيها كما قبل التلف
فصل : ولو رهن الوصي أو الحاكم مال لليتيم عند مكاتبه أو ولده الكبير صح لأنه لا ولاية له عليهما
فصل : و لو أوصى إلى رجل بقضاء دينه فرهن شيئا من تركته عند الغريم أو غيره ضمن لأن له لم يؤذن له في رهنها فضمن كما لو لم يوص إليه بقضاء دينه

قال : إذا قضاه بعض الحق كان الرهن بماله
مسألة : قال : وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحاله على ما بقي
وجملة ذلك أن حق الوثيقة يتعلق بالرهن جميعه فيصير بكل الحق بولك جزء منه لا ينفك منه شيء حتى يقضي جميع الدين كان مما يمكن قسمته أو لا يمكن قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من رهن شيئا بمال فأدى بعض المال وأراد إخراج بعض الرهن أن ذلك ليس له ولا يخرج شيء حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه من ذلك كذلك قال مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي لأن الرهن وثيقة بحق فلا يزول إلا بزوال جميعه كالضمان والشهادة

وإذا اعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حرا - أحكام عتق الرهن
مسألة : قال : وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حرا ويؤخذ إن كان له مال بقيمة المعتق فيكون رهنا
وجملة ذلك أنه ليس للراهن عتق الرهن لأنه يبطل حق المرتهن من الوثيقة فإن أعتق نفذ عتقه موسرا كان أو معسرا نص عليه أحمد وبه قال شريك و الحسن بن صالح وأصحاب الرأي و الشافعي في أحد أقواله إلا أن أبا قال يستسعى العبد في قيمته إن كان المعتق معسرا وعن أحمد رواية أخرى لا ينفذ عتق المعسر ذكرها الشريف أبو جعفر وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي لأن عتقه يبطل حق غير المالك فنفذ من الموسر دون المعسر كعتق شرك له من عبد وقال عطاء و البتي و أبو ثور : لا ينفذ عتق الراهن موسرا كان أو معسرا وهو القول الثالث للشافعي لأنه معنى يبطل حد الوثيقة من الرهن فلم ينفذ كالبيع
ولنا أنه اعتاق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كعتق المستأجر ولأن الرهن عين محبوسة لاستيفاء الحق فنفذ فيها عتق المالك كالمبيع في يد البائع والعتق يخالف البيع فإن مبني علي التغليب والسراية وينفذ في ملك الغير وجوز عتق المبيع قبل قبضه والآبق والمجهول وما لا يقدر على تسليمه ويجوز تعليقه على الشروط بخلاف البيع إذا ثبت هذا فإنه إن كان موسرا أخذت منه قيمته فجعلت مكانه رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة بغي إذن المرتهن فلزمته قيمته كما لو ابطلها أجنبي أو كما لو أتلفه وتكون القيمة رهنا لأنها نائبة عن العين ويدل عنها وإن كان معسرا فالقيمة في ذمته فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه القيمة فجعلت رهنا إلا أن يختار تعجيل الحق فيقبضه ولا يحتاج إلى رهن وإن أيسر بعد حلول الحق طولب بالدين خاصة لأن تبرا به من الحقين معا والاعتبار بقيمته ثم يرجع على الراهن وفيه إيجاب الكسب على العبد ولا صنع له ولا جناية منه وإلزام الغرم لمن وجد منه الإتلاف أولى كحال اليسار وكسائر الإتلاف
فصل : وإن أعتقه بإذن المرتهن فلا نعلم خلاف في نفوذ عتقه على كل حال لأن المنع كان لحق المرتهن وقد أذن فيسقط حقه من الوثيقة موسرا كان المعتق أو معسرا لأنه أذن فيما ينافي حقه فإذا وجد زال حقه وقد رضي به لرضاه بما ينافيه وإذنه فيه فلم يكن له بدل فإن رجع عن الإذن قبل العتق وعلم الراهن برجوعه كان كمن لم يأذن وإن لم يعلم الراهن برجوعه فأعتق ففيه وجهان بناء على عزل الوكيل بدون علمه وإن رجع بعد العتق لم ينفع رجوعه والقول قول المرتهن مع يمينه لأن الأصل عدم الإذن ولو اختلف الراهن ورثه المرتهن فالقول قول ورثه المرتهن أيضا إلا أن أيمانهم على نفي العلم لأنها على فعل الغير وإن اختلف المرتهن وورثة الراهن فالقول قول المرتهن مع يمينه وإن لم يحلف قضي عليه بالنكول
فصل : وإن تصرف الراهن بغير العتق كالبيع والإجارة والهبة والوقف والرهن وغيره فتصرفه باطل لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية فلم يصح بغير إذن المرتهن كالفسخ الرهن فإن أذن فيه المرتهن صح وبطل الرهن لأن أذن فيما ينافي حثه فيبطل بفعله كالعتق وإن زوج الأمة المرهونة لم يصح وهذا اختيار أبي الخطاب وقول مالك و الشافعي وقال القاضي وجماعة من أصحابنا يصح وللمرتهن منع الزوج من وطئها ومهرها رهن معها وهذا مذهب أبي حنيفة لأن محل النكاح غير محل عقد الرهن ولذلك صح رهن الأمة المزوجة ولأن الرهن لا يزيل الملك فلا يمنع التزويج كالإجارة ولنا أنه تصرف في الرهن بما ينقص ثمنه ويستغل بعض منافعه فلم يملكه الراهن بغير رضا المرتهن كالإجارة ولا يخفي تنقيصه لثمنها فإنه يعطل منافع بعضها ويمنع مشتريها من وطئها وحلها ويوجب عليه تمكين زوجها من استمتاعها في الليل ويعرضها بوطئه للحمل الذي يخاف منه تلفها ويشغلها عن خدمته بتربية ولدها فتذهب الرغبة فيها وتنقص نقصا كثيرا وربما منع بيعها بالكلية وقولهم أن محل عقد النكاح غير محل الرهن غير صحيح فإن محل الرهن محل البيع والبيع يتناول جملتها ولهذا يباح لمشتريها استمتاعها وإنما صح رهن المزوجة لبقاء معظم المنفعة فيها وبقائها محلا للبيع كما لا يصح رهن المستأجرة ويفارق الرهن الإجارة فإن التزويج لا يؤثر في مقصود الإجارة ولا يمنع المستأجرة من استيفاء المنافع المستحقة له ويؤثر في مقصود الرهن وهو استيفاء الدين من ثمنها فإن تزوجيها يمنع بيعها أو ينقص ثمنها فلا يمكن استيفاء الدين بكماله

في وطء الراهن أمته المرهونة
فصل : ولا يجوز للراهن وطئ أمته المرهونة في قول أكثر أهل العلم وقال بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه : له وطء الآيسة والصغيرة لأنه لا ضرر فيه فإن عله المنع الخوف من الحمل مخافة أن تلد منه فتخرج بذلك عن الرهن أو تتعرض للتف وهذا معدوم فيهما وأهل العلم على خلاف هذا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أمته المرهونة ولأن سائر من يحرم وطؤها لا فرق فيه بين الآيسة والصغيرة وغيرهما كالمعتدة والمستبرأة والأجنبية ولأن الذي تحبل فيه يختلف ولا ينحزر فمنع من الوطء جملة كما حرم الخمر للسكر وحرم منه اليسير الذي لا يسكر لكون السكر يختلف وإن وطئ فلا حد عليه لأنهما ملكه وإنما حرمت عليه لعارض كالمحرمة والصائمة ولا مهر عليه لأن المرتهن لا حق له في منفعتها ووطؤها لا ينقص قيمتها فأشبه ما لو استخدمها وإن تلف جزء أ نقصها مثل أن افتض البكر أو أفضاها فعليه قيمته ما ألتف فإن شاء جعله رهنا معها وإن شاء جعله قضاء من الحق إن لم يكن حل
فإن كان الحق قد حل جعله قضاء لا غير فإنه لا فائدة في جعله رهنا ولا فرق بين الكبيرة والصغيرة فيما ذكرناه
مسألة : قال : وإن كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضا من الرهن وأخذ منه قيمتها فتكون رهنا
وجملته أن الراهن إذا وطئ أمته المرهونة فأولدها خرجت من الرهن وعليه قيمتها حين أحبلها كما لو جرح العبد كانت عليه قيمته حين جرحه ولا فرق بين الموسر والمعسر إلا أن الموسر يؤخذ منه قيمتها والمعسر يكون في ذمته قيمتها على حسب ما ذكرنا في المعتق وهذا قول أصحاب الرأي وقول الشافعي ههنا كقوله في العتق إلا أنه إذا قال له : لا ينفذ الاحبال فإنما هو في حق المرتهن فأما في حق الراهن فهو ثابت لا يجوز له أن يهبها ولو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها لأنها حالم بحر فإذا ولدت لم يجز بيعها حتى يسقي ولدها اللبأ فإن وجد من يرضعه بيعت وإلا تركت حتى ترضعه ثم يباع منها بقدر الدين خاصة ويثبت للباقي حكم الاستيراد فإذا مات الراهن عتق وإن رجع هذا المبيع إلى الراهن بإرث أو بيع أو هبة أو غير ذلك أو ببيع جميعها ثم رجعت إليه ثبت لها حكم الاستيلاد وقال مالك : إن كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه خرجت من الرهن وإن تسور عليها أخذ ولدها وبيعت
ولنا أن هذه أم ولد فلم يثبت فيها حكم الرهن كما لو كان الوطء سابقا على الرهن أو نقول معنى ينافي الرهن في ابتدائه فنافاه في دوامه كالحرية
فصل : فإن كان الوطء بإذن المرتهن خرجت من الرهن ولا شيء للمرتهن لأنه أذن في سبب ما ينافي حقه فكان إذنا فيه ولا نعلم في هذا خلافا وإن لم تحبل فهي رهن بحالها فإن قيل إنما أذن في الوطء ولم يأذن في الاحبال قلنا : الوطء هو المفضي إلى الاحبال ولا يقف ذلك على اختياره فالإذن في سببه إذن فيه فإن أذن ثم رجع فهو كمن لم يأذن وإن اختلفا في الإذن فالقول قول من ينكره وإن أقر المرتهن بالإذن وأنكر كون الولد من الوطء المأذون فيه أو قال : هو من زوج أو زنا فالقول قول الراهن بأربع شروط أحدها : أن يعترف المرتهن بالإذن والثاني : أن يعترف بالوطء الثالث : أن يعترف بالولادة والرابع : أن يعترف يمضي مدة بعد الوطء يمكن أن تلد فيها فحينئذ لا يلتفت إلى إنكاره ويكون القول قولا الراهن بغير يمين لإننا لم نلحقه به بدعواه بل بالشرع فإن أنكر شرطا من هذه الشروط فقال : لم آذن أو قال : أذنت فما وطئت أو قال : لم تمض مدة تضع فيها الحمل منذ وطئت أو قال : ليس هذا ولدها وإنما استعارته فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك كله وبقاء الوثيقة صحيحة حتى تقوم البينة وهذا مذهب الشافعي
فصل : ولو أذن في ضربها فتلفت فلا ضمان عليه لأن ذلك تولد من المأذون فيه كتولد الاحبال من الوطء
فصل : إذا أقر الراهن بالوطء لم يخل من ثلاثة أحوال أحدهما : أن يقر به حال العقد أو قبل لزومه فحكم هذين ولا يمنع ذلك صحة العقد لأن الأصل عدم الحمل فإن بانت حائلا أو حاملا بولد لا يحلق بالراهن فالرهن بحاله وكذلك إن كان يحلق به لكن لا تصير به أم ولد مثل أن وطئها وهي زوجته ثم ملكها ورهنها وإن بانت حاملا بولد تصير به أم ولد بطل الرهن ولا خيار للمرتهن وإن كان مشروطا في بيع لأنه دخل مع العلم بأنها قد لا تكون رهنا فإذا خرجت من الرهن بذلك السبب الذي علمه لم يكن له خيار كالمريض إذا مات والجاني إذا اقتص نمه وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي وقال بعضهم : له الخيار لأن الوطء نفسه لا يثبت الخيار فلم يكن رضاه به رضا بالحمل الذي يحدث منه بخلاف الجناية والمرض ولنا أن إذنه في الوطء إذن فيما يؤول إلهي كذلك رضاه به رضا بما يؤول إليه الحال الثالث : أقر بالوطء بعد لزوم الرهن فإنه يقبل في حقه ولا يقبل في حق المرتهن لأنه أقر بما يفسخ عقدا لازما لغيره فلم يقبل كما لو أقر بذلك بعد بيعها ويحتمل أن يقبل لأنه أقر في ملكه بما لا تهمة فيه لأنه يستضر بذلك أكثر من نفعه بخروجها من الرهن والأول أصح لأن إقرار الإنسان على غيره لا يقبل وهكذا الحكم فيما إذا أقر بأنه غصبها أو أنها كانت جنت جناية تعلق أرشها برقبتها وللشافعي في ذلك قولان وإن أقر أنه اعتقها صح إقراره وخرجت من الرهن وبهذا قال أ [ و حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يقبل بناء على أنه لا يصح اعتاقه للرهن ولنا أنه لو اعتقه لنفذ عتقه فقبل إقراره بعتقه كغير الرهن ولأن إقراره بعتقه يجري مجرى عتقه فأشبه ما لو قال : أنت حر ويتخرج أن لا ينفذ إقرار المعسر بناء على أنه لا ينفذ إعتاقه وكل موضع قلنا القول قول الراهن فقال القاضي : ذلك مع يمينه لأن كذبه محتمل ويحتلم أن لا يستحلف لأنه لو رجع عن إقراره لم يقبل فلا فائدة في استحلافه واختلف أصحاب الشافعي في استحلافه على نحو الوجهين والصحيح عندي إنه إذا أقر بالعتق لم يستحلف لأن ذلك جرى مجرى قوله أنت حر فلم يحتج إلى يمين كما لو صرح به وإن أقر بالغصب والجناية فإنه لم يدع ذلك المغصوب منه والمجني عليه لم يلتفت إلى قول الرهن وجها واحدا وإن ادعياه فاليمين لأن الحق لهما ورجوعهما عنه مقبول فكانت اليمين عليهما كسائر الدعاوى وإن أقر باستيلاد أمته فعليه اليمين لأن نفعها عائد إليه من حل استمتاعها وملك خدمتها فكانت اليمن عليه بخلاف ما قبلها وإن قلنا القول قول المرتهن فعليه اليمين بكل حال لأنه لو اعترف ثبت الحق في الرهن ويمينه على نفي العلم لأنها على نفي فعل الغير فإذا حلف سقطت الدعوى بالنسبة إليه وبقي حكمها في حق الراهن بحيث لو عاد إليه الرهن ظهر فيه حكم إقراره وإن أراد المجني عليه أو المغصوب منه أن يغرماه في الحال فلهما ذلك منع من استيفاء الجناية بتصرفه فلزمه أرشها كما لو قتله
فصل : ولا يحل للمرتهن وطء الجارية المرهونة إجماعا لقول الله تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وليست هذا زوجة ولا ملك يمين فإن وطئها عالما بالتحريم فعله الحد لأنه لا شبه له فيه فإن الرهن استيثاق بالدين ولا مدخل لذل كفي إباحة الوطء ولأن وطء المستأجرة يوجب الحد مع ملكه لنفعها فالرهن أولى فإن ادعى الجهل بالتحريم واحتمل صدقة لكونه ممن نشأ ببادية أو حديث عهد بالإسلام فلا حد عليه وولده حر أنه وطئها معتقدا إباحة وطئها فهو كما لو وطئها يظنها أمته وعليه قيمة ولدها يوم الولادة لأن اعتقاده الحل منع انخلاق الولد رقيقا ففوت رق الولد على سيدها فلزمته قيمته كالمغرور بحرية أمة وإن لم يحتمل صدقة كالناشئ ببلاد الإسلام مختلطا بهم من أهل العلم لم تقبل دعواهن لأنه لا يخلو ممن يسمع منه لم يعلم به تحريم ذلك فيكون كنم لم يدع الجهل وولده رقيق للراهن لأنه من زنا ولا فرق في جميع ما ذكرنا بين أن يكون الوطء بإذن الراهن أو بغير إذنه وهذا المنصوص عن الشافعي ويحتمل أن لا يجب قيمة الولد مع الإذن في الوطء وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الإذن في الوطء إذن فيما يحدث منه بدليل أنه لو أذن المرتهن للراهن فلي الوطء فحملت منه سقط حقه من الرهن ولو أذن في قطع أصبع فسرت إلى أرخى لم يضمنها ووجه الأول أن وجوب الضمان يمنع انخلاق الولد رقيقا وسببه اعتقاد الحل وما حصل ذلك بإذنه بخلاف الوطء فإن خروجها من الرهن بالحمل الذي الوطء المأذون فيه سبب له وأما المهر فإن كان الوطء بإذن الراهن فلا مهر له وقال أبو حنيفة : يجب لأنه يجب لها ابتداء فلا يسقط بإذن غيرها وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه أذن في سببه وهو حق هلم يجب كما لو أذن في قتلها ولأن المالك أذن في استيفاء المنفعة فلم يجب عوضها كالحرة المطاوعة وإن كان بغير إذنه فالمهر واجب سوءا أكرهها أو طاوعته
وقال الشافعي : لا يجب المهر مع المطاوعة لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن مهر البغي ولأن الحد إذا وجب على الموطءة لم يجب المهر كالحرة
ولنا أن المهر يجب للسيد فلا يسقط بمطاوعة الأمة وإذنها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنه استوفى هذه المنفعة المملوكة للسيد بغير إذنه فكان عليه عوضها كما ول أكرهها وكأرش بكارتها لو كانت بكرا والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة عليه فقال : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } وقولهم لا يجب الحد والمهر قلنا لا يجب المهر لها وفي مسألتنا لا يجب لها وإنما يجب لسيدها ويفارق الحرة فإن المهر لوجب لها وقد اسقطت حقها بإذنها وههنا المستحق لم يأذن ولأن الوجوب في حق الحرة بإكراهها وسقوطه بمطاوعتها فكذلك السيد ههنا لما تعلق السقوط بإذنه ينبغي أن يثبت عند عدمه وسواء وطئها معتقدا للحل أو غير معتقد له أو ادعى شبهة أولم يدعها لأن المهر حق آدمي فلا يسقط بالشبهات ولا تصير هذه الأمة أم ولد للمرتهن بحال سواء ملكها بعد الوضع أو قبله وسواء حكمنا برق الولد أو حريته لأنه أحبلها في غير ملكه

في جناية العبد المرهون وكون الرهن أمانة في يد المرتهن وجناية العبد المرهون على عبد سيده
مسألة : قال : وإذا جنى العبد المرهون فالمجني عليه أحق برقبته من مرتهنه حتى يستوفي حقه فإن اختار سيده أو يفديه وفعل فهو رهن بحاله
وجملته أن العبد المرهون إذا جنى على إنسان أو على ماله تعلقت الجناية برقبته فكانت مقدمة على حق المرتهن لا نعلم في هذا خلافا وذلك لأن الجناية مقدمة على حق المالك والملك أقوى من الرهن فأولى أن يقدم على الرهن فإن قيل فحق المرتهن أيضا يقدم على حق المالك قلنا حق المرتهن ثبت من جهة الجناية مختص بعقده وحق الجناية ثبت بغير اختياره مقدما على حقه فيقدم على ما يثبت بعقده ولأن حق الجناية مختص بالعين يسقط بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها فكان تعلقه بها أحق وأولى فإن كانت جنايته موجبة للقصاص فلولي الجناية استيفاؤه فإن اقتص سقط الرهن كما و تلف وإن عفا على مال تعلق برقبة العبد وصار كالجناية الموجبة للمال فيقال للسيد : أنت مخير بين فدائه وبين تسليمه للبيع فإن اختيار فداءه فبكم يفديه ؟ على روايتين إحداهما : بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه إن كان الأرش أقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته وإن كانت القيمة أقل فلا يلزمه أكثر منها لأن ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزم أكثر من قيمته كما لو أتلفه والثانية : يفديه بأرش جنايته بالغا ما بلغ لأنه ربما يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته فإذا فداه فهو رهن بحاله لأن حق المرتهن قائم لوجود سببه وإنما قدم حق المجني عليه لقوته فإذا زال ظهر حكم الرهن كحق من لا رهن له مع حق المرتهن في تركة مفلس إذا أسقط المرتهن حقه ظهر حكم الآخر فإن امتنع قيل للمرتهن أنت مخير بين فدائه وبين تسليمه فإن اختار فداءه فبكم يفديه ؟ على الروايتين فإن فداه بإذن الراهن رجع به عليه لأنه أدى الحق عنه بإذنه فرجع به كما لو قضى دينه بإذنه وإن فداه متبرعا لم يرجع بشيء وإن نوى الرجوع فهل يرجع بذلك على وجهين بناء على ما لو قضى دينه بغير إذنه وإن زاد في الفداء على الواجب لم يرجع به وجها واحدا ومذهب الشافعي كما ذكرنا في هذا الفصل إلا أنه لا يرجع بما فداه به بغير إذنه قولا واحدا وإن شرط له الراهن الرجوع رجع قولا واحدا وإن قضاه بإذنه من غير شرط الرجوع ففيه وجهان وهذا أصل يذكر في غير هذا الموضع فإن فداه وشرط أن يكون رهنا بالفداء مع الدين الأول فقال القاضي : يجوز ذلك لأن المجني عليه يملك بيع العبد وإبطال الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة ولأن أرش الجناية متعلق به وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن ويحتمل أن لا يصح لأن العبد رهن بدين فلا يجوز رهنه ثانيا بدين سواه كما لو رهنه بدين سوى هذا وذهب أبو حنيفة إلى أن ضمان جناية الرهن على المرتهن فإن فداه لم يرجع بالفداء وإن فداه الراهن بيع في الجناية سقط دين الرهن إن كان يقدر الفداء وبناء على أصله في أن الرهن من ضمان المرتهن وهذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى وإذا لم يفد الجاني فبيع ف الجناية التي يستغرق قيمته بطل الرهن وإن لم تستغرقها بيع منه بقدر أرش الجناية وباقيه رهن إلا أن يتعذر بيع بعضه فيباع الكل ويجعل بقية الثمن رهنا وقال أبو الخطاب : هل يباع منه بقدر الجناية أم يباع جميعه ويكون الفاضل من ثمنه عن أرش جنايته رهنا ؟ على وجهين
فصل : وإن كانت الجناية على سيد العبد فلا يخلو من حالين أحدهما : أن تكون الجناية غير موجبة للقود كجناية الخطأ أو شبه العمد أو اتلاف مال فيكون هدرا لأن العبد مال لسيده فلا يثبت له في ماله الثاني : أن تكون موجبة للقود فلا يخلو من أن تكون على النفس أو على ما دونها فإن كانت على ما دون النفس فالحق للسيد فإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال لما ذكرنا وكذلك إن عفا على غير مال وإن أحب أن يقتض فله ذلك لأن السيد لا يملك الجناية على عبده فيثبت له ذلك بجنايته عليه ولأن القصاص يجب للزجر والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده فإن اقتص فعليه قيمته تكون رهنا مكانه وقضاء عن الدين لأنه يخرجه عن كونه رهنا باختياره فكان عليه بدله كما لو اعتقه وإن كانت الجناية على النفس فللورثة استيفاء القصاص وليس لهم العفو على مال وذكر القاضي وجها آخر أن لهم ذلك لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فكان لهم العفو كما لو جنى على أجنبي و للشافعي قولان كالمذهبين فإن عفا بعض الورثة سقط القصاص وهل يثبت لغير العافي نصيبه من الدية ؟ على الوجهين ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرناه
فصل : وإن جنى العبد المرهون على عبده لسيده لم يخل من حالين أحدهما : أن لا يكون مرهونا فحكمه حكم الجناية على طرف سيده له القصاص إن كانت جنايته موجبة له وإن عفا على مال أو غيره أو كانت الجناية لا توجب القصاص ذهبت هدرا وسواء كان المجني عليه قنا أو مدبرا أو ولد الحال الثاني : أن يكون رهنا فلا يخلو إما أن يكون رهنا عند مرتهن القاتل أو عند غيره فإن كان عند مرتهن القاتل والجناية موجبة للقصاص فلسيده القصاص فإن اقتض بطل الرهن في المجني عليه وعليه قيمته للمقتص منه فإن عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال وكانا رهنا بحق واحد فجنايته هدر لأن الحق يتعلق بكل واحد منهما فإذا قتل أحدهما بقي الحق متعلقا بالآخر وإن كان كل واحد منهما مرهونا بحق مفرد ففيه أربع مسائل
المسألة الأولى : أن يكون الحقان سواء وقيمتها سواء فتكون الجناية هدرا سواء كان الحقان من جنسين مثل أن يكون أحدهما بمائة دينا والآخر بألف درهم قيمتها مائة دينار أو من جنس واحد لأنه لا فائدة في اعتبار الجناية
المسألة الثانية : أن يختلف الحقان وتتفق القيمتان مثل أن يكون دين أحدهما مائة ودين الآخر مائتين وقيمة كل واحد منهما مائة فإن كان دين القاتل أكثر لم ينقل إلى دين المقتول لعدم الغرض فيهن وإن كان دين المقتول أكثر نقل إلى القاتل لأن المرتهن غرضا في ذلك وهل يباع القاتل وتجعل قيمته رهنا مكان المقتول أن ينقل بحاله ؟ على وجهين أحدهما : لا يباع لأنه لا فائدة فيه والثاني : يباع لأنه ربما زاد فيه مزايد فبلغه أكثر من ثمنه فإن عرض للبيع فلم يزد فيه لم يبع لعدم ذلك
المسألة الثالثة : أن يتفق الدينان وتختلف القيمتان بأن يكون دين كل واحد منهما مائة وقيمة أحدهما مائة والآخر مائتين فإن كانت قيمة المقتول أكثر فلا غرض في النقل فيبقى بحاله وإن كانت قيمة الجاني أكثر بيع منه بقدر جنايته يكون رهنا بدين المجني عليه والباقي رهن بدينه وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه صار مرهونا بهما فإن حل أحد الدينين بيع بكل حال لأنه إن كان دينه المعجل بيع ليستوفي من ثمنه وما بقي منه رهن بالدين الآخر فإن كان المعجل الآخر بيع ليستوفي منه بقدره والباقي رهن بدينه
المسألة الرابعة : أن يختلف الدينان والقيمتان مثل أن يكون أحد الدينين خمسين والآخر ثمانين وقيمة أحدهما مائة والآخر مائتين فإن كان دين المقتول أكثر نقل إليه وإلا فلا وأما إن كان المجني عليه رهنا عند غير مرتهن القاتل فللسيد القصاص لأنه مقدم على حق المرتهن بدليل أن الجناية الموجبة للمال مقدمة عليه فالقصاص أولى فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه لأن الجناية عليه لم توجب مالا يجعل رهنا مكانه وعليه قيمة المقتص منه تكون رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة فيه باختياره وللسيد العفو على مال فتصير الجناية كالجناية الموجبة للمال فيثبت المال في رقبة العبد لأن السيد لو جنى على العبد لوجب أرش جنايته لحق المرتهن فبأن يثبت على عبده أولى فإن كان الأرش لا يستغرق قيمته بعنا منه بقدر أرش الجناية يكون رهنا عند مرتهن المجني عليه وباقية عند مرتهنه وإن لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه وقسم ثمنه بينهما على حسب ذلك رهنا وإن كانت الجناية تستغرق قيمته نقل الجاني فجعل رهنا عند الآخر ويحتمل أن يباع لاحتمال أن يرغب فيه راغب بأكثر من ثمنه فيفضل من قيمته شيء يكون رهنا عند مرتهنه وهذا كله قول الشافعي
فصل : فإن كانت الجناية على مورث سيده فيما دون النفس كأطرافه أو ماله فهي كالجناية على أجنبي وله القصاص إن كانت موجبة له والعفو على مال وغيره وإن كانت موجبة لمال ابتداء ثبت فإن انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق بموت المستحق فله مالموروثة من القصاص والعفو على مال لأن الاستدامة أقوى من الابتداء فجاز أن يثبت بها ما لا يثبت في الابتداء وإن كانت الجناية على نفسه بالقتل ابتداء فهل يثبت للسيد ؟ فيه وجهان أحدهما : يثبت وهو قو بعض أصحاب الشافعي لأن الجناية على غيره فأشبهت الجناية على ما دون النفس والثاني : لا يثبت له مال في عبده ولا له العفو عليه وقول قول أبي ثور لأنه حق يثبت للسيد ابتداء فلم يثبت للقتيل ثم ينتقل إلى وارثه أو يثبت للوارث ابتداء ؟ على وجهين وكل موضع يثبت له المال في رقبة عبده فإنه يقدم على الرهن لأنه يثبت للموروث كذلك فينتقل إلى وارثه كذلك وإن اقتص في هذه الصورة لم يلزمه بدل الرهن لأنه إذا قدم المال على حق المرتهن فالقصاص أولى ولأن القصاص يثبت للمورث مقدما على حق المرتهن فكذلك في حق وارثه
فصل : وإن كانت الجناية على مكاتب السيد فهي كالجناية على ولده وتعجيزه كموت ولده فيما ذكرنا والله أعلم
فصل : فإن جنى العبد المرهون بإذن سيده وكان ممن يعلم تحريم الجناية وانه لا يجب عليه قبول ذلك من سيده فهي كالجناية بغير إذنه وإن كان أعجميا أو صبيا لا يعلم ذلك فالسيد هو القاتل والقصاص والدية متعلقان به لا يباع العبد فيها موسرا كان السيد أو معسرا كما لو باشر السيد القتل وذكر القاضي وجها آخر أن العبد يباع إذا كان السيد معسرا لأنه باشر الجناية والصحيح الأول العبد آلة فلو تعلقت الجناية به بيع فيها وإن كان السيد موسرا وحكم إقرار العبد بالجناية حكم إقرار العبد غير المرهون على ما مضى بيانه في موضعه

الجناية على الرهن وبيان الشروط الصحيحة والفاسدة في الرهن
مسألة : قال : وإن جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده وما قبض بسبب ذلك من شيء فهو رهن
وجملته أنه إذا جنى على الرهن فالخصم في سيده لأنه مالكه والأرش الواجب بالجناية لملكه وإنما للمرتهن فيه حق الوثيقة فصار كالعبد المستأجر والمودع وبهذا قال الشافعي وغيره فإن ترك المطالبة أو أخرها أو كان غائبا أو له عذر يمنعه منها للمرتهن المطالبة بها لأن حقه متعلق بموجبها فكان له الطلب به كما لو كان الجاني سيده ثم إن كانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص لأنه حق له وإنما يثبت ليستوفي فإن اقتص أخذت منه قيمة أقلهما قيمة فجعلت مكانه رهنا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهذا قول إسحاق ويتخرج أن لا يجب عليه شيء وهو مذهب الشافعي لأنه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن أن يسعى للمرتهن في اكتساب مال
ولنا أنه أتلف مالا استحق بسبب إتلاف الرهن فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال وهكذا الحكم فيما إذا ثبت القصاص للسيد في عبده المرهون وإنما أوجبنا أقل القيمتين لأن حق المرتهن إنما يتعلق بالمالية والواجب من المال هو أقل القيمتين لأن الرهن إن كان أقل لم يجب أكثر من قيمته وإن كان الجاني أقل لم يجب أكثر من قيمته وإن عفا على مال صح عفوه ووجب أقل القيمتين لما ذكرنا هذا إذا كان القصاص قتلا وإن كان جرحا أو قلع سن ونحوه فالواجب بالعفو أقل الأمرين من أرش الجرح أو قيمة الجاني وإن عفا مطلقا أو على غير مال انبنى ذلك على موجب العمد ما هو ؟ فإن قلنا موجبه أحد شيئين ثبت المال وإن قلنا موجبه القصاص عينا فحكمه حكم ما لو اقتص إن قلنا ثم تجب قيمته على الراهن وجب ههنا وهو اختيار أبي الخطاب لأنه فوت بدل الرهن بفعله أشبه ما لو اقتص وإن قلنا لا يجب على الراهن شيء ثم لم يجب ههنا شيء وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنه اكتساب مال فلا يجبر عليه وأما إن كانت الجناية موجبة للمال أو ثبت المال بالعفو عن الجناية الموجبة للقصاص فإنه يتعلق به حق الراهن والمرتهن ويكون من غالب نقد البلد كقيم المتلفات فلو أراد الراهن أن يصالح عنها أو يأخذ حيوانا عنها لم يجز إلا بإذن المرتهن فإن أذن فيه جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما وما قبض من شيء فهو رهن بدلا عن الأول نائبا عنه وقائما مقامه فإن عفا الراهن عن المال فقال القاضي : يسقط حق الراهن دون حق المرتهن فتؤخذ القيمة تكون رهنا فإذا زال الرهن رجع الأرش إلى الجاني كما لو أقر أن الرهن مغصوب أو جان وإن استوفى الدين من الأرش احتمل أن يرجع الجاني على العافي لأن ماله ذهب في قضاء دينه فلزمته غرامته كما لو غصبه أو استعاره فرهنه واحتمل أن لا يرجع عله لأنه لم يوجد منه في حق الجاني ما يقتضي وجوب الضمان وإنما استوفى بسبب كان منه حال ملكه فأشبه ما لو جنى إنسان على عبده ثم وهبه لغيره فتلف بالجناية السابقة وقال أبو الخطاب : يصح العفو مطلقا ويؤخذ من الراهن قيمته تكون رهنا لأنه أسقط دينه عن غريمه فصح كسائر ديونه قال : ولا يمكن كونه رهنا مع عدم الحق الراهن فيه فلزمته القيمة لتفويته حق المرتهن فأشبه ما لو تلف بدل الرهن وقال الشافعي : لا يصح العفو أصلا لأن حق المرتهن متعلق به فلم يصح عفو الراهن عنه كالرهن نفسخ وكما لو وهب الرهن أو غصب فعفي عن غاصبه وهذا أصح في النظر وإن قال المرتهن : أسقطت حقي من ذلك سقط لأنه ينفع الراهن ولا يضره وإن قال : أسقطت الأرش أو أبرأت منه لم يسقط لأنه ملك للراهن فلا يسقط بإسقاط غيره وهل يسقط حقه ؟ فيه وجهان أحدها : يسقط وهو قول القاضي لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه فإذا لم يسقط حق غيره سقط حقه كما لو قال أسقطت حقي وحق الراهن والثاني : لا يسقط لأن العفو والا براء منه لا يصح فلم يصح ما تضمنه
فصل : وإذا أقر رجل بالجناية على الرهن فكذباه فلا شيء لهما وإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن فله الأرش ولا حق للمرتهن فيه فإن صدقه المرتهن وحده تعلق بالأرش له وقبضه فإن قضى الراهن الحق أو أبرأه المرتهن رجع الأرش إلى الجاني ولا شيء للراهن فيه وإن استوفى حقه من الأرش لم يملك الجاني مطالبه الراهن بشيء لأنه مقر له باستحقاقه
فصل : ولو كان الرهن أمة حاملا فضرب بطنها أجنبي فألقت جنينا ميتا ففيه عشر قيمة أمه وإن ألقته حيا ثم مات لوقت يعيش مثله ففيه قيمته ولا يجب ضمان نقص الولادة لأنه لا يتميز نقصها عما وجب ضمانه من ولدها ويحتمل أن يضمن بالولادة لأنه حل بفعله فلزمه ضمانه كما لو غصبها ثم جنى عليها ويحتمل أن ويحتمل أن يجب أكثر الأمرين من نقصها أو ضمان جنينها لأن سبب ضمانها وجد فإذا لم يجتمع ضمانها وجب ضمان أكثرهما وإن ضرب بطن بهيمة فألقت ولدها ميتا ففيه ما نقصنها الجناية لا غير وما وجب في ولدها وما وجب في جنين الأمة فليس برهن لأن نماء الرهن ليس برهن ولنا أن هذا يجب بسبب الجناية على الرهن فكان من الرهن من الرهن كالواجب لنقص الولادة وضمان ولد البهيمة وقولهم إن نماء الرهن لا يدخل في الرهن غير مسلم

قال وإذا اشترى منه سلعة على أن يرهن بها شيئا من ماله
مسألة : قال : وإذا اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئا من ماله يعرفانه أو على أن يعطيه بالثمن حميلا يعرفانه فالبيع جائز فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل فالبائع مخير في فسخ البيع وفي إقامته بلا رهن ولا حميل
الحميل الضمين وهو فعيل بمعنى فاعل يقال ضمين وحميل وقبيل وكفيل زعيم وصبير بمعنى واحد وجملة ذلك أن البيع بشرط الرهن أو الضمين صحيح والشرط صحيح أيضا لأنه من مصلحة العقد غير مناف لمقتضاه ولا نعلم في صحته خلافا إذا كان معلوما ولذلك قال الخرقي : يعرفانه في الرهن والضمين معا ومعرفة الرهن تحصل بأحد شيئين المشاهدة أو الصفة التي يعلم بها الموصوف كما في السلم ويتعين بالقبض وأما الضمين فيعلم بالإشارة إليه أو تعريفه بالاسم والنسب ولا يصح بالصفة بأن يقول رجل غني من غير تعيين لأن الصفة لا تأتي عليه ولو قال بشرط رهن أو ضمين كان فاسدا لأن ذلك يختلف وليس له عرف ينصرف إليه بإطلاق ولو قال بشرط رهن أحد هذين الرجلين لم يصح لأن الغرض يختلف فلم يصح مع عدم التعيين كالبيع وهذا مذهب الشافعي وحكي عن مالك و أبي ثور أنه يصح شرط الرهن المجهول ويلزمه أن يدفع إليه رهنا بقدر الدين لأنه وثيقة فجاز شرطها مطلقا كالشهادة وقال أبو حنيفة : إذا قال على أن ارهنك أحد هذين العبدين جاز لأن بيعه جائز عنده
ولنا أنه شرط رهنا مجهولا فلم يصح كما لو شرط رهن ما فيه كمه ولأن عقد يختلف فيه المعقود عليه فلم يصح مع الجهل كالبيع وفارق الشهادة فإن لها عرفا في الشرع حملت عليه والكلام مع أبي حنيفة قد مضى في البيع فإن الخلاف فيهما واحد إذا ثبت هذا فإن المشتري إن وفى بالشرط فسلم الرهن أو حمل عنه الحميل لزم البيع وإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل عنه فللبائع الخيار بين فسخ البيع وبين إمضائه والرضا به بلا رهن ولا حميل فإن رضى به لزمه البيع وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يلزم المشتري تسليم الرهن وقال مالك وأبو ثور : يلزم الرهن إذا كان مشروطا ي عقد البيع ويجبر عليه المشتري وإن وجده الحاكم دفعه إلى البائع لأن عقد البيع وقع عليه فأشبه الخيار وقال القاضي : ما عدا المكيل والموزون يلزم فيه الرهن بمجرد العقد وقد مضى الكلام معهم في أول الباب ولأنه رهن فلم يلزم قبل القبض كما لو لم يكن مشروطا في البيع أو كغير المكيل والموزون وإنما لزم الخيار والأجل بالشرط لأنه من توابع البيع لا ينفرد بنفسه والرهن عقد منفرد بنفسه ليس من التوابع ولأن الخيار والأجل يثبت بالقول ولا يفتقر إلى تسليم فاكتفي في ثبوته بمجرد القول بخلاف الرهن فأما الضمين فلا خلاف في إنه لا يلزمه الضمان إذ لا يلزمه شغل ذمته وأداء دين غيره باشتراط غيره ولو وعده بأنه يضمن ثم لم يفعل لم يلزم في الحكم كما ولوعده أنه يبيعه ثم أبى ذلك ومتى لم يف المشتري للبائع إذا بشرطه كان له الفسخ كما لو شرط صفة في الثمن فلم يف بها ولأنه أحد المتعاقدين فإذا لم يف بما شرط في العقد ثبت الخيار لصاحبه كالبائع إذا شرط المبيع على صفة فبان بخلافها
فصل : ولو شرط رهنا أو ضمينا معينا فجاء بغيرهما لم يلزم البائع قبوله وإن كان ما أتى به خيرا من المشروط مثل أن يأتي بأكثر قيمة من المشروط وحميل أوثق من المعين لأنه عقد على معين فلم يلزمه قبول غيره كالبيع ولأن الغرض يختلف بالأعيان فمنها ما يسهل بيعه والاستيفاء من ثمنه ومنها ما هو أقل مؤنة وأسهل حفظا وبعض الذمم أملأ من بعض وأسهل ايفاء فلا يلزمه قبول غير ما عينه كسائر العقود

حكم تعيب الرهن ومنه استحالة العصير خمرا أو شرط الرهن الفاسد في البيع والشروط الصحيحة والفاسدة في عقد الرهن
فصل : وإن تعيب الرهن أو استحال العصير خمرا قبل قبضه فللبائع الخيار بين قبضه معيبا ورضاه بلا رهن فيما إذا تخمر العصير وبين فسخ البيع ورد الرهن وإن علم بالعيب بعد قبضه فكذلك وليس له مع إمساكه أرش من أجل العيب لأن الرهن إنما لزم فيما حصل قبضه وهو الموجود والجزء الفائت لم يلزم تسليمه فلم يلزم الأرش بدلا عنه بخلاف المبيع وإن تلف أو تعيب بعد القبض فلا خيار للبائع وإن اختلفا في زمن حدوث العيب وهو مما لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله من غير يمين لأن اليمن إنما تراد لدفع الاحتمال وهذا لا يحتمل وإن احتمل قوليهما معا انبنى على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب المبيع وفيه روايتان فيكون فيه ههنا وجهان أحدهما : القول قول الراهن وهو قول أبو حنيفة والشافعي لأن الأصل صحة العقد ولزومه والآخر : القول قول المرتهن وهو قياس قول الخرقي لقوله مثل ذلك في البيع لأنهما اختلفا في قبض المرتهن للجزء الفائت فكان القول قوله كما لو اتلفا في قبض جزء منفصل منه وإن اختلفا في زمن التلف فقال الراهن : بعد القبض وقال المرتهن قبله فالقول قوله لأنه منكر للقبض وإن كان الرهن عصيرا فاستحال خمرا واختلفا في زمن استحالته فالقول قول الراهن نص عليه أحمد وقال القاضي : يخرج فيه رواية أخرى أن القول قول المرتهن كالاختلاف في البيع وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في زمن التلف ولنا أنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في شرط فاسد ويفارق اختلافهما في حدوث العيب من وجهين أحدهما : أنهما اتفقا على القبض ههنا وثم اختلفا في قبض الجزء الفائت الثاني : أنهما اختلاف هنا فيما يفسد العقد والعيب بخلافه
فصل : ولو وجد بالرهن عيبا بعد أن حدث عنده عيب آخر فله رده وفسخ البيع لأن العيب الحادث في ملك الراهن لا يلزم المرتهن ضمانه بخلاف المبيع وخرجه القاضي على روايتين بناء على البيع فعلى قوله لا يملك الرد يملك الفسخ والصحيح ما ذكرناه وإن هلك الرهن في يد المرتهن ثم علم أنه كان معيبا لم يملك فسخ البيع لأنه تعذر عليه رده فإن قيل فالرهن غير مضمون ولهذا لا يمتنع رده بحدوث العيب فيه قلنا إنما تضمن قيمته لأن العقد لم يقع على ملكه وإنما وقع على الوثيقة فهو مضمون بالوثيقة أما إذا تعيب فقد رده فيستحق بدل ما رده وههنا لم يرد شيئا فلو أوجبنا له بدله لأوجبنا على الراهن غير ما شرط على نفسه
فصل : ولو لم يشترطا رهنا في البيع فتطوع المشتري برهن وقبضه البائع كان حكمه حكم الرهن المشروط في البيع ولا ينفك شيء منه حتى يقضي جميع الدين ولا يملك الراهن انتزاع ولا التصرف فيه إلا بإذن المرتهن إلا أنه رده بعيب أو غيره لم يملك فسخ البيع
فصل : وإذا تبايعا بشرط أو يكون المبيع رهنا على ثمنه لم يصح قاله ابن حامد وهو قول الشافعي لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له وسواء شرط رهنه قبل قبضه وروي عن أحمد أنه قال : إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا إلا أن يكون شرطا عليه في نفس البيع وهذا يدل على صحة الشرط لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه وقال القاضي : معنى هذه الرواية أنه شرط عليه في نفس رهنا غير المبيع فيكون له حبس المبيع حتى يقبض الرهن وإن لم يف به فسخ البيع فأما شرط رهن المبيع على ثمنه فلا يصح لوجوه منها أنه غير مملوك له ومنها أن البيع يقتضي إيفاء من غير المبيع والرهن يقتضي الوفاء منه ومنها أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا ورهن المبيع يقتضي أن لا يسلمه حتى يقبض الثمن ومنها أن البيع يقتضي أن يكون إمساك المبيع مضمونا والرهن يقتضي أن لا يكون مضمونا وهذا يوجب تناقض أحكامهما وظاهر الرواية صحة رهنه وقولهم إنه غير مملوك قلنا إنما شرط رهنه بعد هلكه وقولهم البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع غير صحيح إنما يقتضي وفاء الثمن مطلقا ولو تعذر وفاء الثمن من غير المبيع لاستوفي من ثمنه وقولهم البيع يقتضي تسليم المبيع قبيل تسليم الثمن ممنوع وإن سلم فلا يمنع أن يثبت بالشرط خلافه كما أن مقتضى البيع حلول الثمن ووجوب تسليمه في الحال ولو شرط التأجيل جاز وكذلك مقتضى البيع ثبوت الملك في المبيع والتمكين والتصرف فيه وينتفي بشرط الخيار وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث والرابع فأما إن لم يشترط ذلك في البيع لكن رهنه عنده بعد البيع فإن كان بعد لزوم المبيع فالأولى صحته لأنه يصح رهنه عند غيره فصح عنده كغيره ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه فصح رهنه على ثمنه وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع ففي كل موضع جاز التصرف فيه جاز رهنه وما لا فلا لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه
فصل : وإذا شرط في البيع رهنا فاسدا كالمحرم والمجهول والمعدوم وما لا يقدر على تسليمه أو غير المعين أو شرط رهن المبيع على ثمنه ففي فساد البيع روايتان مضى توجيههما في الشروط الفاسدة في البيع واختار أبو الخطاب ههنا فساد البيع وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقد مضى ذكر ذلك
فصل : والشروط في الرهن تنقسم قسمين صحيحا وفاسدا فالصحيح مثل أن يشترط كونه على يد عدل عينه أو عدلين أو أكثر أو أن يبيعه العدل عند حلول الحق ولا نعلم في صحة هذا خلافا وإن شرط أن يبيعه المرتهن صح وبه قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي : لا يصح لأنه توكيل فيما يتنافى فيه الغرضان فلم يصح كما لو وكله في بيعه من نفسه ووجه التنافي أن الراهن يريد الصبر على المبيع والاحتياط في توفير الثمن والمرتهن يريد تعجيل الحق وانجاز البيع
ولنا أن ما جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه كبيع عين لأرى ولأن من جاز أن يشترط له الإمساك جاز اشتراط البيع له كالعدل ولا يضر اختلاف الغرضين إذا كان غرض المرتهن مستحقا له وهو استيفاء الثمن عند حلول الحق وانجاز البيع وعلى أن الراهن إذا وكله مع العلم بغرضه فقد سمح له بذلك والحق له فلا يمنع من المساحة به كما لو وكل فاسقا في بيع ماله وقبض ثمنه ولا نسلم أنه لا يجوز توكيله في بيع شيء من نفسه وإن سلمنا فلأن الشخص الواحد يكون بائعا مشتريا وموجبا قابلا وقابضا من نفسه لنفسه بخلاف مسألتنا
فصل : وإذا رهنه أمة فشرطا كونها عند امرأة أو ذي محرم لها أو كونها في يد المرتهن أو أجنبي على وجه لا يفضي إلى خلوة بها مثل أن يكون لهما زوجات أو سراري أو نساء من محارمهما معهما في دارهما جاز لأنه لا يفضي إلى محرم وإن لم يكن كذلك فسد الشرط لأنه يفضي إلى خلوة المحرمة ولا يؤمن عليها ولا يفسد الرهن لأنه لا يعود إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين ويكون الحكم فيه كما لو رهنها من غير شرط يصح الرهن ويجعلها الحاكم على يد من يجوز أن تكون عنده وإن كان الرهن عبدا فشرط موضعه جاز وإن لم يشترط موضعه صح أيضا كالأمة ويحتمل أن لا يصح لأن للأمة غرفا بخلاف عبدا فشرط موضعه أصح فإن الأمة إذا كان المرتهن ممن يجوز وضعها عند كالعبد وإذا كان مرتهن العبد امرأة لا زوج لها فشرطت كونه عندها على وجه يفضي إلى خلوته بها لم يجز أيضا فاستويا
فصل : والقسم الثاني الشروط الفاسدة مثل أن يشترط ما ينافي مقتضى الرهن نحو أن يشترط أن لا يباع الرهن عند حلول الحق أو لا يستوفي الدين من ثمنه أو لا يباع ما خيف تلفه أو بيع الرهن بأي ثمن كان أو أن لا يبيعه إلا بما يرضيه فهذه شروط فاسدة لمنافاتها مقتضى العقد فإن المقصود مع الوفاء بهذه الشروط مفقود وكذلك إن شرطا الخيار للراهن أو أن يكون العقد لازما في حقه أو توقيت ارهن أو أن يكون رهنا يوما ويوما لا أو كون الراهن أو أن ينتفع به أو ينتفع به المرتهن أو كونه مضمونا على المرتهن أو العدل فهذه كلها فاسدة لأن منها ما ينافي مقتضى العقد ومنها ما لا يقتضيه العقد ولا هو من مصلحته وإن شرطا شيئا منها في عقد الرهن فقال القاضي : يحتمل أن يفسد الرهن بها بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط فإذا لم يسلم له لم يصح العقد لعدم الرضا به بدونه وقيل أن شرط الرهن مؤقتا أو رهنه يوما ويوما لا فسد الرهن وهل يفسد بسائرها ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع ونصر أبو الخطاب في رؤوس المسائل صحته وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يغلق الرهن ] وهو مشروط فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده وقيل ما ينقص حق المرتهن يبطله وجها واحدا وما لا فعلى وجهني وهذا مذهب الشافعي لأن المرتهن شرطت له زيادة لم تصح له فإذا فسدت الزيادة لم يبطل أصل الرهن
فصل : وإن شرط أنه متى حل الحق ولم يوفني فالرهن لي بالدين أو فهو مبيع لي بالدين الذي عليك فهو شرط فاسد روي ذلك عن ابن عمر و شريح و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد لله نب جعفر قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يغلق الرهن ] رواه الأثرم قال الأثرم : قلت لأحمد ما معنى قوله [ لا يغلق الرهن ] ؟ قال لا يدفع رهنا إلى رجل ويقول إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك : قال ابن المنذر : هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك و الثوري و أحمد وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر [ أن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الأجل فقال الذي ارتهن منزلي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا يغلق الرهن ] ولأنه علق البيع على شرط فإن جعله مبيعا بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع والمعلق بشرط لبا يصح وإذا شرط هذا الشرط فسد الرهن ويتخرج أن لا يفسد لما ذكرنا في سائر الشروط الفاسدة وهذا ظاهر قول أبي الخطاب في رؤوس المسائل واحتد بقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يغلق الرهن نفي غلقه دون أصله فيدل على صحته ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط فمع بطلانه أولى أن يرضى به ولنا أنه رهن بشرط فاسد فكان فاسدا كما لو شرط توفيته وليس في الخبر أنه شرط ذلك في ابتداء العقد فلا يكون فيه حجة
فصل : ولو قال الغريم : رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل كان باطلا لأن الأجل لا يثبت في الدين إلا أن يكون مشروطا في عقد وجب به فإذا لم يثبت الأجل لم يصح الرهن لأنه جعله في مقابلته ولأن ذلك يضاهي ربا الجاهلية كانوا يزيدون في الدين ليزدادوا في الأجل
فصل : إذا كان له على رجل ألف فقال : أقرضني ألفا بشرط أن أرهنك عبدي هذا بالألفين : فنقل حنبل عن أحمد أن القرض باطل وهو مذهب الشافعي لأنه قرض يجر منفعة وهو الاستيثاق بالألف الأول وإذا بطل الرهن فإذا قيل أليس لو شرط أنه يعطيه رهنا بما يقترضه جاز ؟ قلنا ليس هذا قرضا جر منفعة لأن غاية ما حصل له تأكيد الاستيفاء لبدل ما أقرضه وهو مثله والقرض يقتضي وجوب الوفاء وفي مسألتنا شرط في هذا القرض الاستيثاق لدينه الأول فقد شرط استيثاقا لغير موجب القرض ونقل أن القرض صحيح ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط كيلا يفضي إلى جر المنفعة بالقرض أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده صححه فيما عداه ولو كان مكان القرض بيع فقال : بعني عبدك هذا بألف على أن أرهنك عبدي به وبالألف الآخر الذي علي فالبيع باطل رواية واحدة لأن الثمن مجهول فإنه جعل الثمن ألفا ومنفعة هي وثيقة بالألف الأول وتلك المنفعة مجهولة ولأنه شرط عقد الرهن بالألف الأول فلم يصح كما لو أفرده أو كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره
فصل : وإذا فسد الرهن وقبضه المرتهن لم يكن عليه ضمانه لأنه قبضه بحكم أنه رهن وكل عقد كان صحيحه غير مضمون أو مضمونا ففاسده كذلك فإن كان مؤقتا أو شرط أنه يصير للمرتهن بعد انقضاء مدته صار بعد ذلك مضمونا لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد وحكما الفاسد من العقود حكم الصحيح في الضمان فإن كان أرضا فغرسها قبل انقضاء الأجل فهو كالغرس الغاصب لأنه غرس بغير إذن وإن غرس بعد الأجل وكان قد شرط أن الرهن يصير له فقد غرس بإذن لأن البيع وإن كان فاسدا فقد تضمن الإذن في التصرف فيكون الراهن مخيرا بين ثلاثة أشياء : بين أن يقر غرسه له وبين أخذه بقيمته وبين أن يجبره على قلعه ويضمن له ما نقص

ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيركب ويحلب بقدر العلف
مسألة : قال : ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيركب ويحلب بقدر العلف
الكلام في هذه المسألة في حالين أحدهما : ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافا لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه ومنافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز لأنه يحصل قرضا يجر منفعة وذلك حرام قال أحمد : أكره قرض الدور وهو الربا المحض يعني إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك روي ذلك عن الحسن و ابن سيرين وبه قال إسحاق فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن أستأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة وإن حاباه فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره
ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنا فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد : إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن : اسكنها بكرائها ويه وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينا ويتحول عن الرهن وكذلك إن أكراها للراهن قال أحمد في رواية ابن منصور : إذا ارتهن دارا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها لأن القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال لزوال اليد بخلف ما إذا سكنها المرتهن ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة وعنده غير مضمونة

أحكام انتفاع المرتهن وما يتبع الرهن من منافعة
فصل : فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى الرهن وعن أحمد أنه يجوز في المبيع قال القاضي : معناه أن يقول بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا فيكون بيعا وإجارة فهو صحيح وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه وقال مالك : لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرطه في القرض
فصل : الحال الثاني ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن كالقسم الذي قبله وإن أذن له في الانفاق والانتفاع بقدره جاز لأنه نوع معاوضة وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين محوبا ومركوبا وغيرهما فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويرك ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي وهو قول إسحاق وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته أ امتناعه من الانفاق أو مع القدرة على أخذ النفقة من الرهن واستئذانه وعن أحمد رواية أخرى لا يحتسب له بما انفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ] ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الانفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن
ولنا ما روى البخاري و أبو داود و الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا ] وعلى الذي يركب ويشرب النفقة فجعل منفعته بنفقته وهذا محل النزاع فإن قيل المراد به أن الراهن ينفق وينتفع قلنا لا يصح لوجهين أحدهما : أنه قد روي في بعض الألفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب ويركب نفقته فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع والثاني : أن قوله بنفقته يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك حق المرتهن أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة لأحدهما بالآخر ولأن النفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه فجز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عند في الانفاق عليها والحديث نقول به والنماء للراهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته وهذا فيمن أنفق محتسبا بالرجوع فأما إن أنفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة
فصل : وأما غير المحلوب والمركوب فيتنوع نوعين حيوان وغيره فأما الحيوان كالعبد والأمة ونحوهما فهل للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته ؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز ذكره الخرقي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم قال : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه فقال الرهن لا ينتفع منه بشيء إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف قلت له فإن كان اللبن والركوب أكثر قال : لا إلا بقدر ونقل حنبل عن أحمد أن له استخدام العبد أيضا وبه قال أبو ثور : إذا امتنع المالك من الانفاق عليه قال أبو بكر : خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرب به فإن القياس يقتضي أن لا ينتفع بشيء منه تركناه في المركوب والمحلوب للأثر ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس
النوع الثاني : غير الحيوان كدار استهدمت فعمرها المرتهن لم يجرع بشيء رواية واحدة وليس له الانتفاع بها بقدر نفقته فإن عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه فإن فعل كان متبرعا بخلاف الحيوان فإنه يجب على مالكه الإنفاق عليه لحرمته في نفسه
فصل : فأما الحيوان إذا أنفق عليه متبرعا لم يرجع بشيء لأنه تصدق به فم يرجع بعوضه كما لو تصدق على مسكين وأن نوى الرجوع على مالكه وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه لأنه ناب عنه في الانفاق بإذنه فكانت النفقة على المالك كما لو وكله في ذلك وإن كان بغير إذنه فهل يرجع عليه ؟ يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه لأنه ناب عنه فيما يلزمه وقال أبو الخطاب : إن قد على استئذانه فلم يستأذنه فهو متبرع لا يجرع بشيء وإن عجز عن استئذانه فعلى روايتين وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون فكفنه والأول أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الدين العجز عن استئذان الغريم
فصل : وإذا انتفع المرتهن بالرهن باستخدام أو ركوب أو لبس أو استرضاع أو استغلال أو سكنى أو غيره حسب من دينه بقدر ذلك قال أحمد : يوضع عن الراهن بقدر ذلك لأن المنافع ملك الراهن فإذا استوفى فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاص القيمة وقدرها من الدين ويتسقاطان

وغلة الدار وخدمة العبد وحمل الشاة وما يتبع الرهن من النماء كالبيع واصلاح الراهن من اصلاح الرهن
مسألة : قال : وغلة الدار وخدمة العبد وحمل الشاة وغيرها وثمرة الشجرة المرهونة من الرهن
أراد بغلة الدار أجرها وكذلك خدمة العبد وجملة ذلك إنما نماء الرهن جميعه وغلاته تكون رهنا في يد من الرهن في يده كالأصل وإذا احتج إلى بيعه في وفاء الدين بيع مع الأصل سواء في ذلك المتصل كالسمن والتعليم والمنفصل كالكسب والولد والثمرة واللبن والصوف والشعر وبنحو هذا قال النخعي و الشعبي وقال الثوري وأصحاب الرأي : في النماء يبتع وفي الكسب لا يتبع لأن الكسب في حكم الكتابة والاستيلاد والتدبير فلا يتبع في الرهن كأعيان مال الراهن وقال مالك : يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء لأن الولد وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر : لا يدخل الرهن شيء من النماء المنفصل ولا من اكسب لنه حق تعلق بالأصل يستوفي من ثمنه فلا يسري إلى غيره كحق الجناية قال الشافعي : ولو رهنه ماشية مخاضا فنجت فالنتاح خارج من الرهن وخالفه أبو ثور وابن المنذر ومن حجتهم أيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ] والنماء غنم فيكون للراهن ولأنهما عين من أعيان ملك الراهن لم يعقد عليها عقد رهن فلم تكن رهنا كسائر ماله ولنا أنه حكم يثبت في العين بعقد المالك فيدخل فيه النماء والمنافع كالملك بالبيع وغيره ولأن النماء نماء حادث من عين الرهن فيدخ فيه كالمتصل ولأنه حق مستقر في الأم ثبت برضا المالك فيسري إلى الولد كالتدبير والاستيلاد
ولنا على مالك أنه نماء حادث من عين الرهن فسرى إليه حكم الرهن كالولد وعلى أبي حنيفة أنه عقد يستتبع النماء فاستتبع الكسب كالشراء فأما الحديث فنقول بن وإن غنمه ونماءه وكسبه للراهن لكن يتعلق به حق الرهن كالأصل فإنه للراهن والحق متعلق به والفرق بينه وبين سائر مال الراهن أنه تبع فثبت له حكم أصله وأما حق الجناية فإنه ثبت بغير رضا المالك فلم يتعد ما ثبت فيه ولأنه جزاء عدوان فاختص الجاني كالقصاص ولأن السراية في الرهن لا تفضي إلى استيفاء أكثر من دينه فلا يكثر الضرر فيه
فصل : وإذا ارتهن أرضا أو دارا أو غيرهما تبعه في الرهن ما يتبع في البيع فإن كان في الأرض شجر فقال : رهنتك هذه الأرض بحقوقها أو ذكر ما يدل على أن الشجر في الرهن دخل فيه وإن لم يذكر ذلك فهل يدخل الشجر في الرهن ؟ على وجهين بناء على دخوله في البيع وإن رهنه شجرا مثمرا وفيه ثمرة ظاهرا لم تدخل في الرهن كما لا يدخل في البيع وإن لم تكن ظاهر دخلت وقال الشافعي : لا تدخل الثمرة في الرهن بحال وقال أبو حنيفة : تدخ بكل حال لأن الرهن عنده لا يصح على الأصول دون الثمرة وقد قصد إلى عقد صحيح فتدخل الثمرة ضرورة الصحة
ولنا أن الثمرة المؤبرة لا تدخل في البيع مع قوته وإزالته لملك البائع فالرهن مع ضعفه أولى وعلى الشافعي أنه عقد على الشجرة فاستتبع الثمرة غير المؤبرة كالبيع ويدخل في الرهن الصوف واللبن الموجودان كما يدخل في البيع وكذلك الحمل وسائر ما بيع في البيع لأه عقد وارد على العين فدخلت فيه هذه التوابع كالبيع ولو كان الرهن دارا فخرجت كانت انقاضها رهنا لأنه من أجزائها وقد كانت مرهونة قبل خرابها ولو رهنه أرضا فنبت فيها شجر فهو من الرهن سواء نبت بفعل الراهن أ وبفعل غير لأنه من نمائها
فصل : وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا وطء ولا سكنى ولا غير ذلك ولا ميلك التصرف فيه بإجارة ولا إعارة ولا غيرهما يغر رضا المرتهن وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وقال مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي و ابن المنذر : للراهن إجارته وإعارته مدة لا تيأخر انقضاؤها عن حلول الدين وهل له أن يسكن بنفسه ؟ على اختلاف بينهم فيه وإن كان الرهن عبدا فله استيفاء منافعه بغيره وهل له ذلك بنفسه ؟ على الخلاف وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع وبنوه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن ولا يتعلق بها حقه وقد سبق الكلام في هذا ولأنها عين محبوسة فلم يكن للمالك الانتفاع بها كالمبيع المحبوس عند البائع على استيفاء ثمنه أو نقول نوع انتفاع فلا يملكه الراهن كالذي ينقص قيمة الرهن إذا ثبت هذا فإن المتراهنين إذا لم يتفقا بها لم يجز الانتفاع بها وكانت منافعها معطلة فإن كانت دارا أغلقت وإن كان عبدا أو غيره تعطلت منافعه حتى يفك الرهن وإن اتفقا على إجارة الرهن أو إعارته جاز ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي لأنه جعل غلة الدار وخدمة العبد رهنا ولو عطلت منافعهما لم يكن لهما غلة وقال ابن أبي موسى : إن أذن الراهن للمرتهن في إعارته أو إجارته جاز والأجرة رهن وإن أرجة الراهن بإذن المرتهن خرج من الرهن في أحد الوجهين والآخر لا يخرج كما لو أجره المرتهن وقال أبو الخطاب : في المشاع يؤجره الحاكم لهما وذكر أبو بكر في الخلاف أن منافع الرهن تعطل مطلقا ولا يؤجراه وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي وقالوا إذا أجر الراهن الرهن بإذن المرتهن كان إخراجا من الرهن لأن الرهن يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن
ولنا أن مقصود ارهن الاستيثاق بالدين واستيفاؤه من ثمنه عند تعذر استيفاؤه من ذمة الراهن وهذا لا ينافي الانتفاع به ولا إجارته ولا إعارته فجاز اجتماعهما كانتفاع المرتهن به ولأن تعطيل منفعته تضييع للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعة المال ولأنه عين تعلق بها حق الوثيقة فلم يمنع إجارتها كالعبد إذا ضمن بإذن سيده ولا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس فلا يمنع أن يكون المستأجر نائبا عنه في إمساكه وحبسه ومستوفيا لمنفعته لنفسه
فصل : ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته إن احتاج إليها فإذا كان الرهن ماشية فاحتاجت إلى إطراق الفحل فللراهن ذلك لأن فيه مصلحة للرهن وزيادته وذلك زيادة في حق المرتهن من غير ضرر وإن كانت فحولا لم يكن للراهن إطراقها بغير رضا المرتهن لأنه انتفاع لا مصلحة للرهن فيه فهو كالاستخدام إلا أن يصير إلى حال يتضرر بترك الإطراق فيجوز لأنه كالمداواة له

مؤنة الرهن على الراهن
مسألة : قال : ومؤنة الرهن على الراهن فإن كان عبدا فمات فعليه كفنه وإن كان مما يخزن فعليه كراء مخزنه
وجملته أن مؤنة الرهن من طعامه وكسوته ومسكنه وحافظه وحرزه ومخزنه وغير ذلك على الراهن وبهذا قال مالك و الشافعي و العنبري و إسحاق وقال أبو حنيفة : أجرة المسكن والحافظ على المرتهن لأنه من مؤنة إمساكه وارتهانه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ] ولأنه نوع نفاق فكن على الراهن كالطعام ولأن الرهن ملك للراهن فكان عليه مسكنه وحافظه كغير الرهن وإن أبق العبد فأجرة من يرده على الراهن وقال أبو حنيفة : يكون بقدر الأمانة على الراهن وبقدر الضمان على المرتهن وإن احتيج إلى مداواته لمرض أو جرح فذلك على الراهن وعند أبي حنيفة هو كأجر من يرده من إباقة وينى ذلك على أصله في أن يد المرتهن يد ضمان بقدر دينه فيه وما زاد فهو أمانة عنده والكلام على ذلك في غير هذا الموضع وإن مات العبد كانت مؤنته كتجهيزه وتكفينه ودفنه عليه كسائر العبيد والإماء والأقارب من الأحرار
فصل : وإن كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى سقي وتسوية وجذاذ فذلك على الراهن وإن احتاجت إلى تجفيف والحق مؤجل فعليه التجفيف لأنه يحتاج إلى يستبقيها رهنا حتى يحل الحق وإن كان حالا بيعت ولم يحتج إلى تجفيفها وإن اتفقا على بيعها وجعل ثمنها رهنا بالحق المؤجل جاز وإن اختلفا في ذلك قدم قول من يستبقيها بعينها لأن العقد يقتضي ذلك إلا أن يكون مما تقل قيمته بالتجفيف وقد جرت العادة ببيعه رطبا فإنه يباع ويجعل ثمنه مكانه وإن اتفقا على قطع الثمرة في وقت فلهما ذلك سواء كان الحق حالا أو مؤجلا وسواء كان الأصلح القطع أو الترك لأن الحق لا يخرج عنهما وإن اختلفا قدمنا قول من طلب الأصلح إن كان ذلك قبل حلول الحق وإن كان الحق حالا قدم قول من طلب القطع لأنه إذا كان المرتهن فهو طالب لاستيفاء حقه الحال فلزم إجابته وإن كان الراهن فهو يطلب تبرئة ذمته وتخليص عين ملكه من الرهن والقطع أحوط من جهة أن في تبقيه غررا ذكر القاضي هذا في المفلس وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وهذا في معناه ويحتمل أن ينظر في الثمرة فإن كانت تنقص بالقطع نقصا كثيرا لم يجبر الممتنع من قطعها عليه لأن ذلك إتلاف فلا يجبر عليه كما لا يجبر قطعها قبله ولم يجبر عليه بحال

ما يجب على الرهن من نفقة المرهون
فصل : وإن كان الرهن ماشية تحتاج إلى إطراق الفحل لم يجبر الراهن عليه لأنه ليس عليه ما يتضمن زيادة في الرهن وليس ذلك مما يحتاج إليه لبقائها ولا يمنع من ذلك لكونها زيادة لهما لا ضرر على المرتهن فيه وإن احتاجت إلى رعي فعلى الراهن أن يقيم لها راعيا لأن ذلك يجري مجرى علفها وإن أراد الراهن السفر بها ليرعاها في مكان آخر وكان لها في مكانها مرعى تتماسك به فللمرتهن منعه من ذلك لأن في السفر بها إخراجها عن نظرة ويده وإن أجذب مكانها فلم يجد ما تتماسك به فللراهن السفر بها لأنه موضع ضرورة لأنها تهلك إذا لم يسافر بها إلا أنها تكون في يد عدل يرضيان به أو ينصبه الحاكم ولا ينفرد الراهن بها فإن امتنع الراهن من السفر بها فللمرتهن نقلها لأن في بقائها هلاكها وضياع حقه من الرهن فإن أرادا جميعا السفر بها واختلفا في مكانها قدمنا قول من يعين الأصلح فإن استويا قدمنا قول المرتهن وقال الشافعي : يقدم قول الراهن وإن كان الأصلح غيره لأنه أملك بها إذا أنه يكون مأواها إلى يد عدل
ولنا أن اليد للمرتهن فكان أولى كما لو كانا في بلد واحد وأيهما أراد نقلها عن البلد مع خصبه لم يكن له سواء أراد نقلها إلى مثله أو أخصب منه إذ لا معنى للمسافرة بالرهن مع إمكان ترك السفر به وإن اتفقا على نقلها جاز أيضا سواء كان أنفع لها أو لا لأن الحق لهما لا يخرج عنها
فصل : وإن كان عبدا يحتاج إلى ختان والدين حال أو أجله قبل برئه منع منه لأنه ينقص ثمنه وفيه ضرر وإن كان يبرأ قبل محل الحق والزمان معتدل لا يخاف عليه فيه فله ذلك لأنه من الواجبات ويزيد به الثمن ولا يضر المرتهن ومؤنته على الراهن فإن مرض فاحتاج إلى دواء لم يجبر الراهن عليه ولأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه وقد يبرأ بغير علاج بخلاف النفق وإن أراد الراهن مداواته بما لا ضرر فيه لم يمنع منه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما وإن كان الدواء مما يخاف غائلته كالسموم فللمرتهن منعه منه لأنه لا يأمن تلفه وإن احتاج إلى قصد أو احتاجت الدابة إلى توديج ومعناه فتح الودجين حتى يسيل الدم وهما عرفان عريضان غليظان من جانبي ثغرة النحر أو تبزيغ وهو فتح الرهصة فللراهن فعل ذلك ما لم يخف منه ضررا وإن احتيج إلى قطع شيء من بدنه بدواء لا يخاف منه جاز وإن خيف منه فأيهما امتنع منه لم يجبر وإن كانت به آكلة كان له قطعها لأنه يخاف من تركها لا من قطعها لأنه لا يحس بلحم ميت وإن كانت به خبيثة فقال أهل الخبرة : الأحوط قطعها وهو أنفع من بقائها فللراهن ذلك وإلا فليس له فعله وإن تساوى الخوف عليه في الحالين لم يكن له قطعها لأنه يحدث جرحا فيه لم يترجح إحداثه وإن كانت به سلعة أو اصبع زائدة لم يملك الراهن قطعها لأن قطعها يخاف منه وتركها لا يخاف منه وإن كانت الماشية جربة فأراد الراهن دهنا بما يرجى نفعه ولا يخاف ضرره كالقطران والزيت اليسير لم يمنع وإن خيف ضرره كالكثير فللمرتهن منعه وقال القاضي : له ذلك بغير إذن المرتهن لأن له معالجة ملكه وإن امتنع من ذلك لم يجبر عليه ولو أراد المرتهن مداواتها بما ينفعها ولا يخشى ضرره لم يمنع لأن فيه إصلاح حقه بما لا يضر بغيره وإن خيف منه الضرر لم يمكن منه لأن فيه خطرا بحق غيره

وجوب اصلاح الرهن ونفقته المرهون
فصل : فإن كان الرهن نخلا فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن وليس للمرتهن منعه منه لأن فيه مصلحة بغير مضرة وما يسقط من ليف أو سعف أو عراجين فهو من الرهن لأنه من أجزائه أو من نمائه وقال أصحاب الشافعي : ليس من الرهن بناء منهم على أن النماء ليس منه ولا يصح ذلك ههنا لأن السعف من حملة الأعيان التي ورد عليها عقد الرهن فكانت منه كالأصول وانقاض الدار وإن كان الرهن كرما فله زباره لأنه لمصلحة ولا ضرر فيه والزوجون من الرهن ولو كان الشجر مزدحما وفي قطع بعضه صلاح لما يبقى فله ذلك وإن أراد تحويله كله لم يملك ذلك وإن قيل هو الأولى لأنه قد لا يعلق فيفوت الرهن وإن امتنع الراهن من فعل هذا كله لم يجبر عليه لأنه لم يلزمه فعل ما فيه زيادة الرهن
فصل : وكل زيادة تلزم الراهن إذا امتنع أجبره الحاكم عليها وإن لم يفعل اكترى له الحاكم من ماله فإن لم يكن له مال اكترى من الرهن فإن بذلها المرتهن متطوعا لم يرجع بشيء وإن انفق بإذن الراهن أو إذن الحاكم عند تعذر إذن الراهن محتسبا رجع به وإن تعذر إذنهما أشهد على أنه انفق ليرجع بالنفقة وله الرجوع بها وإن انفق من غير استئذان الحاكم مع إمكانه أو من غير إشهاد بالرجوع عند تعذر استئذانه ليرجع به فهل يرجع ؟ على روايتين وإن أنفق بإذن الراهن ليكون الرهن رهنا بالنفقة والدين الأول لم يصح ولم يصر رهنا بالنفقة لما ذكرنا وإن قال الراهن : أنفقت متبرعا وقال المرتهن : بل أنفقت محتسبا بالرجوع فالقول قول المرتهن لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها ولا اطلاع لغيره من الناس عليها وعليه اليمين لأن ما قاله الراهن محتمل وكل مؤنة لا تلزم الراهن كنفقة المداواة والتأبير وأشباههما لا يرجع بها المرتهن إذا أنفقها سواء أنفقها محتسبا أو متبرعا

قال : والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن
مسألة : قال : والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن رجع المرتهن بحقه عند محله وكانت المصيبة فيه من راهنه وإن كان بتعدي المرتهن أو لم يحرزه ضمن
أما إذا تعدى المرتهن في الرهن أو فرط في الحفظ للرهن الذي عنده حتى تلف إذنه يضمن لا نعلم في وجوب الضمان عليه خلافا ولأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة وأما إن وبه قال عطاء و الزهري و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ويروى عن شريح و النخعي و الحسن أن الرهن يضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الرهن بما فيه وقال مالك : إن تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق فمن ضمان الراهن وإن ادعى تلفه بأمر خفي لم يقبل قوله وضمن وقال الثوري وأصحاب الرأي : يضمنه المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واحتجوا بما روى عطاء [ أن رجلا رهن فرسا فنفق عند المرتهن فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بذلك فقال : ذهب حقك ] ولأنها عين مقبوضة للاستيفاء فيضمنها من قبضها لذلك أو من قبضها نائبه كحقيقة المستوفى ولأنه محبوس بدين فكان مضمونا كالمبيع إذا حبس لاستيفاء ثمنه
ولنا ما روى ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب [ أن رسول الله صلى الله عليه قال : لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه ] رواه الأثرم عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذئب ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ولفظه [ الرهن من صاحبه الذي رهنه ] وباقيه سواء قال ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله أو مثل معناه من حديث أبي أنيسة ولأنه وثيقة بالدين فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين وكالكفيل والشاهد ولأنه مقبوض بعد واحد بعضه أمانة فكان جميعه أمانة كالوديعة وعند مالك إن ما لا يضمن به العقار لا يضمن به الذهب كالوديعة فأما حديث عطاء فهو مرسل وقول عطاء يخالفه قال الدارقطني : يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذابا وقيل يرويه مصعب بن ثابت وكان ضعيفا ويحتمل أنه أراد ذهب حقك من الوثيقة بدليل أنه لم يسأل عن قدر الدين وقيمة الفرس وحديث أنس إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه وأما المستوفى فإن صار ملكا للمستوفي وله نماؤه وغنمه فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن والبيع قبل القبض ممنوع

قضاء الدين أو ابراؤه يجعل الرهن أمانة في يد المرتهن وإذا كان مستحقا لزمه رده
فصل : وإذا قضاه جميع الحق أو أبرأه من الدين بقي الرهن أمانة في يده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا قضاه كان مضمونا وإذا أبرأه أو وهبه لم يكن مضمونا استحسانا وهذا مناقضة لأن القبض المضمون منه لم يزل ولم يبرئه منه وعندنا أنه كان أمانة وبقي على ما كان عليه وليس عليه رده لأنه أمسكه بإذن مالكه ولا يختص بنفعه فهو كالوديعة بخلاف العارية فإنه يختص بنفعها وبخلاف ما لو أطارت الريح إلى داره ثوبا لزمه رده إلى مالكه لأن مالكه لم يأذن في إمساكه فأما إن سأل مالكه في هذه الحال دفعه إليه لزم من هو في يده من المرتهن أو العدل فدعه إليه إذا أمكنه فإن لم يفعل صار ضامنا كالمودع إذا امتنع من رد الوديعة عند طلبها وإن كان امتناعه لعذر مثل أن يكون بينه وبينه طريق مخيف أو باب مغلق لا يمكنه فتحه أو كان يخاف فوت جمعه أو جماعة أو فوت صلاة أوبه من مرض أو جوع شديد وما أشبهه فأخر التسليم لذلك فتلف فلا ضمان عليه لأنه لا تفريط منه فأشبه المودع
فصل : وإذا قبض المرتهن الرهن فوجده مستحقا لزمه رده على مالكه والرهن باطل من اصله فإن أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر عليه الضمان وللمالك تضمين أيهما شاء فإن ضمن المرتهن لم يرجع على أحد لذلك وإن ضمن الراهن رجع عليه وإن لم يعلم بالغصب حتى تلف بتفريطه فالحكم كذلك لأن الضمان يستقر عليه وإن تلف بغير تفريطه ففيه ثلاثة أوجه أحدها : يضمن ويستقر الضمان عليه لأن مال غيره تلف تحت يده العادية فاستقر الضمان عليه كما لو علم والثاني : لا ضمان عليه لأنه قبضه على أنه أمانة من غير علمه فلم يضمنه كالوديعة فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب لا غير والوجه الثالث : أن للمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الغاصب فإن ضمن الغاصب لم يرجع على أحد وإن ضمن المرتهن رجع على الغاصب لأنه غره فرجع عليه بحرية أمة

قال وإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن
مسألة : قال : وإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه وإن اختلفا في قدر الحق فالقول قول الراهن مع يمينه إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة
يعني إذا اختلفا في قيمة الرهن إذا تلف في الحال التي يلزم المرتهن ضمانه وهي إذا تعدى أو لم يحرز فالقول قول المرتهن مع يمينه لأنه غارم ولأنه منكر لوجوب الزيارة على مال أقر به والقول قول المنكر وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وإن اختلفا في قدر الحق نحو أن يقول الراهن رهنتك عبدي هذا بألف فقال المرتهن : بل بألفين فالقول قول الراهن وبهذا قال النخعي و الثوري و الشافعي و البتي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن الحسن و قتادة أن القول قول المرتهن ما لم يجاوز ثمن الرهن أو قيمته ونحوه قول مالك لأن الظاهر أن الرهن يكون بقدر الحق
ولنا أن الرهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن والقول قول المنكر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم ولأن الأصل براءة الذمة من هذه الألف فالقول قول من ينفيها كما لو اختلفا في أصل الدين وما ذكره من الظاهر غير مسلم فإن العادة رهن الشيء بأقل من قيمته إذا ثبت هذا فإن القول قول الراهن في قدر ما رهنه به سواء اتفقا على أنه رهنه بجميع الدين أو اختلفا فلو اتفقا على أن الدين ألفان وقال الراهن : إنما رهنتك بأحد الألفين وقال المرتهن : بل رهنته بهما فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه ينكر تعلق حق المرتهن في أحد الألفين بعبده والقول قول المنكر وإن اتفقا على أنه رهن بأحد الألفين وقال الراهن : هر رهن بالمؤجل وقال المرتهن : بل بالحال فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر ولأن القول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته وهذا إذا لم يكن بينة فإن كان لأحدهما بنية حكم بها بغير خلاف في جميع هذه المسائل

عند الاختلاف في قدر الرهن يكون القول قول الراهن وفروع في الاختلاف في قدر الدين والرهن وغيرهما
فصل : وإن اختلفا في قدر الرهن فقال : رهنتك هذا العبد فقال : بل هو والعبد الآخر فالقول قول الراهن لأنه منكر ولا نعلم في هذا خلافا وإن قال : رهنتك هذا العبد قال : بل هذه الجارية خرج العبد من الرهن لاعتراف المرتهن بأنه لم يرهنه وحلف الراهن على أنه ما رهنه الجارية وخرجت من الرهن أيضا وإن اختلفا في رد الرهن إلى الراهن فالقول قوله أيضا لأنه منكر والأصل معه وكذلك الحكم في المستأجر إذا ادعى رد العين المستأجرة وقال أبو الخطاب : يتخرج فيهما وجه آخر أن القول قول المرتهن والمستأجر في الرد بناء على المضارب والوكيل بجعل إذا ادعيا الرد فإن فيهما وجهين والفرق بينهما وبين المرتهن أن المرتهن قبض العين لينتفع بها وكذلك المستأجر والوكيل قبض العين لينتفع بالجعل لا بالعين والمضارب قبضها لينتفع بربحها لا بها وإن اختلفا في تلف العين فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن يده يد أمانة ويتعذر عليه إقامة البينة على التلف فقبل قوله فيه كالمودع
فصل : فإن قال : بعتك هذا الثوب على أن ترهنني بثمنه عبديك هذين قال : بل على أن أرهنك هذا وحده ففيها روايتان حكاهما القاضي إحداهما : يتحالفان لأنه اختلف في البيع فهو كالاختلاف في الثمن والثانية : القول قول الراهن لأنه منكر لشرط رهن العبد الذي اختلفا فيه والقول قول المنكر وهذا أصح
فصل : وإن قال : أرسلت وكيلك فرهنني عبدك على عشرين قبضها قال : ما أمرته برهنه إلا بعشرة ولا قبضت إلا عشرة سئل الرسول فإن صدق الراهن فعليه اليمين أنه ما رهنه إلا بعشرة ولا قبض إلا عشرة ولا يمين على الراهن لأن الدعوى على غيره فإذا حلف الوكيل برئا جميعا وإن نكل فعليه العشرة المختلف فيها ولا يرجع بها على أحد لأنه يصدق في أنه ما أخذها ولا أمره بأخذها وإنما المرتهن ظلمه وإن صدق الوكيل المرتهن وادعى أنه سلم العشرين إلى الراهن فالقول قول الراهن مع يمينه فإن نكل قضي عليه بالعشرة ويدفع إلى المرتهن إلى المرتهن وإن حلف برئ وعلى الرسول غرامة العشرة للمرتهن لأنه يزعم أنها حق له وإنما الراهن ظلمه وإن عدم الرسول أو تعذر احلافه فعلى الراهن اليمين أنه ما أذن في رهنه إلا بعشرة ولا قبض أكثر منها ويبقي الرهن بالعشرة الأخرى
فصل : إذا كان على رجل ألفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن فقضى ألفا وقال : قضيت دين الرهن وقال المرتهن : بل قضيت الدين الآخر فالقول قول الراهن مع يمينه سواء اختلفا في نية الراهن بذلك أو في لفظه لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه ولأنه يقول أن الدين الباقي بلا رهن والقول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته وإن أطلق القضاء ولم ينو شيئا فقال أبو بكر : له صرفها إلى أيهما شاء كما لو كان له مال حاضر وغائب فأدى قدر زكاة أحدهما كان له أن يعين عن أي المالين شاء وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يقع الدفع عن الدينين معا عن كل واحد منهما نصفه لأنهما تساويا في القضاء فتساويا في وقوعه عنهما فأما إن أبرأه المرتهن من أحد الدينين واختلفا فالقول قول المرتهن على التفصيل الذي ذكرناه في الراهن ذكره أبو بكر
فصل : وإذا اتفق المتراهنان على قبض العدل للرهن لزم الرهن في حقهما ولم يضر إنكاره لأن الحق لهما وإن قال أحدهما : قبضه العدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر كما لو اختلفا في قبض المرتهن له ولو شهد العدل بالقبض لم تقبل شهادته لأنها شهادة الوكيل لموكله
فصل : إذا كان في يد رجل عبد فقال : رهنتني عبدك هذا بألف فقال : بل غصبته أو استعرته فالقول قول السيد سواء اعترف بالدين أو جحده لأن الأصل عدم الرهن وإن قال السيد : بعتك عبدي هذا بألف قال : بل رهنته عندي بها فالقول قول كل واحد منهما في العقد الذي ينكره ويأخذ السيد عبده وهكذا لو قال : رهنتكه بألف أقرضتنيه قال : بل بعتنيه بألف قبضته مني ثمنا فكذلك ويرد صاحب العبد الألف ويأخذ عبده
فصل : وإذا ادعى على رجلين فقال : رهنتماني عبدكما بديني عليكما فأنكره فالقول قولهما فإن شهد كل واحد منهما على صاحبه قبلت شهادته إذا كان عدلا وللمرتهن أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير جميعه رهنا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصيب الآخر رهنا وإن أقر أحدهما ثبت في حقه وحده وإن شهد المقر على المنكر قبلت شهادته إن كان عدلا لأنه لا يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا وبهذا قال أصحاب الشافعي وقال بعضهم : إذا أنكرا جميعا ففي شهادتهما نظر لأن المشهود له يدعي أن كل واحد منهما ظالم له بجحوده حقه من الرهن فإذا طعن المشهود له في شهوده لم تقبل شهادتهما له قلنا لا يصح هذا فإن إنكار الدعوى لا يثبت به فسق المدعى عليه وإن كان الحق عليه الجواز أن ينسى أو تحلقه شبهة فيما يدعيه أو ينكره وكذلك لو تداعى رجلان شيئا وتخاصما فيه ثم شهدا عند الحاكم بشيء لم ترد شهادتهما وإن كان أحدهما كاذبا في مخالفته لصاحبه ولو ثبت الفسق بذلك لم يجز قبول شهادتهما جميعا مع تحقق الجرح في أحدهما
فصل : وإذا رهن عينا عند رجلين فنصفها رهن عند كل واحد منهما بدينه ومتى وفي أحدهما خرجت حصته من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف مفردا فإن أراد مقاسمه المرتهن وأخذ نصيب من وفاه وكان الرهن مما لا تنقصه القسمة كالمكيل والموزون لزم ذلك وإن كان مما تنقصه القسمة لم تجب قسمته لأن على المرتهن ضررا في قسمته ويقر في يد المرتهن نصفه رهن نصفه وديعة وإن رهن اثنان عبدهما عند رجل فوفاه أحدهما انفك الرهن في نصيبه وقد قال أحمد في رواية مهنا : في رجلين رهنا دارا لهما عند رجل على ألف فقضاه أحدهما ولم يقض الآخر فالدار رهن على ما بقي وقال أبو الخطاب في رجل رهن عبده رجلين فوفى أحدهما فجميعه رهن عند الآخر حتى يوفيه وهذا من كلام أحمد وأبي الخطاب محمول على أنه ليس لراهن مقاسمه المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهنا إذ لا يجوز أن يقال إنه رهن نصف العبد عند رجل فصار جميعه رهنا ولو رهن اثنان عبدا لهما عند اثنين بألف فهذه أربعة عقود ويصير كل ربع من العبد رهنا بمائتين وخمسين فمتى قضاها من هي عليه انفك من الرهن ذلك القدر قاله القاضي وهو الصحيح
فصل : ولو ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما عبده وقال كل واحد منهما : رهنه عندي دون صاحبي فأنكرهما جميعا فالقول قوله مع يمينه وإن أنكر أحدهما وصدق الآخر سلم إلى من صدقه وحلف كان في وإن قال : لا أعلم عين المرتهن منهما حلف على ذلك والقول قول من هو في فيه منهما مع يمينه وإن كان في أيديهما حلف وكل واحد منهما على نصفه وصار رهنا عنده وإن كان في يد غيرهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذه كما لو ادعيا ملكه ولو قال : رهنته عند أحدهما ثم رهنته للآخر ولا أعلم السابق منهما فكذلك وإن قال هذا هو السابق بالعقد والقبض سلم إليه وحلف للأخر وإن نكل والعبد في يد الأول أو يد غيره فعليه قيمته للثاني كما لو قال : هذا العبد لزيد وغصبته من عمرو فإنه يسلم إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو وإن نكل والعبد في يد الثاني أقر في يده وغرم قيمته للأول أقر له بعد ما فعل ما حال بينه وبين من أقر له فلزمته قيمته كما قلنا وقال القاضي : إذا اعترف به لغير من هو في يده فهل يرجح صاحب اليد أو المقر له ؟ على وجهين : ولو اعترف لأحدهما وهو في يديهما ثبتت يد المقر له وفي النصف الآخر وجهان
فصل : إذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن بعد حلول الحق جاز وتعلق حقه بتمنه وإن أذن له قبل حلوله مطلقا فباعه بطل الرهن ولم يكن عليه عوضه لأنه أذن له فيما ينافي حقه فأشبه ما لو أذن في عتقه وللمالك أخذ ثمنه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومحمد : يكون الثمن رهنا لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن فوجب أن يثبت حقه فيه كما لو حل الدين قال الطحاوي : حق المرتهن متعلق بعين الرهن والثمن بدله فوجب أن يتعلق به كما لو أتلفه متلف ولنا أنه تصرف يبطل حق المرتهن من عين الرهن لا يملكه المرتهن فإذا أذن فيه أسقط حقه كالعتق ويخالف ما بعد الحلول لأن المرتهن يستحق البيع ويخالف الإتلاف لأنه غير مأذون فيه من جهة المرتهن فإن قال : إنما أردت بإطلاق الإذن أن يكون ثمنه رهنا لم يلتفت إلى دعواه لأن إطلاق الإذن يقتضي بيعا يفسخ الرهن وبهذا قال الشافعي وإن أذن فيه بشرط أن يجعل ثمنه مكانه رهنا أو يجعل له دينه من ثمنه جاز ولزم دلك وإن اختلفا في الإذن فالقول قول المرتهن لأنه منكر وإن أذن في البيع واختلفا في شرط جعل ثمنه رهنا أو تعجيل دينه منه فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الشرط ويحتمل أن يكون القول قول المرتهن لأن الأصل بقاء الوثيقة وإن أذن الراهن في البيع ثم رجع قبل البيع فباعه المرتهن بعد العلم بالرجوع لم يصح بيعه وإن باعه بعد الرجوع وقبل العلم احتلم وجهين بناء على عزل الوكيل قبل علمه فإن اختلفا في الرجوع قبل البيع فقال القاضي : القول قول المرتهن أيضا لأن الأصل عدم الرجوع وعدم البيع قبل الرجوع فتعارض الأصلان وبقيت العين رهنا على ما كانت وبهذا كله قال الشافعي وهذا فيما لا يحتاج إلى بيعه فأما ما دعت الحاجة إلى بيعه كالذي خيف تلفه إذا في بيعه مطلقا تعلق الحق بثمنه لأن بيعه مستحق فأشبه ما بيع بعد حلول الدين

ما يجب على الراهن عند حلول الرهن
فصل : إذا حل الحق لزم الراهن الإيفاء لأنه دين حال فلزم إيفاؤه كالذي لا رهن به فإن لم يوف وكان قد أذن للمرتهن أو للعدل بيع الرهن باعه ووفي الحق من ثمنه وما فضل ثمنه فلمالكه وإن فضل من الدين شيء فعلى الراهن وإن لم يكن أذن لهما في بيعه أو كن قد أذن لهما ثم عزلهما طولب بالوفاء وبيع الرهن فإن فعل وإلا فعل الحاكم ما يرى من حبسه وتعزيره ليبيعه أو يبيعه بنفسه أو أمينه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يبيعه الحاكم لأن والية الحاكم على من عليه الحق لا على ماله فلم ينفذ بيعه بغير إذنه ولنا أنه حق تعين عليه فإذا امتنع من أدائه قام الحاكم مقامه في أدائه كالإيفاء من جنس الدين وإن وفي الدين من غير الرهن انفك الرهن

قال : المرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الفرقاء
مسألة : قال : والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه حيا كان الراهن أو ميتا
وجملته أنه إذا ضاق مال الراهن عن ديونه وطالب الغرماء بديونهم أو حجر عليه لفلسه وأريد قسمة ماله بين غرمائه فأول من يقدم من له أرش جناية يتعلق برقبة بعض عبيد المفلس لما ذكرنا من قبل ثم من له رهن فإنه يخص بثمنه عن سائر الغرماء لأن حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن معا وسائرهم يتعلق حقه بالذمة دون العين فكان حقه أقوى وهذا من أكثر فوائد الرهن وهو تقديمه بحقه عند فرض مزاحمة الغرماء ولا نعلم في هذا خلافا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم فيباع الرهن فإن كان ثمنه وفق حقه أخذه وإن كان فيه فضل عن دينه رد الباقي على الغرماء وإن فضل من دينه شيء أخذ ثمنه وضرب مع الغرماء ببقية دينه ثم من بعد ذلك من وجد عين ماله فهو أحق بها ثم يقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم ولو كان فيهم من دينه ثابت بجناية المفلس لم يقدم وكان أسوة الغرماء لأن أرش جنايته يتعلق بذمته دون ماله فهو كبقية الديون بخلاف أرش جناية العبد فإنه تتعلق برقبة العبد فلذلك كان أحق به ممن تعلق حقه بمجرد الذمة ولا فرق في استحقاق ثمن الرهن والاختصاص به بين كون الرهن حيا أو ميتا لأن تقديم حقه من حيث كان حقه متعلقا بعين المال وهذا المعنى لا يختلف بالحياة والموت فكذلك ما ثبت به كأرش الجناية
فصل : ولو باع شيئا أو باعه وكيله وقبض الثمن أو باع العدل الرهن وقبض الثمن فتلف وتعذره رده وخرجت السلعة مستحقه ساوى المشتري الغرماء لأن حقه لم يتعلق بعين المال فهو بمنزلة أرش جناية المفلس وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يقدم على الغرماء لأنه لم يرض بمجرد الذمة فكان أولى كالمرتهن ولأنه لو لم يقدم على الغرماء لامتنع الناس عن شراء مال المفلس خوفا من ضياع أموالهم فتقل الرغبات فيه ويقل ثمنه فكن تقديم المشتري بذلك على الغرماء أنفع لهم وهذا وجه لأصحاب الشافعي ولنا أن هذا حق لم يتعلق بعين المال فلم يقدم كالذي جنى عليه المفلس وفارق المرتهن فإن حقه تعلق بالعين وما ذكروه الثمن موجودا يمكن رده وجب رده وينفرد به صاحبه لأنه عين ماله لم يتعلق به حق أحد من الناس وكذلك صاحب السلعة المستحقة يأخذها ومتى باع العدل مال المفلس أو باع الرهن وخرجت السلعة مستحقة فالعهدة على المفلس فلا شيء على العدل لأنه أمين

المستأجر أحق بالعين المستأجرة
فصل : ومن استأجر دارا أو بعيرا بعينه أو شيئا ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أحق بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقه لأنه حقه متعلق بعين المال والمنفعة مملوكة له في هذه المدة فكان أحق بها كما لو اشترى منه شيئا فإن هلك البعير أو انهدمت الدار قبل انقضاء المدة انفسخت الإجارة ويضرب مع الغرماء ببقية الأجرة وإن استأجر جملا في الذمة أو غيره ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أسوة الغرماء لأن حقه لم يتعلق بالعين وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا فإن آجر دارا ثم أفلس فاتفق الغرماء والمفلس على المبيع قبل انقضاء مدة الإجارة فلهم ذلك ويبيعونها مستأجرة وإن اختلفوا قدم قول من طلب البيع في الحال لأنه أحوط من التأخير فإذا استوفى المستأجر يسلم المشتري وإن اتفقوا على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الإجارة فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم

المشتري أحق بالسلعة من سائر غرماء الافلاس
فصل : ولو باع سلعة ثم أفلس قبل تقبيضها فالمشتري أحق بها من الغرماء سواء كانت من المكيل والموزون أو غيرهما لأن المشتري قد ملكها وثبت ملكه فيها فكان أحق بها كما لو قبضها ولا فرق بين ما قبل الثمن وما بعده وإن كان عليه سلم فوجد المسلم الثمن قائما فهو أقح به لأنه وجد عين ماله وإن لم يجده فله أسوة الغرماء لأنه لم يتعلق حقه بعين مال ولا ثبت ملكه فيه ويضرب مع الغرماء بالمسلم فيه الذي يستحقه دون الثمن فيعزل له قدر حقه فإن كان في المال جنس حقه أخذ منه بقدر ما يستحقه وإن لم يكن فيه جنس حقه عزل له بقدر حقه فيشتري به المسلم فيه فيأخذه وليس له أن يأخذ المعزول بعينه لئلا يكون بدلا عما في الذمة من المسلم فيه ولا يجوز أخذ البدل عن المسلم فيه وإن أمكن أن يشتري بالمعزول أكثر مما قدر له لرخص المسلم فيه اشترى له بقدر حقه ورد الباقي على الغرماء
مثاله رجل أفلس وله دينار وعليه لرجل دينار ولآخر قفيز حنطة من سلم قيمته دينار فإنه يقسم دينار المفلس نصفين لصاحب الدينار نصفه ويعزل نصفه للمسلم فإن رخصت الحنطة فصار قيمة القفيز نصف دينار تبينا أن حقه مثل نصف حق صاحب الدينار فلا يستحق من دينار المفلس إلا ثلثه يشتري له به ثلثا قفيز فيدفع إليه ويرد سدس الدينار على الغريم الآخر فإن غلا المسلم فيه فصار قيمة القفيز دينارين تبينا أنه يستحق مثلي ما يستحقه صاحب الدينار فيكون له من دينار المفلس ثلثاه فيشتري له بالنصف المعزول ويرجع على الغريم بسدس دينار يشتري له به أيضا لأن المعزول ملك المفلس وإنما للمسلم قدر حقه فإن زاد فللمفلس وإن نقص فعليه
فصل : قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها ولا من رهن عنده قال أيس من معرفتهم ومعرفة ورثتهم فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها فإن عرف بعد أربابهم خيرهم بين الأجر أو يغرم لهم هذا الذي أذهب إليه وقال أبو الحارث عن أحمد : في الرهن يكون عنده السنين الكثيرة يآيس من صاحبه يبيعه ويتصدق بالفضل فظاهر هاذ أنه يستوفي حقه ونقل أبو طالب لا يستوفي حقه من ثمنه ولكن إن جاء صاحبها فطلبه أعطاه إياه وطلب منه حقه وأما إن رفع أمره إلى الحاكم فباعه ووفاه منه حقه جاز ذلك

كتاب المفلس
المفلس هو الذي لا مال له ولا ما يدفع به حاجته ولهذا لما [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : أتدرون من المفلس ؟ قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : ليس ذلك المفلس ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ظلم هذا ولطم هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له صك إلى النار ] أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ليس ذلك المفلس ] تجوز لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغني ونحو هذا قوله صلى الله عليه و سلم : [ ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب ] وقوله : [ ليس السابق من سبق بعيره وإنما السابق من غفر له ] : وقوله : [ ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ] ومنه قول الشاعر :
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء )
وإنما سمي هذا مفلسا لأنه لا مال له إلا الفلوس وهي أدنى أنواع المال والمفلس في عرف الفقهاء من دينه أكثر من ماله وخرجه أكثر من دخله وسموه مفلسا وإن كان ذا مال لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه و سلم مفلس الآخرة فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال لكنها كانت دون ما عليه فقسمت بين الغرماء وبقي لا شيء له ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إلى من عدم ماله بعد وفاء دينه ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا بشيء التافه الذي لا يعيش إلا به كالفلوس ونحوها

إذا أصاب أحد عين ماله عند المفلس فهو أحق به
فصل : ومتى لزم الإنسان ديون حالة لا يفي ماله بها فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم ويستحب أن يظهر الحجر عليه لتجتنب معاملته فإذا حجر عليه ثبت بذلك أربعة أحكام أحدها : تعلق حقوق الغرماء بعين ماله والثاني : منع تصرفه في عين ماله الثالث : أن من وجد عين ماله عنده فهو أحق بها من سائر الغرماء إذا وجدت الشروط الرابع : إن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء والأصل في هذا ما روى كعب بن مالك [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حجر على معاذ بن جبل وباع ماله ] رواه الخلال بإسناده و [ عن عبد الرحمن بن كعب قال : كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين فكلم النبي صلى الله عليه و سلم غرماؤه فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم فباع لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ماله حتى قام معاذ بغير شيء ] قال بعض أهل العلم : إنما لم يترك الغرماء لمعاذ حين كلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهم كانوا يهودا
مسألة : قال : وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به إلا أن يشار تركه ويكون أسوة الغرماء
وجملته أن المفلس متى حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التي باعه إياها بعينها بالشروط التي يذكرها ملك فسخ البيع وأخذ سلعته روي ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة وبه قال عروة و مالك و الأوزاعي و الشافعي و العنبري و إسحاق و الثوري و ابن المنذر وقال الحسن و النخعي و ابن شبرمة وأبو حنيفة هو أسوة الغرماء لأن البائع كان له حق الإمساك لقبض الثمن فلما سلمه أسقط حقه من الإمساك فلم يكن له أن يرجع في ذلك بالإفلاس كالمرتهن إذا سلم الرهن إلى الراهن ولأنه ساوى الغرماء في سبب الاستحقاق فيساويهم في الاستحقاق كسائرهم
ولنا ما روى أبو هريرة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به ] متفق عليه قال أحمد : لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث جاز له نقض حكمه ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقامة فجاز فيه الفسخ لتعذر العوض كالمسلم فيه إذا تعذر ولأنه إذا شرط في البيع رهنا فعجز عن تسليمه استحق الفسخ وهو وثيقة بالثمن فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى ويفارق المبيع الرهن فإن إمساك الرهن إمساك مجرد على سبيل الوثيقة وليس ببدل والثمن ههنا بدل عن العين فإذا تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل وقولهم تساووا في سبب الاستحقاق قلنا لكن اختلفوا في الشرط فإن بقاء العين شرط لملك الفسخ ويه موجودة في حق من وجد متاعه دون من لم يجده إذا ثبت هذا فإن البائع بالخيار إن شاء رجع في السلعة وإن شاء لم يرجع وكان أسوة الغرماء وسواء كانت السلع مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الاعسار سبب جواز الفسخ فلا يوجبه كالعيب والخيار ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت بالنص فلم يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت بالنص فلم يفتقر إلى حكم حاكم كفسخ النكاح لعتق الأمة

منع الغرماء المدين من السفر وفروع في أحكام الافلاس وتزاحم الغرماء
فصل : وهل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي ؟ على وجهين بناء على خيار الرد بالعيب وفي ذلك روايتان إحداهما : هو على التراخي لأنه حق رجوع يسقط إلى عوض فكان على التراخي كالرجوع في الهبة والثاني : هو على الفور لأنه خيار يثبت في البيع لنقص في العوض فكان على الفور كالرد بالعيب ولأن جواز تأخيره يفضي إلى الضرر بالغرماء لإفضاءه إلى تأخير حقوقهم فأشبه خيار الأخذ بالشفعة ونصر القاضي هذا الوجه ولأصحاب الشافع وجهان كهذين
فصل : فإن بذل الغرماء الثمن لصاحب السلعة ليتركها لم يلزمه قبوله نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال مالك : ليس له الرجوع لأن الرجوع إنما يجوز لدفع ما يلحقه من النقص في الثمن فإذا بذل له بكماله لم ين له الرجوع كما لو زال العيب من المعيب ولنا الخبر الذي رويناه ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه فلم يجبر صاحب الحق على قبضه كما لو أعسر الزوج بالنفقة فبذلها غيره أو عجز المكاتب فبذل غيره ما عليه لسيده وبهذا ينتقض ما ذكروه وسواء بذلوه من أموالهم أو خصوه بثمنه من التركة وفي هذا القسم ضرر آخر لأنه لا يأمن تجدد ثبوت دين آخر فيرجع عليه وإن دفعوا إلى المفلس الثمن فبذله للبائع لم يكلن له الفسخ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه فملك أداء الثمن ولو أسقط الغرماء حقوقهم عنه فتمكن من الأداء أو وهب له مال فأمكنه الاداء منه أو غلت أعيان ماله فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء بحيث يمكنه أداء الثمن كله لم يكن للبائع الفسخ لزوال سببه ولأنه أمكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري فلم يكن له الفسخ كما لو لم يفلس
فصل : فإن اشترى المفلس من إنسان سلعة بعد ثبوت الحجر عليه في ذمته لم يكن له الفسخ لتعذر الاستيفاء سواء علم أو لم يعلم ولأنه لا يستحق المطالبة بثمنها فلا يستحق الفسخ لتعذره كما لو كان ثمنها مؤجلا ولأن العالم بالعيب دخل على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيبا يعلم عيبه وفيه وجه آخر أن له الخيار لعموم الخبر ولأنه عقد عليه وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت امرأة فقيرا معسرا بنفقتها وفيه وجه ثالث إن باعه عالما بفلسه فلا فسخ له وإن لم يعلم فله الفسخ كمشتري المعيب ويفارق المعسر بالنفقة لكون النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فالرضا بالمعسر بها رضا بعيب ما لم يجب بخلاف مسألتنا وإنما يشبه هذا إذا تزوجته معسرا بالصداق وسلمت نفسها إليه ثم أرادت الفسخ
فصل : ومن استأجر أرضا ليزرعها فأفلس قبل مضي شيء من المدة فللمؤجر فسخ الإجارة لأنه وجد عين ماله وإن كان بعد انقضاء المدة فهو غريم بالأجرة وإن كان بعد مضي بعضها لم يملك الفسخ في قياس قولنا في المبيع إذا تلف بعضه فإن المدة ههنا كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه لكن يعتبر مضى مدة لمثلها أجرة لأنه لا يمكن التحرز عن مضي جزء منها بحال وقال القاضي : في موضع آخر من اكترى أرضا فزرعها ثم أفلس ففسخ صاحب الأرض فعليه تبقية زرع المفلس إلى حين الحصاد بأجر مثله لأن المعقود عليه المنفعة فإذا فسخ العقد فسخه فيما ملك عليه بالعقد وقد تعذر ردها عليه فكان عليه عوضها كما لو فسخ البيع بعد أن أتلف المبيع فله قيمته ويضرب بذلك مع الغرماء كذا ههنا ويضر مع الغرماء بأجر المثل دون المسمى وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يقتضيه مذهبنا ولا يشهد لصحته الخبر ولا يصح في النظر أما الخبر فلأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما قال : [ من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ] وهذا ما أدرك متاعه بعينه ولا هو أحق به بالإجماع فإنهم وافقوا على وجوب تبقيتها وعدم الرجوع في عينها ولأن معنى قوله [ من أدرك متاعه بعينه ] أي على وجه يمكنه أخذه لا يتعلق حقه بعينه وليس هذا كذلك وأما النظر فلأن البائع إنما كان أحق بعين ماله لتعلق حقه بالعين وإمكان رد ماله إليه بعينه فيرجع على من تعلق حقه بمجرد الذمة وهذا لم يتعلق حقه بالعين ولا أمكن ردها إليه وإنما صار فائدة الرجوع الضرب بالقيمة دون المسمى وليس هذا هو المقتضي في محل النص ولا هو في معناه فإثبات الحكم به تحكم بغير دليل ولو اكترى رجلا يحمل له متاعا إلى بلد ثم أفلس المكتري قيل حمل شيء فللمكتري الفسخ وقياس قول القاضي : له ذلك فإذا فسخ سقط عنه حمل ما بقي وضرب مع الغرماء بقسط ما حمل من الأجر المسمى وعلى قياس القاضي ينفسخ العقد في الجميع ويضرب بقسط ما حمل من أجر المثل لما ذكرنا من قوله في المسألة التي حكينا قوله فيها

شروط رجوع البائع في سلعته الباقية عند المفلس
فصل : فإن أقرض رجلا مالا ثم أفلس المقترض وعين المال قائم فله الرجوع فيها لقوله عليه السلام : [ من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ] ولأنه غريم وجد عين ماله فكان له أخذها كالبائع وإن أصدق امرأة له عينا ثم انفسخ نكاحها بسبب من جهتها يسقط صداقها أو طلقها قبل خوله بها فاستحق الرجوع في نصفه وقد أفلست ووجد عين ماله فهو أحق بها لما ذكرنا
مسألة : قال : فإن كانت السلعة قد تلف بعضها أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها أو نقد بعض ثمنها كان البائع فيها كأسوة الغرماء
وجملة ذلك أن البائع إنما يستحق الرجوع في السلعة بخمس شرائط أحدها : أن تكون السلعة باقية بعينها لم يتلف بعضها فإن تلف جزء منها كبعض أطراف العبد أو ذهبت عينه أو تلف بعض الثوب أو انهدم بعض الدار أو اشترى شجرا مثمرا لم تظهر ثمرته فتلفت المثمرة أو نحو هذا لم يكن للبائع الرجوع وكان أسوة الغرماء وبهذا قال إسحاق وقال مالك و الأوزاعي و الشافعي و العنبري له الرجوع في الباقي ويضرب مع الغرماء بحصة التالف لأنها عين يملك الرجوع في جميعها فملك الرجوع في بعضها كالذي له الخيار وكالأب فيما وهب لولده ولنا قوله النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به ] فشرط أن يجده بعينه ولم يجده بعينه ولأنه إذا أدركه بعينه حصل له بالرجوع فصل الخصومة وانقطاع ما بينهما من المعاملة بخلاف ما إذا وجد بعضه ولا فرق بين أن يرضى بالموجود تجميع الثمن أو يأخذه بقسطه من الثمن لأنه فات شرط الرجوع وإن كان المبيع عينين كعبدين أو ثوبين تلف أحدهما أو بعض أحدهما ففي جواز الرجوع في الباقي منها روايتان إحداهما : لا يرجع نقلها أبو طالب عن أحمد قال : لا يرجع ببقية العين ويكون أسوة الغرماء لأنه لم يجد المبيع بعينه فأشبه ما لو كان عينا واحدة ولأن بعض المبيع تالف فلم يملك الرجوع كما لو قطعت يد العبد ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد إن كان ثوبا واحدا فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء وإن كان رزما فتلف بعضها فإنه يأخذ بقيمتها إذا كان بعينه لأن السلم من المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم قوله صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به ] ولأنه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرجوع فيه كما لو كان جميع المبيع
فصل : وإن باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه فهو بمنزلة تلفه لأن البائع ما أدرك ما له بعينه
فصل : وإن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه كعبد هزل أو نسي صناعة أو كتابة أو كبر أو مرض أو تغير عقله أو كان ثوبا فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله لكه يتخير بين أخذه ناقصا بجميع حقه وبني أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علم أو نحوه فيصير كنقصه لتغير الأسعار ولو كان المبيع أمة ثيبا فوطئها المشتري ولم تحمل فله الرجوع فيها لما ذكرنا فإنه لم تنقص في ذات ولا في صفات وإن كانت بكرا فقال القاضي : له الرجوع لأنع فقد صفة فإنه لم يذهب منها جزء وإنما هو كالجراح وقال أبو بكر : ليس له الرجوع لأنه أذهب منها جزءا فأشبه ما لو فقأ عينها وإن وجد الوطء من غير المفلس فهو كوطء من غير المفلس فيما ذكرنا
فصل : وإن جرح العبد أو شج فعلى قول أبي بكر لا يرجع لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن فأشبه ما لو فقئت عين العبد لأنه ذهب من العين جزء له بدل فمنع الرجوع كما لو قطعت يد العبد ولأنه لو نقص صفة مجردة لم يكن للبائع مع الرجوع فيها شيء سواه كما ذكرنا في هزال العبد ونسيان الصنعة وههنا بخلافهن ولأن الرجوع في المحل المنصوص عليه يقطع النزاع يزيل المعاملة بينهما فلا يثبت في محل لا يحصل به هذا المقصود وقال القاضي : قياس المذهب أن له الرجوع لأنه فقد صفة فأشبه نسيان الصنعة واستخلاق الثوب فإذا رجع نظرنا في الجرح فإن كان مما لا أرش له كالحاصل بفعل الله تعالى أو فعل بهيمة أو جناية المفلس أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه فليس له مع الرجوع أرش وإن كان الجرح موجبا لأرش كجناية الأجنبي فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من الثمن فينظر كم نقص من قيمته فيرجع بقسط ذلك من الثمن لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن فإن قيل فهلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي لأنه لو لم يجب به أرش لم يرجع بشيء فلا يجوز أن يرجع بأكثر من الأرش ؟ قلنا لما أتلفه الأجنبي صار مضمونا بإتلافه للمفلس فكان الأرش له وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن فلا يجوز أن يضمنه بالأرش وإذا لم يتلفه أجنبي فلم يكن مضمونا فلم يجب بفواته شيء فإن قيل : فهلا كان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع ؟ قلنا الكسب بدل منافعه ومنافعه مملوكة للمشتري بغير عوض وهذا بدل جزء من العين والعين جميعها مضمونة بالعوض فلهذا ضمن ذلك للمشتري

فروع في تصرفات المفلس وزيادة المبيع عنده
فصل : فإن اشترى زيتا فخلطه بزيت آخر أو قمحا فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه سقط حق الرجوع وقال مالك : يأخذ زيته وقال الشافعي : إن خلطه بمثله أو دونه لم يسقط الرجوع وله أن يأخذ متاعه بالكيل أو الوزن وإن خلطه بأجود منه ففيه قولان : أحدهما : يسقط حقه من العين قال الشافعي : وبه أقول واحتجوا بأن عين ماله موجودة من طريق كما لو اشترى ثوبا فصبغه أو سويقا فلته
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلفت ولأن ما يأخذه من غير عين ماله إنما يأخذه عوضا عن ماله وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك متاعه بعينه ] أي من قدر عليه وتمكن من أخذه من المفلس بدليل ما لو وجده بعد زوال ملك المفلس أو كانت مسامير قد مسر بها بابا أو حجرا قد بنى عليه أو خشبا في سقفه أو أمة استولدها وهذا إذا أخذ كيله أو قيمته إنما يأخذ عوض ماله فهو كالثمن والقيمة وفارق المصبوغ فإن عينه يمكنه أخذه والسويق كذلك فاختلفا
فصل : وإن اشترى حنطة فطحنها أو زرعها أو دقيقا فخبزه أو زيتا فعمله صابونا أو ثوبا فقطعه قميصا أو غزلا فنسخه ثوبا أو خشبا فنجره أبوابا أو شريطا فعمله إبرا أو شيئا فعمل به مال أزال اسمه سقط حق الرجوع وقال الشافعي فيه قولان أحدهما : به أقول يأخذ عين ماله ويعطي قيمة عمل المفلس فيها لأن عين ماله موجودة وإنما تغير اسمها فأشبه ما لو كان المبيع حملا فصار كبشا أو وديا فصار نخلا
ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولأنه غير اسمه وصفته فلم يملك الرجوع كما لو كان نوى فنبت شجرا والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع وإن سلم فإنه لم يتغير اسمه بخلاف مسألتنا
فصل : وإن كان حبا فصار زرعا أو زرعا فصار حبا أو نوى فنبت شجرا أو بيضا فصار فراخا سقط حق الرجوع وقال القاضي : لا يسقط وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي المنصوص عليه منهما لأن الزرع نفس الحب والفرخ نفس البيضة ولنا أنه لم يجد عين ماله يرجع كما لو أتلفه متلف فأخذ قيمته ولأن الحب أعيان ابتدأها الله تعالى لم تكن موجودة عند البيع وكذلك أعيان الزرع والفرخ ولو استأجر أرضا واشترى بذرا وماء فزرع وسقى واستحصد وأفلس فالمؤجر وبائع البذر والماء غرماء لا حق لهم في الرجوع لأنهم لم يجدوا أعيان أموالهم وعلى قول من قال له الرجوع في الزرع يكون عليه غرامة الأجرة وثمن الماء أو قيمة ذلك
فصل : وإن اشترى ثوبا فصبغه أو سويقا فتله بزيت فقال أصحابنا : لبائع الثوب والسويق الرجوع في أعيان أموالهما وهو مذهب الشافعي لأن عين مالهما قائمة مشاهدة ما تغير اسمها ويكون المفلس شريكا لصاحب الثوب أو السويق فإن شاء البائع أخذها ناقصين ولا شيء له وإن شاء تركهما وله أسوة الغرماء لأن هذا نقص صفة فهو كالهزال ويحتمل أن لا يكون له الرجوع ههنا لا يتخلص به البائع من المفلس ولا يحصل به المقصود من قطع المنازعة وإزالة المعاملة بل يحصل به ضرر الشركة فلم يكن في معنى المنصوص عليه فلا يمكن إلحاقه به
فصل : وإن اشترى صبغا فصبغ به ثوبا أو زيتا فلت به سويقا فبائعهما أسوة الغرماء وقال أصحاب الشافعي : له الرجوع لأنه وحد عين ماله قالوا ولو اشترى ثوبا وصبغا وصبغ الثوب بالصبغ رجع بائع كل شيء في عين ماله وكان بائع الصبغ شريكا لبائع الثوب وإن حصل نقص فهو من صاحب الصبغ لأنه الذي يتفرق وينقص والثوب بحالة فإذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ خمسة فصارت قيمتها اثني عشر كان لصاحب الثوب خمسة أسداس وللآخر سدسه ويضرب مع الغرماء بما نقص وذلك ثلاثة دراهم وذكر القاضي مثل هذا في موضع
ولنا أنه لم يجد عني ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولأن المشتري شغله بغيره على وجه البيع فلم يملك بائعه الرجوع فيه كما لو كان حجرا بنى عليه أو مسامير سمر بها بابا ولو اشترى ثوبا وصبغا من واحد فصبغه به فقال أصحابنا : لا فرق بين ذلك وبين كون الصبغ من غير بائع الثوب فعلى قولهم يرجع في الثوب وحده ويكون المفلس شريكا له بزيادة الصبغ ويضرب مع الغرماء بثمن الصبغ ويحتمل أن يرجع فيها ههنا لأنه وجد عين ماله متميزا عن غيره فكان له الرجوع فيه للخبر ولأن المعنى في المحل الذي يثبت فيه الرجوع موجود ههنا فيملك الرجوع به كما يملكه ثم ولو أنه اشترى رفوفا ومسامير من رجل واحد فسمرها بها رجع بائعها فيهما كذلك ما أشبه
فصل : إذا اشترى ثوبا فقصره لم يخل من حالين أحدهما : أن لا يزيد قيمته بذلك فللبائع الرجوع فيه لأن عين ماله قائمة لم يزل اسمها ولم يتلف بعضها ولا اتصلت بغيرها فكان له الرجوع فيها كما لو علم العبد صناعة لم تزد قيمته بها وسواء نقصت قيمته بذلك أو لم تنقص لأن ذلك النقص نقص صفة فلا يمنع الرجوع كنسيان صناعة وهزال العبد ولا شيء له مع الرجوع الثاني : أن تزيد قيمته بذلك فليس للبائع الرجوع على قياس قول الخرقي لأن الثوب زاد زيادة لا تتميز فلم يملك البائع الرجوع فيه كما لو سمن العبد ولأنه لم يجد عين ماله متميز عن غيرها فلم يملك الرجوع كبائع الصبغ إذا صبغ به والزيت إذا لت به سويق وقال القاضي وأصحابه : له الرجوع فيها لأنه أدرك متاعه بعينه ولأنه وجد عين ماله لم يتغير اسمها ولا ذهبت عينها فملك الرجوع فيها كما لو صبغها فعلى قولهم إن كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها فهما شريكان في الثوب فإذا كانت قيمة الثوب خمسة فصار يساوي ستة فللمفلس سدسه ولبائعه خمسة أسداسه فإن اختبار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس لزمه قبولها لأنه يتخلص بذلك من ضرر الشركة من غير مضرة تلحقه فأشبه ما لو دفع الشفيع قيمة البناء إلى المشتري وإن لم يختر بيع الثوب وأخذ كل واحد منهما بقدر حقه وإن كان العمل من صانع لم يستوف أجره فله حبس الثوب على استيفاء أجرة فإن كانت الزيادة بقدر الأجر دفعت إليه وإن كانت أقل فله حبس الثوب على استيفاء قدر الزيادة ويضرب مع الغرماء بما بقي وإن كانت أكثر مثل أن تكون الزيادة درهمين والأجر درهم فله قدر أجره وما فضل للغرماء
فصل : الشرط الثاني أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم الصناعة أو الكتابة أو القرآن ونحو ذلك واختلفت المذهب في هذا فذهب الخرقي إلى أنها تمنع الرجوع وروى الميموني عن أحمد أنها لا تمنع وهو مذهب مالك و الشافعي إلا أن مالكا يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به واحتجوا بالخبر وبأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلا تمنعه المتصلة كالرد بالعيب وفارق الطلاق فإنه ليس بفسخ ولأن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيصل إلى حقه تاما وههنا لا يمكنه الرجوع في الثمن
ولنا أنه فسخ بسبب حادث فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائدة زيادة متصلة كفسخ النكاح بالاعسار أو الرضاع ولأنها زيادة في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة وكالحاصلة بفعله ولأن النماء لم يصل إليه من البائع فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله وفارق الرد بالعيب لوجهين أحدهما : أن الفسخ فيه من المشتري فهو راض بإسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع بخلاف مسألتنا والثاني : أن الفسخ ثم لمعنى قارن العقد وهو العيب القديم والفسخ ههنا لسبب حادث فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة وقولهم : إن الزوج إنما لم يرجع في العين لكونه يدفع عنه الضرر بالقيمة - لا يصح فإن اندفع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه من العين ولو كان مستحقا للزيادة لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ القيمة كمشتري المعيب ثم كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدة لكون الزيادة مستحقة فلما لم يكن كذلك علم أن المانع من الرجوع كون الزيادة للمرأة وأنه لا يمكن فصلها فكذلك ههنا بل أولى فإن الزيادة يتعلق بها حق المفلس والغرماء فمنع المشتري من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام ديونهم والمفلس المحتاج إلى تبرئة ذمته عنه اشتداد حاجته
فصل : وأما الخبر فمحمول على من وجد متاعه على صفته ليس زائد ولم يتعلق به حق آخر وههنا قد تعلقت به حقوق الغرماء لما فيه من الزيادة لما ذكرنا من الدليل ويحققه أنه إذا كان تلف بعض المبيع مانعا من الرجوع من غير ضرر يلحق بالمفلس ولا بالغرماء فلأن يمنع الزيادة فيه مع تفويتها بالرجوع عليهم أولى ولأنه إذا رجع في الناقص فما رجع إلا فيما باعه وخرج منه وإذا رجع في الزائدة أخذ ما لم يبعه واسترجع ما لم يخرج عنه فكان بالمنع أحق
فصل : فأما الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب فلا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا وهو قول مالك و الشافعي وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس هذا ظاهر كلام الخرقي لأنه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى وهذا قول ابن حامد و القاضي ومذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى وقال أبو بكر : الزيادة للبائع وهو مذهب مالك ونقل حنبل عن أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو البائع لأنها زيادة فكانت للبائع كالمتصلة
ولنا أنها زيادة انفصلت في ملك المشتري فكانت له كما لو رده بعيب ولأنه فسخ استحق به استرجاع العين فلم يستحق أخذ الزيادة المنفصلة كفسخ البيع بالعيب أو الخيار أو الإقالة وفسخ النكاح بسبب من أسباب الفسخ و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : الخراج بالضمان ] يدل على أن النماء والغلة للمشتري لكون الضمان عليه وأما الزيادة المتصلة فقد دللنا على أنها للمفلس أيضا وفي ذلك تنبيه على كون المنفصلة له ثم لو سلمنا ثم فالفرق ظاهر فإن المتصلة تتبع في الفسخ والرد بالعيب بخلاف المنفصلة ولا ينبغي أن يقع في اختلاف لظهوره وكلام أحمد في رواية حنبل يحمل على أنه باعهما في حال حملها فيكونان مبيعين ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء
فصل : ولو اشترى أمة حاملا ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها إلا أن يكون الحمل قد زاد بكبره وكثرت قيمتها من أجله فيكون من قبيل الزائد زيادة متصلة على ما مضى وإن أفلس بعد وضعها فقال القاضي له : الرجوع فيهما بكل حال من غير تفصيل والصحيح أننا إن قلنا أن الحمل لا حكم له فالولد زيادة منفصلة فعلى قول أبي بكر لا يمنع الرجوع فيهما وعلى قول غيره يكون الولد للمفلس فيحتمل أن يمنع الرجوع في الأم لئلا يفضي إلى التفريق بين الأم وولدها ويحتمل أن يرجع في الأم ويدفع قيمة الولد ليكونا جميعا له وإن لم يفعل بيعت الأم وولدها جميعا وقسم الثمن على قدر قيمتهما فما خص الأم فهو للبائع وما خص الولد كان للمفلس وإن قلنا أن للولد حكما وهو الصحيح لما ذكرناه فيما تقدم فإن كانت الأم والولد قد زادا بالوضع فحكمهما حكم المبيع زيادة متصلة وإن لم يزيدا جاز الرجوع فيهما وإن زاد أحدهما دون الآخر خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين فتلف بعض أحدهما فهل يمنع ذلك الرجوع في الأخرى كذلك ؟ ههنا وجهان أحدهما : أنه له الرجوع فيما لم يزد دون ما زاد فيكون حكمه كحكم الرجوع في الأم دون الولد على ما فصلناه والثاني : ليس له الرجوع في شيء منهما لأنه لم يجد المبيع إلا زائدا فامتنع عليه الرجوع كالعين الواحدة وإن كان البيع حيوانا غير الأمة فحكمه حكمها إلا في أن التفريق بينهما وبين ولدها جائز والأمة بخلاف ذلك
فصل : وإن اشترى حائلا فحملت ثم أفلس وهي حامل فزادت قيمتها به فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني وإن أفلس بعد وضعها فهي زيادة منفصلة فتكون للمفلس على الصحيح يمتنع الرجوع في الأم دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهذا أحد قولي الشافعي ويحتمل أن يرجع في الأم على ذكرنا في التي قبلها وعلى قول أبي بكر الزيادة للبائع فيكون له الرجوع فيهما وقال القاضي : إذا وجدها حاملا انبنى على أن الحمل هل له حكم أو لا ؟ فإن قلنا لا حكم له جرى مجرى الزيادة المتصلة وإن قلنا له حكم فالولد في حكم المنفصل يتربص به حتى تضع ويكون الحكم فيه كما لو وجده بعد وضعه وإن كان الحمل في غير الآدمية جاز التفريق بنيهما كما تقدم
فصل : إذا كان المبيع نخلا أو شجرا فأفلس المشتري لم يخل من أربعة أحوال أحدها : أن يفلس وهي بحالها لم تزد ولم تثمر ولم يتلف بعضها فله الرجوع فيها الثاني : أن يكون فيها ثمرة ظاهر أو طلع مؤبر ويشترطه المشتري فيأكله أو يتصرف فيه أو يذهب بجائحة ثم يفلس فهذا في حكم ما لو اشترى عينين فتلفت إحداهما ثم أفلس فهل للبائع الرجوع في الأصول ويضرب مع الغرماء بحصة التالف من الثمن ؟ على روايتين وإن تلف بعضها فهو كتلف جميعها وإن زادت أو بدا صلاحها فهذه الزيادة متصلة في إحدى العينين وقد ذكرنا بيان حكمها الحال الثالث : أن يبيعه نخلا قد أطلعت ولم تؤبر أو شجرا فيها ثمرة لم تظهر فهذه الثمرة تدخل في البيع المطلق فإن أفلس بعد تعلف الثمرة أو تلف بعضها أو الزيادة فيها أو بدو صلاح فحكم ذلك تلف بعض المبيع وزيادته المتصلة لأن المبيع كان بمنزلة العين الواحدة ولهذا دخل الثمر في مطلق البيع بخلاف التي قبلها الحال الرابع : باعه نخلا حائلا فأطلعت أو شجرا فأثمر فذلك على أربعة أضرب أحدها : أن يفلس قبل تأبيرها فالطلع زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي كالسمن والكبر ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع لأنه يمكن فصله ويصح إفراده بالبيع فهو كمؤبر بخلاف السمن والكبر وهذا قول ابن حامد وعلى رواية الميموني لا يمنع بل يرجع ويكون الطلع للبائع كما لو فسخ بعيب وهو أحد قولي الشافعي والقول الثاني يرجع في الأصل دون الطلع وكذلك عندهم الرد بالعيب والأخذ بالشفعة الضرب والثاني : أفلس بعد التأبير وظهور الثمرة فلا يمنع الرجوع بغير خلاف والطلع للمشتري إلى على قول أبي بكر والصحيح الأول لأن الثمرة لا تتبع في البيع الذي ثبت بتراضيهما ففي الفسخ الحاصل بغير رضا المشتري أولى ولو باعه أرضا فارغة فزرعها المشتري ثم أفلس فإنه يرجع في الأرض دون الزرع وجها واحدا لأن ذلك من فعل المشتري الضرب الثالث : أفلس والطلع غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يكن له الرجوع كما لو أفلس بعد تأبيرها لأن العين لا تنتقل إلا باختياره لها وهذا لم يخترها إلا بعد تأبيرها فإن ادعى البائع الرجوع قبل التأبير وأنكر المفلس فالقول قول المفلس مع يمينه لأن الأصل بقاء ملكه وعدم زواله وإن قال له البائع : بعت بعد التأبير وقال المفلس : بل قبله فالقول قول البائع لهذه العلة فإن شهد الغرماء للمفلس لم تسمع شهادتهما لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفعا وإن شهدوا للبائع وهم عدول قبلت شهادتهم لعدم التهمة الضرب الرابع : أفلس بعد أخذ الثمرة أو ذهبت بجائحة أو غيرها رجع البائع في الأصل والثمرة للمشتري إلا على قول أبي بكر وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع البائع فيه فليس له مطالبة المفلس بقطع الثمرة قبل أوان الجزاز وكذلك إذا رجع في الأرض وفيها زرع للمفلس فليس له المطالبة بأخذه قبل أوان الحصاد لأن المشتري زرع في أرضه بحق وطلعه على الشجر بحق فلم يلزمه أخذه قبل كماله كما لو باع الأصل وعليه الثمرة أو الزرع وليس على صاحب الزرع أجر لأنه زرع في أرضه زرعا تجب تبقيته فكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه ضمان ذلك إذا ثبت هذا فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية أو القطع فلهم ذلك وإن اختلفوا فطلب بعضهم قطعه وبعضهم تبقيته نظرنا فإن كان ما لا قيمة له مقطوعا أو قيمته يسيرة لم يقطع لأن قطعه سفه وتضييع للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعته وإن كانت قيمته كثيرة فيه وجها أحدهما : يقدم قول من طلب القطع لأنه أحوط فإن في تبقيته غررا ولأن طالب القطع إن كان المفلس فهو يقصد تبرئة ذمته وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم وذلك حق لهم وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي والثاني : ينظر إلى ما فيه الحظ فيعمل به لأن ذلك أنفع لجميعهم والظاهر سلامته ولهذا يجوز أن يزرع للمولي عليه وفيه وجه آخر أنه إن كان الطالب له المفلس دونهم وكان التأخير أحظ له لم يقطع لأنهم رضوا بتأخير حقوقهم لحظ يحصل لهم وللمفلس والمفلس يطلب ما فيه ضرر بنفسه ومنع للغرماء من استيفاء القدر الذي يحصل من الزيادة بالتأخير لا يلزم الغرماء إجابته إلى ذلك
فصل : إذا أقر الغرماء بأن الزرع أو الطلع للبائع ولم يشهدوا به أو شهدوا به ولم يكونا عدولا أو لم يحكم بشهادتهم حلف المفلس وثبت الطلع له ينفرد به دونهم لأنهم يقرون أنهم لا حق لهم فيه فإن أراد دفعه إلى أحدهم وتخصيصه بثمنه فله ذلك لإقرار باقيهم بعدم حقهم فيه فإن امتنع ذلك الغريم من قبوله أجبر على قبوله أو الإبراء من قدره من دينه فيقال له : إما أن تقبضه وإن أن تبرئ من قدر ذلك من دينك وهذا مذهب الشافعي لأنه محكوم به للمفلس فكان له أن يقضي دينه منه كما لو أدرى المكاتب إلى سيده نجوم كتابته فقال سيده : هذا حرام وأنكر المكاتب وإن أراد قسمته على الغرماء لزمهم قبوله أو الابراء لذلك فإن قبضوا الثمرة بعينها لزمهم رد ما حصل لم إلى البائع لأنهم يقرون له بها فلزمهم دفعها إليه كما لو أقروا بعتق عبد من ملك غيرهم ثم اشتروه منه وإن باع الثمرة وفرق ثمنها فيهم أو دفعه إلى بعضهم لم يلزمهم رد ما أخذوا من ثمنها لأنهم إنما اعترفوا بالعين لا بثمنها وإن شهد بعض الغرماء دون بعض أو أقر بعضهم دون بعض لزم الشاهد أو المقر الحكم الذي ذكرناه دون غيره وإن عرض عليهم المفلس الثمرة بعينها فأبوا أخذها لم يلزمهم ذلك لأنه إنما يلزمهم الاستيفاء من جنس ديونهم إلا أن يكون فيهم من له جنس من التمر أو الزرع كالمقرض أو المسلم فيلزمه أخذ ما عرض عليه إذا كان بصفة حقه ولو أقر الغرماء بأن المفلس أعتق عبدا له قبل فلسه فأنكر ذلك لم يقبل قولهم إلا أن يشهد منهم عدلان ويكون حكمهم في قبض العبد أو أخذ ثمنه إن عرضه عليهم حكم ما لو أقروا بالثمن للبائع وكذلك إن أقروا بعين مما في يديه أنها غصب أو عارية أو نحو ذلك فالحكم كما ذكرنا سواء وإن أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه انبنى على صحة عتق المفلس فإن قلنا لا يصح عتقه فلا أثر لإقرارهم وإن قلنا بصحته فهو كإقرارهم بعته قبل فلسه وإن حكم الحاكم بصحته أو بفساده نفذ حكمه على كل حال لأنه فصل مجتهد فيه فيلزم ما حكم به الحاكم ولا يجوز نقضه ولا تغييره
فصل : وإن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء لم يقبل إقراره لأن حقوقهم تعلقت بالثمرة ظاهرا فلم يقبل إقراره كما لو أقر بالنخيل وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون أن البائع رجع قبل التأبير ولأن هذه اليمين لا ينوبون فيها عن المفلس بل هي ثابتة في حقهم ابتداء بخلاف ما لو ادعى حقا وأقام شاهدا فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه لأن اليمين ثم على المفلس فلو حلفوا حلفوا ليثبتوا حقا لغيرهم ولا يحلف الإنسان ليثبت لغيره حقا ولا يجوز أن يكون نائبا فيها لأن الأيمان لا تدخلها النيابة وفي مسألتنا الأصل أن هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به لكونه في يد غريمهم ومتصل بنخله والبائع يدعي ما يزيل حقوقهم عنه فأشبه سائر أعيان ماله ويحلفون على نفي العلم لأنه يمين على نفي الدين عن الميت ولو أقر المفلس بعين من أعيان ماله لأجنبي أن لبعض غرمائه فأنكره الغرماء فالقول قولهم وعليهم اليمين أنهم لا يعلمون ذلك وكذلك لو أقر بغريم آخر يستحق مشاركتهم فأنكروه فعليهم اليمين أيضا ويكون على نفي العلم لذلك وإن أقر أنه أعتق عبده انبنى ذلك على صحة عتق المفلس فإن قلنا يصح عتقه صح إقراره وعتق لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به والإقرار بالعتق يحصل به العتق فكأنه أعتقه في الحال وإن قلنا لا يصح عته لم يقبل إقراره وكان على الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون ذلك وكل موضع قلنا على الغرماء اليمين فهو على جمعيهم فإن حلفوا أخذوا وإن نكلوا قضي للمدعي بما ادعاه إلا أن يقول برد اليمين فترد على المدعي فيحلف ويستحق وإن حلف بعضهم دون بعض أخذ الحالف نصيبه وحكم الناكل ما ذكرناه
فصل : وإن أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ شهر وكان العبد قد اكتسب بعد ذلك مالا وأنكر الغرماء فإن قلنا لا يقبل إقراره حلفوا واستحلفوا العبد وكسبه وإن قلنا يقبل إقراره لم يقبل في كسبه وكان للغرماء أن يحلفوا أنهم لا يعلمون أنه أعتقه قبل الكسب ويأخذون كسبه لأن إقراره إنما قبل العتق دون غيره لصحته منه ولبنائه على التغليب والسراية فلا يقبل في المال لعدم ذلك فيه ولأننا نزلها إقراره منزلة إعتاقه في الحال فلا يثبت له الحرية فيما مضى فليكون كسبه محكوما به لسيده كما لو أقر بعتقه ثم أقر له بعين في يده
فصل : فإن كان المبيع أرضا فبناها المشتري أو غرسها ثم أفلس فأراد البائع الرجوع في الأرض نظرت فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا قلعوه فللبائع الرجوع في أرضه لأنه وجد متاعه بعينه قال أصحابنا : ويستحق الرجوع قبل القلع وهو مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يستحقه حتى يوجد القلع لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه مشغولا بملك المشتري فأشبه ما لو كانت مسامير في باب المشتري فإن قلنا له الرجوع قبل القلع ففعلوه لزمهم تسوية الأرض من الحفر وأرش نقص الأرض الحاصل به لأن ذلك نقص حصل التخليص ملك المفلس فكان عليه كما لو دخل فصيله دار إنسان وكبر فأراد صاحبه إخراجه فلم يمكن إلا بهدم بابها فإن الباب يهدم ليخرج ويضمن صاحبه ما نقص بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها فإنه لا يرجع في النقص لأن النقص كان في ملك المفلس وههنا حدث بعد رجوعه في العين فلهذا ضمنوه ويضرب بالنقص مع الغرماء وإن قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش النقص لأنهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع فيها فلم يضمنوا النقص كما لو قلعه المفلس قبل فلسه فأما إن امتنع المفلس والغرماء من القلع فلهم ذلك ولا يجبرون عليه لأنه غرس بحق ومفهوم قوله عليه السلام : [ ليس لعرق ظالم حق ] إنه إذا لم يكن ظالما فله حق فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليكون له الكل أو قال : أنا أقلع وأضمن ما نقص فإن قلنا له الرجوع قبل القلع فله ذلك لأن البناء والغراس حصل في ملكه لغيره بحق فكان له أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس وبناء للمشتري والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير وإن قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يكن له ذلك لأن بناء المفلس وغرسه في ملكه فلم يجبر على بيعه لهذا البائع ولا على قلعة كما لو لم يرجع في الأرض فأما إن امتنع البائع من بذل ذلك سقط حق الرجوع وهذا قول ابن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال القاضي : يحتمل أن له الرجوع وهو القول الثاني للشافعي لأنه أدرك متاعه بعيبه وفيه مال المشتري على وجه التبع فلم يمنعه ذلك الرجوع كالثوب إذا صبغه المشتري ولنا أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفردا عن غيره فلم يكن له والثاني : أن الثوب لا يراد للبقاء بخلاف الأرض فإذا قلنا لا يرجع فلا كلام وإن قلنا يرجع فرجع واتفق الجميع على بيعهما بيعا لهما وأخذ كل واحد بقدر حقه وإن امتنع أحدهما من البيع احتمل أن يجبر عليه كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المشتري فإن الثوب يباع لهما كذا ههنا ويحتمل أن لا يجبر لأنه أمكن طالب البيع أن يبيع ملكه مفردا بخلاف الثوب المصبوغ فإن بيعا لهما قسما الثمن على قدر القيمتين فتقوم الأرض غير ذات شجر ولا بناء ثم تقوم وهما فيها فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء فللبائع قسطه من الثمن وما زاد فهو للمفلس والغرماء وإن قلنا لا يجبر الممتنع على البيع أو لم يطلب أحدهما البيع فاتفقا على كيفية كونهما بينهما جاز ما اتفقا عليه وإن اختلفا كانت الأرض للبائع والغراس والبناء للمفلس والغرماء ولهم دخول الأرض لسقي الشجر وأخذ الثمرة وليس لهم دخولها للتفرج ولغير حاجة وللبائع دخولها للزرع ولما شاء لأن الأرض له ملكه وإن باعوا الشجر والبناء لإنسان فحكمه في ذلك حكمهم ولو بذل المفلس والغرماء أو المشتري منهم قيمة الأرض للبائع ليدفعها لهم لم يلزمه ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها بخلاف ما فيها من الغرس والبناء
فصل : إذا اشترى غراسا فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس فله الرجوع فيه لأنه أدرك متاعه بعينه وإذا أخذه فعليه تسوية الأرض وأرش نقصها الحاصل بقلعه لأنه نقص حصل لتخليص ملكه من ملك غيره وإن بذل المفلس والغرماء له قيمته ليملكوه بذلك لم يجبر على قبولهما لأنه إذا اختار ماله وتفريغ ملكهم وإزالة ضرره عنهم لم يكن لهم منعه كالمشتري إذا غرس في الأرض المشفوعة وإن امتنع من القلع فبذلوا له القيمة ليملكه المفلس أو أرادوا في قلعه وضمان النقص فلهم ذلك وكذلك إذا أردوا قلعه من غير ضمان النقص لأن المفلس إنما ابتاعه مقلوعا فلم يجب عليه ابقاؤه في أرضه وقيل ليس لهم قلعه من غير ضمان النقص لأنه غرس بحق فأشبه غرس المفلس في الأرض التي ابتاعها إذا رجع بائعها فيها والفرق بينهما ظاهر فإن بقاء الغراس في هذه الصورة حق عليه فلم يجب عليه بفعله وفي قبلها ابقاؤه حق لو وجب له بغراسه في ملكه فإن اختار بعضهم القلع وبعضهم التبقية قدم قول من طلب القلع سواء كان المفلس أو الغرماء أو بعض الغرماء لأن الإبقاء ضرر غير واجب فلم يلزم الممتنع منه الإجابة إليه وإن زاد الغراس في الأرض فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني
فصل : وإن اشترى أرضا من رجل وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر فلكل واحد منهما الرجوع في عين ماله والصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان نقصه بالقلع على ما ذكرنا لأن البائع إنما باعه مقلوعا فلا يستحقه إذا كذلك وإن أراد بائعه قلعه من الأرض فقلعه فعليه تسوية الحفر وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم وإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها لتملكها لم يجبر على ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها تبعا وإن بذل صاحب الأرض قيمة الغراس ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس في أرض البائع ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه لا يجبر على إبقائه إذا امتنع من دفع قيمته أو أرش نقصه فلا يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والأول أولى وهذا ينتقض بغرس الغاصب
فصل : الشرط الثالث أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط حق الرجوع وبهذا قال إسحاق والشافعي في القديم وقال في الجيد : له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن لأنه سبب ترجع به العين كلها إلى العاقد فجاز أن يرجع به بعضها كالفرقة قبل الدخول في النكاح وقال مالك : هو مخير إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين وإن شاء حاص الغرماء ولم يرجع ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء ] رواه أبو داود و ابن ماجة و الدراقطني ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضا للصفقة على المشتري وإضرارا له وليس ذلك للبائع فإن قيل لا ضرر عليه في ذلك لأن ماله يباع و لا يبقى له فيزول عنه الضرر قلنا لا يندفع الضرر بالبيع فإن قيمته تنقص بالشقيص ولا يرغب فيه مشقصا فيتضرر المفلس والغرماء بنقص القيمة ولأنه سبب يفسخ به البيع فلم يجز تشقيصه كالرد بالعيب والخيار وقياس البيع على البيع أولى من قياسه على النكاح ولا فرق بين كون المبيع عينا واحدا أو عينين لما ذكرنا من الحديث والمعنى فإن قيل حديكم يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا ولا حجة في المراسيل : قلنا قد رواه مالك و موسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كذلك ذكره ابن عبد البر وأخرجه أبو داود و ابن ماجة و الدرقطني في سننهم متصلا فلا يضرر إرسال من أرسله فإن راوي المسند معد زيادة لا يعارضها ترك مرسل الحديث لها وعلى أن المرسل حجة فلا يضر إرساله
فصل : والشرط الرابع أن لا يكون تعلق بها حق الغير فإن رهنها المشتري ثم أفلس أو وهبها لم يملك البائع الرجوع كما لو باعها أو أعتقها ولأن الرجوع إضرارا بالمرتهن ولا يزال الضرر بالضرر ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ] وهذا لم يجده عند المفلس ولا نعلم في هذا خلافا فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن بيع كله فقضي منه دين المرتهن والباقي يرد على سائر مال المفلس ويشترك الغرماء فيه وإن بيع بعضه فباقيه بينهم يباع لهم أيضا ولا يرجع به البائع وقال القاضي : له الرجوع به وهو مذهب الشافعي لأنه عين ماله لم يتعلق به حق غيره ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له أخذه كما لو كان الدين مستغرقا له وما ذكره القاضي لا يخرج على المذهب لأن تلف بعض المبيع يمنع الرجوع فكذلك ذهاب بعضها بالبيع ولو رهن بعض العبد لم يكن للبائع الرجوع في باقية لما ذكرنا وإن كان المبيع عينين فرهن إحداهما فهل يملك البائع الرجوع في الأخرى ؟ على وجهين بناء على الروايتين فيما إذا تفلت إحدى العينين وإن فك الرهن قبل فلس المشتري أو أبرئ من رينه فللبائع الرجوع لأنه أدرك متاعه بعينه عند المشتري وإن أفلس وهو رهن فأبرأ المرتهن المشتري من دينه أو قضى الدين من غيره فللبائع الرجوع أيضا كذلك
فصل : وإن كان عبدا فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان أحدهما : ليس للبائع الرجوع لأن تعلق الرهن به يمنع الرجوع وأرش الجناية يقدم على حق المرتهن فأولى أن لا يرجع ذكره أبو الخطاب والثاني : لا يمنع الرجوع فيه لأنه حق لا يمنع تصرف المشتري فيه فلم يمنع الرجوع كالدين في ذمته وفارق الرهن فإنه يمنع تصرف المشتري فيه فإن قلنا لا يرجع فحكمه حكم الرهن وإن قلنا له الرجوع فهو مخير إن شاء رجع فيه ناقصا بأرش الجناية وإن شاء ضرب بثمنه مع الغرماء وإن أبرأ الغريم من الجناية فللبائع الرجوع فيه لأنه وجد متاعه بعينه خاليا من تعلق حق غيره به

الأمور التي تمنع البائع من الرجوع في سلعته الباقية عند المفلس
فصل : وإن أفلس بعد خروج المبيع من ملكه بيع أو هبة وقف أو عتق أو غير ذلك لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلس سواء كان المشتري يمكنه استرجاعه بخيار له أو عيب في ثمنه أو رجوعه في هبة ولده أو غير ذلك لما ذكرنا وخروج بعضه كخروج جميعه لما تقدم فإن أفلس بعد رجوع ذلك إلى ملكه ففيه ثلاثة أوجه أحدها : له الرجوع للخبر ولأنه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره أشبه ما لو لم يبعه والثاني : لا يجرع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه ذكر أصحابنا هذين الوجهين ولأصحاب الشافعي مثل ذلك والثالث : إن عاد إليه بسبب جديد كبيع أو هبة أو ارث أو وصية أو نحو ذلك لم يكن للبائع والرجوع لأنه لم يصر إليه من جهته وإن عاد إليه بفسخ العقد الثاني لا يقتضي ثبوت الملك وإنما زال السبب المزيل لملك البائع فثبت الملك بالسبب الأول فملك استرجاع ما ثبت الملك فيه ببيعه

الأموال في الشقص المشفوع الباقي عند المفلس حق بشاهد
فصل : وإن كان المبيع شقصا مشفوعا ففيه ثلاثة أوجه أحدها : البائع أحق به هذا قول ابن حامد للخبر لأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه فزال الضرر عن الشفيع ولأنه عاد كما كان قبل البيع ولم تتجدد شركة غيره والثاني : أن الشفيع أحق ذكره أبو الخطاب لأن حقه أسبق فكان أولى بيانه أن حق البائع ثبت بالحجر وحق الشفيع ثبت بالبيع ولأن حقه آكد لأنه يستحق انتزاع الشقص من المشتري وممن نقله إليه وحق البائع إنما يتعلق بالعين ما دامت في يد المشتري ولا يزول الضرر عنه برده إلى البائع بدليل ما لو باعه المشتري لبائعه أو وهبه إياه أو أقاله لم يسقط حق الشفيع ولأن البائع إنما يستحق الرجوع في عين لم يتعلق بها حق الغير وهذه قد تعلق بها حق الشفيع
الوجه الثالث : أن الشفيع إن كان طالب بالشفعة فهو أحق لأن حقه تأكد هنا بالمطالبة وإن كان لم يطالب بها فالبائع أولى ولأصحاب الشافعي وجهان كالأولين ولهم وجه ثالث أن الثمن ويؤخذ من الشفيع فيختص به البائع جمعا بين الحقين فإن غرض الشفيع في عين الشقص المشفوع وغرض البائع في ثمنه فيحصل ذلك بما ذكرنا وليس هذا جيدا لأن حق البائع إنما ثبت في العين فإذا صار الأمر إلى وجوب الثمن تعلق بذمته فساوى الغرماء فيه
فصل : وإن كان المبيع صيدا فأفلس المشتري والبائع محرم لم يرجع فيه لأنه تملك للصيد فلم يجز مع الإحرام كشراء الصيد وإن كان البائع حلالا في الحرم والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع الرجوع فيه لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي فيه وهذا ليس من صيده فلا يحرم ولو أفلس المحرم وفي ملكه صيد بائعه حلال فله أخذه لأن المانع غير موجود في حقه
فصل : وإذا أفلس وفي يده عين مال دين بائعها مؤجل وقلنا لا يحل الدين بالفلس فقال أحمد في رواية الحسن بن ثواب : يكون ماله موقوفا إلى أن يحل دينه فيختار البائع الفسخ أو الترك وهذا قول بعض أصحاب الشافعي والمنصوص عن الشافعي أنه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لأنها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل كدين من لم يجد عين ماله وللأول الخبر ولأن حق هذا البائع تعلق بالعين فقدم على غيره وإن كان مؤجلا كالمرتهن والمجني عليه
فصل : قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال : اقبضه غدا فمات البائع وعليه دين فالطعام للمشتري ويتبعه الغرماء في الثمن وإن كان رخيصا وكذلك قال الثوري وإسحاق لأن الملك ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عند فلم يشاركه غرماء البائع فيه كما لو قبضه الشرط الخامس : أن يكون المفلس حيا ويأتي شرح ذلك في آخر الباب إن شاء الله تعالى
فصل : ورجوع البائع في المبيع فسخ للبيع لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه ولا اشتباه المبيع بغيره فلو رجع في المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف شيء منه صح رجوعه وإن رجع في العبد بعد اباقة أو الجمل بعد شروده أو الفرس العاثر صح وصار ذلك له فإن قدر عليه أخذه وإن ذهب كان من ماله وإن تبين أنه كان تالفا حين استرجاعه لم يصح استرجاعه وكان له أن يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله وإن رجع في المبيع واشتبه بغيره فقال البائع : هذا هو المبيع وقال المفلس : بل هذا فالقول قول المفلس لأنه منكر لاستحقاق ما ادعاه البائع والأصل معه

قال : ومن وجبه له حق بشاهد
مسألة : قال : ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا
وجملة ذلك أن المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقا له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء وإن امتنع لم يجبر لأننا لا نعلم صدق الشاهد ولو ثبت الحق بشهادته لم يحتج إلى يمين معه فلا يجبر على الحلف على ما لا يعلم صدقه كغيره فإن قال الغرماء : نحن نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك وبهذا قال الشافعي في الجديد وقال في القديم : يحلفون معه لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم
ولنا أنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز لهم ذلك كالمرأة تحلف لإثبات ملك لزوجها لتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت فإن المال انتقل إليهم وهم يثبتون بأيمانهم ملكا لأنفسهم

قال : وإذا كان على المفلس دين مؤجل
مسألة قال : وإذا كان على المفلس دين مؤجل لم يحل بالتفليس وكذلك في الدين الذي على الميت إذا وثق الورثة
وجملته أن الدين المؤجل لا يحل بفلس من هو عليه رواية واحدة قاله القاضي وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يحل وبه قال مالك وعن الشافعي كالمذهبي واحتجوا بأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت
ولنا أن الأجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه لا يجوب حلول ماله فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والإغماء ولأنه دين مؤجل على حي فلم يحل قبل أجله كغير المفلس ولا نسلم أن الدين يحل بالموت فهو كمسألتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن ذمته خربت وبطلت بخلاف المفلس إذا ثبت هذا فإنه إذا حجر على المفلس فقال أصحابنا : لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة غرماء الديون الحالة بل يقسم المال الموجود بين أصحاب الديون الحالة ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله فإن لم يقتسم الغرماء حتى حل الدين شارك الغرماء كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته وإن أدرك بعض المال قبل قسمه شاركهم فيه ويضرب فيه بجميع دينه ويضر سائر الغرماء ببقية ديونهم وإن قلنا إن الدين يحل فإنه يضرب مع الغرماء بدينه كغيره من أرباب الديون الحالة فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة فهل تحل بالموت فيه روايتان إحداهما : لا تحل إذا وثق الورثة وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد وقال طاوس وأبو بكر بن محمد بن الزهري وسعيد بن إبراهيم : الدين إلى أجله وحكي ذلك عن الحسن والرواية الأخرى : أنه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال لا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولا رضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه أما الميت فلأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه ] وأما صاحبه فيتأخر حقه وقد تتلف العين فيسقط حقه وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم
ولنا ما ذكرنا في المفلس ولأن الموت ما جعل مبطلا للحقوق وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : من ترك حقا أو مالا فلورثته ] وما ذكروه إثبات حكم بالمصلحة المرسلة ولا يشهد لها شاهد الشرع باعتبار ولا خلاف في فساد هذا فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة أداء الدين والتزامه للغريم ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين مليء أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق وذكر القاضي أن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورثهم من غير أن يشترط التزامهم له ولا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه ولو لزمهم ذلك لموت موروثهم للزمهم وإن لم يخلف وفاء وإن قلنا أن الدين يحل بالموت فأحب الورثة القضاء من غير التركة واستخلاص التركة فلهم ذلك وإن قضوا منها فلهم ذلك وإن امتنعوا من القضاء باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم وإن قلنا لا يحل بالموت نظرنا فإن وثق الورثة لصاحب المؤجل اختص أصحاب الحال بالتركة وإن امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكلية
فصل : حكى بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع الدين نقل التركة إلى الورثة ؟ روايتين إحداهما : لا يمنعه للخبر ولأن تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في حق الجاني والراهن والمفلس فلم يمنع نقله فإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني أو النصاب الذي وجبت فيه الزكاة والرواية الثانية : يمنع نقل التركة إليهم لقول الله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فجعل التركة للوارث من بعد الدين والوصية فال يثبت لهم الملك قبلهما فعلى هذا لو تصرف الورثة لم يصح تصرفهم لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن الغرماء وإن تصرف الغرماء لم يصح إلا بإذن الورثة

قال : وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يقفه الحاكم جائز
مسألة : قال : وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يقفه الحاكم فجائز
يعني قبل أن يحجر عليه الحاكم فنبدأ بذكر سبب الحجر فنقول : إذا رفع إلى الحاكم رجل عليه دين فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لم يجبهم حتى ثبت ديونهم باعترافه أو ببينة فإذا ثبتت نظر في ماله فإن كان وافيا بدينه لم يحجر عليه وأمره بقضاء دينه فإن أبى حبسه فإن لم يقضه وصبر على الحبس قضى الحاكم دينه من ماله وإن احتاج إلى بيع ماله في قضاء دينه باعه وإن كان ماله دين ديونه مؤجلة لم يحجر عليه لأنه لا تستحق مطالبته بها فلا يحجر عليه من أجلها وإن كان بعضها مؤجلا وبعضها حالا وماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضا كذلك وقال بعض أصحاب الشافعي : إن ظهرت أمارات الفلس لكون ماله بازاء دنيه ولا نفقة له إلا ماله ففيه وجهان أحدهما : يحجر عليه لأن الظاهر أن ماله يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصا ولنا أن ماله واف بما يلزمه أداؤه فلم يحجر عليه كما لو لم تظهر أمارات الفلس ولأن الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال فلا حاجة إلى حجر وأما إن كانت ديونه حالة يعجز ماله عن أدائها فسأل غرماؤه الحجر عليه لزمته إجابتهم ولا يجوز الحجر عليه بغير سؤال غرمائه لأنه لا ولاية له في ذلك وإنما يفعله لحق الغرماء فاعتبر رضاهم به وإن اختلفوا فطب بعضهم دون بعض أجيب من طلب لأنه حق له وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : ليس للحاكم الحجر عليه فإذا أدى اجتهاده إلى الحجر ثبت لأه فصل مجتهد فيه وليس له التصرف في ماله لأنه لا ولاية عليه إلا أن الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدونه فإن امتنع لم يبعه وكذلك إن امتنع الموسر من وفاء الدين لا يبيع ماله وإنما يحبسه ليبيع بنفسه إلا أن يكون عله أحد النقدين وماله من النقد الآخر فيدفع الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم لأنه رشيد لا ولاية عليه فلم يجز للحاكم بيع ماله بغي إذنه كالدين لا دين عليه وخالفه صاحباه في ذلك ولنا ما روى كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه رواه الخلال بإسناده وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال : ألا أن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح وقد رين به فمن كان له عليه مال فليحضر غدا فانا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه ولأنه محجور عليه محتاج إلى قضاء دين فجاز ماله بغير رضاه كالصغير والسفيه ولأنه نوع مال فجاز بيعه في قضاء دينه كالأثمان وقياسهم يبطل ببيع الدراهم بالدنانير إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب فنقول : ما فعله المفلس قبل الحجر الحاكم عليه من بيع أو هبة أو إقرار أو قضاء بعض الغرماء أو غير ذلك فهو جائز نافذ : وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا نعلم أحدا خالفهم ولأه رشيد غير محجور عله فنفذ تصرفه كغيره ولأن سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه ولأنه من أهل التصرف ولم يحجر عليه فأشبه المليء وإن أكرى جملا بعينه أو دارا لم تنفسخ إجارته بالفلس وكان المكتري أحق به حتى تنقضي مدته

بطلان تصرف المفلس بعد الحجر عليه وحكم اعتاقه لرقيقه وإظهار الحجر عليه
فصل : ومتى حجر عليه لم ينفذ تصرفه في شيء من ماله فإن تصرف ببيع أو هبة أو وقف أو أصدق امرأة مالا له أو نحو ذلك لم يصح وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في آخر : يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ وإلا بطل ولنا أنه محجور عليه بحكم حاكم فلم يصح لتصرفه كالسفينة ولأن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله فلم يصح تصرفه فيها كالمرهونة فأما إن تصرف في ذمته فاشترى أو اقترض أو تكفل صح تصرفه لأنه أهل للتصرف وإنما وجد في حقه الحجر والحجر وإنما يتعلق بماله لا بذمته ولن لا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأنه رضوا بذلك إذ علموا أنه مفلس وعاملوه ومن لم يعلم فقد فرط في ذلك فإن هذا في مظنة الشهرة ويتبع بها بعد فك الحجر عنه نص عليه أحمد وهو قول مالك و محمد بن الحسن و الثوري و الشافعي في قول وقال في الآخر : يشاركهم واختاره ابن المنذر لأنه دين ثابت مضاف إلى ما قبل الحجر فيشارك صاحبه الغرماء كما لو ثبت ببينة ولنا أنه محجور عليه فلم يصح إقراره فيما حجر عليه فيه كالسفيه أو كالراهن يقر على الرهن ولأنه إقرار يبطل ثبوته حق غير المقر فلم قبل أو إقراره على الغرماء فلم يقبل كإقرار الراهن ولأنه متهم في إقراره فهو كالإقرار على غيره وفارق البينة فإنه لا تهمة في حقها ولو كان المفلس صانعا كالقصار والحائك في يديه متا فأقر به لأربابه لم يقبل إقراره والقول فيها كالتي قبلها وتباع العين التي في يده وتنقسم ين الغرماء وتكون قيمتها واجبة على المفلس إذا قدر عليها لأنه صرفت في دينه بسبب من جهته فكانت قيمتها عليه كما لو أذن في ذلك وإن توجهت على المفلس يمين فنكل عنها فقضي عليه فحكمه حكم إقراره يلزم في حقه ولا يحاص الغرماء
فصل : وإن أعتق المفلس بعض رقيقه فهل يصح ؟ على روايتين إحداهما : يصح وينفذ وهو قول أبي يوسف و إسحاق لأنه عتق من مالك رشيد فنفذ كما قبل الحجر ويفارق سائر التصرفات لأن للعتق تغليبا وسراية ولهذا يسري إلى ملك الغير ويسري واقفه بخلاف غيره والرواية الأخرى : لا ينفذ عتقه وبهذا قال مالك و ابن أبي ليلى و الثوري و الشافعي واختاره أبو الخطاب في رؤوس المسائل لأنه ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلمن ينفذ عتقه كالمريض الذي يستغرق دينه ماله ولأن المفلس محجور عليه فلم ينفذ عتقه كالسفيه وفارق المطلق وأما سرايته إلى ملك الغير فمن شرطه أن يكون موسرا يؤخذ منه قيمة نصيب شريكه فلا يتضرر ولو كان معسرا لم ينفذ عتقه إلا فيما يملك صيانة لحق الغير وحفظا له عن الضياع كذا ههنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى
فصل : ويستحب إظهار الحجر عليه لتجتنب معاملته كيلا يستضر الناس بضياع أموالهم عليه والإشهاد عليه ليتشر ذلك عنه وربما عزل الحاكم أو مات فيثبت الحجر عند الآخر فيمضيه ولا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان

ثبوت حق المفلس وظهور غريم بعد قسمة ماله بين الغرماء
فصل : وإن ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه دين ثابت قبل الحجر عليه فأشبه ما لو قالت البينة به قيل الحجر ولو جنى المفلس بعد الحجر جناية أوجب مالا شارك المجني عليه الغرماء لأن حق المجني عليه ثبت بغير اختياره ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها إلى مال أو صالحة المفلس على مال شارك الغرماء لأن سببه ثبت بغير اختيار صاحبه فأشبه لو أوجبت المال فإن قيل ألا قدمتم حقه على الغرماء كما قدمتم حق من جنى عليه بعض عبيد المفلس ؟ قلنا لأن الحق في العبد الجاني تعلق بعينة فقدم لذلك وحق هذا تعلق بالذمة كغيرة من الديون فاستويا
فصل : ولو قسم الحاكم ماله بين غرمائه ثم ظهر غريم آخر بجع على الغرماء بقسطه وبهذا قال الشافعي : وحكي ذلك عن مالك وحكي عنه لا يحاصهم لأنه نقض لحكم الحاكم ولنا أنه غريم لو كان حاضرا قاسمهم فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله وليس قسم الحاكم ماله حكما إنما هو قسمة بأن الخطأ فيها فأشبه ما لو قسم مال الميت بين غرمائه ثم ظهر غريم آخر أو قسم أرضا بين شركاء ثم ظهر شريك آخر أو قسم الميراث بين روثة ثم ظهر وارث سواه أو وصية ثم ظهر موصى له آخر
فصل : ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة وسقط من الأجرة بقدر ذلك ثم إن وجد عين ماله أخذ بقدر ذلك وإن لم يجده ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان بعد قسم مال رجع على الغرماء بحصته لأنه سبب وجوبه قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجبت قبل القسمة ولو باع سلعة وقبض ثمنها ثم أفلس فوجد بها المشتري عيبا فردها به أو ردها بخيار أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله أخذها لأن البيع لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع وإن كان بعد تصرفه فيه شارك المشتري الغرماء

قال وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته بالمعروف
مسألة : قال : وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته بالمعروف من ماله إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه
وجملة ذلك أنه إذا حجر على المفلس وكان ذا كسب يفي بنفقته من تلزمه نفقته فنفقته في كسبه فإنه لا حاجة إلى إخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز أخذ ماله كالزيادة على النفقة وإن كان كسبه دون نفقته كملناها من ماله وإن لم يكن ذا كسب انفق عليه من ماله مدة الحجز وإن طالت لأن ملكه باق [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] ومعلوم أن فين يعوله من تجب نفقته عليه ويكون دينا عليه وهي الزوجة فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء ولأن الحي آكد حرمة من الميت لأنه مضمون بالإتلاف وتقديم تجهيز الميت ومؤنة دفنه على دينه متفق عليه فنفقته أولى وتقدم أيضا نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالدين والمولودين وغيرهم ممن تجب نفقتهم لأنهم يجرون مجرى نفسه لأن ذوي رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت نفقتهم كنفقته وكذلك زوجته تقدم نفقتها لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب لأنها تجب من طريق المعاوضة وفيها معنى الأحياء كما في الأقارب وممن أوجب الانفاق على المفلس وزوجته وأولاده الصغار من ماله و أبو حنيفة و مالك و الشافعي ولا نعلم أحدا خالفهم وتجب كسوتهم أيضا لأن ذلك مما لا بد منه ولا تقوم النفس بدونه والواجب من النفقة والكسوة أدنى ما ينفق على مثله بالمعروف وأدنى ما يكتسي مثله إن كان من جنس الطعام أو متوسطه وكذلك كسوته من جنس ما يكتسبه مثله وكسوة امرأته ونفقتها مثل ما يفترض على مثله وأقل ما يكفيه من اللباس قميص والسراويل وشيء يلبسه على رأسه غما عمامة أو قلنسوة أو غيرهما مما جرت به ثياب لا يلبس حذاء إن كان يعتاده وإن احتاج إلى جبة أو فروة لدفع البرد دفع إليه ذلك وإن كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها واشترى له كسوة مثلها ورد الفضل على الغرماء فإن كانت إذا بيعت واشتري له كسوة لا يفضل منها شيء تركت فإنه لا فائدة في بيعها

وإن مات المفلس كفن من ماله
فصل : وإن مات المفلس كفن من ماله لأن نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب تجهيزه منه بعد الموت كغيره وكذلك يجب كفن من يموته لأنهم بمنزلته ولا يلزم تكفين الزوجة لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بالموت فسقطت النفقة ويفارق الأقارب لأن قرابتهم باقية وإن مات من عبيده أحد وجب تكفينه وتجهيزه لأن نفقته ليس في مقابلة الانتفاع به ولذلك تجب نفقة الصغير والمبيع قبل التسليم ويكفن في ثلاثة أثواب كما كان يلبس في حياته ثلاثة ويحتلم أن يكفن في ثوب واحد يستره لأن ذلك يكفيه فلا حاجة إلى الزيادة وفارق حالة الحياة لأنه لا بد له من تغطية رأسه وكشف ذلك يؤذيه بخلاف الميت ويمتد الإنفاق على المفلس إلى حين فراغه من القسمة بين الغرماء لأنه لا يزول ملكه إلا بذلك ومذهب الشافعي في هذا الفصل قريب مما ذكرنا

قال : ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها
مسألة : قال : ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها
وجملته أن المفلس إذا حجر عليه باع الحاكم ماله ويستحب أن يحضر المفلس البيع لمعان أربعة أحدهما : ليحصى ثمنه ويضبطه الثاني : أنه اعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه فإذا تكلم عليه وعرف الغبن من غيره الثالث : أن تكثر الرغبة فيه فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشتري الرابع : أن ذلك أطيب لنفسه وأسكن لقلبه ويستحب إحضار الغرماء أيضا لأمور أحدها : أنه يباع لهم الثاني : أهم ربما رغبوا في شراء شيء منه فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس الثالث : أنه أطيب لقلوبهم وأبعد من التهمة الرابع : أنه ربما كان فيهم من يجد عين ماله فيأخذها فإن لم يفعل وباعه من غير حضورهم كلهم جاز لأن ذلك موكول إليه ومفوض إلى اجتهاده وربما اداه اجتهاده إلى خلاف ذلك وبانت له المصلحة في المبادرة إلى البيع قبل إحضارهم ويأمرهم الحاكم أن يقيموا مناديا ينادي لهم على المتاع فإن تراضوا برجل ثقة أمضاه الحاكم وإن اتفقوا على غير ثقة رده فإن قيل فلم يرده وأصحاب الحق قد اتفقوا عليه فأشبه ما لو اتفق الراهن والمرتهن على أن يبيع الرهن غير ثقة لم يكن للحاكم الاعتراض ؟ قلنا لأن للحاكم ههنا نظرا واجتهادا فإنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به فلهذا نظر فيه بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه فإن اختار المفلس رجلا واختار الغرماء آخر أقر الحاكم الثقة منهما فإن كانا ثقتين قدم المتطوع منهما لأنه أوفر فإن كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر وإن كانا بجعل قدم أعرفهما وأوثقهما فإن تساويا قدم من يرى منهما فإن وجد متطوعا بالنداء وإلا دفعت الأجرة من ماله المفلس لأن البيع حق عليه لكونه طريق وفاء دينه وقيل يدفع من بيت المال لأنه من المصالح وكذلك الحكم في أجر من يحفظ المتاع والثمن وأجر الحمالين ونحوهم ويستحب بيع كل شيء في سوقه : البز في البزازين والكتب في سوقها ونحو ذلك ولأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته فإن باع في غير سوقه بثمن مثله جاز لأن الغرض تحصيل الثمن وربما أدى الاجتهاد إلى أن ذلك أصلح ولذلك لو قال : بع ثوبي في سوق كذا بكذا فباعه بذلك في سوق آخر جاز ويبيع بنقد البلد لأنه أوفر فإن كان في البلد نقود باع بغالبها فإن تساوت باع بجنس الدين وإن زاد في السلعة زائدة في مدة الخيار لزم الأمين الفسخ لأنه أمكنه بيعه بثمن فلم يجز بيعه بدونه كما ول زيد فيه قبل العقد وإن زاد بعد لزوم العقد استحب للأمين سؤال المشتري الإقالة واستحب للمشتري الإجابة إلى ذلك لتعلقه بمصلحة المفلس وقضاء دينه فيبدأ ببيع العبد الجاني فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من ثمنه أو أرش جنايته وما فضل منه زده إلى الغرماء ثم ببيع الرهن فيدفع إلى المرتهن قدر دينه وما فضل من ثمنه رده إلى الغرماء وإن بقيت من دين بقية ضرب بها مع الغرماء ثم يبيع ما يسرع إليه الفساد من الطعام الرطب لأن بقاءه يتلفه بيقين ثم يبيع الحيوان لأنه معرض للإتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم يبيع السلع والأثاث لأنه يخاف عليه تناله الأيدي ثم العقار آخرا لأنه لا يخاف تلفه وبقاؤه أشهره له وأكثر لطلابه ومتى باع شيئا من ماله وكان الدين لواحد وحده دفعه إليه لأنه لا حاجة إلى تأخيره وإن كان له غرماء فأمكن قسمته عليهم قسم ولم يؤخر وإن لم يمكن قسمته أودع عند ثقة إلى أن يجتمع ويمكن قسمته فيقسم وإن احتاج في حفظه إلى غرامة دفع ذلك إلى من يحفظه إذا ثبت هذا عدنا إلى مسألة الكتاب فنقول لا تابع داره التي لا غنى له عن سكناها وبهذا قال أبو حنيفة و إسحاق وقال شريح و مالك و الشافعي : يباع ويكتري له بدلها واختاره ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه : خذوا ما وجدتم وهذا مما وجدوه ولأن عين مال المفلس فوجب صرفه دينه في كسائر ماله
ولنا أن هذا مما لا غنى للمفلس عنه فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين ويحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم ويحتمل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خذوا ما وجدتم ] مما تصدق به عليه فإن المذكور قبل ذلك كذلك روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : خذوا ما وجدتم ] أي مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق عليه بدار وهو محتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته ولأن الحديث مخصوص بثياب المفلس وقوته فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك أيضا وبأجر المسكن وسائر ماله يستغني عنه بخلاف مسألتنا

وإذا كان له داران
فصل : وإن كان له داران يستغني بسكنى إحداهما بيعت الأخرى لأن به غنى عن سكناها وإن كان مسكنه واسعا لا يسكن مثله في مثله بيع واشترى له مسكن مثله ورد الفضل على الغرماء كالثياب التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها ولو كان المسكن والخادم اللذين لا يستغني عنهما عين مال بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم أخذها بالشرائط التي ذكرناها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدرك متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به ] ولأن حقه تعلق بالعين فكان ألوى سببا من المفلس ولأن الاعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ فلم يمنعه منه تعلق حاجة المشتري كما قبل القبض وكالعيب والخيار ولأن منعهم من أخذ أعيان أموالهم يفتح باب الحيل بأن يجيء من لا مال له فيشتري في ذمته ثيابا يلبسها ودارا يسكنها وخادما يخدمه وفرسا يركبها وطعاما له ولعائلته ويمتنع على أربابها أخذها لتعلق حاجته بها فتضيع أموالهم ويستغني هو بها فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له شيء منه لأنه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت في أيديهم أو أخذها منهم غصبا

امتناع الانفاق على المفلس القادر على الكسب من ماله
فصل : ولو كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن يكسب ذلك بأن يؤجر نفسه أو يتوكل للإنسان أو يكتسب من المباحات ما يكفيه لم يترك له من ماله شيء وإن لم يقدر على شيء مما ذكرناه ترك له من ماله قدر ما يكفيه قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : في رواية أبي داود ويترك له قوت يتقوت به وإن له عيال ترك له قوام قال في رواية الميموني يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم وينبغي أن يجعل ذلك مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لأن من تعلق حقه بالعين أقوى سببا من غيره
فصل : وإذا تلف شيء من مال المفلس تحت يد الأمين أو بيع شيء من ماله وأودع ثمنه فتلف عند المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي وقال مالك : العروض من ماله والدراهم والدنانير من مال الغرماء وقال المغيرة : الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب الدراهم ولنا أنه من مال المفلس ونماؤه له فكان تلفه في ماله كالعروض

تقسيم مال المفلس بين غرمائه
فصل : وإذا اجتمع مال المفلس قسم بين غرمائه فإن كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان كالقرض بغير الأثمان فرضي أن يأخذ عوض حقه من الأثمان جاز وإن امتنع وطلب جنس حقه ابتيع له بحصته من جنس دينه ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع وقال المفلس : لا أوفيك إلا من جنس دينك قدم قوله لأن هذا على سبيل المعاوضة فلا يجوز إلا بتراضيهما عليه وإن كان فيهم من له دين من سلم لم يجز أن يأخذ إلا من جنس حقه وإن تراضيا على دفع عوضه لأن ما في الذمة من السلم لا يجوز أخذ البدل عنه لقول صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ]
فصل : وإذا فرق مال المفلس وبقيت عليه بقية وله صنعة فهل يجبره الحاكم على إيجار نفسه ليقضي دينه ؟ على روايتين إحداهما : لا يجبره وهو قول مالك و الشافعي لقول الله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولما روى أبو سعيد [ أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها وكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ] رواه مسلم ولأن هذا تكسب للمال فلم يجبره عله كقبول الهبة والصدقة وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر والثانية : يجبر على الكسب وهو قو عمر بن عبد العزيز وسوار العنبري وإسحاق لأن النبي صلى الله عليه و سلم باع ساقا في دينه وكان سرق رجلا دخل المدينة وذكر أن وراءه مالا فدايته الناس فركبته ديون ولم يكن وراءه مال فسماه سرقا وباعه بخمسة ابعرة والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغنى بها فكذلك في وفاء الدين منها ولأن الاجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليها كبيع ماله في وفاء الدين منها ولأنه إجارة لما يملك إجارته فيجبر عليها في وفاء دينه كإجارة أم ولده ولأن قادر على وفاء دينه فلزمه كمال ما يقدر على الوفاء منه فإن قيل حديث سرق منسوخ بدليل أن الحر لا يباع والبيع وقع على رقبته بدليل أن في الحديث أن الغرماء قالوا لمشتريه ما تصنع به ؟ قال : أعتقه قالوا : لسنا بأزهد منك في إعتاقه قلنا هذا إثبات النسخ بالاحتمال لا يجوز ولم يثبت أن يبع الحر كان جائزا في شريعتنا وحمل لفظ بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه سائغ كثير في القرآن وفي كلام العرب كقوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل } { ولكن البر من آمن بالله } { واسأل القرية } وغير ذلك وكذلك قوله اعتقه أي من حقي عليه وكذلك قال فاعتقوه يعني الغرماء وهم لا يملكون إلا بالدين الذي عليه وأما قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } فيتوجه منع كونه داخلا تحت عمومها فإن هذا في حكم الأغنياء في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه وحديثهم قضية عي لا يثبت حكمها إلا في مثلها ولم يثبت أن لذلك الغريم كسبا يفضل عن قدر نفقته وأما قبول الهبة والصدقة ففيه منه ومعرة تأباها قلوب ذوي المروءات بخلاف مسألتنا إذا ثبت هذا فلا يجبر على الكسب إلا من في كسبه فضلة عن نفقته ونفقة من يمونه على ما تقدم ذكره

ولا يجبر المفلس على قبوله هدية
فصل : ولا يجبر على قبول هدية ولا صدقة ولا وصية ولا قرض ولا تجبر المرأة على التزويج ليأخذ مهرها لأن في ذلك ضررا للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في القرض وملك الزوج للمرأة في النكاح ووجوب حقوقه عليها ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فالخيار بحاله ولا يجبر على ما فيه الحظ من الرد والإمضاء لأن المفلس يمنعه من إحداث عقد إما من إمضائه وتنفيذه عقوده فلا وإن جني المفلس جناية توجب الماثل ثبت المال وتعلقت حقوق الغرماء به ولا يصح منه العفو عنه وإن كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو ولا يجبر على العفو على مال لأن ذلك يفوت القصاص الذي يجب لمصلحته فإن اقتص لم يجب الغرماء شيء وإن عفا على مال ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به وإن عفا مطلقا انبنى على الروايتين في موجب العمد إن قلنا القصاص خاصة لم يثبت شيء وسقط القصاص وإن قلنا أحد أمرين ثبتت له الدية وتعلقت بها حقوق الغرماء وإن عفا على غير مال فعلى الروايتين أيضا فإن قلنا القصاص عينا لم يثبت شيء وإن قلنا أحد الأمرين تثبت الدية ولم يصح إسقاطه لأن عفوه عن القصاص يثبت له الدية ولا يصح إسقاطها وإن وهب هبة بشرط ثم أفل فبذل له الثواب لزمه قبوله ولم يكن له إسقاطه لأنه أخذه على سبيل العوض عن الموهوب فلزمه قبوله كالثمن في البيع وليس له إسقاط شيء من ثمن مبيع أو أجرة في إجارة ولا قبضه رديئا ولا قبض المسلم فيه دون صفاته إلا بإذن غرمائه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا

وإذا فرق مال المفلس فهل ينفك عن الحجر
فصل : إذا فرق مال المفلس فهل ينفك عنه الحجر بذلك أو يحتاج إلى فك الحجر عنه ؟ فيه وجها أحدهما : يزول بقسمه ماله لأنه حجر عليه لأجله فإذا زال ملكه عند زال سبب الحجر فزال الحجر كزوال حجر المجنون لزوال جنونه والثاني : لا يزول إلا بحكم الحاكم لأنه ثبت بحكه لا يزول إلا بحكمه كالمحجور عليه لسفه وفارق الجنون فإنه يثبت بنفسه فزال بزواله ولأن فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون

ومتى ثبت إعساره
فصل : ومتى ثبت إعساره عند الحاكم لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب فإذا رجع إلى بيته فأذن لهم في الدخول دخلوا معه وإلا منعوه من الدخول لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لصاحب الحق اليد واللسان ] ولنا أن من ليس لصاحب الحق مطالبته لم يكن له ملازمته كما لو كن دينه مؤجلا وقول الله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } ومن وجب إنظاره حرمت ملازمته كمن دينه مؤجل والحديث فيه مقال قاله ابن المنذر ثم نحمله على الموسر بدليل ما ذكرنا فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه [ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ] رواه مسلم و الترمذي وإن فك الحجر عنه لم يكن لأحد مطالبته ولا ملازمته حتى يملك مالا فإن جاء الغرماء عقيب فك الحجر عنه فادعوا أن له مالا لم يلتفت إلى قولهم حتى يثبتوا سببه فإن جاءوا بعد مدة فادعوا إن في يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فكل الحجر وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شيء وإن أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربة وكان المقر له حاضرا سأله الحاكم فإن صدقه فهو له شيء وإن أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربه وكان المقر له حاضرا سأله الحاكم فإن صدقه فهو له ويستحلفه الحاكم لجواز أن يكونا تواطآ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس وإن قال ما هو لي عرفنا كذب المفلس فيصير كأنه قال المال لي فيعاد الحرج عليه وإن طلب الغرماء ذلك وإن أقر لغائب أقر في يديه حتى يحضر الغائب ثم يسأل كما حكمنا في الحاضر ومتى أعيد الحجر عليه لديوان تجددت عليه شارك غرماء الحجر الأول غرماء لحجر الثاني إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون بجميعهما وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يدخل غرماء الحجر الأول على هؤلاء الذين تجددت حقوقهم حتى يستوفوا إلا أن تكون له فائدة من ميراث أو يجني عليه جناية فيتحاص الغرماء فيه ولنا أنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فتساووا في الاستحقاق في ذمته فتساووا في الاستحقاق كالذين تثبت حقوقهم في حجر واحد وكتساويهم في الميراث وأرس الجناية ولأن مكسبه مال له فتساووا فيه كالميراث

قال : ومن وجب عليه حق فذكر أنه معسر
مسألة : قال : ومن وجب عليه حق فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته
وجملته أن من وجب عليه دين حال فطولب به ولم يؤده الحاكم فإن كان في ديه مال ظاهر أمره بالقضاء فإن ذكر أه لغيره فقد ذكرنا حكمنه في الفصل الذي قبل هذا وإن لم يجد له مالا ظاهرا فادعى الاعسار فصدقه غريمة لم يحبس ووجب انظاره ولم تجز ملازمته لقول الله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولقول النبي صلى الله عليه و سلم لغرماء الذي كثر دينه [ خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ] ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه وعسرته ثابتة والقضاء متعذر فلا فائدة في الحبس وإن كذبه غريمه فلا يخلو إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة كالقرض والبيع أو عرف له أصل مال سوى هذا فالقول قول غريمه فإذا حلف أنه ذو مال حبس حتى تشهد البينة بإعساره قال ابن المنذر : أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين منهم مالك و الشافعي و أبو عبيد و النعمان و سوار و عبيد الله بن الحسن وروي عن شريح و الشعبي وكان عمر بن عبد العزيز يقول : يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس وبه قال عبدالله بن جعفر و الليث بن سعد ولنا أن الظاهر قول الغريم فكان القول قوله كسائر الدعاوى فإن شهدت البينة بتلف ماله قبلت شهادتهم سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أو لم تكن لأن التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم وإن طلب الغريم احلافه على ذلك لم يجب إليه ذلك تكذيب للبينة وإن شهدت مع ذلك بالاعسار اكتفي بشهادتها وثبتت عسرته وإن لم تشهد بعسرته وإنما شهدت بالتلف لا غير وطلب الغريم يمينه على عسره وأنه ليس له مال آخر استحلف على ذلك لأن غير ما شهدت به البينة وإن لم تشهد بالتلف وإنما شهدت بالإعسار لم تقبل بالتلف وإنما شهدت بالاعسار لم تقبل الشهادة إلا من ذي خبرة باطنه ومعرفة متقادمة لأن هذا من الأمور الباطنة لا يطلع عليه في الغالب إلا أهل الخبرة والمخالطة وهذا مذهب الشافعي وحكي عن مالك أنه قال : لا يستمع البينة على الاعسار لأنها شهادة على النفي فلم تسمع كالشهادة على أنه لا دين عليه
ولنا ما [ روى قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال - سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من سدادا الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش - أو قال - سدادا من عيش ] رواه مسلم و أبو داود وقولهم إن الشهادة على النفي لا تقبل قلنا لا ترد مطلقا فإنه لو شهدت البينة أن هذا وارث الميت لا وارث له سواه قبلت ولأن هذه وإن كانت تتضمن النفي فهي تثبت حالة تظهر ويوقف عليها بالمشاهدة بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له فإن هذا مما لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته به بخلاف مسألتنا وتسمع البينة في الحال وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تسمع في الحال ويحبس شهرا وروي ثلاثة أشره وروي أربعة أشهر حتى يغلب على ظن الحاكم الذي لو كان له مال لأظهره ولنا أن كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها في الحال كسائر البينات وما ذكروه لو كان صحيحا لأغنى عن البينة فإن قال الغريم احلفوه لي مع يمينه أنه لا مال له لم يستحلف في ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية إسحاق بن إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق فال الغريم استحلفوه لا يستحلف لأن ظاهر الحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال القاضي : سواء شهدت البينة بتلف المال أو بالاعسار وهذا أحد قولي الشافعي لأنها بينة مقبولة فلم يستحلف معها كما لو شهدت بأن هذا عبده أو هذه داره ويحتمل أن يستحلف وهذا القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل أن له مالا خفي على البينة ويصح عندي الزامه اليمين على الاعسار فيما إذا شهدت البينة بتلف المال وسقوطها عنه فيما إذا شهدت بالاعسار لأنها إذا شهدت بالتلف صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمة بتلف ذلك المال وادعى أن له مالا سواه أو أنه أستحق مالا بعد تلفه ولو لم تقم البينة وأقر له غريمة بتلف ماله وادعى أن له مالا سواه لزمته اليمين فكذلك إذا قامت به البينة فإنها لا تزيد على الإقرار وإن كان الحق يثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه كأرش جناية وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة أو عوض خلع إن كان امرأة وإن لم يعرف له مال حلف أنه لا مال له وخلي سبيله ولم يحبس هذا قول الشافعي و ابن المنذر فإن شهدت البينة باعساره قبلت ولم يستحلف معها لما تقدم وإن شهدت أنه كان له مال فتلف لم يستغن بذلك عن يمينه لما ذكرناه وكذلك لو أقر له به غريمه وإنما اكتفينا بيمينهن لأن الأصل عدم المال لما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لحبة وسواء ابني خلد بن سواء لا تيئسا من الرزق ما اهتزت رؤوسكما فإن ابن آدم يخلق وليس له إلا قشرتاه ثم يرزقه الله تعالى ] قال ابن المنذر : الحبس عقوبة ولا نعلم له ذنبا يعاقب به والأصل عدم ماله بخلاف المسألة الأولى فإن الأصل ثبوت مال فيحبس حتى يعلم ذهابه و الخرقي لم يفرق بين الحالين لكنه يحمل كلامه على ما ذكرنا لقيام الدليل على الفرق

وإذا امتنع الموسر من قضاء الدين فلغريمه ملازمته
فصل : إذا امتنع الموسر من قضاء الدين فلغريمه ملازمته ومطالبته والاغلاظ له بالقول فيقول يا ظالم يا معتدي ونحو ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لي الواجد يحل عقوبته وعرضه ] فعقوبته حبسه وعرضه أي يحل القول في عرضه بالاغلاظ و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم مطل الغني ظلم ] وقال : [ إن لصاحب الحق مقالا ]

قال : وإذا مات فتبين أنه مفلس
مسألة : قال : وإذا مات فتبين أنه كان مفلسا لم يكن لأحد من الغرماء أن يأخذ عين ماله
هذا الشرط الخامس لاستحقاق استرجاع عين المال من المفلس وهو أن يكون حيا فإن مات فالبائع أسوة الغرماء سواء علم بفلسه قبل الموت فحجر عليه ثم مات أو مات فتبين فلسه وبهذا قال مالك و إسحاق وقال الشافعي له الفسخ واسترجاع العين لما [ روى ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال : أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال أبو هريرة هذا الذي قضي فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ] رواه أبو داود و ابن ماجة واحتجوا بعموم قوله عليه السلام : [ من أدرك متاعه بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به ] ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فسخه لتعذر العوض كما لو تعذر المسلم فيه ولأن الفلس سبب الاستحقاق الفسخ فجاز به بعد الموت كالعيب
ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث المفلس [ فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء ] رواه أبو داود وروي أبو اليمان عن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه اقتضى من ثمنه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء ] رواه ابن ماجة ولأنه تعلق به حق غير المفلس والغرماء وهم الورثة فأشبه المرهون وحديثهم مجهول الإسناد قاله ابن المنذر : قال ابن عبد البر : يرويه أبو المعتمر عن الرزقي وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم ثم هو غير معمول به إجماعا فإنه جعل المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر وفائه ولا عدم قبض ثمنه والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء إلا ما حكين عن الاصطخري من أصحاب الشافعي أنه قال : لصاحب السلعة أن يرجع فيها إذا مات المشتري وإن خلف وفاء وهذا شذوذ عن أقوال أهل العلم وخلاف للسنة لا يعرج على مثله وأما الحديث الآخر فنقول به وإن صاحب المتاع أحق به إذا وجده عند المفلس وما وجده في مسألتنا عنده إنما وجده عند ورثته فلا يتناوله الخبر وإنما يدل بمفهومة على أنه لا يستحق الرجوع فيه ثم هو مطلق وحديثنا يقيده وفيه زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ويفارق حالة الحياة حال الموت لأمرين أحدهما : أن الملك في الحياة للمفلس وههنا لغيره والثاني : أن ذمة المفلس خرجت ههنا خرابا لا يعود فاختصاص هذا بالعين يستضر به الغرماء كثيرا بخلاف حالة الحياة

قال : ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق
مسألة : قال : ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه
وجملة ذلك أن من عليه الدين إذا أراد السفر وأراد غريمة منعه نظرنا فإن كان محل الدين قبل محل قدومه من السفر مثل أن يكون سفره إلى الحج لا يقدم إلا في صفر ودينه يحل في المحرم أو ذي الحجة فله منعه من السفر لأن عليه ضررا في تأخير حقه عن محله فإن أقام ضمينا مليئا أو دفع رهنا يفي بالدين عند المحل فله السفر لأن الضرر يزول بذلك وأما إن كان الدين لا يحل إلا بعد محل السفر مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر نظرنا فإن كان سفره إلى الجهاد فله منعه إلا بضمين أو رهن لأنه سفر يتعرض فيه للشهادة وذهاب النفس فلا يأمن فوات الحق وإن كان السفر لغير الجهاد فظاهر كلام الخرقي أنه ليس له منعه وهو أحد الروايتين عن أحمد لأن هذا السفر ليس بإمارة على منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسف القصير وكالسعي إلى الجمعة وقال الشافعي : ليس له منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلا بحال سواء كان الدين يحل قبل محل سفره أو بعده أو إلى الجهاد أو إلى غيره لأنه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه إن لم يوثقه بكفيل أو رهن كالسفر بعد حلول الحق ولأنه لا يملك تأخير الدين عن محله وفي السفر المختلف فيه تأخيره عن محله فلم يملكه كجحده

كتاب الحجر
الحجر في اللغة المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجرا قال الله تعالى : { ويقولون حجرا محجورا } أي حارما محرما ويسمى العقل حجرا قال الله تعالى : { هل في ذلك قسم لذي حجر } أي عقل سمي حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح تضر عاقبته وهو في الشريعة منع الإنسان من التصرف في ماله والحجر على ضربين : حجر على الانسان لحق نفسه وحجر عليه لحق غيره فالحجر عليه لحق يغره كالحجر على المفلس لحق غرمائه وعلى المريض في التبرع بزيادة على الثلث أو التبرع بشيء لوارث لحق ورثته على المكاتب والعبد لحق سيدهما والراهن يحجر عليه في الراهن لحق المرتهن ولهؤلاء أبواب يذكرون فيها
وأما الحجور عليه لحق نفسه فثلاثة الصبي والمجنون والسفيه وهذا الباب مختص بهؤلاء الثلاثة والحجر عليهم حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر عليهم قول الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } والآية التي بعدها قال سعيد بن جبير وعكرمة هو مال اليتيم عندك لا تؤته إياه وانفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء وهي لغيرهم لأنهم قوامها ومدبروها وقول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى } يعني اختبروهم في حفظهم لأموالهم { حتى إذا بلغوا النكاح } أي مبلغ الرجال والنساء { فإن آنستم منهم رشدا } أي أبصرتم وعلمتم منهم حفظا لأموالهم وصلاحا في تدبير معايشهم

قال : ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة
أحدها : في وجوب دفع المال إلى المحجور عليه إذا رشد وبلغ وليس فيه اختلاف بحمد الله تعالى قال ابن المنذر اتفقوا على ذلك وقد أمر الله تعالى به في نص كتابه بقول سبحانه : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } لو أن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على ووجه المصلحة حفظا لما له عليه وبهذين المعنيين يقدر على التصرف ويحفظ ماله فيزول الحجر لزوال سببه ولا يعتبر في زوال الحجر عن المجنون إذا عقل حكم حاكم بغير خلاف ولا يعتبر ذلك في الصبي إذا رشد وبلغ وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يزول إلا بحاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم الحاكم كزوال الحجر عن السفيه ولنا أن الله تعالى أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجوب ذلك بدون حكم الحاكم وهذا خلاف النص ولأنه حجر بغي حكم حاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون وبهذا فارق السفيه وقد ذكر أبو الخطاب أن الحجر على السفيه يزول بزوال السفه والأول أولى فصار الحجر منقسما إلى ثلاثة أقسام : قسم بزوال بغير حكما حاكم وهو حجر المجنون وقسم لا يزول إلا بحاكم وهو حجر السفيه وقسم فيه الخلاف وهو حجر الصبي
الفصل الثاني : أنه لا يدفع إليه ماله قبل وجود الأمرين البلوغ والرشد ولو صار شيخا وهذا قو أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز العراق والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيرا وهذا قول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وبه قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد وروى الجوزجاني في كتابه قال : كان القاسم بن محمد يلبي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله ودنه لضعف عقله : قال ابن إسحاق : رأيته شيخا يخضب وقد جاء أبو القاسم بن محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلي مالي فإن لا يولي على مثلي فقال إنك فاسد فقال امرأته طالق البتة وكل مملوك له حر إن تدفع إلي مالي فقال له القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته وقال هي مرة مسلمة وما كنت لاحبسها عليك وقد فهمت بطلاقها فأرسل إلهيا فأخبرها ذلك وقال أما رقيقك فلا عتق لك ولا كرامة فحبس رقيقه قال ابن إسحاق ما كان يعاب على رجل إلا سفهه وقال أبو حنيفة لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة وإن تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فك عنه الحجر ودفع إليه ماله لقول الله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جدا ولأنه حر بالغ عاقل مكلف فلا يجوز عليه كالرشيد
ولنا قول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } علق الدفع على شرطين والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } يعني أموالهم وقول الله تعالى { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } فأثبت الولاة على السفيه ولأنه مبذر لماله فلا يجوز دفعه إليه كمن له دون ذلك وأما الآية التي أحتج بها فإنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقو به ثم هي مخصصة فيما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن تخص به أيضا كما إنها لما خصصت في حق المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خصت أيضا بعد خمس وعشرين وما ذكرناه من المنطوق أولى مما استدل به من المفهوم المخصص وما ذكروه من كونه جدا ليس تحته معنى يقتضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو إثبات للحكم بالتحكم ثم هو متصور فيمن لم دون هذا السن فإن المرأة تكون جدة لاحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة وما أوجب الحجرة قبل خمس وعشرين يوجبه بعدها إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه ولا إقراره وقال أبو حنيفة يصح بيعه وإقراره وإنما لا يسلم إليه ماله لأن البالغ عند لا يحجر عليه وإنما منع تسليم ماله إيه للآية وقال أصحابنا في إقراره يلزمه بعد فك الحجر عنه إذا كان بالغا ولنا أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلا يصح تصرفه وإقراره كالصبي والمجنون ولأنه إذا نفذ تصرفه وإقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئا ولأن تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد فإنه إنما يمنع ماله حفظا له فإذا لم يتحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الأصل
الفصل الثالث في البلوغ : ويحصل في حق الغلام والجارية باحد ثلاثة أشياء وفي حق الجارية بشيئين يختصان بها أما الثلاثة المشتركة بين الذكر والأنثى فأولها خروج المني من قبله وهو الاء الدافق الذي يخلق منه الولد فكيفما خرج من يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك حصل به البلوغ لا نعلم في ذلك اختلافا لقول الله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } - وقوله - { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم ] وقوله عليه السلام لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] رواهما أبو داود قال ابن المنذر : وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل وعلى المرأة بظهور الحيض منها وأما الانبات فهو أن ينبت الشعر الخشن حول ذكر الرجل أو فرج المرأة الذي استحق أخذه بالموسى وأما الزغب الضعيف فلا اعتبرا به فإنه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر وهو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين ؟ فيه قولان وقال أبو حنيفة لا اعتبار به لأنه نبات شعر فأشبه نبات شعر سائر البدن ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وأمر أن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت ألحقوه بالذرية وقال عطية القرظي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسل يوم قريظة فشكوا في فأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن ينظر إلي هل أنبت بعد ؟ فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فالحقوني بالذرية متفق على معناه وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من الأنصاب شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت قال : لو أنبت الشعر لحددتك ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا ويستوي فيه الذكر والأنثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام ولأن الخارج ضربان متصل ومنفصل فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغا في حق المشركين كان بلوغا في حق المسلمين كالاحتلام والسن وأما السن فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة وبهذا قال الأوزاعي و الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال داود لا حد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام [ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم ] وإثبات البلوغ بغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك وقال أصحابه سبع عشرة أو ثماني عشرة وروي عن أبي حنيفة في الغلام روايتان إحداهما : سبع عشرة والثانية : ثماني عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيت أو اتفاق ولا توقيف في هذا ولا اتفاق
ولنا [ أن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ] متفق عليه وفي لفظ [ عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ] فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في مسنده ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي عن أنس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأخذت منه الحدود ] ولأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الغلام والجارية فاستويا فيه كالإنزال وما ذكره أصحاب أبي حنيفة ففيما رويناه جواب عنه وما احتج به داود لا يمنع إثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان انبات الشعر علما عليه وأما الحيض فهو علم على البلوغ لا نعلم فيه خلا وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وأما الحمل فهو علم على البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد لا يخلق إلا من ماء الرجل وماء المرأة قال الله تعالى : { فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب } وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك الأحاديث فمتى حملت حكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه

ما يعلم به بلوغ الخنثى المشكل
فصل : وإذا وجد خروج المني من ذكر الخنثى المشكل فهو علم على بلوغه وكونه رجلا وإن خرج من فرجه أو حاض فهو علم على بلوغه وكونه امرأة وقال القاضي ليس واحد منهما علما على البلوغ فإن اجتمعا فقد بلغ وهذا مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج منه ذلك خلقه زائدة
ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على كونه رجلا أو امرأة فخروج المني والحيض أولى وإذا ثبت كونه رجلا خرج المني من ذكره أو امرأة خرج الحيض من فرجها لزم وجود البلوغ ولأن خروج مني الرجل من المرأة والحيض من الرجل مستحيل فكان دليلا على التعيين فإذا ثبت التعيين لزم كونه دليلا على البلوغ كما لو تعني قبل خروجه ولأنه مني خارج من ذكر أو حيض خارج من فرج فكان علما على البلوغ كالمني الخارج من الغلام والحيض الخارج من الجارية ولأنهم سلموا أن خروجهم معا دليل على البلوغ فخروج أحدهما منفردا أولى لأن خروجهما معا يقتضي تعارضهما وإسقاط دلالتهما إذا لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل فيلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجه من غير محلها وليس أحدهما بذلك أولى من الآخر فتبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعا بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفردا فإن الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه ويقضي بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره وبكونه امرأة بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره وللجارية بخروج الحيض من فرجها فعلى هذا إن خراجا معا لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة لأن الدليلين تعارضا فأشبه ما لو خرج البول من الفرجين وهل يثبت البلوغ بذلك ؟ فيه وجهان أحدهما : يثبت وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره وإن كان امرأة فقد حاضت والثاني : لا يثبت لأنه يجوز أن لا يكون هذا حيضا ولا منيا فلا يكون فيه دلالة وقد دل تعارضهما على ذلك فانتفت دلالتهما على البلوغ كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية والله أعلم

الأنثى كالذكر في رفع الحجر عنها
مسألة قال : وكذلك الجارية وإن لم تنكح
يعني أن الجارية إذا بلغت وأونس رشدها بعد بلوغها دفع إليها مالها وزال الحج عنه وإن لم تزوج وبهذا قال عطاء و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ونقل أبو طالب عن أحمد لا يدفع إلى الجارية مالها بعد بلوغها حتى تتزوج وتلد أو يمضي عيها سنة في بيت الزوج روي ذلك عن عمر وبه قال شريح والشعبي وإسحاق لما روى عن شريح أنه قال : عهد إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا أجبر الجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف فصار إجماعا وقال مالك : لا يدفع إليها مالها تزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب تزويجها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر كالصغيرة
ولنا عموم قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } ولأنها يتيم بلغ واونس منه الرشد فدفع إليه ماله كالرجل ولأنها بالغة رشيدة فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج وحديث عمر إن صح فلم يعلم انتشاره في الصحابة ولا يترك به الكتاب والقياس على أن حديث عمر مختص بمنع العطية فلا يلزمه منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعمل به وإنما اعتمد على اجبار الأب لها على النكاح ولنا أن نمنع ذلك وإن سلمناه فإنما أجبرها على النكاح لأن اختبارها للنكاح ومصالحة لا يعلم إلا بمباشرته والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأه لو يوجد شرط دفع مالها إليها فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي : عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت
فصل : وظاهر كلام الخرقي أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي و ابن المنذر وعن أحمد رواية أرخى ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض إلا بإذن زوجها وبه قال مالك وحكي عنه في امرأة حلفت أن تعتق جارية لها ليس لها غيرها فحنثت ولها زوج فرد ذلك عليها زوجها قال له أن يرد عليها وليس لها عتق لما روي [ أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه و سلم بحلي لها فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعبا ؟ فقال نعم فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كعب فقال : هل أذنت لها تتصدق بحليها ؟ قال نعم فقبله رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه ابن ماجة وروي أيضا عن عمرو بن شعبي عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبة خطبها لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها إذ هو مالك عصمتها ] رواه أبو داود ولفظه عن عبد الله بن عمرو [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ] ولأن حق الزوج معلق بمالها ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها ] والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسط فيه وينتفع به فإذا أعسر بالنفقة أنظرته فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض
ولنا قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وهو ظاهر في فك الحجر عنهم واطلاقهم في التصرف وقد ثبت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن ] وإنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولم يستفصل وأتته زينب امرأة عبد الله وامرأة اسمها زينب فسألته عن الصدقة هل يخرجهن أن يتصدقن على أزواجهن وأيتام لهن ؟ فقال : نعم ولم يذكر لهن هذا الشرط ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن الغلام ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميع كأختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يدرك عبد الله بن عمرو فهل مرسل وعلى أنه محمول على أنه لا يجوز عطيتا لماله بغير إذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث فالتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل وقياسهم على المريض غير صحيح لوجوه : أحدها : أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من أهل الميراث فهي أحد وصفي العلة فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوارث بدون المرض الثاني : أن تبرع المريض موقوف فإن برئ من مرضه صح تبرعه وههنا أبطلوه على كل حال والفرع لا يزيد على أصله الثالث : أن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال زوجها وتتبسط فيه عادة ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه وعلى أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعا

حكم تصدق المرأة من مال زوجها
فصل : وهل يجوز للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشيء اليسير بغير إذنه ؟ على روايتين إحداهما : الجواز لأن عائشة قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ] ولم يذكر إذنا و [ عن أسماء أنها جاءت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل على الزبير فهل علي جناح في أن أرضخ مما يدخل علي فقال : ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعى عليك ] متفق عليهما وروي [ أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله أنا كل على أزواجنا وآبائنا فما يحل لنا من أموالهم ؟ قال : الرطب تأكلينه وتهدينه ] ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس فجرى مجرى صريح الإذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الأكلة قام مقام صريح الإذن في أكله والرواية الثانية : لا يجوز لما [ روى أبو إمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها قيل يا رسول الله ولا الطعام قال : ذاك أفضل أموالنا ] رواه سعيد في سننه و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ] وقال : [ إن الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ] ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز كغير الزوجة والأول أصح لأن الأحاديث فيها خاصة صحيحة والخاص يقدم على العام ويبينه ويعرف أن المراد بالعام غير هذه الصورة والحديث الخاص لهذه الرواية ضعيف ولا يصح قياس المرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه وتتصدق منه لحضورها وغيبته والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي فصار كأنها قال لها فعلي هذا فإن منعها ذلك وقال لا تتصدقي بشيء ولا تتبرعي من مالي بقليل ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفي للإذن العرفي ولو كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته كجاريته أو أخته أو غلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه جرى مجرى الزوجة فيها ذكرنا لوجود المعنى فيه ولو كانت امرأته ممنوعه من التصرف في بيت زوجها كالتي يطعمها بالفرض ولا يمكنها من طعامه ولا من التصرف في شيء من ماله لم يجز لها الصدقة بشيء من ماله لعدم المعنى فيها والله أعلم

قال : والرشد الصلاح في المال
مسألة : قال : والرشد الصلاح في المال
هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك و أبو حنيفة وقال الحسن و الشافعي و ابن المنذر الرشد صلاحه في دينه وماله لأن الفاسق غير رشيد ولأن افساده لدينه يمنع الثقة به في حفظ ماله كما يمنع قبوله قوله وثبوت الولاية على غيره وإن لم يعرف منه كذب ولا تبذير
ولنا قول الله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } قال ابن عباس يعني صلاحا في أموالهم وقال مجاهد : إذا كان عاقلا ولأن هذا إثبات في نكرة ومن كان مصلحا لماله فقد وجد منه رشد ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا يعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا ولأن هذا مصلح لماله فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لفظ ماله عليه فالمؤثر فليه ما أثر في تضييع المال أو حفظه وقولهم أن الفاسق غير رشيد قلنا : هو غير رشيد في دينه أما في ماله وحفظه فهو رشيد ثم هو منتقض بالكافر فإنه غير رشيد ولم يحجر عليه من أجله ولو كانت العدالة شرطا في الرشد لزال بزوالها كحفظ المال ولا يلزم من منع قبول القول منع دفع ماله إليه فإن من يعرف بكثرة الغلط والغفلة والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجامع الناس وأشباههم لا تقبل شهادتهم وتدفع إليهم أموالهم إذا ثبت هذا فإن الفاسق إن كان ينفق ماله في العاصي كشراء الخمر وآلات اللهو أو يتوصل به إلى الفساد فهو غير رشيد لتبذيره لماله وتضييعه إياه في غير فائدة وإن كان فسقه لغير ذلك كالكذب ومنع الزكاة واضاعة الصلاة مع حفظه لماله دفع إليه لأن المقصود بالحجر حفظ المال وماله محفوظ بدون الحجر فلا حاجة إليه ولذلك لو طرأ الفسق بعد دفع ماله إليه لم ينزع منه
فصل : وإنما يعرف رشده باختياره لقول الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } يعني اختبروهم كقوله تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أي يختبركم واختياره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء فإذا تكررت منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يده فهو رشيد وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه فإن كان قيما بذلك يصرفها في مواقعها ويستوفي على وكيله ويستقصى عليه فهو رشيد والمرأة يفوض إلى ربه البيت من استئجار الغزالات وتوكيلها في شراء وأشباه ذلك فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيده ووقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله تعالى قال : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فظاهر الآية إن ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين أحدهما : أنه سماهم يتامى : وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ والثاني : أنه مد اختيارهم إلى البلوغ بلفظه حتى فدل على أن الاختيار قبله ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البائع الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن يختبره ويعلم رشده واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى لكن لا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة ومتى إذن له وليه فتصرف صح تصرفه على ما ذكرنا فيما مضى وقد أومأ أحمد في موضع إلى اختباره بعد البلوغ لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيهم ظنه العقل وقد اختلف أصحاب الشافعي في وقت الاختبار على نحو مما ذكرنا فيما مضى من الروايتين

قال : فإن عاود السفه حجر عليه
مسألة : قال : فإن عاود السفه حجر عليه
وجملته أن المحجور لعيه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه أعيد عليه الحجر وبهذا قال القاسم بن محمد و مالك و الشافعي و الأوزاعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل وتصرفه نافذ وروي ذلك عن ابن سيرين و النخعي لأنه حر مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا إجماع الصحابة وروى عروة بن الزبير أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال علي رضي الله عنه لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال قد ابتعت بيعا وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر عليه فقال الزبير أنا شريكه في البيع فقال عثمان كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ؟ قال أحمد لم أسمع هذا إلا في أبي يوسف القاضي وهذه قصة يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعا ولأن هذا سفيه فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود ولأن السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث أوجب انتزاع المال كالمجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه

لا يصح الحجر إلا من الحاكم
فصل : ولا يحجر عليه إلا الحاكم وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير محجورا عليه بمجرد تبذيره لأن ذلك سبب الحجر فأشبه الجنون : ولنا أن التبذير يختلف ويختلف فيه ويحتاج إلى الاجتهاد فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم الحاكم كابتداء مدة العنة ولأنه حجر مختلف فيه فلم يثبت إلا بحكم الحاكم كالحجر على المفلس وارق الجنون فإنه لا يفتقر إلى الاجتهاد ولا خلاف فيه ومتى حجر عليه ثم عاد فرشد فك الحجر عنه ولا يزول إلا بحكم الحاكم وبه قال الشافعي وقال أبو الخطاب : يزول السفه لأنه سبب الحجر فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون
ولنا أنه حجر ثبت بحكم الحاكم فلا يزول إلا به كحجر المفلس ولأن الرشد يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفته وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه وفارق الصبي والمجنون فن لحجر عليهما بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه ولأننا لو وقفنا تصرف الناس على الحاكم كان أكثر الناس محجورا عليه قال أحمد والشيخ الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني إذا كبر واختل عقله حجر عليه بمنزلة المجنون لأنه يعجز بذلك عن التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه فأشبه الصبي والسفيه

فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله
مسألة : قال : فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله
وجملته أن الحاكم إذا حجر على السفيه استحب أن يشهد عليه ليظهر أمره فتجتنب معاملته وإن رأى أن يأمر مناديا ينادي بذلك ليعرفه الناس فعل ولا يشترط الإشهاد لعيه لأنه قد ينتشر أمره بشهرته وحديث الناس به فإذا حجر عليه فباع واشترى كان ذلك فاسدا واسترجع الحاكم ما باع من ماله ورد الثمن إن كان باقيا وإن أتلفه السفيه أو تلف في يده فهو من ضمان المشتري ولا شيء على السفيه وكذلك ما أخذ من أموال الناس برضا أصحابها كالذي يأخذه بقرض أو شراء أو غير ذلك رده الحاكم إن كان باقيا وإن كان تالفا فهو من ضمان صاحبه علم بالحجر عليه أو لم يعلم لأنه إن علم فقد فرط بدفع ماله إلى من حجر عليه وإن لم يعلم فهو مفرط إذ كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلكه عليه فأما إن حصل في يده باختيار صاحبه م غير تسليط كالوديعة والعارية فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه فأشبه ما لو كان القبض بغير اختياره ويحتمل أنه لا يضمن لأنه عرضها لإتلافه وسلطه عليها فأشبه المبيع وأما ما أخذه بغير اختيار صاحبه أو أتلفه كالغصب والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط في المالك ولأن الصبي والمجنون لو فعلا ذلك لزمهما الضمان فالسفيه أولى ومذهب الشافعي في هذا كله كذلك

الحكم في الصبي والمجنون
فصل : والحكم في الصبي والمجنون كالحكم في السفيه في وجوب الضمان عليهما فيما أتلفاه من مال غيرهما بغير إذنه أو غصباه فتلف في أيديهما وانتفاء الضمان عنهما فيما حصل في أيديهما باختيار صاحبه وتسليطه كالثمن والمبيع والقرض والاستدانة وأما الوديعة والعارية فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما وإن أتلفاه ففي ضمانه وجهان
فصل : ولا ينظر في مال الصبي والمجنون ما داما في الحجر إلا الأب أو وصيه بعده أوالحاكم عند عدمهما وأما السفيه فإن كان محجورا عليه صغيرا واستديم الحجر عليه لسفهه فالولي فيه من ذكرناه وإن جدد الحجر عليه بعد بلوغه لم ينظر في ماله إلا الحاكم لأن الحجر يفتقر إلى حكم حاكم وزواله يفتقر إلى ذلك فكذلك النظر في ماله

قال : وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا
مسألة قال : وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا أو طلق زوجته لزمه ذلك
وجملته أن المحجور عليه لفلس أو سفه إذا أقر بما ويجب حدا أو قصاصا كالزنا والسرقة والشرب والقذف والقتل العمد أو قطع اليد وما أشبههما فإن ذلك مقبول ويلزمه حكم ذلك في الحال لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل وإن الحدود تقام عليه وهذا قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه غير متهم في حق نفسه والحجر إنما تعلق بماله فقبل إقراره على نفسه بما لا يتعلق بمال وإن طلق زوجته نفذ طلاقه في قول أكثر أهل العلم وقال ابن أبي ليلى لا يقع طلاقه لأن البضع يجري مجرى المال بدليل أنه يملكه بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال ولنا أن الطلاق ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالإقرار بالحد والقصاص ودليل أنه لا يجرى مجرى المال أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولا يملك بالميراث ولأن مكلف طلق امرأته مختارا فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب

أحكام تصرفات المحجور عليه كالعتق والنكاح والتدبير والطلاق والإقرار بالنسب
فصل : إذا أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن قصاص ثابت فصح كما لو ثبت بالبينة واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار بالقصاص والعفو عنه على مال ولأنه وجوب مال مستنده إقراره فلم يثبت كالإقرار به ابتداء فعلى هذا القول يسقط وجوب القصاص ولا يجب المال في الحال
فصل : وإن خالع صح خلعه لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شيء فالخلع الذي يحصل به المال أولى إلا أن العوض لا يدفع إليه وإن دفع إليه لم يصح قبضه وإن أتلفه لم يضمنه ولم تبرأ المرأة بدفعه إليه وهو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته على إتلافه
فصل : وإن أعتق لم يصح عتقه وهذا قول القاسم بن محمد و الشافعي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنه يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح كالعتق الراهن والمفلس
ولنا أنه تصرف في ماله يصح كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأبه هبته ووقفه ولأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه فلم يصح عتقه كالصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما
فصل : وإن تزوج صح النكاح بإذن وليه وبغير إذنه وبهذا قال أبو حنيفة وقال أبو الخطاب لا يصح بغير إذن وليه وهو قول الشافعي و أبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير إذن وليه كالشراء ولنا أنه عقد غير مالي كخلعه وطلاقه وإن لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن فلا يمنع من العقد كما لو لزم ذلك من الطلاق
فصل : ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحته لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد غناه عنه ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون فمن السفيه أولى وله المطالبة بالقصاص لأنه موضع للتشفي والانتقام وهو من أهله وله العفو على مال لأنه تحصيل للمال لا تضييع له وإن عفا على غير مال نظرت فإن قلنا الواجب القصاص عينا صح عفوه لأنه لم يتضمن تضييع المال وإن قلنا أحد الشيئين لم يصح عفوه عن المال ووجب المال كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين وإن أحرم بالحج صح إحرامه لأنه مكلف أحرم بالحج أشبه غيره ولأن ذلك عبادة فصحت منه كسائر عباداته ثم إن كان بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن نفسه وإن كان تطوعا فكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر دفعت إليه لأنه لا ضرر في إحرامه وإن كانت نفقة السفر أكثر فقال أنا أكتسب تمام نفقتي دفعت إليه أيضا لأنه لم يضر بماله وإن لم يكن له كسب فلوليه تحليله لما فيه من تضييع ماله ويتحلل بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف في ماله ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد إذا أحرم بغير إذن سيده وإن حنث في يمينه أو عاد في ظهاره أو لزمته كفارة بالقتل أو الوطء في نهار رمضان كفر بالصيام لذلك وإن أعتق أو أطعم عن ذلك لم يجزه وبهذا قال الشافعي لأنه ممنوع من ماله أشبه المفلس ويتخرج أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحته منه وإن نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في بدنه وإن نذر صدقه المال لم يصح منه وكفر بالصيام وإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه المواضع لزمه العتق ان قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا أنه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم فيمن أقر قبل فك الحجر عنه ثم فك عنه فإنه يلزمه أداؤه وإن فك بعد تكفيره لم يلزمه شيء كما لو كفر عن يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه
فصل : وإن أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس بإقرار بمال ولا تصرف فيه فقبل كإقراره بالحد والطلاق وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمنا لما صح منه فأشبه نفقة الزوجة

قال وإن أقر بدين لم يلزم في حال حجره
مسألة : قال : وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره
وجملته أن السفيه إذا أقر بمال كالدين أو بما يوجبه كجناية الخطأ وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه وسرقته لم يقبل إقراره به لأنه محجور عليه لحظة فلم يصح إقراره بالمال كالصبي والمجنون ولا نا لو قلنا إقراره في ماله لزال معنى الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقر به فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه كإقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال ومقتضى قول الخرقي أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عن وهو ظاهر من قول أصحابنا وقول أبي ثور لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عند كالعبد يقر بدين الراهن على والرهن والمفلس على المال ويحتلم أن لا يصح إقراره ولا يؤخذ به في الحكم بحال وهذه مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده فلم يلزمه حكم إقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولأن المنع من نفوذ إقراره من نفوذ إقراره في الحال إنما ثبت لحفظ ماله وعليه ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر لم يفد إلا تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وفارق المحجور عليه لحق غيره فإن المانع تعلق حق الغير بماله فيزول المانع بزوال الحق عن ماله فيثبت مقتضى إقراره وفي مسألتنا انتفى الحكم لخلل في الإقرار فلم يثبت كونه سببا وبزوال الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلال السبب كما لو يثبت قبل فك الحجر ولأن الحجر لحق الغير لم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح إقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم بأن يلزمهم بعد زوال حق غيره والحجر ههنا لحظ نفسه من أجل ضعف عقله وسوء تصرفه ولا يندفع الضرر إلا بإبطال إقراره بالكلية كالصبي والمجنون وأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة ما أقر به كدين لزمه من جناية أو دين لزمه قبل الحجر عليه فعليه اداؤه لأنه علم أن عليه حقا فلزمه اداؤه كما لو لم يقر بهن وإن علم فساد إقراره مثل أن علم أنه أقر بدلين ولا دين عليه أو جناية لم توجد منه أو أقر بما لا يلزمه مثل أن أتلف مال من دفعه إليه بقرض أو بيع لم يلزمه اداؤه لأنه يعلم أنه لا دين عليه فلم يلزمه شيء كما لو لم يقر به

وإذا أذن لي السفيه له في البيع والشراء فهل يصح عنه
فصل : إذا أذن ولي السفيه له في البيع والشراء فهل يصح منه ؟ على وجهين أحدهما : يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن كالنكاح ولأنه عاقل محجور عليه فصح تصرفه بالإذن فيه كالصبي يحقق هذا أن الحجر على الصبي أعلى من الحجر عليه ثم يصح تصرفه بالإذن فههنا أولى ولأنا لو منعنا تصرفه بالإذن لم يكن لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره والثاني : لا يصح لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه فلم يصح كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة ول الشافعي وجهان كهذين والله أعلم

كتاب الصلح
الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعا صلح بين المسلمين وأهل الحرب وصلح بين أهل العدل وأهل البغي وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما قال الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } وقال الله تعالى : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } [ وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك وأجمعت الأئمة على جواز الصلح في هذه الأنواع التي ذكرناها ولكل واحد منها باب يفرد له ويذكر فيه أحكامه وهذا الباب للصلح بين المتخاصمين في الأموال وهو نوعان : صلح على إقرار وصلح على إنكار ولم يسم الخرقي الصلح إلا في الإنكار خاصة

مسألة : الصلح الذي يجوز أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعي عليه
مسألة : قال : والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعي عليه فيصطلحان على بعضه فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل
وجملة ذلك أن الصلح على الإنكار صحيح وبه قال مالك و أبو حنيفة و قال الشافعي : لا يصح لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه فبطل كالصلح على حد القذف ولنا عموم قوله عليه السلام : [ الصلح بين المسلمين جائز ] فيدخل هذا في عمومه قال : قالوا فقد قال : [ إلا صلحا أحل حراما ] وهذا داخل فيه لأنه لم يكن له أن مال المدعي عليه فحل بالصلح قلنا لا نسلم دخوله فيه ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين أحدهما : أن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله وكذلك الصلح بمعنى الهبة فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه والإسقاط يحل له ترك إداء ما كان واجبا عليه الثاني : أنه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحا فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه كما لو صالحه على استرقاق حر أو إحلال بضع محرم أو صالحه بخمر أو خنزير وليس ما نحن فيه كذلك وعلى أنهم لا يقولون بهذا فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه فلأن يحل برضاه وبذله أولى وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم فلأن مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أولى ولأن المدعي ههنا يأخذ عوض حقه الثابت له والمدعي عليه يدفعه لدفع الشر عنه وقطع الخصومة ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار يحققه أنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى وقولهم أنه معاوضة قلنا في حقهما أم في حق أحدهما ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده فهو معاوضة في حقه والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه ويخلصه من شر المدعي فهو أبرأ في حقه وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المتعاقدين دون الآخر كما لو اشترى عبدا شهد بحريته فإنه يصح ويكون معاوضة في حق البائع واستنقاذا له من الرق في حق المشتري كذا ههنا إذا ثبت هذا فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدعي معتقدا أن ما ادعاه حق والمدعي عليه يعتقد أنه لا حق عليه فيدفع إلى المدعي شيئا افتداء ليمينه وقطعا للخصومة وصيانة لنفسه عن التبذل وحضور مجلس الحاكم فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك ويرون دف ضررها عنهم من أعظم مصالحهم والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم والمدعي يأخذ ذلك عوضا عن حقه الثابت له فلا يمنعه الشرع من ذلك أيضا سواء كان المأخوذ من جنس حقه أو من غير جنسه بقدر حقه أو دونه فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوف له وإن أخذ دون فقد استوفى بعضه وترك بعضه وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر مما ادعاه لأن الزائد لا مقابل له فيكون ظالما يأخذه وأن أخذ من غير جنسه جاز ويكون بيعا في حق المدعي لاعتقاده أخذه عوضا فيلزمه حكم إقراره فإن كان المأخوذ شقصا في دار أو عقار وجبت فيه الشفعة وإن وجد به عيبا فله رده والرجوع في دعواه ويكون في حق المنكر بمنزلة الإبراء لأنه دفع المال افتداء ليمينه ودفعا للضرر عنه لا عوضا عن حق يعتقده فيلزمه أيضا حكم إقراره فإن وجد بالمصالح عنه عيبا لم يرجع به على المدعي لاعتقاده أنه ما أخذ عوضا وإن كان شقصا لم تثبت فيه الشفعة لأنه يعتقده على ملكه لم يزل وما ملكه بالصلح ولو دفع المدعي عليه ما ادعاه أو بعضه لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة لأن المدعي يعتقد أنه استوفىبعض حقه وأخذ عين ما له مسترجعا لها ممن هي عنده فلم يكن بيعا كاسترجاع العين المغصوبة فأما إن كان أحدهما كاذبا مثل أن يدعي المدعي شيئا يعلم أنه ليس له وينكر المنكر حقا يعلم أنه عليه فالصلح باطل في الباطن لأن المدعي إذا كان كاذبا فما يأخذه أكل مال بالباطل أخذه بشره وظلمه ودعواه الباطلة لا عوضا عن حق له فيكون حراما عليه كمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله وإن كان صادقا والمدعي عليه يعلم صدقه وثبوت حقه فجحده لينتقض حقه أو يرضيه عنه بشيء فهو هضم للحق وأكل مال بالباطل فيكون ذلك حراما والصلح باطل ولا يحل له مال المدعي لذلك وقد ذكره الخرقي في قوله : وإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل يعني في الحقيقة وأما الظاهر لنا فهو الصحة لإننا لا نعلم باطن الحال وإنما ينبني الأمر على الظواهر والظاهر من المسلم السلامة

فصلان : لو ادعى على الرجل وديعة أو قرضا فأنكره صح وإن صالح عن المنكر اجنبي صح
فصل : ولو ادعى على رجل وديعة أو قرضا أو تفريطا في وديعة أو مضاربة فأنكره واصطلحا صح لما ذكرناه
فصل : وإن صالح عن المنكر أجنبي صح سواء اعترف للمدعي بصحة دعواه أو لم يعترف وسواء كان بإذنه أو غير إذنه وقال أصحاب الشافعي : إنما يصح إذا اعترف للمدعي بصدقه وهذا مبني على صلح المنكر وقد ذكرناه ثم لا يخلو الصلح أما أن يكون عن دين أو عين فإن كان عن دين صح سواء كان بإذنه المنكر أو بغير إذنه لأن قضاء الدين عن غيره جائز بإذنه وبغير إذنه فإن عليا وأبا قتادة رضي الله عنهما قضيا عن الميت فأجازه النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان الصلح عن عين بإذن المنكر فهو كالصلح منه لأن الوكيل يقوم مقام الموكل وإن كان بغير إذنه فهو افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدعوى وذلك جائز وفي الموضعين إذا صالح عنه بغير إذنه لم يرجع عليه بشيء لأنه أدى عنه مالا يلزمه أداؤه وخرجه القاضي و أبو الخطاب على الروايتين فيما إذا قضى دينه الثابت بغير إذنه وليس هذا يجيد لأن هذا لم يثبت وجوبه على المنكر ولا يلزمه أداؤه إلى المدعي فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره ؟ ولأنه أدى عنه ما لا يجب عليه فكان متبرعا كما لو تصدق عنه ومن قال برجوعه فإنه يجعله كالمدعي في الدعوى على المنكر لا غير أما أن يجب له الرجوع بما أداه حتما فلا وجه له أصلا لأن أكثر ما يجب لمن قضى دين غيره أن يقوم مقام صاحب الدين وصاحب الدين ههنا لم يجب له حق ولا لزم الإداء إليه ولا يثبت له اكثر من جواز الدعوى فكذلك هذا ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى بشيء لا يعلم ثبوته وأما ما إذا صالح عنه بإذنه فهو وكيله والتوكيل في ذلك جائز ثم أدى عنه فإذنه رجع إليه وهذا قول الشافعي وإن أدى عنه بغير إذنه متبرعا لم يرجع بشيء وإن قضاه محتسبا بالرجوع خرج على الروايتين فيمن قضى دين غيره بغير إذنه قد وجب عليه أداؤه بعقد الصلح بخلاف ما إذا صالح وقضى بغير إذنه فإن قضى ما لا يجب على المنكر قضاؤه

فصل : إن صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له
فصل : وإن صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له فلا يخلو من أن يعترف للمدعي بصحة دعواه أو لا يعترف له فإن لم يعترف له كان الصلح باطلا لأنه يشتري منه ما لم يثبت له ولم تتوجه إليه خصومة يقتدي منها فأشبه ما لو اشترى منه ملك غيره وإن اعترف له بصحة دعواه وكان المدعي دينا لم يصح لأنه اشترى ما لا يقدر البائع على تسلمه ولأنه بيع للدين من غير من هو في ذمته ومن أصحابنا من قال : يصح وليس بجيد لأن بيع الدين المقر به من غير من هو في ذمته لا يصح فبيع دين في ذمة منكر معجوز عن قبضه أولى إن كان المدعي عينا فقال الأجنبي للمدعي : أنا أعلم أنك صادق فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها من المنكر فقال أصحابنا : يصح الصلح وهو مذهب الشافعي لأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على تسليمه ثم إن قدر على انتزاعه استقر الصلح وإن عجز كان له الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه فكان له الرجوع إلى بدله ويحتمل أنه تبين أنه لا يقدر على تسليمه تبين أن الصلح كان فاسدا لأن الشرط الذي هو القدرة على قبضه معدوم حال العقد وكان فاسدا كما لو اشترى عبده فتبين أنه آبق أو ميت ولو اعترف له بصحة دعواه ولا يمكنه استيفاؤه لم يصح الصلح لأنه اشترى ما لا يمكنه قبضه منه فأشبه شراء العبد الآبق والجمل الشارد فإن اشتراه وهو يظن أنه عاجز عن قبضه فتبين أن قبضه ممكن صح البيع لأن البيع تناول ما يمكن قبضه فصح كما لو علما ذلك ويحتمل أن لا يصح لأنه ظن عدم الشرط فأشبه ما لو باع عبدا يظن أنه حر أو أنه عبد غيره فتبين أنه عبده ويحتمل أن يفرق بين من يعلم أن البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع وبين من لا يعلم ذلك لأن من يعلم ذلك يعتقد فساد البيع والشراء فكان بيعه فاسدا لكونه متلاعبا بقوله معتقدا فساده ومن لا يعلم يعتقده صحيحا وقد تبين اجتماع شروطه فصح كما لو علمه مقدورا على تسليمه

فصل : إن قال الأجنبي للمدعي أنا وكيل المدعي عليه في مصالحتك
فصل : فإن قال الأجنبي للمدعي : أنا وكيل المدعي عليه في مصالحتك عن هذه العين وهو مقر لك بها وإنما يجحدها في الطاهر فظاهر كلام الخرقي أن الصلح لا يصح لأنه يجحدها في الظاهر لينتقص المدعي بعض حقه أو يشتريه بأقل من ثمنه فهو هاضم للحق يتوصل إلى أخذ المصالح عنه بالظلم والعدوان فهو بمنزلة ما لو شافهه بذلك فقال : أنا أعلم صحة دعواك وإن هذا لك ولكن لا أسلمه إليك ولا أقر لك به عند الحاكم حتى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه وقال القاضي : يصح وهذا مذهب الشافعي قالوا : ثم ينظر إلى المدعي عليه فإن صدقه على ذلك ملك العين ورجع على الأجنبي وعليه بما أدى عنه إن كان أذن له في الدفع وإن أنكر الإذن في الدفع فالقول قوله مع يمينه ويكون حكمه حكم من قضى دينه بغير إذنه وإن أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه وليس للأجنبي الرجوع عليه ولا يحكم له بملكها فأما حكم ملكها في الباطن ثبت قبل إنكاره وإنما هو ظالم بالإنكار للأجنبي وإن كان لم يوكله لم يملكها لأنه اشترى له عينا بغير إذنه ويحتمل أن يقف على إجازته كما قلنا فيمن اشترى لغيره شيئا بغير إذنه بثمن في ذمته فإن أجازه لزم في حقه وإن لم يجزه لزم من اشتراه وإن قال الأجنبي للمدعي : قد عرف المدعي عليه صحة دعواك وهو يسألك أن تصالحه عنه وقد وكلني في المصالحة عنه فصالحه صح وكان الحكم كما ذكرنا لأنه ههنا لم يمتنع من أدائه بل اعترف به وصالحه عليه مع بذله له فأشبه ما لو لم يجحده

مسألة : من اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحا
مسألة : قال : ومن اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحا لأنه هضم للحق
وجملته إن من اعترف بحق وامتنع من أدائه حتى صولح على بعضه فالصلح باطل لأنه صالح عن بعض ما له ببعض وهذا محال وسواء كان بلفظ الصلح أو بلفظ الأبراء أو بلفظ الهبة المقرون بشرط إلا أنه لم يعط بعض حقه أبرأتك عن خمسمائة أو وهبت لك خمسمائة بشرط أن تعطيني ما بقي ولو لم يشترط إلا أنه لم يعط بعض حقه إلا بإسقاطه بعضه فهو حرام أيضا لأنه هضمه حقه قال ابن أبي إسحاق : الصلح على الإقرار هضم للحق فمتى ألزم المقر له ترك بعض حقه فتركه عن غير طيب نفسه لم يطب الأخذ وإن تطوع المقر له بإسقاط بعض حقه بطيب من نفسه جاز غير ان ذلك ليس بصلح ولا من باب الصلح بسبيل ولم يسم الخرقي الصلح إلا في الإنكار على الوجه الذي قدمنا ذكره فأما في الإعتراف فإذا اعترف بشيء وقضاه من جنسه فهو وفاء وإن قضاه من غير جنسه فهي معاوضة وإن أبرأه من بعضه اختيارا منه واستوفى الباقي فهو إبراء وإن وهب له بعض العين وأخذ باقيها بطيب نفس فهي هبة فلا يسمي ذلك صلحا ونحو ذلك قال ابن أبي موسى وسماه القاضي وأصحابه صلحا وهو قول الشافعي وغيره والخلاف في التسمية أما المعنى فمتفق عليه وهو فعل ما عدا وفاء الحق وإسقاطه على وجه يصح وذلك ثلاثة أقسام معاوضة وإبراء وهبة فأما المعاوضة : فهو أن يعترف له بعين في يده أو دين في ذمته ثم يتفقان على تعويضه عن ذلك بما يجوز تعويضه به وهذا ثلاثة أضرب أحدها : أن يعترف له بأحد النقدين فيصالحه الآخر نحو أن يعترف له بمائة درهم فيصالحه منها بعشرة دنانير أو يعترف له بعشرة دنانير فيصالحه على مائة درهم فهذا صرف يشترط له شروط الصرف من التقابض في المجلس ونحوه الثاني : أن يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان أو بأثمان فيصالحه على عروض فهذا بيع يثبت فيه أحكام البيع وإن اعترف له بدين فصالحه على موصوف في الذمة لم يجز التفرق قبل القبض لأنه بيع دين بدين الثالث : أن يصالحه على سكني دار أو خدمة عبد ونحوه أو على أن يعمل له عملا معلوما فيكون ذلك إجارة لها حكم سائر الإجارات وإذا أتلف الدار أو العبد قبل استيفاء شيء من المنفعة انفسخت الإجارة ورجع بما صالح عنه وإن تلفت بعد استيفاء شيء من المنفعة انفسخت فيما بقي من المدة ورجع بقسط ما بقي ولو صالحه على أن يزوجه جاريته وهو ممن يجوز له نكاح الإماء صح وكان المصالح عنه صداقها فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يسقط الصداق رجع الزوج بما صالح عنه وإن طلقها قبل الدخول رجع بنصفها وإن كان المعترف إمرأة فصالحت المدعي على أن تزوجه نفسها جاز ولو كان المعترف به عيبا في مبيعها فصالحته على نكاحها صح فإن زال العيب رجعت بأرشه لأن ذلك صداقها فيها فرجعت به لا بمهر مثلها وإن لم يزل العيب لكن انفسخ نكاحها بما يسقط صداقها رجع عليها بأرشه
القسم الثاني : الإبراء وهو أن يعترف له بدين في ذمته فيقول : قد أبرأتك من نصفه أو جزء معين منه فاعطني ما بقي فيصح إذا كانت البراءة معلقة من غير شرط قال أحمد : إذا كان للرجل على الرجل الدين ليس عنده وفاء فوضع عنه بعض حقه وأخذ منه الباقي كان ذلك جائزا لهما ولو فعل ذلك قاض لم يكن عليه في ذلك أثم لأن النبي صلى الله عليه و سلم كلم غرماء جابر ليضعوا عنه فوضعوا عنه الشطر وفي الذي أصيب في حديقته فمر به النبي صلى الله عليه و سلم وهو ملزوم فأشار إلى غرمائه بالنصف فأخذوه منه فإن فعل ذلك قاض اليوم جاز إذا كان على وجه الصلح والنظر لهما وروى يونس عن الزهري [ عن عبد الله بن كعب عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إليهما ثم نادى يا كعب قال : لبيك يا رسول الله فأشار إليه أن ضع الشطر من دينك قال : قد فعلت يا رسول الله قال رسول صلى الله عليه و سلم : قم فأعطه فإن قال : على أن توفيني ما بقي بطل لأنه ما أبرأه عن بعض الحق إلا ليوفيه بقيته فكأنه عاوض بعض حقه ببعض ]
القسم الثالث : الهبة وهو أن يكون له في يده عين فيقول قد وهبتك نصفها فاعطني بقيتها فيصح ويعتبر له شروط الهبة وإن أخرجه مخرج الشرط لم يصح وهذا مذهب الشافعي لأنه إذا شرط في الهبة الوفاء جعل الهبة عوضا عن الوفاء به فكأنه عاوض بعض حقه ببعض وإن أبرأه من بعض الدين أو وهب له بعض العين بلفظ الصلح مثل أن يقول صالحني بنصف دينك علي أو بنصف دارك هذه فيقول صالحتك بذلك لم يصح ذكره القاضي و ابن عقيل وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أكثرهم : يجوز الصلح لأنه إذا لم يجز بلفظه خرج عن أن يكون صلحا ولا يبقى له تعلق به فلا يسمى صلحا أما إذا كان بلفظ الصلح سمي صلحا لوجود اللفظ وإن تخلف المعنى كالهبة بشرط الثواب وإنما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض أما مع عدمه فلا وإنما معنى الصلح الإتفاق والرضى وقد يحصل هذا من غير عوض كالتمليك إذا كان بعوض سمي بيعا وإن خلا عن العوض سمي هبة ولنا أن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة لأنه إذا قال : صالحني بهبة كذا أو عل نصف هذه العين ونحوه هذا فقد أضاف إليه بالمقابلة فصار كقوله : يعني بألف وإن أضاف إليه على جرى مجرى الشرط كقوله تعالى : { فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } وكلاهما لا يجوز بدليل ما لو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ المعاوضة وقولهم أنه يسمى صلحا ممنوع وإن سمي صلحا فمجاز لتضمنه قطع النزاع وإزالة الخصومة وقولهم أن الصلح لا يقتضى المعاوضة قلنا لا نسلم وإن سلمنا لكن المعاوضة حصلت من اقتران حرف الباء أو على نحوهما به فإن لفظه الصلح تحتاج إلى حرف تعدي به وذلك يقتضي المعاوضة على ما بيناه

فصل : إن ادعى على رجل بيتا فصالحه على بعضه لم يصح
فصل : وإن ادعى على رجل بيتا فصالحه على بعضه أو على بناء غرفة فوقه أو على أن يسكنه سنة لم يصح لأنه يصالحه في ملكه على ملكه أو منفعته وإن أسكنه كان تبرعاص منه متى شاء أخرجه منها وإن أعطاه بعض داره بناء على هذا فمتى شاء انتزعه منه لأنه أعطاه إياه عوضا عما لا يصلح عوضا عنه وإن فعل ذلك على سبيل المصالحة معتقدا أن ذلك وجب عليه بالصلح رجع عليه بأجر ما سكن وأجر ما كان في يده من الدار لأنه أخذه بعقد فاسد فأشبه المبيع المأخوذ بعقد فاسد وسكنى الدار بإجارة فاسدة وإن بقي فوق البيت غرفة أجبر على نقضها وإذا آجر السطح مدة مقامه في يديه وله أخذ آلته ولو اتفقنا على أن يصالحه صاحب البيت عن بنائه بعوض جاز وإن بنى الغرفة بتراب من أرض صاحب البيت وآلاته فليس له أخذ بنائه لأنه ملك لصاحب البيت وإن أراد نقض البناء لم يكن له ذلك إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ويحتمل أن يملك نقضه كقولنا في الغاصب

فصل : إذا صالحه بخدمة عبده سنة صح
فصل : وإذا صالحه بخدمة عبده سنة صح وكانت إجارة قد ذكرنا ذلك فإن باع العبد في السنة صح البيع ويكون للمشتري مسلوب المنفعة بقية السنة وللمستأجر استيفاء منفعته إلى انقضاء مدته : كما لو زوج أمته ثم باعها وإن لم يعلم المشتري بذلك فله الفسخ لأنه عيب وأن أعتق العبد في أثناء المدة نفذ عتقه لأنه مملوكه يصح بيعه فصح عتقه لغيره وللمصالح أن يستوفي نفعه في المدة لأنه أعتقه بعد أن ملك منفعته لغيره فأشبه ما لو أعتق الأمة المزوجة لحر ولا يرجع العبد على سيده بشيء لأنه ما زال ملكه بالعتق إلا عن الرقبة والمنافع حينئذ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلم يرجع بشيء وإن أعتقه مسلوب المنفعة فلم يرجع بشيء كما لو أعتق زمنا أو مقطوع اليدين أو أعتق أمة مزوجة وذكر القاضي و ابن عقيل وجها آخر أنه يرجع على سيده بأجر مثله وهو قول الشافعي لأن العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة والمنفعة جميعا فلما لم تحصل المنفعة للمبد ههنا فكأنه حال بينه وبين منفعته
ولنا أن إعتاقه لم يصادف للمعتق سوى ملك الرقبة فلم يؤثر إلا فيه كما لو وصى لرجل برقبة عبد والآخر بنفعه فأعتق صاحب الرقبة وكما لو أعتق أمة مزوجة وقولهم أنه اقتضى زوال الملك عن المنفعة قلنا إنما يقتضي ذلك إذا كانت مملوكة له أما إذا كانت مملوكة لغيره فلا يقتضي إعتاقه إزالة ما ليس بموجود وإن تبين أن العبد مستحق تبين بطلان الصلح لفساد العوض ورجع المدعي فيما أقر له به وإن وجد العبد معيبا عيبا تنقص به المنفعة فله رده وفسخ الصلح وإن صالح على العبد بعينه صح الصلح ويكون بيعا والحكم فيما إذا خرج مستحقا أو ظهر به عيب كما ذكرنا

فصل : إذا ادعى زرعا في يد رجل فأقر له به ثم صالحه منه على دراهم جاز
فصل : إذا ادعى زرعا في يد رجل فأقر له به ثم صالحه منه على دراهم جاز على الوجه الذي يجوز بيع الزرع وقد ذكرنا ذلك في البيع وإن كان الزرع في يد رجلين فأقر له أحدهما بنصفه ثم صالحه عليه قبل اشتداد حبه لم يجز لأنه إن صالحه عليه بشرط التبقية أو من غير شرط القطع لم يجز لأنه لا يجوز بيعه كذلك وإن شرط القطع لم يجز لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع زرع الآخر ولو كان الزرع لواحد فأقر للمدعي بنصفه ثم صالحه عنه بنصف الأرض ليصير الزرع كله للمقر والأرض بينهما نصفين فإن شرط القطع جاز لأن الزرع كله للمقر فجاز شرط قطعه ويحتمل أن لا يجوز لأن في الزرع ما ليس بمبيع وهو النصف الذي لم يقر به وهو في النصف الباقي له فلا يصح اشتراطه قطعه كما لو شرط قطع زرع آخر في أرض أخرى وإن صالحه منه بجميع الأرض بشرط القطع ليسلم الأرض إليه فارغة صح لأن قطع جميع الزرع مستحق نصفه يحكم الصلح والباقي لتفريغ الأرض فأمكن القطع وإن كان إقراره بجميع الزرع فصالحه من نصفه على نصف الأرض ليكون الأرض والزرع بينهما نصفين وشرط القطع في الجميع احتمل الجواز لأنهما قد شرطا قطع كل الزرع وتسليم الأرض فارغة واحتمل المنع لأن باقي الزرع ليس بمبيع فلا يصح شرط قطعه في العتق

فصل : إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره لزم المالك إزالة تلك الأغصان
إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره أو هواء جدار له فيه شركة أو على نفس الجدار لزم مالك الشجرة إزالة تلك الأغصان أما بردها إلى ناحية أخرى وأما بالقطع لأن الهواء ملك لصاحب القرار فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره كالقرار فإن امتنع المالك من إزالته لم يجبر لأنه من غير فعله فلم يجبر على إزالته كما إذا لم يكن مالكا له وإن تلف بها شيء لم يضمنه كذلك ويحتمل أن يجبر على إزالته وسضمن ما تلف به إذا أمر بإزالته فلم يفعل بناء على ما إذا مال حائطه إلى ملك غيره على ما سنذكر إن شاء الله تعالى وعلى كلا الوجهين إذا امتنع من إزالته كان لصاحب الهواء بأحد الأمرين لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره له إخراجها كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي فإن أمكنه إزالتها بلا إتلاف ولا قطع من غير مشقة تلزمه ولا غرامة لم يجز له إتلافها كما نه إذا أمكنه إخراج البهيمة من غير إتلاف لم يجز له إتلافها فإن أتلفها في هذه الحال غرمها وإن لم يمكنه إزالتها إلا بالإتلاف فله ذلك ولا شيء عليه فإنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه فإن صالحه على إقرارها بعوض معلوم فاختلف أصحابنا فقال ابن حامد و ابن عقيل : يجوز ذلك رطبا كان الغصن أو يابسا لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فإنه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه ولأن الحاجة داعية إلى الصلح عنه لكون ذلك يكثر في الأملاك المتجاورة وفي القطع إتلاف وضرر والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب والمستأجر للغرفة يتجدد له الأولاد والغراس الذي يستأجر له الأرض يعظم ويجفو وقال أبو الخطاب : لا تصح المصالحة عنه بحال رطبا كان أو يابسا لأن الرطب يزيد ويتغير واليابس ينقص وربما ذهب كله وقال القاضي : إن كان يابسا معتمدا على نفس الجدار صحت المصالحة عنه لأن الزيادة مأمونة فيه ولا يصح الصلح على غير ذلك لأن الرطب يزيد في كل وقت وما لا يعتمد على الجدار لا يصح الصلح عليه لأنه تبع الهواء وهذا مذهب الشافعي واللائق بمذهب أحمد صحته لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل وذلك لدعاء الحاجة إليه وكونه لا يحتاج إلى تسليم وهذا كذلك والهواء كالقرار في كونه مملوكا لصاحبه فجاز الصلح على ما فيه كالذي في القرار

فصلان : إن صالحه على إقرارها بجزء معلوم من ثمرها على خلاف والحكم كذلك في كل ما امتد من عروق الشجر إلى أرض الغير
فصل : وإن صالحه على إقرارها بجزء معلوم من ثمرها أو بثمرها كله فقد نقل المروذي و إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال : لا أدري فيحتمل أن يصح ونحوه وقال مكحول : فإنه نقل عنه أنه قال : أيما شجرة ظلت على قوم فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها ويحتمل أن لا يصح وهو قول الأكثرين وإليه ذهب الشافعي لأن العوض مجهول فإن الثمرة مجهولة وجزؤها مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوض ولأن المصالح عليه أيضا مجهول لأنه يزيد ويتغير على ما أسلفناه ووجه الأول أن هذا مما يكثر في الأملاك وتدعوا الحاجة إليه وفي القطع إتلاف فجاز مع الجهالة كالصلح على مجرى مياه الأمطار والصلح على المواريث الدارسة والحقوق المجهولة التي لا سبيل إلى علمها ويقوى عندي أن الصلح ههنا يصح بمعنى أن كل واحد منها يبيح صاحبه ما بذل له فصاحب الهواء يبيح صاحب الشجرة إبقاءها ويمتنع من قطعها وإزالتها وصاحب الشجرة يبيحه ما بذل له من ثمرتها ولا يكون هذا بمعنى البيع لأن البيع لا يصح بمعدوم ولا مجهول والثمرة في حال الصلح معدومة مجهولة ولا هو لازم بل لكل واحد منهما الرجوع عما بذله والعود فيما قاله لأنه مجرد إباحة من كل واحد منهما لصاحبه فجرى مجرى قول : كل واحد منهما لصاحبه أسكن داري وأكن دارك من غير تقدير مدة ولا ذكر شروط الإجارة أو قوله أبحتك الأكل من ثمرة بستاني فأبحني الأكل من ثمرة بستانك وكذلك قوله : دعني أجرى في أرضك ماء ولك أن تسقي به ما شئت وتشرب منه ونحو ذلك فهذا مثله بالأولى فإن هذا مما تدعوا الحاجة إليه كثيرا وفي إلزام القطع ضرر كبير وإتلاف أموال كثيرة وفي الترك من غير نفع يصل إلى صاحب الهواء ضرر عليه وفيما ذكرناه جمع بين الأمرين ونظر للفريقين وهو على وفق الأصول فكان أولى
فصل : وكذلك الحكم في كل ما امتد من عروق شجرة إنسان إلى أرض جاره سواء أثرت ضررا مثل تأثيرها في المصانع وطي الآبار وأساس الحيطان أو منعها من ثبات شجر لصاحب الأرض أو زرع أو لم يؤثر فإن الحكم في قطعه والصلح عليه كالحكم في الفروع إلا أن العروق لا ثمر لها فإن اتفقا على أن ما نبت من عروقها لصاحب الأرض أو جزء معلوم منه فهو كالصلح على الثمرة فيما ذكرناه فعلى قولنا : إذا اصطلحا على ذلك فمضت مدة ثم أبى صاحب الشجرة دفع نباتها إلى صاحب الأرض فعليه أجر المثل لأنه إنما تركه في أرضه لهذا فلما لم يسلمه له رجع بأجر المثل كما لو بذلنا بعوض فلم يسلم له وكذلك الحكم فيمن مال حائطه إلى هواء ملك غيره أو ذلق من أخشابه إلى ملك غيره فالحكم فيه على ما ذكرناه

فصل : إذا صالحه على المؤجل ببعضه مالا لم يجز
فصل : وإذا صالحه على المؤجل ببعضه حالا لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر وقال : نهى عمر أن تباع بالدين و سعيد بن المسيب و القاسم و سالم و الشعبي و مالك و الشافعي و الثوري و ابن عيينة و هشيم و أبو حنيفة و إسحاق وروي عن ابن عباس والنخعي وابن سيرين أنه لا بأس به وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يريان بأسا بالعروض أن يأخذها من حقه قبل محله لأنهما تبايعا العروض بما في الذمة فصح كما لو اشتراها بثمن مثلها ولعل ابن سيرين يحتج بأن التعجيل جائز والإسقاط وحده جائز فجاز الجمع بينهما كما لو فعلا ذلك من غير مواطأة عليه
ولنا أنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا عن تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز كما لا يجوز أن يعطيه عشرة حالة بعشرين مؤجلة ولأنه يبيعه عشرة بعشرين فلم يجز كما لو كانت معيبة ويفارق ما إذا كان من غير مواطأة ولا عقد لأن كل واحد منهما متبرع ببذل حقه من غير عوض ولا يلزم من جواز ذلك جوازه في العقد أو مع الشركة كبيع درهم بدرهمين ويفارق ما إذا اشترى العروض بثمن مثلها لأنه لم يأخذ عن الحلول عوضا فأما أن صالحه عن ألف حالة بنصفها مؤجلا فإن فعل ذلك اختيارا منه وتبرعا به صح الإسقاط ولم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل على ما ذكرنا فيما مضى والإسقاط صحيح وإن فعله لمنعه من حقه بدونه أو شرط ذلك في الوفاء لم يسقط شيء أيضا على ما ذكرنا في أول الباب وذكر أبو الخطاب في هذا روايتين أصحهما لا يصح وما ذكرنا من التفصيل أولى إن شاء الله تعالى

فصل : يصح الصلح عن المجهول سواء كان عينا أو دينا
فصل : ويصح الصلح عن المجهول سواء كان عينا أو دينا إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته قال أحمد في الرجل : يصالح على الشيء فإن علم أنه أكثر منه لم يجز إلا أن يوقفه عليه إلا أن يكون مجهولا لا يدري ما هو ونقل عنه عبد الله إذا اختلط قفيز حنطة بقفيز شعير وطحنا فإن عرف قيمة دقيق الحنطة ودقيق الشعير بيع هذا وأعطي كل واحد منهما قيمة ماله إلا أن يصطلحا على شيء ويتحالا وقال ابن أبي موسى : الصلح جائز هو صلح الزوجة من صداقها الذي لا بينة لها به ولا علم لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه
وكذلك الرجلان يكون بينهما المعاملة والحساب الذي قد مضى عليه الزمان الطويل لا علم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه فيجوز الصلح بينهما وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره جاز أن يصالح عليه وسواء كان صاحب الحق يعلم قدر حقه ولا بينة له أو لا علم له ويقول القابض إن كان لي عليك حق فأنت في حل منه ويقول الدافع إن كنت أخذت مني أكثر من حقك فأنت منه في حل وقال الشافعي : لا يصح الصلح على مجهول لأنه فرع البيع ولا يصح البيع على مجهول
[ ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست : إستهما وتوخيا وليحلل أحدكما صاحبه ] وهذا صلح على المجهول ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول كالعتاق والطلاق ولأنه إذا صح الصلح مع العلم وإمكان أداء الحق بعينه فلأن يصح مع الجهل أولى وذلك لأنه إذا كان معلوما فلهما طريق إلى التخلص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ومع الجهل لا يمكن ذلك فلو لم يجز الصلح أفضى إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كل واحد منهما قدر حقه منه ولا نسلم كونه بيعا ولا فرع بيع وإنما هو إبراء وإن سلمنا كونه بيعا فإنه يصح في المجهول عند الحاجة بدليل بيع أساسات الحيطان وطي الآبار وما مأكوله في جوفه ولو أتلف رجل صبرة طعام لا يعلم قدرها فقال صاحب الطعام لمتلفه : بعتك الطعام الذي في ذمتك بهذه الدراهم أو بهذا الثوب صح إذا ثبت هذا فإن كان العوض في الصلح مما لا يحتاج إلى تسليمه ولا سبيل إلى معرفته كالمختصين في مواريث دارسة وحقوق سالفة أو في أرض أو عين من المال لا يعلم كل واحد منهما قدر حقه منها صح الصلح مع الجهالة من الجانبين لما ذكرناه من الخبر والمعنى وإن كان مما يحتاج إلى تسليمه لم يجز مع الجهالة ولا بد من كونه معلوما لأن تسليمه واجب والجهالة تمنع التسليم وتفضي إلى التنازع فلا يحصل مقصود الصلح

فصل : أما ما يمكنهما معرفته كتركة موجودة ويجهله صاحبه لا يصح الصلح
فصل : فأما ما يمكنهما معرفته كتركة موجودة أو يعلمه الذي هو عليه ويجهله صاحبه فلا يصح الصلح عليه مع الجهل قال أحمد : إن صولحت امرأة من ثمنها لم يصح واحتج يقول شريح أيما امرأة صولحت من ثمنها لم يتبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة كلها قال : وإن ورث قوم مالا ودورا وغير ذلك فقالوا لبعضهم : نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك ولا يشتري منها شيء وهي لا تعلم لعلها تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير ولا يشتري حتى تعرفه وتعلم ما هو وإنما يصالح الرجل الرجل على الشيء لا يعرفه ولا يدري ما هو حساب بينهما فيصالحه أو يكون رجل يعلم ماله على رجل والآخر لا يعلمه فيصالحه فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد بهضم حقه ويذهب به وذلك لأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم وإزالة الخصام فمع إمكان العلم لا حاجة إلى الصلح مع الجهالة فلم يصح كالبيع

فصل : ويصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه
فصل : ويصح الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه سواء كان مما يجوز بيعه أو لا يجوز فيصح عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز وقد روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سيع ديات فأبى أن يقبلها ولأن المال غير متعين فلا يقع العوض في مقابلته فأما إن صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز وكذلك لو أتلف عبدا أو شيئا من قيمته من جنسها لم يجز وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز لأنه يأخذ عوضا عن المتلف فجاز أن يأخذ أكثر من قيمته كما لو باعه بذلك
ولنا أن الدية والقيمة ثبتت في الذمة مقدرة فلم يجز أن يصالح عنها بأكثر منها من جنسها كالثابتة عن قرض أو ثمن مبيع ولأنه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقه وزيادة لا مقابل لها فيكون أكل مال بالباطل فأما إن صالحه على غير جنسها بأكثر قيمة منها جاز لأنه بيع ويجوز أن يشتري الشيء بأكثر من قيمته أو أقل

فصل : إذا صالح عن المائة الثانية في الذمة بالاتلاف بمائة مؤجلة لم يجز
فصل : ولو صالح عن المائة الثابتة في الذمة بالإتلاف بمائة مؤجلة لم يجز وكانت حالة وبهذا قال الشافعي وعن أحمد يجوز وهو قول أبو حنيفة لأنه عاوض عن المتلف بمائة مؤجلة فحاز كما لو باعه إياه ولنا إنما يستحق عليه قيمة المتلف وهو مائة حالة الحال لا يتأجل بالتأجيل وإن جعلناه بيعا فهو بيع دين بدين وبيع الدين بالدين غير جائز

فصل : لو صالح عن القصاص بعبد فخرج مستحقا رجع بقيمته
فصل : ولو صالح عن القصاص بعبد فخرج مستحقا رجع بقيمته في قولهم جميعا وإن خرج حرا فكذلك وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة : يرجع بالدية لأن الصلح فاسد فرجع ببذل ما صالح عنه وهو الدية ولنا أنه تعذر تسليم ما جعله عوضا فرجع في قيمته كما لو خرج مستحقا

فصل : لو صالح عن دار أو عبد بعوض فوجد العوض مستحقا صالح عنه
فصل : ولو صالح عن دار أو عبد بعوض فوجد العوض مستحقا أو حرا في الدار وما صالح عنه أو بقيمته إن كان تالفا لأن الصلح ههنا بيع في الحقيقة فإذا تبين أن العوض كان مستحقا أو حرا كان البيع فاسدا فرجع فيما كان له بخلاف الصلح عن القصاص فإنه ليس ببيع وإنما يأخذ عوضا عن إسقاط القصاص ولو اشترى فوجده معيبا فصالحه عنه بعبد مستحقا أو حرا رجع بارش العيب ولو كان البائع إمرأة فزوجته نفسها عوضا عن أرش العيب فزال العيب رجعت بأرشه لا بمهر المثل لأنها رضيت ذلك مهرا لها

فصل : لو صالح عن القصاص بحر يعلمان حريته أو عبد يعلمان أنه مستحق رجع بالدين
فصل : ولو صالحه عن القصاص بحر يعلمان حريته أو عبد يعلمان أنه مستحق أو تصالحا بذلك عن غير القصاص رجع بالدية وبما صالح عنه لأن الصلح ههنا باطل يعلمان بطلانه فكان وجوده كعدمه

فصل : إذا صالح رجلا عن موضع قناة من أرضه وبيتا عرضها وطولها جاز
فصل : إذا صالح رجلا على موضع قناة من أرضه تجري فيها ماء وبينا موضعها وعرضها وطولها جاز لأن ذلك بيع موضع من أرضه ولا حاجة إلى بيان عمقه لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه فله أن يترك فيه ما شاء وإن صالحه على إجراء الماء في ساقية من أرض رب الأرض مع بقاء ملكه عليها فهذا إجارة للأرض فيشترط تقدير المدة لأن هذا شأن الإجارة فإن كانت الأرض في يد رجل بإجارة جاز له أن يصالح رجلا على إجراء الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة إجارته وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك لأنه لا يجوز إحداث ساقية في أرض في يده بإجارة فأما إن كانت الأرض في يده وقفا عليه فقال القاضي : هو كالمستأجر له أن يصالح على إجراء الماء في ساقية محفورة في مدة معلومة وليس له أن يحفر فيها ساقية لأنه لا يملكها إنما يستوفي منفعتها كالأرض المستأجرة سواء وهذا مذهب الشافعي والأولى أنه يجوز له حفر الساقية لأن الأرض له وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك فيها إلى غيره بخلاف المستأجر فإنه إنما يتصرف فيها بما أذن له فيه فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر إذا أذن له في الحفر فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة فهل لمن انتقل إليه فسخ الصلح فيما بقي من المدة على وجهين بناء على ما إذا آجره مدة فمات في أثنائها فإن قلنا له فسخ الصلح ففسخه رجع المصالح على ورثة الذي صالحه بقسط ما بقي من المدة وإن قلنا ليس له الفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على الورثة

فصل : وإن صالح رجلا إجراء ماء بسطحه من المطر على سطحه جاز
فصل : وإن صالح رجلا على إجراء ماء سطحه من المطر على سطحه أو في أرضه عن سطحه أو في أرضه جاز إذا كان ما يجري ماءا معلوما إما بالمشاهدة وإما بمعرفة المساحة لأن الماء يختلف بصغر السطح وكبره ولا يمكن ضبطه بغير ذلك ويشترط معرفة الموضع الذي يجري منه الماء إلى السطح لأن ذلك يختلف ولا يفتقر إلى ذكر مدة لأن الحاجة تدعوا إلى هذا ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدر كما في النكاح ولا يملك صاحب الماء مجراه لأن هذا لا يستوفي به منافع المجرى دائما ولا في أكثر المدة بخلاف الساقية ويختلفان أيضا في أن الماء الذي في الساقية لا يحتاج إلى ما يقدر به لأن تقدير ذلك حصل بتقدير الساقية فإنه لا يملك أن يجري فيها أكثر من مائها والماء الذي على السطح يحتاج إلى معرفة مقدار السطح لأنه يجري منه القليل والكثير وإن كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجرا أو عارية مع إنسان لم يجز أن يصالح على إجراء الماء عليه لأنه يتضرر بذلك ولم يؤذن له فيه فلم يكن له أن يتصرف به بخلاف الماء في الساقية المحفورة فإن الأرض لا تتضرر به وإن كان ماء السطح يجري على أرض احتمل أن لا يجوز له الصلح على ذلك لأنه إن احتاج إلى حفر لم يجز له أن يحفر أرض غيره ولأنه يجعل لغير صاحب الأرض رسما فربما ادعى استحقاق ذلك على صاحبها واحتمل الجواز إذا لم يحتج إلى حفر ولم تكن فيه مضرة لأنه بمنزلة إجراء الماء في ساقية محفورة ولا يجوز إلا مدة لا تزيد على مدة إجارته كما قلنا في إجراء الماء في الساقية والله أعلم

فصل : إذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بأذنه
فصل : وإذاأراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه وإن كان لضرورة مثل أن يكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق جاره فهل له ذلك ؟ على روايتين
إحداهما : لا يجوز لأنه تصرف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز كما لو لم تدع إليه ضرورة لأن مثل هذه الحاجة لا يبيح مال غيره بدليل أنه لا يباح الدمشقي الزرع في أرض غيره ولا البناء فيها ولا الانتفاع بشيء من منافعها المحرمة عليه قبل هذه الحاجة
والأخرى : يجوز لما روي أن الضحاك بن خليفة ساق خليفا من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد ابن مسلمة فأبى فقال له الضحاك : لم تمنعني وهو منفعة لك تشربه أولا وآخرا ولا يضرك ؟ فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر فدعا عمر محمد بن مسلمة وأمره أن يخلي سبيله فقال محمد : لا والله فقال له : لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشربه أولا وآخرا ؟ فقال محمد : لا والله فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل رواه مالك في موطئه و سعيد في سننه والأول أقيس وقول عمر يخالفه قول محمد بن مسلمة وهو موافق للأصول أولى

فصل : إنصالح رجلا على أن يسقي أرضه من نهر الرجل لا يجوز لأن الماء ليس بمملوك
فصل : وإن صالح رجلا على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يوما أو يومين أو من عينه وقدره بشيء يعلم به فقال القاضي : لا يجوز لأن الماء ليس بمملوك ولا يجوز بيعه فلا فيجوز الصلح عليه ولأنه مجهول قال وإن صالحه على سهم من العين أو النهر كالثلث أو الربع جاز وكان بيعا للقرار والماء تابع له ويحتمل أن يجوز الصلح على السقي من نهره وقناته لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة بدليل ما لو أخذه في قربته أو أنائه ويجوز الصلح على ما لا يجوز بيعه بدليل الصلح عن دم العمد وإشباهه والصلح على المجهول

فصل : لا يصح الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه
فصل : ولا يصح الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه مثل أن يصالح إمرأة لتقر بالزوجية لأنه صلح يحل حراما ولأنها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز وإن دفعت إليه عوضا عن هذه الدعوى ليكف عنها ففيه وجهان أحدهما : لا يجوز لأن الصلح في الإنكار إنما يكون في حق المنكر الافتداء اليمين وهذه لا يمين عليها وفي حق المدعي يأخذ العوض في مقابلة حقه الذي يدعيه وخروج البعض من ملك الزوج لا قيمة له وإنما أجيز الخلع للحاجة إلى افتداء نفسها
والثاني : يصح ذكره أبو الخطاب و ابن عقيل لأن المدعي يأخذ عوضا عن حقه من النكاح فجاز كعوض الخلع والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شره وربما توجهت اليمين عليها لكون الحاكم يرى ذلك ولأنها مشروعة في حقها في إحدى الروايتين ومتى صالحته على ذلك ثبتت الزوجية بإقرارها أو ببينة فإن قلنا الصلح باطل فالنكاح باق بحاله لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع وإن قلنا هو صحيح احتمل ذلك أيضا ولذلك احتمل أن تبين منه بأخذ العوض لأنه أخذ العوض عما يستحقه من نكاحها فكان خلعا كما لو أقرت له بالزوجية فخالعها ولو ادعت أن زوجها طلقها ثلاثا فصالحها على مال لتنزل عن دعواها لم يجز لأنه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلقها بعوض ولا بغيره وإن دفعت إليه مالا ليقر بطلاقها لم يجز في أحد الوجهين وفي الآخر يجوز كما لو بذلت له عوضا ليطلقها ثلاثا

فصل : إذا ادعى على رجل أن عبده فأنكره فصالحه ليقر له بالعبودية لم يجز
وإن ادعى على رجل أنه عبده فأنكره فصالحه على مال ليقر له بالعبودية لم يجز لأنه يحل حراما فإن إرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا بغيره وإن دفع إليه المدعي عليه مالا صلحا عن دعواه صح لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال ويشرع للدافع لدفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجهة إليه ولو ادعى على رجل ألفا فأنكره فدفع إليه شيئا ليقر له بالألف لم يصح فإن أقر لزمه ما أقر به ويرد ما أخذه لأنه تبين فإقراره كذبه في إنكاره وإن الألف عليه فيلزمه إداؤه بغير عوض ولا يحل له أخذ العوض عن أداء الواجب عليه وإن دفع إليه المنكر مالا صلحا عن دعواه صح وقد مضى ذكره

فصل : لو صالح شاهدا على أن لا يشهد عليه لم يصح
فصل : ولو صالح شاهدا على أن لا يشهد عليه لم يصح لأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال
أحدها : أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزم الشهادة به كدين آدمي أو حق لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة ونحوها فلا يجوز كتمانه ولا يجوز أخذ العوض عن ذلك كما لا يجوز أخذ العوض على شرب الخمر وترك الصلاة الثاني : أن يصالحه على أن يشهد عليه بالزور فهذا يجب عليه ترك ذلك ويحرم عليه فعله فلا يجوز أخذ العوض عنه كما لا يجوز أن يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب ماله الثالث : أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب حدا كالزنا والسرقة فلا يجوز أخذ العوض عنه لأن ذلك ليس بحق له فلم يجز له اخذ عوضه كسائر ما ليس بحق له ولو صالح السارق والزاني والشارب بمال على أن لا يرفعه إلى السلطان لم يصح الصلح لذلك ولم يجز له أخذ العوض وإن صالحه عن حد القذف لم يصح الصلح لأنه إن كان لله تعالى لم يكن له أن يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له فأشبه حد الزنا والسرقة وإن كان حقا له لم يجز الاعتياض عنه لكونه حقا ليس بمالي ولهذا لا يسقط إلى بدل بخلاف القصاص ولأنه شرع لتنزيه العرض فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال وهل يسقط الحد بالصلح فيه وجهان مبنيان على الخلاف في كونه حقا لله تعالى أو حقا لآدمي فإن كان حقا لله تعالى لم يسقط بصلح الآدمي ولا إسقاطه كحد الزنا والسرقة وإن كان حقا لآدمي سقط بصلحه وإسقاطه مثل القصاص فإن صالح عن حق الشفعة لم يصح الصلح لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحق من غير بدل كحد القذف إلا أنه يسقط هنا وجها واحدا لكونه حقا لأدمي

فصل : لا يجوز أن يشرع الروشن إلى الطريق النافذ
فصل : ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحا وهو الروشن يكون على أطراف خشبة مدفونة في الحائط وأطرافها خارجة في الطريق سواء كان يضر في العادة بالمارة أو لا يضر ولا يجوز أن يجعل عليها ساباطا بطريق الأولى وهو المستوفي لهواء الطريق كله على حائطين سواء كان الحائطان ملكه أو لم يكونا وسواء أذن الإمام في ذلك أو لم يأذن وقال ابن عقيل : إن لم يكن فيه ضرر جاز بإذن الإمام لأنه نائبهم فجرى إذنه مجرى إذن المشتركين في الدرب الذي ليس بنافذ وقال أبو حنيفة : يجوز من ذلك ما لا ضرر فيه وإن عارضه رجل من المسلمين وجب قلعه وقال مالك و الشافعي و الأوزاعي و إسحاق و أبو يوسف و محمد : يجوز ذلك إذا لم يضر بالمارة ولا يملك أحد منعه لأنه ارتفق بما لم يتعين ملك أحد فيه من غير مضرة فكان جائزا كالمشي في الطريق والجلوس فيها واختلفوا فيما لا يضر فقال بعضهم : إن كان في شارع تمر فيه الجيوش والأحمال فيكون بحيث إذا سار فيه الفارس ورمحه منصوب لا يبلغه وقال أكثرهم : لا يقدر بذلك بل يكون بحيث لا يضر بالعماريات والمحامل
ولنا إنه بناء في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كبناء الدكة أو بناء ذلك في درب غير نافذ بغير إذن أهله ويفارق المرور في الطريق فإنها جعلت لذلك ولا مضرة فيه والجلوس لا يدوم ولا يمكن التحرز منه ولا نسلم أنه لا مضرة فيه فإنه يظلم الطريق ويسد الضوء وربما سقط على المارة أو سقط منه شيء وقد تعلوا الأرض بمرور الزمان فيصدم رؤوس الناس ويمنع مرور الدواب بالأحمال ويقطع الطريق إلا على الماشي وقد رأينا مثل هذا كثيرا وما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطريق يخشى وقوعه على من يمر فيها وعلى أبي حنيفة أنه بناء في حق مشترك لو منع منه بعض أهله لم يجز فلم يجز بغير إذنهم كما لو أخرجه إلى هواء دار مشتركة وذلك لأن حق الآدمي لا يجوز لغيره التصرف فيه بغير إذنه وإن كان ساكنا كما لا يجوز إذا منع منه

فصل : لا يجوز أن يبني في الطريق النافذ دكانا حتى ولو أذن الإمام
فصل : ولا يجوز أن يبني في الطريق دكانا بغير خلاف نعلمه سواء كان الطريق واسعا أو غير واسع سواء أذن الإمام فيه أو لم يأذن لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه ولأنه يؤذي المارة ويضيق عليهم ويعثر به العاثر فلم يجز كما لو كان الطريق ضيقا

فصل : لا يجوز أن يبني في الطريق الغير نافذ دكانا أو يخرج روشنا إلا بإذن مالكه
فصل : ولا يجوز أن يبني دكانا ولا يخرج روشنا ولا ساباطا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله وبهذا قال الشافعي : إذا لم يكن له في الدرب باب وإن كان له في الدرب باب فقد اختلف أصحابه فمنهم من منعه أيضا ومنهم من أجاز له إخراج الجناح والساباط لأن له في الدرب استطراقا فملك ذلك كما يملكه في الدرب النافذ
ولنا أنه بناء في هواء ملك قوم معينين أشبه ما لو لم يكن له فيه باب ولا نسلم الأصل الذي قاسوا عليه فأما إن أذن أهل الدرب فيه جاز لأن الحق لهم فجاز بإذنهم كما لو كان المالك واحدا وإن صالح أهل الدرب من ذلك على عوض معلوم جاز وقال القاضي وأصحاب الشافعي : لا يجوز لأنه بيع للهواء دون القرار
ولنا أنه يبني فيه بإذنهم فجاز كما لو أذنوا له بغير عوض ولأنه ملك لهم فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار إذا ثبت هذا فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه ويجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار والله أعلم

فصل : لا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه
فصل : ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك لما ذكرناه من قبل وإن أراد حفرها للمسلمين ونفعهم أو لنفع الطريق مثل أن يحفرها ليستقي الناس من مالها ويشرب منه المارة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق نظرنا فإن كان الطريق ضيقا أو يحفرها في ممر الناس بحيث يخاف سقوط إنسان فيها أو دابة أو يضيق عليهم ممرهم لم يجز ذلك لأن ضررها أكثر من نفعها وإن حفرها في زاوية في طريق واسع وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها جاز لأن ذلك نفع بلا ضرر فجاز كتمهيدها وبناء رصيف فيها فأما ما فعله في درب غير نافذ فلا يجوز إلا بإذن أهله لأن هذا ملك لقوم معينين فلم يجز فعل ذلك بغير إذنهم كما لو فعله في بستان إنسان ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز سواء حفرها لنفسه لينزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماء لنفسه أو حفرها للسبيل ونفع الطريق وكذلك إن فعل ذلك في ملك إنسان معين

فصل : لا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم إلا بإذن أهله
فصل : ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا يجوز إخراجها إلى درب نافذ إلا بإذن أهله وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم لأن عمر رضي الله عنه اجتاز على دار العباس وقد نصب ميزابا إلى الطريق فقلعه قال العباس : تقلعه وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده ؟ فقال : والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه وما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم فلغيره فعله ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه إلى الدار ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير ولنا أن هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه فلم يجز كما لو كان الطريق غير نافذ ولأنه يضر بالطريق وأهلها فلم يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها ولا يخفى ما فيه من الضرر فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى فيه البول أو ماء نجس فينجسهم ويزلق الطريق ويجعل فيها الطين والحديث قضية في عين فيحتمل إنه كان في درب غير نافذ أو تجددت الطريق بعد نصبه ويحتمل أن يجوز ذلك لأن الحاجة داعية إليه والعادة جارية به مع ما فيه من الخبر المذكور

فصل : لا يجوز أن يفتح في الحائط المشترك بابا لا بإذن شريكه
فصل : ولا يجوز أن يفتح في الحائط المشترك طاقا ولا بابا إلا بإذن شريكه لأن ذلك انتفاع بملك غيره وتصرف فيه بما يضر به ولا يجوز أن يغرز فيه وتدا ولا يحدث عليه حائطا ولا يستره ولا يتصرف فيه نوع تصرف لأنه تصرف في الحائط بما يضر به فلم يجز كنقضه ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى لأنه إذا لم يجز فيما له فيه حق ففيما لا حق له فيه أولى وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز وأما الاستناد إليه وإسناد شيء لا يضره إليه فلا بأس به لأنه لا مضرة فيه ولا يمكن التحرز منه أشبه الإستظلال به

فصل : إذا كان وضع الخشب عليه يضر بالحائط لم يجز
فصل : فأما وضع خشبه عليه فإن كان يضر بالحائط لضعفه عن حمله لم يجز بغير خلاف نعلمه لما ذكرنا ولقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] وإن كان لا يضر به إلا أن به غنية عن وضع خشبه عليه لإمكان وضعه على غيره فقال أكثر أصحابنا : لا يجوز أيضا وهو قول الشافعي و أبي ثور ولأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة فلم يجز كبناء حائط عليه وأشار ابن عقيل إلى جوازه لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره ] متفق عليه ولأن ما أبيح للحاجة العامة لم يعتبر فيه حقيقة الحاجة كأخذ الشقص بالشفعة من المشتري والفسخ والخيار أو بالعيب أو اتخاذ الكلب للصيد وإباحة السلم ورخص السفر وغير ذلك فأما إن دعت الحاجة إلى وضعه على حائط جاره أو الحائط المشترك بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذن الشريك وبهذا قال الشافعي : في القديم وقال : في الجديد ليس له وضعه وهو قول أبي حنيفة و مالك لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز كزراعته
ولنا الخبر ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضر به أشبه الإستناد إليه والاستظلال به ويفارق الزرع فإنه يضر ولم تدع إليه حاجة إذا ثبت هذا فاشترط القاضي و أبو الخطاب للجواز أن يكون له ثلاثة حيطان ولجاره حائط واحد وليس هذا في كلام أحمد إنما قال في رواية أبي داود : لا يمنعه إذا لم يكن ضرر وكان الحائط يبقى ولأنه قد يمتنع التسقيف على حائطين إذا كانا غير متقابلين أو كان البيت واسعا يحتاج إلى أن يجعل عليه جسرا ثم يضع الخشب على ذلك الجسر والأولى اعتباره بما ذكرنا من اعتبار التسقيف بدونه ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والمجنون والعاقل لما ذكرنا والله أعلم

فصل : إذا وضع الخشب في جدار المسجد هناك شروط
فصل : فأما وضعه في جدار المسجد إذا وجد الشرطان فعن أحمد فيه روايتان إحداهما : الجواز لأنه إذا جاز في ملك الجار مع أن حقه مبني على الشح والضيق ففي حقوق الله تعالى المبنية على المسامحة والمساهلة أولى والثانية : لا يجوز نقلها أبو طالب لأن القياس يقتضي المنع في حق الكل ترك في حق الجار للخبر الوارد فيه فوجب البقاء في غيره على مقتضى القياس وهذا اختيار أبي بكر وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية وجها للمنع من وضع الخشب في ملك الجار لأنه إذا منع من وضع الخشب في الجدار المشترك بين المسلمين وللواضع في حق فلأن يمنع من الملك المختص بغيره أولى ولأنه إذا منع في حق الله تعالى مع أن حقه على المسامحة والمساهلة لغنى الله تعالى وكرمه فلأن يمنع في حق آدمي مع شحه وضيقه أولى والمذهب الأول فإن قيل فلم لا تجيزون فتح الطاق والباب في الحائط بالقياس على وضع الخشب ؟ قلنا لأن الخشب يمسك الحائط وينفعه بخلاف الطاق والباب فإنه يضعف الحائط لأنه يبقى مفتوحا في الحائط والذي يفتحه للخشبة يسده بها ولأن وضع الخشب تدعو الحاجة إليه بخلاف غيره

فصل : إذا ملك وضع خشبة على حائط فزال ثم أعيد فله إعادة خشبه
فصل : ومن ملك وضع خشبه على حائط فزال بسقوطه أو قلعه أو سقوط الحائط ثم أعيد فله إعادة خشبه لأن السبب المجوز لوضعه مستمر فاستمر استحقاق ذلك وإن زال السبب مثل أن يخشى على الحائط من وضعه عليه أو استغنى عن وضعه لم تجز إعادته لزوال السبب المبيح وإن خيف سقوط الحائط بعد وضعه عليه أو استغني عن وضعه لزم إزالته لأنه يضر بالمالك ويزول الخشب وإن لم يخف عليه لكن استغنى عن إبقائه عليه لم يلزم إزالته لأن في إزالته ضررا بصاحبه ولا ضرر على صاحب الحائط في إبقائه بخلاف ما لو خشي سقوطه

فصل : ولو كان وضع خشبه على جدار غيره لم يملك إعارته ولا إجارته
فصل : ولو كان له وضع خشبه على جدار غيره لم يملك إعارته ولا إجارته لأنه إنما كان له ذلك لحاجته الماسة إلى وضع خشبه ولا حاجة له إلى وضع خشب غيره فلم يملكه وكذلك لا يملك بيع حقه من وضع خشبه ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته فلم يجز له ذلك فيه كطعام غيره إذا أبيح له من أجل الضرورة ولو أراد صاحب الحائط إعارة الحائط أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبه لم يملك ذلك لأنه وسيلة إلى منع ذي الحق من حقه فلم يملكه كمنعه ولو أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يملك ذلك لما فيه من تفويت الحق وإن احتاج إلى هدمه للخوف من انهدامه أو لتحويله إلى مكان آخر أو لغرض صحيح ملك ذلك لأن صاحب الخشب إنما يثبت حقه للإرفاق به مشروطا بعدم الضرر بصاحب الحائط فمتى أفضى إلى الضرر زال الاستحقاق لزوال شرطه

فصل : إذا أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه جاز
فصل : وإذا أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه أو وضع سترة عليه أو وضع خشبه عليه في الموضع الذي لا يستحق وضعه جاز فإذا فعل ما أذن له فيه صارت العارية لازمة فإذا رجع المعير فيها لم يكن له ذلك ولم يلزم المستعير إزالة ما فعله لأن إذنه اقتضى البقاء والدوام وفي القلع إضرار به فلا يملك ذلك المعير كما لو أعاره أرضا للدفن والغراس لم يملك المطالبة بنقل الميت والغراس بغير ضمان وإن أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يكن له ذلك لأن المستعير قد استحق تبقية الخشب عليه ولا ضرر في تبقيته وإن كان مستهدما فله نقضه وله على صاحب البناء والخشب إزالته وإذا أعيد الحائط لم يملك المستعير رد بنائه وخشبه إلا بإذن جديد سواء بناه بآلته أو غيرها وهكذا لو قلع المستعير خشبا وسقط بنفسه لم يكن له رده إلا بإذن مستأنف لأن المنع من القلع إنما كان لما فيه من الضرر وههنا قد حصل القلع بغير فعله فأشبه ما لو كان في الأرض شجر فانقلع وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا : في الآخر له ذلك لأنه قد استحق بقاء ذلك على التأبيد وليس كذلك فإنه إنما استحق الإبقاء ضرورة دفع ضرر القلع وقد حصل القلع ههنا فلا يبقى الاستحقاق وإن قلع صاحب الحائط ذلك عدوانا كان للآخر إعادته لأنه أزيل بغير حق تعديا ممن عليه الحق فلم يسقط الحق عنه بعدوانه وإن أزاله أجنبي لم يملك صاحبه إعادته بغير إذن المالك لأنه زال بغير عدوان منه فأشبه ما لو سقط بنفسه

فصل : إذا أذن له في وضع خشبة على جداره بعوض جاز
فصل : وإذا أذن له في وضع خشبه أو البناء على جداره بعوض جاز سواء كان إجارة في مدة معلومة أو صلحا على وضعه على التأبيد ومتى زال فله إعادته سواء زال لسقوطه أو سقوط الحائط أو غير ذلك لأنه استحق إبقاءه بعوض ويحتاج إلى أن يكون البناء معلوم العرض والطول والسمك والآلات من الطين واللين والآجر وما أشبه ذلك لأن هذا كله يختلف فيحتاج إلى معرفته وإذا سقط الحائط الذي عليه البناء أو الخشب في أثناء مدة الإجارة سقوطا لا يعود انفسخت الإجارة فيما بقي ورجع من الأجرة بقسط ما بقي من المدة وإن أعيد رجع من الأجرة بقدر المدة التي سقط البناء والخشب عنه وإن صالحه مالك الحائط على رفع بنائه أو خشبه بشيء معلوم جاز كما يجوز الصلح على وضعه سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له وكذلك لو كان له مسيل ماء في أرض غيره أو ميزاب أو غيره فصالح صاحب الأرض مستحق ذلك بعوض ليزيله عنه جاز وإن كان الخشب أو الحائط قد سقط فصالحه بشيء على أن لا يعيده جاز لأنه لما جاز أن يبيع ذلك منه جاز أن يصالح عنه لأن الصلح بيع

فصل : إذا وجد بناؤه أو خشبه على حائط مشترك أو حائط جاره إذا أزاله فله إعادته
فصل : وإذا وجد بناؤه أو خشبه على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه فمتى زال فله إعادته لأن الظاهر أن هذا الوضع بحق من صلح أو غيره فلا يزول هذا الظاهر حتى يعلم خلافه وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره أو مجرى ماء سطحه على سطح غيره وما أشبه هذا فهو له لأن الظاهر أنه له بحق فجرى ذلك مجرى اليد الثابتة وإذا اختلفا في ذلك هل هو بحق أو بعدوان فالقول قول صاحب الخشب والبناء والمسيل مع يمينه لأن الظاهر معه

فصل : إذا ادعى رجل دارا في يد أخوين فأنكره أحدهما وأقر الآخر ثم صالحه عما أمر صح الصلح
فصل : إذا ادعى رجل دارا في يد أخوين فأنكره أحدهما وأقر له الآخر ثم صالحه عما أقر له بعوض صح الصلح ولأخيه الأخذ بالشفعة ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كان الإنكار مطلقا وبين ما إذا قال هذه لنا ورثناها جميعا عن أبينا أو أخينا فيقال : إذا كان الإنكار مطلقا كان له الأخذ بالشفعة وإن قال : ورثناها عن أبينا فلا شفعة له لأن المنكر يزعم أن الملك لأخيه المقر لم يزل وأن الصلح باطل فيؤاخذ بذلك ولا يستحق به شفعة ووجه الأول أن الملك ثبت للمدعي حكما وقد رجع إلى المقر بالبيع وهو معترف بأنه بيع صحيح فتثبت فيه الشفعة كما لو كان الإنكار مطلقا ويجوز أن يكون انتقل نصيب المقر إلى المدعي ببيع أو هبة أو سبب من الأسباب فلا يتنافى إنكار المنكر وإقرار المقر كحالة إطلاق الإنكار وهذا أصح

فصل : إذا تداعى نفسان جدارا معقولا ببناء كل واحد منهما تحالفا وكان بينهما
مسألة : قال : وإذا تداعى نفسان جدارا معقودا ببناء كل واحد منهما تحالفا وكان بينهما وكذلك إن كان محلولا من بنائهما وإن كان معقودا ببناء أحدهما كان له مع يمينه
وجملة ذلك أن الرجلين إذا تداعيا حائطا بين ملكيهما وتساويا في كونه معقودا ببنائهما معا وهو أن يكون متصلا بهما اتصالا لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه الفطائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو تساويا في كونه محلولا من بنائهما أي غير متصل ببنائهما الاتصال المذكور بل بينهما شق مستطيل كما يكون بين الحائطين اللذين ألصق أحدهما بالآخر فهما سواء في الدعوى فإن لم يكن لواحد منهما بينة تحالفا فيحلف كل واحد منهما على نصف الحائط أنه له ويجعل بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يده على نصف الحائط لكون الحائط في أيديهما وإن حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له وما هو لصاحبه جاز وهو بينهما وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأن المختلفين في العين إذا لم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول من هي في يده مع يمينه فإذا كانت في أيديهما كانت يد كل واحد منهما على نصفها فيكون القول قوله في نصفها مع يمينه وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن كان لكل واحد منهما بينة تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما فإن لم يكن لهما بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي على الناكل فكان الكل للآخر وإن كان الحائط متصلا ببناء أحدهما دون الآخر فهو له مع يمينه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال أبو ثور : لا يرجح بالعقد ولا ينظر إليه
ولنا أن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحدا فإذا كان بعضه لرجل كان بقيته له والبناء الآخر المحلول الظاهر أنه بنى وحده فإنه لو بني مع هذا كان متصلا به فالظاهر أنه لغير صاحب هذا الحائط المختلف فيه فوجب أن يرجح بهذا كاليد وإلا زج فإن قيل فلم لم تجعلوه له بغير يمين لذلك ؟ قلنا لأن ذلك ظاهر وليس بيقين إذ يحتمل أن يكون أحدهما بنى الحائط لصاحبه تبرعا مع حائطه أو كان له فوهبه إياه أو بناه بأجرة فشرعت اليمين من أجل الاحتمال كما شرعت في حق صاحب اليد وسائر من وجبت عليه اليمين فأما إن كان معقودا ببناء أحدهما عقدا يمكن إحداثه مثل البناء باللبن والآجر فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبني نصف لبنة أو آجرة أو يجعل مكانها لبنة صحيحة أو آجرة صحيحة تعقد بين الحائطين فقال القاضي : لا يرجح بهذا لاحتمال أن يكون صاحب الحائط فعل هذا ليتملك الحائط المشترك وظاهر كلام الخرقي أنه يرجح بهذا الاتصال كما يرجح بالاتصال الذي لا يمكن إحداثه لأن الظاهر أن صاحب الحائط لا يدع غيره يتصرف فيه بنزع آجره وتغيير بنائه وفعل ما يدل على ملكه فوجب أن يرجح بهذا كما يرجح باليد فإنه يمكن أن تكون يدا عادية حدثت بالغصب أو بالسرقة أو العارية أو الإجارة فلم يمنع ذلك الترجيح بها

فصل : إن كان لأحدهما عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قيد فهو له
فصل : فإن كان لأحدهما عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحوها فهو له وبهذا قال الشافعي : لأن وضع بنائه عليه بمنزلة اليد الثابتة عليه لكونه منتفعا به فجرى مجرى كونه حمله على البهيمة وزرعه في الأرض ولأن الظاهر أن الإنسان لا يترك غيره يبني على حائطه وكذلك إن كانت له عليه سترة ولو كان في أصل الحائط خشبة طرفها تحت حائط ينفرد به أحدهما أو له عليها أزج معقود فالحائط المختلف فيه له لأن الظاهر أن الخشبة لمن ينفرد بوضع بنائه عليها فيكون الظاهر أن ما عليها من البناء له

فصل : فإن كان لأحدهما خشب موضوع لا ترجح دعواه
فصل : فإن كان لأحدهما خشب موضوع فقال أصحابنا : لا ترجح دعواه بذلك وهو قول الشافعي : لأن هذا مما يسمح به الجار وقد ورد الخبر بالنهي عن المنع منه وعندنا إنه حق يجب التمكين منه فلم ترجح به الدعوى كإسناد متاعه إليه وتجصيصه وتزويقه ويحتمل أن ترجح به الدعوى وهو قول مالك لأنه منتفع به بوضع ماله عليه فأشبه الباني عليه والزارع في الأرض وورود الشرع بالنهي عن المنع منه لا يمنع كونه دليلا على الاستحقاق بدليل أنا استدللنا بوضعه على كون الوضع مستحقا على الدوام حتى متى زال جازت إعادته ولأن كونه مستحقا تشترط له الحاجة إلى وضعه ففيما لا حاجة إليه له منعه من وضعه وأما السماح به فإن أكثر الناس لا يتسامحون به ولهذا لما روى أبو هريرة الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم طأطؤا رؤوسهم كراهة لذلك فقال : مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم وأكثر الفقهاء لا يوجبون التمكين من هذا ويحملون الحديث على كراهة المنع لا على تحريمه ولأن الحائط يبنى لذلك فيرجح به كالأزج وقال أصحاب أبي حنيفة : لا ترجح الدعوى بالجذع الواحد لأن الحائط لا يبنى له ويرجح بالجذعين لأن الحائط يبنى لهما ولنا أنه موضوع على الحائط فاستوى في ترجيح الدعوى به قليله وكثيره كالبناء

فصل : لا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الآجر
فصل : ولا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الآجر والحجارة ولا كون الآجرة الصحيحة مما يلي ملك أحدهما وإقطاع الآجر إلى ملك الآخر ولا بمعاقد القمط في الخص يعني عقد الخيوط التي يشد بها الخص وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد : يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط لما روى نمر بن حارثة التميمي عن أبيه [ أن قوما اختصموا إلى النبي صلى الله عليه و سلم في خص فبعث حذيفة بن اليمان ليحكم بينهم فحكم به لمن يليه معاقد القمط ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : أصبت وأحسنت ] رواه ابن ماجه وروي نحوه عن علي ولأن العرف جار بأن من بنى حائطا جعل وجه الحائط إليه
ولنا عموم قوله عليه السلام [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ] ولأن وجه الحائط ومعاقد القمط إذا كانا شريكين فيه لا بد من أن يكون إلى أحدهما إذ لا يمكن كونه إليهما جميعا فبطلت دلالته كالتزويق ولأنه يراد للزينة فأشبه التزويق وحديثهم لا يثبته أهل النقل وإسناده مجهول قاله ابن المنذر قال الشالنجي : ذكرت هذا الحديث ل أحمد فلم يقنعه وذكرته ل إسحاق بن راهويه فقال : ليس هذا حديثا ولم يصححه وحديث علي فيه مقال وما ذكروه من العرف ليس بصحيح فإن العادة جعل وجه الحائط إلى خارج ليراه الناس كما يلبس الرجل أحسن أثوابه أعلاها الظاهر للناس ليروه فيتزين به فلا دليل فيه

فصل : لا ترجع الدعوى بالتزويق والتحسين
فصل : ولا ترجح الدعوى بالتزويق والتحسين ولا يكون أحدهما له على الآجر سترة غير مبنية عليه لأنه مما يتسامح به ويمكن إحداثه

فصل : إن تنازع صاحب العلو والسفل في حوائط السفلاني فهو لصاحب السفل
فصل : وإن تنازع صاحب العلو والسفل في حوائط البيت السفلاني فهي لصاحب السفل لأنه المنتفع بها وهي من جملة البيت فكانت لصاحبه وإن تنازعا حوائط العلو فهي لصاحب العلو لذلك وإن تنازعا السقف تحالفا وكان بينهما وبهذا قال الإمام الشافعي وقال أبو حنيفة : هو لصاحب السفل لأن السقف على ملكه فكان القول قوله كما لو تنازعا سرجا على دابة أحدهما كان القول قول صاحبها وحكي عن مالك أنه لصاحب السفل وحكي عنه أنه لصاحب العلو لأنه يجلس عليه ويتصرف فيه ولا يمكنه السكنى إلا به ولنا أنه حاجز بين ملكيهما ينتفعان به غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان فكان بينهما كالحائط بين الملكين وقولهم هو على ملك صاحب السفل يبطل بحيطان العلو ولا يشبه السرج على الدابة لأنه لا ينتفع به غير صاحبها ولا يراد إلا لها فكان في يده وهذا السقف ينتفع به كل واحد منهما لأنه سماء صاحب السفل يظله وأرض صاحب العلو تقله فاستويا فيه

فصل : إن تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة
فصل : وإن تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها فإن لم يكن تحتها مرفق لصاحب السفل كسلم مسمرا أو دكة فهي لصاحب العلو وحده لأن له اليد والتصرف وحده لأنها مصعد صاحب العلو لا غير والعرضة التي عليها الدرجة له أيضا لانتفاعه بها وحده وإن كان تحتها بيت بنيت لأجله لتكون مدرجا للعلو فهي بينهما لأن يديهما عليها ولأنها سقف للسفلاتي وموطئ للفوقاني فهي كالسقف الذي بينهما وإن كان تحتها طاق صغير لم تبن الدرجة لأجله وإنما جعل مرفقا يجعل فيه جب الماء ونحوه فهي لصاحب العلو لأنها بنيت لأجله وحده ويحتمل أن يكون بينهما لأن يدهما عليها وانتفاعهما حاصل بها فهي كالسقف

فصل : ولو تنازعا مسناة بين أحدهما وأرض الآخر تحالفا
فصل : ولو تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر تحالفا وكانت بينهما لأنها حاجز بين ملكيهما فهي كالحائط بين الملكين

فصل : إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم وامتنع الآخر فهل يجبر الممتنع
فصل : إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم فطلب أحدهما إعادته وأبى الآخر فهل يجبر الممتنع على إعادته قال القاضي : فيه روايتان إحداهما يجبر نقلها ابن القاسم وحرب وسندي قال القاضي : هي أصح وقال ابن عقيل : وعلى ذلك أصحابنا وبه قال مالك : في إحدى روايتيه و الشافعي في قديم قوليه واختاره بعض أصحابه وصححه لأن في ترك بنائه إضرارا فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما وعلى النقض إذا خيف سقوطه عليهما ولقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] وهذا وشريكه يتضرران في ترك بنائه والرواية الثانية : لا يجبر نقل عن أحمد ما يدل على ذلك وهو أقوى دليلا ومذهب أبي حنيفة لأنه ملك لا حرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه كما لو انفرد به ولأنه بناء حائط فلم يجبر عليه كالإبتداء ولأنه لا يخلو إما أن يجبر على بنائه لحق نفسه أو لحق جاره أو لحقيهما جميعا : لا يجوز أن يجبر عليه لحق نفسه بدليل ما لو انفرد به ولا لحق غيره كما لو انفرد به جاره فإذا لم يكن كل واحد منهما موجبا عليه فكذلك إذا اجتمعا وفارق القسمة فإنها دفع للضرر عنهما بما لا ضرر فيه والبناء فيه مضرة لما فيه من الغرامة وإنفاق ماله ولا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه إجباره على إزالته بما فيه ضرر بدليل قسمة ما في قسمته ضرر ويفارق هدم الحائط إذا خيف سقوطه لأنه يخاف سقوط حائطه على ما يتلفه فيجبر على ما يزيل ذلك ولهذا يجبر عليه وإن انفرد بالحائط بخلاف مسئلتنا ولا نسلم أن في تركه إضرارا فإن الضرر إنما حصل بانهدامه وإنما ترك البناء ترك لما يحصل النفع به ولهذا لا يمنع الإنسان منه بدليل حالة الابتداء وإن سلمنا أنه إضرار لكن في الإجبار إضرار ولا يزال الضرر بالضرر وقد يكون الممتنع لا نفع له في الحائط أو يكون الضرر عليه أكثر من النفع أو يكون معسرا ليس معه ما يبني به فيكلف الغرامة مع عجزه عنها فعل هذه الرواية إذا امتنع أحدهما لم يجبر فإن أراد شريكه البناء فليس له منعه منه لأن له حقا في الحمل ورسما فلا يجوز منعه منه وله بناؤه بانقاضه إن شاء وبناؤه بآلة من عنده فإن بناه بآلته وإنقاضه فالحائط بينهما على الشركة كما كان لأن المنفق عليه إنما أنفق على التآلف وذلك أثر لا عين يملكها وإن بناه بآلة من عنده فالحائط ملكه خاصة وله منع شريكه من الإنتفاع به وضع خشبه ورسومه عليه لأن الحائط له وإذا أراد نقضه فإن كان بناه بآلته لم يملك نقضه لإنه ملكها فلم يكن له التصرف فيه بما فيه مضرة عليهما وإن بناه بآلة من عنده فله نقضه لأنه ملكه خاصة فإن قال شريكه أنا أدفع إليك نصف قيمة البناء ولا تنقصه لم يجبر لأنه لما لم يجبر على البناء لم يجبر على الإبقاء وإن أراد غير الباني نقضه إو إجبار بانيه على نقضه لم يكن له ذلك على الروايتين جميعا لأنه إذا لم يملك منعه من بنائه فلأن لا يملك إجباره على نقضه أولى فإن كان له على الحائط رسم انتفاع ووضع خشب قال : له أما أن تأخذ مني نصف قيمته وتمكنني من انتفاعي ووضع خشبي وأما أن تقلع حائطك لنعيد البناء بيننا فيلزم الآخر إجابته لأنه لا يملك إبطال رسومه وانتفاعه ببنائه وإن لم يرد الإنتفاع به فطالبه الباني بالغرامة أو القيمة لم يلزمه ذلك لأنه إذا لم يجبر على البناء فأولى أن لا يجبر على الغرامة إلا أن يكون قد أذن في البناء والإنفاق فيلزمه ما أذن فيه فأما على الرواية الأولى فمتى لمتنع أجبره الحاكم على ذلك فغن لم يفعل أخذ الحاكم من ماله وأنفق عليه وإن لم يكن له مال فأنفق عليه الشريك بإذن الحاكم أو إذن الشريك رجع عليه متى قدر وإن أراد بناءه لم يملك الشريك منعه وما أنفق أن تبرع به لم يكن له الرجوع به وإن نوى الرجوع به فهل له الرجوع بذلك ؟ يحتمل وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وإن بناه لنفسه بآلته فهو بينهما وإن بناه بآلة من عنده فهو له خاصة فإن أراد نقضه فله ذلك إلا أن يدفع إليه شريكه نصف قيمته فلا يكون له نقضه لأنه إذا أجبر على بنائه فأولى أن يجبر على إبقائه

فصول : فإن لم يكن بين ملكيهما حائط قديم فطلب أحدهما من الآخر مباناته فامتنع فلم يجبر عليه وفي السقف روايتان والحائط بين البيتين لم يجبر
فصل : فإن لم يكن بين ملكيهما حائط قديم فطلب أحدهما من الآخر مباناته حائطا يحجز بين ملكيهما فامتنع لم يجبر عليه رواية واحدة وإن أراد البناء وحده لم يكن له البناء إلا في ملكه خاصة لأنه لا يملك التصرف في ملك جاره المختص به ولا في الملك المشترك بغير ماله فيه رسم وهذا لا رسم له ولا أعلم في هذا خلافا
فصل : فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السقف الذي بينهما فطلب أحدهما المباناة من الآخر فامتنع فهل يجبر الممتنع على ذلك ؟ على روايتين كالحائط بين البيتين و للشافعي قولان كالروايتين وإن انهدمت حيطان السفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها فعلى روايتين
أحدهما : يجبر وهو قول مالك و أبي ثور وأحد قولي الشافعي فعلى هذه الرواية يجبر على البناء وحده لأنه ملكه خاصة
والثانية : لا يجبر وهو قول أبي حنيفة وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الروايتين جميعا فإن بناه بآلته فهو على ما كان وإن بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد لا ينتفع به صاحب السفل يعني حتى يؤدي القيمة فيحتمل أن لا يسكن وهو قول أبي حنيفة لأن البيت إنما يبنى للسكنى فلم يملكه كغيره ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح الطاق ويكون له السكنى من غير تصرف في ملك غيره وهذا مذهب الشافعي لأن السكنى إنما هي إقامته في فناء الحيطان من غير تصرف فيها فأشبه الإستظلال بها من خارج فأما أن طالب صاحب السفل بالبناء وأبى صاحب العلو ففيه روايتان
إحداهما : لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشافعي لأن الحائط ملك صاحب السفل مختص به فلم يجبر غيره على بنائه ولا المساعدة فيه كما لو لم يكن عليه علو
والثانية : يجبر على مساعدته والبناء معه وهو قول أبي الدرداء لأنه حائط يشتركان في الانتفاع به أشبه الحائط بين الدارين
فصل : فإن كان بين البيتين حائط لأحدهما فانهدم فطلب أحدهما من الآخر بناءه أو المساعدة في بنائه فامتنع لم يجبر لأنه إن كان الممتنع مالكه لم يجبر على بناء ملكه المختص به كحائط الآخر وإن كان الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه ولا يلزم على هذا حائط السفل حيث يجبر صاحبه على بناءه مع اختصاصه بملكه لأن الظاهر أن صاحب العلو ملكه مستحقا لإبقائه على حيطان السفل دائما فلزم صاحب السفل تمكينه مما يستحقه وطريقه البناء فلذلك وجب بخلاف مسئلتنا وإن أراد صاحب الحائط بناءه أو نقضه بعد بنائه لم يكن لجاره منعه لأنه ملكه خاصة وإن أراد جاره بناءه أو نقضه أو التصرف فيه لم يملك ذلك لأنه لا حق له فيه

فصل : ومتى هدم أحد الشريكين الحائط المشترك والسقف
فصل : ومتى هدم أحد الشريكين الحائط المشترك أو السقف الذي بينهما نظرت فإن خيف سقوطه ووجب هدمه فلا شيء على هادمه ويكون كما لو انهدم بنفسه لأنه فعل الواجب وأزال الضرر الحاصل بسقوطه وإن هدمه لغير ذلك فعليه إعادته سواء هدمه لحاجة أو غيرها وسواء التزم إعادته أو لم يلتزم لأن الضرر حصل بفعله فلزمه إعادته

فصل : فإن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين
فصل : فإن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين وملكه بينهما الثلث والثلثان لم يصح لأنه يصالح على بعض ملكه ببعض فلم يصح كما لو أقر له بدار فصالحه على سكناها ولو اتفقا على أن يحمله كل واحد منهما لم يجز لجهالة الحمل فإنه يحمله من الأثقال ما لا طاقة له بحمله وإن اتفقا على أن يكون بينهما نصفين جاز

فصل : إن كان بينهما نهر أو قناة أو دولاب
فصل : فإن كان بينهما نهر أو قناه أو دولاب أو ناعورة أو عين فاحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع منهما روايتان وحكي عن أبي حنيفة أنه يجبر ههنا على الإنفاق لأنه لا يتمكن شريكه من مقاسمته فيضر به بخلاف الحائط فإن يمكنهما قسمة العرصة والأولى التسوية لأن في قسمة العرصة إضرارا بهما والإنفاق أرفق بهما فكانا سواء والحكم في الدولاب والناعورة كالحكم في الحائط على ما ذكرناه وأما البئر والنهر فلكل واحد منهما الإنفاق عليه وإذا أنفق عليه لم يكن له منع الآخر من نصيبه من الماء لأن الماء ينبع من ملكيهما وإنما أثر أحدهما في نقل الطين منه وليس له فيه عين مال فأشبه الحائط إذا بناه بآلته والحكم في الرجوع بالنفقة كحكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى

فصل : إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ
فصل : إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله فللقريب من الباب نقل بابه إلى ما يلي باب الزقاق لأن له الإستطراق إلى بابه القديم فقد نقص من استطراقه ومتى أراد رد بابه إلى موضعه الأول كان له لأنه حقه لم يقسط وإن أراد نقل بابه تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأنه يقدم بابه إلى موضع لا إستطراق له فيه ويحتمل جواز ذلك لأنه كان له أن يجعل بابه في أول البناء في أي موضع شاء فتركه في موضع لا يسقط حقه كما أن تحويله بعد فتحه لا يسقط ولأن له أن يرفع حائطه كله فلا يمنع من رفع موضع الباب وحده فأما صاحب الباب الثاني فإن كان في داخل الدرب باب لآخر فحكمه في التقديم والتأخير حكم صاحب الباب الأول سواء وإن لم يكن له ثم باب آخر كان له تحويل بابه حيث شاء لأنه على الأول لا منازع له فيما تجاوز الباب الأول وعلى الإحتمال الذي ذكرناه لكل واحد منهما ذلك ولو أراد كل واحد منهما أن يفتح في داره بابا آخر أو يجعل داره دارين يفتح لكل واحدة منهما بابا جاز إذا وضع البابين في موضع استطراقه وإن كان ظهر دار أحدهما إلى شارع نافذا وزقاق نافذ ففتح في حائطه بابا إليه جاز لأنه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه فإن قيل في هذا إضرارا بأهل الدرب لأنه يجعله نافذا يستطرق إليه من الشارع قلنا لا يصير الدرب نافذا وإنما تصير داره نافذة وليس لأحد استطراق داره فأما إن كان بابه في الشارع وظهر داره إلى الزقاق الذي لا ينفذ فأراد أن يفتح بابا إلى الزقاق للآستطراق لم يكن له ذلك لأنه ليس له حق في الدرب الذي قد تعين عليه ملك أربابه ويحتمل الجواز كما ذكرنا في الوجه الذي قد تقدم وإن أراد أن يفتح فيه بابا لغير الإستطراق أو يجعل له بابا يسمره أو شباكا جاز لأنه لما كان له رفع الحائط بجملته فبعضه أولى قال ابن عقيل : ويحتمل عندي أنه لا يجوز لأن شكل الباب مع تقادم العهد ربما استدل به على حق الإستطراق فيضر بأهل الدرب بخلاف رفع الحائط فإنه لا يدل على شيء

فصل إذا كان لرجل داران
فصل : وإذا كان لرجل داران متلاصقان ظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى وباب كل واحدة منهما في زقاق غير نافذ فرفع الحاجز بينهما وجعلهما دارا واحدة جاز وإن فتح من كل واحدة منهما بابا إلى الأخرى ليتمكن من التطرق مكن كل واحدة منهما إلى كلا الدارين لم يجز ذكره القاضي لأن ذلك يثبت الإستطراق في الدرب الذي لا ينفذ من دار لم يكن لها فيه طريق ولأن ذلك ربما أدى إلى إثبات الشفعة في قول من يثبتها بالطريق لكل واحدة من الدارين في زقاق الأخرى ويحتمل جواز ذلك لأن له رفع الحاجز جميعه فبعضه أولى وهذا أشبه وما ذكرناه للمنع منتقص بما إذا رفع الحائط جميعه وفي كل موضع قلنا ليس له فعله إذا صالحه أهل الدرب بعوض معلوم أو أذنوا له بغير عوض جاز

فصل : إذا تنازع صاحب البابين في الدرب وتداعياه
فصل : إذا تنازع صاحب البابين في الدرب وتداعياه ولم يكن فيه باب لغيرهما ففيه ثلاثة أوجه أحدها : أنه يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الذي يلي أوله بينهما لأن لهما الإستطراق فيه جميعا وما بعده إلى صدر الدرب للآخر لأن الإستطراق في ذلك له وحده فله اليد والتصرف والوجه الثاني : إن من أوله إلى أقصى حائط الأول بينهما لأن ما يقابل ذلك لهما التصرف فيه بناء على أن للأول أن يفتح بابه فيما شاء من حائطه وما بعد ذلك للثاني لأنه ليس بفناء للأول ولا له فيه استطراق والثالث : يكون بينهما لأن لهما جميعا بدا وتصرفا وهكذا الحكم فيما إذا كان لرجل علو خان ولآخر سفله ولصاحب العلو درجة في أثناء صحن الخان فاختلفا في الصحن فما كان من الدرجة إلى باب الخان بينهما وما وراء ذلك إلى صدر الخان على الوجهين أحدهما : هو لصاحب السفل والثاني : هو بينهما فإن كانت الدرجة في صدر الصحن فالصحن بينهما لوجود اليد والتصرف منهما جميعا فعلى الوجه الذي يقول أن صدر الدرب مختص بصاحب الباب الصدراني له أن يستبدل بما يختص به منه بأن يجعله دهليزا لنفسه أو يدخله في داره على وجه لا يضر بجاره ولا يضع على حائطه شيئا لأن ذلك ملك له ينفرد به

فصل : ليس للرجل التصرف بملكه تصرفا يضر بجاره
فصل : وليس للرجل التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره نحو أن يبني فيه حماما بين الدور أو يفتح خبازا بين العطارين أو يجعله دكان قصارة يهز الحيطان ويخربها أو يحفر بئرا إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها وبهذا قال بعض أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى لا يمنع وبه قال الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة : لأنه تصرف في ملكه المختص به ولم يتعلق به حق لغيره فلم يمنع منه كما لو طبخ في داره أو خبز فيها وسلموا أنه يمنع الدق الذي يهدم الحيطان وينثرها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأن هذا إضرار بجيرانه فمنع منه كالدق الذي يهز الحيطان وينثرها وكسقي الأرض الذي يتعدى إلى هدم حيطان جاره أو إشعال نار تتعدى إلى إحراقها قالوا : ههنا تعدت النار التي أضرمها والماء الذي أرسله فكان مرسلا لذلك في ملك غيره فأشبه ما لو أرسله إليها قصدا قلنا : والدخان هو أجزأ الحريق الذي أحرقه فكان مرسلا له في ملك جاره فهو كأجزاء النار والماء وأما دخان الخبز والطبيخ فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه وتدخل المسامحة

فصل : إذا كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر
فصل : وإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الاخر فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه على وجه يشرف على سطح جاره إلا أن يبني سترة تستره وقال الشافعي : لا يلزمه سترة لأن هذا حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما عليه كالأسفل
ولنا أنه إضرار بجاره فمنع منه كدق يهز الحيطان وذلك لأنه يكشف جاره ويطلع على حرمه فأشبه ما لو اطلع عليه من صئر بابه أو خصاصه [ وقد دل على المنع من ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم لو أن رجلا أطلع إليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ] ويفارق الأسفل فإن تصرفه لا يضر بالأعلى ولا يكشف داره

فصلان : إذا كانت بينهما عرضه حائط فاتفقا على قسمها طولا وإن كان بينهما حائط فاتفقا على على قسمته طولا
فصل : إذا كانت بينهما عرصة حائط فاتفقا على قسمها طولا جاز ذلك سواء على قسمها طولا أو عرضا لأنها ملكهما ولا تخرج عنهما وإن اختلفا فطلب أحدهما قسمها وهو ان يجعل له نصف الطول في جميع العرض وللأخر مثله فقال أصحابنا : يجبر الممتنع على القسمة وهو مذهب الشافعي لأن ذلك لا يضر فإذا اقتسما اقترعا فكان لكل واحد منهما ما تخرج به القرعة فإن كان مبنيا فلا كلام وإن كان غير مبني كان لكل واحد منهما أن يبني في نصيبه وإن أحب أن يدخل بعض عرصته في داره فعل وإن أحب أن يزيد في حائطه من عرصته فعل ويحتمل أن لا يجبر على القسمة لأنها توجب اختصاص كل واحد منهما ببعض الحائط المقابل لملك شريكه وزوال ملك شريكه فيتضرر لأنه لا يقدر على حائط يستر ملكه وربما اختار أحدهما أن لا يبني حائطه فيبقى ملك كل واحد منهما مكشوفا أو يبينه ويمنع جاره من وضع خشبه عليه وهذا ضرر لا يرد الشرع بالإجبار عليه فإن قيل : فإذا كان مشتركا تمكن أيضا من منع شريكه وضع خشبه عليه قلنا : إذا كان له عليه رسم وضع خشبه أو أنتفاع به لم يملك منعه من رسمه وههنا يملك منعه بالكلية وأما إن طلب قسمها عرضا وهو أن يجعل لكل واحد منهما نصف العرض في كمال الطول نظرنا فإن كانت العرصة لا تتسع لحائطين لم يجبر الممتنع من قسمها واختلفوا واختار ابن عقيل أنه يجبر وهو ظاهر كلام الشافعي لأنه عرصة فأجبر على قسمها ضررا فلم يجبر الممتنع من قسمها عليه كالدار الصغيرة وما ذكروه ينتقض بذلك وإن كانت تتسع لحائطين بحيث يحصل لكل واحد منهما ما يبني فيه حائطا ففي إجبار الممتنع وجهان أحدهما : يجبر قاله أبو الخطاب لأنه لا ضرر في القسمة لكون كل واحد منهما يحصل له ما يندفع به حاجته فأشبه عرصة الدار التي يحصل لكل واحد منهما ما يبني فيه دارا والثاني : لا يجبر ذكره القاضي لأن هذه القسمة لا تقع فيها قرعة لأننا لو أقرعنا بينهما لم نأمن أن تخرج قرعة كل واحد منهما على ما يلي ملك جاره فلا ينتفع به فلو أجبرناه على القسمة لأجبرناه على أخذ ما يلي داره من غير قرعة وهذا لا نظير له ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ومتى اقتسما العرصة طولا فبنى كل واحد منهما لنفسه حائطا وبقيت بينهما فرجة لم يجبر أحدهما على سدها ولم يمنع من سدها لأن ذلك يجري مجرى بناء الحائط في عرصته
فصل : وإن كان بينهما حائط فاتفقا على قسمته طولا جاز ويعلم بين نصيبيهما بعلامة وإن اتفقا على قسمته عرضا فقال أصحابنا : يجوز القسمة لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأشبه العرصة ويحتمل أن لا تجوز القسمة لأنها لا تكون إلا بتمييز نصيب أحدهما من الآخر بحيث يمكنه الانتفاع بنصيبه دون نصيب صاحبه وههنا لا يتميز ولا يمكن انتفاع أحدهما بنصيبه منفردا لأن إن وضع خشبه على أحد جانبي الحائط كان ثقله على الحائط كله وإن فتح فيه طاقا يضعفه ضعف كله وإن وقع بعضه تضرر النصيب الآخر وإن طلب أحدهما قسمه وأبى الآخر فذكر القاضي أن الحكم في الحائط كالحكم في عرصته سواء ولا يجبر على قسم الحائط إلا أن يطلب أحدهما قسمه طولا ويحتمل أن لا يجبر على قسمه أيضا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنهما إن قطعاه بينهما فقد أتلفا جزءا من الحائط ولا يجبر الممتنع من ذلك كما لو كان بينهما ثوب فطلب أحدهما قطعه وإن لم يقطع وعلما علامة على نصفه كان انتفاع أحدهما بنصيبه انتفاعا بنصيب الآخر ووجه الأول أنه يجبر على قسم الدار وقسم حائطها المحيط بها وكذلك قسم البستان وحائطه ولا يجبر على القطع المضر بل يعلمه بخط بين نصيبهما ولا يلزم من ذلك انتفاع أحدهما بنصيب الآخر وإن اتصل به بدليل الحائط المتصل في دارين والله أعلم

كتاب الحوالة والضمان
الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ] متفق عليه وفي لفظ [ من أحيل بحقه على مليء فليحتل ] وأجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة وقد قيل إنها بيع فإن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه وجاز تأخير القبض رخصة لأنه موضوع على الرفق فيدخلها خيار المجلس لذلك والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره لأنها لو كانت بيعا لما جازت لكونها بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض لأنه بيع مال بجنسه ولجازت بلفظ البيع ولجازت بين جنسين كالبيع كله ولأن لفظها يشعر بالتحول لا بالبيع فعلى هذا لا يدخلها خيار وتلزم بمجرد العقد وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله ولا بد فيها من محيل ومحتال ومحال عليه ويشترط في صحتها رضى المحيل بلا خلاف فإن الحق عليه ولا يتعين عليه جهة قضائه وأما المحتال والمحال عليه فلا يعتبر رضاهما على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

مسألة : من أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرض فقد برىء المحيل أبدا
مسألة : قال : ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي فقد برىء المحيل أبدا
من شرط صحة الحوالة شروط أربعة أحدهما : تماثل الحقين لأنهما تحويل للحق ونقل له فينقل على صفته ويعتبر تماثلهما في أمور ثلاثة أحدهما : الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب ومن عليه بفضة ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو عليه فضة بذهب لم يصح
الثاني : الصفة فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح
الثالث : الحلول والتأجيل ويعتبر إتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما إلى شهرين لم تصح الحوالة ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل ولأنه شرط ما لو كان ثابتا في نفس الأمر لم تصح الحوالة فكذلك إذا شرطه وإذا اجتمعت هذه الأمور وصحت الحوالة وتراضيا بأن يدفع المحال عليه خيرا من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة أو رضي من عليه المؤجل بتعجيله أو رضي من له الحال بأنظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض ففي الحوالة أولى وإن مات المحيل أو المحال فالأجل بحاله وإن مات المحال عليه ففي حلول الحق روايتان مضى ذكرهما
الشرط الثاني : أن تكون على دين مستقر ولا يعتبر أن يحيل بدين مستقر إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه يعرض الفسخ لانقطاع المسلم فيه ولا تصح الحوالة به لأنهما لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ] ولا تصح الحوالة على المكاتب بمال الكتابة لأنه غير مستقر فإن له أن يمتنع من إدائه ويسقط بعجزه وتصح الحوالة عليه بدين غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ويكون ذلك بمنزلة القبض وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لأنه غير مستقر وإن أحالها الزوج به صح لأنه له تسليمه إليها وحوالته به تقوم مقام تسليمه وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح في قياس ما ذكرنا وإن أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء وله الوفاء قبل الإستقرار وإن أحال البائع بالثمن على المشتري ثم ظهر على عيب لم يتبين ان الحوالة كانت باطلة لأن الثمن كان ثابتا مستقرا والبيع كان لازما وإنما ثبت الجواز عند العلم بالعيب بالنسب إلى المشتري ويحتمل أن تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب المبيع وقد كان موجودا وقت الحوالة وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها أو المشتري يفسخ البيع وبرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه ففيه وجهان أحدهما : تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها ويرجع المحيل بدينه على المحال عليه والثاني : لا تبطل لأن الحق انتقل عن المحيل فلم يعد إليه وثبت للمحتال فلم يزل عنه ولأن الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحتال دينه فيرجع عليه به و ] أخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر وإن كان بعد القبض لم يبطل وجها واحدا ويرجع المحيل على المحتال به

فصول : إن أمال من لا دين له عليه رجلا على الآخر له عليه دين
فصل : وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة تثبت فيها أحكامها لأن الحوالة مأخوذة من تحول الحق وانتقاله ولا حق ههنا ينتقل ويتحول وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في المعنى وهو إستحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحيل وإن أحال من عليه دين على من دين عليه فليست حوالة أيضا نص عليه أحمد فلا يلزم المحال عليه الإداء ولا المحتال قبول ذلك لأن الحوالة معاوضة ههنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل لأنه قرض وإن أبرأه ولم يقبض منه شيئا لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لا دين عليه وإن قبض منه الدين ثم وهبه إياه رجع المحال عليه على المحيل به لأنه قد غرم عنه وإنما عاد إليه المال يعقد مستأنف ويحتمل أن لا يرجع عليه لكونه ما غرم عنه شيئا وإن أحال من لا دين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين ولم يوجد واحد منهم
فصل : الشرط الثالث أن تكون بمال معلوم لأنها إن كانت بيعا فلا تصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم والجهالة تمنع منه فتصبح بكل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة ومن شرط الحوالة تساوي الدينين فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود ففي صحة الحوالة به وجهان
أحدهما : لا تصح لأن المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمنه بمثله في الإتلاف وهذا ظاهر مذهب الشافعي والثاني : تصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة فأشبه ماله مثل ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقتضي به قرض هذه الأموال فإن كان عليه ابل من الدية وله على آخر مثلها في السن فقال القاضي : تصح لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر الصفات وقال أبو الخطاب : لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن بمثلها في الإتلاف ولا تثبت في الذمة سلما في رواية وإن كان عليه إبل من دية وله على آخر مثلها قرضا فأحاله عليه فإن قلنا يرد القرض قيمتها لم تصح الحوالة لاختلاف الجنس وإن قلنا يرد مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدين وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض وإن كانت بالعكس فاحتال المقرض بابل الدية لم تصح لإننا إن قلنا تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك
فصل : الشرط الرابع أن يحيل برضائه لأن الحق عليه فلا يلزمه إداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه ولا خلاف في هذا فإذا اجتمعت شروط الحوالة وصحت برئت ذمة المحيل في قول عامة الفقهاء إلا ما يروى عن الحسن أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه وعن زفر أنه قال : لا تنقل الحق وأجراها مجرى الضمان وليس بصحيح لأن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه إذا ثبت أن الحق انتقل فمتى رضي بها المحتال ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبدا سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غير ذلك هذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر وعن أحمد ما يدل على أنه إذا كان المحال عليه مفلسا ولم يعلم المحتال بذلك فله الرجوع إلا أن يرضى بعد العلم وبه قال جماعة أصحابنا ونحوه قول مالك : لأن الفلس عيب في المحال عليه فكان له الرجوع كما لو اشترة سلعة فوجدها معيبة ولأن المحيل غره فكان له الرجوع كما لو دلس المبيع وقال شريح و الشعبي و النخعي : متى أفلس أو مات رجع على صاحبه وقال أبو حنيفة : يرجع في حالين إذا مات المحال عليه مفلسا وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم وقال أبو يوسف ومحمد : يرجع عليه في هاتين الحالتين وإذا حجر عليه المفلس لأنه روى عن عثمان أن سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال عليه مفلسا فقال : يرجع بحقه لا توى على مال أمريء مسلم ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه
ولنا أن حزنا جد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين فأحاله به فمات المحال عليه فأخبره فقال : اخترت علينا أبعدك الله فأبعده بمجرد احتياله ولم يخبره أن له الرجوع ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن عليه ولا من يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع كما لو أبرأه من الدين وحديث عثمان لم يصح يرويه خالد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان ولم يصح سماعه منه وقد روي أنه قال : في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولا يصح ولو صلح كان قول علي مخالفا له وقولهم : أنه معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين وهو منهي عنه ويفارق المعاوضة بالثوب لأنه في ذلك قبضا يقف استقرار العقد عليه وههنا الحوالة بمنزلة القبض وإلا كان بيع دين بدين

فصل : إن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسرا رجع على المحيل
فصل : فإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسرا رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال بعضهم : لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد به وإن شرط كما لو شرط كونه مسلما ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالإعسار فيه من غير شرط بخلاف الحوالة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ المسلمون على شروطهم ] ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة فيثبت الفسخ بفواته كما لو شرط صفة في المبيع وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت بإطلاق العقد بدليل إشتراطه صفة في المبيع

فصل : لو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا
فصل : ولو لم يرض المحتال بالحوالة ثم بان المحال عليه مفلسا أو ميتا رجع على المحيل بلا خلاف فإنه لا يلزمه الإحتيال على غير مليء لما عليه فيه من الضرر وإنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقبول الحوالة إذا أحيل على مليء ولو أحاله على مليء فلم يقبل حتى أعسر فله الرجوع أيضا على ظاهر قول الخرقي لكونه اشترط في راءة المحيل إبداء رضى المحتال

مسألة : من أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال
مسألة : ومن أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال
المليء هو القادر على الوفاء جاء في الحديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن الله تعالى يقول : من يقرض المليء غير المعدم ] وقال الشاعر :
( تطيلين لياني وأنت مليئة ... وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا )
يعني قادرة على وفائي والظاهر أن الخرقي أراد بالمليء ههنا القادر على الوفاء غير الجاحد ولا المماطل قال أحمد في تفسير المليء : كان المليء عنده أن يكون مليا بماله وقوله وبدنه ونحو هذا فإذا أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما وقال أبو حنيفة : يعتبر رضاهما لأنه معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين وقال مالك و الشافعي : يعتبر رضى المحتال لأن حقه في ذمة المحيل فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عرضا فأما المحال عليه فقال مالك : لا يعتبر رضاه إلا أن يكون المحتال عدوه ولـ الشافعي في اعتبار رضائه قولان أحدهما : يعتبر وهو يحكي عن الزهري لأنه أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل والثاني : لا يعتبر لأنه أقامه في القبض مقام نفسه فلم يفتقر إلى رضى من عليه الحق كالتوكيل [ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع ] ولأن للمحيل أن يوفي الحق الذي عليه بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض فلزم المحال القبول كما لو وكل رجلا في إيفائه وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله

فصل : إذا أحال رجلا على رجل بألف فأحاله زيد على عمرو
فصل : إذا أحال رجلا على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمرو فالحوالة صحيحة لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة فصح أن يحيل به كالأول وهكذا لو أحال الرجل عمرا على زيد بما يثبت له في ذمته صح أيضا لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر

فصلان إذا اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن
فصل : إذا اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن ثم ظهر العبد حرا أو مستحقا فالبيع باطل والحوالة باطلة لأننا تبينا أنه لا ثمن على المشتري وإنما تثبت حريته ببينة أو اتفاقهم فإن اتفق المحيل والمحال عليه على حريته وكذبهما المحتال ولا بينة بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه أشبه ما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرا لم يقبل قولهما على المشتري الثاني وإن أقاما ببينة لم تسمع لأنهما كذباها بدخولهما في التبايع وإن أقام العبد ببينة بحريته قبلت وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال وادعى أن الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة وهما يدعيان بطلانها فكانت جنبته أقوى فإن أقاما البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت لأنهما لم يكذباها وإن اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد لإنه إقرار على غيرهما وتبطل الحوالة لإتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على استحقاق الرجوع والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه فلا يأخذ منه شيئا وإن اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق لإقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له الرجوع عليه
فصل : اشترى عبدا فأحال المشتري البائع بالثمن على آخر فقبضه من المحال عليه ثم رد المشتري العبد بعيب أو مقايلة أو اختلاف في ثمن فقد برىء المحال عليه لأنه قبض منه بإذنه ويرجع المشتري على البائع وإن رده قبل القبض فقال القاضي : تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال عليه ويبرأ البائع فلا يبقي له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ فيجيب أن تبطل الحوالة الذهاب حقه من المال المحال به وقال أبو الخطاب : لا تبطل الحوالة في أحد الوجهين لأن المشتري عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة المحال عليه ونقل حقه إليه نقلا صحيحا وبريء من الثمن وبريء المحال عليه من دين المشتري فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه ثم فسخ العقد لم يرجع بالثوب كذا ههنا فإن قلنا ببطلان الحوالة رجع المحيل على المحال عليه بدينه ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن قلنا لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذ البائع من المحال عليه فإن عاد البائع فأحال المشتري صح بالثمن على من أحاله المشتري عليه صح وبريء البائع وعاد المشتري إلى غريمه وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبيا على المشتري ثم رد العبد المبيع ففي الحوالة وجهان أحدهما : لا تبطل لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للأجنبي المحتال فأشبه ما لو دفعا المشتري إلى المحيل فعلى هذا يرجع المشتري على البائع بالثمن ويسلم إلى المحتال ما أحاله به والثاني : تبطل الحوالة إن كان الرد قبل القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولأنه لا فائدة في بقاء الحوالة ههنا فيعود البائع بدينه ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها وإذا قلنا لا تبطل فأحال المشتري المحال عليه بالثمن على البائع صح وبريء المشتري منهما

فصلان : إذا كان لرجل على آخر دين فأذن لآخر بقبضه
فصل : إذا كان لرجل على آخر دين فأذن لآخر في قبضه ثم اختلف هو والمأذون له فقال : وكلتك في قبض ديني بلفظ التزوكيل فقال : بل أحلتني بلفظ الحوالة أو كانت بالعكس فقال : أحلتك بدينك قال : بل وطلتني فالقول قول مدعي الوكالة منهما مع يمينه لأنه يدهعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله والأصل معه فإن كان لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن إقامة البينة عليه وإن اتفقا على أنه قال : أحلتك بالمال الذي لي قبل زيد ثم اختلفا فقال المحيل : إنما وكلتك في القبض لي وقال الآخر : بل أحلتني بديني عليك فالقول قول مدعي الحوالة في أحد الوجهين لأن الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره كما لو اختلفا في دار في يد أحدهما والثاني : القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه والمحتال يدعي نقله والمحيل ينكره والقول قول المنكر فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة لمحال عليه ويستحق مطالبته ويسقط عن المحيل وعلى الوجه الثاني : يحلف المحيل ويبقي حقه في ذمة المحال عليه وعلى كلا الوجهين إن كان المحتال قد قبض الحق من المحال عليه وتلف في يده فقد بريء كل واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه سواء تلف بتفريطه أو غيره لأنه إن تلف بتفريط وكان المحتال محقا فقد أتلف ماله وإن كان مبطلا ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر مثل ما في ذمته له فيتقاصان ويسقطان وإن تلف بغير تفريط فالمحال قد قبض حقه وتلف في يده وبريء منه المحيل بالحوالة والمحال عليه بتسلمه والمحيل يقول قد تلف المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن لم يتلف احتمل أن لا يملك المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ما له في يده وهو مستحق لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه إليه ويحتمل أن يملك أخذه منه ويملك المحتال مطالبته بدينه وقيل يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال المطالبة بدينه لاعترافه ببراءة المحيل منه بالحوالة وليس بصحيح لأن المحتال إن اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا المال منه بغير حق وأنه يستحق المطالبة به فعلى كلا الحالين هو مستحق للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه في قزلهما جميعا فلا وجه لإسقاطه ولا موضع للبينة في هذه المسألة لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع ولا فعل يرى وإنما يدعي المحيل بينة وهذا لا تشهد به البينة نفيا ولا إثباتا
فصل : وإن كانت المسألة بالعكس فقال : أحلتك بدينك فقال : بل وكلتني ففيها الوجهان أيضا لما قدمناه فإن قلنا القول قول المحيل فحلف بريء من حق المحتال وللمحتال قبض المال من المحال عليه لنفسه لأنه يجوز له ذلك بقولهما معا فإذا قبضه كان له بحقه وإن قلنا القول قول المحتال فحلف كان له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال عليه لأنه أما وكيل وأما محتال فإن قبض منه قبل أخذه من المحيل فله أخذ ما قبض لنفسه لأن المحيل يقول : هو لك والمحتال يقول : هو أمانة في يدي ولي مثله على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمنا فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه ولم يأخذ من المحيل شيئا وإن استوفى من المحيل رجع على المحال عليه في أحد الوجهين لأنه قد ثبتت الوكالة بيمين المحتال وبقي الحق في ذمة المحال عليه للمحيل والثاني لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه بريء من حقه وإنما المحتال ظلمه بأخذ ما كان عليه قال القاضي : والأول أصح وإن كان قد قبض الحوالة فتلفت في يده بتفريط أو أتلفها سقط حقه على الوجهين لأنه إن كان محقا فقد أتلف حقه وإن كان مبطلا فقد أتلف مثل دينه فيثبت في ذمته ويتقاصان وإن تلف بغير تفريط فعلى الوجه الأول يسقط حقه أيضا لأن ماله تحت يده وعلى الثاني له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع على المحال عليه لأنه يعترف ببراءته

فصل : إن اتفقا على أن المحيل قال أحلتك بدليل ثم اختلفا
فصل : وإن اتفقا على أن المحيل قال : أحلتك بدينك ثم اختلفا فقال أحدهما : هي حوالة بلفظها وقال الآخر : بل هي وكالة بلفظ الحوالة فالقول قول مدعي الحوالة وجها واحدا لأن الحوالة بدينه لا تحتمل الوكالة فلم يقبل قول مدعيها وسواء اعترف المحيل بدين المحتال أو قال : لا دين لك علي لأن قوله أحلتك بدينك اعتراف بدينه فلا يقبل جحده له بعد ذلك فأما أن يقل بدينك بل قال : أحلتك ثم قال : ليس لك علي دين وإنما عنيت التوكيل بلفظ الحوالة أو قال : أردت أن أقول وكلتك فسق لساني فقلت أحلتك وادعي المحتال أنها حوالة بدينه وأن دينه كان ثابتا على المحيل فهل ذلك اعتراف بالدين أولا ؟ فيه وجهان سبق توجيههما

فصل : إذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به
فصل : وإذا كان لرجل دين على آخر فطالبه به فقال : قد أحلت به علي فلانا الغائب وأنكر صاحب الدين فالقول قوله مع يمينه وإن كان لمن عليه الدين بينة بدعواه سمعت ببينته لإسقاط حق المحيل عليه وإن ادعى رجل أن فلانا الغائب أحالني عليك فأنكر المدعي عليه فالقول قوله فإن أقام المدعي بينة ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضي بها على الغائب ولزم الدفع إلى المحتال وإن لم يكن له بينة فأنكر المدعي عليه فهل تلزمه اليمين ؟ فيه وجهان بناء على ما لو اعترف له هل يلزمه الدفع ؟ على وجهين أحدهما : يلزمه الدفع إليه لأنه مقر بدينه عليه ووجوب دفعه إليه فلزمه الدفع إليه كما لو كانت بينة والثاني لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن من إنكار المحيل ورجوعه عليه فكان له الإحتياط لنفسه كما لو ادعى عليه أني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه وقال : لا أدفعه إليك فإذا قلنا يلزمه الدفع مع الإقرار لزمه اليمين مع الإنكار فإذا حلف بريء ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لاعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا لا تلزمه اليمين فليس للمحتال الرجوع على المحيل ثم ينظر في المحيل فإن صدق المدعي في أنه أحاله ثبتت الحوالة له لأن رضي المحال عليه لا يعتبر وإن أنكر الحوالة حلف وسقط حكم الحوالة وغن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه بالنكول واستوفي الحق منه ثم أن المحيل صدق المدعي فلا كلام وإن أنكر الحوالة فالقول قوله وله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالحق ويدعي أن المحتال ظلمه ويبقي دين المحتال على المحيل وإن كان المحيل ينكر أن له عليه دينا فالقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه لاستيفائه من المحال عليه وإن كان المحيل يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه يقر بأنه قد برىء منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه في كون المحتال قد ظلمه واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم ان المحيل قد أخذ منه أيضا بغير حق وإنه يجب عليه أن يرد ما أخذه منه إليه فينبغي أن يقبضها المحتال ويسلمها إلى المحال عليه أو يأذن للمحيل في دفعها إلى المحال عليه وإن صدق المحال عليه المحتال في الحوالة ودفع إليه فأنكر المحيل الحوالة حلف ورجع على المحال عليه والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في التي قبلها

فصل : فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين
فصل : فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم ويكون الحكم ههنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين فإن كان الألف على رجلين على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الآخر بذلك فأحاله أحدهما بالألف برئت ذمتهما معا كما لو قضاها وغن أحال صاحب الألف رجلا على أحدهما بعينه بالألف صحت الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي منهما أو من أيهما شاء صحت الحوالة أيضا عند القاضي لأنه لا فضل ههنا في نوع ولا أجل ولا عدد وإنما هو زيادة استيثاق فلم يمنع ذلك صحة الحوالة كحوالة المعسر على الملء وقال بعض أصحاب الشافعي : لا تصح الحوالة لأن الفضل قد دخلها فإن دخلها فإن المحتال ارتفق بالتخيير بالإستيفاء منهما أو من أيهما شاء فأشبه ما لو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما ألف ليستوفي من أيهما شاء والأول أصح والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أحاله بالفين أنه لا فضل بينهما في العدد ههنا وثم تفاضلا فيه ولأن الحوالة ههنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تبيين وأنه إذا قضاه أحدهما الألف فقد قضى جميع الدين وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الآخر ولو لم يكن كل واحد من الرجلين ضامنا عن صاحبه فأحال عليهما صحت الحوالة بغير اشكال لأنه لما كان له أن يستوفي الألف من واحد كان له أن يستوفي من اثنين كالوكيلين

باب الضمان مسألة : ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه
مسألة : ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه أو قال : ماأعطيته فهو علي فقد لزمه ما صح أنه أعطاه
الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت في ذمتهما جميعا ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما واشتقاقه من الضم وقال القاضي : هو مشتق من التضمين لأن ذمة الضامن تتضمن الحق والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وقال ابن عباس الزعيم الكفيل : وأما السنة فما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الزعيم غارم ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي برجل ليصلي عليه فقال : هل عليه دين ؟ قالوا نعم ديناران قال : هل ترك لهما وفاء قالوا لا فتأخر فقيل لا تصل عليه فقال : ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا أن قام أحدكم فضمنه فقام أبو قتادة فقال : هما علي يا رسول الله فصلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم ] وأجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة وإنما اختلفوا في فروع نذكرها إن شاء الله تعالى إذا ثبت هذا فإنه يقال ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير بمعنى واحد ولا بد من الضمان من ضامن ومضمون عنه ومضمون له ولا بد من رضي الضامن فإن أكره على الضمان لم يصح ولا يعتبر رضا المضمون عنه لا تعلم فيه خلافا لأنه لو قضي الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح فكذلك إذا ضمن عنه ولا يعتبر رضي المضمون له وقال أبو حنيفة و محمد : يعتبر لأنه إثبات مال لأدمي فلم يثبت إلا برضاه أو رضا من ينوب عنه كالبيع والشراء وعن أصحاب الشافعي كالمذهبين
ولنا أن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه فأجازه النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك روي عن علي رضي الله عنه : ولأنهما وثيقة لا يعتبر فيها قبض فأشبهت الشهادة ولأنه ضمان دين فأشبه ضمان بعض الورثة دين الميت للغائب وقد سلموه

فصلان : ولا يعتبر أن يعرفهما الضامن
فصل : ولا يعتبر أن يعرفهما الضامن وقال القاضي : يعتبر معرفتهما ليعلم هل المضمون عنه أهل لاصطناع المعروف إليه أو لا وليعرف المضمون له فيؤدي إليه
وذكر وجها آخر أنه تعتبر معرفة المضمون له لذلك ولا تعتبر معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة بينه وبينه ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه نحو هذه ولنا حديث علي وأبي قتادة فإنهما ضمنا لمن لم يعرفاه عمن لم يعرفاه ولأنه تبرع بالتزام مال فلم يعتبر معرفة من يتبرع له به كالنذر
فصل : وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام ( منها ) صحة ضمان المجهول لقوله ما أعطيته فهو علي وهذا مجهول فمتى قال : أنا ضامن لك مالك على فلان أو ما يقضي به عليه أو ما تقوم به البينة أو ما يقر له لك أو ما يخرج في روز مانحك صح الضمان وبهذا قال أبو حنيفة و مالك قال الثوري و الليث و ابن أبي ليلى و الشافعي و ابن المنذر : لا يصح لأنه التزام مال فلم يصح مجهولا كالثمن في المبيع
ولنا قول الله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير يختلف باختلافه وعموم قوله عليه السلام : [ الزعيم غارم ] ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول كالنذر والإقرار ولأنه يصح تعليقه بضرر وخطر وهو ضمان العهدة وإذا قال : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه أو قال : إدفع ثيابك إلى هذا الرفاء وعلي ضمانها فصح المجهول كالعتق والطلاق ( ومنها ) صحة ضمان ما لم يجب فإن معنى قوله ما أعطيته أي ما تعطيه في المستقبل بدليل أنه عطفه على من ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فيدل على أنه غيره ولو كان ما أعطيته في الماضي كان معنى المسئلتين سواء أو إحداهما داخلة في الأخرى
والخلاف في هذه المسألة ودليل القولين كالتي قبلها إلا أنهم قالوا الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضم فيه فلا يكون ضمانا قلنا قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وإن ما ثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته وهذا كاف وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه وسلم أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شيء بعد
ومنها أن الضمان إذا صح لزم الضامن أداء ما ضمنه وكان للمضمون له مطالبته ولا نعلم في هذا خلافا وهو فائدة الضمان وقد دل قول النبي صلى الله عليه و سلم [ والزعيم غارم ] واشتقاق اللفظ ( ومنها ) صحة الضمان عن كل من وجب عليه حق حيا كان أو ميتا مليئا أو مفلسا لعموم لفظه فيه وهذا قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين ساقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالأبراء ولأن ذمته قد خربت خرابا لا تعمر بعده فلم يبق فيها دين والضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزامه
ولنا [ حديث أبي قتادة وعلي فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي صلى الله عليه و سلم حضهم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله ألا قام أحدكم فضمنه ] وهذا صريح في المسألة ولأنه دين ثابت فصح ضمانه كما لو خلف وفاء ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الدين اقتضاؤه ولو ضمنه حيا ثم مات لم تبرأ ذمة الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن وفي هذا انفصال عما ذكروه ( ومنها ) صحة الضمان في كل حق أعني من الحقوق المالية الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول أو بعده لأن هذه الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع ضمانها كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار يجوز أن يسقط برد بعيب أو مقايلة وبهذا كله قال الشافعي

فصلان : فيما يصح ضمان ومن لا يصح
فصل : فيما يصح ضمانه يصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي : في أحد الوجهين لا يصح ضمانه لأنه لا يؤول إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كمال الكتابة
ولنا قول الله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ولأنه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يلزم بوجوده والضمان للمال دون العمل ويصح ضمان أرش الجناية سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو حيوانا كالديات وقال أصحاب الشافعي : لا يصح ضمان الحيوان لواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول ولأن الابل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان والعدد وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان ولأن جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة والمستقبلة مآلها إلى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب وقال القاضي : إذا ضمن نفقة المستقبل لم تلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالأعسار وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه يصح ضمانها ولنا أنه يصح ضمان ما لم يجب واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها بدليل الجعل في الجعالة والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار فأما النفقة في الماضي فإن كانت واجبة أما بحكم الحاكم بها أو قلنا بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها وإلا فلا ويصح ضمان مال السلم في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلم يجز كالحوالة به والأول أصح لأنه دين لازم فصح ضمانه كالأجرة وثمن المبيع ولا يصح ضمان الكتابة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى يصح لأنه دين على المكاتب فصح ضمانه كسائر الديون عليه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فإن للمكاتب تعجيز نفسه والامتناع عن أدائه فإذا لم يلزم الأصيل فالضمين أولى ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب والعارية وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد القولين وقال في الآخر : لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة وإنما يضمن ما ثبت في الذمة ووصفنا لها بالضمان إنما معناه أنه يلزمه قيمتها إن تلفت والقيمة مجهولة ولنا أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة وقولهم أن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإن ضمانها يصح وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو خرج مستحقا فأما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذلك على ضامنه وإن ضمنها إن تعدى فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله يدل على صحة الضمان فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب فقال له رجل : إدفع إليه ثيابك وأنا ضامن فقال له : هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله فعلى هذا إن تلف بغير تفريط منه ولا فعله لم يلزم الضامن شيء لما ذكرنا وإن تلف بفعله أو تفريط لزمه ضمانها ولزم ضامنه ذلك لأنها مضمونة على من هي في يده فلزم ضامنه كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد بينا جوازه ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع فضمانه على المشتري هو أن يصمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن وضمانه عن البائع للمشتري هو ان يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد بعيب أو أرش العيب فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة و مالك و الشافعي ومنع منه بعض الشافعية لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول وضمان عين وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعوا إلى الوثيقة على البائع والوثائق ثلاثة :
الشهادة والرهن والضمان فأما الشهادة فلا يستوفي منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقي أبدا مرهونا فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجبا حال العقد لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حالا العقد ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة فإذا خرج بعضه مستحقا لزمه بعض ما ضمنه إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده وقال الشافعي : إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شيء وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب كالجعالة وألفاظ العهدة أن يقول ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه أو يقول للمشتري ضمنت خلاصك منه أو يقول متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن وحكي أبي يوسف أنه قال : ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة والعهدة في الحقيقة هي الصك المكتوب فيه الإبتياع هكذا فسره به أهل اللغة فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفية دون اللغوية كالرواية تحمل عند اطلاقها على المزادة لا على الجمل وإن كان هو الموضوع فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر : هو باطل لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا لا يستطيع تخليصه ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبدا أو أمة وضمن له الخلاص فقال كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حرا فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص وهل يصح في العهدة على وجهين بناء على تفريق الصفقة إذا ثبت صحة ضمان العهدة فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول إن إستحقاق رجوع المشتري بالثمن لا يخلو إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المبيع من المكيل والموزون في يد البائع أو بغضب من يده أو يتقايلان فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا الإستحقاق لم يكن موجودا حال العقد وإنما ضمن الإستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه وأما إن كان بسبب مقارن نظرنا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه شيء لم يجب على الضامن بطريق الأولى وأما إن زال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم فله الرجوع إلى الضامن وهذا ضمان العهدة فإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضان أيضا لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق وعلى الرواية الأخرى يبطل العقد في الجميع ولكن استحق ردها فإن ردها كلها فالحكم كذلك وإن أمسك المملوك منها فله المطالبة بالأرش كما لو وجد بها عيبا ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط أن يرهن عنده عينها فتكفل رجل بتسليم الرهن لم تصح الكفالة لأنه لا يلزم الراهن إقباضه وتسليمه فلا يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصيل وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح سواء ضمنه البائع أو أجنبي فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يصح لأنه ضمان مجهول وضمان ما لم يجب وقد بينا جواز ذلك
فصل : فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله سواء كان رجلا أو امراة لأنه يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع ولا يصح من المجنون والمبرسم ولا من صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم كالنذر والإقرار ولا يصح من السفيه المحجور عليه ذكره أوب الخطاب وهو قول الشافعي وقال القاضي : يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أصلنا إن إقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه صح فكذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه كالبيع والشراء ولا يشبه الإقرار لأنه إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه في الصحيح من الوجهين وهو قول الشافعي وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة إقراره وتصرفاته بإذن وليه ولا يصح هذا الجمع لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح منه كالتبرع والنذر بخلاف البيع وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي : قبل بلوغي وقال المضمون له : بعد البلوغ فقال القاضي : قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد فكان القول قوله كما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان علىأهلية التصرف والظاهر أنهما لا يتصرفان إلا تصرفا صحيحا فكان قول مدعي الصحة هو الظاهر وههنا اختلفا في أهلية التصرف وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه فلا ترجع دعواه والحكم فيمن عرف لهحال جنون كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه فأما المحجور عليه لفلس فيصبح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف والحجر عليه في ماله لا في ذمته فأشبه الراهن فصح تصرفه فيما عدا الرهن فهو كما لو اقترض أو أقر اشترى في ذمته ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له وبهذا قال ابن أبي ليلى و الثوري و أبو حنيفة : ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر على السيد فيه كالإقرار بالإتلاف ووجه الأول أنه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح بغير إذن كالنكاح وقال أبو ثور : إن كان من جهة التجارة جاز وإن كان من غير ذلك لم يجز فإن ضمن فإذن سيده صح لأن بيده لو أذن له في التصرف صح قال القاضي وقياس المذهب تعلق المال برقبته وقال ابن عقيل : ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد وقال أبو الخطاب : هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده على روايتين كاستدانته فإذن سيده وقد سبق الكلام فيها فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني كما لو قال الحر : ضمنت لك الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده كالعبد القن لأنه تبرع بالتزام مال فأشبه نذر الصدقة بغير مال ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه ففيه وجهان : أحدهما لا يصح أيضا لأنه ربما أدى إلى تفويت الحرية والثاني : لا يصح لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت فحكمه حكم الصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضا فأشبه الهبة وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لأنه يصح بيعه وإقراره وتبرعه فصح ضمانه كالناطق ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال ومن لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان لأنه لا يدري بضمانه ولأنه لا يصح سائر تصرفاته فكذلك ضمانه

فصل : إذا ضمن الدين الحال مؤجلا
فصل : إذا ضمن الدين الحال مؤجلا صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلا على الضامن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن وبهذا قال الشافعي قال أحمد في رجل ضمن : ما على فلان أن يؤديه ي ثلاث سنين هو عليه ويؤديه كما ضمن ووجه ذلك ما [ روى ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما عندي شيء أعطيكه فقال : والله لا أفارقنك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل فجره إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : كم تستنظره ؟ قال شهرا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فأنا أحمل فجاء في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ومن أين أصبت هذا ؟ قال : من معدن قال لا خير فيها وقضاها عنه ] رواه ابن ماجه في سننه ولأنه ضمن مالا بعقد مؤجل فكان مؤجلا كالبيع فإن قيل فعندكم الدين الحال لا يتأجل فكيف يتأجل على الضامن أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه قلنا الحق يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان بعقد وهذا إبتداء ثبوته في حق الضامن فإنه لم يكن ثابتا عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن ما في ذمة المضمون عنه بدليل ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل إذا ثبت هذا وكان الدين مؤجلا إلى شهر فضمنه إلى شهرين لم يكن له مطالبة الضامن إلى شهرين فإن قضاه قبل الأجل فله الرجوع به في الحال على الرواية التي تقول إنه إذا قضى دينه بغير إذن رجع به لأن أكثر ما فيه ههنا أنه قضى بغير إذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع به قبل الأجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك وإن كان الدين مؤجلا فضمنه حالا لم يصر حالا ولا يلزمه إداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان إلتزام دين في الذمة فلا يجوز أن يلتزم ما لا يلزم المضمون عنه فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن الدين الحال ثابت في الذمة مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلا فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه فصح كما لو كان الدين عشرة فضمن خمسة وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاؤه إلا عند أجله فإذا ضمنه حالا التزم مكا لم يجب على المضمون فأشبه ما لو كان الدين عشرة فضمن عشرين وقيل يحتمل أن يصح ضمان الدين المؤجل حالا كما يصح ضمان الحال مؤجلا قياسا لاحدهما على الأخرى وقد فرقنا بينهما بما يمنع القياس إن شاء الله تعالى

فصل : إذا ضمن دينا مؤجلا عن إنسان فمات
فصل : وإذا ضمن دينا مؤجلا عن إنسان فمات إحداهما أما الضامن وإما المضمون عنه فهل يحل الدين على الميت منهما ؟ على روايتين تقدم ذكرهما فإن قلنا : يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن الدين لا يحل على شخص يموت غيره فإن كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الأجل فإن قضاه قبل الأجل كان متبرعا بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الأجل ؟ يخرج على الروايتين فيمن قضى بغير إذن من هو عليه وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم الدين من تركته لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته به قبل أجله وهذا مذهب الشافعي وحكي عن زفر أن لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته ولنا أنه دين مؤجل فلا تجوز مطالبته به قبل الأجل كما لو يمت وقوله : أدخله فيه قلنا : إنما أدخله في المؤجل وحلوله بسبب من جهته فهو كما لو قضى قبل الأجل

فصل : ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما
مسألة : قال : ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن
يعني أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت الحق في ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أصحاب الرأي وقال أبو ثور : الكفالة والحوالة سواء وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود واحتجوا بما [ روى أبو سعيد الخدري قال : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في جنازة فلما وضعت قال هل على صاحبكم من دين ؟ قالوا : نعم درهمان فقال : صلوا على صاحبكم فقال علي : هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال جزاك الله خيرا عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك فقيل يا رسول الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة ؟ فقال : للناس عامة ] رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه بريء بالضمان وروى الإمام أحمد في المسند [ عن جابر قال : توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه و سلم ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال : أعليه دين ؟ قلنا ديناران فانصرف فتحملهما أبو قتادة فقال : الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وجب الغريم وبريء الميت منهما ؟ قال : نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك : ما فعل الديناران قال : إنما مات أمس قال : فعاد إليه من الغد فقال : قد قضيتهما فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الآن بردت جلدته وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله : وبريء الميت منهما ] ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه كالمحال به وذلك لأن الدين الواحد لا يحل في محلين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ] وقوله في خبر أبي قتادة [ الآن بردت جلدته ] حين أخبره أنه قضى دينه ولأنها وثيقة فلا تنقل الحق كالشهادة وأما صلاة النبي صلى الله عليه و سلم على المضمون عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء وإنما كان النبي صلى الله عليه و سلم يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف واء وأما قوله : لعلي فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلى الله عليه و سلم فلما ضمنه فكه فكه من ذلك أو مما في معناه وقوله بريء الميت منهما صرت أنت المطالب بهما وهذا على سبيل التأكيد لثبوت الحق في ذمته ووجوب الأداء عليه بدليل قوله في سياق الحديث حين أخبره بالقضاء الآن بردت عليه جلدته ويفارق الضمان الحوالة فإن الضمان مشتق من الضم فيقتضي الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول فتقتضي تحول الحق من محله إلى ذمة المحال عليه وقولهم أن الدين الواحد لا يحل في محلين قلنا يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن وقال أبو بكر عبد العزيز : أما الحي فلا يبرأ بمجرد الضمان رواية واحدة وأما الميت ففي براءته بمجرد الضمان روايتان احدهما : يبرأ بمجرد الضمان نص عليه أحمد في رواية يوسف بن موسى لما ذكرنا من الخبرين ولأن فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان بخلاف الحي فإن المقصود من الضمان في حقه الاشتيثاق وثبوته في الذميتين آكد في الاستيثاق بالحق والثانية : لا يبرأ إلا بالأداء لما ذكرناه ولأنه ضمان فلا يبرأ به المضمون عنه كالحي
فصل : ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه لأنه وثيقة فلا يستوفي الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل كالرهن
ولنا أن الحق ثابت في ذمة الضامن فملك مطالبته كالأصيل ولأن الحق ثابت في ذمتهما فملك مطالبة من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن لأنه مال من عليه الحق وليس بذي ذمة يطالب إنما من عليه الدين ليقضى منه أو من غيره

فصل : إن أمر صاحب الدين المضمون عنه
فصل : وإن أبرأ صاحب الدين المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا تعلم فيه خلافا لأنه تبع ولأنه وثيقة فإذا بريء الأصل زالت الوثيقة كالرهن وإن أبرأ الضامن لم تبرأ ذمة المضمون عنه لأنه أصل فلا يبرأ بإبراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصيل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه وأيهما قضى الحق برئا جميعا من المضمون له لأنه حق واحد فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى الحق الذي به رهن وإن أحال الغريم برئا جميعا لأنه حق واحد فإذا استوفى مرة زال تعلقه بهما كما استوفى دين الرهن وإن أحال أحدهما الغريم برئا جميعا لأن الحوالة كالقضاء

فصل : إن ضمن الضامن ضامن آخر صح
فصل : وإن ضمن الضامن آخر صح لأنه دين لازم في ذمته فصح ضمانه كسائرالديون ويثبت الحق في ذمم ثلاثة أيهم قضاه برئت ذممهم كلها لأنه حق واحد فإذا قضي مرة لم يجب قضاؤه مرة أخرى وإن أبرأ الغريم المضمون عنه بريء الضامنان لأنهما فرع وإن أبرأ الضامن الأول برىء الضامنان كذلك ولم يبرأ المضمون عنه لما تقدم وإن أبرأ الضامن الثاني بريء وحده ومتى حصلت براءة الذمة بالابراء غرم والكفالة كالضمان في هذا المعنى جميعه وتزيد بأنه إذا مات المكفول عنه برىء كفيلاه وإن مات الكفيل الأول برىء الثاني دون المكفول عنه لأن الوثيقة انحلت من غير استيفاء فأشبه الرهن وإن مات الكفيل الثاني برىء وحده

فصل : إن ضمن المصمون عنه الضامن لم يصح
فصل : وإن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكفل المكفول عنه الكفيل لم يصح لأن الضمان يقتضي إلزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور إلزامه ثانيا ولأنه أصل في هذا الدين فلا يجوز أن يصير فرعا فيه وإن ضمن عنه دينا آخر أو كفل به في حق آخر جاز لعدم ما ذكرناه فيه

فصل : ويجوز أن يضمن الحق عن الرجل
فصل : ويجوز أن يضمن الحق عن الرجل الواحد اثنان وأكثر سواء ضمن كل واحد منهم جميعه أو جزءا منه فإن ضمن كل واحد منهم جميعه بريء كل واحد منهم باداء أحدهم وإن أبرأ المضمون عنه برىء الجميع لأنهم فروع له وإن أبرىء أحد الضمان برىء وحده ولم يبرأ غيره لأنهم غير فروع له فلم يبرأوا ببراءته كالمضمون عنه وإن ضمن أحدهم صاحبه لم يجز لأن الحق ثبت في ذمته بضمانه الأصلي فلا يجوز أن يثبت ثانيا ولأنه أصل فيه بالضمان فلا يجوز أن يصير فيه فرعا ولو تكفل بالرجل الواحد رجلان جاز ويجوز أن يتكفل كل واحد من الكفيلين صاحبه لأن الكفالة ببدنه لا بما في ذمته وأي الكفيلين أحضر المكفول به برىء وبرىء صاحبه من الكفالة لأنه فرعه ولم يبرأ من إحضار المكفول به لأنه أصل في ذلك وإن كفل المكفول الكفيل لم يجز لأنه أصل له في الكفالة لم يجز أن يصير فرعا له فيما كفل به وإن كفل به في غير هذا الحق جاز لأنه ليس بفرع له في ذلك

مسألة : قال فمن أدى رجع عليه
مسألة : قال : فمتى أدى رجع عليه سواء قال له اضمن عني أو لم يقل
يعني إذا أدى الدين محتسبا بالرجوع على المضمون عنه فأما إن قضى الدين متبرعا به غيرنا وللرجوع به فلا يرجع بشيء لأنه يتطوع بذلك أشبه الصدقة وسواء ضمن بأمره أو بغير أمره فأما إذا أداه بنية الرجوع به لم يخل من أربعة أحوال أحدها : أن يضمن بأمر المضمون عنه ويؤدي بأمره فإنه يرجع عليه سواء قال له : اضمن عني أو أد عني أو اطلق وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف وقال أبو حنيفة و محمد : إن قال اضمن عني وانقد عني رجع عليه وإن قال : انقد هذا لم يرجع إلا أن يكون مخالطا له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله اضمن عني وانقد عني إقرار منه بالحق وإذا أطلق ذلك صار كأنه قال هب لهذا أو تطوع عليه وإذا كان مخالطا له رجع استحسانا لأنه قد يأمر مخالطه بالنقد عنه
ولنا أنه ضمن ودفع بأمره فأشبه إذا كان مخالطا له أو قال : اضمن عني وما ذكراه ليس بصحيح لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون إلا لما هو عليه وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف إلى ما ضمنه بدليل المخالط له فيجب عليه أداء ما أدى عنه كما لو صرح به
الحال الثاني : ضمن بأمره وقضى بغير أمره فله الرجوع أيضا وبه قال مالك و الشافعي في أحد الوجوه عنه والوجه الثاني : لا يرجع به لأنه دفع بغير أمره أشبه ما لو تبرع به الثالث أنه إن تعذر الرجوع على الضمون عنه فدفع ما عليه رجع وإلا فلا لأنه تبرع بالدفع
ولنا أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك إذنه في الأداء لأن الضمان يوجب عليه الأداء فرجع عليه كما لو أذن في الأداء صريحا الحال الثالث : ضمن بغير أمره وقضى بأمره فله الرجوع أيضا وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن أمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه
ولنا أنه أدى دينه بأمره فرجع عليه كما لو لم يكن ضامنا أو كما لو ضمن بأمره وقولهم : إن أذنه في القضاء انصرف إلى ما وجب بضمانه قلنا الواجب بضمانه إنما هو أداء دينه وليس هو شيئا آخر فمتى أداه عنه بإذنه لزمه اعطاؤه بدله الحال الرابع : ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان احداهما : يرجع بما أدى وهو قول مالك و عبد الله بن الحسن و إسحاق والثانية : لا يرجع بشيء وهو قول أبي حنيفة و الشافعي و ابن المنذر : بدليل حديث علي وأبي قتادة فإنهما لو كانا يستحقان الرجوع على الميت صار الدين لهما فكانتذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون عنه ولم يصل عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه تبرع بذلك أشبه ما لو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره ووجه الأولى أنه قضاء مبرىء من دين واجب فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه فأما علي وأبو قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان فإنهما قضيا دينه قصدا لتبرئة ذمته ليصلي عليه صلى الله عليه و سلم مع علمهما بأنه لم يترك وفاء والمتبرع لا يرجع بشيء وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع

فصل : ويرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين
فصل : ويرجع الضامن على المضمون عنه بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل الدين فالزائد لم يكن واجبا فهو متبرع بادائه وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشيء وإن دفع عن الدين عرضا رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين لذلك فإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع به قبل أجله لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم فإن أحاله كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه ويرجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو أبرأه أو تعذر عليه الاستيفاء لفلس أو مطل لأن نفس الحوالة كالاقباض

فصل : ولو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها
فصل : ولو كان على رجلين مائة على كل منهما نصفها وكل واحد ضامن عن صاحبه ما عليه فضمن آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع وله الرجوع بها على الذي ضمن عنه ولم يكن له أن يرجع على الآخر بشيء في احدى الروايتين لأنه لم يضمن عنه ولا أذن له في القضاء فإذا رجع على الذي ضمن عنه رجع على الاخر بنصفها إن كان ضمن عنه بإذنه لأنه ضمنها عنه بإذنه وقضاها ضامنه والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه فملك الرجوع بها عليه كالأصل

فصل : إذا ضمن عن رجل بإذنه
فصل : إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الأداء عنه بأمره فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه وفيه وجه آخر أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبدا فرهنه كان للسيد مطالبته بفكاكه وتفريغه من الرهن والأول أولى ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويض منافع عبده المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شيء من منافعه فأما إن ضمن عنه بغير أمره لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الأداء بحال لأنه لا حق له يطالب به ولا شغل ذمته بأمره فأشبه الأجنبي وقيل أن هذا ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه فإن قلنا لا يرجع فلا مطالبة له بحال وإن قلنا يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله

فصل : فإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين
فصل : فإن ضمن الضامن ضامن آخر فقضى أحدهم الدين برئوا جميعا فإن قضاه المضمون عنه لم يرجع على أحد وإن قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن عنه وإن قضاه الثاني رجع على الأول ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لضامنه فإن لم يكن أذن له في الرجوع روايتان وإن أذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو أذن المضمون عنه لضامنه ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من أذن له ولم يرجع الآخر على احدى الروايتين فإن أذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على المضمون عنه ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من أذن له دون غيره

فصل : إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه
فصل : إذا كان له ألف على رجلين على كل واحد منهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فأبرأ الغريم أحدهما من الألف برىء منه وبرىء صاحبه من ضمانه وبقي عليه خمسمائة وإن قضاه أحدهما خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل والضمان انصرف إليه وإن أطلق احتمل أن له صرفها إلى ما شاء منهما كمن أخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر كان له صرفها إلى ما شاء منهما واحتمل أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن إطلاق القضاء والإبراء ينصرف إلى جملة ما في ذمته فيكون بينهما والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الإبراء لفظ المبرىء ونيته ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من المعتبر لفظه ونيته

فصل : ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب
فصل : ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وإن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فاعترف الحاضر بذلك فله أخذ الألف منه فإذا قدم الغائب فاعترف رجع عليه صاحبه بنصفه وإن أنكر فالقول قوله مع يكينه وإن أنكر الحاضر فالقول قوله مع يمينه فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه لم يرجع على الغائب بشيء لأنه بإنكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه وإن اعترف الغائب وعاد الحاضر عن إنكاره فله أن يستوفي منه لأنه يدعي عليه حقا يعترف له به فكان له أخذه منه وإن لم يقم على الحاضر بينة حلف وبريء فإذا قدم الغائب فأنكر أيضا وحلف بريء وإن اعترف لزمه دفع الألف وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يلزمه إلا خمس المائة الأصلية دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون عنه بيمينه فتسقط عن ضامنه
ولنا أنه يعترف بها وغريمه يدعيها واليمين إنما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر ولم تسقط عنه الحق الذي في ذمته ولهذا لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه ولزم الضامن

فصل : إذا ادعى الضامن أنه قضى الدين فأنكر المضمون له
فصل : وإذا ادعى الضامن أنه قضى الدين فأنكر المضمون له ولا بينة له فالقول قول المضمون له لأنه ادعى تسليم المال إلى من لم يأمنه فكان القول قول المنكر وله مطالبة من شاء منهما فإن رجع على المضمون عنه فهل يرجع الضامن بما قضاه عنه ؟ نظرنا فإن لم يعترف له بالقضاء لم يرجع عليه وإن اعترف له بالقضاء وكان قد قضى بغير بينة في غيبة المضمون عنه لم يرجع بشيء سواء صدقه المضمون عنه أو كذبه لأنه أذن له في قضاء مبريء ولم يوجد وإن قضاه ببينة ثبت بها الحق لكن إن كانت ميتة أو غائبة فللضامن الرجوع على المضمون عنه لأنه معترف أنه ما قصر ولا فرط وإن قضاه ببينة مردودة بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر لم يرجع الضامن لتفريطه لأن هذه البينة كعدمها وإن ردت بأمر خفي كالفسق الباطن أو كانت الشهادة مختلفا فيها مثل أن أشهد عبدين أو شاهدا واحدا فردت لذلك أو كان ميتا أو غائبا احتمل أن يرجع لأنه قضى ببينة شرعية والجرح والتعديل ليس إليه واحتمل أن لا يرجع لأنه أشهد من لا يثبت الحق بشهادته وإن قضى بغير بينة بحضرة المضمون عنه ففيه وجهان أحدهما : يرجع وهو مذهب الشافعي لأنه إذا كان حاضرا كان الاحتياط إليه فإذا ترك التحفظ وهو حاضر فهو المفرط دون الضامن والثاني : لا يرجع لأنه قضى قضاء لا يبريء فأشبه ما لو قضى في غيبته فأما أن رجع المضمون له على الضامن فاستوفى منه مرة ثانية رجع على المضمون عنه بما قضاه ثانيا : لأنه أبرأ به ذمته ظاهرا قال القاضي : ويحتمل أن له الرجوع بما قضاه أولا دون الثاني لأن البراءة حصلت به في الباطن ولأحاب الشافعي كهذين الوجهين ووجه ثالث أنه لا يرجع بشيء بحال لأن الأول ما أبرأه ظاهرا والثاني ما أبرأه باطنا
ولنا أن الضامن أدى عن المضمون عنه بإذنه إذا أبرأه ظاهرا وباطنا فرجع به كما لو قامت به البينة والوجه الأول أرجح لأن القضاء المبريء في الباطن ما أوجب الرجوع فيجب أن يجب بالباقي المبريء في الظاهر وإن اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكارهلأن ما في ذمته حق للمضمون له فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي له صار للضامن فيجب أن يقبل إقراره لكونه إقرارا في حق نفسه ويحتمل أن لا يقبل لأن الضامن مدع لما يستحق به الرجوع على المضمون عنه فقول المضمون له شهادة على فعل نفسه فلا يقبل والصحيح الأول وشهادة الإنسان على فعل نفسه صحيحة كشهادة المرضعة بالرضاع وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث

فصل : ولا يدخل الضمان والكفالة خيار
فصل : ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي : ولا نعلم عن أحد خلافهم فإن شرط الخيار فيهما فقال القاضي : عندي أن الكفالة تبطل وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ما ينافي مقتضاها ففسدت كما لو شرط أن لا يؤدي ما على المكفول به وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل الشرط وتصح الكفالة كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع ولو أقر بأنه كفل بشرط الخيار لزمته الكفالة وبطل الشرط لأنه وصل بإقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل

فصل : إذا ضمن رجلان عن رجل الف ضمان اشتراط
فصل : وإذا ضمن رجلان عن رجل ألفا ضمان اشتراط فقالا : ضمنا لك الألف الذي على زيد فكل واحد منهما ضامن لنصفه وغن كانوا ثلاثة فكل واحد منهم ضامن ثلثه فإن قال واحد منهم : أنا وهذان ضامنون لك الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف ولا شيء عليهما وإن قال كل واحد منهم : كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل واحد منهم بالألف كله إن شاء وإن أدى أحدهم الألف كله أو حصته لم يرجع إلا على المضمون عنه لأن كل واحد ممنهم ضامن أصلي وليس بضامن عن الضامن الآخر

مسألة : قال : ومن كفل بنفس لزمه عليها إن لم يسلمها
مسألة : قال : ومن كفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها
وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم هذا مذهب شريح و مالك و الثوري و الليث و أبي حنيفة وقال الشافعي في بعض أقواله : الكفالة بالبدن ضعيفة واختلف أصحابه فمنهم من قال : هي صحيحة قولا واحدا وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر ومنهم من قال فيها قولان أحدهما : أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين
ولنا قول الله تعالى : { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال إذا ثبت هذا فإنه متى تعذر على الكفيل إحضار المكفول به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم لا يغرم
ولنا عموم قوله عليه السلام [ الزعيم غارم ] ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال

فصل : إذا قال أنا كفيل بفلان أو بنفسه
فصل : وإذا قال أنا بفلان أو بنفسه أو ببدنه أو بوجهه كان كفيلا به وإن كفل برأسه أو كبده أو جزء لا تبقي الحياة بدونه أو بجزء شائع منه كثلثه أو ربعه صحت الكفالة لأنه لا يمكنه إحضار ذلك إلا بإحضاره كله وإن تكفل بعضو تبقي الحياة بعد كيده ورجله ففيه وجهان أحدهما : تصح الكفالة وهو قول أبي الخطاب وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلا بإحضار البدن كله فأشبه الكفالة بوجهه ورأسه ولأنه حكم يتعلق بالجملة فيثبت حكمه إذا أضيف إلى البعض كالطلاق والعتاق والثاني : لا يصح لأنه يمكن إحضاره بدون الجملة مع بقائها وقال القاضي : لا تصح الكفالة ببعض البدن ولا تصح إلا في جميعه لأن ما لا يسري لا يصح إذا خص به عضو كالبيع والإجارة

فصل : وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم
فصل : وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان الدين معلوما أو مجهولا وقال بعض أصحاب الشافعية : لا تصح بمن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر إحضار المكفول به فيلزمه الدين ولا يمكن طلبه منه لجهله ولنا أن الكفالة بالبدن لا بالدين والبدن معلوم فلا لا تبطل الكفالة لاحتمال عارض ولأنا قد تبينا أن ضمان المجهول يصح وهو التزام المال ابتداء فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنهما قد يجب إحضارهما مجلس الحكم للشهادة عليهما بالإتلاف واذن وليهما يقوم مقام أذنهما وتصح الكفالة ببدن المحبوس والغائب وقال أبو حنيفة : لا تصح ولنا أن كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان ولأن الحبس لا يمنع من التسليم لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم أو أمر من حبسه ثم يعيده إلى الحبس بالحقين جميعا والغائب يمضي إليه فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة وهو أن يعلم خبره فإن لم يعلم خبره لزمه ما عليه قاله القاضي وقال في موضع آخر : لا يلزمه ما عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها فلا يفعل

فصل : ولا تصح الكفالة ببدن من عليه
فصل : ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد سواء كان حقا لله تعالى كحد الزنا والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص وهذا قول أكثر أهل العلم منهم شريح والحسن وبه قال إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي وبه قال الشافعي : في حدود الله تعالى واختلف قوله في حدود الآدمي فقال في موضع لا كفالة في حدود الآدمي ولا لعان وقال في موضع : تجوز الكفالة بمن عليه حق أو حد لأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين ولنا ما روي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا كفالة في حد ] ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى ولأن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا

فصل : لا تجوز الكفالة بالكاتب من أصل دين الكتابة
فصل : ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة

فصل : وتصح الكفالة حالة ومؤجلة
فصل : وتصح الكفالة حالة ومؤجلة كما يصح الضمان حالا ومؤجلا وإذا أطلق كانت حالة لأن كل عقد يدخله الحلول اقتضى إطلاقه الحلول كالثمن والضمان فإذا تكفل حالا كان له مطالبته بإحضاره فإن أحضره وهناك يد حائلة ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل له غرضه وإن لم تكن يد حائلة لزمه قبوله فإن قبله بريء من الكفالة وقال ابن أبي موسى : لا يبرأ حتى يقول قد برئت إليك منه أو قد سلمته إليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته والصحيح الأول لأنه عقد على عمل فبريء منه بالعمل المعقود عليه كالأجارة فإن امتنع من تسلمه بريء لأنه أحضر ما يجب تسليمه عند غريمه وكلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبريء منه كالمسلم فيه وقال بعض أصحابنا : إذا امتنع من تسلمه أشهد على امتناعه رجلين وبريء لأنه فعل ما وقع العقد على فعله فبريء منه وقال القاضي : يرفعه إلى الحاكم فيسلمه إليه فإن لم يجد حاكما أشهد شاهدين على إحضاره وامتناع المكفول له من قبوله والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه كحاكم أو غيره
وإن كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الأجل كالدين المؤجل فإذا حل الأجل فأحضره وسلمه بريء وإن كان غائبا أو مرتدا لحق بدار الحرب لم يؤخذ بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي إليه وإعادته وقال ابن شبرمة : يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه ولنا أن الحق يعتبر في وجوب إدائه إمكان التسليم وإن كان حالا كالدين فإذا مضت مدة يمكن إحضاره فيها ولم يحضره أو كانت الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من إحضاره مع إمكانه أخذ بما عليه وقال أصحاب الشافعي : إن كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل بإحضاره ولم يلزمه شيء وإن امتنع من إحضاره مع إمكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم فيما مضى وإن أحضر المكفول به قبل الأجل ولا ضرر في تسليمه لزمه وغن كان فيه ضرر مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم أو الدين مؤجل عليه لا يمكن اقتضاؤه منه أو قد وعده بالأنظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كما نقول فيمن دفع الدين االمؤجل قبل حلوله

فصل : إذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره
فصل : وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة وبه قال أبو يوسف و محمد وقال القاضي : إن احضره بمكان آخر من البلد وسلمه بريء من الكفالة وقال بعض أصحابنا : متى أحضره في أي مكان كان وفي ذلك الموضع سلطان بريء من الكفالة لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن إثبات الحجة فيه وقيل إن كان عليه ضرر في إحضاره بمكان آخر لم يبرأ الكفيل بإحضاره فيه وإلا بريء كقولنا فيما إذا أحضره قبل الأجل ولأصحاب الشافعي اختلاف على نحو ما ذكرنا ولنا أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه في غير هذا الموضع الذي شرطه ولأنه قد سلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أحمد غير ذلك وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه ويفارق ما إذا أحضره قبل الأجل فإنه عجل الحق قبل أجله فزاده خيرا فإذا لم يكن فيه ضرر وجب قبوله وإن وقعت الكفالة مطلقة وجب تسليمه في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به محبوسا عند غير الحاكم لم يلزمه تسليمه محبوسا لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء حقه وإن كان محبوسا عند الحاكم فسلمه إليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم بإحضاره أحضره مجلسه وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس وإن توجه عليه حق للمكفول له حبسه بالحق الأول أو حق المكفول له

فصل : إن كفل إلى أصل مجهول لم تصح الكفالة
فصل : وإن كفل إلى أجل مجهول لم تصح الكفالة وبهذا قال الشافعي : لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه وهكذا الضمان وإن جعله إلى الحصاد والجزاز والعطاء خرج على الوجهين كالأجل في البيع والأولى صحتها هنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه فصح كالنذر وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفاله وقد روى مهنا عن أحمد في رجل كفل رجلا آخر فقال : إن جئت به في وقت كذا وإلا فما عليه علي فقال : لا أدري ولكن إن قال : ساعة كذا لزمه فنص على تعيين الساعة وتوقف عن تعيين الوقت ولعله أراد وقتا متسعا أو وقت شيء يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه فأما إن قال : وقت طلوع الشمس ونحو ذلك صح وإن قال : إلى الغد أو شهر كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم

فصل : إذا تكفل برجل إلى أجل
فصل : وإذا تكفل برجل إلى أجل إن جاء به فيه وإلا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة و أبو يوسف وقال محمد بن الحسن و الشافعي : لا تصح الكفالة ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد
ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها فصح اشتراطه كما لو قال : إن جئت به في وقت كذا وإلا فلك حبسي ومبنى الخلاف ههنا على الخلاف في أن هذا مقتضى الكفالة وقد دللنا عليه وأما إن قال : أن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك ما لك على فلان أو قال : إذا جاء زيد فأنا ضامن لم ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال : أنا كفيل بفلان شهرا فقال القاضي : لا تصح الكفالة وهو مذهب الشافعي و محمد بن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان والكفالة به كمجيء المطر وهبوب الريح ولأنه إثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط ولا توقيته كالهبة وقال الشريف أوب جعفر وأبو الخطاب : تصح وهو قول أبي حنيفة و أبي يوسف لأنه أضاف الضمان إلى سبب الوجود فيجب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس فإن قال : كفلت بفلان إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل بفلان أو ضامن المال الذي على فلان لم يصح فيهما عند القاضي لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط وقال أبو الخطاب : يصح فيهما فأما إن قال : كفلت بأحد هذين الرجلين لم يصح في قولهم جميعا لأنه غير معلوم في الحال ولا في المال

فصل : فإن قال كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل
فصل : فإن قال كفلت ببدن فلان على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به فيكون فاسدا وتفسد الكفالة به ويحتمل أن تصح الكفالة لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا أن يبريء المكفول له الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه وإن قال : كفلت لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان والأولى أنه لا يصح لأنه شرط فسخ عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ بيع آخر وكذلك لو شرط في الكفالة أو الضمان أن يتكفل المكفول له أو المكفول به بآخر أو يضمن دينا عليه أو يبيعه شيئا عينه أو يؤجره داره لم يصح لما ذكرنا

فصل : ولو تكفل اثنان بواحد صح
فصل : ولو تكفل إثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين بريء الآخران لما ذكرنا في الضمان وإن سلم المكفول به نفسه بريء كفيلاه لأنه أتى بما يلزم الكفيلين وهو إحضار نفسه فبرئت ذمتهما كما لو قضى الدين وإن أحضر أحد الكفيلين لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء فلم تنحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق وفارق ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا بريء الأصل مما تكفل به عنه بريء فرعاه وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ ببرائته ولذلك لو أبرىء المكفول به برىء كفيلاه ولو أبريء أحد الكفيلين بريء وحده دون صاحبه

فصل : ولو تكفل اثنان بواحد لاثنين فأبرأه أحدهما
فصل : ولو تكفل واحد لإثنين فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر لأن عقد الواحد مع الإثنين بمنزلة العقدين فقد التزم إحضاره عند كل واحد منهما فإذا أحضره عند واحد منهما فإذا أحضره عند واحد بريء منه وبقي حق الآخر كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين فوفى أحدهما حقه

فصل : وتفتقر صحة الكفالة رضي الكفيل
فصل : وتفتقر صحة الكفالة إلى رضى الكفيل لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه ولا يعتبر رضى المكفول له أنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه فيها كالشهادة ولأنها التزام حق له من غير عوض فلم يعتبر رضاه فيها كالنذر فأما رضاء المكفول به ففيه وجهان أحدهما : لا يعتبر كالضمان والثاني : يعتبر وهو مذهب الشافعي لأن مقصودها إحضاره وإن تكفل بغير إذنه لم يلزمه الحضور معه ولأنه يجعل لنفسه حقا عليه وهو الحضور معه من غير رضاه فلم يجز كما لو لزمه الدين وفارق الضمان فإن الضامن يقضي الحق ولا يحتاج إلى المضمون عنه وعلى كلا الوجهين متى كانت الكفالة بإذنه فأراد الكفيل إحضاره لزمه الحضور معه لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه فكان عليه تخليصها كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه كان عليه تخليصه إذا طلب سيده وإن كانت الكفالة بغير إذنه نظرنا فإن طلبه المكفول له منه لزمه أن يحضر معه لأن حضوره حق للمكفول له وقد استناب الكفيل في طلبه وإن لم يطلبه المكفول له لم يلزمه أن يحضر معه لأنه لم يشغل ذمته وإنما الكفيل شغلها باختيار نفسه فلم يجز أن يثبت له بذلك حق على غيره وإن قال المكفول له : أحضر كفيلك كان توكيلا في إحضاره ولزمه أن يحضر معه كما لو وكل أجنبيا وإن قال : أخرج من كفالتك احتمل أن يكون توكيلا في إحضاره كاللفظ الأول ويحتمل أن تكون مطالبة بالدين الذي عليه فلا يكون توكيلا فلا يلزمه الحضور معه

فصل : إذا قال رجل لآخر إضمن عن فلان
فصل : وإذا قال رجل لآخر إضمن عن فلان أو إكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه وإنما الأمر إرشاد وحث على فعل خير فلم يلزمه به شيء

مسألة : فإن مات برىء المتكفل
مسألة : قال : فإن مات بريء المتكفل
وجملته أنه إذا مات المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شيء وبهذا قال شريح و الشعبي و حماد بن أبي سليمان و أبو حنيفة و الشافعي وقال الحكم و مالك و الليث : يجب على الكفيل غرم ما عليه وحكي ذلك عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفي من الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب
ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبريء الكفيل كما لو بريء من الدين ولأن ما التزمه من اجله سقط عن الأصل فبريء الفرع كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبريء منه وفارق ما إذا غاب فإن الحضور لم يسقط عنه ويفارق الرهن فإنه علق به المال فاستوفى منه

فصل : إذا قال الكفيل قد برىء المكفول به من الدين
فصل : إذا قال الكفيل : قد بريء المكفول به من الدين وسقطت الكفالة أو قال : لم يكن عليه دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه اليمين فإن نكل قضي عليه ويحتمل أن لا يستخلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لا دين عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول أولى لأن ما ادعاه محتمل

فصل : إذا قال المكفول له للكفيل
فصل : وإذا قال المكفول له للكفيل : أبرأتك من الكفالة بريء لأنه حقه فيسقط بإسقاطه كالدين وإن قال : قد برئت إلي منه أو قد رددته إلي بريء أيضا لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال : برئت من الدين الذي كفلت به ويبرأ الكفيل في هذه المواضع دون المكفول به ولا يكون إقرارا يقبض الحق وهذا قول محمد بن الحسن وقيل يكون إقرارا بقبض الحق فيما إذا قال : برئت من الدين الذي كفلت به والول أصح لأنه يمكن براءته بدون قبض الحق بإبراء المستحق أو موت المكفول به فأما إن قال للمكفول به أبرأتك عما لي قبلك من الحق أو برئت من الدين الذي قبلك فإنه يبرأ من الحق وتزول الكفالة لأنه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وإن قال : برئت من الدين الذي كفل به فلان بريء وبريء كفليه

فصل : إذا كان لذمي على ذمي ضمن
فصل : وإذا كان لذمي على ذمي خمر آخر فكفل به ذمي آخر ثم أسلم المكفول له أو المكفول عنه برىء الكفيل والمكفول عنه وقال أبو حنيفة : إذا أسلم المكفول عنه لم يبرأ واحد منهما ويلزمهما قيمة الخمر لأنه كان واجبا ولم يوجد إسقاط ولا استيفاء ولا وجد من المكفول له ما يسقط حقه فبقي بحاله
ولنا أن المكفول به مسلم فلم يجب عليه الخمر كما لو كان مسلما قبل الكفالة وإذا برىء المكفول به برىء كفيله كما لو أدى الدين أو أبرأه منه ولأنه لو أسلم المكفول له برئا جميعا وكذلك إذا أسام المكفول به وإن أسلم الكفيل وحده برىء من الكفالة لأنه لا يجوز وجوب الخمر عليه وهو مسلم

فصل : فإذا قال اعط فلاناص ألفا ففعل لم يرجع على الآمر
فصل : فإذا قال : أعط فلانا ألفا ففعل لم يرجع على الأمر ولم يكن له ذلك كفالة ولا ضمانا إلا أن يقول : أعطه عني وقال أبو حنيفة : يرجع عليه إذا كان خليطا له لأن العادة أنه يستقرض من ولنا أنه لم يقل اعطه عني فلم يلزمه الضمان كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال فقال : أعطه فلانا حيث يلزمه لأنه لا يلزمه لأجل هذا القول بل لأن عليه حقاص يلزمه أداؤه

فصلان : إذا كانت في البحر وفيها متاع رجل له على رجل ألف درهم فأقام بها كفيلين
فصل : إذا كانت السفينة في البحر وفيسها متاع فخيف غرقها فألقى بعض من فيها متاعه في البحر لتخف لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسبا بالرجوع أو متبرعا لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان فإن قال له بهضهم : ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لا يكرهه على إلقائه ولا ضمن له و إن قال : ألقه وعلي ضمانه فألقاه فعلى القائل ضمانه ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح وإن قال : ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبوبكر : يضمنه القائل وحده إلا أن يتطوع بقيتهم قال القاضي : إن كان ضمان اشتراك فليس عليه إلا ضمان حصته لأنه لم يضمن الجميع إنما ضمن حصته وأخبر عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمته حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين وإن كان ضمان إشتراك وانفراد بأن يقول : كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء قال : هذا والباقون يسمعون فسكتوا أو قالوا : لا نفعل أو لم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق
فصل : قال مهنا : سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم فأقام بها كفيلين كل واحد منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلا بحقه فقال : يبرأ الكفيلان قلت : فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئا قال : لا شيء له ويذهب اللف

كتاب الشركة
الشركة هي الإجتماع في استحاق أو تصرف وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى : { فهم شركاء في الثلث } وقال اله تعالى : { وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } والخلطاء هم الشركاء ومن السنة ما روي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرهما إن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقول الله أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما ] رواه أبو داود وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ] وأجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع منها نبينها إن شاء الله تعال والشركة على ضربين شركة أملاك وشركة عقود وهذا الباب لشركة العقود وهي أنواع خمسة : شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة والمفاوضة ولا يصح شيء منها إلا من جائز التصرف لأنه عقد على التصرف في المال فلم يصح من غير جائز التصرف في المال كالبيع

فصل : يشارك اليهودي والنصراني
فصل : قال أحمد : يشارك اليهودي والنصراني ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه ويكون هو الذي يليه لأنه يعمل بالربا وبهذا قال الحسن و الثوري وكره الشافعي مشاركتهم مطلقا لأنه روي عن عبد الله بن عباس أنه قال : أكره أن يشارك المسلم اليهودي ولا يعرف له مخالف في الصحابة ولأن مال اليهودي والنصراني ليس بطيب فإنهم يبيعون الخمر ويتعاملون بالربا فكرهت معاملتهم
ولنا ما روى الخلال بإسناده عن عطاء قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مشاركة اليهودي والنصراني أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم ولا العلة في كراهة ما خلوا به معاملاتهم بالربا وبيع الخمر والخنزير وهذا منتف فيما حضره المسلم أو وليه ] وقول ابن عباس محمول على هذا فإنه علل بكونهم يربون كذلك رواه الأثرم عن أبي حمزة عن ابن عباس أنه قال : لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا لأنهم يربون وإن الربا لا يحل وهو قول واحد من الصحابة لم يثبت انتشاره بينهم وهم لا يحتجون به قولهم إن أموالهم غير طيبة لا يصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم قد عاملهم ورهن درعه عند يهودي على شعير أخذه لأهله وأرسل إلى آخر يطلب منه ثوبين إلى الميسرة وأضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة ولا يأكل النبي صلى الله عليه و سلم ما ليس بطيب وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم فثمنه حلال لاعتقادهم حله ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ولوهم بيعها وخذوا أثمانها فأما ما يشتريه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة فإنه يقع فاسدا وعليه الضمان لأن الوكيل يقع للموكل والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير فأشبه ما لو اشترى به ميتة أو عامل بالربا وما خفي أمره فلم يعلم فالأصل إباحته وحله فأما المجوسي فإن أحمد كره مشاركته ومعاملته قال : ما أحب مخالطته ومعاملته لأنه يستحل ما لا يستحل هذا قال حنبل : قال عمي : لا تشاركه ولا تضار به وهذا والله أعلم على سبيل الاستحباب لترك معاملته والكراهة لمشاركته وإن فعل صح لأن تصرفه صحيح

مسألة : قال وشركة الأبدان جائز
مسألة : قال : وشركة الأبدان جائزة
معنى شركة الأبدان أن يشترك إثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع يشتركون على النبي صلى الله عليه و سلم يعملوا في صناعاتهم فما رزق الله تعالى فهو بينهم فإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح كالحطب والحشيش والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن والتلصص على دار الحرب فهذا جائز نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال : لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس لهم مال مثل الصيادين والنقالين والحمالين قد اشترك النبي صلى الله عليه و سلم بين عمار وسعد ابن مسعود فجاء سعد باسيرين ولم يجيئا بشيء وفسر أحمد صفة الشركة في الغنيمة فقال : يشتركان فيما يصيبان من سلب المقتول لأن القاتل يختص به دون الغانمين وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة : يصح في الصناعة ولا يصح في إكتساب المباح كالاحتشاش والاغتنام لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في هذه الأشياء لأن من أخذها ملكها وقال الشافعي : شركة الأبدان كلها فاسدة لأنها شركة على غير مال فلم تصح كما لو اختلفت الصناعات
ولنا ما روى أبو داود و الأثرم بإسنادهما عن أبي عبيدة بن عبد الله قال : اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر فلم أجيء أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين ومثل هذا لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد أقرهم عليه وقال أحمد اشرك بينهم النبي صلى الله عليه و سلم فإن قيل فالمغانم مشتركة بين الغانمين بحكم الله تعالى فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها وقال بعض الشافعية : غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم وكان له أن يدفعها إلى من شاء فيحتمل أن يكون فعل ذلك لهذا ؟ قلنا أما الأول فالجواب عنه أن غنائم بدر كانت لمن لأخذها من قبل أن يشرك الله تعالى بينهم ولهذا نقل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أخذ شيئا فهو له ] فكان ذلك من قبيل المباحات من سبق إلى أخذ شيء فهو له ويجوز أن يكون شرك بينهم فيما يصيبونه من الأسلاب والنفل إلا أن الأول أصح لقوله جاء سعد بأسيرين ولم أجيء أنا وعمار بشيء وأما الثاني فإن الله تعالى إنما جعل الغنيمة لنبيه عليه السلام بعد أن غنموا واختلفوا في الغنائم فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } والشركة كانت قبل ذلك ويدل على صحة هذا أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخل إما أن يكون قد أباحهم أخذها فصارت كالمباحات أو لم يبحها لهم فكيف يشتركون في شيء لغيرهم ؟ وفي هذا الخبر حجة على أبي حنيفة أيضا لأنهم اشتركوا في مباح وفيما ليس بصناعة وهو يمنع ذلك ولأن العمل أحد جهتي المضاربة فصحت الشركة عليه كالمال وعلى أبي حنيفة أنهما اشتركا في مكسب مباح فصح كما لو اشتركا في الخياطة والقصارة ولا نسلم أن الوكالة لا تصح في المباحات فإنه يصح أن يستنيب في تحصيلها بأجرة فكذلك يصح بغير عوض إذا تبرع أحدهما بذلك كالتوكيل في بيع ماله

فصلان : وتصح شركة الابدان مع اتفاق الضائع
فصل : وتصح شكة الأبدان مع اتفاق الصنائع فأما مع اختلافهما فقال أبو الخطاب : لا تصح وهو قول مالك لأن مقتضاها أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ويلزم صاحبه ويطالب به كل واحد منهما فإذا تقبل أحدهما شيئا مع اختلاف صنائعهما لم يمكن الاخر أن يقوم به فكيف يلزمه عمله ؟ أم كيف يطالب بما لا قدرة له عليه ؟ وقال القاضي : تصح الشركة لأنهما اشتركا في مكسب مباح فصح كما لو اتفقت الصنائع ولأن الصنائع المتفقة قد يكون أحد الرجلين أحذق فيها من الآخر فربما يتقبل أحدهما ما لا يمكن الآخر عمله ولم يمنع ذلك صحتها فكذلك إذا اختلفت الصناعتان وقولهم يلزم كل واحد منهما ما يتقبله صاحبه قال القاضي : يحتمل أن لا يلزمه ذلك لأنهما كالوكيلين بدليل صحتهما في المباح ولا ضمانفيها وإن قلنا : يلزمه أمكنه تحصيل ذلك بالأجرة أو بمن يتبرع له بعمله ويدل على صحة هذا أنه لو قال أحدهما : أنا أتقبل وأنت تعمل صحت الشركة وعمل كل واحد منهما غير عمل صاحبه
فصل : وإذا قال أحدهما : أنا أتقبل وأنت تعمل والأجرة بيني وبينك صحت الشركة وقال زفر : لا تصح ولا يستحق العامل المسمى وإنما له أجرة المثل
ولنا أن الضمان يستحق به الربح بدليل شركة الأبدان وتقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل ويستحق به الربح فصار كتقبله المال في المضاربة والعمل يستحق به العامل الربح كعمل المضارب فينزل منزلة المضاربة

فصل : والربح في شركة الابدان على ما اتفقوا عليه
فصل : والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه من مساواة أو تفاضل لأن العمل يستحق به الربح ويجوز تفاضلهما في العمل فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به ولكل واحد منهما المطالبة بالأجرة وللمستأجر دفعها إلى كل واحد منهما وإلى أيهما دفعهما بريء منها وإن تلفت في يد أحدهما من غير تفريط فهي من ضمانها معا لأنهما كالوكيلين في المطالبة وما يتقبله كل واحد منهما من الأعمال فهو من ضمانهما يطالب به كل واحد منهما ويلزمه عمله لأن هذه الشركة لا تنعقد إلا على الضمان ولا شيء فيها تنعقد عليه الشركة حال الضمان فكأن الشركة تضمنت ضمان كل واحد منهما عن الآخر ما يلزمه وقال القاضي : يحتمل أن لا يلزم أحدهما ما لزم الآخر لما ذكرنا من قبل وما يتلف بتعدي أحدهما أو تفريطه أو تحت يده على وجه يوجب الضمان عليه فذلك عليه وحده وإن أقر أحدهما بما في يده قبل عليه وعلى شريكه لأن اليد له فيقبل إقراره بما فيها ولا يقبل إقراره بما في يد شريكه ولا بدين عليه لأنه لا بد له على ذلك

فصل : وإن عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما
فصل : وإن عمل أحدهما دون صاحبه فالكسب بينهما قال ابن عقيل : نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن هانىء وقد سئل عن الجلين يشتركان في عمل الأبدان فيأتي أحدهما بشيء ولا يأتي الآخر بشيء قال : نعم هذا بمنزلة حديث سعد وابن مسعود يعني حيث اشتركوا فجاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران ولأن العمل مضمون عليهما معا وبضمانهما له وجبت الأجرة فيكون لهما كما كان الضمان عليهما ويكون العامل عونا لصاحبه في حصته ولا يمنع ذلك استحقاقه كمن استأجر رجلا ليقصر له ثوبا فاستعان القصار بإنسان فقصر معه كانت الأجرة للقصار المستأجر كذا ههنا وسواء ترك العمل لمرض أو غيره فإن طالب أحدهما الآخر أن يعمل معه أو يقيم مقامه من يعمل فله ذلك فإن امتنع فللآخر الفسخ ويحتمل أنه متى ترك العمل من غير عذر أن لا يشارك صاحبه في أجرة ما عمله دونه لأنه إنما شاركه ليعملا جميعا فإذا ترك أحدهما العمل فما وفى بما شرط على نفسه فلم يستحق ما جعل له في مقابلته وإنما احتمل ذلك فما إذا ترك أحدهما العمل لعذر لأنه لا يمكن التحرز منه

فصل : فإن اشتراك رجلان لكل واحد منهما دابة
فصل : فإن اشترك رجلان لكل واحد منهما دابة على أن يؤجرهما فما رزقهما الله من شيء فهو بينهما صح فإذا تقبلا حمل شيء معلوم في ذمتهما ثم حملاه على البهيمتين أو غيرهما صح والأجرة بينهما على ما شرطاه لأن تقبلهما الحمل أثبت الضمان في ذمتهما ولهما أن يحملا بأي ظهر كان والشركة تنعقد على الضمان كشركة الوجوه وإن أجراهما بأعيانهما على حمل شيء بأجرة معلومة لم تصح الشركة ولكل واحد منهما أجر دابته لأنه لم يجد ضمان الحمل في ذممهما وإنما استحق المشتري منفعة البهيمة التي أستأجرها ولهذا تنفسخ الإجارة بموت الدابة التي أكتراها ولأن الشركة إما أن تنعقد على الضمان في ذممهما أو عملهما وليس هذا بواحد منهما فإنه لم يثبت في ذممهما ضمان ولا عملا بأبدانهما ما يجب الأجر في مقابلته ولأن الشركة تتضمن الوكالة والوكالة على هذا الوجه لا تصح ولهذا لو قال : أجر عبدك وتكون أجرته بيني وبينك لم تصح كما لو قال : بع عبدك وثمنه بيننا لم يصح ويحتمل أن تصح الشركة كما لو اشتركا فيما يكتسبان من المباح بأبدانهما فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل والنقل كان له أجر مثله لأنها منافع وفاها بشبهة عقد

فصل : فإن كان لقصار أداة ولآخر بيت فاشتركا
فصل : فإن كان لقصار أداة ولآخر بيت فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما جاز والأجرة على ما شرطاه لأن الشركة وقعت على عملهما والعمل يستحق به الربح في الشركة والآلة والبيت لا يستحق بهما شيء لأنهما يستعملان في العمل المشترك فصارا كالدابتين اللتين أجراهما لحمل الشيء الذي تقبلا حمله وإن فسدت الشركة قسم ما حصل لهما على قدر أجر عملهما وأجر الدار والآلة وإن كانت لأحدهما آلة وليس للآخر شيء أو لآحدهما بيت وليس للآخر يء فاتفقا على أن يعملا بالآلة أو في البيت والأجرة بينهما جاز لما ذكرنا

فصل : وإن دفع رجل دابته إلى الآخر ليعمل عليها
فصل : وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا صح نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا وكره ذلك الحسن و النخعي وقال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر و أصحاب الرأي لا يصح والربح كله لرب الدابة لأن الحمل الذي يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله لأن هذا ليس من أقسام الشركة إلا أن تكون المضاربة ولا تصح المضاربة بالعروض ولأن المضاربة تكون بالتجارة في الأعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها وقال القاضي يتخرج أن لا يصح بناء على أن المضاربة بالروض لا تصح فعلى هذا إن كان أجر الدابة فالأجر لمالكها ولنا إنها عين تنمي بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير وكالشجر في المساقات والأرض في المزراعة ولولهم إنه ليس من أقسام الشركة ولا هو مضاربة قلنا : نعم لكنه يشبه المساقات والمزارعة فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعروض فاسد فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال وهذا بخلافه وذكر القاضي في موضع آخر فيمن أستأجر دابة ليعمل عليها بنصف ما يرزقه الله تعالى أو ثلثه جاز ولا أرى لهذا وجها فإن الإجارة يشترط لصحتها العمل بالعوض وتقدير المدة أو العمل ولم يوجد ولأن هذا عقد غير منصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص فهو كسائر العقود الفاسدة إلا أن يريد بالإجارة المعاملة على الوجه الذي تقدم وقد أشار إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة فقال : لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى خيبر على الشطر وهذا يدل على أنه قد صار في هذا ومثله إلى الجواز لشبهه بالمساقات والمزارعة لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة ونقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس قال إسحاق بن إبراهيم : قال أبو عبد الله : إذا كان على النصف والربع فهو جائز وبه قال الأوزاعي ونقل أحمد بن سعيد عن أحمد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله جاز نص عليه في وراية حرب وإن دفع غزلا إلى رجل بنسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه ولم يجز مالك و أبو حنيفة و الشافعي شيئا من ذلك لأنه عوض مجهول وعمل مجهول وقد ذكرنا وجه جوازه وإن جعل له مع ذلك دراهم معلومة لم يجز نص عليه وعنه الجواز والصحيح الأول وقال أبو بكر : هذا قول قديم وما روي غير هذا فعليه المعتمد قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول : لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع وسئل عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم ودرهمين قال : أكرهه لأن هذا شيء لا يعرف والثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى خيبر على الشطر قيل لأبي عبد الله : فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهما قال : فليجعل له ثلثا وعشرا ثلثا ونصف عشر وما أشبهه وروى الأثرم عن ابن سيرين والنخعي والزهري وأيوب ويعلي بن حكيم إنهم أجازوا ذلك وقال ابن المنذر : كره هذا كله الحسن وقال أبو ثور و أصحاب الرأي : هذا كله فاسد واختاره ابن المنذر و ابن عقيل وقالوا : لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فالصيد كله للصياد ولصاحب الشبكة أجر مثلها وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق بينهما على ما شرطاه لأنها عين تنمي بالعمل فيها فصح دفعها ببعض نمائها كالأرض

فصل : النهي عن قفيز الطحان
فصل : قال ابن عقيل : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قفيز الطحان ] وهو أن يعطي الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها وعلة المنع أنه جعل له بعض معموله أجرا لعمله فيصير الطحن مستحقا له عليه وهذا الحديث لا نعرفه ولا يثبت عندنا صحته وقياس قول أحمد جوازه لما ذكرناه عنه من المسائل

فصل : فإن كان لرجل دابة ولآخر أكاف
فصل : فإن كان لرجل دابة ولآخر أكاف وجوالقات فاشتركا على أن يؤجراهما والأجرة بينهما نصفان فهو فاسد لأن هذه أعيان لا يصح الإشتراك فيها كذلك في منافعها إذ تقديره أجر دابتك لتكون أجرتها بيننا وأؤجر جوالقاني لتكون أجرتها بيننا وتكون الأجره كلها لصاحب البهيمة لأنه مالك الأصل وللآخر أجر مثله على صاحب البهيمة لأنه أستوفى منافع ملكه بعقد هذا إذا أجرا الدابة بما عليها من الأكاف والجوالقات في عقد واحد فأما لو أجر كل واحد منهما ملكه منفردا فلكل واحد منهما أجر ملكه وهكذا لو قال رجل لصاحبه أجر عبدي والأجر بيننا كان الأجر لصاحبه وللآخر أجر مثله وكذلك في جميع الأعيان

فصل : فإن اشتراك ثلاثة
فصل : فإن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن آخر راوية ومن الآخر العمل على أن ما رزق الله تعالى فهو بينهم صح في قياس قول أحمد فإنه قد نص في الدابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها على أن لهما الأجرة على الصحة وهذا مثله لأنه دفع دابته إلى آخر يعمل عليها والراوية عين تنمي بالعمل عليها فهي كالبهيمة فعلى هذا يكون ما رزق الله بينهم على ما اتفقوا عليه وهذا قول الشافعي ولأنهما وكلا العامل في كسب مباح بآلة دفعاها إليه فأشبه ما لو دفع إليه أرضه ليزرعها وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان ومن آخر رحى ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك فما رزق الله تعالى فهو بينهم صح وكان بينهم على ما شرطوه وقال القاضي : العقد فاسد في المسألتين جميعا وهو ظاهر قول الشافعي لأن هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة لكونهما لا يجوز أن يكون رأس مالهما العروض ولأن من شرطهما عود رأس المال سليما بمعنى أنه لا يستحق شيء من الربح حتى يستوفي رأس المال بكماله والرواية ههنا تخلق وتنقص ولا إجارة لأنها تفتقر إلى مدة معلومة وأجر معلوم فتكون فاسدة فعلى هذا يكون الأجر كله في المسألة الأولى للسقاء لأنه لما غرف الماء في الأناء ملكه فإذا باعه فثمنه له لأن عوض ملكه وعليه لصاحبيه أجر المثل لأنه استعمل ملكهما بعوض لم يسلم لهما فكان لهما أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة وأما في المسألة الثانية فإنهم إذا طحنوا لرجل طعاما بأجرة نظرت في عقد الإجارة فإن كان من واحد منهما ولم يذكر أصحابه ولا نواهم فالأجر كله له وعليه لأصحابه أجر المثل وإن نوى أصحابه أو ذكرهم كان كما لو عقد مع كل واحد منهم منفردا أو استأجر من جميعهم فقال : استأجرتكم لتطحنوا لي هذا الطعام بكذا فالأجر بينهم أرباعا لأن كل واحد منهم قد لزمه طحن ربعه بربع الأجر ويرجع كل واحد منهم على أصحابه بربع أجر مثله وإن قال : استأجرت هذا الدكان والبغل والرحى وهذا الرجل وكذا الطحن كذا وكذا من الطعام صح والأجر بينهم على قدر أجر مثلهم لكل واحد من المسمى بقدر حصته في أحد الوجهين وفي الآخر يكون بينهم أرباعا بناء على ما إذا تزوج أربعا بمهر واحد أو كاتب أربعة أعبد بعوض واحد هل يكون العوض أرباعا أو على قدر قيمتهم ؟ على وجهين

مسألتان : وإن اشترك بدنان بمال
مسألة : قال : وإن اشترك بدنان بمال أحدهما أو بدنان بمال غيرهما أو بدن ومال أو مالان وبدن صاحب أحدهما أو بدنان بماليهما تساوي المال أو اختلف فكل ذلك جائز
ذكر أصحابنا الشركة الجائزة أربعا وقد ذكرنا نوعا وهو شركة الأبدان وبقي ثلاثة أنواع ذكرها الخرقي في خمسة أقسام منها المضاربة وهي إذا اشترك بدنان بمال أحدهما أو بدن ومال أو مالان وبدن صاحب أحدهما وقسم منها شركة الوجوه وهو إذا اشترك بدنان بمال غيرهما فقال القاضي : معنى هذا القسم أن يدفع واحد ماله إلى إثنين مضاربة فيكون المضاربان شريكين في الربح بمال غيرهما لأنهما إذا أخذ المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال غيرهما وهذا محتمل والذي قلنا له وجه لكونهما اشتركا فيما يأخذانه من مال غيرهما واخترنا هذا التفسير لأن كلام الخرقي بهذا التقدير يكون جامعا لأنواع الشركة الصحيحة وعلى تفسير القاضي يكون مخلا بنوع منها وهي شركة الوجوه ويكون هذا المذكور نوعا من المضاربة ولأن الخرقي ذكر الشركة بين اثنين وهو صحيح على تفسيرنا وعلى تفسير القاضي تكون الشركة بين ثلاثة وهو خلاف ظاهر قول الخرقي والقسم الخامس : إذا اشترك بدنان بماليهما وهذه شركة العنان وهي شركة متفق عليها فأما شركة الوجوه فهو أن يشترك إثنان فيما يشتريان بجاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال على أن ما اشتريا بينهما نصفين أو ثلاثا أو أربعا أو نحو ذلك ويبيعان ذلك فما قسم الله تعالى فهو بينهما فهي جائزة سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه أو قدره أو وقته أو ذكر صنف المال أو لم يعين شيئا من ذلك بل قال ما اشتريت من شيء فهو بيننا قال أحمد في رواية ابن منصور في رجلين اشتركا بغير رؤوس أموالهما على أن ما يشتريه كل واحد منهما بينهما فهو جائز وبهذا قال الثوري و محمد بن الحسين و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : لا يصح حتى يذكر الوقت أو المال أو صنفا من الثياب وقال مالك و الشافعي : يشترط ذكر شرائط الوكالة لأن شرائط الوكالة معتبرة في ذلك من تعين الجنس وغيره من شرائط الوكالة
ولنا أنهما اشتركا في الأبتياع وأذن كل واحد منهما للآخر فيه فصح وكان ما يتبايعانه بينهما كما لو ذكر شرائط الوكالة وقولهم أن الوكالة لا تصح حتى يذكر قدر الثمن والنوع ممنوع على رواية لنا وإن سلمنا ذلك فإنما يعتبر في الوكالة المفردة أما الوكالة الداخلية في ضمن الشركة فلا يعتبر فيها بدليل المضاربة وشركة العنان فإن ضمنها توكيلا ولا يعتبر فيها شيء من هذا كذا ههنا فعلى هذا إذا قال لرجل : ما اشتريت اليوم من شيء فهو بيني وبينك نصفان أو أطلق الوقت فقال : نعم أو قال : ما اشتريت أنا من شيء فهو بيني وبينك نصفان جاز وكانت شركة صحيحة لأنه أذن له في التجارة على أن يكون المبيع بينهما وهذا معنى الشركة ويكون توكيلا له في شراء نصف المتاع بنصف الثمن فيستحق الربح في مقابلة ملكه الحاصل في المبيع سواء خص ذلك بنوع من المتاع أو أطلق وكذلك إذا ما اشتريناه أو ما اشتراه أحدنا من تجارة فهو بيننا فهو شركة صحيحة وهما في تصرفاتهما وما يجب لهما وعليهما في إقرارهما وخصومتهما وغير ذلك بمنزلة شريكي العنان على ما شنذكره إن شاء الله تعالى وأيهما عزل صاحبه عن التصرف انعزل لأنه وكيله وسميت هذه شركة الوجوه لأنهما يشتركان فيما يشتريان بجاههما والجاه واحد يقال فلان وجيه إذا كان ذا جاء الله تعالى في موسى عليه السلام { وكان عند الله وجيها } وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام قال : يا رب إن كان قد خلق جاهي عندك فأسئلك بحق النبي الآمي الذي تبعثه في آخر الزمان فأوحى الله تعالى إليه : ما خلق جاهك عندي وإنك عندي لوجيه
فصل : القسم الثاني : أن يشترك بدنان بماليهما وهذا النوع الثالث من أنواع الشرك وهي شركة العنان ومعناها أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما وهي جائزة بالإجماع ذكره ابن المنذر وإنما اختلف في بعض شروطهما واختلف في علة تسميتها شركة العنان فقيل سميت بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير فإن عنانيهما يكونان سواء وقال الفراء : هي مشتقة من عن الشيء إذا عرض يقال عنت لي حاجة إذا عرضت فسميت الشركة بذلك لأن كل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه وقيل هي مشتقة من المعاننة وهي المعارضة يقال عاننت فلانا إذا عارضته بمثل ماله وأفعاله فكل واحد من الشريكين معارض لصاحبه لماله وفعاله وهذا يرجع إلى قول الفراء

فصل : ولا خلاف في أن يجوز جعل رأس المال الدراهم والدنانير
فصل : ولا خلاف في أنه يجوز جعل رأس المال الراهم والدنانير فإنها قيم الأموال وأثمانه البياعات والناس يشتركون بها من لدن النبي صلى الله عليه و سلم إلى زمننا من غير نكير فأما العروض فلا تجوز الشركة فيها في ظاهر المذهب نص عليه أحمد في رواية أبي طالب وحرب وحكاه عنه ابن المنذر وكره ذلك ابن سيرين و يحيى بن أبي كثير و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي لأن الشركة إما أن تقع على أعيان العروض أو قيمتها أو أثمانها : لا يجوز وقوعها على أعيانها لأن الشركة تقتضي الرجوع عند المفاصلة برأس المال أو بمثله وهذه لا مثل لها فيرجع إليه وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخر فيستوعب بذلك جميع الربح أو جميع المال وقد تنقص قيمته فيؤدي إلى أن يشاركه الآخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح ولا على قيمتها لأن القيمة غير متحققة القدر فيفضي إلى التنازع وقد يقوم الشيء بأكثر من قيمته ولأن القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الآخر في العين المملوكة له ولا يجوز وقوعها على أثمانها لأنها معدومة حال العقد ولا يملكانها ولأنه إن أراد ثمنها الذي يبيعها به فإنها تصير شركة معلقة على شرط وهو بيع الأعيان ولا يجوز ذلك وعن أحمد رواية أخرى أن الشركة والمضاربة تجوز بالعروض وتجعل قيمتها وقت العقد رأس المال قال أحمد : إذا اشتركا في العروض يقسم الربح على ما اشترطا وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل عن المضاربة بالمتاع قال : جائز فظاهر هذا صحة الشركة بها اختار هذا أبو بكر وأبو الخطاب وهو قول مالك و ابن أبي ليلى وبه قال : في المضاربة طاوس و الأوزاعي و حماد بن أبي سليمان لأن مقصود الشركة جواز تصرفهما في المالين جميعا وكون ربح المالين بينهما وهذا يحصل في العروض كحصوله في الأثمان فيجب أن تصح الشركة والمضاربة بها كالأثمان ويرجع كل واحد منهما عند المفاصلة بقيمة ما له عند العقد كما إننا جعلنا نصاب زكاتها قيمتها وقال الشافعي : إن كانت العروض من ذوات الأمثال كالحبوب والأدهان جازت الشركة بها في أحد الوجهين لأنها من ذوات الأمثال اشبهت النقود ويرع عند المفاصلة بمثلها وإن لم تكن من ذوات الأمثال لم يجز وجها واجدا لأنه لا يمكن الرجوع بمثلها
ولنا أنه نوع شركة فاستوى فيها ماله مثل من العروض وما لا مثل له كالمضاربة وقد سلم ان المضاربة لا تجوز بشيء من العروض ولأنها ليست بنقد فلم تصح الشركة بها كالذي لا مثل له

فصل : والحكم في النقرة
فصل : والحكم في النقرة كالحكم في العروض لأن قيمتها تزيد وتنقص وهي كالعروض وكذلك الحكم في المغشوش من الأثمان قل الغش أو كثر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان الغش أقل من النصف جاز وإن كثر لم يجز لأن الاعتبار بالغالب في كثير من الأصول
ولنا إنها مغشوشة فأشبه ما لو كان الغش أكثر ولأن قيمتها تزيد وتنقص أشبهت العروض وقولهم الاعتبار بالغالب ليس بصحيح فإن الفضة إذا كانت أقل لم يسقط حكمها في الزكاة وكذلك الذهب اللهم إلا أن يكون الغش قليلا جدا لمصلحة النقد كيسير الفضة في الدينار مثل الحبة ونحوها فلا اعتبار به لأنه لا يمكن التحرز منه ولا يؤثر في الربا ولا في غيره

فصل : ولا تصح الشركة إلا بالفلوس
فصل : ولا تصح الشركة بالفلوس وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و ابن القاسم صاحب مالك : ويتخرج الجواز إذا كانت نافقة فإن أحمد قال : لا أرى السلم في الفلوس لأنه يشبه الصرف وهذا قول محمد بن الحسن و أبي ثور لأنها ثمن فجازت الشركة بها كالدراهم والدنانير ويحتمل جواز الشركة بها على كل حال نافقة كانت أو غير نافقة بناء على جواز الشركة بالعروض ووجه الأول أنها تنفق مرة وتكسد أخرى فأشبهت العروض فإذا قلنا بصحة الشركة فيها إن كانت نافقة كان رأس المال مثلها وإن كانت كاسدة كانت قيمتها كالعروض

فصل : لا يجوز أن يكون رأس المال مجهولا
فصل : ولا يجوز أن يكون رأس مال الشركة مجهولا ولا جزافا لأنه لا بد من الرجوع به عند المفاصلة ولا يمكن مع الجهل والجزاف ولا يجوز بمال غائب ولا دين لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال وهو مقصود الشركة

فصل
فصل : ولا يشترط لصحتها اتفاق المالين في الجنس بل يجوز أن يخرج أحدهما دراهم والآخر دنانير نص عليه أحمد وبه قال الحسن و ابن سيرين وقال الشافعي : لا تصح الشركة إلا أن يتفقا في مال واحد بناء على أن خلط المالين شرط ولا يمكن إلا في المال الواحد ونحن لا نشترط ذلك ولأنهما من جنس الأثمان فصحت الشركة فيهما كالجنس الواحد ومتى تفاصلا يرجع هذا بدنانيره وهذا بدراهمه ثم اقتسما الفضل نص عليه أحمد فقال : يرجع هذا بدنانيره وهذا بدراهمه وقال : كذا يقول محمد والحسن وقال القاضي : إذا أراد المفاصلة قوما المتاع بنقد البلد وقوما مال الآخر به ويكون التقويم حين صرفا الثمن فيه
ولنا أن هذه شركة صحيحة رأس المال فيها الأثمان فيكون الرجوع بجنس رأس المال كما لو كان الجنس واحدا

فصل : لا يشترط تساوي المالين في القدر
فصل : ولا يشترط تساوي المالين في القدر وبه قال الحسن و الشعبي و النخعي و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي وقال بعض أصحاب الشافعي : يشترط ذلك
ولنا أنهما مالان من جنس الأثمان فجاز عقد الشركة عليهما كما لو تساويا

فصل : لا يشترط اختلاط المالين
فصل : ولا يشترط اختلاط المالين إذا عيناه وأحضراهما وبهذا قال أبو حنيفة و مالك : إلا أن مالكا شرط أن تكون أيديهما عليه بأن يجعلاه في حانوت لهما أو في يد وكيلهما وقال الشافعي : لا يصح حتى يخلطا المالين لأنهما إذا لم يخلطاهما فمال كل واحد منهما يتلف منه دون صاحبه أو يزيد له دون صاحبه فلم تنعقد الشركة كما لو كان من المكيل
ولنا أنه عقد يقصد به الربح فلم يشترط فيه خلط المال كالمضاربة ولأنه عقد على التصرف فلم يكن من شرطه الخلط كالوكالة وعلى مالك فلم يكن لمن شرطه أن تكون أيديهما عليه كالوكالة وقولهم إنه يتلف من مال صاحبه أو يزيد على ملك صاحبه ممنوع بل يتلف من مالهما وزيادته لهما لأن الشركة اقتضت ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصف مال صاحبه فيكون تلفه منهما وزيادته لهما وقال أبو حنيفة : متى تلف أحد المالين فهو من ضمان صاحبه
ولنا أن الوضيعة والضمان أحد موجبي الشركة فتعلق بالشريكين كالربح وكما لو اختلطا

فصل : ومتى وقعت الشركة فاسدة
فصل : ومتى وقعت الشركة فاسدة فإنهما يقتسمان الربح على قدر رأس أموالهما ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجر عمله نص عليه أحمد في المضاربة واختاره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن المسمى يسقط في العقد الفاسد كالبيع الفاسد إذا تلف المبيع في يد المشتري إلا أن يكون مال كل واحد منهما مميزاص وربحه معلوما فيكون له ربح ماله ولو ربح في جزء منه ربحا متميزا وباقيه مختلط كان له ما تميز من ربح ماله بحصته باقي ما له من الربح واختار الشريف أبو جعفر أنهما يقتسمان الربح على ما شرطاه ولا يستحق أحدهما على الآخر أجر عمله وأجراها مجرى الصحيحة في جميع أحكامها قال : لأن أحمد قال : إذا اشتركا في العروض قسم الربح على ما اشترطاه واحتج بأنه عقد يصح مع الجهالة فيثبت المسمى في فاسده كالنكاح والمذهب الأول قاله القاضي وكلام أحمد محمول على الرواية الأخرى في تصحيح المضاربة بالعروض لأن الأصل كون ربح مال كل واحد لمالكه لأنه نماؤه وإنما ترك ذلك بالعقد الصحيح فإذا لم يكن العقد صحيحا بقي الحكم على مقتضى الأصل كما أن البيع إذا كان فاسدا لم ينقل ملك كل واحد من المتبايعين عن ماله

فصل : وشركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة
فصل : وشركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة لأن كل واحد منهما يدفع المال إلى صاحبه أمنه وبإذنه له في التصرف وكله ومن شرط صحتها أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فأن أذن له مطلقا في جميع التجارات تصرف فيها وإن عين له جنسا أو نوعا أو بلدا تصرف فيه دون غيره لأنه متصرف بالأذن فوقف عليه كالوكيل ويجوز لكل واحد منهما أن يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة وكيف رأى المصلحة لأن هذا عادة التجار وله أن يقبض المبيع والثمن ويقبضهما ويخاصم في الدين ويطالب به ويحيل ويحتال ويرد بالعيب فيما وليه هو وفيما ولي صاحبه وله أن يستأجر من رأس مال الشركة ويؤجر لأن المنافع أجري مجرى الأعيان فصار كالشراء والبيع والمطالبة بالأجر لهما وعليهما لأن حقوق العقد لا تختص العاقد

فصل : وليس له أن يكاتب الرقيق
فصل : وليس له أن يكاتب الرقيق ولا يعتق على مال ولا غيره ولا يزوج الرقيق لأن الشركة تنعقد على التجارة وليست هذه الأنواع تجارة سيما تزويج العبد فإنه محض ضرر وليس له أن يفرض ولا يحابي لأنه تبرع وليس له التبرع وليس له أن يشارك بمال الشركة ولا يدفعه مضاربة لأن ذلك يثبت في المال حقوقا ويستحق ربحه لغيره وليس ذلك له وليس له أن يخلط مال الشركة بماله ولا مال غيره لأنه يتضمن إيجاب حقوق في المال وليس هو من التجارة المأذون فيها ولا يأخذ بالمال سفتجة ولا يعطي به سفتجة لأن في ذلك خطرا لم يؤذن فيه وليس له ان يستدين على مال الشركة فإن فعل فذلك له وله ربحه وعليه وضيعته قال أحمد في رواية صالح فيمن استدان في المال بوجهه ألفا فهو له وربحه له والوضيعة عليه وقال القاضي : إذا استقرض شيئا لزمهما وربحه لهما لأنه تمليك مال بمال فهو كالصرف ونص أحمد يخالف هذا ولأنه أدخل في الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه فلم يجز كما لو ضم إليها ألفا من ماله ويفارق الصرف لأنه بيع وإبدال عين بعين فهو كبيع الثياب بالدراهم وليس له أن يقر على مال الشركة فإن فعل لزم في حقه دون صاحبه سواء أقر بعين أو دين لأن شريكه إنما أذن في التجارة وليس الإقرار داخلا فيها وإن أقر بعيب في عين باعها قبل إقراره وكذلك يقبل إقرار الوكيل على موكله بالعيب نص عليه أحمد وكذلك إن أقر ببقية البيع أو بجميعه أو بأجر للمنادي أو الحمال وأشباه هذا ينبغي أن يقبل لأن هذا من توابع التجارة فكان له ذلك كتسليم المبيع وأداء ثمنه وإن ردت السلعة عليه بعيب فله أن يقبلها وله أن يعطي أرش العيب أو يحط من ثمنه أو يؤخر ثمنه لأجل العيب لأن ذلك قد يكون أحظ من الرد وإن حط من الثمن ابتداء أو أسقط دينا لهما عن غريمهما لزم في حقه وبطل في حق شريكه لأنه تبرع والتبرع يجوز في حق نفسه دون شريكه وإن كان لهما دين حال فأخر أحدهما حصته من الدين جاز وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة : لا يجوز ولنا أنه أسقط حقه من المطالبة فصح أن ينفرد أحدهما به كالابراء

فصل : وهل لأحدهما أن يبيع نساء
فصل : وهل لأحدهما أن يبيع نساء ؟ يخرج على روايتين بناء على الوكيل والمضارب وسنذكر ذلك وإن اشترى نساء بنقد عنده مثله أو نقد من غير جنسه أو اشترى بشيء من ذوات الأمثال وعنده مثله جاز لأنه إذا اشترى بجنس ما عنده فهو يؤدي مما في يديه فلا يفضي إلى الزيادة في الشركة وإن لم يكن في يده نقد ولا مثل جنس ما اشترى به أو كان عنده عرض فاستدان عرضا فالشراء له خاصة وربحه له وضمانه عليه لأنه استدانه على مال الشركة وليس له ذلك على ما أسلفناه والأولى أنه متى كان عنده من مال الشركة ما يمكنه أداء الثمن منه ببيعه أنه يجوز لأنه أمكنه أداء الثمن من مال الشركة فأشبه ما لو كان عنده نقد ولأن هذا عادة التجار ولا يمكن التحرز منه وهل له أن يبضع أو يودع ؟ على روايتين إحداهما : له ذلك لأنه عادة التجار وقد تدعوا الحاجة إلى الأيداع والثانية : لا يجوز لأنه ليس من الشركة وفيه غرر والصحيح أن الايداع يجوز عند الحاجة إليه لأنه من ضرورة الشركة أشبه دفع المتاع إلى الحمال وفي التوكيل فيما يتولى مثله بنفسه وجهان بناء على الوكيل وقيل يجوز للشريك التوكيل بخلاف الوكيل لأنه لو جاز للوكيل لاستفاد بحكم العقد مثل العقد والشريك يستفيد بعقد الشركة ما هو أخص منه ودونه لأن التوكيل أخص من عقد الشركة فإن وكل أحدهما ملك الآخر عزله لأن لكل واحد منهما التصرف في حق صاحبه بالتوكيل فكذلك بالعزل وهل لأحدهما أن يرهن بالدين الذي عليهما أو يرهن بالدين الذي لهما ؟ على وجهين أصحهما : أن له ذلك عند الحاجة لأن الرهن يراد للإيفاء والارتهان يراد للاستيفاء وهو يملك الايفاء والاستيفاء فملك ما يراد لهما والثاني : ليس له ذلك لأن فيه خطرا ولا فرق بين أن يكون ممن ولي العقد أو من غيره لكون القبض من حقوق العقد وحقوق العقد لا تختص العاقد فكذلك ما يراد له وهل له السفر بالمال ؟ فيه وجهان نذكرهما في المضاربة فأما الاقالة فالأولى أنه يملكها لأنها إن كانت بيعا فهو يملك البيع وإن كانت فسخا فهو يملك تالفسخ بالرد بالعيب إذا رأى المصلحة فيه فكذلك يملك الفسخ بالأقالة إذا كان الحظ فيه فإنه قد يشتري ما يرى أنه قد غبن فيه ويحتمل أن لا يملكها إذا قلنا هو فسخ لأن الفسخ ليس من التجارة وإن قال له اعمل برأيك جاز له أن يعمل كل ما يقع في التجارة من الأبضاع والمضاربة بالمال والمشاركة به وخلطه بماله والسفر به والأيداع والبيع نساء والرهن والارتهان والإقالة ونحو ذلك لأنه فوض إليه الرأي في التصرف الذي تقتضيه الشركة فجاز له كل ما هو من التجارة فأما ما كان تمليكا بغير عوض كالهبة والحطيطة لغير فائدة والقرض والعتق ومكاتبة الرقيق وتزويجهم ونحوه فليس له فعله لأنه إنما فوض إليه العمل برأيه في التجارة وليس هذا منها

فصل : وإن أخذ أحدهما حالا مضاربة مربحة
فصل : وإن أخذ أحدهما مالا مضاربة ربحه له ووضيعته عليه دون صاحبه لأنه يستحق ذلك في مقابلة عملة وليس ذلك من المال الذي اشتركا فيه وقد قال أصحابنا : في المضاربة إذا ضارب لرجل آخر ردما حصل من الربح في شركة الأول إذا كان فيه ضرر على الأول فيجيء ههنا مثله

فصل : والشركة من العقود الجائزة تبطل بحوث أحد الشريكين
فصل : والشركة من العقود الجائزة تبطل بموت أحد الشريكين وجنونه والحجر عليه للسفه وبالفسخ من أحدهما لأنها عقد جائز فبطلت بذلك كالوكالة وإن عزل أحدهما صاحبه انعزل المعزول فلم يكن له أن يتصرف إلا في قدر نصيبه وللعازل التصرف في الجميع لأن المعزول لم يرجع عن إذنه هذا إذا كان المال ناضا وإن كان عرضا فذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أنه لا ينعزل بالعزل وله التصرف حتى ينض المال كالمضارب إذ عزله رب المال وينبغي أن يكون له التصرف بالبيع دون المعاوضة بسلعة أخرى أو التصرف بغير ما ينض به المال وذكر أبو الخطاب أنه يعزل مطلقا وهو مذهب الشافعي لأنه عقد جائز فأشبه الوكالة فعلى هذا إن اتفقا على البيع أو القسمة فعلا وإن طلب أحدهما القسمة والآخر البيع أجيب طالب القسمة دون طالب البيع فإن قيل أليس إذا فسخ رب المال المضاربة فطلب العامل البيع أجيب إليه ؟ فالجواب أن حق العامل في الربح ولا يظهر الربح إلا بالبيع فاستحقه العامل لوقوف حصول حقه عليه وفي مسئلتنا ما يحصل من الربح يستدركه كل واحد منهما في نصيبه من المتاع فلم يجبر على البيع

فصل : فإن مات أحد الشريكين وله وارث
فصل : فإن مات أحد الشريكين وله وارث رشيد فله أن يقيم على الشركة ويأذن له الشريك في التصرف وله المطالبة بالقسمة فإن كان موليا عليه قام مقامه في ذلك إلا أنه لا يفعل إلا ما فيه المصلحة للمولي عليه فإن كان الميت قد وصى بمال الشركة أو بعضه لمعين فالموصى له كالوارث فيما ذكرنا وإن وصى به لغير معين كالفقراء لم يجز للوصي الاذن في التصرف لأنه قد وجب دفعه إليهم فيعزل نصيبهم ويفرقه بينهم وإن كان على الميت دين تعلق بتركته فليس للوارث إمضاء الشركة حتى يقضي دينه فإن قضاه من غير مال الشركة فله الاتمام وإن قضاه منه بطلت الشركة في قدر ما قضى

فصل : أن يشترك بدن ومال
فصل : القسم الثالث : أن يشترك بدن ومال وهذه المضاربة وتسمة قراضا أيضا ومعناه أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل ممن الربح بينهما حسب ما يشترطانه فأهل العراق يسمونه مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض وهو السفر فيها للتجارة قال الله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } ويحتمل أن يكون من ضرب كل واحد منهما في الربح بسهم ويسميه أهل الحجاز القراض فقيل هو مشتق من القطع يقال قرض الفأر الثوب إذا قطعه فكأن صاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها إلى العامل واقتطع له قطعة من الربح وقيل اشتقاقه من المساواة والموازنة يقال تقارض الشاعران إذا وازن كل واحد منهما بشعره وههنا من العامل العمل ومن الآخر المال فتوازنا وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة ذكره ابن المنذر ولروي عن حميد ابن عبد اله عن أبيه هم جده أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله أبني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فتسلفا من أبي موسى مالا وابتاعا به متاعا وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله فقالا : لو تلف كان ضمانه علينا فلم لا يكون ربحه لنا ؟ فقال رجل يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا ؟ قال قد جعلته وأخذ منهما نصف الربح وهذا يدل على جواز القراض وعن مالك عن العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أن عثمان قارضه وعن قتادة عن الحسن أن عليا قال : إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطا وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنهما قارضا ولا مخالف لهما في الصحابة فحصل إجماعا ولأن بالناس حاجة إلى المضاربة فإن الدراهم والدنانير لا تنمي إلا بالتقليب والتجارة وليس كل من يملكها يحسن التجارة ولأن كل من يحسن التجارة له رأس مال فاحتيج إليها من الجانبين فشرعها الله تعالى لدفع الحاجتين إذا ثبت هذا فإنها تنعقد بلفظ المضاربة والقراض لأنهما لفظتان موضوعان لها أو بما يؤدي معناها لأن المقصود المعنى فجاز بما دل عليه كلفظ التمليك في البيع

فصل : وحكم المضاربة حكم شركة العنان
فصل : وحكمها حكم شركة العنان في أن كل ما جاز للشريك عمله جاز للمضارب عمله وما منع منه الشريك منع منه المضارب وما اختلف فيه ثم فههنا مثله وما جاز أن يكون رأس مال الشركة جاز أن يكون رأس مال المضاربة وما لا يجوز ثم لا يجوز ههنا على ما فصلناه

فصل : أن يشترك مالان وبدن وبدن صاحب أحدهما
فصل : القسم الرابع : أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما فهذا يجمع شركة ومضاربة وهو صحيح فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لأحدهما وللآخر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرف فيها على أن يكون الربح بينهما نصفين صح ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحق ماله والباقي وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب الألفين ثلاثة أرباعه وللعامل ربعه وذلك لأنه جعل له نصف الربح فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل حصة ماله سهمان وسهم يستحقه وسهم يستحقه بعمله في مال شريكه وحصة مال شريكه أربعة أسهم للعامل سهم وهو الربع فإن قيل فكيف تجوز المضاربة ورأس المال مشاع ؟ قلنا إنما تمنع الإشاعة الجواز إذا كانت مع غير العامل لأنها تمنعه من التصرف بخلاف ما إذا كانت مع العامل فإنها لا تمنعه من التصرف فلا تمنع من صحة المضاربة فإن شرط للعامل ثلث الربح فقط فمال صاحبه بضاعة في يده وليست مضاربة لأن المضاربة إنما تحصل إذا كان الربح بينهما فأما إذا قال : ربح مالك لك وربح مالي لي فقبل الآخر كأن إبضاعا لا غير وبهذا كله قال الشافعي وقال مالك : لا يجوز أن يضم إلى القراض شركة كما لا يجوز أن يضم إليه عقد إجارة ولنا أنهما لم يجعلا أحد العقدين شرطا للآخر فلم تمنع من جمعهما كما لو كان المال متميزا

فصل : إذا دفع إليه ألفا مضاربة
فصل : إذا دفع إليه ألفا مضاربة وقال : أضف إليه ألفا من عندك واتجر بها والربح بيننا لك ثلثاه ولي جاز وكان شركة وقراضا وقال أصحاب الشافعي : لا يصح لأن الشركة إذا وقعت على المال كان الربح تابعا له دون العمل ولنا أنهما تساويا في المال وانفرد أحدهما بالعمل فجاز أن ينفرد بزيادة الربح كما لو لم يكن له مال قولهم أن الربح تابع للمال وحده ممنوع بل هو تابع لهما كما أنه حاصل بهما فإن شرط غير العامل لنفسه ثلثي الربح لم يجز وقال القاضي : يجوز بناء على جواز تفاضلهما في شركة العنان ولنا أنه اشترط لنفسه جزءا من الربح لا مقابل له فلم يصح كما لو شرط ربح مال العامل المنفرد وفارق شركة العنان لأن فيها عملا منهما فجاز أن يتفاضلا في الربح لتفاضلهما في العمل بخلاف مسئلتنا وأن جعلا الربح بينهما نصفين ولم يقولا مضاربة جاز وكان إبضاعاص كما تقدم وإن قالا مضاربة فسد العقد لما سنذكره إنشاء الله تعالى

فصل : أن يشترك بدنان بمال أحدهما
فصل : القسم الخامس : أن يشترك بدنان بمال أحدهما وهو أن يكون المال من أحدهما والعمل منهما مثل أن يخرج أحدهما ألفا ويعملان فيه معاص والربح بينهما فهذا جائز ونص عليه أحمد في رواية أبي الحارث وتكون مضاربة لأن غير صاحب المال يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره وهذا هو حقيقة المضاربة وقال أبو عبد الله بن حامد و القاضي و أبو الخطاب : إذا شرط أن يعمل معه رب المال لم يصح وهذا مذهب مالك و الأوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي و أبي ثور و ابن المنذر قال : ولا تصح المضاربة حتى يسلم المال إلى العامل ويخلي إلى العامل ويخلي بينه وبينه لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى المضارب فإذا شرط عليه العمل فلم يسلمه لأن يده عليه فيخالف موضوعها وتأول القاضي كلام أحمد و الخرقي على أن رب المال عمل من غير اشتراط
ولنا العمل أحد ركني المضاربة فجاز أن ينفرد به أحدهما مع وجود الأمرين من الآخر كالمال وقولهم إن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى العامل ممنوع إنما تقتضي إطلاق التصرف في مال غيره بجزء مشاع من ربحه وهذا حاصل مع اشتراكهما في العمل ولهذا لو دفع ماله إلى اثنين مضاربة صح ولم يحصل تسليم المال إلى أحدهما

فصل : ان شرط أن يعمل معه غلام رب المال صح
فصل : وإن شرط أن يعمل معه غلام رب المال صح وهذا ظاهر كلام الشافعي وقول أكثر الصحابة ومنعه بعضهم وهو قول القاضي لأن يد الغلام كيد سيده وقال أبو الخطاب : فيه وجهان أحدهما :
الجواز لأن عمل الغلام مال لسيده فصح ضمه إليه كما يصح أن يضم إليه بهيمة يعمل عليها

فصل : وأما شركة المفاوضة فنوعان
فصل : وأما شركة المفاوضة فنوعان أحدهما : أن يشتركا في جميع أنواع الشركة مثل أن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان فيصح ذلك لأن كل نوع منها يصح على انفراده فصح مع غيره
والثاني : أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة ويلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب وقيمة متلف وغرامة الضمان أو كفالة فهذا فاسد وبهذا قال الشافعي وأجازه الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة وحكى ذلك عن مالك وشرط أبو حنيفة لها شروطا وهي أن يكونا حرين مسلمين وأن يكون مالهما في الشركة سواء وأن يخرجا جميع ما يملكانه من جنس الشركة وهو الدراهم والدنانير واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة ] ولأنها نوع شركة يختص بأسم فكان فيها صحيج كشركة العنان
ولنا أنه عقد لا يصح بين الكافرين ولا بين كافر ومسلم فلم يصح بين المسلمين كسائر العقود الفاسدة ولأنه عقد لم يرد الشرع بمثله فلم يصح كما ذكرنا ولأن فيه غررا فلم يصح كبيع الغرر وبيان غرره أنه يلزم كل واحد ما لزم الآخر وقد يلزمه شيء لا يقدر على القيام به وقد أدخلا فيه الأكساب النادرة والخبر لا نعرفه ولا رواه أصحاب السنن ثم ليس فيه ما يدل على انه أراد هذا العقد فيحتمل أنه أراد المفاوضة في الحديث ولهذا روي فيه [ ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان ] وأما القياس فلا يصح فإن اختصاصهاباسم لا يقتضي الصحة كبيع المنابذة والملامسة وسائر البيوع الفاسدة وشركة العنان تصح من الكافرين والكافر والمسلم بخلاف هذا

مسألة : قال والربح على ما اصطلحا عليه
مسألة : قال : والربح على ما اصطلحا عليه
يعني في جميع أقسام الشركة ولا خلاف في ذلك في المضاربة المحضة قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماص جزءا من أجزاء ولأن استحقاق المضارب الريبح بعمله فجاز ما يتفقان عليه من قليل وكثير كالأجرة في الأجارة وكالجزء من الثمرة في المساقات والمزارعة واما شركة العنان وهو أن يشرك بدنان بماليهما فيجوز أن يجعلا الربح على قدر المالين ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال وأن يتفاضلا فيه مع تساويهما في المال وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك و الشافعي : من شرط صحتها كون الربح والخسران على قدر المالين لأن الربح في هذه الشركة تبع للمال بدليل أنه يصح عقد الشركة وإطلاق الربح فلا يجوز تغييره بالشرط كالوضيعة
ولنا أن الغعمل مما يستحق به الربح فجاز أن يتفاضلا في الربح مع وجود العمل منهما كالمضاربين لرجل واحد وذلك لأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر وأقوى على العمل فجاز له أن يشترط زيادة في الربح في مقابلة عمله كما يشترط الربح في مقابلة عمل المضارب يحققه أن هذه الشركة معقودة على المال والعمل جميعا ولكل واحد منهما حصة من الربح إذا كان مفردا فكذلك إذا اجتمعا وأما حالة الإطلاق فإنه لما لم يمكن بينهما شرط يقسم الربح عليه ويتقدر به قدرناه بالمال لعدم الشرط فإذا وجد الشرط فهو الأصل فيصير إليه كالمضاربة يصار إلى الشرط فإذا عدم وقال الربح بيننا كان بينهما نصفين وفارق الوضيعة فإنها لا تتعلق إلا بالمال بدليل المضاربة وأما شركة الأبدان فهي معقودة على العمل المجرد وهما يتفاضلان فيه مرة ويتساويان أخرى
فجاز ما اتفقا عليه من مساواة أو تفاضل كما ذكؤرنا في شركة العنان بل هذه أولى لانعقادها على العمل المجرد وأما شركة الوجوه فكلام الخرقي بعمومه يقتضي جواز ما يتفقان عليه من مساواة أو تفاضل وهو قياس المذهب لأن سائر الشركات الربح فيها على ما يتفقان عليه فكذلك هذه ولأنها تنعقد على العمل وغيره فجاز ما اتفقا عليه كشركة العنان وقال القاضي : الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشتري لأن الربح يستحق بالضمان إذا الشركة وقعت عليه خاصة إذ لا مال عندهما فيشتركان على العمل والضمان لا تفاضل فيه فلا يجوز التفاضل في الربح
ولنا أنها شركة فيها عمل فجاز ما اتفقا عليه في الربح كسائر الشركات وقول القاضي : لا مال لهما يعملان فيه قلنا إنما يشتركان ليعملا في المستقبل فيما يتخذانه بجاههما كما أن سائر الشركات إنما يكون العمل فيها فيما يأتي فكذا ههنا وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفا ويأذن أحدهما للآخر في التجارة بهما فمهما شرطا للعامل من الربح إذا زاد على النصف جاز لأنه مضارب لصاحبه في ألف ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه بغير خلاف وأن شرطا له دون نصف الربح لم يجز لأن الربح يستحق بمال وعمل وهذا الجزء الزائد على النصف المشروط لغير العامل لا مقابل له فبطل شرطه وإن جعلا الربح بينهما نصفين فليس هذا شركة ولا مضاربة لأن شركة العنان تقتضي أن يشتركا في المال والعمل والمضاربة تقتضي أن للعامل نصيبا من الربح في مقابلة عمله ولم يجعلا له ههنا في مقابلة عمله شيئا وغنما جعلا الربح على قدر المالين وعمله في نصيب ضاحبه تبرع فيكون ذلك إبضاعا وهو جائز إن لم يكن ذلك عوضا عن قرض فإن كان العامل اقترض الألف أو بعضها من صاحبه لم يجز لأنه جعل عمله في مال صاحبه عوضا عن قرضه وذلك غير جائز وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما مثل أن يخرج أحدهما ألفا ويعملان جميعا فيه فإن للعامل الذي لا مال له من الربح ما اتفقا عليه لأنه مضارب محض فأشبه ما لو يعمل معه رب المال فحصل مما ذكرنا أن الربح بينهما على ما اصطلحا عليه في جميع أنواع الشركة سواء ما ذكرنا في المضاربة التي فيها شركة على ما شرحنا

فصل : ومن شرط صحة المضاربة تقدير نصيب العامل
فصل : ومن شرط صحة المضاربة تقدير نصيب العامل لأنه يستحقه بالشرط فلم يقدر إلا به ولو قال : خذ هذا المال مضاربة ولم يسم للعامل شيئا من الربح فالربح كله لرب المال والوضيعة عليه وللعامل أجر مثله نص عليه أحمد وهو قول الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي ثور و أصحاب الرأي وقال الحسن و ابن سيرين و ألأوزاعي : الربح بينهما نصفين لأنه لو قال : والربح بيننا لكان بينهما نصفين فكذلك إذا لم يذكر شيئا
ولنا أن المضارب إنما يستحق بالشرط ولم يوجد وقوله مضاربة اقتضي أن له جزءا من الربح مجهولا فلم تصح المضاربة به كما لو قال : ولك جزء من الربح فأما إذا قال : والربح بيننا فإن المضاربة تصح ويكون بينهما نصفين لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة لم يترجح فيها أحدهما على الآخر فاقتضى التسوية كما لو قال : هذه الدار بيني وبينك وإن قدر نصيب العامل فقال : ولك ثلث الربح أو ربعه أو جزءا معلوما أي جزء كان فالباقي لرب المال لأنه يستحق الربح بماله لكونه نماءه وفرعه والعامل يأخذ بالشرط فما شرط له استحقه وما بقي فلرب المال بحكم الأصل وإن قدر نصيب رب المال مثل أن يقول ولي ثلث الربح ولم يذكر نصيب العامل ففيه وجهان أحدهما : لا يصح لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولم يشرط له شيء فتكون المضاربة فاسدة والثاني : يصح ويكون الباقي للعامل وهذا قول أبي ثور و أصحاب الرأي لأن الربح لهما لا يستحقه غيرهما فإذا قدر نصيب أحدهما منه فالباقي للآخر من مفهوم اللفظ كما علم ذلك من قول الله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } ولم يذكر نصيب الأب فعلم أن الباقي له ولأنه لو قال أوصيت بهذه المائة لزيد وعمر ونصيب زيد منها ثلاثون كان الباقي لعمر وكذا ههنا وإن قال : لي النصف ولك الثلث وسكت عن السدس صح وكان لرب المال لأنه لو سكت عن جميع الباقي بعد جزء العامل كان لرب المال فكذلك إذا ذكر بعضه وترك بعضه وإن قال : خذه مضاريبة على الثلث أو النصف أو قال : بالثلث أو الربح صح وكان تقدير النصيب للعامل لأن الشرط يراد لأجله فإن رب المال يستحق بماله لا بالشرط والعامل يستحق بالعمل والعمل يكثر ويقل وإنما تتقدر حصته بالشرط فكان الشرط له ومتى شرطا لأحدهما شيئا واختلفا في الجزء المشروط لمن هو ؟ فهو للعامل قليلا كان أو كثيرا لذلك وإن قال : خذه مضاربة ولك ثلث الربح وثلث ما بقي صح وكان له خمسة أتساع لأن هذا معناه وإن قال : لك ثلث الربح وربع ما بقي فله النصف وإن قال : لك ربع الربح وربع ما بقي فله ثلاثة أثمان ونصف ثمن وسواء عرفا الحساب أو جهلاه لأن ذلك أجزاء معلومة مقدرة فأشبه ما لو شرط الخمسين ومذهب الشافعي في كل هذا الفصل كله كمذهبنا

فصل : وإن قال خذه مضاربة ولك جزء من الربح
فصل : وإن قال خذه مضاربة ولك جزء من الربح أو شركة في الربح أو شيء من الربح أو نصيب أو حظ لم يصح لأنه مجهول ولا تصح المضاربة إلا على قدر معلوم وإن قال خذه ولك مثل ما شرط لفلان وهما يعلمان ذلك صح لأنهما أشارا إلى معلوم عندهما وإن كانا لا يعلمانه أو لا يعلمه أحدهما فسدت المضاربة لأنه مجهول

فصل : وإن قال خذ هذا المال فاتجر به وربحه كله لك
فصل : وإن قال : خذ هذا المال فاتجر به وربحه كله لك كان قرضا لا قراضا لأن قوله خذه فاتجر به يصلح لهما وقد قرن به حكم القرض فانصرف إليه وإن قال مع ذلك ولا ضمان عليك فهذا قرض شرط فيه نفي الضمان فلا ينتفيس بشرطه كما لو صرح به فقال خذ هذا قرضا ولا ضمان عليه وإن قال خذه فاتجر به والربح كله لي كان إبضاعا لأنه قرن به حكم الأبضاع فانصرف إليه فإن قال : مع ذلك وعليك ضمانه لم يضمنه لأنه العقد يقتضي كونه أمانة غير مضمونة فلا يزول ذلك بشرطه وإن قال خذه مضاربة والربح كله لك أو كله لي فهو عقد فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا قال : والربح كله لي كان إبضاعا صحيحا لأنه أثبت له حكم الأبضاع فانصرف إليه كالتي قبلها وقال مالك يكون مضاربة صحيحة في الصورتين لأنهما دخلا في القراض فإذا شرط لأحدهما فكأنه وهب الآخر نصيبه فلم يمنع صحة العقد
ولنا أن المضاربة تقتضي كون الربح بينهما فإذا شرط إختصاص أحدهما بالربح فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد ففسد كما لو شرط الربح كله في شركة العنان لأحدهما ويفارق ما إذا لم يقل مضاربة لأن اللفظ يصلبح لما أثبت حكمه من الأبضاع والقراض بخلاف ما إذا صرح بالمضاربة وما ذكره مالك لا يصح لأن الهبة لا تصح قبل وجود الموهوب

فصل : ويجوز أن يدفع مالا إلى اثنين مضاربة في عقد واحد
فصل : ويجوز أن يدفع مالا إلى اثنين مضاربة في عقد واحد فإن شرط لهما جزءا من الربح بينهما نصفين جاز وإن قال : لكما كذا وكذا من الربح ولم يبين كيف هو كان بينهما نصفين لأن إطلاق قوله بينهما يقتضي التسوية كما لو قال لعامله : والربح بيننا وإن شرط لأحدهما ثلث الربح وللآخر ربعه وجعل الباقي له جاز وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا يجوز لأنهما شريكان في العمل بأبدانهما فلا يجوز تفاضلهما في الربح كشريكي الأبدان
ولنا أن عقد الواحد مع الإثنين عقدان فجاز أن يشترط في أحدهما أكثر من الآخر كما لو انفرد ولأنهما يستحقان بالعمل وهما يتفاضلان فيه فجاز تفاضلهما في العوض كالأجيرين ولا نسلم وجوب التساوي في شركة الأبدان بل هي كمسألتنا في جواز تفاضلهما ثم الفرق بينهما أن ذلك عقد واحد وهذان عقدان

فصل : وإن قارض إثنان واحدا بألف
فصل : وإن قارض إثنان واحدا بألف لهما جاز وإذا شرطا له ربحا متساويا منهما جاز وإن شرط أحدهما له النصف والآخر الثلث جاز ويكون باقي ربح مال كل واحد منهما لصاحبه وإن جاز شرطا كون الباقي من الربح بينهما نصفين لم يجز وهذا مذهب الشافعي وكلام القاضي يقتضي جوازه وحكي ذلك عن أبي حنيفة و أبي ثور
ولنا أن أحدهما يبقي له من ربح ماله النصف والآخر يبقي له الثلثان فإذا اشترطا التساوي فقد شرط أحدهما جزءا من ربح ماله بغير عمل فلم يجز كما لو شرط ربح ماله المنفرد

فصل : وإذا شرطا جزء من الربح لغير العامل
فصل : وإذا شرطا جزءا من الربح لغير العامل نظرت فإن شرطاه لعبد أحدهما أو لعبديهما صح وكان ذلك مشروطا لسيده فإذا جعلا الربح بينهما وبين عبديهما أثلاثا كان لصاحب العبد الثلثان وللآخر الثلث وإن شرطاه لأجنبي أو لولد أحدهما أو امرأته أو قريبه وشرطا عليه عملا مع العامل صح وكانا عاملين وإن لم يشترطا عليه عملا لم تصح المضاربة وبهذا قال الشافعي وحكي عن أصحاب الرأي أنه يصح والجزء المشروط له لرب المال سواء شرط لفريب العامل أو لقريب رب المال أو لأجنبي لأن العامل لا يستحق إلا ما شرط له ورب المال يستحق الربح بحكم الأصل والأجنبي لا يستحق شيئا لأنه إنما يستحق الربح بمال أو عمل وليس هذا واحدا منهما فما شرط لا يستحقه فيرجع إلى رب المال كما لو ترك ذكره
ولنا أنه شرط فاسد يعود إلى الربح ففسد به العقد كما لو شرط دراهم معلومة وإن قال : لك الثلثان على أن تعطي إمرأتك نصفه فكذلك لأنه شرط في الربح شرطا لا يلزم فكان فاسدا والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة فيما ذكرناه

فصل : والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة
فصل : والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة في وجوب معرفة قدر ما لكل واحد منهما من الربح إلا إنهما إذا أطلقها ولم يذكرا الربح كان بينهما على قدر المالين وفي شركة الوجوه يكون على قدر ملكيهما في المشترى لأن لهما أصلا يرجعان إليه ويتقدر الربح به بخلاف المضاربة فإنه لا يمكن تقدير الربح فيها بالمال والعمل لكون أحدهما من غير جنس الآخر فلا يعلم قدره منه وأما شركة الأبدان فلا مال فيها يقدر الربح به فيحتمل أن يتقدر بالعمل لأن عمل أحدهما من جنس عمل الآخر فقد تساويا في أصل العمل فيكون ذلك أصلا يرجع إليه ويحتمل أن لا يقدر به لأن العمل يقل ويكثر ويتفاضل ولا يوقف على مقداره بخلاف المال فيعتبر ذكر الربح والمعرفة به كما في المضاربة والله أعلم

مسألة : قال والوضيعة على قدر المال
فصل : يعني الخسران في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله فإن كان مالهما متساويا في القدر فالخسران بينهما نصفين وإن كان أثلاثا فالوضيعة أثلاثا لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي وغيرهما وفي شركة الوجوه تكون الوضيعة على قدر ملكيها في المشتري سواء كان الربح بينهما كذلك لو لم يكن وسواء كانت الوضيعة لتلف أو نقصان في الثمن عما اشتريا به أو غير ذلك والوضيعة في المضاربة على المال خاصة ليس على العامل منها شيء لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال وهو مختص بملك ربه لا شيء للعامل فيه فيكون نقصه من ماله دون غيره وإنما يشتركان فيما يحصل من النماء فأشبه المساقات والمزارعة فإن رب الأرض والشجر يشارك العامل فيما يحدث من الزرع والثمر وإن تلف الشجر أو هلك شيء من الأرض بغرق أو غيره لم يكن على العامل شيء

مسألة : قال ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم
مسألة : قال : ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء دراهم
وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يشترط لنفسه جزءا وعشرة دراهم بطلت الشركة قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة وممن حفظنا ذلك عنه مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي والجواب فيما لو قال لك نصف الربح إلا عشرة دراهم أو نصف الربح وعشرة دراهم كالجواب فيما إذا شرط دراهم مفردة وإنما لم يصح ذلك لمعنين أحدهما : لأنه إذا شرط دراهم معلومة احتمل أن لا يربح غيرها فيحصل على جميع الربح واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال جزءا وقد يربح كثيرا فيستضر من شرطت له الدراهم والثاني : أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما يشترط أن يكون معلوما به ولأن العامل متى شرط لنفسه دراهم معلومة ربما توانى في طلب الربح لعدم فائدته فيه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا كان له جزء من الربح

فصل : وإن دفع إليه القيمة مضاربة
فصل : وإن دفع إليه ألفين مضاربة على أن كل واحد منهما ربح ألف أو على أن لأحدهما ربح أحد الثوبين أو ربح إحدى السفرتين أو ربح تجارته في شهر أو عام بعينه ونحو ذلك فسد الشرط والمضاربة لأنه قد يربح في ذلك المعين دون غيره وقد يربح دونه فيختص أحدهما بالربح وذلك يخالف موضوع الشركة ولا نعلم في هذا خلافا وإن دفع إليه ألفا وقال : لك ربح نصفه لم يجز وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و أبو ثور : يجوز لأن نصف ربحه هو ربح نصفه فجاز شرطه كما لو عبر عنه بعبارته الأخرى ولنا أنه شرط لأحدهما ربح بعض المال دون بعض وكذلك جعل الآخر فلم يجز كما لو قال لك : ربح هذه الخمسمائة ولأنه يمكن أن يفرد نصف المال فيربح فيه دون النصف الآخر بخلاف نصف الربح فإنه لا يؤدي إلى انفراده بربح شيء من المال

مسألة : قال : والمضارب إذا باع نسيئة بغير أمر ضمن
مسألة : قال : والمضارب إذا باع بنسيئة بغير أمر ضمن في إحدى الروايتين والأخرى لا يضمن
وجملته أن المضارب وغيره من الشركاء إذا نص له على التصرف فقال : نقدا أو نسيئة أو قال : بنقد البلد أو ذكر نقدا غيره جاز ولم تجز مخالفته لأنه متصرف بالأذن فلا يتصرف في غير ما أذن له فيه كالوكيل ولأن ذلك لا يمنع مقصود المضاربة وقد يطلب بذلك الفائدة في العادة ولإن اطلق فلا خلاف في جواز البيع حالا وفي البيع نسيئة روايتان احدهما : ليس له ذلك وهو قول مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي : لأنه نائب في البيع فلم يجز له البيع نسيئة بغير إذن صريح فيه كالوكيل وذلك لأن النائب لا يجوز له التصرف إلا على وجه الحظ والاحتياط وفي النسيئة تغرير بالمال وقرينة الحال تقيد مطلق الكلام فيصير كأنه قال : بعه حالا والثانية : أنه يجوز له البيع نساء وهو قول أبي حنيفة واختيار ابن عقيل لأنه إذنه في التجارة والمضاربة ينصرف إلى التجارة المعتادة وهذا عادة التجار ولأنه يقصد به الربح والربح في النساء أكثر ويفارق الوكالة المطلقة فإنها لا تختص بقصد الربح وإنما المقصود تحصيل الثمن فحسب فإذا أمكن تحصيله من غير خطر كان أولى ولأن الوكالة المطلقة في البيع تدل على أن حاجة الموكل إلى الثمن ناجزة فلم يجز تأخيره بخلاف المضاربة وإن قال له : أعمل برأيك فله البيع نساء وكذلك إذا قال له : تصرف كيف شئت وقال الشافعي : ليس له البيع نساء في الموضعين لأن فيه غررا فلم يجز كما لو لم يقل له ذلك ولنا أنه داخل في عموم لفظه وقرينة حاله تدل على رضائه برأيه في صفات البيع وفي أنواع التجارة وهذا منها فإذا قلنا له البيع نساء فالبيع صحيح ومهما فات من الثمن لا يلزمه ضمانه إلا أن يفرط ببيع من لا يوثق به أو من لا يعرفه فيلزمه ضمان الثمن الذي انكسر على المشتري وإن قلنا ليس له البيع نساء فالبيع باطل لأنه فعل ما لم يؤذن له فيه فاشبه البيع من الأجنبي إلا على الرواية التي تقول يقف بيع الأجنبي على الإجازة فههنا مثله ويحتمل قول الخرقي صحة البيع فإنه إنما ذكر الضمان ولم يذكر فساد البيع وعلى كل حال يلزم العامل الضمان لأن ذهاب الثمن حصل بتفريطه فإن قلنا بفساد البيع بقيمته إذا تعذر عليه استرجاعه إما لتلف المبيع أو امتناع المشتري من رده إليه وإن قلنا بصحته احتمل أن يضمنه بقيمته أيضا لأنه لم يت بالبيع أكثر منها ولا ينحفظ بتركه سواها وزيادة الثمن حصلت بتفريطه فلا يضمنها واحتمل أن يضمن الثمن لأنه وجب بالبيع وفات بتفريط البائع وإن نقص عن القيمة فقد انتقل الوجوب إليه بدليل أنه لو حصل الثمن لم يضمن شيئا

فصل : وليس له السفر بالمال في أحدى الوجهين
فصل : وليس له السفر بالمال في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأن في السفر تغريرا بالمال وخطرا ولهذذا يروي : أن المسافر وماله لعلي قلت إلا ما وقى الله تعالى أي هلاك ولا يجوز له التغرير بالمال بغير إذن مالكه والوجه الثاني : له السفر به إذا لم يكن مخوفا قال القاضي : قياس المذهب جوازه بناء على السفر بالوديعة وهذا قول مالك ويحكى ذلك عن أبي حنيفة لأن الأذن المطلق ينصرف إلى ما جرت به العادة والعادة جارية بالتجارة سفرا وحضرا ولأن المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض فملك ذلك بمطلقها وهذان الوجهان في المطلق فأما إن أذن في السفر أو نهى عنه أو وجدت قرينة دالة على أحد الأمرين تعين ذلك وثبت ما أمر به وحرم ما نهي عنه وليس له السفر في موضع مخوف على الوجهين جميعا وكذلك لو أذن له في السفر مطلقا لم يكن له السفر في طريق مخوف ولا إلى بلد مخوف فغن فعل فهو ضامن لما يتلف لأنه متعد بفعل ما ليس له فعله وإن سافر في طريق آمن جاز ونفقته في مال نفسه وبهذا قال ابن سيرين وحماد ابن أبي سليمان ظاهر مذهب الشافعي وقال الحسن و النخعي و الأوزاعي و مالك و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي : بنفق من المال بالمعروف إذا شخص بع عن البلد لأن سفره لأجل المال فكلنت نفقته منه كأجر الحمال ولنا أن نفقته تخصه فكانت عليه كنفقة الحضر وأجر الطبيب وثمن الطب ولأنه دخل على أنه يستحق من الربح الجزء المسمى فلا يكون له غيره ولأنه لو استحق النفقة افضى إلى أن يختص بالربح إذا لم يربح سوى ما أنفقه فأما إن اشترط له النفقة فله ذلك وله ما قدر له من مأكول وملبوس ومركوب وغيره قال أحمد في رواية الأثرم : أحب إلي أن يشترط نفقة محدودة وإن أطلق صح نص عليه وله نفقته من المأكول ولا كسوة له قال أحمد إذا قال : له نفقته فإنه ينفق قيل له فيكتسي قال : لا إنما له النفقة وإن كان سفره طويلا يحتاج إلى تجديد كسوة فظاهر كلام أحمد جوازها لأنه قيل له فلم يشترط الكسوة إلا أنه في بلد بعيد وله مقام طويل يحتاج فيه إلى كسوة فقال : إذا أذن له في النفقة فعل ما لم يحمل على مال الرجل ولم يكن ذلك قصده هذا معناه وقال القاضي و أبو الخطاب : إذا شرط له النفقة فله جميع نفقته من مأكول أو ملبوس بالمعروف وقال أحمد : ينفق على معنى ما كان ينفق على نفسه غير متعد بالنفقة ولا مضر بالمال ولم يذهب أحمد إلى تقدير النفقة لأن الأسعار تختلف وقد تقل وقد تكثر فإن اختلفا في قدر النفقة فقال أبو الخطاب : يرجع في القوت إلى غلإطعام في الكفارة وفي الكسوة إلى أقل ملبوس مثله فإن كان معه مال لنفسه مع مال المضاربة أو كان معه مضاربة أخرى أو بضاعة لآخر فالنفقة على قدر المالين لأن النفقة إنما كانت لأجل السفر والسفر للمالين فيجب أن تكون النفقة مقسومة على قدرهما إلا أن يكون رب المال قد شرط له النفقة مع علمه بذلك ولو أذن له في السفر إلى موضع معين أو غير معين ثم لقيه رب المال في السفر أما بذلك الموضع أو في غيره وقد نض المال فأخذ ماله فطالبه العامل بنفقة الرجوع إلى بلده لم يكن له لأنه إنما يستحق النفقة ما داما في القراض وقد زال فزالت النفقة ولذلك لو مات لم يجب تكفينه وقد قيل له ذلك لأنه كان شرط له نفقة ذهابه ورجوعه وغيره بتفسيره إلى الموضع الذي أذن له فيه معتقدا أنه مستحق للنفقة ذاهباص وراجعا فإذا قطع عنه النفقة تضرر بذلك

فصل : وحكم المضارب حكم الوكيل
فصل : وحكم الضارب حكم الوكيل في أنه ليس له أن يبيع بأقل من ثمن المثل ولا يشتري بأكثر منه مما لا يتغابن الناس بمثله فإن فعل فقد روي عن أحمد أن البيع يصح ويضمن النقص لأن الضرر ينجبر بضمان النقص والقياس أن البيع باطل وهو مذهب الشافعي لأنه لم يؤذن له فيه فأشبه بيع الأجنبي فعلى هذا أن تعذر رد المبيع ضمن النقص أيضا وإن أمكن رده وجب رده إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ولرب المال مطالبة من شاء من العامل أو المشتري فإن أخذ من المشتري قيمته رجع المشتري على العامل بالثمن وإن رجع على العامل بقيمته رجع العامل على المشتري بها ورد عليه الثمن لأن التلف حصل في يده وأما ما يتغابن الناس بمثله فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز منه وأما إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل بعين المال فهو كالبيع وإن اشترى في الذمة لزم العامل دون رب المال إلا أن يجيزه فيكون له هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي : إن أطلق الشراء ولم يذكر رب المال فكذلك وإن صرح للبائع إنني اشتريته لفلان فالبيع باطل أيضا

فصل : هل له أن يبيع ويشتري بغير نقد البلد
فصل : وهل له أن يبيع ويشتري بغير نقد البلد ؟ على روايتين الأولى : جوازه إذا رأى المصلحة فيه والربح حاصل به كما يجوز أن يبيع عرضا بعرض ويشتريه به فإن قلنا : لا يملك ذلك ففعله فحكمه حكم ما لو اشترى أو باع بغير ثمن المثل وإن قال له : اعمل برأيك فله ذلك وهل له الزراعة ؟ يحتمل أن لا يملك ذلك لأن المضاربة لا يفهم من إطلاقها المزارعة وقد روي عن أحمد رحمه الله فيمن دفع إلى رجل ألفا وقال : اتجر فيها بما شئت فزرع زرعا فربح فيه فالمضاربة جائزة والربح بينهما قال القاضي : ظاهر هذا أن قوله اتجر بما شئت دخلت فيه المزارعة لأنها من الوجوه التي يبتغي بها النماء وعلى هذا لو نوى المال كله في المزارعة لم يلزمه ضمانه

فصل : وله أن يشتري المصيب إذا رأى المصلحة فيه
فصل : وله أن يشتري المعيب إذا رأى المصلحة فيه لأن المقصود الربح وقد يكون الربح في المعيب فإن اشتراه يظنه سليما فبان معيبا فله فعل ما يرى المصلحة فيه من رده بالعيب أو إمساكه وأخذ أرش العيب فإن اختلف العامل ورب المال في الرد فطالبه أحدهما وأباه الآخر فعل ما فيه النظر والحظ لأن المقصود تحصيل الحظ فيحتمل الأمر على ما فيه الحظ وأما الشريكان إذا اختلفا في رد المعيب فلطالب الرد رد نصيبه وللآخر إمساك نصيبه إلا أن يكون البائع لم يعلم ان الشراء لهما جميعا فلا يلزمه قبول رد بعضه لأن ظاهر الحال أن العقد لمن وليه فلم يجز إدخال الضرر على البائع بتبعيض الصفقة عليه ولو أراد الذي ولي العقد رد بعض المبيع وإمساك البعض كان حكمه حكم ما لو أراد شريكه ذلك على ما فصلناه

فصل : وليس له أن يشتري من يقدمه على رب المال بغير إذن
فصل : وليس له أن يشتري من يعتق على رب المال بغير إذنه لأنه عليه فيه ضررا فإن اشتراه بأذن رب المال صح لأنه يجوز أن يشتريه بنفسه فإذا أذن لغيره فيه جاز ويعتق عليه وتنفسخ المضاربة في قدر ثمنه لأنه قد تلف ويكون محسوباص على رب المال فإن كان ثمنه كل المال انفسخت المضاربة وإن كان في المال ربح رجع العامل بحصته منه وإن كان بغير إذن رب المال احتمل أن لا يصح الشراء إذا كان الثمن عيناص لأن العامل اشترى ما ليس له أن يشتريه فكان بمنزلة ما لو اشترى شيئا بأكثر من ثمنه ولأن الأذن في المضاربة إنما ينصرف إلى ما يمكن بيعه والربح فيه فلا يتناول غير ذلك وإن كان اشتراه في الذمة وقع الشراء للعاقد وليس له دفع الثمن من مال المضاربة وإن فعل ضمن وبهذا قال الشافعي وأكثر الفقهاء وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد صحة الشراء لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه كما لو اشترى من نذر رب المال اعتاقه ويعتق على رب المال وتنفسخ المضاربة فيه ويلزم العامل ضمانه على ظاهر كلام أحمد علم بذلك أو جهل لأن مال المضاربة تلف بسببه ولا فرق في الإتلاف الموجب للضمان بين العلم والجهل وفيما يضمنه وجهان أحدهما : قيمته لأن الملك ثبت فيه ثم تلف فأشبه ما لو أتلفه بفعله والثاني : الثمن الذي اشتراه به لأن التفريط منه حصل بالشراء وبذل الثمن فيما يتلف بالشراء فكان عليه ضمن ما فرط فيه ومتى ظهر في المال ربح فللعامل حصته منه وقال أبو بكر : إن لم يكن العامل عالماص بأنه يعتق على رب المال لم يضمن لأن التلف حصل لمعنى في المبيع لم يعلم به المشتري فلم يضمن كما لو اشترى معيبا لم يعلم بعيبه فتلف به قال : ويتوجه أن لا يضمن وإن علم

فصل : وإن اشترى امرأة رب المال صح الشراء
فصل : وإن اشترى امرأة رب المال صح الشراء وانفسخ النكاح فإن كان قبل الدخول فهل يلزم الزوج نصف الصداق ؟ فيه وجهان ذكرناهما في غير هذا الموضع فإن قلنا يلزمه رجع به على العامل لأنه سبب تقريره عليه فرجع عليه كما لو أفسدت امرأة نكاحه بالرضاع وإن اشترى زوج ربة المال صح الشراء وانفسخ النكاح لأنها ملكت زوجها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يصح الشراء إذا كان بغير إذنها لأن الأذن إنما يتناول شراء مالها فيه حظ وشراء زوجها يضر بها لأنه يفسخ نكاحها ويضر به ويسقط حقها من النفقة والكسوة فلم يصح كشراء ابنها
ولنا أنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه فجاز كما لو اشترى أجنبيا ولا ضمان على العامل فيما يفوت من المهر ويسقط من النفقة لأن ذلك لا يعود إلى المضاربة وإنما هو سبب آخر ولا فرق بين شرائه في الذمة أو بعين المال

فصل : وإن اشترى المأذون له من يعتق على رب المال باذنه صح
فصل : وإن اشترى المأذون له من يعتق على رب المال بإذنه صح وعتق فإن كان على المأذون له دين يستغرق قيمته وما في يده وقلنا يتعلق الدين برقبته فعليه دفع قيمة العبد الذي عتق إلى الغرماء لأنه الذي أتلف عليهم بالعتق وإن نهاه عن الشراء فالشراء باطل لأنه يملكه بالإذن وقد زال بالنهي وإن أطلق الأذن فقال أبو الخطاب : يصح شراؤه لأن من صح أن يشتريه السيد صح شراء المأذون له كالأجنبي وهذا قول أبي حنيفة إذا أذن له في التجارة ولم يدفع إليه مالا وقال القاضي : لا يصح لأن فيه إتلافا على السيد فغن أذنه يتناول ما فيه حظ فلا يدخل فيه الإتلاف وفارق عامل المضاربة لأنه يضمن القيمة فيزول الضرر وللشافعي قولان كالوجهين وإن اشترى إمرأة رب المال أو زوج ربة المال فهل يصح على وجهين أيضا كشراء من يعتق بالشراء

فصل : وإن اشترى المضارب من يعتق عليه صح الشراء
فصل : وإن اشترى المضارب من يعتق عليه صح الشراء فإن لم يكن ظهر في المال ربح لم يعتق من شيء وإن ظهر فيه ربح ففيه وجهان مبينان على العامل متى يملك الربح ؟ فإن قلنا يملكه بالقسمة لم يعتق منه شيء لأنه ما ملكه وإن قلنا : يملكه بالظهور ففيه وجهان أحدهما : لا يعتق وهو قول أبي بكر لأنه لم يتم ملكه عليه لأن الربح وقاية لرأس المال فلم يعتق لذلك والثاني : يعتق بقدر حصته من الربح إن كان معسرا ويقوم عليه باقية إن كان موسرا لأنه ملكه بفعله فيعتق عليه كما لو اشتراه بماله وهذا قول القاضي ومذهب أصحاب أبي حنيفة لكن عندهم يستسعى في بقيته إن كان معسرا
ولنا رواية كقولهم وإن اشتراه ولم يظهر ربح ثم ظهر بعد ذلك والعبد باق في التجارة فهو كما لو كان الربح ظاهرا وقت الشراء وقال الشافعي : إن اشتراه بعد ظهور الربح لم يصح في أحد الوجهين لأنه يؤدي إلى أن ينجز العامل حقه قبل رب المال
ولنا أنهما شريكان فصح شراء كل واحد منهما من يعتق عليه كشريكي العنان

فصل : وليس له أن يشتري بأكثر من رأس المال
فصل : وليس له أن يشتري بأكثر من رأس المال لأن الأذن ما تناول أكثر منه فإن كان رأس المال ألفا فاشترى عبدا بألف ثم عبدا آخر بعين الألف فالشراء فاسد لأنه اشتراه بمال يستحق تسليمه في البيع الأول وإن اشتراه في ذمته صح الشراء والعبد له لأنه اشترى في ذمته لغيره ما لم يأذن له في شرائه فوقع له وهل يقف على إجازة رب المال ؟ على روايتين ومذهب الشافعي كنحو ما ذكرنا

فصل : وليس للمضارب وطء أمة من المضاربة
فصل : وليس للمضارب وطء أمة من المضاربة سواء ظهر في المال ربح أو لم يظهر فإن فعل فعليه المهر والتعزير وإن علقت منه ولم يظهر في المال ربح فولده رقيق لأنها علقت منه في غير ملك ولا شبهةة ملك ولا تصير أم ولد له وكذلك وغن ظهر في المال ربح فالولد حر وتصير أم ولد له وعليه قيمتها ونحو هذا قال سفيان و إسحاق وقال القاضي : إن لم يظهر ربح فعليه الحد لأنه وطيء في غير ملك ولا شبهة ملك والمنصوص عن أحمد أن عليه التعزير لأن ظهور الربح ينبني على التقويم والتقويم غير متحقق لأنه يحتمل أن السلع تساوي أكثر مما قومت به فيكون ذلك شبهة في درء الحد لأنه يدرأ بالشبهات

فصل : وليس لرب المال وطء الأمة أيضا
فصل : وليس لرب المال وطء الأمة أيضا لأنه ينقصها إن كانت بكرا ويعرضها للخروج من المضاربة والتلف فإن فعل فلا حد عليه لأنها مملوكته وإن علقت منه صارت أو ولده وولده حر كذلك وتخرج من المضاربة وتحسب قيمتها ويضاف إليها بقية المال فإن كان فيه ربح فللعامل حصته منه

فصل : وإذا أذنرب المال للمضارب في الشراء
فصل : وإذا أذن رب المال للمضارب في الشراء من مال المضاربة فاشترى جارية ليتسرى بها خرج ثمنها من المضاربة وصار قرضا في ذمته لأن استباحة البضع لا تحصل إلا بملكه لقول الله تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }

فصل : وليس لواحد منها تزويج الأمة
فصل : وليس لواحد منهما تزويج الأمة لأنه ينقصها ولا مكاتبة العبد لذلك فإن اتفقا على ذلك جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما

فصل : وليس للمضارب دفع المال إلى آخر مضاربة
فصل : وليس للمضارب دفع المال إلى آخر مضاربة نص عليه أحمد في رواية الأثرم وحرب وعبد الله قال : إن أذن له رب المال وإلا فلا وخرج القاضي وجها في جواز ذلك بناء على توكيل الوكيل من غير إذن الموكل ولا يصح هذا التخريج وقياسه على الوكيل ممتنع لوجهين أحدهما : أنه إنما دفع إليه المال ههنا ليضارب به ويدفعه إلى غيره مضاربة يخرج عن كونهمضارباص به بخلاف الوكيل الثاني : إن هذا يوجب في المال حقا لغيره ولا يجوز إيجاب حق في مال إنسان بغير إذنه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعرف عن غيرهم خلافهم فإن فعل فلم يتلف المال ولا ظهر فيه ربح رده إلى مالكه ولا شيء له ولا عليه وإن تلف أو ربح فيه فقال الشريف أبو جعفر : هو في الضمان والتصرف كالغاصب ولرب المال مطالبة من شاء منهما برد المال إن كان باقيا وبرد بدله إن كان تالفا أو تعذر رده فإن طالب الأولى وضمنه قيمة التألف ولم يكن الثاني علم بالحال لم يرجع عليه بشيء لأنه دفعه إليه على وجه الأمانة وإن علم بالحال رجع عليه لأنه قبض مال غيره على سبيل العدوان وتلف تحت يده فاستقر ضمانه عليه وإن ضمن الثاني مع علمه بالحال لم يرجع على الأول وإن لم يعلم فهل يرجع على الول ؟ على وجهين أحدهما : يرجع عليه لأنه غره فأشبه ما لو لو غره بحرية أمة والثاني : لا يرجع لأنه التلف كان في يده فاستقر الضمان عليه وإن ربح في المال فالربح لمالكه ولا شيء للمضارب الول لأنه لم يوجد منه مال ولا عمل وهل للثاني أجر مثله ؟ على روايتين احداهما : له ذلك لأنه عمل في مال غيره بعوض لم يسلم له فكان له أجر مثله كالمضاربة الفاسدة والثانية لا شيء له لأنه عمل في مال غيره بغير إذنه فلم يستحق لذلك عوضاص كالغاصب وفارق المضاربة لأنه عمل في ماله بإذنه وسواء اشترى بعين المال أو في الذمة ويحتمل أنه اشترى في الذمة يكون الربح له لأنه ربح فيما اشتراه في ذمته مما لم يقع في الشراء فيه لغيره فأشبه ما لو لم ينقد الثمن من مال رب المال قال الشريف أبو جعفر : هذا قول أكثرهم يعني قول مالك و الشافعي و أبي حنيفة ويحتمل أنه إن كان عالما بالحال فلا شيء للعامل كالغاصب وإن جهل الحال فله أجر مثله يرجع به على المضارب الأول لأنه غره واستعمله بعوض لم يحصل له له فوجب أجره عليه كما لو استعمله في مال نفسشه وقال القاضي : إن اشترى بعين المال فالشراء باطل وإن كان اشترى في الذمة ثم نقد المال وكان قد شرط رب المال للمضارب النصف فدفعه المضارب إلى آخر على أن يكون لرب المال النصف والنصف الآخر بينهما فهو على ما اتفقوا عليه لأن رب المال رضي بنصف الربح فلا يدفع إليه أكثر منه والعاملان على ما اتفقا عليه وهذا قول قديم للشافعي وليس هذا موافقا لأصول المذهب ولا لنص أحمد فإن أحمد قال : لا يطيب الربح للمضارب ولأن المضارب الأول ليس له عمل ولا مال يستحق الرح في المضاربة إلا بواحد منهما والعامل الثاني عمل في مال غيره بغير إذنه ولا شرطه فلم يستحق ما شرطه له غيره كما لو دفعه إليه الغاصب مضاربة ولأنه إذا لم يستحق ما شرطه له رب المال في المضاربة الفاسدة فما شرطه له غيره بغير إذنه أولى

فصل : وإن أذن رب المال في دفع المال مضاربة جاز
فصل : وإن أذن رب المال في دفع المال مضاربة جاز ذلك نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا ويكون العامل الأول وكيلا لرب المال في ذلك فإذا دفعه إلى آخر ولم يشرط لنفسه شيئا من الربح كان صحيحاوإن شرط لنفسه شيئا من الربح لم يصح لأنه ليس من جهته مال ولا عمل والربح إنما يستحق بواحد منهما وإن قال : إعمل برأيك أو بما أراك الله جاز له دفعه مضاربة نص عليه لأنه قد يرى أن يدفعه إلى أبصر منه ويحتمل أن لا يجوز له ذلك لأن قوله : إعمل برأيك يعني في كيفية المضاربة والبيع والشراء وأنواع التجارة وهذا يخرج به عن المضاربة فلا يتناوله إذنه

فصل : وليس له أن يخلط مال المضاربة بماله
فصل : وليس له أن يخلط مال الضاربة بماله فإن فعل ولم يتميز ضمنه لأنه أمانة فهو كالوديعة فإن قال له : إعمل برأيك جاز له ذلك وهو قول مالك و الثوري و أصحاب الرأي وقال الشافعي : ليس له ذلك وعليه الضمان إن فعله لأن ذلك ليس من التجارة
ولنا أنه قد يرى الخلط أصلح له فيدخل في قوله إعمل برأيك وهكذا القول في المشاركة به ليس له فعلها إلا أن يقول إعمل برأيك فيملكها

فصل وليس له أن يشتري خمرا ولا خنزيرا
فصل : وليس له أن يشتري خمرا ولا خنزيرا سواء كانا مسلمين أو كان أحدهما مسلما والآخر ذميا فإن فعل فعليه الضمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان العامل ذميا صح شراؤه للخمر وبيعه إياها لأن الملك عنده ينتقل إلى الوكيل وحقوق العقد تتعلق به وقال أبو يوسف و محمد يصح شراؤه إياها لأن الملك فيها ينتقل إلى الوكيل ولا يصح بيعه لأنه يبيع ما ليس بملك له ولا لموكله
ولنا إنه كان العامل مسلما فقد اشترى خمرا ولا يصح أن يشتري خمرا ولا يبيعه وإن كان ذميا فقد اشترى للمسلم ما لا يصح أن يملكه ابتداء فلا يصح كما لو اشترى الخنزير ولأن الخمر محرمة فلا يصح شراؤها له كالخنزير والميتة لأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز شراؤه كالميتة والدم وكل ما جاز في الشركة جاز في المضاربة وما جاز في المضاربة جاز في الشركة وما منع منه في أحدهما منع منه في الأخرى لأن المضاربة شركة ومبنى كل واحدة منهما على الوكالة والأمانة

مسألة : قال وإن ضارب لرجل لم يجز أن يضارب الآخر
مسألة : قال : وإذا ضرب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول فإن فعل وربح رده في شركة الأول
وجملة ذلك إنه إذا أخذ من إنسان مضاربة إحدها ثم أراد أخذ مضاربة أخرى من آخر فأذن له الأولى جاز وإن لم يأذن له ولم يكن عليه ضرر جاز أيضا بغير خلاف وإن كان فيه ضرر على رب المال الأول ولم يأذن مثل أن يكون المال الثاني كثيرا يحتاج إلى أن يقطع زمانه ويشغله عن التجارة في الأول ويكون المال الأول كثيرا متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته لم يجز له ذلك وقال أكثر الفقهاء : يجوز لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها فلم يمنع من المضاربة كما لو لم يكن فيه ضرر كالأجير المشترك
ولنا أن المضاربة على الحظ والنماء فإذا فعل ما تمنعه لم يكن له كما لو أراد التصرف بالعين وفارق ما لا ضرر فيه فعل هذا إذا فعل وربح رد الربح في شركة الأول ويقتسمانه فلينظر ما ربح في المضاربة الثانية فيدفع إلى رب المال منها نصيبه ويأخذ المضارب نصيبه من الربح فيضمه إلى ربح المضاربة الأولى ويقاسمه لرب المضاربة الأولى لأنه استحق حصته من الربح بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول فكان بينهما كربح المال الأول فأما حصة رب المال الثاني من الربح فتدفع إليه لأن العدوان من المضارب لا يسقط حق رب المال الثاني ولأنا لو رددنا ربح الثاني كله في الشركة الأولى لأختص الضرر برب المال والثاني الثلث ولأنه لا يخلو اما أن يحكم بفساد المضاربة الثانية أو بصحتها فغن كانت فاسدة فالربح كله لرب المال وللمضارب أجر مثله وإن حكمنا بصحتها وجب حصة رب المال إليه بمقتضى العقد وموجب الشرط والنظر يقتضي أن لا يستحق رب المضاربة الأولى من رب الثانية شيئا لنه إنما يستحق بمال أو عمل وليس له في المضاربة الثانية مال ولا عمل وتعدي المضارب إنما كان بترك العمل واشتغاله عن المال الأول وهذا لا يوجب عوضا كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه أو آجر نفسه أو ترك التجارة للعب أو اشتغال بعلم أو غير ذلك ولو أوجب عوضا لأوجب شيئا مقدرا لا يختلف ولا يقتدر بربحه في الثاني والله أعلم

فصل : وإن دفع إليه مضاربة واشترط النفقة
فصل : فصل : وإن دفع إليه مضاربة واشترط النفقة فكلمه رجل في أن يأخذ له بضاعة أو مضاربة ولا ضرر فيها فقال أحمد : إذا اشترط النفقة صار أجيرا له فلا يأخذ من أحد بضاعة فإنها تشغله عن المال الذي يضارب به قيل فإن كانت لا تشغله ؟ فقال : ما يعجبني ان يكون إلا بإذن صاحب المضاربة فإنه لا بد من شغل وهذا والله أعلم على سبيل الإستحباب وإن فعل فلا شيء عليه لأنه لا ضرر على رب المضاربة فيه

فصل : وإن أخذ من رجل مضاربة ثم أخذ آخر بضاعة
فصل : وإن أخذ من رجل مضاربة ثم أخذ من آخر بضاعة أو عمل في مال نفسه أو اتجر فيه فربحه في مال البضاعة لصاحبها وفي مال نفسه لنفسه

فصل : إذا أخذ من رجل مائة قراضا
فصل : إذا أخذ من رجل مائة قراضا ثم أخذ من آخر مثلها واشترى بكل مائة عبدا فاختلط العبدان ولم يتميزا فإنهما يصطلحان عليهما كما لو كانت لرجل حنطة فالثالث عليه أخرى وذكر القاضي في ذلك وجهين أحدهما : يكونان شريكين فيهما كما لو اشتركا في عقد البيع فيباعان ويقسم بينهما فإن كان فيهما ربح دفع إلى العامل حصته والباقي بينهما نصفين والثاني : يكونان للعامل وعليه إداء رأس المال والربح له والخسران عليه وللشافعي قولان كالوجهين والول أولى لن ملك كل واحد منهما ثابت في أحد العبدين فلا يزول بالإشتباه عن جميعه ولا عن بعضه بغير رضاءه كما لو لم يكونا في يد المضارب ولإننا لو جعلناهما للمضارب ادى إلى أن يكون تفريطه سببا لإنفراده بالربح وحرمان المتعدي عليه وعكس ذلك أولى وإن جعلناها شريكين أدى إلى أن ياخذ أحدهما ربح مال الاخر بغير رضاه وليس له فيه مال ولا عمل

فصل : إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله
فصل : إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئا نهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وأبي قلابة ونافع وأياس والشعبي والنخعي والحكم وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وعن عليي رضي الله عنه لا ضمان على من شورك في الربح وروى معنى ذلك عن الحسن والزهري
ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب ولا نقول بمشاركته في الربح فلا يتناوله قول علي رضي الله عنه ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فالربح لرب المال نص عليه أحمد وبه قال أبو قلابة ونافع وعن أحمد أنهما يتصدقان بالربح وبه قال الشعبي و النخعي و الحكم و حماد قال القاضي : قول أحمد يتصدقان بالربح على سبيل الورع وهو لرب المال في القضاء وهذا قول الأوزاعي وقال وقال أياس بن معاوية و مالك : الربح على ما شرطاه لأنه نوع تعد فلا يمنع كون الربح بينهما على ما شرطاه كما لو لبس الثوب وركب دابة ليس له ركوبها وقال القاضي : إذا اشترى في الذمة ثم نقد المال فالربح لرب المال وإن اشترى بعين المال فالشراء باطل في إحدى الروايتين والأخرى هو موقوف على إجازة المالك فإن أجاز صح وإلا بطل والمذهب الول نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقال أبو بكر : لم يرو أنه يتصدق بالربح إلا حنبل واحتج أحمد بحديث عروة البارقي وهو ما روى أبو لبيد [ عن عروة بن الجعد قال : عرض للنبي صلى الله عليه و سلم جلب فأعطاني دينارا فقال : عروة أئت الجلب فاشتر لنا شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني فبعت منهما شاة بالدينار فجئت بالدينار وبالشاة فقلت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا ديناركم وهذه شاتكم قال : وكيف صنعت ؟ فحدثته الحديث فقال : اللهم بارك له في صفقة يمينه ] رواه الأثرم ولأنه نماء مال غيره بغير إذن مالكه فكان لمالكه كما لو غصب حنطة فزرعها فإما المضارب ففيه روايتان إحداهما : لا شيء له لأنه عقد عقدا لم يؤذن له فيه فلم يكن له شيء كالغاصب وهذا اختيار أبي بكر والثانية : له أجر لأن رب المال رضي بالبيع وأخذ الربح فاستحق العامل عوضاص كما لو عقده بإذن وفي قدر الأجر روايتان إحداهما : أجر مثله ما لم يحط بالربح لأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسلم له المسمى فكان له أجر مثله كالمضاربة الفاسدة والثانية له أقل من المسمى أو أجر المثل لأنه إن كان الأقل المسمى فقد رضي به فلم يستحق أكثر منه وإن كان الأقل أجر المثل لم يستحق أكثر منه لأنه لم يعمل ما رضي به وإن قصد الشراء لنفسه فلا أجر له رواية واحدة وقال القاضي و أبو الخطاب : إن اشترى في ذمته ثم نقد المال فلا أجر له رواية واحدة وإن اشترى بعين المال فعل روايتين

فصل : وعلى العامل أن يتولى بنفسه كل ما جرت العادة
فصل : وعلى العامل أن يتولى بنفسه كل ما جرت العادة أن يتولاه المضارب بنفسه من نشر الثوب وطيه وعرضه على المشتري ومساومته وعقد البيع معه وأخذ الثمن وانتقاده وشد الكيس وختمه واحرازه في الصندوق ونحو ذلك ولا أحر له عليه لأنه مستحق للربح في مقابلته فإن استأجر من يفعل ذلك فالأجر عليه خاصة لأن العمل عليه فأما ما لا يليه العامل في العادة مثل النداء على المتاع ونقله إلى الخان فليس على العامل عمله وله أن يكتري من يعمله نص عليه أحمد لأن العمل في المضاربة غير مشروط لمشقة اشتراطه فرجع فيه إلى العرف فإن فعل العامل ما لا يلزمه فعله متبرعا فلا أجر له وغن فعله ليأخذ عليه أجرا فلا يمشي له أيضا في المنصوص عن أحمد وخرج أصحابنا وجها إن له الأجر بناء على الشريك إذا انفرد بعمل لا يلزمه هل له أجر لذلك ؟ على روايتين وهذا مثله والصحيح أنه لا شيء له في الموضعين لأنه عمل في مال غيره عملا لم يجعل له في مقابلته شيء فلم يستحق شيئا كالأجنبي

فصل : وإذا سرق مال المضاربة أو غصب
فصل : وإذا سرق مال المضاربة أو غصب فعلى المضارب طلبه والمخاصمة فيه في أحد الوجهين وفي الآخر ليس عليه ذلك لأن المضاربة عقد على التجارة فلا تدخل فيه الخصومة والأول أولى لأنه يقتضي حفظ المال ولا يتم ذلك إلا بالخصومة والمطالبة سيما إذا كان غائبا عن رب المال إما لسفر المضارب أو رب المال فإنه لا يطلب له إلا المضارب فإن تركه ضاع فعلى هذا إن ترك الخصومة والطلب به في هذه الحال غرمه لأنه ضيعه وفرط فيه وإن كان رب المال حاضرا وعلم الحال لم يلزم العامل طلبه ولا يضمنه إذا تركه لأن رب المال أولى بذلك من وكيله

فصل : وإذا اشترى للمضاربة عبدا
فصل : وإذا اشترى للمضاربة عبدا فقتله عبد لغيره ولم يكن ظهر في المال ربح فالأمر إلى رب المال إن شاء إقتص وإن شاء عفا على غير مال وتبطل المضاربة فيه لذهاب رأس المال وإن شاء عفا على مال فإن عفا على مال مثل رأس المال أو أقل أو أكثر فالمضاربة بحالها والربح بينهما على شرطهما لأنه وجد بدل عن رأس المال فهو كما لو وجد بدله بالبيع وإن كان في العبد ربح فالقصاص إليهما والمصالحة كذلك لكونهما شريكين فيه والحكم في انفساخ المضاربة وبقائها على ما تقدم

مسألة : قال وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال
مسألة : قال : وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال
يعني أنه لا يستحق أخذ شيء من الربح حتى يسلم رأس المال إلى ربه ومتى كان في المال خسران وربح جبرت الوضيعة من الربح سواء كان الخسران والربح في مرة واحدة أو الخسران في صفقة والربح في أخرى أو أحدهما في سفرة والآخر في أخرى لأن معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال وما لم يفضل فليس بربح ولا نعلم في هذا خلافاص وأما ملك العامل لنصيبه من الربح بمجرد الظهور قبل القسمة فظاهر المذهب أنه يثبت هذا الذي ذكره القاضي مذهبا وبه قال أبو حنيفة وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أنه لا يملكه إلا بالقسمة وهو مذهب مالك وللشافعي قولان كالمذهبين واحتج من لم يملكه بأنه لو ملكه لاختص بربحه ولوجب أن كون شريكا لرب المال كشريكي العنان
ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه وهو أن يكون له جزء من الربح فإذا وجد يجب أن يملكه بحكم الشرط كما يملك المساقي حصته من الثمرة لظهورها وقياسا على كل شرط صحيح في عقد ولأن هذا الربح مملوك فلا بد له من مالك ورب المال ولا يملكه اتفاقا ولا تثبت أحكام الملك في حقه فلزم أن يكون للمضارب ولأنه يملك المطالبة بالقسمة فكان مالكا كأحد شريكي العنان ولا يمنع أن يملكه ويكون وقاية لرأس المال كنصيب رب المال من الربح وبهذا امتنع اختصاصه بربحه ولأنه لو اختص بربح نصيبه لااستحق من الربح أكثر مما شرط له لا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه ثم قال أحمد إذا وطيء المضارب جارية من المضاربة فإن لم يكن ظهر في المال ربح لم تكن أم ولده وإن ظهر فيه ربح فهي أم ولده وإن ظهر فيه ربح فهي أم ولده وهذا يدل على أنه يملك الربح بالظهور

فصل : وإذا دفع رجل مائة مضاربة
فصل : وإذا دفع إلى رجل مائة مضاربة فخسر عشرة ثم أخذ رب المال منها عشرة فإن الخسران لا ينقص به رأس المال لأنه قد يربح فيجبر الخسران لكنه ينقص بما أخذه رب المال وهي العشرة وقسطها من الخسران وهو درهم وتسع درهم ويبقى رأس المال ثمانين وثمانية دراهم وثمانية أتساع درهم
وإن كان أخذ نصف التسعين الباقية بقي رأس المال خمسين لأنه أخذ نصف المال فسقط نصف الخسران وإن كان أخذ خمسين بقي أربعة وأربعون وأربعة أتساع وكذلك إذا ربح المال ثم أخذ رب المال بعضه كان ما أخذه من الربح ورأس المال فلو كان رأس المال مائة فربح عشرين فأخذها رب المال لبقي رأس المال ثلاثة وثمانين وثلثا لأنه أخذ سدس المال فنقص رأس المال سدسه وهو ستة عشر وثلثان وحظها من الربح ثلاثة وثلث ولو كان أخذ ستين بقي رأس المال خمسين لأنه أخذ نصف المال فبقي نصف المال وإن أخذ خمسين بقي ثمانية وخمسين وثلثا لأنه أخذ ربع المال وسدسه فبقي ثلثه وربعه وهو ما ذكرنا وإن أخذ منه ستين ثم خسر في الباقي فصار أربعين فردها كان له على رب المال خمسة لأن ما أخذه رب المال إنفسخت فيه المضاربة فلا يجبر بربحه خسران ما بقي في يده لمفارقته إياه وقد أخذ من الربح عشرة لأن سدس ما أخذه ربح فكانت العشرة بينهما وإن لم يرد الأربعين كلها بل رد منها إلى رب المال عشرين بقي رأس المال خمسة وعشرين

فصل : إذا اشترى رب المال من قال المضاربة شيئا لنفسه
فصل : إذا اشترى رب المال من مال المضاربة شيئا لنفسه لم يصح في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي ويصح في الأخرى وبه قال مالك و الأوزاعي و أبو حنيفة لأنه قد تعلق حق المضارب به فجاز له شراؤه وكما لو اشترى من مكاتبة أو من عبده المأذون الذي عليه دين
ولنا أنه ملكه فلم يصح شراؤه له كشرائه من وكيله وعبده المأذون الذي لا دين عليه وفارق المكاتب فإن السيد لا يملك ما في يده ولهذا لا يزكيه وله أخذ ما فيه شفعة بها فأما المأذون له فلا يصح شراء سيده منه بحال ويحتمل أن يصح شراء سيده منه بحال ويحتمل أن يصح إذا استغرقته الديون لأن الغرماء يأخذون ما في يده والصحيح الأول لأن ملك السيد لم يزل عنه وإن استحق أخذه كمال المفلس

فصل : وإن اشترى المضارب لنفسه من مال المضاربة
فصل : وإن اشترى المضارب لنفسه من مال المضاربة ولم يظهر في المال ربح صح نص عليه أحمد وبه قال مالك و الثوري و الأوزاعي و إسحاق وحكي ذلك عن أبي حنيفة وقال أبو ثور : البيع باطل لأنه شريك ولنا أنه ملك لغيره فصح شراؤه له كما لو اشترى الوكيل من موكله وإنما يكون شريكا إذا ظهر ربح لأنه إنما يشارك رب المال في الربح لا في أصل المال ومتى ظهر في المال ربح كان شراؤه كشراء أحد الشريكين على ما سنذكره

فصل : وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة
فصل : وإن اشترى أحد الشريكين من مال الشركة شيئا بطل في قدر حقه لأنه ملكه وهل يصح في حصة شريكه ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وتتخرج الصحة في الجميع بناء على أن لرب المال أن يشتري من مال المضاربة لنفسه وإن اشترى أحد الشريكين حصة شريكه منه جاز لأنه يشتري ملك غيره وقال أحمد : في الشريكينفي الطعام يريد أحدهما بيع حصته من صاحبه : إن لم يكونا يعلمان كيله فلا بأس وإن علما كيله فلا بد من كيله يعني أن من علم مبلغ شيء لم يبعه صيره وإن باعه إياه بالكيل والوزن جاز

فصل : ولو استأجر أحد الشريكين من صاحبه دارا
فصل : ولو استأجر أحد الشريكين من صاحبه داراص ليحرز فيها مال الشركة أو غرائر از النبي صلى الله عليه و سلم عليه أحمد في رواية صالح وإن استأجره لنقل الطعام أو غلامه أو دابته ففيه روايتان إحداهما : الجواز لأن ما جاز أن يستأجر له غير الحيوان جاز أن يستأجر له الحيوان كمال الأجنبي والأخرى لا يجوز لأن هذا لا تجب الأجرة فيه إلا بالعمل ولا يمكن إيفاء العمل في المشترك لأن نصيب المستأجر غير متميز من نصيب المؤجر فإذا لا تجب الأجرة والدار والغرائر لا يعتبر فيهما إيقاع العمل إنما تجب بوضع العين في الدار فيمكن تسليم المعقود عليه

مسألة : قال : وإذا اشترى سلعتين
مسألة : قال : إذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى جبرت الوضيعة من الربح
وجملته إنه إذا دفع إلى المضارب ألفين فاشترى بكل ألف عبداص فربح في أحدهما وخسر في الآخر أو تلف وجب جبر الخسران من الربح ولا يستحق المضارب شيئاص إلا بعد كمال الألفين وبهذا قال الشافعي إلا فيما إذ تلف أحد العبدين فإن أصحابه ذكروا فيه وجهاص ثانياص إن التالف من رأس المال لأنه بدل أحد الألفين ولو تلف أحد الألفين كان رأس المال فكذلك بدله ولنا أنه تلف بعد أن دار في القراض وتصرف في المال بالتجارة فكان تلفه من الربح كما لو كان رأس المال دينارا واحدا فاشترى به سلعتين ولأنهما سلعتان تجبر خسارة إحداهما بربح الأخرى فجبر تلفها به كما لو كان رأس المال دينارا ولأنه رأس مال واحد فلا يستحق المضارب فيه ربحا حتى يكمل رأس المال كالذي ذكرنا فأما إن تلف أحد الألفين قبل الشراء به والتصرف فيه أو تلف بعضه إنفسخت المضاربة فيما تلف وكان رأس المال الباقي خاصة وقال بعض الشافعية : مذهب الشافعي أن التالف من الربح ورأس المال الألفان معا لأن المال إنما يصيره قراضا بالقبض فلا فرق بين هلاكه قبل التصرف وبعده
لنا أنه مال هلك على جهته قبل التصرف فيه فكان رأس المال الباقي كما لو تلف قبل القبض وفارق ما بعد التصرف لأنه دار في التجارة وشرع فيما قصد بالعقد من التصرفات المؤدية إلى الربح

فصل : وإذا دفع إليه ألفا مضاربة
فصل : وإذا دفع إليه ألفا مضاربة ثم دفع إليه ألفا آخر مضاربة وأذن له في ضم أحدهما إلى الآخر قبل التصرف في الأول جاز وصارا مضاربة واحدة كما لو دفعها إليه مرة واحدة وإن كان بعد التصرف في الأول في شراء المتاع لم يجز لأن حكم الأول إستقر فكان ربحه وخسرانه مختصا به فضم الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بربح الآخر فإذا شرط ذلك في الثاني فسد فإن نض الأول جاز ضم الثاني ليه لزوال هذا المعنى وإن لم يأذن له في ضم الثاني إلى الأول لم يجز له ذلك نص عليه أحمد وقال إسحاق : له ذلك قبل أن يتصرف في الأول
ولنا أنه أفرد كل واحد بعقد فكانا عقدين لكل عقد حكم نفسه ولا تجبر وضيعة أحدهما بربح الآخر كما لو نهاه عن ذلك

فصل : المضارب يربح ويصح مرارا
فصل : قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسئل عن المضارب بربح وبضع مرارا فقال : يرد الوضيعة على الربح إلا أن يقبض المال صاحبه ثم يرده إليه فيقول : إعمل به ثانية فما ربح بعد ذلك لا تجبر به وضيعة الأول فهذا ليس في نفسي منه شيء وأما ما لم يدفع إليه فحتى يحتسبا حسابا كالقبض كما قال ابن سيرين قيل وكيف يكون حسابا كالقبض ؟ قال يظهر المال يعني ينض ويجيء فيحتسبان عليه فإن شاء صاحب المال قبضه قيل له : فيحتسبان على المتاع ؟ فقال : لا يحتسبان إلا على الناض لأن المتاع قد ينحط سعره ويرتفع قال أبو طالب : قيل لأحمد رجل دفع إلى رجل عشرة آلاف درهم مضاربة فوضع فبقيت ألف فحاسبه صاحبها ثم قال : إذهب فاعمل بها فربح ؟ قال : يقاسمه ما فوق الألف يعني إذا كانت الألف ناضة حاضرة إن شاء صاحبها قبضها فهذا الحساب الذي كالقبض فيكون أمره بالمضاربة بها في هذه الحال إبتداء مضاربة ثانية كما لو قبضها منه ثم ردها إليه فأما قبل ذلك فلا شيء للمضارب حتى يكمل عشرة آلاف ولو أن رب المال والمضارب إقتسما الربح أو أخذ أحدهما منه شيئا بإذن صاحبه والمضاربة بحالها ثم سافر المضارب به فخسر كان على المضارب رد ما أخذه من الربح لأننا تبينا إنه ليس بربح ما لم تنجبر الخسارة

فصل : وإذا قارض من مرضه صح
فصل : وإذا قارض في مرضه صح لأنه عقد يبتغي به الفضل فأشبه البيع والشراء وللعامل ما شرط له من الربح وإن زاد على شرط مثله وإلا يحتسب به من ثلثه لأن ذلك غير مستحق من مال رب المال وإنما حصل بعمل المضارب في المال فما يوجد من الربح المشروط يحدث على ملك العامل بخلاف ما لو حابى الأجير في الأجر فإنه يحتسب بما حاباه من ثلثه لأن الأجر يؤخذ من ماله ولو شرط في المساقات والمزارعة أكثر من أجر المثل احتمل أن لا يحتسب به من ثلثه لأن الثمرة تخرج على ملكيها كالربح في المضاربة واحتمل أن يكون من ثلثه لأن الثمرة زيادة في ملكه خارجة عن عينه والربح لا يخرج عن يمين المال إنما يحصل بالتقليب

فصل : وإذا مات رب المال قدمنا حصة العامل على غرمائه
فصل : وإذا مات رب المال قدمنا حصة العامل على غرمائه ولم يأخذوا شيئا من نصيبه لأنه يملك الربح بالظهور فكان شريكا فيه وليس لرب المال شيء من نصيبه فهو كالشريك بماله ولأن حقه متعلق بعين المال دون الذمة فكان مقدماص كحق الجناية ولأنه متعلق بالمال قبل الموت فكان أسبق كحق الرهن

فصل : وإن مات المضارب ولم يعرف مال المضاربة بعينه صار دينا
فصل : وإن مات المضارب ولم يعرف مال المضاربة بعينه صار دينا في ذمته ولصاحبه أسوة الغرماء وقال الشافعي : ليس على المضارب شيء لأنه لم يكن له في ذمته وهو حي شيء ولم يعلم حدوث ذلك بالموت فإنه يحتمل أن يكون المال قد هلك
ولنا أن الأصل بقاء المال في يده وإختلاطه بجملة التركة ولا سبيل إلى معرفة عينه فكا دينا كالوديعة إذا لم تعرف عينها ولأنه لا سبيل إلى سبيل إلى إسقاط حق رب المال لأن الأصل بقاؤه ولم يوجد ما يعارض ذلك ويخالفه ولا سبيل إلى إعطائه عينا من هذا المال لأنه يحتمل أن يكون من غير مال المضاربة لم يبق إلا تعلقه بالذمة

مسألة : قال وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلا
مسألة : قال : وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلا لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال
وجملته إن الربح إذا ظهر في المضاربة لك يجز للمضارب أخذ شيء منه بغير إذن رب المال لا تعلم في هذا بين أهل العلم خلافا وإنما لم يملك ذلك لأمور ثلاثة أحدها : إن الربح وقاية لرأس المال فلا يأمن الخسران الذي يكون هذا الربح جابرا له فيخرج بذلك عن أن يكون ربحا والثاني : إن رب المال شريكه فلم يكن له مقاسمة نفسه والثالث : إن ملكه عليه غير مستقر لأنه بعرض أن يخرج عن يده بجيران خسارة المال وإن أذن رب المال في أخذ شيء جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما

فصل : وإن طلب أحدهما قسمه الربح
فصل : وإن طلب أحدهما قسمة الربح دون رأس المال وأبى الآخر قدم قول الممتنع لأنه إن كان رب المال فلأنه لا يأمن الخسران في رأس المال فيجبره بالربح وإن كان العامل فإنه لا يأمن أن يلزمه رد ما أخذه في وقت لا يقدر عليه وإن تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما وسواء إتفقا على قسمة جميعه أو بعضه أو على أن يأخذ كل واحد منهما شيئا معلوما ينفقه ثم متى ظهر في المال خسران أو تلف كله لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه أو نصف خسران المال إذا اقتسما الربح نصفين وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة : لا تجوز القسمة حتى يستوفي رب المال ماله قال ابن المنذر : إذا اقتسما الربح ولم يقبض رب المال رأس ماله فأكثر أهل العلم يقولون برد العامل الربح حتى يستوفي رب المال ماله
ولنا على جواز القسمة إن المال لهما فجاز لهما أن يقتسما بعضه كالشريكين أو نقول إنهما شريكان فجاز لهما قسمة الربح قبل المفاصلة كشريكي العنان

فصل : والمضاربة من العقود الجائزة
فصل : والمضاربة من العقود الجائزة تنفسخ بفسخ أحدهما أيهما كان وبموته وجنونه والحجر عليه لسفه لأنه متصرف في مال غيره بإذنه فهو كالوكيل ولا فرق بين ما قبل التصرف وبعده فإذا انفسخت والمال ناض لا ربح فيه أخذه ربه وإن كان فيه ربح قسما الربح على ما شرطاه وإن انفسخت والمال عرض فاتفقا على بيعه أو قسمه جاز لأن الحق لهما لا يعدوهما وإن طلب العامل البيع وأبى رب المال وقد ظهر في المال ربح أجبر رب المال على البيع وهو قول إسحاق و الثوري لأن حق العامل في الربح ولا يظهر إلا بالبيع وإن لم يظهر ربح لم يجبر لأنه لا حق له فيه وقد رضيه مالكه كذلك فلم يجبر على بيعه وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : فيه وجه آخر أنه يجبر على البيع لأنه ربما زاد فيه زائد أو رغب فيه راغب فزاد على ثمن المثل فيكون للعامل في البيع حظ
ولنا أن المضارب إنما استحق الربح إلى حين الفسخ وذلك لا يعلم إلا بالتقويم ألا ترى أن المستعير إذا غرس أو بنى أو المشتري كان للمعير والشفيع أن يدفعا قيمة ذلك لأنه مستحق للأرض فههنا أولى وما ذكروه من احتمال الزيادة بزيادة مزايد أو راغب على قيمته فإنما حدث ذلك بعد فسخ العقد فلا يستحقها العامل وإن طلب رب المال وأبى العامل ففيه وجهان أحدهما : يجبر العامل على البيع وهو قول الشافعي لأن عليه رد المال ناضا كما أخذه والثاني : لا يجبر إذا لم يكن في المال ربح أو أسقط حقه من الربح لأنه بالفسخ زال تصرفه وصار أجنبيا من المال فأشبه الوكيل إذا اشترى ما يستحق رده فزالت وكالته قبل رده ولو كان رأس المال دنانير فصار دراهم أو دراهم فصار دنانير فهو كما لو كان عرضا على ما شرح وإذا نض رأس المال جميعه لم يلزم العامل أن ينض له الباقي لأنه شركة بينهما ولا يلزم الشريك أن ينض مال شريكه ولأنه إنما لزمه أن ينض رأس المال ليرد إليه رأس ماله على صفته ولا يوجد هذا المعنى في الربح

فصل : وإن انفسخ القراض والمال دين
فصل : وإن انفسخ القراض والمال دين لزم العامل تقاضيه سواء ظهر في المال ربح أو لم يظهر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن ظهر ربح لزمه تقاضيه وإن لم يظهر ربح لم يلزمه تقاضيه لأنه لا غرض له في العمل فهو كالوكيل
ولنا أن المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته والديون لا تجري مجرى الناض فلزمه أن ينضه كما لو ظهر في المال ربح وكما لو كان رأس المال عرضا ويفارق الوكيل فإنه لا يلزمه رد المال كما قبضه ولهذا لا يلزمه بيه العروض ولا فرق بين كون الفسخ من العامل أو رب المال فإن اقتضى منه قدر رأس المال أو كان الدين قدر الربح أو دونه لزم العامل تقاضيه أيضا لأنه إنما يستحق نصيبه من الربح عند وصوله إليهما على وجه يمكن قسمته ووصول كل واحد منهما إلى حقه منه ولا يحصل ذلك إلا بعد تقاضيه

فصل وأي المتقارضين مات أو جن انفسخ القراض
فصل : وأي المتقارضين مات أو جن انفسخ القراض لأنه عقد جائز فانفسخ بموت أحدهما وجنونه كالتوكيل فإن كان الموت أو الجنون برب المال فأراد الوارث أو وليه إتمامه والمال ناض جاز ويكون رأس المال وحصته من الربح رأس المال وحصة العامل من الربح شركة له مشاعة وهذه الإشاعة لا تمنع لأن الشريك هو العامل وذلك لا يمنع التصرف فإن كان المال عرضاص وأرادوا إتمامه فظاهر كلام أحمد جوازه لأنه قال في رواية علي بن سعيد إذا مات رب المال لم يجز للعامل أن يبيع ولا يشتري إلا بإذن الورثة فظاهر هذا بقاء العامل على قراضه وهو منصوص الشافعي لأن هذا إتمام للقراض لا ابتداء له ولأن القراض إنما منع منه في العروض لأنه يحتاج عند المفاصلة إلى رد مثلها أو قيمتها ويختلف ذلك باختلاف الأوقات وهذا غير موجود ههنا لأن رأس المال غير العروض وحكمه باق ألا ترى أن للعامل أن يبيعه ليسلم رأس المال ويقسم الباقي وذكر القاصي وجهاص آخر أنه لا يجوز لأن القراض قد بطل بالموت وهذا إبتداء قراض على عروض وهذا الوجه أقيس لأن المال لو كان ناضا كان ابتداء قراض وكانت حصة العامل من الربح شركة له يختص بها دون رب المال وإن كان المال ناضا بخسارة أو تلف كان رأس المال الموجود منه حال ابتداء القراض فلو جوزنا إبتداء القراض ههنا وبناءهما على القراض لصارت حصة العامل من الربح غير مختصة به وحصتها من الربح مشتركة بينهما وحسبت عليه العروض بأكثر من قيمتها فيما إذا كان المال ناقصاص وهذا لا يجوز في القراض بلا خلاف وكلام أحمد يحمل على أنه يبيع ويشتري بإذن الورثة كبيعه وشرائه بعد انفساخ القراض فأما إن مات العامل أو جن وأراد ابتداء القراض مع وارثه أو وليه فإن كان ناضاص جاز كما قلنا فيما إذا مات رب المال وإن كان عرضا لم يجز إبتداء القراض إلا على الوجه الذي يجوز إبتداء القراض على العروض بأن تقوم العروض ويجعل رأس المال قيمتها يوم العقد لأن الذي كان منه العمل قد مات أو جن وذهب عمله ولم يخلف أصلا بيني عليه وارثه بخلاف ما إذا مات رب المال فإن المال المقارض عليه موجود ومنافعه موجودة فأمكن إستدامة العقد وبناء الوارث عليه وإن كان المال ناضا جاز إبتداء القراض فيه إذا اختار ذلك فإن لم يبتدئاه لم يكن للوارث شراء ولا بيع لأن رب المال إنما رضي باجتهاد مورثه فإذا لم يرض بيعه رفعه إلى الحاكم ليبيعه فأما إن كان الميت رب المال فليس للعامل الشراء لأن االقراض إنفسخ فأما البيع فإن الحكم فيه وفي التقويم واقتضاء الدين على ما ذكرناه إذا فسخت المضاربة ورب المال حي

فصل : إذا تلف المال قبل الشراء
فصل : إذا تلف المال قبل الشراء انفسخت المضاربة لزوال المال الذي تعلق العقد به وما اشتراه بعد ذلك للمضاربة فهو لازم له والثمن عليه سواء علم بتلف المال قبل نقد الثمن أو جهل ذلك وهل يقف على إجازة رب المال على روايتين إحداهما : إن أجازه فالثمن عليه والمضاربة بحالها وإن لم يجزه لزم العامل والثانية : هو للعامل على كل حال فإن اشترى للمضاربة شيئا فتلف المال قبل نقده فالشراء للمضاربة وعقدها باق ويلزم رب المال الثمن ويصير رأس المال الثمن دون التالف لأن الأول تلف قبل التصرف فيه وهذا قول بعض الشافعية ومنهم من قال رأس المال هذا والتالف وحكي ذلك عن أبي حنيفة و محمد بن الحسن
ولنا ان التالف تلف قبل التصرف فيه فلم يكن من رأس المال كما لو تلف قبل الشراء ولو اشترى عبدين بمال المضاربة فتلف أحد العبدين كان تلفه من الربح ولم ينقص رأس المال بتلفه لأنه تلف بعد التصرف فيه وإن تلف العبدان كلاهما انفسخت المضاربة لزوال مالها كله فإن دفع إليه رب المال بعد ذلك ألفا كان الألف رأس المال ولم يضم إلى المضاربة الأولى لأنها انفسخت لذهاب مالها

مسألة : قال : وإذا اتفق رب المال والمضارب
مسألة : قال وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما كان الربح بينهما والوضيعة على المال
وجملته أنه متى شرط على المضارب ضمان المال أو سهما من الوضيعة فالشرط باطل لا نعلم فيه خلافا والعقد صحيح نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة و مالك وروي عن احمد أن العقد يفسد به وحكي ذلك عن الشافعي لأنه شرط فاسد فأفسد المضاربة كما لو شرط لأحدهما فضل دراهم والمذهب الأول
ولنا أنه شرط لا يؤثر في جهالة الربح فلم يفسد به كما لو شرط لزوم المضاربة ويفارق شرط الدراهم لأنه إذا فسد الشرط ثبتت حصة كل واحد منهما في الربح مجهولة

فصل : والشروط في المضاربة تنقسم قسمين
فصل : والشروط في المضاربة تنقسم قسمين صحيح وفاسد : فالصحيح مثل أن يشترط على العامل أن لا يسافر بالمال أو أن يسافر به أو لا يتجر إلا في بلد بعينه أو نوع بعينه أو لا يشتري إلا من رجل بعينه فهذا كله صحيح سواء كان النوع مما يعم وجوده أو لا يعم والرجل ممن يكثر عنده المتاع أو يقل وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك و الشافعي : إذا شرط أن لا يشتري إلا من رجل بعينه أو سلعة بعينها أو مالا يعم وجوده كالياقوت الأحمر والخيل البلق لم يصح لأنه يمنع مقصود المضاربة وهو التقليب وطلب الربح فلم يصح كما لو اشترط أن لا يبيع ويشتري إلا من فلان أو أن لا يبيع إلا بمثل ما اشترى به
ولنا إنها مضاربة خاصة لا تمنع الربح بالكلية فصحت كما لو شرط أن لا يتجر إلا في نوع يعم وجوده ولأنه عقد يصح تخصيصه بنوع فصح تخصيصه في رجل بعينه وسلعة بعينها كالوكالة وقولهم أنه يمنع المقصود ممنوع وإنما يقلله وتقليله لا يمنع الصحة كتخصيصه لالنوع ويفارق ما إذا شرط أن لا يبيع إلا برأس المال فإنه يمنع الربح بالكلية وكذلك إذا قال لا تبع إلا من فلان ولا تشتر إلا من فلان فإنه يمنع الربح أيضا لأنه لا يشتري ما باعه إلا ما باعه إلا بدون ثمنه الذي باعه به ولهذا لو قال : لا تبع إلا ممن اشتريت منه لم يصح لذلك=

8.

مجلد 8. المغني - ابن قدامة   المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني  عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد 

 فصل : ويصح تأقيت المضاربة
فصل : ويصح تأقيت المضاربة مثل أن يقول : ضاربتك على هذه الدراهم سنة فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر قال مهنا : سألت أحمد عن رجل أعطى رجلا ألفا مضاربة شهرا قال : إذا مضى شهر يكون قرضا قال : لا بأس به قلت : فإذا جاء الشهر وهي متاع ؟ قال : إذا باع المتاع يكون قرضا وقال أبو الخطاب : في صحة شرط التأقيت روايتان إحداهما : هو صحيح وهو قول أبي حنيفة والثانية : لا يصح وهو قول الشافعي و مالك واختيار أبي حفص العكبري لثلاثة معان أحدها : أنه عقد يقع مطلقاص فإذا شرط قطعه لم يصح كالنكاح الثاني : إن هذا ليس من مقتضى العقد ولا له في مصلحة فأشبه ما لو شرط أن لا يبيع وبيان أنه ليس من مقتضى العقد أنه يقتضي أن يكون رأس المال ناضا فإذا منعه البيع لم ينض الثالث : إن هذا يؤدي إلى ضرر بالعامل لأنه قد يكون الربح والحظ في تبقية المتاع وبيعه بعد السنة فيمتنع ذلك بمضيها
ولنا إنه تصرف بتوقت بنوع من المتاع فجاز توقيته في الزمان كالوكالة والمعنى الأول الذي ذكروه يبطل بالوكالة والوديعة والمعنى الثاني والثالث يبطل تخصيصه بنوع من المتاع ولأن لرب المال منعه من البيع والشراء في كل وقت إذا رضي أن يأخذ بماله عرضا فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد فصح كما لو قال : إذا انقضت السنة فلا تشتر شيئا وقد سلموا صحة ذلك

فصل : وإذا اشترط المضارب نفقة نفسه
فصل : وإذا اشترط المضارب نفقة نفسه صح سواء كان في الحضر أو السفر وقال الشافعي : لا يصح في الحضر ولنا أن التجارة في الحضر إحدى حالتي المضاربة فصح اشتراط النفقة فيها كالسفر ولأنه شرط النفقة في مقابلة عمله فصح كما لو اشترطها في الوكالة

فصل : والشروط الفاسدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام
فصل : والشروط الفاسدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام أحدهما : ما ينافي مقتضى العقد مثل أن يشترط لزوم المضاربة أو لا يعزله مدة بعينها أو لا يبيع إلا برأس المال أو أقل أو لا يبيع إلا ممن اشترى منه أو شرط ألا يشتري أو لا يبيع أو أن يوليه ما يختاره من السلع أو نحو ذلك فهذه شروط فاسدة لأنها تفوت المقصود من المضاربة وهو الربح أو تمنع الفسخ الجائز بحكم الأصل القسم الثاني : ما يعود بجهالة الربح مثل أن يشترط للمضارب جزءا من الربح مجهولا أو ربح أحد الكسبين أو أحد الألفين أو أحد العبدين أو ربح إحدى السفرتين أو ما يربح في هذا الشهر أو أن حق أحدهما في عبد يشتريه أو يشترط لأحدهما دراهم معلومة بجميع حقه أو ببعضه أو يشترط جزءا من الربح الأجنبي فهذه شروط فاسدة لأنها تفضي إلى جهل حق كل واحد منهما من الربح أو إلى فواته بالكلية ومن شرط المضاربة كون الربح معلوما القسم الثالث : إشتراط ما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه مثل أن يشترط على المضارب المضاربة له في مال آخر أو يأخذه بضاعة أو قرضا أو أن يخدمه في شيء بعينه أو يرتفق ببعض السلع مثل أن يلبس الثوب ويستخدم العبد ويركب الدابة أو يشترط على المضارب ضمان المال أو شهما من الوضيعة أو أنه متى باع السلعة فهو أحق بها بالثمن أو شرط المضارب على رب المال شيئا من ذلك فهذه كلها شروط فاسدة وقد ذكرنا كثيرا منها في غير هذا الموضع معللا ومتى اشترط شرطا فاسدا يعود بجهالة الربح فسدت المضاربة لأن الفساد لمعنى في العوض المعقود عليه فأفسد العقد كما لو جعل رأس المال خمرا أو خنزيرا ولأن الجهالة تمنع من التسليم فتفضي إلى التنازع والإختلاف ولا يعلم ما يدفعه إلى المضارب وما عدا ذلك من الشروط الفاسدة فالمنصوص عن أحمد في أظهر الروايتين عنه أن العقد صحيح ذكره عنه الأثرم وغيره لأنه عقد يصح على مجهول فلم تبطله الشروط الفاسدة كالنكاح والعتاق والطلاق وذكر القاضي و أبو الخطاب رواية أخرى أنها تفسد العقد لأنه شرط فاسد فأفسد العقد كشرط دراهم معلومة أو شرط أن يأخذ له بضاعة والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة سواء

فصول : في المضاربة الفاسدة
فصل : وفي المضاربة الفاسدة فصول ثلاثة :
الفصل الأول : أنه إذا تصرف نفذ تصرفه لأنه أذن له فيه فإذا بطل العقد بقي الإذن فملك به التصرف كالوكيل فإن قيل فلو اشترى الرجل شراء فاسد ثم تصرف فيه لم ينفذ تصرفه مع أن البائع قد أذن له في التصرف قلنا لأن المشتري يتصرف من جهة الملك لا بالإذن فإن أذن له البائع كان على أنه ملك المأذون له فإذا لم يملك لم يصح وههنا أذن له رب المال في التصرف في ملك نفسه وما شرطه من الشرط الفاسد فليس بمشروط في مقابلة الإذن لأنه أذن له في تصرف يقع له
الفصل الثاني : أن الربح جميعه لرب المال لأنه نماء ماله إنما يستحق العامل بالشرط فإذا فسدت المضاربة فسد الشرط فلم يستحق منه شيئا وكان له أجر مثله نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي واختار الشريف أبو جعفر أن الربح بينهما على ما شرطاه وإحتج بما روي عن أحمد أنه قال : إذا إشتركا في العروض قسم الربح على ما شرطاه قال : وهذه الشركة فاسدة واحتج بأنه عقد يصح مع الجهالة فيثبت المسمى في فاسده كالنكاح قال : ولا أجر له وجعل أحكامها كلها كأحكام الصحيحة وقد ذكرنا هذا قال القاضي أبو يعلي : والمذهب ما حكينا وكلام أحمد محمول على أنه صحح الشركة بالعروض وحكي عن مالك أنه يرجع إلى قراض المثل وحكي عنه إن لم يربح فلا أجر له ومقتضى هذا أنه إن ربح فله الأقل مما شرط له أو أجر مثله ويحتمل أن يثبت عندنا مثل هذا لأنه إذا كان الأقل ما شرط له فقد رضي به فلا يستحق أكثر منه كما لو تبرع بالعمل الزائد
ولنا أن تسميه الربح من توابع المضاربة أو ركن من أركانها فإذا فسدت فسدت أركانها وتوابعها كالصلاة ولا نسلم في النكاح وجوب المسمى إذا كان العقد فاسدا وإذا لم يجب له المسمى وجب أجر المثل لأنه إنما عمل ليأخذ المسمى فإذا لم يحصل له المسمى وجب رد عمله إليه وذلك متعذر فتجب قيمته وهو أجر مثله كما لو تبايعا بيعا فاسدا وتقابضا وتلف أحد العوضين في يد القابض له وجب رد قيمته فعلى هذا سواء ظهر في المال ربح أو لم يظهر فأما إن رضي المضارب بالعمل بغير عوض مثل أن يقول قارضتك والربح كله لي فالصحيح إنه لا شيء للمضارب ههنا لأنه تبرع بعمله فأشبه ما لو أعانه في شيء أو توكل له بغير جعل أو أخذ له بضاعة
الفصل الثالث : في الضمان ولا ضمان عليه فيما يتلف بغير تعديه وتفريطه لأن ما كان القبض في صحيحه مضموناص كان مضمونا في فاسده وما لم يكن مضمونا في صحيحه لم يضمن في فاسده وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد : يضمن
ولنا أنه عقد لا يضمن ما قبضه في صحيحه فلم يضمنه في فاسده كالوكالة ولأنها إذا فسدت صارت إجارة والأجير لا يضمن سكنى ما تلف بغير تعديه ولا فعله فكذا ههنا وأما الشركة إذا فسدت فقد ذكرناها قبل هذا

مسألة : قال ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين
مسألة : قال : ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك
نص أحمد على هذا وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفا قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من اهل العلم إنه لا يجوز أن يجعل الرجل دينا له على رجل مضاربة وممن حفظنا ذلك عنه عطاء و الحكم و حماد و مالك و الثوري و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وبه قال الشافعي وقال بعض أصحابنا : يحتمل أن تصح المضاربة لأنه إذا اشترى شيئا للمضاربة فقد اشتراه فإذن رب المال ودفع الدين إلى من أذن له في دفعه إليه فتبرأ ذمته منه ويصير كما لو دفع إليه عرضا وقال : بعه وضارب بثمنه وجعل أصحاب الشافعي مكان هذا الإحتمال إن الشراء لرب المال وللمضارب أجر مثله لأنه علقه بشرط ولا يصح عندهم تعليق القراض بشرط والمذهب هو الأول لأن المال الذي في يدي من عليه الدين له وإنما يصير لغريمه بقبضه ولم يوجد القبض ههنا وإن قال له : إعزل المال الذي لي عليه وقد قارضتك عليه ففعل واشترى بعين ذلك المال شيئا للمضاربة وقع الشراء للمشتري لأنه يشتري لغيره بمال نفسه فحصل الشراء له فإن اشترى في ذمته فكذلك لأنه عقد القراض على ما لا يملكه وعلقه على شرط لا يملك به المال

فصل وإن قال لرجل : إقبض المال الذي على فلان
فصل : وإن قال لرجل : إقبض المال الذي على فلان واعمل به مضاربة فقبضه وعمل به جاز في قولهم جميعا ويكون وكيلا في قبضه مؤتمنا عليه لأنه قبضه بإذن مالكه من غيره فجاز أن يجعله مضاربة كما لو قال : اقبض المال من غلامي وضارب به قال مهنا : سألت أحمد عن رجل قال : إقرضني ألفا شهرا ثم بعد الشهر مضاربة قال : لا يصلح وذلك لأنه إذا أقرضه صار دينا عليه وقد ذكرنا أنه لا يجوز أن يضارب بالدين الذي عليه ولو قال : ضارب به شهرا ثم خذه قرضا جاز لما ذكرنا فيما تقدم

فصول : ومن شرط المضاربة أن يكون رأس المال معلوم
فصل : ومن شرط المضاربة أن يكون رأس المال معلوم المقدار ولا يجوز أن يكون مجهولا ولا جزافا ولو شاهداه وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور و أصحاب الرأي : يصح إذا شاهداه والقول قول العامل مع يمينه في قدره لأنه أمين رب المال والقول قوله فيما في يديه فقام ذلك مقام المعرفة به
ولنا أنه مجهول فلم تصح المضاربة به كما لو لم يشاهداه وذلك لأنه لا يدري بكم يرجع عند المفاصلة ؟ ولأنه يفضي إلى المنازعة والإختلاف في مقداره فلم يصح كما لو كان في الكيس وما ذكروه يبطل بالسلم وبما إذا لم يشاهداه
فصل : ولو أحضر كيسين في كل واحد منهما مال معلوم المقدار وقال : قارضتك على أحدهما لم يصح سواء تساوي ما فيهما أو اختلف لأنه عقد تمنع صحته الجهالة فلم يجز على غير معين كالبيع

مسألة : قال وإن كان في يده وديعة
مسألة : قال : وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول ضارب بها
وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي وقال الحسن : لا يجوز حتى يقبضها منه قياسا على الدين ولنا أن الوديعة ملك رب المال فجاز أن يضاربه عليها كما لو كانت حاضرة فقال : قارضتك على هذا الألف وأشار إليه في زاوية البيت وفارق الدين فإنه لا يصير عين المال ملكا للغريم إلا يقبضه ولو كانت الوديعة قد تلفت بتفريطه وصارت في الذمة لم يجز أن يضاربه عليها لأنها صارت دينا

فصل : ولو كان له في يد غيره مال مغصوب
فصل : ولو كان له في يد غيره مال مغصوب فضارب الغاصب به صح أيضا لأنه مال لرب المال يباح له بيعه من غاصبه ومن يقدر على أخذه منه فأشبه الوديعة وإن تلف وصار في الذمة لم تجز المكضاربة به لأنه صار دينا ومتى ضاربه بالمال المغصوب زال الغصب بمجرد عقد المضاربة وبهذا قال أبو حنيفة وقال القاضي : لا يزول ضمان الغصب إلا بدفعه ثمنا وهو مذهب الشافعي لأن القراض لا ينافي الضمان بدليل ما لو تعدى فيه ولنا أنه ممسك للمال فإذن مالكه لا يختص بنفعه ولم يتعد فيه فأشبه ما لو قبضه إياه

فصل : والعامل أمين في مال المضاربة
فصل : والعامل أمين في مال المضاربة لأنه متصرف في مال غيره بإذنه لا يختص بنفعه فكان أمينا كالوكيل وفارق المستعير فإنه قبضه لمنفعته خاصة وههنا المنفعة بينهما فعلى هذا القول قوله في قدر رأس المال قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنهم من أهل العلم أن القول قول العامل في قدر رأس المال كذا قال الثوري و إسحاق و أصحاب الرأي وبه نقول : ولأنه يدعي عليه قبض شيء وهو ينكره والقول قول المنكر وكذلك القول قوله فيما يدعيه من تلف المال أو خسارة فيه وما يدعي عليه من خيانة وتفريط وفيما يدعي إنه اشتراه لنفسه أو للمضاربة لأن الإختلاف ها هنا في نيته وهو أعلم بما نواه لا يطلع على ذلك أحد سواه فكان القول قوله فيما نواه كما لو إختلف الزوجان في نية الزوج بكناية الطلاق ولأنه أمين في الشراء فكان القول قوله كالوكيل ولو اشترى عبدا فقال رب المال : كنت نهيتك عن شرائه فأنكر العامل فالقول قوله لأن الأصل عدم النهي وهذا كله لا نعلم فيه خلافا

فصل : وإن قال أذنت لي في البيع نسيئة
فصل : وإن قال أذنت لي في البيع نسيئة وفي الشراء بعشرة قال بل أذنت لك في البيع نقدا وفي الشراء بخمسة فالقول قول العامل نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة ويحتمل أن القول قول رب المال وهو قول الشافعي لأن الأصل عدم الإذن ولأن القول قثول رب المال في أصل الإذن فكذلك في صفته
ولنا أنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته فكان القول قول العامل كما لو قال قد نهيتك عن شراء عبد فأنكر النهي

فصل : وإن قال شرطت لي نصف الربح
فصل : وإن قال : شرطت لي نصف الربح فقال : بل ثلثه فعن أحمد فيه روايتان إحداهما القول قول رب المال نص عليه في رواية ابن المنصور وستدي وبه قال الثوري و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي و ابن المبارك و ابن المنذر لأن رب المال ينكر السدس الزائد واشتراطه له والقول قول المنكر والثانية أن العامل إذا ادعى أجر المثل وزيادة يتغابن الناس بمثلها فالقول قوله وغن ادعى أكثر فالقول قوله فيما وافق أجر المثل وقال الشافعي : يتحالفان لأنهما إختلفا في عوض عقد فيتحالفان كالمتابيعين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأن الإختلاف في المضاربة فلم يتحالفا كسائر ما قدمنا اختلافهما فيه والمتبايعان يرجعان إلى رؤوس أموالهما بخلاف ما نحن فيه

فصل : وإن ادعى العامل رد المال فأنكر رب المال
فصل : وإن ادعى العامل رد المال فأنكر رب المال فالقول قول رب المال مع يمينه نص عليه أحمد ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما كقولنا والآخر يقبل قوله لأنه أمين ولأن معظم النفع لرب المال فالعامل كالمودع
ولنا إن قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير ولأن رب المال منكر والقول قول المنكر وفارق المودع فإن لا نفع له في الوديعة وقولهم إن معظم النفع لرب المال يمنعه وإن سلم إلا أن المضارب لم يقبضه إلا لنفع نفسه ولم يأخذه لنفع رب المال

فصل : وإن قال ربحت ألفا
فصل : وإن قال ربحت ألفا ثم قال : خسرت ذلك قبل قوله لأنه أمين يقبل قوله في التلف فقبل قوله في الخسارة كالوكيل وإن قال : غلطت أو نسيت لم يقبل قوله لأنه مقر بحق الآدمي فلم يقبل قوله في الرجوع كما لو أقر بأن رأس المال ألف ثم رجع ولو أن العامل خسر فقال لرجل : إقرضني ما أتمم به رأس المال لأعرضه على ربه فإنني أخشى أن ينزعه مني إن علم بالخسارة فأقرضه فعرضه على رب المال وقال : هذا رأس مالك فأخذه فله ذلك ولا يقبل رجوع العامل عن إقراره إن رجع ولا تقبل شهادة المقرض له لأنه يجر إلى نفسه نفعا وليس له مطالبة رب المال لأن العامل ملكه بالقرض ثم سلمه إلى رب المال ولكن يرجع المقرض على العامل لا غير

فصل : وإذا دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا
فصل : وإذا دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا على النصف فنض المال وهو ثلاثة آلاف وقال رب المال : رأس المال ألفان فصدقه أحدهما وقال الآخر : بل هو ألف فالقول قول المنكر مع يمينه فإذا حلف إن رأس المال ألف والربح ألفان فنصيبه منهما خمسمائة يبقى ألفا وخمسمائة يأخذ رب المال ألفين لأن الآخر يصدقه ويبقي خمسمائة ربحا بين رب المال والعامل الآخر يقتسمانه أثلاثا لرب المال ثلثاها ولعامل ثلثها مائة وستون وثلثان ولرب المال ثلثمائة وثلاثة وثلاثون لأن نصيب رب المال من الربح نصفه ونصيب هذا العامل ربعه فيقسم بينهما باقي الربح على ثلاثة وما أخذه الحالف فيما زاد على قدر نصيبه كالتالف منهما وبالتالف يحسب في المضاربة من الربح وهذا قول الشافعي

فصل : وإن دفع إلى رجل ألفا يتجر فيه فربح
فصل : وإن دفع إلى رجل ألفا يتجر فيه فربح فقال العامل : كان قرضا لي ربحه كله وقال رب المال : كان قراضا فربحه بيننا فالقول قول رب المال لأنه ملكه فالقول قوله في وصفه خروجه عن يده فإذا حلف قسمنا الربح بينهما ويحتمل ان يتحالفا ويكون للعامل أكثر الأمرين مما شرطه له من الربح أو أجر مثله لأنه إن كان الأكثر نصيبه من الربح فرب المال معترف له به وهو يدعي الربح كله وإن كان أجر مثله أكثر فالقول قوله في عمله مع يكينه كما أن القول قول رب المال في ربح ماله فإذا حلف قيل قوله في أنه ما عمل بهذا الشرط وإنما عمل لغرض لم يسلمه له فيكون له أجر المثل وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه فنص أحمد في رواية مهنأ أنهما يتعارضان ويقسم الربح بينهما نصفين وإن قال رب المال : كان بضاعة وقال للعامل : بل كان قراضا إحتمل أن يكون القول قول العامل لأن عمله له فيكون القول قوله فيه ويحتمل أن يتحالفا ويكون للعامل أقل الأمرين من نصيبه من الربح أو أجر مثله لأنه لا يدعي أكثر من نصيبه من الربح فلا يستحق زيادة عليه وإن كان الأقل أجر مثله فلم يثبت كونه قراضا فيكون له أجر عمله وإن قال رب المال : كان بضاعة وقال العامل : كان قرضا حلف كل واحد منهما على إنكار ما ادعاه خصمه وكان له أجر عمله لا غير وإن خسر المال أو تلف فقال رب المال : كان قرضا وقال العامل : كان قراضا أو بضاعة فالقول قول رب المال

فصل : وإذا اشترط المضارب النفقة
فصل : وإذا اشترط المضارب النفقة ثم ادعى أنه إنما أنفق من ماله وأراد الرجوع فله ذلك سواء كان المال باقيا في يديه أو قد رجع إلى مالكه وبه قال أبو حنيفة : إذا كان المال باقيا في يديه وليس له ذلك إذا كان بعد رده ولنا أنه أمين فكان القول قوله في ذلك كما لو كان باقيا في يده وكالوصي إذا ادعى النفقة على اليتيم

فصل : إذا كان عبد بين رجلين فباعه
فصل : إذا كان عبد بين رجلين فباعه أحدهما بأمر الآخر بألف وقال : لم أقبض ثمنه وادعى المشتري انه قبضه وصدقه الذي لم يبع بريء المشتري من نصف ثمنه لاعتراف شريك البائع يقبض وكيله حقه فبرىء المشتري منه كما لو أقر أنه قبضه بنفسه وتبقى الخصومة بين البائع وشريكه والمشتري فغن خاصمه شريكه وادعى عليه إنك قبضته نصيبي من الثمن فأنكر فالقول قوله مع يمينه إن لم يكن للمدعي بينة وغن كانت له بينة قضي بها عليه ولا تقبل شهادة المشتري له لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا وإن خاصم البائع المشتري فادعى المشتري أنه دفع إليه الثمن وأنكر الباءع فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر فإذا حلف أخذ من المشتري نصف الثمن ولا يشاركه فيه شريكه لأنه معترف أنه ظلما فلا يستحق مشاركته فيه وإن كان للمشتري بينة حكم بها ولا تقبل شهادة شريكه عليه لأنه يجر بها إلى نفسه نفعاص ومن شهد بشهادة تجر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل ولا فرق بين مخاصمة الشريك قبل مخاصمة المشتري أو بعدها وإن إدعى المشتري أن شريك البائع قبض الثمن منه البائع نظرت فإن كان البائع أذن لشريكه في القبض فهي كالتي قبلها وإن لم يأذن له في القبض لم تبرأ ذمة المشتري من شيء من الثمن لأن البائع لم يوكله في القبض فقبضه له لا يلزمه ولا يبرأ المشتري منه كما لو دفعه إلى أجنبي ولا يقبل قول المشتري على شريك البائع لأنه ينكره وللبائع المطالبة بقدر نصيبه لا غير لأنه مقرأن شريكه قبض حقه ويلزم المشتري دفع نصيبه إليه ولا يحتاج إلى أمين لأن المشتري مقر ببقاء حقه وإن دفعه إلى شريكه لم تبرأ ذمته فإذا قبض حقه فلشريكه مشاركته فيما قبض لأن الدين لهما ثابت بسبب واحد فما قبض منه يكون بينهما كما لو كان ميراثا ولو أنه لا يشاركه ويطالب المشتري بحقه كله ويحتمل أن لا يملك الشريك مشاركته فيما قبض لأن كل واحد منهما يشتحق ثمن نصيبه الذي ينفرد به فلم يكن لشريكه مشاركته فيما قبض من ثمنه كما لو باع كل واحد منهما نصيبه في صفقة ويخالف الميراث لأن سبب إستحقاق الورثة لا يتبعض فلم يكن للورثة تبعيضه وههنا يتبعض لأنه إذا كان البائع إثنين كان بمنزلة عقدين ولأن الوارث نائب عن الموروث فكان ما يقبضه للموروث يشترك فيه جميع الورثة بخلاف مسئلتنا فإن ما يقبضه لنفسه فإن قلنا له مشاركته فيما قبض فعليه اليمين أنه لم يستوف حقه من المشتري ويأخذ من القابض نصف ما قبضه ويطالب المشتري ببقية حقه إذا حلف له أيضا أنه ما قبض منه شيئا وليس للمقبوض منه ان يرجع على المشتري بعوض ما أخذ منه لأنه مقر أن المشتري قد برئت ذمته في حق شريكه وإنما أخذ منه ظلما فلا يرجع بما ظلمه هذا على غيره وإن خاصم المشتري شريك البائع فادعى عليه أنه قبض الثمن منه فكانت له بينة حكم بها وتقبل شهادة البائع له إذا كان عدلا لأنه لم يجر إلى نفسه نفعاص ولا يدفع عنها ضرراص لأنه إذا ثبت أن شريكه قبض الثمن لم يملك مطالبته بشيء لأنه ليس بوكيل له في القبض فلا يقع قبضه له هكذا ذكره بعض أصحابنا وعندي لا تقبل شهادته له لأنه يدفع عن نفسه ضرر مشاركة شريكه له فيما يقبضه من المشتري وإذا لم تكن بينة فحلف أخذ من المشتري نصف الثمن وإن نكل أخذ المشتري منه نصفه

فصل إذا كان العبد بين اثنين فغصب
فصل : وإذا كان العبد بين اثنين فغصب رجل نصيب أحدهما بأن يستولي على العبد وبمنع أحدهما الإنتفاع دون الآخر ثم أن مالك نصفه والغاصب باعا صفقة واحدة صح في نصيب المالك وبطل في نصيب الغاصب وإن وكل الشريك الغاصب أو وكل الغاصب الشريك في البيع فباع العبد كله صفقة واحدة بطل في نصيب الغاصب في الصحيح وهل يصح في نصيب الشريك ؟ على روايتين بناء على تفريق الصفقة لأن الصفقة ههنا وقعت واحدة وقد بطل البيع في بعضها فبطل في سائرها بخلاف ما إذا باع المالك والغاصب فإنهما عقدان لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان ولو أن الغاصب ذكر للمشتري إنه وكل في نصفه لصح في نصيب الآذن لكونه كالعقد المنفرد

فصل : وإذا كان لرجلين دين بسبب واحد
فصل : وإذا كان لرجلين دين بسب واحد إما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره فقبض أحدهما منه شيئا فللآخر مشاركته فيه هذا ظاهر المذهب وقد روي عن أحمد ما يدل على أن لأحدهما أن يأخذ حقه دون صاحبه ولا يشاركه الآخر فيما أخذه وهو قول أبي العالية وأبي قلابة وابن سيرين وأبي عبيد قيل لأحمد بعت أنا وصاحبي متاعا بيني وبينه فأعطاني حقي وقال حقك خاصة وأنا أعطي شريكك بعد ؟ قال : لا يجوز قيل له : فإن أخره أو أبرأه من حقه دون صاحبه قال : يجوز قيل : فقد قال أبو عبيد : له أن يأخذ دون صاحبه إذا كان له أن يؤخر ويبرئه دون صاحبه ؟ ففكر فيها ثم قال : هذا يشبه الميراث إذا أخذ منه بعض الورثة دون بعض وقد قال ابن سيرين و أبو قلابة و أبو العالية : من أخذ شيئا فهو من نصيبه قال : فرأيته قد احتج له وأجازه قال أبو بكر : العمل عندي على ما رواه حرب وحنبل أنه لا يجوز وهو الصحيح وقد صرح به أحمد في أول هذه الرواية ولم يصرح بالرجوع عما قاله وذلك لأنه لا يجوز أن يكون نصيب القابض ما أخذه لما في ذلك من قسمة الدين في الذمة من غير رضى الشريك فيكون المأخوذ والباقي جميعاص مشتركا ولغير القابض الرجوع على القابض بنصفه سواء كان باقياص في يده أو أخرجه عنها برهن أو قضاء دين أو غيره وله ان يرجع على الغريم لأن الحق يثبت في ذمته لهما على وجه سواء فليس له تسليم حق أحدهما إلى الآخر فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشيء لأن حقه يثبت في أحد المحلين فإذا اختار أحدهما سقط حقه من الآخر وليس للقابض منعه من الرجوع على الغريم بأن يقول : أنا أعطيك نصف ما قبضت بل الخيرة إليه من أيهما شاء قبض فإن قبض من شريكه شيئا رجع الشريك على الغريم بمثله وإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ولم يضمنه للشريك لأنه قدر حقه فيما تعدى بالقبض وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته في الأصل مشتركا وإن أبرأ أحد الشريكين من حقه برىء منه لأنه بمنزلة تلفه ولا يرجع عليه غريمه بشيء وإن أبرأ أحدهما من عشر الدين ثم قبضا من الدين شيئا اقتسماه على قدر حقهما في الباقي للمبرىء أربعة اتساعه ولشريكه خمسة اتساعه وإن قبضا نصف الدين ثم أبرأ أحدهما من عشر الدين كله نفذت براءته في خمس الباقي وما بقي بينهما على ثمانية للمبرىء ثلاثة أثمان وللآخر خمسة أثمان فما قبضاه بعد ذلك إقتسماه على هذا وإن اشترى أحدهما بنصيبه من الدين ثوبا فللآخر أبطال الشراء فإن بذل له المشتري نصف الثوب ولا يبطل البيع لم يلزمه ذلك وإن أجاز البيع ليملك نصف الثوب إنبنى على بيع الفضولي هل يقف على الإجازة أو لا ؟ وغن أخر أحدهما حقه من الدين جاز فإنه لو أسقط حقه جاز فتأخيره أولى فإن قبض الشريك بعد ذلك شيئا لم يكن لشريكه الرجوع عليه بشيء ذكره القاضي والولى أن له الرجوع لأن الدين الحال لا يتأجل بالتأجيل فوجود التأجيل كعدمه فأما إن قلنا بالرواية الأخرى وإن ما يقبضه أحدهما له دون صاحبه فوجهها أن ما في الذمة لا ينتقل إلى العين إلا بتسليمه إلى غريمه أو وكيله وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض ولا لوكيله فلا يثبت له فيه حق وكان لقابضه لثبوت يده عليه بحق فأشبه ما لو كان الدين بسببين وليس هذا قسمة الدين في الذمة وإنما تعين حقه بقيضه فأشبه تعيينه بالإبراء ولأنه لو كان لغير القابض حق في المقبوض لم يسقط بتلفه كسائر الحقوق ولأن هذا القبض لا يخلو إما أن يكون بحق أو بغير حق فإن كان بحق لم يشاركه غيره فيه كما لو كان الدين بسببين وإن كان بغير حق لم يكن له مطالبته لأن حقه في الذمة لا في العين فأشبه ما لو أخذ غاصب منه مالاص فعلى هذا ما قبضه القابض يختص به دون شريكه وليس لشريكه الرجوع عليه وإن اشترى بنصيبه ثوباص صح ولم يكن لشريكه إبطال الشراء وإن قبض أكثر من حقه بغير إذن شريكه لم يبرأ الغريم مما زاد على حقه

فصل : الخلاف عند أحمد في قسمة الدين في الذمة
فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في قسمة الدين في الذمم فنقل حنبل منع ذلك وهو الصحيح لأن الذمم لا تتكافأ ولا تتعادل والقسمة تقتضي التعديل وأما القسمة من غير تعديل فهي بيع ولا يجوز بيع الدين بالدين فعلى هذا لو تقاسما ثم توى بعض المال رجع من توى ماله على من لم يتو وبهذا قال ابن سيرين و النخعي ونقل حرب جواز ذلك لأن الإختلاف لا يمنع القسمة كما لو اختلفت الأعيان وبه قال الحسن و إسحاق فعلى هذا لا يرجع من توى ماله على من لم يتو إذا أبرأ كل واحد صاحبه وهذا إذا كان في ذمم فأما في ذمة واحدة فلا تمكن القسمة لأن معنى القسمة إفراز الحق ولا يتصور ذلك في ذمة واحدة والله أعلم

فصول : في العبد المأذون له
فصول في العبد المأذون له : يجوز أن يأذن السيد لعبده في التجارة بغير خلاف تعلمه لأن الحجر عليه إنما كان لحق سيده فجاز له التصرف بإذنه وينفك عنه الحجر في قدر ما أذن له فيه لأن تصرفه إنما جاز بإذن سيده فزال الحجر في قدر ما أذن له فيه كالوكيل فإن دفع إليه مالا يتجر به كان له أن يبيع ويشتري ويتجر فيه وإن أذن له أن يشتري في ذمته جاز وإن عين له نوعا من المال يتجر فيه جاز ولم يكن له التجارة في غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز أن يتجر في غيره وينفك عنه الحجر مطلقاص لأن إذنه إطلاق من الحجر وفك له وإلا طلاق لا يتبعض كبلوغ الصبي
ولنا أنه متصرف بالإذن من جهة الآدمي فوجب أن يختص ما أذن له فيه كاوكيل والمضارب وما قاله ينقض بما إذا أذن له في شراء ثوب ليلبسه أو طعام ليأكله ويخالف البلوغ فإنه يزول به المعنى الموجب للحجر فإن البلوغ مظنة كمال العقل الذي يتمكن به من التصرف على وجه المصلحة وههنا الرق سبب الحجر وهو موجود فنظير البلوغ في الصبي العتق للعبد وإنما يتصرف العبد بالإذن ألا ترى أن الصبي يستفيد بالبلوغ قبول النكاح بخلاف العبد ؟
فصل : وإذا أذن له في التجارة لم يجز له أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لإنسان وبه قال الشافعي وأباحهما أبو حنيفة لأنه يتصرف لنفسه فملك ذلك كالمكاتب
ولنا أنه عقد على نفسه فلا يملكه بالإذن في التجارة كبيع نفسه وتزوجه وقولهم أنه يتصرف لنفسه ممنوع بل يتصرف لسيده وبهذا فارق المكاتب يتصرف لنفسه ولهذا كان له أن يبيع من سيده
فصل : وإذا رأى السيد عبده يتجر فلم ينهه لم يصر مأذوناص له بهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يصير مأذونا له لأنه سكت عن حقه فكان مسقطا له كالشفيع إذا سكت عن طلب الشفعة
ولنا أنه تصرف يفتقر إلى الإذن فلم يقم السكوت مقام الإذن كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت أو باعه المرتهن والراهن ساكت وكتصرفات الأجانب ويخالف الشفعة فإنها بمضي الزمان إذا علم لأنها على الفور
فصل : ولا يبطل الإذن بالإباق وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يبطل لأنهيزيل به ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه فأشبه ما لو باعه
ولنا أن الإباق لا يمنع إبتداء الإذن له في التجارة فلم يمنع استدامته كما لو غصبه غاصب أو حبس يدين عليه أو على غيره وما ذكروه غير صحيح فإن سبب الولاية باق وهو الرق ويجوز بيعه وإجارته ممن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب
فصل : ولا يجوز للمأذون التبرع بهبة الدراهم ولا كسوة الثياب وتجوز هبته المأكول وإعارة دابته وإتخاذ الدعوة ما لم يكن إسرافا وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يجوز شيء من ذلك بغير إذن سيده لأنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة دراهمه
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يجيب دعوة المملوك وروى أبو سعيد مولى أبي أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم عبد اله بن مسعود وحذيفة وأبو ذر فأمهم وهو يومئذ عبد رواه صالح في مسائله بإسناده ولأن العادة جارية بهذا بين التجار فجاز كما جاز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها

كتاب الوكالة
وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعال : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها } فجوز العمل عليها وذلك بحكم النيابة عن المستحقين وأيضا قوله تعالى : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } وهذه وكالة وأما السنة فروى أبو داود و الأثرم و ابن ماجة عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد لمازة بن زبار عن عروة بن الجعد قال : [ عرض للنبي صلى الله عليه و سلم جلب فأعطاني دينارا فقال يا عروة أئت الجلب فاشتر لنا شاة قال فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم بالدينار وبالشاة فقلتيا رسول الله : هذا ديناركم وهذه شاتكم قال : وصنعت كيف ؟ قال : فحدثته الحديث قال اللهم بارك له في صفقة يمينه ] هذا لفظ رواية الأثرم وروى أبو داود بإسناده عن جابر بن عبد الله [ قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت له إني إردت الخروج إلى خيبر فقال : إئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاص فغن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته ] وروي عنه صلى الله عليه و سلم أنه وكل عمرو بن امية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة وأبا رافع في قبول نكاح ميمونة وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فغنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه فدعت الحاجة إليها

فصل : وكل من صح تصرفه في شيء بنفسه
فصل : وكل من صح تصرفه في شيء بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلا أو امرأة حرا عبدا مسلما كان أو كافرا وأما من يتصرف بالإذن كالعبد المأذون له والوكيل والمضارب فلا يدخلون في هذا لكن يصح من العبد التوكيل فيما يملكه دون سيده كالطلاق والخلع وكذلك الحكم في المحجور عليه لسفه لا يوكل إلا فيما له فعله من الطلاق والخلع وطلب القصاص ونحوه وكل ما يصح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة صح أن يتوكل لغيره يه إلا الفاسق فغنه يصح أن يقبل النكاح لنفسه وذكر القاضي أنه لا يصح أن يقبله لغيره وكلام أبي الخطاب يقتضي جواز ذلك وهو القياس ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان كهذين فأما توكيله في الإنجاب فلا يجوز إلا على الرواية التي تثبت الولاية له وذكر أصحاب الشافعي في ذلك وجهين أحدهما يجوز توكيله لأنه ليس بولي ووجه الوجه الاخر أنه موجب للنكاح أشبه الولي ولأنه لا يجوز أن يتولى ذلك بنفسه فلم يجز أن يتوكل فيه كالمرأة ويصح توكيل المرأة في طلاق نفسها وطلاق غيرها ويصح توكيل العبد في قبول النكاح لأنه ممن يجوز أن يقبله لنفسه وإنما يقف ذلك على إذن سيده ليرضى بتعلق الحقوق به ومن لا يملك التصرف في شيء لنفسه لا يصح أن يتوكل فيه كالمرأة في عقد النكاح وقبوله والكافر في تزويج مسلمة والطفل والمجنون في الحقوق كلها

فصل : وللمكاتب أن يوكل فيما يتصرف فيه بنفسه
فصل : وللمكاتب أن يوكل فيما يتصرف فيه بنفسه وله أن يتوكل بجعل لأنه من اكتساب المال ولا يمنع المكاتب من الاكتساب وليس أن يتوكل لغيره بغير جعل إلا بإذن سيده لأن منافعه كأعيان ماله وليس له بذل عين ماله بغير عوض وللعبد أن يتوكل بإذن سيده وليس له التوكيل بغير إذن سيده وإن كان مأذونا له في التجارة لأن الإذن في التجارة لا يتناول التوكيل وتصح وكالة الصبي المراهق إذا أذن له الولي لأنه ممن يصح تصرفه

فصل : قال ويجوز التوكيل في الشراء والبيع
مسألة : قال : ويجوز التوكيل في الشراء والبيع ومطالبة الحقوق والعتق والطلاق حاضرا كان الموكل أو غائبا
لا نعلم خلافا في جواز التوكيل في البيع والشراء وقد ذكرنا الدليل عليه من الآية والخبر ولأن الحاجة داعية إلى التوكيل فيه لأنه قد يكون ممن لا يحسن البيع والشراء أو لا يمكنه الخروج إلى السوق وقد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ وقد لا تليق به التجارة لكونه إمرأة أو ممن يتعير بها ويحط ذلك من منزلته وأباحها الشرع دفعا للحاجة وتحصيلا لمصلحة الآدمي المخلوق لعبادة الله سبحانه ويجوز التوكيل في الحوالة والرهن والضمان والكفالة والشركة والوديعة والمضاربة والجعالة والمساقاة والإجارة والقرض والصلح والوصية والهبة والوقف والصدقة والفسخ والإبراء لأنها في معنى البيع في الحاجة إلى التوكيل فيها فيثبت حكمه ولا نعلم في شيء من ذلك إختلافا ويجوز التوكيل في عقد النكاح في الإيجاب والقبول ولأن النبي صلى الله عليه و سلم وكل عمرو بن أمية وأبا رافع في قبول النكاح له ولأن الحاجة تدعوا إليه فإنه ربما احتاج إلى التزويج من مكان بعيد لا يمكنه السفر إليه فإن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج أم حبيبة وهي يومئذ بأرض الحبشة ويجوز التوكيل في الطلاق والخلع والرجعة والعتاق لأن الحاجة تدعوا إليه كدعائها إلى التوكيل في البيع والنكاح ويجوز التوكيل في تحصيل المباحات كإحياء الموات وإسقاء الماء والإصطياد والإحتشاش لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه فجاز التوكيل فيه كالابتياع والإتهاب ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف واستيفائها في حضرة الموكل وغيبته لأنهما من حقوق الآدميين وتدعوا الحاجة إلى التوكيل فيهما لأن من له حق قد لا يحسن الاستيفاء أو لا يحب أن يتولاه

فصل : ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها
فصل : ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها حاضرا كان الموكل أو غائبا صحيحا أو مريضا وبه قال مالك و ابن أبي ليلى و أبو يوسف و محمد و الشافعي وقال أبو حنيفة : للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضاء خصمه كالدين عليه
ولنا أنه حق تجوز النيابة فيه فكان لصاحبه الإستنابة بغير رضاء خصمه كحال غيبته ومرضه وكدفع المال الذي عليه ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا عند أبي بكر رضي الله عنه وقال : ما قضى له فلي وما قضى عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال : إن للخصومة قحما وإن الشيطان ليحضرها وإني لأكره أن أحضرها قال أبو زياد : القحم المهالك وهذه قصص إنتشرت لأنها في مظنة الشهرة فلم ينقل إنكارها ولأن الحاجة تدعوا إلى ذلك فإنه يكون له الحق أو يدعي عليه ولا يحسن الخصومة أو لا يحب أن يتولاها بنفسه ويجوز التوكيل في الإقرار ولأصحاب الشافعي وجهان أحدهما لا يجوز التوكيل فيه لأنه اخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة
ولنا أنه إثبات حق في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع وفارق الشهادة فإنها لا تثبت الحق وإنما هو أخبار بثبوته على غيره

فصل : ولا يصح التوكيل في الشهادة
فصل : ولا يصح التوكيل في الشهادة لأنها تتعلق بعين الشاهد لكونها خبرا عما رآه أو سمعه ولا يتحقق هذا المعنى في نائبه فإن استناب فيها كان النائب شاهدا على شهادته لكونه يؤدي ما سمعه من شاهد الأصل وليس بوكيل ولا يصح في الإيمان والنذور لأنها تتعلق بعين الحالف والناذر فأشبهت العيادات البدنية والحدود ولا يصح في الإيلاء والقسامة والعان لأنها إيمان ولا في القسم بين الزوجات لأنه يتعلق ببدن الزوج لأمر لا يوجد من غيره ولا في الرضاع لأنه يختص بالمرضعة والمرتضع لأمر يختص بنبات لحم المرتضع وإنشاز عظمه بلبن المرضعة ولا في الظهار لأنه قول منكر وزور فلا يجوز فعله ولا الإستنابة فيه ولا يصح في الغصب لأنه محرم ولا في الجنايات لذلك ولا في كل محرم لأنه لا يجوز له فعله فلم يجز لنائبه

فصل : فأما حقوق الله تعالى فيما كان منها كحد الزنا جاز التوكيل
فصل : فأما حقوق الله تعالى فما كان منها حدا كحد الزنا والسرقة جاز التوكيل في استيفائه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها أنيس فاعترفت فأمر بها فرجمت ] متفق عليه وأمر النبي صلى الله عليه و سلم برجم ما عز فرجموه ووكل عثمان عليا في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة ووكل علي الحسن في ذلك فأبى الحسن فوكل عبد الله بن جعفر فأقامه وعلي يعد رواه مسلم ولأن الحاجة تدعوا إلى ذلك لأن الإمام لا يمكنه تولي ذلك بنفسه ويجوز التوكيل في إثباتها وقال أبو الخطاب : لا يجوز في إثباتها وهو قول الشافعي لأنها تسقط بالشبهات وقد أمرنا بدرئها بها والتوكيل يوصل إلى الإيجاب
ولنا حديث أنيس فإن النبي صلى الله عليه و سلم وكله في إثباته واستيفائه جميعا فإنه قال : فإن اعترفت فارجمها وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت وقد وكله في إثباته واستيفائه جميعا ولن الحاكم إذا استناب دخل في ذلك الحدود فإذا دخلت في التوكيل بطريق العموم وجب أن تدخل بالتخصيص بها أولى والوكيل يقوم مقام الموكل في درئها بالشبهات وأما العبادات فما كان منها له تعلق بالمال كالزكاة والصدقات والمنذورات والكفارات جاز التوكيل في قبضها وتفريقها ويجوز للمخرج التوكيل في إخراجها ودفعها إلى مستحقها ويجوز أن يقول لغيره أخرج زكاة مالي من مالك [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمين اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ] متفق عليه ويجوز التوكيل في الحج إذا أيس المحجوج عنه من الحج بنفسه وكذلك العمرة ويجوز أن يستناب من يحج عنه بعد الموت وأما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصيام والطهارة من الحدث فلا يجوز التوكيل فيها لأنها تتعلق ببدن من هي عليه فلا يقوم غيره مقامه فيها إلا أن الصيام المنذور يفعل عن الميت وليس ذلك بتوكيل لأنه لم يوكل في ذلك ولا وكل فيه غيره ولا يجوز في الصلاة إلا في ركعتي الطواف تبعا للحج وفي فعل الصلاة المنذورة وفي الاعتكاف المنذور عن الميت روايتان ولا تجوز الإستنابة في الطهارة إلا في صب الماء وإيصال الماء للأعضاء وفي تطهير النجاسة عن البدن والثوب وغيرهما

فصل : وكل ما جاز التوكيل فيه جاز
فصل : وكل ما جاز التوكيل فيه جاز استيفاؤه في حضرة الموكل وغيبته ونص عليه أحمد وهذا مذهب مالك وقال بعض أصحابنا : لا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف في غيبة الموكل أومأ إليه أحمد وهو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حالة غيبته فيسقط وهذا الإحتمال شبهة تمنع الإستيفاء ولأن العفو مندوب إليه فإذا حضر إحتمل أن يرحمه فيعفو والأول ظاهر المذهب لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته كالحدود وسائر الحقوق واحتمال العفو بعيد والظاهر إنه لو عفا لبعث وأعلم وكيله بعفوه والأصل عدمه فلا يؤثر ألا ترى أن قضاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يحكمون في البلاد ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهات مع احتمال النسخ وكذلك لا يحتاط في استيفاء الحدود بإحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة أو تغير إجتهاد الحاكم

فصل : ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول
فصل : ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع ويجوز الإيجاب بكل لفظ دل على الإذن نحو أن يأمره بفعل شيء أو يقول أذنت لك في فعله فإن النبي صلى الله عليه و سلم وكل عروة بن الجعد في شراء شاة الشراء وقال الله تعالى مخبرا عن أهل الكهف أنهم قالوا : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } ولأنه لفظ دال على الإذن فجرى مجرى قوله وكلتك ويجوز القبول بقوله قبلت وكل لفظ دل عليه ويجوز بكل فعل دل على القبول نحو أن يفعل ما أمره بفعله لأن الذين وكلهم النبي صلى الله عليه و سلم لم ينقل عنهم سوى إمتثال أمره ولأنه أذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل كأكل الطعام ويجوز القبول على الفور والتراخي نحو أن يبلغه أن رجلا وكله في بيع شيء منذ سنة فيبيعه أو يقول قبلت أو يأمره بفعل شيء فيفعله بعد مدة طويلة لأن قبول وكلاء النبي صلى الله عليه و سلم لوكالته كان بفعلهم وكان متراخيا عن توكيله إياهم ولأنه أذن في التصرف والإذن قائم ما لم يرجع عنه فأشبه الإباحة وهذا كله مذهب الشافعي

فصل : ويجوز تعليقها على شرط
فصل : ويجوز تعليقها على شرط نحو قوله إذا قدم الحاج فبع هذا الطعام وإذا جاء الشتاء فاشتر لنا قمحا وإذا جاء الأضحى فاشتر لنا أضحية وإذا طلب منك أهلي شيئا فأدفعه إليهم وإذا دخل رمضان فقد وكلتك في هذا أو فأنت وكيلي وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يصح لكن إن تصرف صح تصرفه لوجود الإذن وإن كان وكيلا يجعل فسد المسمى وله أجر المثل لأنه عقد يملك به التصرف في الحياة فأشبه البيع ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة ] وهذا في معناه ولأنه عقد إعتبر في حق الوكيل حكمه وهو إباحة التصرف وصحته فكان صحيحا كما لو قال أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج لو قال : وكلتك في شراء كذا في وقت كذا صح بلا خوف ومحل النزاع في معناه ولأنه أذن في التصرف أشبه الوصية والتأمير ولأنه عقد يصح بغير جعل ولا يختص فاعله بكونه من أهل القربة فصح بالجعل كالتوكيل الناجز

فصل : ويجوز التوكيل بجعل
فصل : ويجوز التوكيل بجعل وغير جعل فإن النبي صلى الله عليه و سلم وكل أنيسا في إقامة الحد وعروة في شراء شاة وعمرا وأبا رافع في قبول النكاح بغير جعل وكان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمالة ولهذا قال له أبناء عمه : لو بعثتنا على هذه الصدقات فنؤدي إليك ما يؤدي الناس ونصيب ما يصيبه الناس يعنيان العمالة فإن كانت بجعل استحق الوكيل الجعل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان مما يمكن تسليمه كثوب ينسجه أو يقصره أو يخيطه فمتى سلمه إلى الموكل معمولا فله الأجر وإن كان الخياط في دار الموكل فكلما عمل شيئا وقع مقبوضا فيستحق الوكيل الجعل إذا فرغ الخياط من الخياطة وإن وكل في بيع أو شراء أو حج إستحق الأجر إذا عمله وإن لم يقبض الثمن في البيع وإن قال : إذا بعث الثوب وقبضت ثمنه وسلمته إلي فلك الأجر لم يستحق منها شيئا حتى يسلمه إليه فإن فاته التسليم لم يستحق شيئا لفوان الشرط

فصل : ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم
فصل : ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم وكلتك في كل شيء أو في كل قليل وكثير أو في كل تصرف يجوز لي أو في كل مالي التصرف فيه لم يصح وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال ابن أبي ليلى : يصح ويملك به كل ما تناوله لفظه لأنه لفظ عام فصح فيما يتناوله كما لو قال : بع مالي كله
ولنا أن في هذا غررا عظيما وخطرا كبيرا لأنه تدخل فيه هبة ماله وطلاق نسائه وإعتاق رقيقه وتزوج نساء كثيرة ويلزمه المهور الكثيرة والأثمان العظيمة فيعظم الضرر وإن قال : إشتر لي ما شئت لم يصح لأنه قد يشتري ما لا يقدر على ثمنه وقد روي عن أحمد ما يدل على صحته لقوله في رجلين قال : كل واحد منهما لصاحبه ما اشتريت من شيء فهو بيننا إنه جائز وأعجبه ولأن الشريك والمضارب وكيلان في شراء ما شاء فعلى هذا ليس له أن يشتري إلا بثمن المثل فما دون ولا يشتري ما لا يقدر الموكل على ثمنه ولا ما لا يرى المصلحة له في شرائه وإن قال : بع مالي كله واقبض ديوني كلها صح لأنه قد يعرف ماله وديونه وإن قال : بع ما شئت من مالي واقبض ما شئت من ديوني جاز لأنه إذا جاز التوكيل في الجميع ففي بعضه أولى وإن قال : إقبض ديني كله وما يتجدد في المستقبل صح قال أصحاب الشافعي : إذا قال : بع ما شئت من مالي لم يجز وإن قال : من عبيدي جاز لأنه محصور بالجنس
ولنا إن ما جاز التوكيل في جميعه جاز في بعضه كعبده وإن قال : إشتر عبدا تركيا أو ثوبا هرويا صح وإن قال : إشتر لي عبدا أو قال : ثوبا ولم يذكر جنسه صح أيضا وقال أبو الخطاب : لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه مجهول ولنا أنه توكيل في شراء عبد فلم يشترط ذكر نوعه كالقراض
ولا يشترط ذكر قدر الثمن ذكره القاضي وقال أبو الخطاب : لا يصح حتى يذكر قدر الثمن وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن العبيد تتفاوت من الجنس الواحد وإنما تتميز بالثمن
ولنا أنه إذا ذكر نوعا فقد أذن في أغلاه ثمنا فيقل الغرر ولأن تقدير الثمن يضر فإنه قد لا يجد بقدر الثمن ومن اعتبر ذكر الثمن جوز أن يذكر له أكثر الثمن وأقله

فصل : وإذا وكل وكيلين
فصل : وإذا وكل وكيلين في تصرف وجعل لكل واحد الإنفراد بالتصرف فله ذلك لأنه مأذون له فيه فإن لم يجعل له ذلك فليس لأحدهما الإنفراد به لأنه لم يأذن له في ذلك وإنما يجوز له ما أذن فيه موكله وبهذا قال الشافعي و أصحاب الرأي وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه معا في حرز لهما لأن قوله إفعلا كذا يقتضي اجتماعهما على فعله وهو مما يمكن فتعلق بهما وفارق هذا قوله بعتكما حيث كان منقسما بينهما لأنه لا يمكن كون الملك لهما على الإجتماع فانقسم بينهما فإن غاب أحد الوكيلين لم يكن للآخر أن يتصرف ولا للحاكم ضم أمين إليه ليتصرفا لأن الموكل رشيد جائز التصرف لا ولاية للحاكم عليه فلا يضم الحاكم وكيلا له بغير أمره وفارق ما لو مات أحد الوصيين حيث يضيف الحاكم إلى الوصي أميناص ليتصرف لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم ولهذا لو لم يوص إلى أحد أقام الحاكم أمينا في النظر لليتيم وإن حضر الحاكم أحد الوكيلين والآخر غائب وادعى الوكالة لهما وأقام بينه سمعها الحاكم وحكم بثبوت الوكالة لهما ولم يملك الحاضر التصرف وحده فإذا حضر الآخر تصرفا معا ولا يحتاج إلى إعادة البينة لأن الحاكم سمعها لهما مرة فإن قيل هذا حكم للغائب قلنا : يجوز تبعا لحق الحاضر كما يجوز أن يحكم بالوقف الذي يثبت لمن لم يخلق الأجل من يستحقه في الحال كذا ههنا وإن جحد الغائب الوكالة أو عزل نفسه لم يكن للآخر أن يتصرف وبما ذكرناه قال أبو حنيفة و الشافعي : ولا نعلم فيه خلافا وجميع التصرفات في هذا سواء وقال أبو حنيفة : وكلهما في خصومة فلكل واحد منهما الإنفراد بها ولنا أنه لم يرض بتصرف أحدهما أشبه البيع والشراء

مسألة : قال وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه
مسألة : قال : وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل ذلك إليه
لا يخلو التوكيل من ثلاثة أحوال أحدها : أن ينهي الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك بغير خلاف لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه فلم يجز كما لو لم يوكله الثاني : أذن له في التوكيل أذن له في التوكيل فيجوز له ذلك لأنه عقد اذن له فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون فيه ولا نعلم في هذين خلافا وإن قال له : وكلتك فاصنع ما شئت فله أن يوكل وقال أصحاب الشافعي : ليس له التوكيل في أحد الوجهين لأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه وقوله إصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه
ولنا أن لفظه عام فيما شاء فيدخل في عمومه التوكيل الثالث : أطلق الوكالة فلا يخلو من أقسام ثلاثة أحدها : أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه أو غير ذلك فإنه يجوز له التوكيل فيه لأنه إذا كان مما لا يعلمه الوكيل عادة إنصرف الإذن إلى ما جرت به العادة من الإستنابة فيه
القسم الثاني : أن يكون مما يعلمه ينفسه إلا أنه يعجز عن عمله كله لكثرته وانتشاره فيجوز له التوكيل في عمله أيضا لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فجاز التوكيل في فعل جميعه كما لو أذن في التوكيل بلفظه وقال القاضي : عندي إنه إنما له التوكيل فيما زاد على ما يتمكن من عمله بنفسه لأن التوكيل إنما جاز للحاجة فاختص ما دعت إليه الحاجة بخلاف وجود إذنه فإنه مطلق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
القسم الثالث : ما عدا هذين القسمين وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه فهل يجوز له التوكيل فيه ؟ على روايتين احداهما : لا يجوز نقلها ابن منصور وهو مذهب أبي حنيفة و أبي يوسف و الشافعي لأنه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه ولأنه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه لمن لم يأمنه عليه كالوديعة والأخرى يجوز نقلها حنبل وبه قال ابن أبي ليلى : إذا مرض أو غاب لأن الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملكه نيابة كالمالك والأول أولى ولا يشبه الوكيل المالك فإن المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف شاء بخلاف الوكيل

فصل : وكل وكيل جاز له التوكيل
فصل : وكل وكيل جاز له التوكيل فليس له أن يوكل إلا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين فيقيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر كما أن الإذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل إلا أن يعين له الموكل من يوكله فيجوز توكيله وإن لم يكن أمينا لنه قطع نظره بتعيينه وإن زكل أمينا وصار خائنا فعليه عزله لأن تركه يتصرف مع الخيانة تضييع وتفريط والوكالة تقتضي استئمان أمين وهذا ليس بأمين فوجب عزله

فصل
فصل : والحكم في الوصي يوكل فيما أوصي به إليه وفي الحاكم يولي القضاء في ناحية يستنيب عيره حكم الوكيل فيما ذكرنا من التفصيل إلا أن المنصوص عن أحمد في رواية مهنا جواز ذلك وهو قول الشافعي في الوصي لأن الوصي يتصرف بولاية بدليل أنه يتصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه والوكيل لا يتصرف إلا فيما نص له عليه والجمع بينهما أولى لأنه متصرف في مال غيره بالإذن فأشبه الوكيل وإنما يتصرف فيما اقتضته الوصية كالوكيل إنما يتصرف فيما اقتضته الوكالة

فصل : فأما الولي في النكاح فله التوكيل
فصل : فأما الولي في النكاح فله التوكيل في تزويج موليته بغير إذنها أبا كان أو غيره وقال القاضي : فيمن ولايته غير ولاية الإجبار هو كالوكيل يخرج على الروايتين المنصوص عليهما في الوكيل ولأصحاب الشافعي فيه وجهان أحدهما : لا يملك التوكيل إلا بإذنها لأنه لا يملك التزويج إلا بإذنها أشبه الوكيل
ولنا أن ولايته من غير جهتها فلم يعتبر إذنها في توكيله فيها كالأب بخلاف الوكيل ولأنه متصرف بحكم الولاية الشرعية أشبه الحاكم ولأن الحاكم يملك تفويض عقود الأنكحة إلى غيره بغير إذن النساء فكذلك الولي وما ذكروه يبطل بالحاكم والذي يعتبر إذنها فيه هو غير ما يوكل فيه بدليل أن الوكيل لا يستغني عن إذنها له في التزويج أيضا فهو كالموكل في ذلك

فصل : إذا أذن الموكل في التوكيل
فصل : إذا أذن الموكل في التوكيل فوكل كان الوكيل الثاني وكيلا للموكل لأنه لا ينعزل بموت الوكيل الأول ولا عزله ولا يملك الأول عزل الثاني لأنه ليس بوكيله وإن أذن له أن يوكل لنفسه جاز وكان وكيلا للموكل ينعزل بموته وعزله إياه وإن مات الموكل أو عزل الأول انعزلا جميعا لأنهما فرعان له لكن أحدهما فرع للآخر فذهب حكمهما بذهاب أصلهما وإن كان من غير أن يؤذن له في التوكيل نطقا بل وجد عرفا أو على الرواية التي أجزنا له التوكيل من غير إذن فالثاني وكيل الوكيل الأول حكمه حكم ما لو أذن له أن يوكل لنفسه

فصل : إذا وكل رجلا في الخصومة
فصل : إذا وكل رجلا في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله يقبض الحق ولا غيره وبه قال مالك و الشافعي و ابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة و محمد : يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص وقال أبو يوسف : يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره لأن الإقرار أحد جوابي الدعوى فصح من الوكيل كالإنكار
ولنا أن الإقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها فلا يملكه الوكيل فيها كالإبراء وفارق الإنكار فإنه لا يقطع الخصومة ويملكه في الحدود والقصاص وفي غير مجلس الحاكم ولأن الوكيل لا يملك الإنكار على وجه يمنع الموكل من الإقرار فلو ملك الإقرار لمتنع على الموكل الإنكار فافترقا ولا يملك المصالحة عن الحق ولا الإبراء منه بغير خلاف نعلمه لأن الإذن في الخصومة لا يقتضي شيئا من ذلك وإن أذن له في تثبيت حق لم يملك قبضه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يملك قبضه لأن المقصود من التثبيت قبضه وتحصيله
ولنا أن القبض لا يتناوله الإذن نطقا ولا عرفا إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه وإن وكله في قبض حق فجحد من عليه الحق كان وكيلا في تثبيته عليه في أحد الوجهين وبه قال أبو حنيفة والآخر ليس له ذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنهما معنيان مختلفان فالوكيل في أحدهما لا يكون وكيلا في الآخر كما لا يكون وكيلا في القبض بالتوكيل في الخصومة ووجه الأول أنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالتثبيت فكان إذنا فيه عرفا ولأن القبض لا يتم إلا به فملكه كما لو وكل في شراء شيء ملك وزن ثمنه أو في بيع شيء ملك تسليمه ويحتمل أنه إن كان الموكل عالما بجحد من عليه الحق أو مطله كان توكيلا في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقف القبض عليه وإن لم يعلم ذلك لم يكن توكيلا فيه لعدم علمه بتوقف القبض عليه ولا فرق بين كون الحق عينا أو دينا وقال : بعض أصحاب أبي حنيفة : وإن وكله في قبض عين لم يملك تثبيتها لأنه وكيل في نقلها أشبه الوكيل في نقل الزوجة
ولنا أنه وكيل في قبض حق فأشبه الوكيل في قبض الدين وما ذكروه يبطل بالتوكيل في قبض الدين فإنه وكيل في قبضه ونقله إليه

فصل : وإن وكله في بيع ملك تسليمه
فصل : وإن وكله في بيع شيء ملك تسليمه لأن إطلاق التوكيل في البيع يقتضي التسليم لكونه من تمامه ولم يملك الإبراء من ثمنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يملكه
ولنا أن الإبراء ليس من البيع ولا من تتمته فلا يكون التوكيل في البيع توكيلا فيه كالإبراء من غير ثمنه وأما قبض الثمن فقال القاضي و أبو الخطاب : لا يمكن وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن فعلى هذا إن تعذر قبض الثمن من المشتري لم يلزم الوكيل شيء ويحتمل أن يملك قبض الثمن لأنه من موجب البيع فملكه الوكيل فيه كتسليم المبيع فعلى هذا ليس له تسليم المبيع إلا بقبض الثمن أو حضوره وإن سلمه قبل قبض ثمنه ضمنه والأولى أن ينظر فيه فإن دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له كان إذنا في قبضه ومتى ترك قبضه كان ضامنا له لأن ظاهر حال الموكل أنه إنما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه ولهذا يعد من فعل ذلك مضيعا مفرطا وإن لم تدل الرينة على ذلك لم يكن له قبضه

فصل : وإن وكله في بيع شيء أو طلب شفعة
فصل : وإن وكله في بيع شيء أو طلب الشفعة أو قسم شيء ففيه وجهان أحدهما : يملك تثبيته وهو قول أبي حنيفة في القسمة وطلب الشفعة لأنه لا يتوصل إلى ما وكله فيه إلا بالتثبيت والثاني : لا يملكه وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمكن أحدهما دون الآخر فلم يتضمن الإذن في أحدهما الإذن في الآخر

فصل : وإن وكله في شراء شيء ملك تسليم ثمنه
فصل : وإن وكله في شراء شيء ملك تسليم ثمنه لأنه من تتمته وحقوقه فهو كتسليم المبيع في البيع والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في المبيع على ما مضى من القول فيه فإن اشترى عبدا ونقد ثمنه فخرج العبد مستحقا فهل يملك أن يخاصم البائع في الثمن ؟ على وجهين فإن اشترى شيئا وقبضه وأخر تسليم الثمن لغير عذر فهلك في يده فهو ضامن له وإن كان له عذر مثل أن ذهب لينقده فهلك أو نحو ذلك فلا ضمان عليه نص عليه أحمد لأنه مفرط في إمساكه كما في الصورة الأولى دون الثانية فلذلك لزمه الضمان بخلاف ما إذا لم يفرط

فصل : وإذا وكله في قبض دين من رجل فمات
فصل : وإذا وكله في قبض دين من رجل فمات نظرت في لفظه فإن قال : إقبض حقي من فلان لم يكن له قبضه من وارثه لأنه لم يؤمر بذلك وإن قال : إقبض حقي الذي قبل فلان أو على قلان فله مطالبة وارثة والقبض لأن قبضه من الوارث قبض للحق الذي على موروثه فإن قيل فلو قال : إقبض حقي من زيد فوكل زيد إنساناص في الدفع إليه كان له القبض منه والوارث نائب الموروث فهو كوكيله قلنا : إن الوكيل إذا دفع عنه بإذنه جرى مجرى تسليمه لأن أقامه مقام نفسه وليس كذلك ههنا فإن الحق إنتقل إلى الورثة فاستحقت المطالبة عليهم لا بطريق النيابة عن الموروث ولهذا لو حلف لا يفعل شيئا حنث بفعل وكيله له ولا يحنث بفعل وارثه

مسألة : قال : وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن
مسألة : قال : وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن من غير تعد فلا ضمان عليه فإن اتهم حلف
إذا اختلف الوكيل والموكل لم يخل من ستة أحوال أحدها : أن يختلفا في التلف فيقول الوكيل تلف مالك في يدي أو الثمن الذي قبضته ثمن متاعك تلف في يدي فيكذبه الموكل فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه أمين وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه فلا يكلف ذلك كالمودع وكذلك كل من كان في يده شيء لغيره على سبيل الإمانه كالأب والوصي وأمين الحاكم والمودع والشريك والمضارب والمرتهن والمستأجر والأجير المشترك وإنما كان كذلك لأنه لو كلف ذلك مع تعذره عليه لامتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها فيلحقهم الضرر قال القاضي : إلا أن يدعي التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب وشبههما فعليه إقامة البينة على وجود هذا الأمر في تلك الناحية ثم يكون القول قوله في تلف بذلك وهذا قول الشافعي لأن وجود الأمر الظاهر مما لا يخفي فلا تتعذر إقامة البينة عليه الحال الثانية : أن يختلفا في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر موكله مثل أن يدعي عليه أنك حملت على الدابة فوق طاقتها أو حملت عليها شيئا لنفسك أو فرطت في حفظها أو لبست الثوب أو أمرتك برد المال فلم تفعل ونحو ذلك فالقول قول الوكيل أيضا مع يمينه لما ذكرنا في الذي قبله ولأنه منكر لما يدعي عليه والقول قول المنكر ومتى ثبت التلف في يده من غير تعديه إما لقبول قوله وأما بإقرار موكله أو بينة فلا ضمان عليه وسواء تلف المتاع الذي أمر ببيعه أو باعه وقبض ثمنه فتلف الثمن وسواء كان بجعل أو بغير جعل لأنه نائب المالك في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك وجرى مجرى المودع والمضارب وشبههما وإن تعدى أو فرط ضمن وكذلك سائر الأمناء ولو باع الوكيل سلعة وقبض ثمنها فتلف من غير تعد وإستحق المبيع رجع المشتري بالثمن على الموكل دون الوكيل لأن المبيع له فالرجوع بالعهدة عليه كما لو باع بنفسه الحال الثالثة : أن يختلفا في التصرف فيقول الوكيل بعت الثوب وقبضت الثمن فتلف فيقول الموكل لم نبع ولم تقبض أو يقول بعت ولم تقبض شيئا فالقول قول الوكيل ذكره ابن حامد وهو قول أصحاب الرأي لأنه يملك البيع والقبض فيقبل قوله فيهما كما يقبل قول ولي المرأة المجبرة على النكاح في تزويجها ويحتمل أن لا يقبل قوله وهو أحد القولين لأصحاب الشافعي لأنه يقر بحق لغيره على موكله فلم يقبل كما لو أقر بدين عليه وإن وكل في شراء عبد فاشتراه واختلفا في قدر ما اشتراه به فقال : إشتريته بألف وقال : بل اشتريته بخمسمائة فالقول قول الوكيل لما ذكرناه وقال القاضي : القول قول الموكل إلا أن يكون عين له الشراء بما ادعاه فقال : إشتر لي عبدا بألف فادعى الوكيل إنه اشتراه بذلك فالقول قول الوكيل إذا وإلا فالقول قول الموكل لأن من كان القول قوله في أصل شيء كان القول قوله في صفته وللشافعي قولان كهذين الوجهين وقال أبو حنيفة : إن كان الشراء في الذمة فالقول قول الموكل لأنه غارم مطالب بالثمن وإن اشترى بعين المال فالقول قول الوكيل لكونه الغارم فإنه يطالبه برد ما زاد على خمس المائة
ولنا أنهما اختلفا في تصرف الوكيل فكان القول قوله كما لو اختلفا في البيع ولأنه أمين في الشراء فكان القول قوله في قدر ثمن المشتري كالمضارب وكما لو قال له : إشتر بألف عند القاضي
الحال الرابعة : أن يختلفا في الرد فيدعيه الوكيل فينكره الموكل فإن كان بغير جعل فالقول قول الوكيل لأنه قبض المال لنفع مالكه فكان القول قوله كالمودع وإن كان بجعل ففيه وجهان أخدهما : أن القول قوله لأنه وكيل فكان القول قوله كالأول والثاني : لا يقبل قوله لأنه قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها وجملة الأمناء على ضربين أحدهما : من قبض المال لنفع مالكه لا غير كالمودع والوكيل بغير جعل فيقبل قولهم في الرد لأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس من قبول هذه الأمانات فيلحق الناس الضرر الثاني : من ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل بجعل والمضارب والأجير المشترك والمستأجر والمرتهن ففيهم وجهان ذكرهما أبو الخطاب وقال القاضي : لا يقبل قول المرتهن والمستأجر والمضارب في الرد لأن أحمد نص عليه في المضارب في رواية ابن منصور ولأن من قبض المال لنفع نفسه لا يقبل قوله في الرد ولو أنكر الوكيل قبض المال ثم ثبت ذلك ببينة أو اعترف فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لأن خيانته قد ثبتت بجحده فإن أقام ببينة بما ادعاه من الرد أو التلف فهل تقبل ببينته ؟ على وجهين أحدهما : لا تقبل لأنه كذبها بجحده فإن قوله ما قبضت يتضمن أنه لم يرد شيئا والثاني : تقبل لأنه يدعي الرد والتلف قبل وجود خيانته وإن كان جحوده أنك لا تستحق علي شيئا أو مالك عندي شيء سمع قوله مع يمينه لأن جوابه لا يكذب ذلك فإنه إذا كان قد تلف أو رد فليس له عنده شيء فلا تنافي بين القولين إلا أن يدعي أنه رده أو تلف بعد قوله مالك عندي شيء فلا يسمع قوله أيضا لثبوت كذبه وخيانته
الحالة الخامسة : إذا اختلفا في أصل الوكالة فقال : وكلتني فأنكر الموكل فالقول قول الموكل لأن الأصل عدم الوكالة فلم يثبت أنه أمينه ليقبل قوله عليه ولو قال : وكلتك ودفعت إليك مالا فأنكر الوكيل ذلك كله أو اعترف بالتوكيل وأنكر دفع المال إليه فالقول قوله لذلك ولو قال رجل لآخر وكلتني أن أتزوج لك فلانة بصداق كذا ففعلت وادعت المرأة فأنكر الموكل فالقول قوله نص عليه أحمد فقال : إن أقام البينة وإلا لم يلزم الآخر عقد النكاح قال أحمد ولا يستخلف قال القاضي : لأن الوكيل يدعي حقا لغيره فأما إن ادعته المرأة فينبغي أن يستخلف لأنها تدعي الصداق في ذمته فإذا حلف لم يلزمه الصداق ولم يلزم الوكيل منه شيء لأن دعوى المرأة على الموكل وحقوق العقد لا تتعلق بالوكيل ونقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أن الوكيل يلزمه نصف االصداق لأن الوكيل في الشراء ضامن للثمن وللبائع مطالبته به كذا ههنا والأول أولى لما ذكرناه ويفارق الشراء لأن الثمن مقصود البائع والعادة تعجيله وأخذه من المتولي للشراء والنكاح يخالفه في هذا كله ولكن إن كان الوكيل ضمن المهر فلها الرجوع عليه بنصفه لأنه ضمنه عن الموكل وهو مقر بأنه في ذمته وبهذا قال أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي وقال محمد بن الحسن : يلزم الوكيل جميع الصداق لأن التفرقة لم تقع بإنكاره فيكون ثابتا في الباطن فيجب جميع الصداق ولنا أنه يملك الطلاق فإذا أنكر فقد أقر بتحريمها عليه فصار بمنزلة إيقاعه لما تحرم به قال أحمد ولا تتزوج المرأة حتى يطلق لعله يكون كاذبا في إنكاره وظاهر هذا تحريم نكاحها قبل طلاقها لأنها معترفة بأنها زوجة له فيؤخذ بإقرارها وإنكاره ليس بطلاق وهل يلزم الموكل طلاقها ؟ يحتمل أن لا يلزمه لأنه لم يثبت في حقه نكاح ولو ثبت لم يكلف الطلاق ويحتمل أن يكلفه لإزالة الإحتمال وإزالة الضرر عنها بما لا ضرر عليه فيه فأشبه النكاح الفاسد ولو ادعى أن فلانا الغائب وكله في تزوج إمرأة فتزوجها له ثم مات الغائب لم ترثه المرأة إلا أن يصدقه الورثة أو يثبت ببينة وإن أقر الموكل بالتوكيل في التزويج وأنكر أن يكون تزوج له فههنا الإختلاف في تصرفه الوكيل والقول قول الوكيل فيه فيثبت التزويج ههنا وقال القاضي : لا يثبت وهو قول أبي حنيفة لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه لكونه لا ينعقد إلا بها وذكر أن أحمد نص عليه وأشار إلى نصه فيما إذا أنكر الموكل الوكالة من أصلها
ولنا أنهما اختلفا في فعل الوكيل ما أمر به فكان القول قوله كما لو وكله في بيع ثوب فادعى أنه باعه أو في شراء عبد بألف فادعى أنه اشتراه به وما ذكره القاضي من نص أحمد فيما إذا أنكر الموكل الوكالة فليس بنص ههنا لاختلاف أحكام الصورتين وتباينهما فلا يكون النص في إحداهما نصا في الأخرى وما ذكره من المعنى لا أصل له فلا يعول عليه ولو غاب رجل آخر إلى إمرأته فذكر أن زوجها طلقها وأبانها ووكله في تجديد نكاحها بألف فأذنت في نكاحها فعقد عليها وضمن الوكيل الألف ثم جاء زوجها فأنكر هذا كله فالقول قوله والنكاح الأول بحاله وقياس ما ذكرناه أن المرأة إن صدقت الوكيل لزمه الألف إلا أن يبينها زوجها قبل دخول الثاني بها وحكي ذلك عن مالك وزفر وحكي عن أبي حنيفة والشافعي : إن لم يلزم الضامن شيء لأنه فرع عن المضمون عنه ولم يلزم المضمون عنه شيء فكذلك فرعه
ولنا أن الوكيل مقر بأن الحق في ذمة المضمون عنه وإنه ضامن عنه فلزمه ما أقر به كما لو ادعى على رجل أنهضمن له ألفا على أجنبي فأقر الضامن بالضمان وصحته وثبوت الحق في ذمته المضمون عنه وكما لو ادعى شفعة على إنسان في شقص اشتراه فأقر البائع بالبيع فأنكره المشتري فإن الشفيع يستحق الشفعة في أصح الوجهين وإن لم تدع المرأة صحة ما ذكره الوكيل فلا شيء عليه ويحتمل أن من أسقط عنه الضمان أسقطه في هذه الصورة ومن أوجبه أوجبه في الصورة الأخرى فلا يكون فيها اختلاف والله أعلم
الحال السادس : أن يختلفا في صفة الوكالة فيقول : وكلتك في بيع هذا العبد قال : بلى وكلتني في بيع هذه الجارية أو قال : وكلتك في البيع بألفين قال : بل بألف أو قال : وكلتك في بيعه نقدا قال : بل نسيئة أو قال : وكلتك في شراء عبد قال : بل في شراء أمة وقال : وكلتك في الشراء بخمسة قال : بل بعشرة فقال القاضي : القول قول الموكل وهو مذهب الشافعي و أصحاب الرأي و ابن المنذر وقال : أبو الخطاب : إذا قال : أذنت لك في البيع نقدا أو في الشراء بخمسة قال : بل أذنت لي في البيع نسيئة وفي الشراء بعشرة القول قول الوكيل نص عليه أحمد في المضاربة لأنه أمين في التصرف فكان القول قوله في صفته كالخياط إذا قال أذنت لي في تفصيله قباء بل قميصا وحكي عن مالك إن أدركت السلعة فالقول قول الموكل وإن فاتت فالقول قول الوكيل لأنها إذا فاتت لزم الوكيل الضمان والأصل عدمه بخلاف ما إذا كانت موجودة والقول الأول أصح لوجهين أحدهما : أنهما اختلفا في التوكيل الذي يدعيه الوكيل والأصل عدمه فكان القول قول من ينفيه كما لو لم يقر الموكل بتوكيله في غيره والثاني : أنهما اختلفا في صفة قول الموكل فكان القول قوله في صفة كلامه كما لو اختلف الزوجان في صفة الطلاق فعلى هذا إذا قال : إشتريت لك هذه الجارية بإذنك قال : ما أذنت لك إلا في شراء غيرها أو قال : إشتريتها لك بألفين فقال : ما أذنت لك في شرائها إلا بألف فالقول قول الموكل وعليه اليمين فإذا حلف بريء من الشراء ثم لا يخلو أما أن يكون الشراء بعين المال أو في الذمة فغن كان بعين المال فالبيع باطل وترد الجارية على البائع إن اعترف بذلك وإن كذبه في أن الشراء لغيره أو بمال غيره بغير إذنه فالقول قول البائع لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان له فغن ادعى الوكيل علمه بذلك حلفه إنه لا يعلم أنه اشتراه بمال موكله لأنه يحلف على نفي فعل غيره فكانت يمينه على نفي العلم فإذا حلف أمضى البيع وهعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله ودفع الثمن إلى البائع وتبقى الجارية في يده ولا تحل له لأنه لا يخلو من أن يكون صادقا فتكون للموكل أو كاذبا فتكون للبائع فإذا أراد استحلالها اشتراها ممن هي له في الباطن فإن امتنع من بيعه إياها رفع الأمر إلى الحاكم ليرفق به ليبيعه إياها ليثبت الملك له ظاهرا وباطنا ويصير ما ثبت له في ذمته ثمنا قصاصا بالذي أخد منه الآخر ظلما فإن امتنع الآخر من البيع لم يجبر عليه لأنه عقد مراضاة وإن قال : إن كانت الجارية لي فقد يعتكها أو قال الموكل : إن كنت لك في شرائها بالأفين فقد بعتكها ففيه وجهان أحدهما : لا يصح وهو قول القاضي وبعض الشافعية لأنه بيع معلق على شرط والثاني : يصح لأن هذا أمر واقع يعلمان وجوده فلا يضر جعله شرطا كما لو قال : إن كانت هذه الجارية جاريتي فقد بعتكها وكذا كل شرط علما وجوده فغنه لا يوجب وقوف البيع و شكا فيه فأما إن كان الوكيل اشترى في الذمة ثم نقد الثمن صح الشراء ولزم الوكيل في الظاهر فأما في الباطن فإن كان الوكيل كاذبا في دعواه فالجارية له لأنه اشتراها في ذمته بغير أمر غيره وإن كان صادقا فالجارية لموكله فإذا أراد إحلالها له توصل إلى شرائها منه كما ذكرنا وكل موضع كانت للموكل في الباطن فامتنع من بيعها للوكيل فقد حصلت في يد الوكيل وهي للموكل وفي ذمته للوكيل ثمنها فأقرب الوجوه أن يأذن للحاكم في بيعها وتوفية حقه من ثمنها فإن كانت للوكيل فقد أذن في بيعها وغن كانت للموكل فقد باعها الحاكم في إيفاء دين امتنع المدين من وفائه وقد قيل غير ما ذكرنا وهذا أقرب إن شاء الله تعالى وإن اشتراها الوكيل من الحاكم بماله على الموكل جاز لأنه قائم مقام الموكل في هذا فأشبه ما لو اشترى منه

فصل : ولو وكله في بيع عبد فباعه نسيئة
فصل : ولو وكله في بيع عبد فباعه نسيئة فقال الموكل : ما أذنت في بيعه إلا نقدا وصدقة الوكيل والمشتري فسد البيع وله مطالبة من شاء منهما بالعبد إن كان باقيا أو بقيمته إن كان تالفا فإن أخذ القيمة من الوكيل رجع على المشتري بها لأن التلف في يده فاستقر الضمان عليه وإن أخذها من المشتري لم يرجع على أحد وإن كذباه وادعيا أنه أذن في البيع نسيئة فعلى القاضي يحلف الموكل ويرجع في العين إن كانت قائمة وإن كانت تالفة رجع بقيمتها على من شاء منهما فإن رجع على المشتري رجع على الوكيل بالثمن الذي أخذه منه لا غير لأنه لم يسلم له المبيع وإن ضمن الوكيل لم يرجع على المشتري في الحال لأنه يقر بصحة البيع وتأجيل الثمن وإن البائع ظلمه بالرجوع عليه وأنه إنما يستحق المطالبة بالثمن بعد الأجل فإذا حل الأجل رجع الوكيل على المشتري بأقل الأمرين من القيمة أو الثمن المسمى لأن القيمة إن كانت أقل فما غرم أكثر منها فلا يرجع بأكثر مما غرم وإن كان الثمن أقل فالوكيل معترف للمشتري إنه لا يستحق عليه أكثر منه وأن الموكل ظلمه بأخذ الزائد على الثمن فلا يرجع على المشتري بما ظلمه به الموكل وإن كذبه أحدهما دون الآخر فله الرجوع على المصدق بغير يمين ويحلف على المكذب ويرجع على حسب ما ذكرنا هذا إن اعترف المشتري بان الوكيل وكيل في البيع وإن انكر ذلك وقال إنما ملكك فالقول قوله مع يمينه إنه لا يعلم كونه وكيلا ولا يرجع عليه بشيء

فصل : وإذا قبض الوكيل ثمن المبيع فهو أمان
فصل : وإذا قبض الوكيل ثمن المبيع فهو أمانة في يده لا يلزمه تسليمه قبل طلبه ولا يضمنه بتأخيره لأنه رضي بكونه في يده ولم يرجع عن ذلك فإن طلبه فأخر رده مع إمكانه فتلف ضمنه وإن وعده برده ثم أدعى إنني كنت رددته قبل طلبه أو إنه كان تلف لم يقبل قوله لأنه مكذب لنفسه بوعده برده فإن صدقه الموكل بريء وإن كذبه فالقول قول الموكل فإن أقام الوكيل بينة بذلك فهل يقبل على وجهين أحدهما : يقبل لآنه لو صدقه الموكل بريء فكذلك إذا قامت له بينة ولأن البينة إحدى الحجتين فبريء بها كالإقرار والثاني : لا يقبل لأنه كذبه بوعده بالدفع أما إذا صدقه فقد أقر ببرائته فلم يبق له منازع وإن لم يعده برده لكن منعه أو مطله برده مع إمكانه ثم ادعى التلف أو الرد لم يقبل قوله لأنه ضامن بالمنع خارج عن حال الأمانة وإن أقام بما أقام بما ادعاه من الرد أو التلف بينة سمعت لأنه لم يكذبها

فصل : رجل له على آخر دراهم
فصل : قال أحمد في رواية أبي الحارث في رجل له على آخر دراهم فبعث إليه رسولا يقبضها فبعث إليه مع الرسول دينارا فضاع مع الرسول فهو من مال الباعث لأنه لم يأمره بمصارفته إنما كان من ضمان الباعث لأنه دفع إلى الرسول غير ما أمره به المرسل فإن المرسل إنما أمره بقيض ماله ما في ذمته وهي الدراهم ولم يدفعها وإنما دفع دينارا عوضا عن عشرة دراهم وهذا صرف يفتقر إلى رضى صاحب الدين وإذنه ولم يأذن فصار الرسول وكيلا للباعث في تأديته إلى صاحب الدين ومصارفته به فإذا تلف في يد وكيله كان من ضمانه اللهم إلا أن يخبر الرسول الغريم أن رب الدين أذن له في قبض الدينار عن الدراهم فيكون حينئذ من ضمان الرسول لأنه غره وأخذ الدينار على أنه وكيل للمرسل وإن قبض منه الدراهم التي أمر بقبضها فضاعت من الرسول فهي من ضمان صاحب الدين لأنها تلفت من يد وكيله وقال أحمد في رواية مهنا في رجل له عند آخر دنانير وثياب فبعث إليه رسولا وقال : خذ دينارا وثوبا فأخذ دينارين وثوبين فضاعت فالضمان على الباعث يعني الذي أعطاه الدينارين والثوبين ويرجع به على الرسول يعني عليه ضمان الدينار والثوب الزائدين إنما جعل عليه الضمان لأنه دفعهما إلى من لم يؤمر بدفعهما إليه ورجع بهما على الرسول لأنه غره وحصل التلف في يده فاستقر عليه الضمان وللموكل تضمين الوكيل لأنه تعدى بقبض ما لم يؤمر بقبضه فإذا ضمنه لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه وقال أحمد في رجل وكل وكيلا في اقتضاء دينه وغاب فأخذ الوكيل به رهنا فتلف الرهن في يد الوكيل فقال : أساء الوكيل في أخذ الرهن ولا ضمان عليه إنما لم يضمنه لأنه رهن فاسد والقبض في العقد الفاسد كالقبض في الصحيح فما كان القبض في صحيحه مضمونا كان مضمونا في فاسده وما كان غير مضمون في صحيحه كان غير مضمون في فاسده ونقل البغوي عن أحمد في رجل أعطى آخر دراهم يشتري له بها شاة فخلطها مع دراهمه فضاعا فلا شيء عليه وإن ضاع أحدهما أيهما ضاع غرمه قال القاضي : هذا محمول على خلطها بما تميز منها ويحتمل أنه أذن له في خلطها أما أن خلطها بما لا تتميز منه بغير إذنه ضمنها كالوديعة وإنما لزمه الضمان إذا ضاع أحدهما لأنه لا يعلم أن الضائع دراهم الموكل والأصل بقاؤها ومعنى الضمان ههنا أنه يحسب الضائع من دراهم نفسه فأما على المحمل الآخر وهو إذا خلطها بما تتميز منه فإذا ضاعت دراهم الموكل وحدها فلا ضمان عليه لأنها ضاعت من غير تعد منه

مسألة : قال ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالا
مسألة : قال : ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالا فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة
وجملته أن الرجل إذا وكل وكيلا في قضاء دينه ودفع إليه مالا ليدفعه إليه فادعى الوكيل قضاء الدين ودفع المال إلى الغريم لم يقبل قوله على الغريم إلا ببينة لأنه ليس بأمينه فلم يقبل قوله عليه في الدفع إليه كما لو ادعى الموكل ذلك فإذا حلف الغريم فله مطالبة الموكل لأن ذمته لا تبرأ بدفع المال إلى وكيله فإذا دفعه فهل للموكل الرجوع على وكيله ؟ ينظر فإن ادعى أنه قضى الدين بغير بينة فللموكل الرجوع عليه إذا قضاه في غيبة الموكل قال القاضي : سواء صدقه أنه قضى الحق أو كذبه وهذا قول الشافعي لأنه أذن له في قضاء يبرئه ولم يوجد وعن احمد رواية أخرى لا يرجع عليه شيء إلا أن يكون أمره بالإشهاد فلم يفعل فعلى هذه الرواية إن صدقه الموكل في الدفع لم يرجع عليه بشيء وإن كذبه فالقول قول الوكيل مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة ووجه لأصحاب الشافعي لأنه ادعى فعل ما أمر به موكله فكان القول قوله كما لو أمره ببيع ثوبه فادعى أنه باعه ووجه الأول أنه مفرط بترك الإشهاد فضمن كما لو فرط في البيع بدون ثمن المثل فإن قيل فلم يأمره بالإشهاد قلنا إطلاق الأمر بالقضاء يقتضي ذلك لأنه لا يثبت إلا به فيصير كأمره بالبيع والشراء يقتضي ذلك العرف لا العموم كذا ههنا وقياس القول الآخر يمكن القول بموجبه وإن قوله مقبول في القضاء لكن لزمه الضمان لتفريطه لا لرد قوله وعلى هذا لو كان القضاء بحضرة الموكل لم يضمن الوكيل شيئا لأن تركه الإشهاد والإحتياط رضى منه بما فعل وكيله وكذلك لو أذن له في القضاء بغير إشهاد فلا ضمان على الوكيل لأن صريح قوله يقدم على ما تقتضيه دلالة الحال وكذلك إن أشهد على القضاء عدولا فماتوا أو غابوا فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وإن أشهد من يختلف في ثبوت الحق بشهادته كشاهد واحد أو رجلا وإمرأتين فهل يبرأ من الضمان يخرج على روايتين وإن اختلف الوكيل والموكل فقال : قضيت الدين بحضرتك قال : بل في غيبتي أو قال : أذنت لي في قضائه بغير بينة فأنكر الإذن أو قال : أشهدت على القضاء شهودا فماتوا فأنكره الموكل فالقول قول الموكل لأن الأصل معه

فصل : وإن وكله في إيداع ماله فأودعه
فصل : وإن وكله في إيداع ماله فأودعه ولم يشهد فقال أصحابنا : لا يضمن إذا أنكر المودع وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يقبل قوله على الآمر وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة فهي كالدين وقال أصحابنا : لا يصح القياس على الدين لأن قول المودع يقبل في الرد والهلاك فلا فائدة في الإستيثاق بخلاف الدين فإن قال الوكيل : دفعت المال إلى المودع فقال : لم تدفعه فالقول قول الوكيل لأنهما اختلفا في تصرفه وفيما وكل فيه فكان القول قوله فيه

فصل : وإذا كان على رجل دين وعنده وديعة
فصل : وإذا كان على رجل دين وعنده وديعة فجاءه إنسان فادعى أنه وكيل صاحب الدين والوديعة في قبضهما وأقام بذلك بينة وجب الدفع إليه وإن لم يقم بينة لم يلزمه دفعهما إليه سواء صدقه في أنه وكيله أو كذبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن صدقه لزمه وفاء الدين وفي دفع العين إليه روايتان أشهرهما لا يجب تسليمها واحتج بأنه أقر له بحق الإستيفاء فلزمه إيفاؤه كما لو أقر له أنه وارثه
ولنا أنه تسليم لا يبرئه فلا يجب كما لو كان الحق عينا وكما لو أقر بأن هذا وصي الصغير وفارق الإقرار بكونه وارثه لأنه يتضمن براءته فإنه أقر بأنه لا حق لسواه فأما إن أنكر وكالته لم يستخلف وقال أبو حنيفة : يستخلف ومبنى الخلاف على الخلاف في وجوب الدفع مع التديق فمن أوجب عليه الدفع مع التصديق ألزمه اليمين عند التكذيب كسائر الحقوق ومن لم يوجب عليه الدفع مع التصديق قال : لا يلزمه اليمين عند التكذيب لعدم فائدتها فإن دفع إليه مع التصديق أو مع عدمه فحضر الموكل وصدق الوكيل برىء الدافع وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف وكان الحق عينا قائمة في يد الوكيل فله أخذها وله مطالبة من شاء بردها لأن الدافع دفعها إلى غير مستحقها والوكيل عين ماله في يده فإن طالب الدافع فللدافع مطالبة الوكيل بها وأخذها من يده ليسلمها إلى صاحبها وإن تلفت العين أو تعذر ردها فلصاحبها الرجوع ببدلها على من اء منهما لأن الدافع ضمنها بالدفعوالمدفوع إليه قبض ما لا يستحق قبضه وأيهما ضمن لم يرجع على الآخر لأن كل واحد منهما يدعي أن ما يأخذه المالك ظلم ويقر بأنه لم يوجد من صاحبه تعد فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره إلا أن يكون الدافع دفعها إلى الوكيل من غير تصديقه فيما ادعاه من الوكالة فإن ضمن رجع على الوكيل لكونه لم يقر بوكالته ولا ثبتت ببينة وإن ضمن الوكيل لم يرجع عليه وإن صدقه لكن الوكيل تعدى فيها أو فرط استقر الضمان عليه فإن ضمن لم يرجع على أحد وإن ضمن الدافع رجع عليه لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا صحيحا لكن لزمه الضمان بتفريطه وتعديه فالدافع يقول ظلمني المالك بالرجوع علي وله على الوكيل حق يعترف به الوكيل فيأخذه يستوفي حقه منه فأما إن كان المدفوع دينا لم يرجع إلا على الدافع وحده لأن حقه في ذمة الدافع لم يبرأ منه بتسليمه إلى غير وكيل صاحب الحق والذي أخذه الوكيل عين مال الدافع في زعم صاحب الحق والوكيل والدافع يزعمان أنه صار ملكا لصاحب الحق وإنه ظالم للدافع بالأخذ منه فيرجع الدافع فيما أخذ منه الوكيل ويكون قصاصا مما أخذ منه صاحب الحق وإن كان قد تلف في يد الوكيل لم يرجع عليه بشيء لأنه مقر بأنه أمين لا ضمان عليه إلا أن يتلف بتعديه وتفريطه فيرجع عليه

فصل : فإن جاء رجل فقال : أنا وارث صاحب الحق
فصل : فإن جاء رجل فقال : أنا وارث صاحب الحق فإن أنكره لزمته اليمين إنه لا يعلم صحة ما قال لأن اليمين ههنا على نفي فعل الغير فكانت على نفي العلم لأنه لو صدقه لزمه الدفع إليه فلما لزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار وإن صدقه في إنه وارث صاحب الحق لا وارث له سواه لزمه الدفع إليه بغر خلاف نعلمه لأنه مقر له بالحق وإنه يبرأ بهذا الدفع فلزمه كما لو جاء صاحب الحق فأما إن جاء رجل فقال : قد أحالني عليك صاحب الحق فصدقه فيه وجهان أحدهما : لا يلزمه الدفع إليه لأن الدفع إليه غير مبرىء ولاحتمال أن يجيء المحيل فينكر الحوالة أو يضمنه فأشبه المدعي للوكالة والثاني : يلزمه الدفع إليه لأنه معترف بان الحق له لا لغيره فأشبه الوارث فإن قلنا : يلزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار وإن قلنا : لا يلزمه الدفع مع الإقرار لم تلزمه اليمين مع الإنكار لعدم الفائدة فيها ومثل هذا مذهب الشافعي

فصل : ومن طلب منه حق فامتنع من دفعه
فصل : ومن طلب منه حق فامتنع من دفعه حتى يشهد القابض على نفسه بالقبض نظرت فإن كان الحق عليه بغير بينة لم يلزمه القاضي بالإشهاد لأنه لا ضرر عليه في ذلك فإنه متى ادعى الحق على الدافع بعد ذلك قال لا يستحق على شيء والقول قوله مع يمينه وإن كان الحق ثبت ببينة وكان من عليه الحق يقبل قوله في الرد كالمودع والوكيل بغير جعل فكذلك لأنه متى ادعي عليه حق أو قامت به بينة فالقول قوله في الرد وإن كان ممن لا يقبل قوله في الرد أو يختلف في قبول قوله كالغاصب والمستعير والمرتهن لم يلزمه تسليم ما قبله إلا بالإشهاد لئلا ينكر القابض القبض ولا يقبل قول الدافع في الرد وإن قال لا يستحق علي شيئا قامت عليه البينة أو إذا أشهد على نفسه بالقبض لم يلزمه تسليم الوثيقة بالحق إلى من عليه الحق لأن بينة القبض تسقط البينة الأولى والكتاب ملكه فلا يلزمه تسليمه إلى غيره

مسألة : قال وشراء الوكيل من نفسه غير جائز
مسألة : قال : وشراء الوكيل من نفسه غير جائز وكذلك الوصي
وجملة ذلك أن من وكل في بيع شيء لم يجز له أن يشتريه من نفسه في إحدى الروايتين نقلها مهنا وهو مذهب الشافعي و أصحاب الرأي وكذلك الوصي لا يجوز أن يشتري من مال اليتيم لنفسه في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي وحكي عن مالك و الأوزاعي جواز ذلك والرواية الثانية : عن أحمد يجوز لهما أن يشتريا بشرطين أحدهما : أن يزيدا على مبلغ ثمنه في النداء والثاني : أن يتولى النداء غيره قال القاضي : يحتمل أن يكون اشتراط تولي غيره النداء واجبا ويحتمل أن يكون مستحبا والأول أشبه بظاهر كلامه وقال أبو الخطاب : الشرط الثاني أن يولي من يبيع ويكون هو أحد المشترين فإن قيل فكيف يجوز له دفعها إلى غيره ليبيعها وهذا توكيل وليس للوكيل التوكيل ؟ قلنا يجوز التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه والنداء مما لم تجر العادة أن يتولاه أكثر الناس بنفوسهم وإن وكل إنسانا يشتري له وباعه هو جاز على هذه الرواية لأنه إمتثل أمر موكله في البيع وحصل غرضه من الثمن فجاز كما لو اشتراهاأجنبي وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يجوز لوصي الشراء دون الوكيل لأن الله تعالى قال : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } وإذا اشتري مال اليتيم بأكثر من ثمن مثله فقد قربه بالتي هي أحسن ولأنه نائب عن الأب وذلك جائز للأب فكذلك لنائبه ووجه الرواية الأولى أن العرف في البيع بيع الرجل من غيره فحملت الوكالة عليه كما لو صرح به فقال بعه غيرك ولأنه تلحقه التهمة ويتنافى الغرضان في بيعه نفسه فلم يجز كما لو نهاه والوصي كالوكيل لا يلي بيع مال غيره يتوليه فأشبه الوكيل أو متهم فأشبه الوكيل بل التهمة في الوصي آكد من الوكيل لأن الوكيل يتهم في ترك الإستقصاء في الثمن لا غير والوصي يتهم في ذلك وفي أنه يشتري من مال اليتيم ما لا حظ لليتيم في بيعه فكان أولى بالمنع وعند ذلك لا يكون أخذه لماله قربا له بالتي هي أحسن وقد روي عن ابن مسعود أنه قال في رجل أوصى إلى رجل بتركته وقد ترك فرسا فقال الوصي : اشتره قال : لا

فصل : والحكم وأمينه كالحكم في الوكيل
فصل : والحكم في الحاكم وأمينه كالحكم في الوكيل والحكم في بيع أحد هؤلاء لوكيله أو ولده الصغير أو الطفل يلي عليه أو لوكيله أو عبده المأذون كالحكم في بيعه لنفسه كل ذلك يخرج على روايتين بناء على بيعه لنفسه أما بيعه لولده الكبير أو والده أو مكاتبه فذكرهم أصحابنا أيضا في جملة ما يخرج على روايتين ولأصحاب الشافعي فيهم وجهان وقال أبو حنيفة : يجوز بيعه لولده الكبير لأنه امتثل أمر موكله ووافق العرف في بيع غيره فصح كما لو باعه لأخيه وفارق البيع لوكيله لأن الشراء إنما يقع لنفسه وكذلك بيع عبده المأذون وبيع طفل يلي عليه بيع لنفسه لأنه هو المشتري له ووجه الجمع بينهم أنه يتهم في حقهم ويميل إلى ترك الإستقصاء عليهم الثمن كتهمه في حق نفسه وكذلك لا تقبل شهادته والحكم فيما أراد أن يشتري لموكله كالحكم في بيعه لماله لأنهما سواء في المعنى

فصل : وإن وكل رجلا يتزوج له امرأة
فصل : وإن وكل رجلا يتزوج له امرأة فهل له أن يزوجه ابنته يخرج على ما ذكرنا في الوكيل في البيع هل يبيع لولده ؟ وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها وإن أذنت له وليته في تزويجها خرج في تزويجها لنفسه أو لولده وجهان بناء على ما ذكر في البيع وكذلك إن وكله رجل في تزويج ابنته خرج فيه مثل ذلك

فصل : وإن وكله رجل في بيع عبده
فصل : وإن وكله رجل في بيع عبده ووكله آخر في شراء عبد فقياس المذهب أنه يجوز له أن يشتريه له من نفسه لأنه أذن له في طرفي العقد فجاز له أن يليهما إذا كان غير متهم كالأب يشتري من مال ولده لنفسه ولو وكله المتداعيان في الدعوى عنهما فالقياس جوازه لأنه تمكنه الدعوى عن أحدهما والجواب عن الآخر وإقامة حجة كل واحد منهما ولأصحاب الشافعي في المسألة وجهان

فصل : وإذا أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز له ذلك
فصل : وإذا أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز له ذلك وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين : لا يجوز لأنه يجتمع له في عقده غرضان الإسترخاص لنفسه واستقصاء للموكل وهما متضادان فتمانعا ولنا أنه وكل في التصرف لنفسه فجاز كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها ولأن علة المنع هي من المشتري لنفسه في محل لإتفاق التهمة لدلالتها على عدم رضى الموكل بهذا التصرف وإخراج هذا التصرف عن عمومه لفظه وإذنه وقد صرح ههنا بالإذن فيها فلا تبقي دلالة الحال مع نصه بلفظه على خلافه وقولهم إنه يتضاد مقصوده في البيع والشراء قلنا : إن عين الموكل له الثمن فاشترى به فقد زال مقصود الإستقصاء وأنه لا يراد أكثر مما قد حصل وإن لم يعين له الثمن تقيد البيع بثمن المثل كما لو باع الأجنبي وقد ذكر أصحابنا فيما إذا وكل عبدا يشتري له نفسه من سيده وجها أنه لا يجوز فيخرج ههنا مثله والصحيح ما قلنا إن شاء الله تعالى

فصل : إذا وكل عبدا يشتري نفسه
فصل : إذا وكل عبدا يشتري نفسه من سيده أو يشتري منه عبدا آخر ففعل صح وبه قال أبو حنيفة وبعض الشافعية وقال بعضهم : لا يجوز لأن يد العبد كيد سيده فأشبه ما لو وكله في الشراء من نفسه ولهذا يحكم للإنسان بما في يد عبده وذكر أصحابنا وجها كذلك
ولنا أنه يجوز أن يشتري عبدا من غير مولاه فجاز أن يشتريه من مولاه كالأجنبي وإذا جاز أن يشتري غيره جاز أن يشتري نفسه كما أن المرأة لما جاز توكيلها في طلاق غيرها جاز في طلاق نفسها والوجه الذي ذكره أصحابنا لا يصح لأن أكثر ما يقدر ههنا جعل توكيل العبد كتوكيل سيده وقد ذكرنا صحة توكيل السيد في الشراء والبيع من نفسه فههنا أولى فعلى هذا إذا قال العبد : إشتريت نفسي لزيد فصدقه سيده وزيد صح ولزم زيدا الثمن وإن قال السيد ما اشتريت نفسك إلا نفسد عتق العبد بقوله وإقراره على نفسه بما بعتق به ويلزم العبد الثمن في ذمته لسيده لأن زيدا لا يلزمه الثمن لعدم حصول العبد له وكون سيده لا يدعيه عليه فلزم العبد لأن الظاهر ممن باشر العقد إنه له وإن صدقه السيد وكذبه زيد نظرت في تكذيبه فإن كذبه في الوكالة حلف وبرىء وللسيد فسخ البيع واسترجاع عبده لتعذر ثمنه وإن صدقه في الوكالة وكذبه في أنك ما اشتريت نفسك لي فالقول قول العبد لأن الوكيل يقبل قوله في التصرف المأذون فيه

فصل : وإن وكل عبده في إعتاق نفسه
فصل : وإن وكل عبده في اعتاق نفسه أو إمرأته في طلاق نفسها صح وإن وكل العبد في إعتاق عبيده والمرأة في طلاق نسائه لم يملك العبد اعتاق نفسه ولا المرأة طلاق نفسها لأن ذلك بنصرف بإطلاقه إلى التصرف في غيره ويحتمل أن لهما ذلك أخذا من عموم لفظه كما يجوز للوكيل في البيع البيع من نفسه في إحدى الروايتين وإن وكل غريما له في إبراء نفسه صح لأنه وكله في إسقاط حق عن نفسه فأشبه توكيل العبد في إعتاق نفسه وإن وكله في إبراء غرمائه لم يكن له أن يبريء نفسه كما لو وكله في حبس غرمائه لم يملك حبس نفسه ولو وكله في خصومتهم لم يكن وكيلا في خصومة نفسه ويحتمل أن يملك إبراء نفسه لما ذكرنا من قبل وإن وكل المضمون عنه في إبراء الضامن فأبرأه صح ولا يبرأ المضمون عنه وإن وكل الضامن في إبراء المضمون عنه أو الكفيل في إبراء المكفول عنه فأبرأه صح وبريء الوكيل ببراءته لأنه فرع عليه فإذا بريء الأصل بريء الفرع ببراءته

فصل : وإن وكله في أخراج صدقه
فصل : وإن وكله في إخراج صدقة على المساكين وهو مسكين أو أوصى إليه بتفريق ثلثه على قوم هو منهم أو دفع إليه مالا وأمره بتفريقه على من يريد أو دفعه إلى من شاء فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز له أن يأخذ منه شيئا فإن أحمد قال : إذا كان في يده مال للمساكين وأبواب البر وهو محتاج فلا يأكل منه شيئا إنما أمره بتنفيذه وذلك لأن إطلاق لفظ الموكل ينصرف إلى دفعه إلى غيره ويحتمل أن يجوز له الأخذ إذا تناوله عموم اللفظ كالمسائل التي تقدمت ولأن المعنى الذي حصل به الإستحقاق متحقق فيه واللفظ متناول له فجاز له الأخذ كغيره ويحتمل الرجوع في ذلك إلى قرائن الأحوال فما غلب على الظن فيه أنه أراد العموم فيه وفي غيره فله الأخذ منه وما غلب أنه لم يرده فليس له الأخذ وما تساوى فيه الأمران احتمل وجهين وهل له أن يعطيه لولده أو والده أو امرأته ؟ فيه وجهان أولاهما : جوازه لدخولهم في عموم لفظه ووجود المعنى المقتضى لجواز الدفع إليهم فأما من تلزمه مؤونته غير هؤلاء فيجوز الدفع إليهم كما يجوز دفع صدقة التطوع إليهم

مسألة : قال وشراء الرجل لنفسه من مال ولده
مسألة : قال : وشراء الرجل لنفسه من مال ولده الطفل جائز وكذلك شراؤه له من نفسه
يعني أن الأب يجوز أن يشتري لنفسه من مال إبنه الذي في حجره ويبيع ولده من مال نفسه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و مالك و الأوزاعي وزادوا الجد فأباحوا له ذلك وقال زفر : لا يجوز لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد فلا يجوز أن يتعلق به حكمان متضادان ولأنه لا يجوز أن يكون موجبا وقابلا في عقد واحد كما لا يجوز أن يتزوج بنت عمه من نفسه
ولنا أن هذا يلي بنفسه فجاز أن يتولى طرفي العقد كالأب يزوج إبنته عبده الصغير والسيد يزوج عبده أمته ولا نسلم ما ذكره من تعلق حقوق العقد بالعاقد لغيره فأما الجد فلا ولاية له على إبن إبنه على ما سنذكره في موضعه فينزل منزلة الأجنبي ولأن التهمة بين الأب وولده منتفية إذ من طبعه الشفقة عليه والميل له وترك حظ نفسه لحظه فلذلك جاز وفارق الجد والوصي والحاكم وأمينه فغن التهمة غير منتفية في حقهم وأما طرفي العقد فيجوز بدليل الأصل الذي ذكرناه ولا نسلم ما ذكره فيما إذا أراد أن يتزوج إبنة عمه بل يجوز بدليل أن عبد الرحمن بن عوف قال لإبنة قارظ : أتجعلين أمرك إلي ؟ قالت : نعم قال : قد تزوجتك ولئن سلمنا فلأن التهمة منتفية ثم

مسألة : قال وما فصل الوكيل بعد فسخ الموكل
مسألة : قال : وما فعل الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فباطل
وجملته أن الوكالة عقد جائز من الطرفين فللموكل عزل وكيله متى شاء وللوكيل عزل نفسه لأنه أذن في التصرف فكان لكل واحد منهما إبطاله كما لو أذن في أكل طعامه وتبطل أيضا بموت أحدهما أيهما كان وجنونه المطبق ولا خلاف في هذا كله فيما نعلم فمتى تصرف الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فهو باطل إذا علم ذلك فإن لم يعلم الوكيل بالعزل ولا موت الموكل لعن أحمد فيه روايتان وللشافعي فيه قولان وظاهر كلام الخرقي هذا أنه ينعزل علم أو لم يعلم ومتى تصرف فبان أن تصرفه بعد عزله أو موت موكله فتصرفه باطل لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق والعتاق والرواية الثانية عن أحمد لا ينعزل قبل علمه بموت الموكل وعزله نص عليه في رواية جعفر بن محمد لأنه لو إنعزل قبل علمه كان فيه ضرر لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطله وربما باع الجارية فيطؤها المشتري أو الطعام فيأكله أو غير ذلك فيتصرف فيه المشتري ويجب ضمانه ويتضرر المشتري والوكيل ولأنه يتصرف بأمر الموكل ولا يثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه كالفسخ فعلى هذه الرواية متى تصرف قبل العلم نفذ تصرفه وعن أبي حنيفة أنه إن عزله الموكل فلا ينعزل قبل علمه لما ذكرنا وإن عزل الوكيل نفسه لم ينعزل إلا بحضرة الموكل لأنه متصرف بأمر الموكل فلا يصح رد أمره بغير حضرته كالمودع في رد الوديعة
ولنا ما تقدم فإما الفسخ ففيه وجان كالروايتين ثم هما مفترقان فإن أمر الشارع يتضمن المعصية بتركه ولا يكون عاصيا من غير علمه وهذا يتضمن العزل عنه إبطال التصرف فلا يمنع منه عدم العلم

فصل : ومتى خرج أحدهما عن كونه من اهل التصرف
فصل : ومتى خرج أحدهما عن كونه من أهل التصرف مثل أن يجن أو يحجر عليه لسفه فحكمه حكم الموت لأنه لا يملك التصرف فلا يملكه غيره من جهته قال أحمد : في الشركة إذا وسوس أحدهما فهو مثل العزل وإن حجر على الوكيل لفلس فالوكالة بحالها لأنه لم يخرج عن كونه أهلا للتصرف وإن حجر على الموكل وكانت الوكالة في أعيان ماله بطلت لانقطاع تصرفه في أعيان ماله وإن كانت في الخصومة أو الشراء في الذمة أو الطلاق أو الخلع أو القصاص فالوكالة بحالها لأن الموكل أهل لذلك وله أن يستنيب فيه إبتداء فلا تنقطع الإستدامة وإن فسق الوكيل لم ينعزل لأنه من أهل التصرف إلا أن تكون الوكالة فيما ينافيه الفسق كالإيجاب في عقد النكاح فإنه ينعزل بفسقه أو فسق موكله بخروجه عن أهلية التصرف فإن كان وكيلا في القبول للموكل لم ينعزل بفسق موكله لأنه لا ينافي جواز قبوله وهل ينعزل بفسق نفسه فيه وجهان وإن كان وكيلا فيما تشترط فيه الأمانه كوكيل ولي اليتيم وولي الوقف على المساكين ونحو هذا انعزل بفسقه وفسق موكله بخروجهما بذلك عن أهلية التصرف وإن كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه لأن الوكيل ليس له توكيل فاسق ولا ينعزل بفسق موكله لأن موكله وكيل لرب المال ولا ينافيه الفسق ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر والإغماء لأن ذلك لا يخرجه عن أهلية التصرف ولا تثبت عليه ولاية إلا أن يحصل الفسق بالسكر فيكون فيه من التفصيل ما أسلفناه

فصل : ولا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وكل فيه
فصل : ولا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وكل فيه مثل أن يلبس الثوب ويركب الدابة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الثاني تبطل الوكالة لأنها عقد أمانه فتبطل بالتعدي كالوديعة
ولنا أنه إذا تصرف فقد تصرف بإذنه موكله فصح كما لو لم يتعد ويفارق الوديعة من جهة إنها أمانة مجردة فنافاها التعدي والخيانة والوكالة إذن في التصرف تضمنت الأمانة فإذا انتفت الأمانة بالتعدي بقي الإذن بحاله فعلى هذا لو وكله في بيع ثوب فلبسه صار ضامنا فإذا باعه صح بيعه وبرىء من ضمانه لدخوله في ملك المشتري وضمانه فإذا قبض الثمن كان أمانة في يده غير مضمون عليه لأنه قبضه بإذن الموكل ولم يتعد فيه ولو دفع إليه مالا ووكله في شراء شيء فتعدى في الثمن صار ضامنا له فإذا اشترى به وسلمه زال الضمان وقبضه للمبيع قبض أمانة وإن مجد بالمبيع عيبا فرد عليه أو وجد هو بما اشترى عيبا فرده وقبض الثمن كان مضمونا عليه لأن العقد المزيل للضمان زال فعاد ما زال عنه

فصل : وإن وكل امرأته في بيع أو شراء
فصل : وإن وكل امرأته في بيع أو شراء أو غيره ثم طلقها لم تنفسخ الوكالة لأن زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة فلا يقطع إستدامتها وإن وكل عبده ثم أعتقه أو باعه لم ينعزل لذلك ويحتمل أن ينعزل لأن توكيل عبده ليس بتوكيل في الحقيقة إنما هو استخدام بحق الملك فيبطل بزوال الملك فإذا باعه فقد صار إلى ملك من لم يأذن في توكيله وثبوت ملك غيره فيه يمنع ابتداء توكيله بغير إذنه فيقطع استدامته وهكذا الوجهان فيما إذا وكل عبد غيره ثم باعه والصحيح أن الوكالة لا تبطل لأن سيد العبد أذن له في بيع ماله والعتق لا يبطل الإذن وهكذا إن باعه إلا أن المشتري إن رضي ببقائه على الوكالة بقي وإن لم يرض بذلك بطلت الوكالة وإن وكل عبد غيره فأعتقه لم تبطل الوكالة وجها واحدا لأن هذا توكيل حقيقة والعتق غير مناف له وإن اشتراه الموكل منه لم تبطل الوكالة لأن ملكه له لا ينافي إذنه له في البيع أو الشراء

فصل : وإن وكل مسلم كافرا فيما يصح تصرفه
فصل : وإن وكل مسلم كافرا فيما يصح تصرفه فيه صح توكيله سواء كان ذميا أو مستأمنا أو حربيا أو مرتدا لأن العدالة غير مشترطة فيه وكذلك الدين كالبيع وإن وكل مسلما فارتد لم تبطل الوكالة سواء لحق بدار الحرب أو أقام وقال أبو حنيفة : إن لحق بدار الحرب بطلت وكالته لأنه صار منهم
ولنا أنه يصح تصرفه لنفسه فلم تبطل وكالته كما لو لم يلحق بدار الحرب ولأن الردة لا تمنع إبتداء وكالته فلم تمنع استدامته كسائر الكفر وإن ارتد الموكل لم تبطل الوكالة فيما له التصرف فيه فأما الوكيل في ماله فينبني على تصرفه نفسه فإن قلنا يصح تصرفه لم يبطل توكيله وإن قلنا هو موقوف فوكالته موقوفة وإن قلنا يبطل تصرفه بطل توكيله وإن وكل في حال ردته ففيه الوجوه الثلاثة أيضا

فصل : ولو وكل رجلا في نقل امرأته
فصل : ولو وكل رجلا في نقل امرأته أو بيع عبده أو قبض داره من فلان فقامت البينة بطلاق الزوجة وعتق العبد وانتقال الدار عن الموكل بطلت الوكالة لأنه زال تصرف الموكل فزالت وكالته

فصل : وإن تلفت العين التي وكل في التصرف
فصل : وإن تلفت العين التي وكل في التصرف فيها بطلت الوكالة لأن محلها ذهب فذهبت الوكالة كما لو وكله في بيع عبد فمات ولو دفع إليه دينارا ووكله في الشراء به فهلك الدينار أو ضاع أو استقرضه الوكيل وتصرف فيه بطلت الوكالة سواء وكله في الشراء بعينه أو مطلقا لأنه إن وكله في الشراء بعينه فقد استحال الشراء بعينه بعد تلفه فبطلت الوكالة وإن وكله في الشراء مطلقا ونقد الدينار بطلت أيضا لأنه إنما وكله في الشراء به ومعناه أن ينقده ثمن ذلك المبيع أما قبل الشراء أو بعده وقد تعذر ذلك بتلفه ولأنه لو صح شراؤه للزم الموكل ثمن لم يلزمه ولا رضي بلزومه وإذا استقرضه الوكيل ثم عزل دينارا عوضه واشترى به فهو كالشراء له من غير إذن لأن الوكالة بطلت والدينار الذي عزله عوضا لا يصير للموكل حتى يقبضه فإذا اشترى للموكل به شيئا وقف على إجازة الموكل فإن أجازه صح ولزم الثمن وإلا لزم الوكيل وعنه يلزم الوكيل بكل حال وقال القاضي : متى اشترى بعين ماله لغيره شيئا فالشراء باطل لأنه لا يصح أن يشتري بعين ماله ما يملكه غيره وقال أصحاب الشافعي : متى اشترى لغيره بمال نفسه شيئا صح الشراء للوكيل سواء اشتراه بعين المال أو في الذمة لأنه اشترى له ما لم يؤذن له في شرائه أشبه ما لو اشتراه في الذمة

فصل : رجل كان له على آخر
فصل : نقل الأثرم عن أحمد في رجل كان له على آخر دراهم فقال له : إذا أمكنك قضاؤها فادفعها إلى فلان وغاب صاحب الحق ولم يوص إلى هذا الذي أذن له في القبض لكن جعله وكيلا وتمكن من عليه الدين من القضاء فخاف إن دفعها إلى الوكيل أن يكون الموكل قد مات ويخاف التبعة من الورثة فقال : لا يعجبني أن يدفع إليه لعله قد مات لكن يجمع بين الوكيل والورثة ويبرأ إليهما من ذلك هذا ذكره أحمد على طريق النظر للغريم خوفا من التبعة من الورثة إن كان موروثهم قد مات فانعزل وكيله وصار الحق لهم فيرجعون على الدافع إلى الوكيل فأما من طريق الحكم فللوكيل المطالبة وللآخر الدفع إليه فإن أحمد قد نص في رواية حرب إذا وكله في الحد وغاب استوفاه الوكيل وهو أبلغ من هذا لكونه يدرأ بالشبهات لكن هذا إحتياط حسن وتبرئة للغريم ظاهرا وباطنا وإزالة لتبعة عنه وفي هذه الرواية دليل على أن الوكيل انعزل بموت الموكل وإن لم يعلم بموته لأنه اختار أن لا يدفع إلى الوكيل خوفا من أن يكون الموكل قد مات وانتقل إلى الورثة ويجوز أن يكون اختار هذا لئلا يكون القاضي ممن يرى أن الوكيل ينعزل بالموت فيحكم عليه بالعزل به وفيها دليل على جواز تراخي القبول عن الإيجاب لأنه وكله في قبض الحق ولم يعلمه ولم يكن لرجل : بع ثوبي ليس شيء حتى يقول قد وكلتك وهذا سهو من الناقل وقد تقدم ذكر الدليل على جواز التوكيل بغير لفظ التوكيل وهو الذي نقله الجماعة

مسألة : قال : وإذا وكله في طلاق زوجته
مسألة : قال : وإذا وكله في طلاق زوجته فهو في يده حتى يفسخ أو يطأ
وجملة ذلك أن الوكالة إذا وقعت مطلقة غير مؤقته ملك التصرف أبدا ما لم تنفسخ الوكالة وفسخ الوكالة أن يقول قد فسخت الوكالة أو أبطلتها أو نقضتها أو عزلتك أو صرفتك عنها وأزلتك عنها أو ينهاه عن فعل ما أمره به أو وكله فيه وما أشبه هذا من الألفاظ المقتضية عزله أو المؤدية معناه أو بعزل الوكيل نفسه أو يوجد ما يقتضي فسخها حكما على ما قد ذكرنا أو يزول ملكه عما قد وكله في التصرف فيه أو يوجد ما يدل على الرجوع على الوكالة فإذا وكله في طلاق إمرأته ثم وطئها انفسخت الوكالة لأن ذلك يدل على رغبته فيها واختياره إمساكها وكذلك إن وطئها بعد طلاقها طلاقا رجعيا كان إرتجاعها لها فإذا اقتضى رجعتها بعد طلاقها فلأن يقتضي استبقائها على نطاحها ومنع طلاقها أولى وإن باشرها دون الفرج أو قبلها أو فعل بها ما يحرم على غير الزوج فهل تفسخ الوكالة في الطلاق ؟ يحتمل وجهين بناء على الخلاف في حصول الرجعة به وإن وكله في بيع عبد ثم أعتقه أو باعه بيعا صحيحا أو كاتبه أو دبره انفسخت الوكالة لأنه بزوال ملكه لا يبقى له إذن في التصرف فيما لا يملكه وفي الكتابة والتدبير على إحدى الروايتين لم يبق محلا للبيع وعلى الرواية الأخرى تصرفه فيه يدل على أنه قصد الرجوع عن بيعه وإن باعه بيعا فاسدا لم تبطل الوكالة لأن ملكه في العبد لم يزل ذكره ابن المنذر

مسألة : قال ومن وكل في شراء شيء
مسألة : قال : ومن وكل في شراء شيء فاشترى غيره كان الآمر مخيرا في قبول الشراء فإن لم يقبل لزم الوكيل إلا أن يكون اشتراه بعين المال فيبطل الشراء
وجملته أن الوكيل في الشراء إذا خالف موكله فاشترى غير ما وكل في شرائه مثل أن يوكله في شراء عبد فيشتري جارية لم يخل من أن يكون اشتراه في ذمته أو بعين المال فإن كان اشتراه في ذمته ثم نقد ثمنه فالشراء صحيح لأنه إنما اشترى بثمن في ذمته وليس ذلك ملكا لغيره وقال أصحاب الشافعي : لا يصح في أحد الوجهين لأنه عقده على أنه للموكل ولم يأذن فيه فلم يصح كما لو اشترى بعين ماله
ولنا أنه لم يتصرف في ملك غيره فصح كما لو لم ينوه لغيره إذا ثبت هذا فعن أحمد روايتان إحداهما : الشراء لازم للمشتري وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه اشترى في ذمته بغير إذن غيره فكان الشراء له كما لو لم ينو غيره والرواية الثانية : يقف على إجازة الموكل فإن أجازه لومه لأنه إشترى له وقد أجازه فلزمه كما لو اشترى بإذنه وإن لم يجزه لزم الوكيل لأنه لا يجوز أن يلزم الموكل لأنه لم يأذن في شرائه ولزم الوكيل لأن الشراء صدر منه ولم يثبت لغيره فيثبت في حقه كما لو اشتراه لنفسه وهكذا الحكم في كل من اشترى شيئا في ذمته لغيره بغير إذنه سواء كان وكيلا للذي قصد الشراء له أو لم يكن وكيلا له فإما إن اشترى بعين المال مثل أن يقول بعني الجارية بهذه الدنانير أو باع مال غيره بغير إذنه فالصحيح من المذهب أن البيع باطل وهو مذهب الشافعي وفيه رواية أخرى أنه صحيح ويقف على إجازة المالك فإن لم يجزه بطل وإن أجازه صح لحديث عروة بن الجعد أنه باع ما لم يؤذن له في بيعه فأقره عليه النبي صلى الله عليه و سلم ودعا له ولأنه تصرف له بخير فصح ووقف على الإجازة كالوصية بالزائد على الثلث ووجه الرواية الأولى أنه عقد على مال من لم يأذن له في العقد فلم يصح كما لو باع مال الصبي المراهق ثم بلغ فأجازه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال الحكيم بن حزام : [ لا تبع ما ليس عندك ] يعني ما لم تملك وأما حديث عروة فإنه يحتمل أنه كان وكيلا مطلقا بدليل أنه باع وسلم المبيع وأخذ ثمنه وليس ذلك جائزا لمن لم يؤذن له فيه اتفاقا ومتى حكمنا ببطلان البيع فاعترف له العاقد معه ببطلان البيع أو ثبت ذلك ببينة فعليه رد ما أخذه وإن لم يعترف بذلك ولا قامت به بينة حلف العاقد ولم يلزمه رد شيء لأن الأصل أن تصرف الإنسان لنفسه فلا يصدق على غيره فيما يبطل عقده وإن ادعى البائع أنه باع غيره بغير إذنه فالقول قول المشتري لما ذكرناه ولو قال المشتري إنك بعت مال غيرك بغير إذنه فأنكر البائع ذلك وقال بل بعت ملكي أو قال بعت مال موكلي بإذنه فالقول قوله أيضا وإن اتفق البائع والمشتري على ما يبطل البيع وقال الموكل : بل البيع صحيح فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه رد ما أخذه من العوض

فصل : وإن وكله في أن يتزوج له امرأة
فصل : وإن وكله في أن يتزوج له امرأة فتزوج له غيرها أو تزوج له بغير إذنه فالعقد فاسد بكل حال في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن من شرط صحة النكاح ذكر الزوج فإذا كان بغير إذنه لم يقع له ولا للوكيل لأن المقصود أعيان الزوجين بخلاف البيع فإنه يجوز أن يشتري له من غير تسمية المشتري له فافترقا والرواية الثانية يصح النكاح ويقف على إجازة المتزوج له فغن أجازه صح وإلا بطل وهذا مذهب أبي حنيفة والقول فيه كالقول في البيع على ما تقدم

فصل : إذا قال الرجل أشتر لي بديني عليك طعاما لم يصح
فصل : قال القاضي : إذا قال الرجل : إشتر لي بديني عليك طعاما لم يصح ولو قال : تسلف لي ألفا من مالك في كر طعام ففعل لم يصح لأنه لا يجوز أن يشتري الإنسان بماله ما يملكه غيره وإن قال : إشتر لي في ذمتك أو قال : تسلف لي ألفا في كر طعام واقض الثمن عني من مالك أو من الدين الذي لي عليك صح لأنه إذا اشترى في الذمة حصل الشراء للموكل والثمن عليه فإذا قضاه من الدين الذي عليه فقد دفع الدين إلى من أمره صاحب الدين بدفعه إليه وإن قضاه من ماله عن دين السلف الذي عليه صار قرضا عليه

فصل : ولا يملك الوكيل من التصرف
فصل : ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو من جهة العرف لأن تصرفه بالإذن فاختص بما أذن فيه والإذن يعرف بالنطق تارة وبالعرف أخرى ولو وكل رجلا في التصرف في زمن مقيد لم يملك التصرف قبله ولا بعده لأنه لم يتناوله إذنه مطلقا ولا عرفا لأنه قد يؤثر التصرف في زمن الحاجة إليه دون غيره ولهذا لما عين الله تعالى لعبادته وقتا لم يجز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه فلو قال له : بع ثوبي غدا لم يجز بيعه اليوم ولا بعد غد وإن عين له المكان وكان يتعلق به غرض مثل أن يأمره ببيع ثوبه في سوق وكان ذلك السوق معروفا بجودة النقد أو كثرة الثمن أو حله أو بصلاح أهله أو بمودة بين الموكل وبينهم تقيد الإذن به لأنه قد نص على أمر له فيه غرض لم يجز تفويته وإن كان هو وغيره سواء في الغرض لم يتقيد الإذن به وجاز له البيع في غيره لمساواته المنصوص عليه في الغرض فكان تنصيصه على أحدهما إذنا في الآخر كما لو استأجر أو استعار أرضا لزراعة شيء كان إذنا في زراعة مثله فما دونه ولو اشترى عقارا كان له أن يسكنه مثله ولو نذر صلاة أو اعتكافا في مسجد جاز الإعتكاف والصلاة في غيره وسواء قدر له الثمن أو لم يقدره وإن عين له المشتري فقال : بعه فلانا لم يملك بيعه لغيره بغير خلاف علمناه سواء قدر له الثمن أو لم يقدره لأنه قد يكون له غرض في تمليكه إياه دون غيره إلا أن يعلم الوكيل بقرينة أو صريح أنه لا غرض له في عين المشتري

فصل : وإن وكله في عقد فاسد لم يملكه
فصل : وإن وكله في عقد فاسد لم يملكه لأن الله تعالى لم يأذن فيه لأن الموكل لا يملكه فالوكيل أولى ولا يملك الصحيح لأن الموكل لم يأذن فيه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يملك الصحيح لأنه إذا أذن في الفاسد فالصحيح أولى ولنا أنه أذن له في محرم فلم يملك الحلال بهذا الإذن كما لو أذن في شراء خمر وخنزير لم يملك شراء الخيل والغنم

فصل : وإن وكله في بيع عبد أو حيوان
فصل : وإن وكله في بيع عبد أو حيوان أو عقار ونحوه أو شراؤه لم يملك العقد على بعضه لأن التوكل تناول جميعه وفي التبعيض إضرار بالموكل وتشقيص لملكه ولم يأذن فيه وإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم ملك العقد عليهم جملة واحدة واحدا واجدا لأن الإذن يتناول العقد عليهم جملة والعرف في بيعهم وشرائهم العقد على واحد واحد ولا ضرر في جمعهم ولا أفرادهم وإن قال : إشتر لي عبيدا صفقة واحدة أو واحدا أو بعهم لم تجز مخالفته لأن تنصيصه على ذلك يدل على غرضه فيه فلم يتناول إذنه سواه وإن قال إشتر لي عبدين صفقة فاشترى عبدين لإثنين مشتركين بينهما من وكيلهما أو من أحدهما بإذن الآخر جاز وإن كان لكل واحد منهما عبد مفرد فاشتراهما من المالكين بأن أوجبا له البيع فيهما وقبل ذلك منهما بلفظ واحد فقال القاضي : لا يلزم الموكل وهو مذهب الشافعي لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان ويحتمل أن يلزمه لأن القبول هو الشراء وهو متحد والغرض لا يختلف وإن اشتراهما من وكيلهما وعين ثمن كل واحد منهما مثل أن يقول بعتك هذين العبدين هذا بمائة وهذا بمائتين فقال قبلت احتمل أيضا وجهين وإن لم يعين ثمن كل واحد منهما لم يصح البيع في أحد الوجهين لأن ثمن كل واحد منهما مجهول ويحتمل أن يصح ويقسط الثمن على قدر قيمتهما

فصل : فإن دفع إليه دراهم وقال اشتر لي بهذه عبدا
فصل : فإن دفع إليه دراهم وقال : اشتر لي بهذه عبدا كان له أن يشتريه بعينها وفي الذمة لأن الشراء يقع على هذين الوجهين فإذا أطلق الوكالة كان له فعل ما شاء منهما وإن قال : إشتر بعينها فاشتراه في ذمته ثم نقدها لم يلزم الموكل لأنه إذا تعين الثمن انفسخ العقد بتلفه أو كونه نغصوبا ولم يلزمه ثمن في ذمته وهذا غرض للموكل فلم تجر مخالفته ويقع الشراء للوكيل وهل يقف على إجازة الموكل ؟ على روايتين وإن قال : اشتر لي في ذمتك وانقد هذه الدراهم ثمنا فاشتراه بعينها فقال أصحابنا : يلزم الموكل لأنه أذن له في عقد يلزمه به الثمن مع بقاء الدراهم وتلفها فكان إذنا في عبد لا يلزمه الثمن إلا مع بقائها ويحتمل أن لا يصح لأنه قد يكون له غرض في الشراء بغير عينها لكونها فيها شبهة لا يحب أن يشتري بها أو يحب وقوع العقد على وجه لا ينفسخ بتلفها ولا يبطل بتحريمها وهذا غرض صحيح فلا يجوز تفويته عليه كما لم يجز تفويت غرضه في الصورة الأول ومذهب الشافعي في هذا كله كنحو ما ذكرناه

فصل : وإن عين له الشراء بنقد أو حالا لم تجز مخالفته
فصل : وإن عين له الشراء بنقد أو حالا لم تجز مخالفته وإن أذن له في النسيئة والبيع بأي نقد شاء جاز وإن أطلق لم يبع إلا حالا بنقد البلد لأن الأصل في البيع الحلول وإطلاق النقد ينصرف إلى نقد البلد ولهذا لو باع عبده بعشرة دراهم وأطلق حمل على الحلول بنقد البلد وإن كان في البلد نقدان باع بأغلبهما فإن تساويا باع بما شاء منهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة وصاحباه : له البيع نساء لأنه معتاد فأشبهه الحال ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الرواية في المضارب وقد ذكرناها والأول أولى لأنه لو أطلق البيع حمل على الحلول فكذلك إذا أطلق الوكالة فيه ولا نسلم تساوي العادة فيهما فإن بيع الحال أكثر ويفارق المضاربة لوجهين أحدهما : إن المقصود من المضاربة الربح لا دفع الحاجة بالثمن في الحال وقد يكون المقصود في الوكالة دفع حاجة ناجزة تفوت بتأخير الثمن والثاني : إن استيفاء الثمن في المضاربة على المضارب فيعود ضرر التأخير في التقاضي عليه وههنا بخلافه فلا يرضى به الموكل ولأن الضرر في توى الثمن على المضارب لأنه يحسب من الربح لكون الربح وقاية لرأس المال وههنا يعود على الموكل فانقطع الإلحاق

فصل : وإن وكله في بيع سلعة نسيئة
فصل : وإذا وكله في بيع سلعة نسيئة فباعها نقدا بدون ثمنها نسيئة أو بدون ما عينه له لم ينفذ ببيعه لأنه مخالف لموكله لأنه رضي بثمن النسيئة دون النقد وإن باعها نقدا بما تساوي نسيئة أو عين له ثمنها فباعها به نقدا فقال القاضي : يصح لأنه زاده خيرا فكان مأذونا فيه عرفا فأشبه ما لو وكله في بيعها بعشرة فباعها بأكثر منها ويحتمل أن ينظر فيه فإن لم يكن له غرض في النسيئة صح وإن كان فيها غرض نحو أن يكون الثمن مما يستضر بحفظه في الحال أو يخاف عليه من التلف أو المتغلبين أو يتغير عن حاله إلى وقت الحلول فهو كمن لم يؤذن له لأن حكم الحلول لا يتناول المسكوت عنه إلا إذا علم أنه في المصلحة كالمنطوق أو أكثر فيكون الحكم فيه ثابتا بطريق التنبيه أو المماثلة ومتى كان في المنطوق به غرض مختص به لم يجز تفويته ولا ثبوت الحكم في غيره وقد ذكر القاضي نحو هذا في موضع آخر

فصل : وإن وكله في الشراء بثمن نقدا
فصل : وإن وكله في الشراء بثمن نقدا فاشتراه نسيئة بأكثر من ثمن النقد لم يقع للموكل وإن اشتراه نسيئة بثمنه نقدا أو بما عينه له فهي كالتي قبلها ويصح للموكل في قول القاضي وعلى ما ذكرنا ينظر في ذلك فإن كان فيه ضرر نحو أن يستضر ببقاء الثمن معه ونحو ذلك لم يجز كقولنا في التي قبلها ولأصحاب الشافعي في صحة الشراء وجهان

فصل : وليس له أن يبيع بدون ثمن المثل
فصل : وليس له أن يبيع بدون ثمن أو دون ما قدره له ولا يشتري بأكثر من ثمن المثل أو أكثر مما قدر له وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : إذا أطلق الوكالة في البيع فله البيع بأي ثمن كان لأن لفظه في الإذن مطلق فيجب حمله على إطلاقه
ولنا إنه توكيل مطلق في عقد معاوضة فاقتضى ثمن المثل كالشراء فإنه وافق عليه وما ذكره ينتقض بالشراء فإن باع بأقل من ثمن المثل أو اشترى بأكثر منه مما لا يتغابن الناس بمثله أو باع بدون ما قدره له أو اشترى بأكثر منه فحكمه حكم من لم يؤذن له في البيع والشراء وهذا قول الشافعي وعن أحمد أن البيع جائز دون الشراء ويضمن الوكيل النقص لأن من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه كالمريض فعلى هذه الرواية يكون البيع صحيحا وعلى الوكيل ضمان النقص وفي قدره وجهان أحدهما : ما بين ثمن المثل وما باعه به والثاني : ما بين ما يتغابن الناس به وما لا يتغابن الناس به لأن ما يتغابن الناس به يصح بيعه به ولا ضمان عليه والأول أقيس لأنه لم يؤذن للوكيل في هذا البيع فاشبه بيع الأجنبي ولو أذن له في البيع لم يكن عليه ضمان فأشبه الشراء وكل تصرف كان الوكيل مخالفا فيه لموكله فحكمه فيه حكم تصرف الأجنبي على ما ذكره في موضعه إن شاء الله وإما يتغابن الناس به عادة فمعفو عنه إذا لم يكن الموكل قدر له الثمن لأن ما يتغابن الناس به يعد ثمن المثل ولا يمكن التحرز عنه ولو حضر من يزيد على ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لأن عليه الإحتياط وطلب الحظ لموكله وإن باع بثمن المثل فحضر من يزيد في مدة الخيار لم يلزمه فسخ العقد في الصحيح لأن الزيادة ممنوع منها منهي عنها فلا يلزم الرجوع إليها ولأن المزايد قد لا يثبت على الزيادة فلا يلزم الفسخ بالشك ويحتمل أن يلزمه ذلك لأنها زيادة في الثمن أمكن تحصيلها فأشبه ما لو أجاز به قبل البيع والنهي يتوجه إلى الذي زاد لا إلى الوكيل فأشبه من جاءته الزيادة قبل البيع وبعد الإتفاق عليه

فصل : ومن وكل في بيع عبد بمائة فباعه
فصل : ومن وكل في بيع عبد بمائة فباعه بأكثر منها صح سواء كانت الزيادة كثيرة أو قليلة لأنه باع بالمأذون فيه وزاد زيادة تنفعه ولا تضره وسواء كانت الزيادة من جنس الثمن المأمور به أو من غير جنسه مثل أن يأذن في بيعه بمائة درهم فيبيعه بمائة درهم ودينار أو ثوب وقال أصحاب الشافعي : لا يصح بيعه بمائة وثوب في أحد الوجهين لأنه من غير جنس الأثمان
ولنا أنها زيادة تنفعه ولا تضره أشبه ما لو باعه بمائة ودينار ولأن الإذن في بيعه بمائة اذن في بيعه بزيادة عليها عرفا لأن من رضي بمائة لا يكره أن يزاد عليها ثوب بنفعه ولا يضره وإن باعه بمائة دينار أو بتسعين درهما وعشرة دنانير وأشباه ذلك أو بمائة ثوب أو بثمانين درهما وعشرين ثوبا لم يصح ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه خالف موكله في الجنس فأشبه ما لو باعه بثوب يساوي أكثر من مائة درهم ويحتمل أن يصح فيما إذا جعل مكان الدراهم دنانير أو مكان بعضها لأنه مأذون فيه عرفا فإن من رضي بدرهم رضي مكانه بدينار فجرى مجرى بيعه بمائة درهم ودينار وأما الثياب فلا يصح بيعه بها لأنها من غير جنس الأثمان

فصل : وإن وكله في بيع عبد بماله فباع نصفه
فصل : وإن وكله في بيع عبد بمائة فباع نصفه بها أو وكله مطلقا فباع نصفه بثمن الكل جاز لأنه مأذون فيه من جهة العرف فإن من رضي مائة ثمنا للكل رضي بها ثمنا للنصف ولأنه حصل له المائة وأبقى له زيادة تنفعه ولا تضره وله بيع النصف الآخر لأنه مأذون في بيعه فأشبه ما لو باع العبد كله بمثلي ثمنه ويحتمل أن لا يجوز له بيعه لأنه قد حصل للموكل غرضه من الثمن ببيع نصفه فربما لا يؤثر بيع باقيه للغنى عن بيعه بما حصل له من ثمن نصفه وهكذا القول في توكيله في بيع عبدين بمائة إذا باع أحدهما بها صح وهل يكون له بيع العبد الآخر ؟ على وجهين فأما إن وكله في بيع عبده بمائة فباع بعضه بأقل منها لم يصح وإن وكله مطلقا فباع بعضه بأقل من ثمن الكل لم يجز وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يجوز فيما إذا أطلق الوكالة بناء على أصله في أن للوكيل المطلق البيع بما شاء ولنا أن على الموكل ضررا في تبعيضه ولم يوجد الإذن فيه نطقا ولا عرفا فلم يجز كما لو وكله في شراء عبد فاشترى نصفه

فصل : وإن وكله في شراء عبد بعينه
فصل : وإن وكله في شراء عبد بعينه بمائة فاشتراه بخمسين أو بما دون المائة صح ولزم الموكل لأنه مأذون فيه من جهة العرف وإن قال : لا تشتره بأقل من مائة فخالفه لم يجز لأنه خالف نصه وصريح قوله مقدم على دلالة العرف فإن قال : إشتره بمائة ولا تشتره بخمسين جاز له شراؤه بما فوق الخمسين لأن اذنه في الشراء بمائة دل عرفا على الشراء بما دونها خرج منه الخمسون بصريح النهي بقي فيما فوقها على مقتضى الإذن وإن اشتراه بأقل من الخمسين ففيه وجهان أحدهما : يجوز لذلك ولأنه لم يخالف صريح نهيه أشبه ما زاد على الخمسين والثاني : لا يجوز لأنه نهاه عن الخمسين إستقلالا لها فكان تنبيها على النهي عما هو أقل منها كما أن الإذن في الشراء بمائة إذن فيما دونها فجرى ذلك مجرى صريح نهيه فإن تنبيه الكلام كنصه وإن قال : إشتره بمائة دينار فاشتراه بمائة درهم فالحكم فيه كما لو قال : بعه بمائة درهم فباعه بمائة دينار على ما مضى من القول فيه وإن قال : إشتر لي نصفه بمائة فاشتراه كله أو أكثر من نصفه بمائة جاز لأنه مأذون فيه عرفا وإن قال : إشتر لي نصفه بمائة ولا تشتره جميعه فاشترى أكثر من النصف وأقل من الكل بمائة صح في قياس المسألة التي قبلها لكون دلالة العرف قاضية بالإذن في شراء كل ما زاد على النصف خرج الجميع بصريح نهيه ففيما ما عداه يبقى على مقتضى الإذن

فصل : وإن وكله في شراء عبد موصوف بمائة
فصل : وإن وكله في شراء عبد موصوف بمائة فاشتراه على الصفة بدونها جاز لأنه مأذون فيه عرفا وإن خالفه في الصف أو إشتراه بأكثر منها لم يلزم الموكل وإن قال : إشتر لي عبدا بمائة فاشترى عبدا يساوي مائة بدونها جاز لأنه لو إشتراه بمائة جاز فإذا اشتراه بدونها فقد زاده خيرا فيجوز وإن كان لا يساوي مائة لم يجز وإن كان يساوي أكثر مما اشتراه به لأنه خالف أمره ولم يحصل غرضه

فصل : وإن وكله في شراء شاة بدينار
فصل : وإن وكله في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي كل واحد منهما أقل من دينار لم يقع للموكل وإن كانت كل واحدة منهما تساوي دينارا أو إحداهما تساوي دينارا والأخرى أقل من دينار صح ولزم الموكل وهذا المشهور من مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : يقع للموكل إحدى الشاتين بنصف دينار والأخرى للوكيل لأنه لم يرض إلا بإلزامه عهدة شاة واحدة
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى عروة بن الجعد دينارا فقال : إشتر لنا به شاة قال : فأتيت الجلب فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومني فبعث منه شاة بدينار فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم بالدينار وبالشاة فقلت : يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم قال : وصنعت كيف ؟ فحدثته الحديث قال : اللهم بارك له في صفقة يمينه ] ولأنه حصل له المأذون فيه وزيادة من جنسه تنفع ولا تضر فوقع ذلك له كما لو قال له : بعه بدينار فباعه بدينارين وما ذكره يبطل بالبيع فإن باع الوكيل إحدى الشاتين بغير أمر الموكل ففيه وجهان أحدهما : البيع باطل لأنه باع مال موكله بغير أمره فلم يجز كبيع الشاتين والثاني : إن كانت الباقية تساوي دينار جازا لحديث عروة بن الجعد البارقي ولأنه حصل له المقصود والزيادة لو كانت غير الشاة جاز فجاز له إبدالها بغيرها وظاهر كلام أحمد صحة البيع لأنه أخذ بحديث عروة وذهب إليه وإذا قلنا لا يجوز له بيع الشاة فباعها فهل يقع البيع باطلا أو صحيحا موقوفا على إجازة الموكل ؟ على روايتين وهذا أصل لكل من تصرف من ملك غيره بغير إذنه ووكيل يخالف موكله هل يقع باطلا أو يصح ويقف على إجازة المالك ؟ فيه روايتان وللشافعي في صحة البيع ههنا وجهان

فصل : وإذا وكله في شراء سلعة موصوفة
فصل : وإذا وكله في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشتريها إلا سليمة لأن إطلاق البيع يقتضي السلامة ولذلك جاز الرد بالعيب فإن اشترى معيبا يعلم عيبه لم يلزم الموكل لأنه اشترى غير ما أذن له فيه وإن لم يعلم عيبه صح البيع لأنه إنما يلزمه شراء الصحيح في الظاهر لعجزه عن التحرز عن شراء معيب لا يعلم عيبه ملك رده لأنه قائم في الشراء مقام الموكل وللموكل رده أيضا لأن الملك له فإن حضر قبل رد الوكيل ورضي بالعيب لم يكن للوكيل رده لأن الحق له بخلاف المضارب فإن له الرد وإن رضي رب المال لأنه له حقا فلا يسقط برضى غيره وإن لم يحضر فأراد الوكيل الرد فقال له البائع : توقف حتى يحضر الموكل فربما رضي بالعيب لم يلزمه ذلك لأنه لا يأمن فوات الرد لهرب البائع وفوات الثمن بتلفه وإن أخره بناء على هذا القول فلم يرض به الموكل لم يسقط رده وإن قلنا الرد على الفور لأنه أخره بإن البائع فيه وإن قال البائع : موكلك قد علم العيب فرضيه لم يقبل قوله إلا ببينة فإن لم يكن له بينة لم يستحلف الوكيل إلا أن يدعي علمه فيحلف على نفي العلم وبهذا قال الشافعي وعن أبي حنيفة رضي الله عنه : أنه لا يستحلف لأنه لو حلف كان نائبا في اليمين وليس بصحيح فإنه لا نيابة ههنا وإنما يحلف على نفي علمه وهذا لا ينوب فيه عن أحد فإن رد الوكيل وحضر الموكل وقال : قد بلغني العيب ورضيت به وصدقه البائع أو قامت به بينة لم يقع الرد موقعه وكان للموكل استرجاعه وللبائع رده عليه لأن رضاه به عزل الوكيل عن الرد بدليل أنه لو علمه لم يكن له الرد إلا أن نقول إن الوكيل لا ينعزل حتى يعلم العزل وإن رضي الوكيل المعيب أو أمسكه إمساكا ينقطع به الرد فحضر الموكل فأراد الرد فله ذلك إن صدقه البائع أن الشراء له أو قامت به بينة وإن كذبه ولم تكن به بينة فحلفه البائع أنه لا يعلم أن الشراء له فليس له رده لأن الظاهر أن من اشترى شيئا فهو له ويلزم الوكيل وعليه غرامة الثمن وهذا كله مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : للوكيل شراء المعيب لأن التوكيل في البيع مطلقا يدخل المعيب في إطلاقه ولأنه أمينه في الشراء فجاز له شراء المعيب كالمضارب
ولنا أن البيع بإطلاقه يقتضي الصحيح دون المعيب فكذلك الوكالة فيه ويفارق المضاربة من حيث أن المقصود فيها الربح والربح يحصل من المعيب كحصوله من الصحيح والمقصود من الوكالة شراء ما يقتضي أو يدفع به حاجته وقد يكون العيب مانعا من قضاء الحاجة به ومن قنيته فلا يحصل المقصود وقد ناقض أبو حنيفة أصله فإنه قال في قوله تعالى : { فتحرير رقبة } لا تجوز العمياء ولا معيبة عيبا بضر بالعمل وقال : ههنا يجوز للوكيل شراء الأعمى والمقعد ومقطوع اليدين والرجلين

فصل : وإن أمره بشراء سلعة بعينها
فصل : وإن أمره بشراء سلعة بعينها فاشتراها فوجدها معيبة احتمل أن له الرد لأن الأمر يقتضي السلامة فأشبه ما لو وكله في شراء موصوفة ويحتمل أن لا يملك الرد لأن الموكل قطع نظره بالتعيين فربما رضيه على جميع صفاته وإن علم عيبه قبل شرائه فهل له شراؤه ؟ يحتمل وجهين أيضا مبنيين على رده إذا علم عيبه بعد شرائه وإن قلنا يملك رده فليس له شراؤه لأن العيب إذا جاز به الرد بعد العقد فلأن يمنع من الشراء أولى وإن قلنا لا يملك الرد ثم فله الشراء ههنا لأن تعيين الموكل قطع نظره واجتهاده في جواز الرد فكذلك في الشراء

فصل : وإذا اشترى الوكيل لموكله شيئا بإذنه
فصل : وإذا اشترى الوكيل لموكله شيئا بإذنه انتقل الملك من البائع إلى الموكل ولم يدخل في ملك الوكيل وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يدخل في ملك الوكيل ثم ينتقل إلى الموكل لأن حقوق العقد تتعلق بالوكيل بدليل أنه لو اشتراه بأكثر من ثمنه دخل في ملكه ولم ينتقل إلى الموكل
ولنا أنه قبل عقدا لغيره صح له فوجب أن ينتقل الملك إليه كالأب والوصي وكما لو تزوج له وقولهم أن حقوق العقد تتعلق به غير مسلم ويتفرع عن هذا أن المسلم لو وكل ذميا في شراء خمر أو خنزير فاشتراه له لم يصح الشراء وقال أبو حنيفة : يصح ويقع للذمي لأن الخمر مال لهم لأنهم يتمولونها ويتبايعونها فصح توكيلهم فيها كسائر أموالهم
ولنا أن كل ما لا يجوز للمسلم العقد عليه لا يجوز أن يوكل فيه كتزويج المجوسية وبهذا خالف سائر أمولهم وإذا باع الوكيل بثمن معين ثبت الملك للموكل في الثمن لأنه بمنزلة المبيع وإن كان الثمن في الذمة فللوكيل والموكل المطالبة به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : ليس للموكل المطالبة لأن حقوق العقد تتعلق بالوكيل دونه ولهذا يتعلق مجلس الصرف والخيار به دون موكله فكذلك القبض
ولنا أن هذا دين للموكل يصح قبضه له فملك المطالبة به كسائر ديونه التي وكل فيها ويفارق مجلس العقد لأن ذلك من شروط العقد قتعلق بالعاقد كالإيجاب والقبول وأما الثمن فهو حق للموكل ومال من أمواله فكانت له المطالبة به ولا نسلم أن حقوق العقد تتعلق به وإنما تتعلق بالموكل وهي تسليم الثمن وقبض المبيع والرد بالعيب وضمان الدرك فأما ثمن ما اشتراه إذا كان في الذمة فإنه يثبت في ذمة الموكل أصلا وفي ذمة الوكيل تبعا كالضامن وللبائع مطالبة من شاء منهما فإن أبرأ الوكيل لم يبرأ الموكل وإذا أبرأ الموكل بريء الوكيل أيضا كالضامن والمضمون عنه سواء وإن دفع الثمن إلى البائع فوجد به عيبا فرده على الوكيل كان أمانة في يده إن تلف فهو من ضمان الموكل ولو وكل رجلا يتسلف له ألفا في كر حنطة ففعل ملك الموكل ثمنها والوكيل ضامن عن موكله كما تقدم

فصل : إذا دفع إلى رجل ثوبا ليبيعه
فصل : قال أحمد في رواية مهنا : إذا دفع إلى رجل ثوبا ليبيعه ففعل فوهب له المشتري منديلا فالمنديل لصاحب الثوب إنما قال ذلك لأن هبة المنديل سببها البيع وكان المنديل زيادة في الثمن والزيادة في مجلس العقد تلحق به

فصل : في الشهادة على الوكالة إذا ادعى الوكالة
فصل : في الشهادة على الوكالة إذا ادعى الوكالة وأقام شاهدا وإمرأتين أو حلف مع شاهده فقال أصحابنا فيها روايتان إحداهما تثبت بذلك إذا كانت الوكالة بمال فإن أحمد قال في الرجل : يوكل ويشهد على نفسه رجلا وإمرأتين إذا كانت المطالبة بدين فأما غير ذلك فلا والثانية : لا تثبيت إلا بشاهدين عدلين نقلها الخرقي بقوله : ولا تقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال لأقل من رجلين وهذا قول الشافعي لأن الوكالة إثبات للتصرف ويحتمل أن يكون قول الخرقي كالرواية الأولى لأن الوكالة في المال يقصد بها المال فتقبل فيها شهادة النساء مع الرجال كالبيع والقرض فإن شهدا بوكالته ثم قال أحدهما : قد عزله لم تثبت وكالته بذلك لأن أحدهما لم تثبت وكالته وإن كان الشاهد بالعزل رجلا غيرهما لم يثبت العزل بشهادته وحده لأن العزل لا يثبت إلا بما يثبت به التوكيل ومتى عاد أحد الشاهدين بالتوكيل فقال : قد عزله لم يحكم بشهادتهما لأنه رجوع عن الشهادة قبل الحكم بها فلا يجوز للحاكم الحكم بما رجع عنه الشاهد وإن حكم الحاكم بشهادتهما ثم عاد أحدهما فقال : قد عزله بعد ما وكله لم يلتفت إلى قوله لأن الحكم قد نفذ بالشهادة ولم يثبت العزل لأن الشهادة تمت في العزل كتمامها في التوكيل

فصل : فإن شهد أحدهما أن وكله يوم الجمعة
فصل : فإن شهد أحدهما أنه وكله يوم الجمعة وشهد آخر أنه وكله يوم السبت لم تتم الشهادة لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت فلم تكمل شهادتهما على فعل واحد وإن شهد أحدهما أنه أقر بتوكيله يوم الجمعة وشهد الآخر أنه أقر به يوم السبت تمت الشهادة لأن الإقرارين إخبار عن عقد واحد ويشق جمع الشهود ليقر عندهم حالة واحدة فيجوز له الإقرار عند كل واحد وحده وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر عنده بالوكالة بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بها بالعجمية ثبتت أو شهد أحدهما أنه وكله بالعربية وشهد الآخر أنه وكله بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن التوكيل بالعربية غير التوكيل بالعجمية فلم تكمل الشهادة على فعل واحد وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال : وكلتك وشهد الآخر أنه قال : أذنت لك في التصرف أو أنه قال : جعلتك وكيلا أو شهد أنه قال : جعلتك جريا لم تتم الشهادة لأن اللفظ مختلف والجري الوكيل ولو قال أحدهما : أشهد أنه وكله وقال الآخر : أشهد أنه أذن له في التصرف تمت الشهادة لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل وإنما عبرا عنه بلفظهما واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه ولو قال أحدهما أشهد أنه أقر عندي أنه وكله وقال الآخر أشهد أنه أقر أنه جريه أو أنه أوصى إليه بالتصرف في حياته ثبتت الوكالة بذلك ولو شهد أحدهما أنه وكله في بيع عبده وشهد الآخر أنه وكله وزيدا أو شهد أنه وكله في بيعه وقال : لا تبعه حتى تستأمرني أو تستأمر فلانا لم تتم الشهادة لأن الأول أثبت إستقلاله بالبيع من غير شرط والثاني ينفي ذلك فكانا مختلفين وإن شهد أحدهما أنه وكله في بيع عبده وشهد الآخر أنه وكله في بيع عبده وجاريته حكم بالوكالة في العبد لاتفاقهما عليه وزيادة الثاني لا تقدح في تصرفه في الأول فلا تضر وهكذا لو شهد أحدهما أنه وكله في بيعه لزيد وشهد الآخر أنه وكله في بيعه لزيد وإن شاء لعمرو

فصل : ولا تثبت الوكالة والعزل بخبر الواحد
فصل : ولا تثبت الوكالة والعزل بخبر الواحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تثبت الوكالة بخبر الواحد وإن لم يكن ثقة ويجوز التصرف للمخبر بذلك إذا غلب على ظنه صدق المخبر بشرط الضمان إن أنكر الموكل ويثبت العزل بخبر الواحد إذا كان رسولا لأن اعتبار شاهدين عدلين في هذا يشق فسقط اعتباره ولأنه أذن في التصرف ومنع منه فلم يعتبر في هذا شروط الشهادة كاستخدام غلامه
ولنا أنه عقد مالي فلا يثبت بخبر الواحد كالبيع وفارق الإستخدام فإنه ليس بعقد ولو شهد إثنان أن فلانا الغائب وكل فلانا الحاضر فقال الوكيل : ما علمت هذا وأنا أتصرف عنه ثبتت الوكالة لأن معنى ذلك إني لم اعلم إلى الآن وقبول الوكالة يجوز متراخيا وليس من شرط التوكيل حضور الوكيل ولا علمه فلا يضر جهله به وإن قال ما أعلم صدق الشاهدين لم تثبت وكالته لقدحه في شهادتهما وإن قال : ما علمت وسكت قيل له فسر فإن فسر بالأول ثبتت وكالته وإن فسره بالثاني لم تثبت

فصل : ويصح سماع البينة بالوكالة على الغائب
فصل : ويصح سماع البينة بالوكالة على الغائب وهو أن يدعي أن فلانا الغائب وكلني في كذا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح بناء على الحكم على الغائب لا يصح
ولنا أنه لا يعتبر رضاه في سماع البينة فلا يعتبر حضوره كغيره وإذا قال له : من عليه الحق أحلف أنك تستتحق مطالبتي لم تسمع دعواه لأن ذلك طعن في الشهادة وإن قال : قد عزلك الموكل فاحلف أنه ما عزلك لم يستحلف لأن الدعوى على الموكل واليمين لا تدخلها النيابة وإن قال : أنت تعلم أن موكلك قد عزلك سمعت دعواه وإن طلب اليمين من الوكيل حلف أنه لا يعلم أن موكله عزله لأن الدعوى عليه وإن أقام الخصم بينة بالعزل سمعت وانعزل الوكيل

فصل : وتقبل شهادة الوكيل على قوله لعدم التهمة
فصل : وتقبل شهادة الوكيل على موكله لعدم التهمة فإنه لا يجر بها نفعا ولا يدفع بها ضررا وتقبل شهادته له فيما يوكله فيه لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا تقبل شهادته له فيما هو وكيل فيه لأنه يثبت لنفسه حقا بدليل أنه إذا وكله في قبض حق فشهد به له ثبت استحقاق قبضه ولأنه خصم فيه بدليل أنه يملك المخاصمة فيه فإن شهد بما كان وكيلا فيه بعد عزله لم تقبل أيضا سواء كان خاصم فيه بالوكالة أو لم يخاصم وبهذا قال أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : إن كان لم يخاصم فيه قبلت شهادته لأنه لا حق له فيه ولم يخاصم فيه فأشبه ما لو لم يكن وكيلا فيه وللشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه بعقد الوكالة صار خصما فيه فلم تقبل شهادته فيه كما لو خاصم فيه وفارق ما لم يكن وكيلا فيه فإنه لم يكن خصما فيه

فصل : إذا كانت الأمة بين نفسين
فصل : إذا كانت الأمة بين نفسين فشهدا أن زوجها وكل في طلاقها لم تقبل شهادتهما لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا وهو زوال حق الزوج من البضع الذي هو ملكهما وإن شهدا بعزل الوكيل في الطلاق لم تقبل لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعا وهو إبقاء النفقة على الزوج ولا تقبل شهادة إبني الرجل له بالوكالة ولا أبويه لأنهما يثبتان له حق التصرف ولا يثبت للإنسان حق بشهادة إبنه ولا أبيه ولا تقبل شهادة إبني الموكل ولا أبويه بالوكالة وقال بعض الشافعية : تقبل لأن هذا حق على الموكل يستحق به الوكيل المطالبة فقبلت فيه شهادة قرابة الموكل كالإقرار
ولنا أن هذه شهادة يثبت بها حق لأبيه أو ابنه فلم تقبل كشهادة ابني الوكيل وأبويه وذلك لأنهما يثبتان لأبيهما نائبا متصرفا له وفارق الشهادة عليه بالإقرار فإنها شهادة عليه متمحضة ولو ادعى الوكيل الوكالة فأنكرها الموكل فشهد عليه ابناه أو أبواه ثبتت الوكالة وامضي تصرفه لأن ذلك شهادة عليه وإن ادعى الموكل أنه تصرف بوكالته وأنكر الوكيل فشهد عليه أبواه أو ابناه قبل أيضا لذلك وإن ادعى وكيل لموكله الغائب حقا وطالب به فادعى الخصم أن الموكل عزله وشهد له بذلك ابنا الموكل قبلت شهادتهما وثبت العزل بها لأنهما يشهدان على أبيهما وإن لم يدع الخصم عزله لم تسمع شهادتهما لأنهما يشهدان لمن لا يدعيها فإن قبض الوكيل فحضر الموكل وادعى أنه كان قد عزل الوكيل وإن حقه باق في ذمة الغريم وشهد له ابناه لم تقبل شهادتهما لأنهما يثبتان حقا لأبيهما ولو ادعى مكاتب الوكالة فشهد له سيده أو ابنا سيده أو أبواه لم تقبل لأن السيد يشهد لعبده وأبناءه يشهدان لعبد أبيهما والأبوان يشهدان لعبد إبنهما فإن عتق فأعاد الشهادة فهل تقبل ؟ يحتمل وجهين

فصل : إذا حضر رجلان عند الحاكم
فصل : إذا حضر رجلان عند الحاكم فأقر أحدهما أن الآخر وكيله ثم غاب الموكل وحضر الوكيل فقدم خصما لموكله وقال : أنا وكيل فلان فأنكر الخصم كونه وكيله فإن قلنا لا يحكم الحاكم بعلمه لم تسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته وإن قلنا يحكم يعلمه وكان الحاكم يعرف الموكل بعينه واسمه ونسبه صدقه ومكنه من التصرف لأن معرفته كالبينة وإن عرفه بعينه دون اسمه ونسبه لم يقبل قوله حتى تقوم البينة عنده بالوكالة لأنه يريد تثبيت نسبه عنده بقوله فلم يقبل

فصل : ولو حضر عند الحاكم رجل فادعى التوكيل
فصل : ولو حضر عند الحاكم رجل فادعى أنه وكيل فلان الغائب في شيء عينه وأحضر بينة تشهد له بالوكالة سمعها الحاكم ولو ادعى حقا لموكله قبل ثبوت وكالته لم يسمع الحاكم دعواه وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يسمعها إلا أن يقدم خصما من خصماء الموكل فيدعى عليه حقا فإذا أجاب المدعي عليه حينئذ يسمع الحاكم البينة فحصل الخلاف بيننا في حكمين أحدهما : أن الحاكم عندنا يسمع البينة على الوكالة من غير حضور خصم وعنده لا يسمع والثاني : أنه لا تسمع دعواه لموكله قبل ثبوت وكالته وعنده تسمع وبنى أبو حنيفة على أصله في أن القضاء على الغائب لا يجوز وسماع البينة بالوكالة من غير قضاء على الغائب وأن الوكالة لا تلزم الخصم ما لم يجب الوكيل عن دعوى الخصم إنك لست بوكيل
ولنا أنه إثبات للوكالة فلم يفتقر إلى حضور الموكل عليه كما لو كان الموكل عليه جماعة فأحضر واحد منهم فإن الباقين لا يفتقر إلى حضورهم كذلك ههنا والدليل على أن الدعوى لا تسمع قبل ثبوت الوكالة أنها لا تسمع إلا من خصم يخاصم عن نفسه أو عن موكله وهذا لا يخاصم عن نفسه ولم يثبت أنه وكيل لمن يدعي له فلا تسمع دعواه كما لو ادعى لمن لم يدع وكالته وفي هذا الأصل جواب عما ذكره

فصل : ولو حضر رجل وادعى على غائب مالا
فصل : ولو حضر رجل وادعى على غائب مالا في وجه وكيله فأنكره فأقام بينة بما ادعاه حلفه الحاكم وحكم له بالمال فإذا حضر الموكل وجحد الوكالة أو ادعى أنه كان قد عزله لم يؤثر ذلك في الحكم لأن القضاء على الغائب لا يفتقر إلى حضور وكيله

فصل : إذا قال بع هذا الثوب بعشرة
فصل : إذا قال بع هذا الثوب بعشرة فما زاد عليها فهو لك صح واستحق الزيادة وقال الشافعي : لا يصح ولنا أن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأسا ولأنه يتصرف في ماله بإذنه فصح شرط الربح له في الثاني كالمضارب والعامل في المساقاة

كتاب الاقرار بالحقوق
الإقرار هو الإعتراف والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } إلى قوله قال : { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا } وقال تعالى : { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } وقال تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى } في أي كثيرة مثل هذا وأما السنة فما روي ان ماعزا أقر بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم وكذلك الغامدية وقال : [ وأغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] وأما الإجماع فإن الأئمة أجمعت على صحة الإقرار اخبار على وجه ينفي عنه التهمة والريبة فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضر بها ولهذا كان آكد من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة وإنما تسمع إذا أنكر ولو كذب المدعي بينته لم تسمع وإن كذب المقر ثم صدقه سمع

فصل : ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار
فصل : ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار فأما الطفل والمجنون والمبرسم والنائم والمغمى عليه فلا يصح إقرارهم لا نعلم في هذا خلافا وقد قال عليه السلام [ رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ] فنص على الثلاثة والمبرسم والمغمى عليه في معنى المجنون والنائم ولأنه قول من غائب العقل فلم يثبت له حكم كالبيع والطلاق وأما الصبي المميز فإن كان محجورا عليه لم يصح إقراره وإن كان مأذونا له صح إقراره في قدر ما أذن له فيه قال أحمد في رواية مهنا في اليتيم إذا أذن له في التجارة وهو يعقل البيع والشراء فبيعه وشراؤه جائز وإن أقر أنه اقتضى شيئا من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو بكر وابن أبي موسى إنما يصح إقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشيء اليسير وقال الشافعي : لا يصح إقراره بحال لعموم الخبر ولأنه غير بالغ فأشبه الطفل ولأنه لا تقبل شهادته ولا روايته فأشبه الطفل
ولنا أنه عاقل مختار يصح تصرفه فصح إقراره كالبالغ وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى والخبر محمول على رفع التكليف والإثم فإن أقر من هو مراهق غير مأذون له ثم اختلف وهو المقر له في بلوغه فالقول قوله إلا أن تقوم بينة ببلوغه لأن الأصل الصغر ولا يحلف المقر لأننا حكمنا بعدم بلوغه إلا أن يختلفا بعد ثبوت بلوغه فعليه اليمين إنه حين أقر لم يكن بالغا ومن زال عقله بسبب مباح أو معذور فيه فهو كالمجنون ولا يسمع إقراره بلا خلاف وإن كان بمعصية كالسكران ومن شرب ما يزيل عقله عامدا لغير حاجة لم يصح إقراره ويتخرج أن يصح بناء على وقوع طلاقه وهو منصوص الشافعي لأن أفعاله تجري مجرى الصاحي
ولنا أنه غير عاقل فلم يصح إقراره كالمجنون الذي سبب جنونه فعل محرم ولأن السكران لا يوثق بصحة ما يقول ولا تنتقي عنه التهمة فيما يخبر به فلم يوجد معنى الإقرار الموجب لقبول قوله وأما المكره فلا يصح إقراره بما أكره على الإقرار به وهذا مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع وإن أقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الإقرار لرجل فأقر لغيره أو بنوع من المال فيقر بغيره أو على الإقرار بطلاق إمرأة فأقر بطلاق أخرى أو أقر بعتق عبد صح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو أقر به ابتداء ولو أكره على إداء مال فباع شيئا من ماله ليؤدي ذلك صح بيعه نص عليه لأنه لم يكره على البيع ومن أقر بحق ادعى أنه كان مكرها لم يقبل قوله إلا ببينة سواء أقر عند السلطان أو عند غيره لأن الأصل عدم الإكراه إلا أن يكون هناك دلالة على الإكراه كالقيد والحبس والتوكيل به فيكون القول قوله مع يمينه لأن هذه الحال تدل على الإكراه ولو ادعى أنه كان زائل العقل حال إقراره لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل السلامة حتى يعلم غيرها ولو شهد الشهود بإقراره لم تفتقر صحة الشهادة إلى أن يقولوا طوعا عقله لأن الظاهر سلامة الحال وصحة الشهادة وقد ذكرنا حكم إقرار السفيه والمفلس والمريض في أبوابه وأما العبد فيصح إقراره بالحد والقصاص فيما دون النفس لأن الحق له دون مولاه ولا يصح إقرار المولى عليه لأن المولى لا يملك من العبد إلا المال ويحتمل أن يصح إقرار المولى عليه بما يوجب القصاص ويجب المال دون القصاص لأن المال يتعلق برقبته وهي مال السيد فصح إقراره به كجناية الخطأ وأما إقراره بما يوجب القصاص في النفس فالمنصوص عن أحمد إنه لا يقبل ويتبع به بعد العتق وبه قال زفر و المزني و داود و ابن جرير الطبري لأنه يسقط حق سيده بإقراره فأشبه الإقرار بقتل الخطأ ولأنه متهم في أنه يقر لرجل ليعفو عنه ويستحق أخذه فيتخلص بذلك من سيده وأختار أبو الخطاب أنه يصح إقراره به وهو قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لأنه أخذ نوعي القصاص فصح إقراره به كما دون النفس وبهذا الأصل ينتقص دليل الأول وينبغي على هذا القول أن لا يصح عفو ولي الجناية على مال إلا باختيار سيده لئلا يفضي إلى إيجاب المال على سيده بإقرار غيره فلا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ ولا شبه العمد ولا بجناية عمد موجبها كالجائفة والمأمومة لأنه إيجاب حق في رقبته وذلك يتعلق بحق المولى ويقبل إقرار المولى عليه لأنه إيجاب حق في ماله وإن أقر بسرقة موجبها المال لم يقبل إقراره ويقبل إقرار المولى عليه لما ذكرنا وإن كان موجبها القطع والمال فأقر بها العبد وجب قطعه ولم يجب المال سواء كان ما أقر بسرقته باقيا أو تالفا في يد العبد قال أحمد في عبد أقر بسرقة دراهم في يده أنه سرقها من رجل والرجل يدعي ذلك وسيده يكذبه فالدراهم لسيده ويقطع العبد ويتبع بذلك بعد العتق وللشافعي في وجوب المال في هذه الصورة وجهان ويحتمل أن لا يجب القطع لأن ذلك شبهة فيدرأ بها القطع لكونه حدا يدرأ بالشبهات وهذا قول أبي حنيفة وذلك لأن العين التي يقر بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها فلا يثبت حكم القطع بها وإن أقر العبد برقه لغير من هو في يده لم يقبل إقراره بالرق لأن الإقرار بالرق إقرار بالملك والعبد لا يقبل إقراره بحال ولأننا لو قبلنا إقراره أضررنا بسيده لأنه إذا شاء أقر لغير سيده فأبطل ملكه وإن أقر به السيد لرجل وأقر هو لآخر فهو للذي أقر له السيد لأنه في يد السيد لا في يد نفسه ولأن السيد لو أقر به منفردا قبل ولو أقر العبد منفردا لم يقبل فإذا لم يقبل إقرار العبد منفردا فكيف يقبل مع معارضته لإقرار السيد ؟ ولو قبل إقرار العبد لما قبل إقرار السيد كالحد وجناية العمد وأما المكاتب فحكمه حكم الحر في صحة إقراره ولو أقر بجناية خطأ صح إقراره فإن عجز بيع فيها إن لم يفده سيده وقال أبو حنيفة يستسعى في المتابة وإن عجز بطل إقراره بها سواء قضي بها أو لم يقض وعن الشافعي كقولنا وعنه إنه مراعى إن أدى لزمه وإن عجز بطل ولنا أنه إقرار لزمه في كتابته فلا يبطل بعجزه كالإقرار بالدين وعلى الشافعي إن المكاتب في يد نفسه فصح إقراره بالجناية كالحر

فصل : ويصح الاقرار إلا من يثبت له الحق
فصل : ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق فإذا أقر العبد بنكاح أو قصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه المولى أو كذبه لأن الحق له دون سيده وله المطالبة بذلك والعفو عنه وليس لسيده مطالبته به ولا عفو وإن كذبه العبد لم يقبل وإن أقر له بمال صح ويكون لسيده لأن يد العبد كيد سيده وقال أصحاب الشافعي إن قلنا يملك المال صح الإقرار له وإن قلنا لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده وإن أقر لبهيمة أو دار لم يصح إقراره لها وكان باطلا لأنها لا تملك المال مطلقا ولا يد لها وإن قال : علي بسبب هذه البهيمة لم يكن إقرارا لأحد ولأنه لم يذكر لمن هي ومن شرط صحة الإقرار ذكر المقر له وإن قال : لمالكها أو لزيد علي بسببها ألف صح الإقرار وإن قال : بسبب حمل هذه البهيمة لم يصح إذ لا يمكن إيجاب شيء بسبب الحمل

فصل : وإن أقر لحمل إمرأة بمال وعزاه إلى وارث
فصل : وإن أقر لحمل إمرأة بمال وعزاه إلى وارث أو وصية صح وكان للحمل وإن أطلق فقال أبو عبد الله بن حامد : يصح وهو أصح قولي الشافعي لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق كالطفل فعلى هذا إن ولدت ذكرا وانثى كان بينهما نصفين وإن عزاه إلى إرث أو وصية كان بينهما على حسب إستحقاقهما لذلك وقال أبو الحسن التميمي : لا يصح الإقرار إلا أن يعزيه إلى إرث أو وصية وهو قول أبي ثور والقول الثاني للشافعي لأنه لا يملك بغيرها فإن ولدت الولد ميتا وكان قد عزى الإقرار إلى إرث أو وصية عادت إلى ورثة الموصي وموروث الطفل وإن أطلق الإقرار كلف ذكر السبب فيعمل بقوله فإن تعذر التفسير بموته أو غيره بطل إقراره كمن أقر لرجل لا يعرف من أراد بإقراره وإن عزى الإقرار إلى جهة غير صحيحة فقال : لهذا الحمل على ألف أقرضنيها أو وديعة أخذتها منه فعلى قول التميمي الإقرار باطل وعلى قول ابن حامد ينبغي أن يصح إقراره لأنه وصل إقراره بما يسقطه بما فيسقط ما وصله به كما لو قال له : علي ألف لا تلزمني وإن قال له : علي ألف جعلتها له أو نحو ذلك فهي عدة لا يؤخذ بها ولا يصح الإقرار لحمل إلا إذا تيقن أنه كان موجودا حال الإقرار على ما بين في موضعه وإن أقر لمسجد أو مصنع أو طريق وعزاه إلى سبب صحيح مثل أن يقول من غلة وقفه صح وإن أطلق خرج على الوجهين

مسألة : قال ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه
مسألة : قال : ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا إلا أن يستثني عينا من ورق أو ورقا من عين
في هذه المسألة فصلان
الفصل الأول : أنه لا يصح الإستثناء في الإقرار من غير الجنس وبهذا قال زفر و محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة : إن استثنى مكيلا أو موزونا جاز وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون لم يجز وقال مالك و الشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقا لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب قال الله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } وقال تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } وقال الشاعر :
( وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس )
وقال آخر :
( عيت جوابا وما بالربع من أحد ... إلا أواري لأيا ما أبينها )
ولنا أن الإستثناء صرف اللفظ بحرف الإستثناء عما كان يقتضيه لولاه وقيل هو إخراج بعض ما تناوله المستثني منه مشتق من ثنيت فلانا عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه وثنيت عنان دابتي إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام فإذا ذكره فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا يكون إستثناء وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما هو في الحقيقة إستدراك وإلا ههنا بمعنى لكن هكذا قال أهل العربية منهم ابن قتيبة وحكاه عن سيبويه والإستدراك لا يأتي إلا بعد الجحد ولذلك لم يأت الإستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ولا يأتي بعده الإثبات إلا أن يوجد بعده جملة وإذا تقرر هذا فلا مدخل للإستدراك في الإقرار لأنه إثبات للمقر به فإذا ذكر الإستدراك بعده كان باطلا وإن ذكره بعده جملة كأن قال له : عندي مائة درهم إلا ثوبا لي عليه فيكون مقرا بشيء مدعيا لشيء سواه فيقبل إقراره وتبطل دعواه كما لو صرح بذلك بغير لفظ الإستثناء وأما قوله تعالى : { فسجدوا إلا إبليس } فإن إبليس كان من الملائكة بدليل أن الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأمورا بالسجود ولا عاصيا بتركه ولا قال الله تعالى في حقه : { ففسق عن أمر ربه } ولا قال : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } وإذا لم يكن مأمورا فلما أنكسه الله وأهبطه ودحره ؟ ولم يأمر الله تعالى بالسجود إلا الملائكة فإن قالوا بل قد تناول الأمر الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم قلنا قد سقط استدلالكم فإنه متى كان داخلا في المستثنى منه مأمورا بالسجود فاستثناؤه من الجنس وهذا ظاهر لمن أنصف إن شاء الله تعالى فعلى هذا متى قال له : علي ألف درهم إلا ثوبا لزمه الألف وسقط الإستثناء بمنزلة ما لو قال له على ألف درهم لكن لي عليه ثوب
الفصل الثاني : إذا استثنى عينا من ورق أو ورقا من عين فاختلف أصحابنا في صحته فذهب بو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى فيه روايتان واختار الخرقي صحته لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون تسعة دراهم دينارا وآخرون يسمون ثمانية دراهم دينارا فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد التعبير بأحدهما عن الآخر فإذا قال له : علي دينار إلا ثلاثة دراهم في موضه بعير فيه بالدينار عن تسعة كان معناه له علي تسعة دراهم إلا ثلاثة ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح لم يجز إلغاؤه وقد أمكن بهذا الطريق فوجب تصحيحه وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما ويلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها وقد ذكرنا الفرق ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان على ما إذا انتفي ذلك والله أعلم

فصل : ولو ذكر نوعا من جنس واستثنى نوعا آخر
فصل : ولو ذكر نوعا من جنس واستثنى نوعا آخر من ذلك الجنس مثل أن يقول له علي عشرة أصع تمرا برنيا إلا ثلاثة تمرا معقليا لم يجز ذكرناه من الفصل الأول ويخالف العين والورق لأن قيمة أحد النوعين غير معلومة من الآخر ولا يعبر بأحدهما عن الآخر ويحتمل على قول الخرقي جوازه لتقارب المقاصد من النوعين فهما كالعين والورق والأول أصح لأن العلة الصحيحة في العين والورق غير ذلك

فصل : فأما استثناء بفضل ما دخل في المستثنى منه
فصل : فأما استثناء بعض ما دخل في المستثنى منه فجائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك في كلام العرب وقد جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وقال : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في الشهيد يكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين ] وهذا في الكتاب والسنة كثير وفي سائر كلام العرب فإذا أقر بشيء واستثنى منه كان مقرا بالباقي بعد الإستثناء فإذا قال له علي مائة إلا عشرة كان مقرا بتسعين لأن الإستثناء يمنع أن يدخل في اللفظ ما لولاه لدخل فإنه لو دخل لما امكن إخراجه ولو أقر بالعشرة المستثناة لما قبل منه إنكارها وقول الله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } أخبار بتسعمائة وخمسين فالإستثناء بين أن الخمسين المستثناة غير مرادة كما إن التخصيص يبين أن المخصوص غير مراد باللفظ العام وإن قال : إلا ثلثها أو ربعها صح وكان مقرا بالباقي بعد المستثنى وإن قال : هذه الدار لزيد إلا هذا البيت كان مقرا بما سوى البيت منها وكذلك إن قال : هذه الدار له وهذا البيت لي صح أيضا لأنه في معنى الإستثناء لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ الأول بكلام متصل وإن قال : له هؤلاء العبيد إلا هذا صح وكان مقرا بمن سواه منهم وإن قال : إلا واحدا صح لأن الإقرار يصح مجهولا فكذلك الإستثناء منه ويرجع في تعيين المستثنى إليه لأن الحكم يتعلق بقوله وهو أعلم بمراده به وإن عين من عدا المستثنى صح وكان الباقي له فإن هلك العبيد إلا واحدا فذكر أنه المستثنى قبل ذكره القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يقبل في أحد الوجهين وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه يرفع به الإقرار كله والصحيح أنه يقبل لأنه يقبل تفسيره به في حياتهم لمعنى هو موجود بعد موتهم فقبل كحالة حياتهم وليس هذا رفعا للإقرار وإنما تعذر تسليم المقر به لتلفه لا لمعنى يرجع إلى التفسير فأشبه ما لو في حياتهم فتلف بعد تعيينه وإن قتل الجميع إلا واحدا قبل تفسيره بالباقي وجها واحدا وإن قتل الجميع فله قيمة أحدهم ويرجع في التفسير إليه ؟ وإن قال : غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحدا فهلكوا إلا واحدا قبل تفسيره به وجها واحدا لأن المقر له يستحق قيمة الهالكين فلا يفضي التفسير بالباقي إلى سقوط الإقرار بخلاف التي قبلها

فصل : وحكم الإستثناء بسائر ادواته
فصل : وحكم الإستثناء بسائر أدواته حكم الإستثناء بإلا فإذا قال له : علي عشرة سوى درهم أو ليس درهما أو خلا درهما أو عدا درهما أو ما خلا أو ما عدا درهما أو لا يكون درهما أو غير درهم بفتح الراء كان مقرا بتسعة وإن قال : غير درهم بضم رائها وهو من أهل العربية كان مقرا بعشرة لأنها تكون صفة للعشرة المقر بها ولا يكون استثناء فإنها لو كانت منصوبة وإن لم يكن من أهل العربية لزمه تسعة لأن الظاهر أنه إنما يريد الإستثناء لكنه رفعها جهلا منه بالعربية لا قصدا للصفة

فصل : ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلا
فصل : ولا يصح الإستثناء إلا أن يكون متصلا بالكلام فإن سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه أو فصل بين المستثتني والمستثنى بكلام أجنبي لم يصح لأنه إذا سكت أو عدل عن إقراره إلى شيء آخر استقر حكم ما أقر به فلم يرتفع بخلاف ما إذا كان كلامه فإنه لا يثبت حكمه وينتظر ما يتم به كلامه ويتعلق به حكم الإستثناء والشرط والعطف والبدل ونحوه

فصل : ولا يصح الإستثناء الكل بغير خلاف
فصل : ولا يصح استثناء الكل بغير خلاف لأن الإستثناء رفع بعض ما تناوله اللفظ واستثناء الكل رفع الكل فلو صار الكلام كله لغوا غير مفيد فإن قال له : علي درهم ودرهم إلا درهما أو ثلاثة دراهم ودرهمان إلا درهمين أو ثلاثة ونصف إلا نصفا إو إلا درهما أو خمسة وتسعون إلا خمسة لم يصح الإستثناء ولزمه جميع ما أقر به قبل الإستثناء وهذا قول الشافعي وهو الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة وفيه وجه آخر أنه يصح لأن الواو العاطفة تجمع بين العددين وتجعل الجملتين كالجملة الواحدة ومن أصلنا إن الإستثناء إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض بالواو عاد إلى جميعها كقولنا في قول الله تعالى : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا } إن الإستثناء عاد إلى الجملتين فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس عل تكرمته إلا بإذنه ] والوجه الأول أولى لأن الواو لم تخرج الكلام من أن يكون جملتين والإستثناء يرفع إحداهما جميعها ولا نظير لهذا في كلامهم ولأن صحة الإستثناء تجعل إحدى الجملتين مع الإستثناء لغوا لأنه أثبت شيئا بلفظ مفرد ثم رفعه كله فلا يصح كما لو استثنى منها وهي غير معطوفة على بعضها فأما الآية والخبر فإن الإستثناء لم يرفع إحدى الجملتين إنما أخرج من الجملتين معا من اتصف بصفة فنظيره ما لو قال للبواب من جاء يستأذن فائذن له وأعطه درهما إلا فلانا ونظير مسألتنا ما لو قال : أكرم زيدا وعمرا إلا عمرا وإن قال له : علي درهمان وثلاثة إلا درهمين لم يصح أيضا لأنه يرفع الجملة الأولى كلها فأشبه ما لو قال : أكرم زيدا وعمرا إلا زيدا وإن قال له : علي ثلاثة وثلاثة إلا درهمين خرج فيها وجهان لأنه استثنى أكثر الجملة التي تليه واستثناء الأكثر فاسد كإستثناء الكل

فصل : وإن استثنى استثناء بعد استثناء
فصل : وإن استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول كان مضافا إليه فإذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين كان مستثنيا لخمسة مبقيا لخمسة وإن كان الثاني غير معطوف على الأول كان إلاستثناء وهو جائز في اللغة قد جاء في كلام الله تعالى في قوله : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين } فإذا كان صدر الكلام إثباتا كان الاستثناء الأول نفيا والثاني إثباتا فإن استثنى استثناء ثالثا كان نفيا يعود كل استثناء إلى ما يليه من الكلام فإذا قال : له عشرة إلا ثلاثة إلا درهما كان مقرا بثمانية لأنه أثبت عشرة ثم نفى منها ثلاثة ثم أثبت درهما وبقي من الثلاثة المنفية درهمان مستثنيان من العشرة فيبقي منها ثمانية وسنزيد لهذا الفصل فروعا في مسألة استثناء الأكثر

فصل : إذا قال : له هذه الدار هبة أو سكنى
فصل : إذا قال : له هذه الدار هبة أو سكنى أو عارية كان إقرارا بما أبدل به كلامه ولم يكن إقرارا بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله فصح كما لو أقر بجملة واستثنى بعضها وذكر القاضي في هذا وجها أنه لا يصح لأنه إستثناء من غير الجنس وليس هذا إستثناء إنما هذا بدل وهو سائغ في اللغة ويسمى هذا النوع من البدل بدل الاشتمال وهو أن يبدل من الشيء بعض ما يشتمل عليه ذلك الشيء كقوله : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } فأبدل القتال من الشهر المشتمل عليه وقال تعالى : أخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي أنساني ذكره وإن قال له هذه الدار ثلثها أو قال : ربعها صح ويكون مقرا بالجزء الذي أبدله وهذا بدل البعض وليس ذلك باستثناء ومثله قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا * نصفه } وقوله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولكنه في معنى الإستثناء في كونه يخرج من الكلام بعض ما يدخل فيه لولاه ويفارقه في أنه يجوز أن يخرج أكثر من النصف وأنه يجوز إبدال الشيء من غيره إذا كان مشتملا عليه ألا ترى أن الله تعالى أبدل المستطيع لحج من الناس وهو أقل من نصفهم وأبدل القتال من الشهر الحرام وهو غيره ؟ ومتى قال له : هذه الدار سكني أو عارية ثبت فيها حكم ذلك وله أن لا يسكنه إياها وأن يعود فيما أعاره

مسألة : قال : ومن ادعى عليه وقال قد كان له علي
مسألة : قال : ومن ادعى عليه شيء وقال قد كان له علي وقضيته لم يكن ذلك إقرارا
حكى ابن أبي موسى أن في المسألة روايتين إحداهما أن هذا ليس بإقرار اختاره القاضي وقال : لم أجد عن أحمد رواية بغير هذا والثانية : أنه مقر بالحق مدع لقضائه فعليه البينة بالقضاء وإلا حلف غريمه وأخذ واختاره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر بالدين وادعى القضاء فلم تقبل دعواه كما لو ادعى القضاء بكلام منفصل ولأنه رفع جميع ما أثبته فلم يقبل كاستثناء الكل ولل شافعي قولان كالمذهبين ووجه قول الخرقي أنه قول متصل يمكن صحته ولا تناقض فيه فوجب أن يقبل كاستثناء البعض وفارق المنفصل لأن حكم الأول قد استقر بسكوته عليه فلا يمكن رفعه بعد إستقراره ولذلك لا يرفع بعضه باستثناء ولا غيره فما يأتي بعده من دعوى القضاء يكون دعوى مجردة لا تقبل إلا ببينة وإما إستثناء الكل فمتناقض لأنه لا يمكن أن يكون عليه ألف وليس عليه شيء

فصل : وإن قال : له على مائة وقضيته منها
فصل : وإن قال : له علي مائة وقضيته منها خمسين فالكلام فيها كالكلام فيما إذا قال وقضيتها وإن قال له إنسان : لي عليك مائة فقال : قضيتك منها خمسين فقال القاضي : لا يكون مقرا بشيء لأن الخمسين التي ذكر أنه قضاها في كلامه ما تمنع بقاءها وهو دعوى القضاء وباقي المائة لم يذكرها وقوله منها يحتمل أن يريد بها مما يدعيه ويحتمل مما علي فلا يثبت عليه شيء بكلام محتمل ويجيء على قول من قال بالرواية الأخرى أن يلزمه الخمسون التي ادعى قضاءها لأن في ضمن دعوى القضاء إقرارا بأنها كانت عليه فلا تقبل دعوى القضاء بغير بينة

فصل : وإن قال كان له علي ألف وسكت لزمه الألف
فصل : وإن قال كان له علي ألف وسكت لزمه الألف في ظاهر كلام أصحابنا وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يلزمه شيء وليس هذا بإقرار لأنه لم يذكر عليه شيئا في الحال إنما أخبر بذلك فجاز في ماض فلا يثبت في الحال ولذلك لو شهدت البينة به لم يثبت ولنا أنه أقر بالوجوب ولم يذكر ما يرفعه فبقي على ما كان عليه ولهذا لو تنازعا دارا فأقر أحدهما للآخر أنها كانت ملكه حكم بها له إلا أنه ههنا إن عاد فادعى القضاء أو الإبراء سمعت دعواه لأنه لا تنافي بين إقراره وبين ما يدعيه

فصل : وإن قال له على ألف قضيته إياه لزمه الألف
فصل : وإن قال : له علي ألف قضيته إياها لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء وقال القاضي : تقبل لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلا فأشبه ما لو قال : كان له علي وقضيته وقال ابن أبي موسى : إن قال : قضيت جميعه لم يقبل إلا ببينة ولزمه ما أقر به وله اليمين على المقر له ولو قال : قضيت بعضه قبل منه في احدى الروايتين لأنه رفع بعض ما أقر به الكلام متصل فأشبه ما لو إستثناه بخلاف ما إذا قال : قضيت جميعه لكونه رفع جميع ما هو ثابت فأشبه إستثناء الكل ولنا أن هذا قول متناقض إذ لا يمكن أن يكون عليه ألف قد قضاه فإن كونه عليه يقتضي بقاءه في ذمته وإستحقاق مطالبته به وقضاؤه يقتضي براءة ذمته منه وتحريم مطالبته به والإقرار به يقتضي ثبوته والقضاء يقتضي رفعه وهذان ضدان لا يتصور إجتماعهما في زمن واحد بخلاف ما إذا قال : كان له علي وقضيته فإنه أخبر بهما في زمانين ويمكن أن يرتفع ما كان ثابتا ويقضي ما كان دينا وإذا لم يصح هذا في الجميع لم يصح في البعض لإستحالة بقاء ألف عليه وقد قضى بعضه ويفارق الإستثناء فإن الإستثناء مع المستثنى منه عبارة عن الباقي من المستثنى منه فقول الله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } عبارة عن تسعمائة وخمسين أما القضاء فإنما يرفع جزءا كان ثابتا فإذا ارتفع بالقضاء لا يجوز التعبير عنه بما يدل على البقاء
وإن وصل إقراره بما يسقطه فقال له : علي ألف من ثمن خمر أو خنزير أو من ثمن طعام اشتريته فهلك قبل قبضه أو ثمن مبيع فاسد لم أقبضه أو تكفلت به على أني بالخيار لزمه الألف ولم يقبل قوله في إسقاطه ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وذكر القاضي أنه إذا قال : له علي ألف زيوف ففسره برصاص أو نحاس لم يقبل لأنه رفع كل ما اعترف به وقال : في سائر الصور التي ذكرناها يقبل قوله لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل كما لو عزاه إلى سبب صحيح
ولنا أن هذا يناقض ما أقر به فلم يقبل كالصورة التي سلمها وكما لو قال له علي ألف لا يلزمني أو يقول دفع جميع ما أقر به فلم يقبل كإستثناء الكل وغير خاف تناقض كلامه فإن ثبوت ألف عليه في هذه المواضع لا يتصور وإقراره إخبار بثبوته فيتنافيان وإن سلم ثبوت الألف عليه فهو ما قلناه

فصل : ولا يقبل رجوع المقر عنه اقراره
فصل : ولا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا فيما كان حدا لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحطاط لإسقاطه فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل رجوعه عنها ولا نعلم في هذا خلافا فإذا قال : هذه الدار لزيد لا بل لعمرو أو ادعى زيد على ميت شيئاص معينا من تركته فصدقه إبنه ثم ادعاه عمرو فصدقه حكم به لزيد ووجبت عليه غرامته لعمرو وهذا ظاهر أحد قولي الشافعي وقال : في الآخر لا يغرم لعمرو شيئا وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر له بما عليه الإقرار به وإنما منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضمان
ولنا أنه حال بين عمرو وبين ملكه الذي أقر له به بإقراره لغيره فلزمه غرمه كما لو شهد رجلان على آخر بإعتاق عبده ثم رجعا عن الشهادة أو كما لو رمى به في البحر ثم أقر به وإن قال : غصبت هذه الدار من زبد لا بل من عمر أو غصبتها من زيد وغصبها من عمرو حكم بها لزيد ولزمه تسليمها إليه ويغرمها لعمرو وبهذا قال أبو حنيفة : وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال : في الآخر لا يضمن لما تقدم
ولنا أنه أقر بالغصب الموجب للضمان والرد إلى المغصوب منه ثم لم يرد ما أقر بغصبه فلزمه ضمانه كما لو تلف بفعل الله تعالى قال أحمد في رواية إبن منصور في رجل قال لرجل إستودعتك هذا الثوب قال : صدقت ثم قال : إستودعنيه رجل آخر فالثوب للأول ويغرم قيمته للآخر ولا فرق في هذا الفصل بين أن يكون إقراره بكلام متصل أو منفصل

فصل : فإن قال غصبت هذه الدار من زيد وملكها عمرو
فصل : فإن قال : غصبت هذه الدار من زيد وملكها لعمرو لزمه دفعها إلى زيد لإقراره له بأنها كانت في يده وهذا يقتضي كونها في يده بحق ملكها لعمرو لا ينافي ذلك لأنها يجوز أن تكون في يد زيد بإجارة أو عارية أو وصية ولا يغرم لعمرو شيئا لأنه لم يكن منه تفريط وفارق هذا ما إذا قال : هذه الدار لزيد بل لعمرو لأنه أقر للثاني بما أقر به للأول فكان الثاني رجوعا عن الول لتعارضهما وههنا لا تعارض بين إقراريه وإن قال : ملكها لعمرو وغصبها من زيد فكذلك لا فرق بين التقديم والتأخير والمتصل والمنفصل ذكره القاضي وقيل : يلزمه دفعها إلى عمرو ويغرمها لزيد لأنه لما أقر بها لعمرو أولا لم يقبل إقراره باليد لزيد وهذا وجه حسن ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولو قال : هذا الف دفعه إلي زيد وهو لعمرو أو قال : هو لعمرو دفعه إلي زيد فكذلك على ما مضى من القول فيه

فصل : وإن قال : غصبتها من أحدهما
فصل : وإن قال : غصبتها من أحدهما : أو هي لأحدهما صح الإقرار لأنه يصح بالمجهول فيصح للمجهول ويطالب بالبيان فإن عين أحدهما دفعت إليه ويحلف للآخر إن ادعاه ولا يغرم له شيئا لأنه لم يقر له بشيء إن قال : لا أعرفه عينا فصدقاه نزعت من يده وكانا خصمين فيها وإن كذباه فعليه اليمين أنه لا يعلم وتنزع من يده فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم تكن له بينة أقر عنا بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه وإن بين الغاصب بعد ذلك مالكها قبل منه كما لو بينه ابتداء ويحتمل أنه إذا ادعى كل واحد منهما أنه المغصوب منه توجهت عليه اليمين لكل واحد منهما أنه لم يغبه فإن حلف لأحدهما لزمه دفعها إلى الآخر لأن ذلك يجري مجرى تعيينه وإن نكل عن اليمين لهما جميعا فسلمت إلى أحدهما بقرعة أو غيرها لزمه غرمها للآخر لأنه نكل عن يمين توجهت عليه فقضي عليه كما لو ادعاها وحده

فصل : فإن كان في يده عبدان
فصل : فإن كان في يده عبدان فقال : أحد هذين لزيد طولب بالبيان فإن عين أحدهما فصدقه زيد أخذه وإن قال هذا لي والعبد الآخر فعليه اليمين في العبد الذي ينكره وإن قال زيد : إنما لي العبد الآخر فالقول قول المقر مع يمينه في العبد الذي ينكره ولا يدفع إلى زيد العبد المقر به لكن يقر في يد المقر لأنه لم يصح إقراره به في أحد الوجهين وفي الآخر ينزع من يده لاعترافه بانه لا يملكه ويكون في بيت المال لأنه لا مالك له معروف فأشبه ميراث من لا يعرف وارثه فإن أبي التعيين فعينه المقر له وقال : هذا عبدي طولب بالجواب فإن أنكر حلف وكان بمنزلة تعيينه للآخر وإن نكل عن اليمين يقضى عليه وإن أقر له فهو كتعيينه

فصل : ولو أقر لرجل بعبد ثم جاءه به
فصل : ولو أقر لرجل بعبد ثم جاءه به فقال : هذا الذي أقررت به فقال : ليس هذا إنما هو آخر فعلى المقر اليمين أنه ليس له عنده سواه ولا يلزمه تسليم هذا إلى المقر له لأنه لا يدعيه وإن قال : هذا لي ولي عندك آخر سلم إليه هذا وحلف له على نفي الآخر وكل من أقر لرجل بملك فكذبه بطل قراره لأنه لا يثبت للإنسان ملك لا يعترف به وفي المال وجهان أحدهما : يترك في يده المقر لأنه كان محكوما له به فإذا بطل إقراره بقي على ما كان عليه والثاني : يؤخذ إلى بيت المال لأنه لم يثبت له مالك وقيل : يؤخذ فيحفظ حتى يظهر مالكه لأنه لا يدعيه أحد ومذهب الشافعي مثل هذا فإن عاد أحدهما فكذب نفسه دفع إليه لأنه يدعيه ولا منازع له فيه وإن كذب كل واحد منهما فرجع المقر عن إقراره وادعاه المقر له فإن كان باقيا في يد المقر فالقول قوله مع يمينه كما لو لم يقر به لغيره وإن كان معدوما بتلف أو أباق ونحوه بغير تعد من أحدهما فلا شيء فيه من يمين ولا غيرها وإن كان بتعد من أحدهما فالقول فيه قول المقر مع يمينه كما لو كان باقيا فإذا حلف سقط عنه الضمان وإن كان تلفه بتعديه ووجب له الضمان على الآخر إن مات تلفهبتعد منه والله أعلم

مسألة : قال : ومن أقر بعشرة دراهم ثم سكت سكوتا
مسألة : قال : ومن أقر بعشرة دراهم ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفا أو صغارا أو إلى شهر كانت عشرة جيادا وافية حالة
وجملته أن من أقر بدراهم وأطلق إقتضى إقراره الدراهم الوافية وهي دراهم الإسلام كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل وكل درهم ستة دوانق واقتضى أن تكون جيادا حالة كما لو باعه بعشرة دراهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك فإذا سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه أو أخذ في كلام غير ما كان فيه استقرت عليه كذلك فإن عاد فقال زيوفا - يعني رديئة - أو صغارا وهي الدراهم الناقصة مثل دراهم طبرية كان كل درهم منها أربعة دوانيق وذلك ثلثا درهم أو إلى شهر يعني مؤجلة لم يقبل منه لأنه يرجع عن بعض ما أقر به ويرفعه بكلام منفصل فلم يقبل كالاستثناء المنفصل وهذا مذهب الشافعي ولا فرق بين الإقرار بها دينا أو وديعة أو غصبا وقال أبو حنيفة : يقبل قوله في الغصب والوديعة لأنه أقر بفعل في عين وذلك لا يقتضي سلامتها فأشبه ما لو أقر بغصب عبد ثم جاء به معيبا
ولنا إطلاق الإسم يقتضي الوازنة الجياد فلم يقبل تفسيره بما يخالف ذلك كالدين ويفارق العبد فإن العيب لا يمنع إطلاق إسم العبد عليه فأما إن وصفها بذلك بكلام متصل أو سكت للتنفس أو إعترضته سلعة أو نحو ذلك ثم وصفها بذلك أو شيء منه قبل منه وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يقبل منه التأجيل وهو قول أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأن التأجيل يمنع إستيفاء الحق فلم يقبل كما لو قال : له على دراهم قضيته إياها وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يقبل تفسيره بالناقصة وقال القاضي : إن قال : له علي عشرة دراهم ناقصة قبل قوله وإن قال : صغارا وللناس دراهم صغار قبل قوله أيضا وإن لم تكن لهم دراهم صغار لزمه وازنة كما لو قال : دريهم لزمه درهم وازن وهذا قول إبن القاص من أصحاب الشافعي
ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله بكلام متصل فقبل منه كاستثناء البعض وذلك لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة والزيوف والجيدة وكونها عليه يحتمل الحلول والتأجيل فإذا وصفها بذلك تقيدت به كما لو وصف الثمن به فقال : بعتك بعشرة دراهم مؤجلة ناقصة وثبوتها على غير هذه الصفة حالة الإطلاق لا يمنع من صحة تقييدها به كالثمن وقولهم أن التأجيل يمنع إستيفاءها ليس بصحيح وإنما يؤجره فأشبه الثمن المؤجل يحققه إن الدراهم تثبت في الذمة على هذه الصفات فإذا كانت ثابتة بهذه الصفة لم تقتضي الشريعة المطهرة سد باب الإقرار على صفتها وعلى ما ذكروه لا سبيل له إلى الإقرار بها إلا على وجه يؤاخذ بغير ما هو واجب عليه فيفسد باب الإقرار وقول من قال أن قوله صغارا ينصرف إى المقدار لا يصح لأن مساحة الدراهم لا تعتبر في الشرع ولا تثبت في الذمة بمساحة مقدرة وإنما يعتبر الصغر والكبر في الوزن فيرجع إلى تفسير المقر فأما إن قال : زيوفا وفسرها بمغشوشة أو معيبة عيبا ينقصها قبل تفسيره وإن فسرها بنحاس أو رصاص أو ما لا قيمة له لم يقبل لأن تلك ليست دراهم على الحقيقة فيكون تفسيره به رجوعا عما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل

فصل : وإن أقر بدراهم وأطلقه من بلد أوزانهم
فصل : وإن أقر بدراهم وأطلق في بلد أوزانهم ناقصة كطبرية كان درهمهم أربعة دوانيق وخوارزم كان درهمهم أربعة دوانيق ونصفا ومكة درهمهم ناقص وكذلك المغرب أو في بلد دراهمهم مغشوشة كمصر والموصل ففيه وجهان أولهما : يلزمه من دراهم البلد ودنانيره لأن مطلق كلامهم يحمل على عرف بلدهم كما في البيع والإثمان والثاني : تلزمه الوازنة الخالصة من الغش لأن إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إليها بدليل أن بها تقدير نصب ومقادير الديات فكذلك إطلاق الشخص وفارق البيع فإنه إيجاب في الحال فاختص بدراهم الموضع الذي هما فيه والإقرار إخبار عن حق سابق فانصرف إلى دراهم الإسلام

فصل : وإن أقر بدراهم وأطلقه ثم فسرها بسكة البلد
فصل : وإن أقر بدراهم وأطلق ثم فسرها بسكة البلد الذي أقربها فيه قبل لأن إطلاقه ينصرف إليه وإن فسرها بسكة غير سكة البلد أجود منها قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وكذلك إن كانت مثلها لأنه لا يتهم في ذلك وإن كانت أدنى من سكة البلد مساوية في الوزن احتمل أن لا يقبل لأن إطلاقها يقتضي دراهم البلد ونقده فلا يقبل منه دونهتا كما لا يقبل في البيع ولأنها ناقصة القيمة فلم يقبل تفسيره بها كالناقصة وزنا ويحتمل أن يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل ما فسره به وفارق الناقصة لأن إطلاق الشرع الدراهم لا يتناولها بخلاف هذه ولهذا يتعلق بهذه مقدار النصاب في الزكاة وغيره وفارق الثمن فإنه إيجاب في الحال وهذا إخبار عن حق سابق

فصل : وإن قال له : على درهم كبير لزمه درهم
فصل : وإن قال له : علي درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال له : على دريهم فهو كما لو قال : درهم لأن التصغير قد يكون لصغره في ذاته أو لقلة قدره عنده وتحقيره وقد يكون لمحبته كما قال الشاعر :
( بذيالك الوادي أهيم ولم أقل ... بذيالك الوادي وذياك من زهد )
( ولكن إذا ما حب شيء تولعت ... به أحرف التصغير من شدة الوجد )
وإن قال له : علي عشرة دراهم عددا لزمته عشرة معدودة وازنة لأن إطلاق الدراهم يقتضي وازنة وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما فإن كان في بلد يتعاملون بها عددا من غير وزن فحكمه حكم ما لو أقر بها في بلد أوزانهم ناقصة أو دراهمهم مغشوشة على ما فصل فيه

فصل : وإذا أقر بدرهم ثم أقر بدرهم لزمه درهم
فصل : وإذا أقر بدرهم ثم أقر بدرهم لزمه درهم واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمه درهمان كما لو قال له : علي درهم ودرهم ولا فرق بين أن يكون الإقرار في وقت واحد أو في أوقات أو في مجلس واحد أو مجالس ولنا أنه يجوز أن يكون قد كرر الخبر عن الأول كما كرر الله تعالى الخبر عن إرساله نوحا وهودا ولوطا وشعيبا وإبراهيم وموسى وعيسى ولم يكن المذكور في قصة غير المذكور في أخرى كذا ههنا فإن وصف أحدهما وأطلق الآخر فكذلك لأنه لا يجوز أن يكون المطلق هو الموصوف أطلقه في حال ووصفه في حال وإن وصفه بصفة واحدة في المرتين كان تأكيدا لما ذكرنا وإن وصفه في إحدى المرتين بغير ما وصفه في الأخرى فقال : درهم من ثمن مبيع ثم قال له : على درهم من قرض أو درهم من ثمن ثوب ثم قال : درهم من ثمن عبد أو قال : درهم أبيض ثم قال : درهم أسود فهما درهمان لأنهما متغايران

فصل : وإن قال له علي درهم ودرهم
فصل : وإن قال : له علي درهم ودرهم أو درهم أو درهم فدرهم أو درهم ثم درهم لزمه درهمان وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وكر القاضي وجها فيما إذا قال : درهم فدرهم وقال : أ { دت درهم فدرهم لازم لي أنه يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل الفة ولنا أن الفاء أحد حروف العطف الثلاثة فاشبهت الواو ثم ولأنه عطف شيئا على شيء بالفاء فاقتضى ثبوتهما كما لو قال : أنت طالق فطالق وقد سلمه الشافعي وما ذكروه من احتمال الصفة بعيد لا يفهم حالة الإطلاق فلا يقبل تفسيره به كما لو فسر الدراهم المطلقة بأنها زيوف أو صغار أو مؤجلة وإن قال له : على درهم ودرهمان لزمته ثلاثة وإن قال له : علي درهم ودينار أو فدينار أو قفيز حنطة ونحو ذلك لزمه ذلط كله وإن قال : له علي درهم ودرهم ودرهم لزمته ثلاثة وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه إذا قال : أردت بالثالث تأكيد الثاني وبيانه أنه يقبل وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الثالث في لفظ الثاني فظاهر مذهبه أنه تلزمه الثلاثة لأن الواو للعطف والعطف يقتضي المغايرة فوجب أن يكون الثالث غير الثاني كما كان الثاني غير الول والإقرار لا يقتضي تأكيدا فوجب حمله على العدد وكذلك الحكم إذا قال له : علي درهم فدرهم فدرهم أو درهم ثم درهم ثم درهم وإن قال : له علي درهم ودرهم ثم درهم أو درهم فدرهم ثم درهم أو درهم ثم درهم فدرهم لزمته الثلاثة وجها واحدا لأن الثالث مغاير للثاني لاختلاف حرفي العطف الداخلين عليهما فلم يحتمل التأكيد

فصل : وإن قال له على درهم بل درهمان
فصل : وإن قال : له علي درهم بل درهمان أو درهم لكن درهمان لزمه درهمان وبه قال الشافعي وقال زفر و داود : تلزمه ثلاثة لأن بل للإضراب لأنه لما أقر بدرهم وأضرب عنه لزمه لأنه لا يقبل ردوعه عما أقر به ولزمه الدرهما اللذان أقر بهما ولنا أنه إنما نفى اتصار على واحد وأثبت الزيادة عليه فاشبه ما لو قال : له علي درهم بل أكثر فإنه لا يلزمه أكثر من اثنين وإن قال : له علي درهم بل درهم أو لكن درهم ففيه وجهان أحدهما : يلزمه درهم واحد لأن أحمد قال فيمن قال لامرأته : أنت طالق لا بل أنت طالق إنها لا تطلق إلا واحدة وهذا في معناه وهذا مذهب الشافعي لأنه أقر بدرهم مرتين فلم يلزمه أكثر من درهم كما لو أقر بدرهم ثم أنكره ثم قال : بل علي درهم ولكن للإستدراك فهي في معنى بل إلا أن الصحيح إنها تستعمل إلا بعد الجحد إلا أن يذكر بعدها جملة والوجه الثاني : يلزمه درهمان ذكره ابن أبي موسى وأبو بكر عبد العزيز ونقبضه قول زفر و داود لأن ما بعد الإضراب يغاير ما قبله فيجب أن يكون الدرهم الذي أضرب عنه غير الدرهم الذي أقر به بعده فيجب الإثنان كما لو قال : له علي درهم بل دينار ولأن بل من حروف العطف والمعطوف غير المعطوف عليه فوجبا جميعا كما لو قال : له علي درهم ودرهم ولأنا لو لم نوجب عليه إلا درهما جعلنا كلامه لغوا وإضرابه عنه غير مفيد والأصل في كلام العاقل أن يكون مفيدا ولو كان الذي أضرب عنه لا يمكن أن يكون المذكور بعده ولا بعضه مثل أن يقول : له علي درهم بل دينار أو ديناران أو له علي قفيز حنطة بل قفيز شعير أو هذا الدرهم بل هذان لزمه الجميع بغير خلاف علمناه لأن الأول لا يمكن أن يكون الثاني ولا بعضه فكان مقرا بهما ولا يقبل رجوعه عن شيء منهما وكذلك كل جملتين أقر بإحداهما ثم رجع إلى الأخرى لزماه وإن قال : له علي درهمان بل درهم أو عشرة بل تسعة لزمه اظلأكثر لأنه أضرب عن واحد ونفاه بعد إقراره به فلم يقبل نفيه له بخلاف الإستثناء فإنه لا ينفي شيئا أقر به وإنما هو عبارة عن الباقي بعد الإستثناء فإذا قال : له عشرة إلا درهما كان معناه تسعة

فصل : وإن قال له درهم قبله درهم
فصل : وإن قال له علي درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان وإن قال : قبله درهم وبعده درهم لزمه ثلاثة لأن قبل وبعد تستعمل للتقديم والتأخير في الوجوب وإن قال : له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم أو مع درهم فقال القاضي : يلزمه درهم وهو أحد قولي الشافعي لأنه يحتمل فوق درهم في الجودة أو فوق درهم لي وكذلك تحت درهم وقوله معه درهم يحتمل معه درهم لي وكذلك مع درهم فلم يجب الزائد بالإحتمال وقال بو الخطاب : يلزمه درهمان وهو القول الثاني للشافعي لأن هذا اللفظ يجري مجرى العطف لكونه يقتضي ضم درهم آخر إليه وقد ذكر ذلك في سياق الإقرار فالظاهر أنه إقرار ولأن قوله علي يقتضي في ذمتي وليس للمقر في ذمة نفسه درهم مع درهم المقر له ولا فوقه ولا تحته فإنه لا يثبت للإنسان في ذمة نفسه شيء وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن قال : فوق درهم لزمه درهمان لأن فوق تقتضي في الظاهر الزيادة وإن قال : تحت درهم لزمه درهم واحد لأن تحت تقتضي النقص
ولنا أن حمل كلامه على معنى العطف فلا فرق بينهما وإن حمل على الصفة للدرهم المقر به وجب أن يكون المقر به درهما واحدا سواء ذكره بما يقتضي زيادة الجودة أو نقصها وإن قال : له علي درهم قبله دينار أو بيده أو قفيز حنطة أو معه أو فوقه أو تحته أو مع ذلك فالقول في ذلك كالقول في الدرهم سواء

فصل : وإن قال له على ما بين درهم وعشرة لزمته
فصل : وإن قال له علي ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية لأن ذلك ما بينهما وإن قال : من درهم لعشرة ففيه ثلاثة أوجه أحدها : تلزمه تسعة وهذا يحكي عن أبي حنيفة لأن من : لإبتداء الغاية وأول الغاية منها وإلى : لانتهائها فلا يدخل فيها كقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } والثاني : تلزمه ثمانية لأن الأول والعاشر حدان فلا يدخلان في الإقرار ولزمه ما بينهما كالتي قبلها والثالث : تلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين فيدخل فيها كالأول وكما لو قال : قرأت القرآن من أوله إلى آخره فإن قال : أردت بقولي من واحد إلى عشرة مجموع الأعداد كلها أي الواحد والإثنان وكذلك إلى العشرة لزمه خمسة وخمسون درهما وإختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو الواحد على العشرة فيصير أحد عشرة ثم تضربها في نصف العشرة فما بلغ فهو الجواب

فصل : وإن قال له على درهم لزمه ثلاثة
فصل : وإن قال : له على دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن قال : له علي دراهم كثيرة أو وافرة أو عظيمة لزمه ثلاثة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقبل تفسيره بدون العشرة لأنها أقل جمع الكثرة وقال أبو يوسف ومحمد : لا يقبل أقل من مائتين لأن بها يحصل الغنى وتجب الزكاة
ولنا أن الكثرة والعظمة لا حد لها شرعا ولا لغة ولا عرفا وتختلف بالإضافات وأحوال الناس فالثلاثةأكثر مما دونها وأقل مما فوقها ومن الناس من يستعظم اليسير ومنهم من لا يستعظم الكثير ويحتمل أن المقر أراد كثيرة بالنسبة إلى ما دونها أو كثيرة في نفسه فلا تجب الزيادة بالإحتمال

فصل : وإن قال له علي درهمان في عشرة
فصل : وإن قال : له علي درهمان في عشرة وقال : أردت الحساب لزمه عشرون وإن قال : أردت درهمين مع عشرة ولم يكن يعرف الحساب قبل منه ولزمه إثنا عشرة لأن كثيرا من العامة يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى وإن كان من أهل الحساب احتمل أن لا يقبل لأن الظاهر من الحساب استعمال ألفاظه لمعانيها في اصطلاحهم ويحتمل أن يقبل لأنه لا يمنع أن يستعمل إصطلاح العامة وإن قال : أردت درهمين في عشرة لي لزمه درهمان لأنه يحتمل ما يقول وإن قال : درهمان في دينار لم يحتمل الحساب وسئل عن مراده فإن قال : أردت العطف أو معنى مع لزمه الدرهمان والدينار وإن قال : إسلمتهما في دينار فصدقه المقر له بطل إقراره لأن سلم أحد النقدين في الآخر لا يصح وإن كذبه فالقول قول المقر له لأن المقر وصل إقراره بما يسقطه فلزمه ما أقر به وبطل قوله في دينار وكذلك إن قال : له علي درهمان في ثوب وفسره بالسلم أو قال : في ثوب اشتريته منه إلى ستة فصدقه بطل إقراره لأنه إن كان بعد التفرق بطل السلم وسقط الثمن وإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار بين الفسخ والإمضاء وإن كذبه المقر له فالقول قوله مع يمينه وله الدرهمان

فصل : وإن قال له عندي درهم في ثوب
فصل : وإن قال له : عندي درهم في ثوب أو في كيس أو زيت في جرة أو تبن في غرارة أو تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص في خاتم أو كيس في صندوق أو قال : غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتا في زق ففيه وجهان أحدهما : يكون مقرا بالمظروف دون الظرف هذا إختيار إبن حامد ومذهب مالك و الشافعي لأن إقراره لم يتناول فيحتمل أن يكون في ظرف للمقر فلم يلزمه والثاني : يلزمه الجميع لأنه ذكر ذلك في سياق الإقرار ويصلح أن يكون مقرا به فلزمه كما لو قال : له عندي عبد عليه عمامة وقال أبو حنيفة : في الغضب يلزمه ولا يلزمه في بقية الصور لأن المنديل يكون ظرفا للثوب فالظاهر أنه ظرف له في حال الغصب صار كأنه قال : غصبت ثوبا ومنديلا
ولنا أنه يحتمل أن يكون المنديل للغاصب وهو ظرف للثوب فيقول : غصبت ثوبا في منديل لي ولو قال : هذا لم يكن مقرا بغصبه فإذا أطلق كان محتملا له فلم يكن مقرا بغصبه كما لو قال : غصبت دابة في إصطبلها أو له علي ثوب في منديل وإن قال : له عندي جرة فيها زيت أو جراب فيه تمر أو قراب فيه سكين فعلى وجهين وإن قال : له علي خاتم فيه فص فكذلك ويحتمل أن يكون مقرا به بفصه وجها واحدا لأن الفص جزء من أجزاء الخاتم فأشبه ما لو قال : له علي ثوب فيه علم ولو قال : له عندي خاتم وأطلق لزمه الخاتم بفصه لأن اسم الخاتم يجمعهما وإن قال : له علي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه

فصل : وإن قال له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة
فصل : وإن قال : له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة أو عبد عليه عمامة ففيه أيضا وجهان وقال أصحاب الشافعي : تلزمه عمامة العبد دون الفرش أو السرج لأن العبد يده على عمامته ويده كيد سيده ولا يد للدابة والدار
ولنا أن الظاهر أن سرج الدابة لصاحبها لو تنازع رجلان سرجا على دابة أحدهما كان لصاحبها فصار كعمامة العبد فأما أن قال : له عندي دابة بسرجها أو دار بفرشها أو سفينة بطعامها كان مقرا بهما بغير خلاف لأن الباء تعلق الثاني بالأول

فصل : وإن قال له على درهم أو دينار
فصل : وإن قال : له علي درهم أو دينار أو إما درهم وإما دينار كان مقرا بأحدهما يرجع في تفسيره إليه لأن أو وإما في الخبر كالشك وتقتضي أحد المذكورين لا جميعهما وإن قال : له علي إما درهم وإما درهمان كان مقرا بدرهم والثاني مشكوك فيه فلا يلزمه بالشك

مسألة : قال ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير
مسألة : قال : ومن أقر بشيء واستثنى منه الكثير وهو أكثر من النصف أخذ بالكل وكان استثناؤه باطلا
لا يختلف المذهب إنه لا يجوز إستثناء ما زاد على النصف ويحكي ذلك عن ابن درستويه النحوي وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي وأصحابهم : يصح ما يستثن الكل فلو قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين لم يلزمه إلا واحد بدليل قوله تعالى قال : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين } وقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } فاستثنى في موضع الغاوين من العباد وفي موضع العباد من الغاوين وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر وأنشدوا :
( أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قواما )
فاستثنى تسعين من مائة لأنه في معنى الاستثناء ومشبه به ولأنه استثنى البعض فجاز كاستثناء الأقل ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز في الأكثر كالتخصيص والبدل
ولنا أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل وقد أنكروا استثناء الأكثر فقال أبو إسحاق الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية وكان عيا من الكلام ولكنة وقال القتيبي : يقال صمت الشهر إلا يوما ولا يقال صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما ويقال : لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو إثنين ولا يجوز أن يقول لقيت القوم إلا أكثرهم وإذا لم يكن صحيحا في الكلام لم يرتفع به ما أقر به كإستثناء الكل وكما لو قال : له علي عشرة بل خمسة فأما ما احتجوا به من التنزيل فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بني آدم وهم الأقل كما قال تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } وفي الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل فإن الملائكة من العباد وهم غير غاوين قال الله تعالى : { بل عباد مكرمون } وقيل : الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى الإستدراك فيكون قوله { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } مبقي على عمومه لم يستثن منه شيء ثم استأنف { إلا من اتبعك من الغاوين } أي لكن من اتبعك من الغاوين فإنهم غووا باتباعك وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لاتباعه { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة وأما البيت فقال ابن فضال النحوي : هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب على أن هذا ليس باستثناء فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة ليس ههنا شيء منها والقياس لا يجوز في اللغة ثم نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف فلم يجز كاستثناء الكل والفرق بين استثناء الأكثر والأقل أن العرب استعملته في الأقل وحسنته ونفته في الأكثر وقبحته فلم يجز قياس ما قبحوه على ما حسنوه

فصل : وفي استثناء النصف وجهان
فصل : وفي استثناء النصف وجهان أحدهما : يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي لتخصيصه الإبطال بما زاد على النصف لأنه ليس بأكثر فجاز كالأقل والثاني : لا يجوز ذكره أبو بكر لأنه لم يرد في كلامهم إلا القليل من الكثير والنصف ليس بقليل

فصل : وإن قال له على عشرة إلا سبعة
فصل : وإن قال : له علي عشرة إلا سبعة إلا خمسة إلا درهمين صح وكان مقرا بستة وذلك لأنه استثنى الكل أو الأكثر سقط أن وقف عليه وإن وصله باستثناء آخر استعملناه لأن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عما بقي فإن خمسة إلا درهمين عبارة عن ثلاثة إستثناها من سبعة بقي أربعة مستثناة من عشر بقي منها ستة وإن قال : له علي ثمانية إلا أربعة إلا درهمين إلا درهما بطل الإستثناء على قول أبي بكر لأنه إستثنى النصف وصح على الوجه فلزمه خمسة وإن قال : علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما بطل الإستثناء كله على أحد الوجهين وصح في الآخر فيكون مقرا بسبعة ولو قال : عشرة إلا ستة إلا أربعة إلا درهمين فهو على الوجه الذي يصح فيه الإستثناء مقر بستة ولو قال : ثلاثة إلا درهمين إلا درهما كان مقرا بثلاثة فأما إن قال : له علي ثلاثة إلا ثلاثة إلا درهمين بطل الإستثناء كله لأن إستثناء درهمين من ثلاثة إستثناء الأكثر وهو موقوف عليه فبطل فإذا بطل الثاني بطل الأول لأنه إستثناء الكل ولأصحاب الشافعي في هذا ثلاثة أوجه أحدهما : يبطل الإستثناء لأن الأول بطل لكونه إستثناء الكل فبطل الثاني لأنه فرعه والثاني : يصح ويلزمه درهم لأن الإستثناء الأول لما بطل جعلنا الإستثناء الثاني من الإقرار لأنه وليه لبطلان ما بينهما والثالث : يصح ويكون مقرا بدرهمين لأنه إستثنى درهمين من ثلاثة فيبقى منها درهم مستثنى من الإقرار وإستثناء الأكثر عندهم لا يصح ووافقهم القاضي في هذا الوجه وإن قال : ثلاثة إلا درهما بطل لإستثناء كله ويجيء على قول أصحاب الشافعي فيه مثل ما في التي قبلها

فصل : وإن قال له على ألف درهم إلا خمسين
فصل : وإن قال : له علي ألف درهم إلا خمسين فالمستثنى دراهم لأن العرب لا تستثني في الإثبات إلا من الجنس وإن قال : له علي ألف إلا خمسين درهما فالجميع دراهم كذلك وهذا إختيار ابن حامد و القاضي وهو قول أبي ثور وقال أبو الحسن التميمي و أبو الخطاب : يكون الألف مبهما يرجع في تفسيره إليه وهذا قول مالك و الشافعي لأن الإستثناء عندهما يصح من غير الجنس ولأن لفظه في الألف مبهم والدراهم لم تذكر تفسيرا له فيبقى على إبهامه
ولنا أنه لم يرد عن العرب الإستثناء في الإثبات إلا من الجنس فمتى علم أحد الطرفين علم أن الآخر من جنسه كما لو علم المستثنى منه وقد سلموه وعلته تلازم المستثنى والمستثنى منه في الجنس فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر فعلى قول التميمي يسئل عن المستثنى منه فإن فسره بغير الجنس بطل الإستثناء وعلى قول غيرهما ينظر في المستثنى إن كان مثل المستثنى منه أو أكثر بطل وإلا صح

فصل : وإن قال له على تسعة وتسعون درهما فالجميع دراهم
فصل : وإن قال : له علي تسعة وتسعون درهما فالجميع دراهم لا أعلم فيه خلافا وإن قال : مائة وخمسون درهما فكذلك وخرج بعض أصحابنا وجها أنه لا يكون تفسيرا إلا لما يليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي وكذلك إن قال : ألف وثلاثة دراهم أو خمسون درهما وألف درهم أو ألف ومائة درهم أو مائة وألف درهم والصحيح ما ذكرنا فإن الدرهم المفسر يكون تفسيرا لجميع ما قبله من الجمل المبهمة وجنس العدد قال الله تعالى مخبرا عن أحد الخصمين أنه قال : { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة وقال عنترة :
( فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم )
ولأن الدرهم ذكر تفسيرا ولهذا لا تجب به زيادة على العدد المذكور فكان تفسيرا لجميع ما قبله لأنها تحتاج إلى تفسير وهو صالح لتفسيرها فوجب حمله على ذلك وهذا المعنى موجود في قوله ألف وثلاثة دراهم وسائر الصور المذكورة فعلى قول من لا يجعل المجمل من جنس المفسر أو قال : بعتك هذا بمائة وخمسين درهما أو بخمسة وعشرين درهما لا يصح وهو قول شاذ ضعيف لا يعول عليه

فصل : وإن قال له على ألف درهم
فصل : وإن قال : له علي ألف ودرهم أو ألف وثوب أو قفيز حنطة فالمجمل من جنس المفسر أيضا وكذلك لو قال : ألف درهم وعشرة أو ألف ثوب وعشرون وهذا قول القاضي و ابن حامد و أبي ثور وقال التميمي و أبو الخطاب : يرجع في تفسير المجمل إليه لأن الشيء يعطف على غير جنسه قال الله تعالى : { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ولأن الألف مبهم فرجع في تفسيره إلى المقر كما لو لم يعطف عليها وقال أبو حنيفة : إن عطف على المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا له وإن عطف مذروعا أو معدودا لم يكن تفسيرا لأن علي للإيجاب في الذمة فإذا عطف عليه ما يثبت في الذمة بنفسه كان تفسيرا كقوله : مائة وخمسون درهما ولنا أن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الجملة الأخرى قال الله تعالى : { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا } وقال الله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } ولأنه ذكر مبهما مع مفسر لم يقم الدليل على أنه من غير جنسه فكان المبهم من جنس المفسر كما لو قال : مائة وخمسون درهما أو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا يحققه أن المبهم يحتاج إلى التفسير وذكر التفسير في الجملة المقارنة له يصلح أن يفسره فوجب حمل الأمر على ذلك أما قوله : { أربعة أشهر وعشرا } فإنه إمتنع أن يكون العشر أشهرا لوجهين أحدهما : أن العشر بغير هاء عدد للمؤنث والأشهر مذكرة فلا يجوز أن تعد بغيرها الثاني : أنها لو كانت أشهرا لقال : أربعة عشر شهرا بالتركيب لا بالعطف كما قال : { عليها تسعة عشر } وقولهم أن الألف مبهم قلنا قد قرن به ما يدل على تفسيره فأشبه ما لو قال مائة وخمسون درهما أو مائة ودرهم عند أبي حنيفة فإن قيل إذا قال : مائة وخمسون درهما فالدرهم ذكر للتفسير ولهذا لا يزداد به العدد فصلح تفسيرا لجميع ما قبله بخلاف قوله مائة درهم فإن ذكر الدرهم للإيجاب لا للتفسير بدليل أنه زاد به العدد قلنا هو صالح للإيجاب والتفسير معا والحاجة داعية إلى التفسير فوجب حمل الأمر على ذلك صيانة لكلام المقر عن الإلباس والإبهام وصرفا له إلى البيان والإفهام وقول أصحاب أبي حنيفة أن علي للإيجاب قلنا : فمتى عطف ما يجب بها على ما يجب وكان أحدهما مبهما والآخر مفسرا وأمكن تفسيره به وجب أن يكون المبهم من جنس المفسر فأما إن لم يكن مثل أن يعطف عدد المذكر على المؤنث أو بالعكس ونحو ذلك فلا يكون أحدهما من جنس الآخر ويبقى المبهم على إبهامه كما لو قال : له علي أربعة دراهم وعشر

مسألة : قال وإذا قال له عندي عشر دراهم
مسألة : قال : وإذا قال : له عندي عشرة دراهم ثم قال : وديعة كان القول قوله
وجملته أن من أقر بهذا اللفظ فقال : له عندي دراهم ثم فسر إقراره بأنها وديعة قبل تفسيره لا نعلم فيه إختلافا بين أهل العلم سواء فسره بكلام متصل أو منفصل لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال : له علي دراهم وفسرها بدين عليه فعند ذلك تثبت فيها أحكام الوديعة بحيث لو إدعى تلفها بعد ذلك أو ردها كان القول قوله وإن فسرها بدين عليه قبل أيضا لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : له عندي وديعة رددتها إليه أو تلفت لزمه ضمانها ولم يقبل قوله وبهذا قال الشافعي لما فيه من مناقضة الإقرار والرجوع عما أقربه فإن الألف المردود والتالف ليست عنده أصلا ولا هي وديعة وكل كلام يناقض الإقرار ويحيله يجب أن يكون مردودا وقال القاضي : يقبل قوله لأن أحمد قال في رواية ابن منصور : إذا قال : لك عندي وديعة دفعتها إليك صدق لأنه ادعى تلف الوديعة أو ردها فقبل كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل وإن قال : كانت عندي وظننت أنها باقية ثم عرفت أنها كانت قد هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها

فصل : قال ولو قال له على ألف ثم قال وديعة
مسألة : قال : ولو قال له علي ألف ثم قال وديعة لم يقبل قوله
وجملة ذلك أنه إذا أقر بدراهم بقوله علي كذا ثم فسره بالوديعة لم يقبل قوله فلو ادعى بعد هذا تلفها لم يقبل قوله ولهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقيل عن الشافعي يقبل قوله أنها وديعة وإذا ادعى بعد ذلك تلفها قبل منه وقال القاضي : ما يدل على هذا أيضا لأن الوديعة عليه حفظها وردها فإذا قال : علي وفسرها بذلك إحتمل صدقه فقبل منه كما لو وصله بكلامه فقال : علي ألف وديعة ولأن حروف الصفات يخلف بعضها بعضا فيجوز أن يستعمل علي بمعنى عندي كما قال الله تعالى : أخبارا عن موسى عليه السلام أنه قال : ( ولهم علي ذنب ) أي عندي ولنا أن علي للإيجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته وكذلك لو قال : ما على فلان علي كان ضامنا له والوديعة ليست في ذمته ولا هي عليه إنما هي عنده وما ذكروه مجاز طريقه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو إقامة حرف مقام حرف والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو قال : له علي دراهم لزمته ثلاثة دراهم وإن جاز التعبير بلفظ الجمع عن إثنين وعن واحد كقول الله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ومواضع كثيرة في القرآن ولو قال : له علي درهم وقال : أردت نصف درهم فحذفت المضاف وأقمت المضاف وإليه مقامه لم يقبل منه ولو قال : لك من مالي ألف قال : صدقت ثم قال : أردت أن عليك من مالي ألفا وأقمت اللام مقام على كقول الله تعالى : { وإن أسأتم فلها } لم يقبل منه ولو قبل في الإقرار مطلق الإحتمال لسقط ولقبل تفسير الدراهم بالناقصة والزائفة والمؤجلة وأما إذا قال : لك علي ألف ثم قال : كان وديعة فتلف لم يقبل قوله لأنه متناقض وقد سبق نحو من هذا

فصل : وإن قال لك على مائة درهم ثم أحضرها
فصل : وإن قال : لك علي مائة درهم ثم أحضرها وقال : هذه التي أقررت بها وهي وديعة كانت لك عندي فقال المقر له : هذه وديعة والتي أقررت بها غيرها وهي دين عليك فقول الخرقي يقتضي أن القول قول المفر له وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي : القول قول المقر مع يمينه ولل شافعي قولان كالوجهين وتعليلها ما تقدم وإن كان قال في إقراره : لك علي مائة في ذمتي فإن القاضي وافق ههنا في أنه لا يقبل قول المقر لأن الوديعة عين لا تكون في الذمة قال : وقد قيل : يقبل لأنه يحتمل في ذمتي أداؤها ولأنه يجوز أن يكون عنده وديعة تعدى فيها فكان ضمانها عليه في ذمته ولأصحاب الشافعي في هذه وجهان فأما إن وصل ذلك بكلامه فقال : لك علي مائة وديعة قبل لأنه وصل كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال : له علي دراهم ناقصة وإن قال : له علي مائة وديعة دينا أو مضاربة دينا صح ولزمه ضمانها لأنها قد يتعدى فيها فتكون دينا وإن قال : أردت أنه شرط علي ضمانها لم يقبل لأنه تصير بذلك دينا وإن قال : عنده مائة وديعة شرط علي ضمانها لم يلزمه ضمانها لأن الوديعة لا تصير بالشرط مضمونة وإن قال : علي وعندي مائة درهم عارية لزمته وكانت مضمونة عليه سواء حكمنا بصحة العارية في الدراهم أو بفسادها لأن ما ضمن في العقد الصحيح ضمن في الفاسد وإن قال : أودعني مائة فلم أقبضها أو أقرضني مائة فلم آخذها قبل قوله متصلا ولم يقبل إذا كان منفصلا وهكذا إذا قال : نقدني مائة فلم أقبضها وهذا قول الشافعي

فصل : فإن قال : له في هذا العبد ألف
فصل : فإن قال : له في هذا العبد ألف أوله من هذا العبد ألف طولب بالبيان فإن قال : نقد عني ألفا في ثمنه كان قرضا وإن قال : نقد في ثمنه ألفا قلنا بين كم ثمن العبد وكيف كان الشراء فإن قال : بإيجاب واحد وزن ألفا وزنت ألفا كان مقرا بنصف العبد وإن قال : وزنت ألفين كان مقرا بثلثه والقول قوله مع يمينه سواء كانت القيمة قدر ما ذكره أو أقل لأنه قد يغبن وقد يغبن وإن قال : اشتريناه بإيجابين قيل : فكم إشترى منه فإن قال : نصفا أو ثلثا أو أقل أو أكثر قبل منه مع يمينه وافق القيمة أو خالفها وإن قال : وصي له بألف من ثمنه بيع وصرف إليه من ثمنه ألف وإن أراد أن يعطيه ألفا من ماله من غير ثمن العبد لم يلزمه قبوله لأن الموصي له يتعين حقه في ثمنه وإن فسر ذلك بألف من جناية جناها العبد فتعلقت برقبته قبل ذلك وله بيع العبد ودفع الألف من ثمنه وإن قال : أردت أنه رهن عنده بألف ففيه وجهان أحدهما : لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة والثاني : يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن فصح تفسيره به كالجناية ومذهب الشافعي كما ذكرنا في الفصل جميعه

فصل : وإن قال له في مالي هذا ألف
فصل : وإن قال : له في مالي هذا ألف أو من مالي ألف وفسره بدين أو وديعة أو وصية فيه قبل وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يقبل إقراره لأن ماله ليس هو لغيره
ولنا أنه أقر بألف فقبل كما لو قال : في مالي ويجوز أن يضيف إليه مالا بعضه لغيره ويجوز أن يضيف مال غيره إليه لاختصاص له به أو يد له عليه أو ولاية قال الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } وقال سبحانه في النساء : { لا تخرجوهن من بيوتهن } وقال لأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم : { وقرن في بيوتكن } فلا يبطل إقراره مع إحتمال صحته وإن قال : أردت هبة قبل منه لأنه محتمل وإن امتنع من تقبيضها لم يجبر عليه لأن الهبة فيها لا تلزم قبل القبض وكذلك يخرج فيما إذا قال : لفلان في داري هذه نصفها أو من داري بعضها وقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين قال في رواية مهنا فيمن قال : نصف عبدي هذا لفلان لم يجز إلا أن يقول قد وهبته وإن قال : نصف مالي هذا لفلان لا أعرف هذا ونقل إبن منصور إذا قال : فرسي هذه لفلان فإقراره جائز فظاهر هذا صحة الإقرار فإن قال : له في هذا المال نصفه أو له نصف هذه الدار فهو إقرار صحيح وإن قال : له في هذا المال ألف صح وإن قال : له في ميراث أبي ألف فهو إقرار بدين على التركة وإن قال : في ميراثي من أبي وقال : أردت هبة قبل منه ولأنه إذا أضاف الميراث إلى أبيه فمقتضاه ما خلفه فيقتضي وجوب المقر به فيه وإذا أضاف الميراث إلى نفسه فمعناه ما ورثته وانتقل إلي فلا يحمل على الوجوب وإذا أضاف إليه منه جزءا فالظاهر أنه جعل له جزءا من ماله

فصل : وإن قال له في هذا العبد شركه صح
فصل : وإن قال : له في هذا العبد شركة صح إقراره وله تفسيره بأي قدر كان منه وقال أبو يوسف : يكون مقرا بنصفه لقوله تعالى : { فهم شركاء في الثلث } فاقتضى ذلك التسوية بينهم كذا ههنا
ولنا أن أي جزء كان له منه فله فيه شركة فكان له تفسيره بما شاء كالنصف وليس إطلاق لفظ الشركة على ما دون النصف مجازا ولا مخالفا للظاهر والآية تثبت التسوية فيها بدليل وكذلك الحكم إلا إذا قال : هذا العبد شركة بيننا

فصل : الإقرار بالمجهول
فصل في الإقرار بالمجهول
وإذا قال لفلان : علي شيء أو كذا صح إقراره ولزمه تفسيره وهذا لا خلاف فيه ويفارق الدعوى حيث لا تصح مجهولة لكون الدعوى له والإقرار عليه فلزمه ما عليه من الجهالة دون ماله ولأن المدعي إذا لم يصحح دعواه فله داع إلى تحريرها والمقر لا داعي له إلى التحرير ولا يؤمن رجوعه عن إقراره فيضيع حق المقر له فألزمناه إياه مع الجهالة فإن امتنع من تفسيره حبس حتى يفسر وقال القاضي : يجعل ناكلا ويؤمر المقر له بالبيان فإن بين شيئا فصدقه المقر ثبت وإن كذبه وامتنع من البيان قيل له : إن بينت وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك وهذا قول أصحاب الشافعي إلا أنهم قالوا : إن بينت وإلا حلفنا المقر له على ما يدعيه وأوجبناه عليك فإن فعل وإلا أحلفنا المقر له وأوجبناه على المقر ووجه الأول إنه ممتنع من حق عليه فيحبس به كما لو عينه وامتنع من أدائه ومع ذلك متى عينه المدعي وإدعاه فنكل المقر فهو على ما ذكروه وإن مات من عليه الحق أخذ ورثته بمثل ذلك لأن الحق ثبت على موروثهم فيتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة فيلزمهم ما لزم موروثهم كما لو كان الحق معينا وإن لم يخلف الميت تركة فلا شيء على الورثة ومتى فسر إقراره بما يتمول في العادة قبل تفسيره وثبت إلا أن يكذبه المقر له ويدعي جنسا آخر أو لا يدعي شيئا فيبطل إقراره وإن فسره بما لا يتمول عادة كقشرة جوزة أو قشرة باذنجانة لم يقبل إقراره لأن إقراره إعتراف بحق عليه ثابت في ذمته وهذا لا يثبت في الذمة وكذلك إن فسره بما ليس بمال في الشرع كالخمر والخنزير والميتة لم يقبل وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه فكذلك وإن فسره بكلب يجوز إقتناؤه أو جلد ميتة غير مدبوغ ففيه وجهان أحدهما : يقبل لأنه شيء يجب رده عليه وتسليمه إليه فالإيجاب يتناوله والثاني : لا يقبل لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وإن فسره بحبة حنطة أو شعير ونحوها لم يقبل لأن هذا لا يتمول عادة على إنفراده وإن فسر بحد قذف قبل لأنه حق يجب عليه ويحتمل أن لا يقبل لأنه لا يؤول إلى مال والأول أصح لأن ما ثبت في الذمة صح أن يقال هو علي وإن فسره برد السلام أو تشميت العاطس ونحوه لم يقبل لأنه يسقط بفواته فلا يثبت في الذمة وهذا الإقرار يدل على ثبوت الحق في الذمة ويحتمل أن يقبل تفسيره به إذا أراد أن حقا علي رد سلامه إذا سلم وتشميته إذا عطس لما روي في الخبر [ للمسلم على المسلم ثلاثون حقا : يرد سلامه ويشمت عطسته ويجيب دعوته ] وذكر الحديث وإن قال : غصبته شيئا وفسره بما ليس بمال قبل لأن إسم الغصب يقع عليه وإن قال : غصبته نفسه لم يقبل لأن الغصب لا يثبت عليه وهذا الفصل أكثره مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يقبل تفسير إقراره بغير المكيل والموزن لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه
ولنا أنه مملوك يدخل تحت العقد فجاز أن يفسر به الشيء في الإقرار كالمكيل والموزون ولأنه يثبت في الذمة في الجملة فصح التفسير كالمكيل ولا عبرة بسبب ثبوته في الإقرار به والإخبار عنه

فصل : وإن أخر بمال قبل تفسيره بقليل المال
فصل : وإن أقر بمال قبل تفسيره بقليل المال وكثيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقبل تفسيره بغير المال الزكوي لقول الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } وقوله : { وفي أموالهم حق } وحكى بعض أصحاب مالك عنه ثلاثة أوجه أحدها : كقولنا والثاني : لا يقبل إلا أوله نصاب من نصب الزكاة من نوع أموالهم والثالث : ما يقطع به السارق ويصح مهرا لقول الله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم }
ولنا أن غير ما ذكروه يقع عليه إسم المال حقيقة وعرفا ويتمول عادة فيقبل تفسيره به كالذي وافقوا عليه وأما آيات الزكاة فهي عامة دخلها التخصيص وقوله تعالى : { وفي أموالهم حق } لم يرد به الزكاة بدليل إنها نزلت بمكة قبل فرض الزكاة فلا حجة لهم فيها ثم يرد قولهم قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } والتزويج جائز بأي نوع كان من المال وبما دون النصاب وإن قال : له علي مال عظيم أو كثير أو جليل أو خطير جاز تفسيره بالقليل والكثير كما لو قال : مال لم يزد عليه وهذا قول الشافعي وحكي عن أبي حنيفة لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة دراهم لأنه يقطع به السارق ويكون صدقا عنده وعنه لا يقبل بأقل من مائتي درهم وبه قال صاحباه لأنه الذي تجب فيه الزكاة وقال بعض أصحاب مالك : كقولهم في المال ومنهم من قال : يزيد على ذلك أقل زيادة ومنهم من قال : قدر الدية وقال الليث بن سعيد : إثنان وسبعون لأن الله تعالى قال : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة وكانت غزواته وسراياه إثنتين وسبعين قالوا : ولأن الحبة لا تسمى مالا عظيما ولا كثيرا
ولنا أن ما فسر به المال فسر به العظيم كالذي سلموه ولأن العظيم والكثير لا حد له في الشرع ولا في اللغة ولا العرف ويختلف الناس فيه فمنهم من يستعظم القليل ومنهم من يستعظم الكثير ومنهم من يحتقر الكثير فلم يثبت في ذلك حد يرجع إلى تفسيره به ولأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه أراد عظيما عنده لفقر نفسه ودناءتها وما ذكروه فليس فيه تحديد للكثير وكون ما ذكروه كثيرا لا يمنع الكثرة فيما دونه وقد قال الله تعالى : { اذكروا الله كثيرا } فلم ينصرف إلى ذلك وقال : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } فلم يحمل على ذلك والحكم فيما إذا قال : عظيم جدا أو عظيم عظيم كما لو لم يقله لما قررناه

فصل : وإن قال له على أكثر من مال فلان
فصل : وإن قال : له علي أكثر من مال فلان ففسره بأكثر منه عددا أو قدرا لزمه أكثر منه وتفسر الزيادة بأي شيء أراد ولو حبة أو أقل وإن قال : ما علمت لفلان أكثر من كذا أو كذا وقامت البينة بأكثر منه لم يلزمه أكثر مما اعترف به لأن مبلغ المال حقيقة لا يعرف في الأكثر وقد يكون ظاهرا وباطنا فيملك مالا يعرفه المقر فكان المرجع إلى ما اعتقده المقر مع يمينه إذا ادعى عليه أكثر منه وإن فسره بأقل من ماله مع علمه بماله لم يقبل وقال أصحابنا : يقبل تفسيره بالقليل والكثير وهو مذهب الشافعي سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أو لم يذكره أو قاله عقيب الشهادة بقدره أولا لأنه يحتمل أنه أكثر منه بقاء أو منفعة أو بركة لكونه من الحلال أو لأنه في الذمة قال القاضي : ولو قال : لي عليك ألف دينار فقال : لك علي أكثر من ذلك لم يلزمه أكثر منها لأن لفظة أكثر مبهمة لإحتمالها ما ذكرنا ويحتمل إنه أراد أكثر منه فلوسا أو حب حنطة أو شعير أو دخن فرجع في تفسيرها إليه وهذا بعيد فإن لفظة أكثر إنما تستعمل حقيقة في العدد أو في القدر وتنصرف إلى جنس ما أضيف أكثر إليه لا يفهم في الإطلاق غير ذلك قال الله تعالى : { كانوا أكثر منهم } وأخبر عن الذي قال : { أنا أكثر منك مالا } { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا } والإقرار يؤخذ فيه بالظاهر دون مطلق الإحتمال ولهذا لو أقر بدراهم لزمه أقل الجمع جيادا صحاحا وازنة حالة ولو قال : له علي دراهم لم يقبل تفسيرها بالوديعة ولو رجع إلى مطلق الإحتمال لسقط الإقرار وإحتمال ما ذكروه أبعد من هذه الإحتمالات التي لم يقبلوا تفسيره بها فلا يعول على هذا

فصل : ولو قال : له على الألف إلا شيئا
فصل : ولو قال : له علي الألف إلا شيئا قبل تفسيره بأكثر من خمسمائة لأن الشيء يحتمل القليل والكثير لكن لا يجوز إستثناء الأكثر فتعين حمله على ما دون النصف وكذلك إن قال : إلا قليلا لأنه مبهم فأشبه قوله إلا شيئا وإن قال : له علي معظم ألف أو جل ألف أو قريب من ألف لزمه أكثر من نصف الألف ويحلف على الزيادة إن أدعيت عليه

مسائل وفصول : وإن قال له على كذا
فصل : وإن قال : له علي كذا ففيه ثلاث مسائل
المسألة الأولى : أن يقول كذا بغير تكرير ولا عطف الثانية : أن يكرر بغير عطف الثالثة : أن يعطف فيقول كذا وكذا
فأما الأولى فإذا قال له : كذا درهم لم يخل من أربعة أحوال أحدها : أن يقول له علي كذا درهم بالرفع فيلزمه درهم وتقديره شيء هو درهم فجعل الدرهم بدلا من كذا الثاني : أن يقول درهم بالجر فيلزمه جزء درهم يرجع في تفسيره إليه والتقدير جزء درهم أو بعض درهم ويكون كذا كناية عنه الثالث : أن يقول درهما بالنصب فيلزمه درهم ويكون منصوبا على التفسير وهو التمييز وقال بعض النحويين : هو منصوب على القطع كأنه قطع ما ابتدأ به وأقر بدرهم وهذا على قول نحاة الكوفة الرابع : أن يذكره بالوقف فيقبل تفسيره بجزء درهم أيضا لأنه لا يجوز أن يكون أسقط حركة الجر للوقف وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي : يلزمه درهم في الحالات كلها وهو قول بعض أصحاب الشافعي ولنا أن كذا إسم مبهم فصح تفسيره بجزء درهم في حال الجر والوقف
المسألة الثانية : إذا قال : كذا كذا بغير عطف فالحكم فيها كالحكم في كذا بغير تكرار سواء لا يتغير الحكم ولا يقتضي تكريره الزيادة كأنه قال : شيء شيء ولأنه إذا قاله بالجر احتمل أن يكون قد أضاف جزءا إلى جزء ثم أضاف الجزء الآخر إلى الدرهم فقال : نصف تسع درهم وهكذا لو قال : كذا كذا لأنه يحتمل أن يريد ثلث خمس سبع درهم ونحوه
المسألة الثالثة : إذا عطف قال : كذا وكذا درهم بالرفع لزمه درهم واحد لأنه ذكر شيئين ثم إبدل منهما درهما فصار كأنه قال : هما درهم وإن قال : درهما بالنصف ففيه ثلاثة أوجه أحدهما يلزمه درهم واحد وهو قول أبي عبد الله بن حامد و القاضي لأن كذا يحتمل أقل من درهم فإذا عطف عليه مثله ثم فسرهما بدرهم واحد جاز وكان كلاما صحيحا وهذا يحكي قولا ل الشافعي والوجه الثاني : يلزمه درهمان وهو إختيار أبي الحسن التميمي لأنه ذكر جملتين فإذا فسر ذلك بدرهم عاد التفسير إلى كل واحدة منهما كقوله عشرون درهما يعود التفسير إلى العشرين وكذا ههنا وهذا يحكي قولا ثانيا ل الشافعي والوجه الثالث : يلزمه أكثر من درهم ولعله ذهب إلى أن الدرهم تفسير للجملة التي تليه فيلزمه بها درهم والأولى باقية على إبهاما فيرجع في تفسيرها إليه هذا يشبه مذهب التميمي وقال محمد بن الحسن إذا قال : كذا درهما لزمه عشرون درهما لأنه أقل عدد يفسر بالواحد المنصوب وإن قال : كذا كذا درهما لزمه أحد عشر درهما لأنه أقل عدد مركب يفسر بالواحد المنصوب وإن قال : كذا وكذا درهما لزمه أحد وعشرون لأنه أقل عدد عطف بعضه على بعض يفسر بذلك وإن قال : كذا درهم بالجر لزمه مائة درهم لأنه أقل عدد يضاف إلى الواحد وحكي عن أبي يوسف أنه قال : كذا كذا أو كذا وكذا يلزمه بهما أحد عشر درهما
ولنا أن يحتمل ما قلنا ويحتمل ما قالوه فوجب المصير إلى ما قلنا لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك كما لو قال : له علي دراهم لم يلزمه إلا أقل الجمع ولا يلزم كثرة الإستعمال فإن اللفظ إذا كان حقيقة في الأمرين جاز التفسير بكل واحد منهما وعلى ما ذكره محمد يكون اللفظ المفرد موجبا لأكثر من المكرر فإنه يجب بالمفرد عشرون وبالمركب إحدى عشر ولا نعرف لفظا مفردا متناولا لعدد صحيح يلزم به أكثر مما يلزم بمكرره

فصل : ولو قال غصبتك أو غنيتك
فصل : ولو قال : غصبتك أو غبنتك لم يلزمه شيء لأنه قد يغصبه نفسه ويغبنه في غير المال وإن قال : غصبتك شيئا وفسره بغصب نفسه لم يقبل لأنه جعل له مفعولين فجعله المفعول الأول وشيئا المفعول الثاني ويجب أن يكون الثاني غير الأول وإن فسره بمال قبل وإن قل وإن فسره بكلب أو جلد ميتة أو سرجين ينتفع به قبل لأنه قد يقهره فيأخذه منه وإن فسره بما لا نفع فيه أو لا يباح الإنتفاع به لم يقبل لأن أخذ ذلك ليس بغصب

فصل : وتقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول
فصل : وتقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول لأن الإقرار به صحيح وما كان صحيحا في نفسه صحت الشهادة به كالمعلوم

مسألة : ولو قال له عندي رهن
مسألة : قال : ولو قال : له عندي رهن فقال المالك : وديعة كان القول قول المالك
إنما قدم قول المالك لأن العين ثبتت له بالإقرار المقر دينا لا يعترف له به والقول قول المنكر ولأنه أقر بمال لغيره وادعى أن له به تعلقا فلم يقبل كما لو إدعاه بكلام منفصل وكذلك لو أقر له بدار وقال : إستأجرتها أو بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجر يلزم المقر له لم يقبل لأنه مدع على غيره حقا فلا يقبل قوله إلا ببينة وكذلك لو قال : هذه الدار له ولي سكناها سنة أن

فصل : وإن قال لك على ألف من ثمن مبيع
فصل : وإن قال : لك علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه فقال المدعى عليه : بل لي عليك ألف ولا شيء لك عندي فقال أبو الخطاب فيه وجهان أحدهما : القول قول المقر له لأنه اعترف له بالألف وادعى عليه مبيعا فأشبه ما إذا قال : هذا رهن فقال المالك : وديعة أول له علي ألف ولي عنده مبيع لم أقبضه والثاني : القول قول المقر قال القاضي : هو قياس المذهب وهو قول الشافعي و أبي يوسف لأنه أقر بحق في مقابلة حق له لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا لم يسلم له ماله لم يسلم للمقر له ما عليه كما لو قال لرجل : بعتك هذا العبد بألف قال : بل ملكتنيه بغير شيء وفارق ما لو قال : له عندي رهن فقال المالك بل وديعة لأن الدين ينفك عن الرهن ولو قال السيد لعبده : بعتك نفسك بألف فأنكر العبد عتق ولا شيء للمقر لأن العتق ينفك عن الثمن ولا فرق بين أن يقول لم أقبضه منفصلا أو متصلا فلو قال : له علي ألف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال : لم أقبضه فيقبل قوله كما لو كان متصلا لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه فأما إن قال : علي ألف ثم سكت ثم قال : من ثمن مبيع لم يقبل لأنه فسر إقراره بما يسقط وجوب تسليمه بكلام منفصل فلم يقبل كما لم يقبل لو قال : له علي ألف ثم سكت ثم قال : مؤجل لأ

فصل : وإذا قال بعتك جاريتي
فصل : وإذا قال : بعتك جاريتي هذه قال : بل زوجتنيها فلا يخلو أما أن يكون إختلافهما قبل نقد الثمن أو بعده وقبل الإستيلاد أو بعده فإن كان بعد إعتراف البائع بقبض الثمن فهو مقر بها لمدعي الزوجية لأنه يدعي عليه شيئا والزوج ينكر أنها ملكه ويدعي حلها له بالزوجية فيثبت الحل لإتفاقهما عليه ولا ترد إلى البائع لإتفاقهما على أنه لا يستحق أخذها وإن كان قبل قبض الثمن وبعد الإستيلاد فالبائع يقر أنها صارت أم ولد وولدها حر وأنه لا مهر له ويدعي الثمن والمشتري ينكر ذلك كله فيحكم بحرية الولد لإقرار من ينسب إليه ملكه بحريته ولا ولاء عليه لإعترافه بأنه حر الأصل ولا ترد الأمة إلى البائع لإقراره بأنها أم ولد لا يجوز نقل الملك فيها ويحلف المشتري أنه ما اشتراها ويسقط عنه ثمنها إلا قدر المهر فإنه يجب لإتفاقهما على وجوبه وإن اختلفا في سببه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يتحالفان ولا يجب مهر ولا ثمن وهو قول القاضي إلا أنه لا يجعل على البائع يمينا لأنه لا يرى اليمين في إنكار النكاح ونفقة الولد على أبيه لأنه حر ونفقة الأمة على زوجها لأنه أما زوج وأما سيد وكلاهما سبب لوجوب النفقة وقال القاضي : نفقتها في كسبها فإن كان فيه فضل فهي موقوفة لأننا أزلنا عنها ملك السيد وأثبتنا لها حكم الإستيلاد فإن ماتت وتركت مالا فللبائع قدر ثمنها لأنه أما أن يكون صادقا فهو يستحق على المشتري ثمنها وتركتها للمشتري والمشتري مقر للبائع بها فيأخذ منها قدر ما يدعيه وإن كان كاذبا فهي ملكه وتركتها كلها له فيأخذ منها قدر ما يدعيه وبقيته موقوفة وإن ماتت بعد الوطء فقد ماتت حرة فميراثها لولدها وورثتها فإن لم يكن لها وارث فميراثها موقوف لأن أحدا لا يدعيه وليس للسيد أن يأخذ منه قدر الثمن لأنه يدعي الثمن على الواطيء وليس ميراثها له لأنه قد مات قبلها وإن كان اختلافهما قبل الإستيلاد فعندي أنها تقر في يد الزوج لإتفاقهما على حلها له وإستحقاقه إمساكها وإنما اختلفا في السبب ولا ترد إلى السيد لاتفاقهما على تحريمها عليه وللبائع أقل الأمرين من الثمن أو المهر لاتفاقهما على استحقاقه لذلك والأمر في الباطن على ذلك فإن السيد إن كان صادقا فالأمة حلال لزوجها بالبيع وإن كان كاذبا فهي حلال له بالزوجية والقدر الذي اتفقا عليه إن كان السيد صادقا فهو يستحقه ثمنا وإن كان كاذبا فهو يستحقه مهرا وقال القاضي : يحلف الزوج أنه ما إشتراها لأنه منكر ويسقط عنه الثمن ولا يحتاج السيد إلى اليمين على نفي الزوجيه لأنه لا يستحلف فيه وعند الشافعي يتحالفان معا ويسقط الثمن عن الزوج لأن عقد البيع ما ثبت ولا يجب المهر لأن السيد لا يدعيه وترد الجارية إلى سيدها وفي كيفية رجوعها وجهان أحدهما : ترجع إليه فيملكها ظاهرا وباطنا كما يرجع البائع في السلعة عند فلس المشتري بالثمن لأن الثمن ههنا قد تعذر فيحتاج السيد أن يقول : فسخت البيع وتعود إليه ملكا والثاني : ترجع إليه في الظاهر دون الباطن لأن المشتري امتنع من أداء الثمن مع إمكانه فعلى هذا يبيعها الحاكم ويوفيه ثمنها فإن كان وفق حقه فحسن وإن كان دونه أخذه وإن زاد فالزيادة لا يدعيها أحد لأن المشتري يقر بها للبائع والبائع لا يدعي أكثر من الثمن الأول فهل تقر في يد المشتري أو ترجع إلى بيت المال ؟ يحتمل وجهين فإن رجع البائع وقال : صدق خصمي ما بعته إياها بل زوجته لم يقبل في إسقاط حرية الولد ولا في استرجاعها إن صارت أم ولد وقبل في إسقاط الثمن واستحقاق المهر وأخذ زيادة الثمن وإستحقاق ميراثها وميراث ولدها وإن رجع الزوج ثبتت الحرية ووجب عليه الثمن

فصل : ولو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه
فصل : ولو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه أو شهد رجلان بحرية عبد لغيرهما فردت شهادتهما ثم اشتراه أحدهما من سيده عتق في الحال لاعترافه بأن الذي اشتراه حر ويكون البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع لأنه محكوم له برقه وفي حق المشتري استنقاذا واستخلاصا فإذا صار في يديه حكم بحريته لإقراره السابق ويصير كما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق إمرأته ثلاثا فرد الحاكم شهادتهما فدفعا إلى الزوج عوضا ليخلعها صح وكان في حقه خلعا صحيحا وفي حقهما إستخلاصا ويكون ولاؤه موقوفا لأن أحدا لا يدعيه فإن البائع يقول ما أعتقته والمشتري يقول ما أعتقه إلا البائع وأنا استخلصته فإن مات وخلف مالا فرجع أحدهما عن قوله فالمال له لأن أحدا لا يدعيه سواه لأن الراجع إن كان البائع فقال : صدق المشتري كنت أعتقته فالولاء له ويلزمه رد الثمن إلى المشتري لإقراره ببطلان البيع وإن كان الراجع المشتري قبل في المال لأن أحدا لا يدعيه سواه ولا يقبل قوله في نفي الحرية لأنها حق لغيره وإن رجعا معا فيحتمل أن يوقف حتى يصطلحا عليه لأنه لأحدهما ولا يعرف عينه ويحتمل أن من هو في يده يحلف ويأخذه لأنه منكر وإن لم يرجع واحد منهما ففيه وجهان أحدهما : يقر في يده من هو في يده فإن لم يكن في يد أحدهما فهو لبيت المال لأن أحدا لا يدعيه ويحتمل أن يكون لبيت المال على كل حال لذلك

فصل : ولو أقر لرجل بعبد أو غيره
ولو أقر لرجل بعبد أو غيره ثم جاءه به وقال : هذا الذي أقررت لك به قال : بل هو غيره لم يلزمه تسليمه إلى المقر له لأنه لا يدعيه ويحلف المقر أنه ليس له عنده عبد سواه فإن رجع المقر له فإدعاه لزمه دفعه إليه لأنه لا منازع له فيه وإن قال المقر له : صدقت هذا لي والذي أقررت به آخر لي عندك لزمه تسليم هذا ويحلف على نفي الآخر

مسألة : قال ولو مات فخلف ولدين
مسألة : قال : ولو مات فخلف ولدين فأقر أحدهما بأخ أو أخت لزمه أن يعطي الفضل الذي في يديه لمن أقر له به
وجملة ذلك أن أحد الوارثين إذا أقر بوارث ثالث مشارك لهما في الميراث لم يثبت النسب بالإجماع لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر ولا يمكن إثباته في حقهما لأن أحدهما منكر ولم توجد شهادة يثبت بها النسب ولكنه يشارك المقر في الميراث في قول أكثر أهل العلم وقال الشافعي : لا يشاركه وحكي ذلك عن ابن سيرين وقال إبراهيم : ليس بشيء حتى يقروا جميعا لأنه لم يثبت نسبه فلا يرث كما لو أقر بنسب معروف النسب ولنا أنه أقر بسبب مال لم يحكم ببطلانه فلزمه المال كما لو أقر ببيع أو أقر بدين فأنكر الآخر وفارق ما إذا أقر بنسب معروف النسب فإنه محكوم ببطلانه ولأنه يقر له بمال يدعيه المقر له ويجوز أن يكون له فوجب الحكم له به كما لو أقر بدين على أبيه أو أقر له بوصية فأنكر سائر الورثة إذا ثبت هذا فإن الواجب له فضل ما في يد المقر عن ميراثه وبهذا قال ابن أبي ليلى و مالك و الثوري و الحسن بن صالح و شريك و يحيى بن آدم و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وقال أبو حنيفة : إذا كان إثنان فأقر أحدهما بأخ لزمه دفع نصف ما في يده وإن أقر بأخت لزمه ثلث ما في يده لأنه أخذ مالا يستحقه من التركة فصار كالغاصب فيكون الباقي بينهما كما لو غصب بعض التركة أجنبي ولأن الميراث يتعلق ببعض التركة كما يتعلق بجميعها فإذا هلك بعضها أو غصب تعلق الحق بباقيها والذي في يد المنكر كالمغصوب فيقتسمان الباقي بالسوية كما لو غصبه أجنبي
ولنا أن التركة بينهم أثلاثا فلا يستحق مما في يده إلا الثلث كما لو ثبت نسبه ببينة ولأنه إقرار بحق يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يلزمه أكثر مما يخصه كالإقرار بالوصية وكإقرار أحد الشريكين على مال الشركة بدين ولأنه لو شهد معه بالنسب أجنبي ثبت لو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لكونه يجر بها نفعا لكونه يسقط عن نفسه بعض ما يستحقه عليه ولأنه حق لو ثبت ببينة لم يلزمه إلا قدر حصته فإذا ثبت بالإقرار لم يلزمه أكثر من ذلك كالوصية وفارق ما إذا غصب بعض التركة وهما إثنان لأن كل واحد منهما يستحق النصف من كل جزء من التركة وههنا يستحق الثلث من كل جزء من التركة ولأصحاب الشافعي فيما إذا كان المقر صادقا فيما بينه وبين الله تعالى : هل يلزمه أن يدفع إلى المقر له نصيبه ؟ على وجهين أحدهما : يلزمه وهو الأصح وهل يلزمه أن يدفع إليه نصف ما في يده أو ثلثه ؟ على وجهين

فصل : وإن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث
فصل : وإن أقر جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث ثبت نسبه سواء كان الورثة واحدا أو جماعة ذكرا أو أنثى وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة لأن الوارث يقوم مقام الميت في ميراثه وديونه والديون التي عليه وبيناته ودعاويه والإيمان التي له وعليه وكذلك في النسب وقد روت عائشة [ أن سعد بن أبي وقاص إختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى إبن أمة زمعة وأقبضه فإنه إبنه فقال : عبد بن زمعة أخي وإبن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد بن زمعة وللعاهر الحجر فقضى به لعبد بن زمعة وقال : إحتجي منه يا سودة ] والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت إلا بإقرار رجلين أو رجل وامرأتين وقال مالك : لا يثبت إلا بإقرار إثنين لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشهادة ولنا أنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول لا تعتبر فيه العدالة فلم يعتبر فيه العدد كإقرار الموروث واعتباره بالشهادة لا يصح لأنه لا يعتبر فيه اللفظ ولا العدالة ويبطل بالإقرار بالدين

فصل : شروط الإقرار بالنسب
فصل : في شروط الإقرار بالنسب
لا يخلو أما أن يقر على نفسه خاصة أو عليه وعلى غيره فإن أقر على نفسه مثل أن يقر بولد إعتبر في ثبوت نسبه أربعة شروط أحدها : أن يكون المقر به مجهول النسب فإن كان معروف النسب لم يصح لأنه يقطع نسبه الثابت من غيره وقد لعن النبي صلى الله عليه و سلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه الثاني : أن لا ينازعه فيه منازع لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا فلم يكن الحاقه بأحدهما أولى من الآخر الثالث : أن يمكن صدقه بأن يكون المقر به يحتمل أن يولد لمثله الرابع : أن يكون ممن لا قول له كالصغير والمجنون أو يصدق المقر إن كان ذا قول وهو المكلف فإن كان غير مكلف لم يعتبر تصديقه فإن كبر وعقل فأنكر لم يسمع إنكاره لأن نسبه ثابت وجرى ذلك مجرى من ادعى ملك عبد صغير في يده وثبت بذلك ملكه فلما كبر جحد ذلك ولو طلب إحلافه على ذلك لم يستحلف لأن الأب لو عاد فجحد النسب لم يقبل منه وإن اعترف إنسان بأن هذا أبوه فهو كاعترافه بأنه إبنه فأما إن كان إقرارا عليه وعلى غيره كإقرار بأخ اعتبر فيه الشروط الأربعة وشرط خامس وهو كون المقر جميع الورثة فإن كان المقر زوجا أو زوجة لا وارث معهما لم يثبت النسب بإقرارهما لأن المقر لا يرث المال كله وإن اعترف به الإمام معه ثبت النسب لأنه قائم مقام المسلمين في مشاركة الوارث وأخذ الباقي وإن كان الوارث بنتا أو أختا أو أما أو ذا فرض يرث جميع المال بالفرض والرد ثبت النسب بقوله كالإبن لأنه يرث المال كله وعند الشافعي لا يثبت بقوله النسب لأنه لا يرى الرد ويجعل الباقي لبيت المال ولهم فيما إذا وافقه الإمام في الإقرار وجهان وهذا من فروع الرد ويذكر في موضعه وإن كانت بنت وأخت أو أخت وزوج ثبت النسب بقولهما لأنهما يأخذان المال كله وإذا أقر بابن إبنه وابنه ميت اعتبرت فيه الشروط التي تعتبر في الإقرار بالأخ وكذلك إن أقر بعم وهو إبن جده فعلى ما ذكرناه

فصل : وإن كان أحد الوالدين غير وارث
فصل : وإن كان أحد الولدين غير وارث لكونه رقيقا أو مخالفا لدين موروثه أو قاتلا فلا عبرة به وثبت النسب بقول الآخر وحده لأنه يجوز جميع الميراث ثم إن كان المقر به يرث شارك المقر في الميراث وإن كان غير وارث لوجود أحد الموانع فيه ثبت نسبه ولم يرث وسواء كان المقر مسلما أو كافرا

فصل : وإن كان أحد الوارثين غير مكلف
وإن كان أحد الوارثين غير مكلف كالصبي والمجنون فأقر المكلف بأخ ثالث لم يثبت النسب بإقراره لأنه لا يجوز الميراث كله فإن بلغ الصبي أو فاق المجنون فأقرا به أيضا ثبت نسبه لاتفاق جميع الورثة عليه وإن أنكر لم يثبت النسب وإن ماتا قبل أن يصيرا مكلفين ثبت نسب المقر به لأنه وجد الإقرار من جميع الورثة عليه وإن أنكر لم يثبت النسب وإن ماتا قبل أن يصيرا مكلفين ثبت نسب المقر به لأنه وجد الإقرار من جميع الورثة فإن المقر به صار جميع الورثة ولو كان الوارثان بالغين عاقلين فأقر به أحدهما وأنكر الآخر ثم مات المنكر وورثه المقر ثبت نسب المقر به لأن المقر به صار جميع الورثة فأشبه ما لو أقر به إبتداء بعد موت أخيه وكما لو كان شريكه في الميراث غير مكلف وفيه وجه آخر أنه لا يثبت النسب لأنه أنكره بعض الورثة فلم يثبت نسبه كما لو لم يمت بخلاف ما إذا كان شريكه غير مكلف فإنه لم ينكره وارث وهذا فيما إذا كان المقر يحوز جميع الميراث بعد الميت فإن كان للميت وارث سواه أو من يشاركه في الميراث لم يثبت النسب بقول الباقي منهما وجها واحدا لأنه ليس كل الورثة ويقوم وارث الميت الثاني مقامه فإذا وافق المقر في إقراره ثبت النسب وإن خالفه لم يثبت كالموروث وإن خلف ولدين فأقر أحدهما بأخ وأنكره الآخر ثم مات المنكر وخلف إبنا فأقر بالذي أنكره أبوه ثبت نسبه لإقرار جميع الورثة به ويحتمل أن لا يثبت لإنكار الميت له

فصل : وإذا أقر الوارث بحق يحجب كأخ أقر بابن
فصل : وإذا أقر الوارث بمن يحجبه كأخ أقر للميث وأخر من أب أقر بأخ من أبوين وإبن ابن أقر بإبن للميت نسب المقر به وورث وسقط المقر وهذا اختيار ابن حامد و القاضي وقول أبي العباس ابن سريج وقال أكثر أصحاب الشافعي : يثبت نسب المقر به ولا يرث لأن توريثه يفضي إلى إسقاط توريثه فسقط بيانه إنه لو ورث لخرج المقر به عن كونه وارثا فيبطل إقراره ويسقط نسب المقر به وتوريثه فيؤدي توريثه إلى إسقاط نسبه وتوريثه فأثبتنا النسب دون الميراث
ولنا أنه ابن ثابت النسب لم يوجد في حقه أحد موانع الإرث فيدخل في عموم قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } أو فيرث كما لو ثبت نسبه ببينة ولأن ثبوت النسب سبب للميراث فلا يجوز قطع حكمه عنه ولا يورث محجوب به مع وجود وسلامته من الموانع وما احتجوا به لا يصح لأننا إنما نعتبر كون المقر وارثا على تقدير عدم المقر به وخروجه بالإقرار عن الإرث لا يمنع صحته بدليل أن الإبن إذا أقر بأخ فإنه يرث مع كونه يخرج بإقراره عن أن يكون جميع الورثة فإن قيل إنما يقبل إقراره إذا صدقه المقر به فصار إقرارا من جميع الورثة وإن كان المقر به طفلا أو مجنونا لم يعتبر قوله فقد أقر كل من يعتبر قوله قلنا ومثله ههنا فإنه إن كان المقر به كبيرا فلا بد من تصديقه فقد أقر به كل من يعتبر إقراره وإن كان صغيرا غير معتبر القول لم يثبت النسب بقول الآخر كما لو كانا إبنين أحدهما صغيرا فأقر البالغ بأخ لم يقبل ولم يقولوا أنه لا يعتبر موافقته كذا ههنا ولأنه لو كان في يدي إنسان عبد محكوم له بملكه فأقر به لغيره ثبت للمقر له وإن كان المقر يخرج بالإقرار عن كونه مالكا كذا ههنا

فصل : فإن خلف ابنا فأقر بأخ ثبت نسبه
فصل : فإن خلف إبنا فأقر بأخ ثبت نسبه ثم إن أقر بثالث ثبت نسبه أيضا لأنه إقرار من جميع الورثة فإن قال الثالث : الثاني ليس بأخ لنا فقال القاضي : يسقط نسب الثاني لأن الثالث وارث منكر لنسب الثاني فأشبه ما لو كان نسبه ثابتا قبل الثاني وفيه وجه آخر لا يسقط نسبه ولا ميراثه لأن نسبه ثبت بقول الأول وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته ولأنه أقر به من هو كل الورثة حين الإقرار وثبت ميراثه فلا يسقط بعد ثبوته ولأن الثاني لو أنكر الثالث لم يثبت نسبه وإنما ثبت نسبه بإقراره فلا يجوز له إسقاط نسب من يثبت نسبه بقوله كالأول ولأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الأصل بالفرع الذي يثبت به

فصل : وإن أقر الابن بأخوين دفعة واحدة
فصل : وإن أقر الإبن بأخوين دفعة واحدة فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وإن تكاذبا ففيهما وجهان أحدهما : لا يثبت نسبهما وهو مذهب الشافعي لأن كل واحد منهما لم يقر به كل الورثة والثاني : يثبت نسبهما لأن كل واحد منهما وجد الإقرار به من ثابت النسب هو كل الورثة حين الإقرار فلم يعتبر موافقة غيره كما لو كانا صغيرين فإن كان أحدهما يصدق صاحبه دون الآخر ثبت نسب المتفق عليه منهما وفي الآخر وجهان وإن كانا توأمين ثبت نسبهما ولم يلتفت إلى إنكار المنكر منهما سواء تجاحدا معا أو جحد أحدهما صاحبه لأننا نعلم كذبهما فإنهما لا يفترقان ولو أقر الوارث بنسب أحدهما ثبت نسب الآخر لأنهما لا يفترقا في النسب وإن أقر بنسب صغيرين دفعة واحدة ثبت نسبهما على الوجه الذي يثبت فيه نسب الكبيرين المتجاحدين وهل يثبت على الوجه الآخر ؟ يحتمل أن يثبت لأنه أقر به كل الورثة حين الإقرار ولم يجحده أحد فأشبه ما لو إنفرد ويحتمل أن لا يثبت لأن أحدهما وارث ولم يقر بصاحبه فلم يجتمع كل الورثة على الإقرار به ويدفع المقر إلى كل واحد منهما ثلث الميراث قلنا بثبوت النسب أو لم نقل لأنه مقر به

فصل : إذا خلف إمرأة وأخا فأقرت المرأة بابن
إذا خلف إمرأة وأخا فأقرت المرأة بإبن للميت وأنكر الأخ لم يثبت نسبه ودفعت إليه ثمن الميراث وهو الفضلة التي في يد الزوجة عن ميراثها وإن أقر به الأخ وحده لم يثبت نسبه ودفع إليه جميع ما في يده وهو ثلاثة أرباع المال فإن خلف إثنين فأقر أحدهما بإمرأة لأبيه وأنكر الآخر لم تثبت الزوجية ويدفع إليها نصف ثمن الميراث ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة كقولنا لأن الزوجية زالت بالموت وإنما المقر به حقها من الميراث ولهم وجه آخر لا شيء لها وإن كان للميت إمرأة أخرى فلا شيء للمقر لها لأن الفضل الذي تستحقه في يد غير المقر وكذلك ما كان مثل هذا مثل أن يخلف أخا من أب وأخا من أم فيقر الأخ من الأم بأخ للميت فلا شيء للمقر به سواء أقر بأخ من أبوين أو من أب أو من أم لأن ميراثه في يد غير المقر وإن أقر بأخوين من أم دفع إليهما ثلث ما في يده لأنه يقر إنهم شركاء في الثلث لكل واحد منهما تسع وفي يده سدس وهو تسع ونصف تسع فيفضل في يده نصف تسع وهو ثلث ما في يده

فصل : وإذا شهد من الورثة رجلان عدلان
فصل : وإذا شهد من الورثة رجلان عدلان بنسب مشارك لهم في الميراث ثبت نسبه إذا لم يكونا متهمين وكذلك إن شهدا على إقرار الميت به وإن كانا متهمين كأخوين من أم يشهدان بأخ من أبوين في مسألة فيها زوج وأختان من أبوين لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط العول فيتوفر عليهما الثلث وكذلك لو شهدا بأخ من أب في مسألة معهما أم وأخت من أبوين وأخت من أب لم تقبل شهادتهما لأن ثبوت نسبه يسقط أخته فيذهب العول من المسألة فإن لم يكونا وارثين أو لم يكن للميت تركة قبلت شهادتهما وثبت النسب لعدم التهمة

فصل : وإن أقر رجلان عدلان
فصل : وإن أقر رجلان عدلان بنسب مشارك لهما في الميراث وثم وارث غيرهما لم يثبت النسب إلا أن يشهدا به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يثبت لأنهما بينة ولنا أنه إقرار من بعض الورثة فلم يثبت به النسب كالواحد وفارق الشهادة لأنه تعتبر فيها العدالة والذكورية والإقرار بخلافه

فصل : إذا أقر بنسب ميت صغير أو مجنون
فصل : إذا أقر بنسب ميت صغير أو مجنون ثبت نسبه وورثه : وبهذا قال الشافعي : ويحتمل أن يثبت نسبه دون ميراثه لأنه متهم في قصد أخذ ميراثه وقال أبو حنيفة : لا يثبت نسبه ولا إرثه لذلك ولنا أن علة ثبوت نسبه في حياته الإقرار به وهو موجود بعد الموت فيثبت به كحالة الحياة وما ذكروه يبطل ما إذا كان المقر به حيا موسرا أو المقر به فقيرا فإنه يثبت نسبه ويملك المقر التصرف في ماله وإنفاقه منه على نفسه وإن كان المقر به كبيرا عاقلا فكذلك في قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي لأنه لا قول له أشبه الصغير وفيه وجه آخر أنه لا يثبت نسبه لأنه نسب المكلف لا يثبت إلا بتصديقه ولم يوجد ويجاب عن هذا بأنه غير مكلف فإن ادعى نسب المكلف في حياته فلم يصدقه حتى مات المقر ثم صدقه ثبت نسبه لأنه وجد الإقرار والتصديق من المقر به فأشبه ما لو صدقه في حياته وقال أبو الخطاب : وإذا أقر رجل بزوجية إمرأة أو أقرت أن فلانا زوجها فلم يصدقه المقر به إلا بعد موته ورثه لأنه وجد الإقرار والتصديق معا

فصل : وإذا خلف رجل امرأة وابنا من غيرها
فصل : وإذا خلف رجل امرأة وابنا من غيرها فاقر الإبن بأخ له لم يثبت نسبه لأنه لم يقر به كل الورثة وهل يتوارثان ؟ فيه وجهان أحدهما : يتوارثان لأن كل واحد منهما يقر أنه لا وارث له سوى صاحبه ولا منازع لهما والثاني : لا يتوارثان لأن النسب بينهما لم يثبت لأن كان لكل واحد منهما وارث غير صاحبه لم يرثه لأنه منازع في الميراث ولم يثبت نسبه

فصل : وإذا أثبت النسب بالإقرار ثم أنكر المقر
وإذا ثبت النسب بالإقرار ثم أنكر المقر لم يقبل إنكاره لأنه نسب ثبت بحجة شرعية فلم يزل بإنكاره كما لو ثبت ببينة أو بالفراش وسواء كان المقر به غير مكلف أو مكلفا فصدق المقر ويحتمل أن يسقط نسب المكلف بإتفاقهما على الرجوع عنه لأنه ثبت بإتفاقهما فزال برجوعهما كالمال والأول أصح لأنه نسب ثبت بالإقرار فأشبه نسب الصغير والمجنون وفارق المال لأن النسب يحتاط لإثباته

فصل : وإن اقرت المرأة بولد ولم تكن ذات زوج
فصل : وإن أقرت المرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولا نسب قبل إقرارها وإن كانت ذات زوج فهل يقبل إقرارها على روايتين إحداهما لا يقبل لأن فيه حملا لنسب الولد على زوجها ولم يقر به أو إلحاقا للعار بولادة امرأته من غيره والثانية : يقبل لأنها شخص أقر بولد يحتمل أن يكون منه فقبل كالرجل وقال أحمد في رواية ابن منصور : في إمرأة ادعت ولدا فإن كان لها أخوة أو نسب معروف فلا بد من أن يثبت أنه ابنها فإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبيه وهذا لأنها متى كانت ذات أهل فالظاهر أنه لا تخفى عليهم ولادتها فمتى ادعت ولدا لا يعرفونه فالظاهر كذبها ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقا لأن النسب يحتاط له فأشبهت الرجل

فصل : ولو قدمت إمرأة من بلد الروم معها طفل
فصل : ولو قدمت امرأة من بلد الروم معها طفل فأقر به رجل لحقه لوجود الإمكان وعدم المنازع لأنه يحتمل أن يكون دخل أرضهم أو دخلت هي دار الإسلام ووطئها والنسب يحتاط لإثباته ولهذا لو ولدت امرأة رجل وهو غائب عنها بعد عشرين سنة من غيبته لحقه وإن لم يعرف له قدوم إليها ولا عرف لها خروج من بلدها

فصل : وإن أقر بنسب صغير لم يكن مقرا بزوجية أمه
فصل : وإن أقر بنسب صغير لم يكن مقرا بزوجية أمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كانت مشهورة بالحرية كان مقرا بزوجيتها لأن أنساب المسلمين وأحوالهم يجب حملها على الصحة وذلك أن تكون ولدته منه في نكاح صحيح ولنا أن الزوجية ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه فلم يكن مقرا بها كما لو لم تكن معروفة بالحرية وما ذكروه لا يصح فإن النسب محمول على الصحة وقد يلحق بالوطء في النكاح الفاسد والشبهة فلا يلزمه بحكم إقراره ما لم يتضمنه لفظه ولم يوجبه

فصل : وإذا كان له أمة لها ثلاثة أولاد
فصل : وإذا كان له أمة لها ثلاثة أولاد لا زوج لها ولا أقر بوطئها فقال أحمد : هؤلاء ولدي فإقراره صحيح ويطالب بالبيان فإن عين أحدهم ثبت نسبه وحريته ثم يسئل عن كيفية الإستيلاد فإن قال : كان بنكاح فعلى الوالد الولاء لأنه قد مسه رق والأم وولداها الآخران رقيق قن وإن قال : استولدتها في ملكي فالمقر به حر الأصل لا ولاء عليه والأمة أم ولد ثم إن كان المقر به الأكبر فأخواه أبناء أم ولد حكمهما حكمها في العتق بموت سيدها وإن كان الأوسط فالأكبر قن والأصغر له حكم أمه وإن عين الأصغر فأخواه رقيق قن لأنها ولدتهما قبل الحكم بكونها أم ولد وإن قال : هو من وطء شبهة فالولد حر الأصل وأخواه مملوكان وإن مات قبل أن يبين أخذ ورثته بالبيان ويقوم ببيانهم مقام بيانه فإن بينوا النسب ولم يبينوا الإستيلاد ثبت النسب وحرية الولد ولم يثبت للأم ولا لولديها حكم الإستيلاد لأنه يحتمل أن يكون من نكاح أو وطء شبهة وإن لم يبينوا النسب وقالوا لا نعرف ذلك ولا الإستيلاد فانا نريه القافة فإن ألحقوا به واحدا منهم ألحقناه ولا يثبت حكم الإستيلاد لغيره فإن لم تكن قافة أقرع بينهم فمن وقعت له القرعة عتق وورث وبهذا قال الشافعي : إلا أنه لا يورثه بالقرعة
ولنا أنه حر استندت حريته إلى إقرار أبيه فورث كما لو عينه في إقراره

فصل : وإذا كان له امتان لكل واحدة منهما ولد
فصل : وإذا كان له أمتان كل واحدة منهما ولد فقال : أحد هذين ولدي من أمتي نظرت فإن كان لكل واحدة منهما زوج يمكن إلحاق الولد به لم يصح إقراره ولحق الولدان بالزوجين وإن كان لإحداهما زوج دون الأخرى انصرف الإقرار إلى ولد الأخرى لأنه الذي يمكن إلحاقه به وإن لم يكن لواحدة منهما زوج ولكن أقر السيد بوطئهما صارتا فراشا ولحق ولداهما به إذا أمكن أن يولد بعد وطئه وإن أمكن في إحداهما دون الأخرى انصرف الإقرار إلى من أمكن لأنه ولده حكما وإن لم يكن أقر بوطء واحدة منهما صح إقراره وتثبت حرية المقر به لأنه أقر بنسب صغير مجهول النسب مع الإمكان لا منازع له فيه فلحقه نسبه ثم يكلف البيان كما لو طلق إحدى نسائه فإذا بين قبل بيانه لأن المرجع في ذلك إليه ثم يطالب ببيان كيفية الولادة فإن قال : استولدتها في ملكي فالولد حر الأصل لا ولاء عليه وأمه أم ولد وإن قال : في نكاح فعلى الولد الولاء لأنه مسه رق والأمة قن لأنها علقت بمملوك وإن قال : بوطء شبهة فالولد حر الأصل والأمة قن لأنها علقت به في غير ملك وإن ادعت الأخرى إنها التي إستولدها فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الإستيلاد فأشبه ما لو ادعت ذلك من غير إقراره بشيء فإذا حلف رقت ورق ولدها وإذا مات ورثه ولده المقر به وإن كانت أمه قد صارت أم ولد عتقت أيضا وإن لم تصر أم ولد عتقت على ولدها إن كان هو الوارث وحده وإن كان معه غيره عتق منها بقدر ما ملك فإن مات قبل أن يبين قام وارثه مقامه في البيان لأنه يقوم مقامه في إلحاق النسب وغيره فإذا بين كان كما لو بين الموروث وإن لم يعلم الوارث كيفية الإستيلاد ففي الأمة وجهان : أحدهما : يكون رقيقا لأن الرق الأصل فلا يزول بالإحتمال والثاني : يعتق لأن الظاهر إنها ولدته في ملكه لأنه أقر بولدها وهي في ملكه وهذا منصوص الشافعي فإن لم يكن وارث أو كان وارث فلم يعين عرض على القافة فإن ألحقت به أحدهما ثبت نسبه وكان حكمه كما لو عين الوارث فإن لم تكن قافة أو كانت فلم تعرف أقرع بين الولدين فيعتق أحدهما بالقرعة لأن للقرعة مدخلا في إثبات الحرية وقياس المذهب ثبوت نسبه وميراثه على ما ذكرنا في التي قبلها وقال الشافعي : لا يثبت نسب ولا ميراث واختلفوا في الميراث فقال المزني : يوقف نصيب ابن لأننا تيقنا ابنا وارثا ولهم وجه آخر لا يوقف شيء لأنه لا يرجى انكشافه وقال أبو حنيفة : يعتق من كل واحد نصفه ويستسعى في باقيه ولا يرثان وقال ابن أبي ليلى : مثل ذلك إلا أنه يجعل الميراث بينهما نصفين ويدفعانه في سعايتهما والكلام على قسمة الحرية والسعاية يأتي في العتق إن شاء الله تعالى أ

مسألة : قال وكذلك إن أقر بدين على أبيه
مسألة : قال : وكذلك إن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه
وجملة ذلك أن الوارث إذا أقر بدين على موروثه قبل إقراره بغير خلاف نعلمه ويتعلق ذلك بتركة الميت كما لو أقر به الميت قبل موته فإن لم يخلف تركة لم يلزم الوارث بشيء لأنه لا يلزمه إداء دينه إذا كان حيا مفلسا فكذلك إذا كان ميتا وإن خلف تركة تعلق الدين بها فإن أحب الوارث تسليمها في الدين لم يلزمه إلا ذلك وإن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله فله ذلك ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها أو قدر الدين بمنزلة الجاني وإن كان الوارث واحدا فحكمه ما ذكرنا وإن كانا اثنين أو أكثر وثبت الدين بإقرار الميت أو ببينة أو إقرار جميع الورثة فكذلك وإذا اختار الورثة أخذ التركة وقضاء الدين من أموالهم فعلى كل واحد منهم من الدين بقدر ميراثه : وإن أقر أحدهم لزمه من الدين بقدر ميراثه والخيرة إليه في تسليم نصيبه في الدين أو استخلاصه وإذا قدره من الدين فإن كانا اثنين لزمه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وبهذا قال النخعي و الحسن و الحكم و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و الشافعي في أحد قوليه وقال أصحاب الرأي : يلزمه جميع الدين أو جميع ميراثه وهذا آخر قولي الشافعي رجع إليه بعد قوله كقولنا لأن الدين يتعلق بتركته فلا يستحق الوارث منها إلا ما فضل من الدين لقول الله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } ولأنه يقول ما أخذه المنكر أخذه بغير استحقاق فكان غاصبا فتعلق الدين بما بقي من التركة كما لو غصبه أجنبي ولنا أنه لا يستحق أكثر من نصف الميراث فلا يلزمه أكثر من نصف الدين كما لو أقر أخوه ولأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يجب عليه إلا ما يخصه كالإقرار بالوصية وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ولأنه حق لو ثبت ببينة أو قول الميت أو إقرار الوارثين لم يلزمه إلا نصفه فلم يلزمه بإقراره أكثر من نصفه كالوصية ولأن شهادته بالدين مع غيرة تقبل ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا

فصل : إذا ادعى بفلان دارا بينهما ملكاها
فصل : إذا ادعى رجلان دارا بينهما ملكاها بسبب يوجب الإشتراك مثل أن يقولا ورثناها أو ابتعناها معا فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما فذلك لهما جميعا لأنهما اعترفا أن الدار لهما مشاعة فإذا غصب غاصب نصفها كان منهما والباقي بينهما وإن لم يكونا ادعيا شيئا يقتضي الإشتراك بل ادعى كل واحد منهما نصفها فأقر لأحدهما بما ادعاه لم يشاركه الآخر وكان على خصومته لأنهما لم يعترفا بالإشتراك فإن أقر لأحدهما بالكل وكان المقر له يعترف للآخر بالنصف سلمه إليه وكذلك إن كان قد تقدم إقراره بذلك وجب تسليم النصف إليه لأن الذي هي في يده قد اعترف له بها فصار بمنزلته فيثبت لمن يقر له وإن لم يكن اعترف للآخر وادعى جميعها أو ادعى أكثر من النصف فهو له فإن قيل فكيف يملك جميعها ولم يدع إلا نصفها قلنا ليس من شرط صحة الإقرار تقدم الدعوى بل متى أقر الإنسان بشيء فصدقه المقر له ثبت وقد وجد التصديق ههنا في النصف الذي لم يسبق دعواه ويجوز أن يكون اقتصر على دعوى ألف لأن له حجة به أو لأن النصف الآخر قد اعترف لهبه فادعى النصف الذي لم يعترف به فإن لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه ولم يعترف به فإن لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه ولم يعترف به للآخر ففيه ثلاثة أوجه أحدهما : يبطل الإقرار به لأنه أقر به لمن لا يدعيه الثاني : ينزعه الحاكم من يده حتى يثبت لمدعيه ويؤجره ويحفظ أجرته لمالكه والثالث : يدفع إلى مدعيه لعدم المنازع فيه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كنحو ما ذكرنا

مسألة : قال وكل من قلت القول قوله فلخصمه عليه اليمين
مسألة : قال : وكل من قلت القول قوله فلخصمه عليه اليمين
يعني في هذا الباب وفيما أشبه مثل أن يقول عندي ألف ثم قال : وديعة أو قال : علي ثم قال : وديعة أو قال : له عندي رهن فقال المالك وديعة ومثل الشريك والمضارب والمنكر للدعوى وإذا اختلفا في قيمة الرهن أو قدره أو قدر الدين الذي الرهن به وأشباه هذا فكل من قلنا القول قوله فعليه لخصمه اليمين لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم ولأن اليمين شرع في حق من ظهر صدقه وقوي جانبه تقوية لقوله وإستظهارا والذي جعل القول قوله كذلك فيجب أن تشرع اليمين في حقه

فصل : إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة أو رهن
فصل : إذا أقر أنه وهب وأقبض الهبة أو رهن وأقبض أو أنه قبض المبيع أو أجر المستأجر ثم أنكر ذلك وسال أحلاف خصمه ففيه روايتان إحداهما : لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة و محمد لأن دعواه تكذيب لإقراره فلا تسمع كما لو أقر المضارب أنه ربح ألفا ثم قال : غلطت ولأن الإقرار أقوى من البينة ولو شهدت البينة فقال : أحلفوه لي مع بينته لم يستحلف كذا ههنا والثانية : يستحلف وهو قول الشافعي و أبي يوسف لأن العادة جارية بالإقرار قبل القبض فيحتمل صحة ما قاله فينبغي أن يستحلف خصمه لنفي الإحتمال ويفارق الإقرار بالبينة لوجهين أحدهما : إن العادة جارية بالإقرار بالقبض ولم تجر العادة بالشهادة على القبض قبله لأنها تكون شهادة زور والثاني : إن إنكاره مع الشهادة طعن في البينة وتكذيب لها وفي الإقرار بخلافه ولم يذكر القاضي في المجرد غير هذا الوجه وكذلك لو أقر أنه إقترض منه ألفا وقبضها أو قال : له علي ألف ثم قال : ما كنت قبضتها وإنما أقررت لأقبضها فالحكم كذلك ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بقبض ذلك بناء على قول وكيله وظنه والشهادة لا تجوز إلا على اليقين فأما إن أقر أنه وهبه طعاما ثم قال : ما أقبضتكه وقال : المتهب بل إقبضتنيه فالقول قول الواهب لأن الأصل عدم القبض وإن كانت في يد المتهب فقال : إقبضتنيها فقال : بل أخذتها مني بغير إذني فالقول قول الواهب أيضا لأن الأصل عدم الإذن وإن كانت حين الهبة في يد المتهب لم يعتبر إذن الواهب وإنما يعتبر مضي مدة يتأتى القبض فيها وعلى من قلنا القول قوله منهما اليمين لما ذكرنا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

مسألة : قال والإقرار بدين في مرض موته
مسألة : قال : والإقرار بدين في مرض موته كالإقرار في الصحة إذا كان لغير وارث
هذا ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : إجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز وحكى أصحابنا رواية أخرى إنه لا يقبل لأنه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار لوارث وقال أبو الخطاب : فيه رواية أخرى إنه لا يقبل إقراره بزيادة على الثلث لأنه ممنوع من عطية ذلك للأجنبي كما هو ممنوع من عطية الوارث فلا يصح إقراره بما لا يملك عطيته بخلاف الثلث فما دون ولنا أنه إقرار غير متهم فيه فقبل كالإقرار في الصحة يحققه أن حالة المرض أقرب إلى الإحتياط لنفسه وإبراء ذمته وتحري الصدق فكان أولى بالقبول وفارق الإقرار للوارث لأنه متهم فيه على ما سنذكره

فصل : فإن أقر لأجنبي بدين في مرضه وعليه دين
فصل : فإن أقر لأجنبي بدين في مرضه وعليه دين ثبت ببينة أو قرار في صحته وفي المال سعة لهما فهما سواء وإن ضاق عن قضائهما فظاهر كلام الخرقي إنهما سواء وهو إختيار التميمي وبه قال مالك و الشافعي و أبو ثور وذكر أبو عبيد أنه قول أكثر أهل المدينة لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال لم يختص أحدهما برهن فاستويا كما لو ثبتا ببينة وقال أبو الخطاب لا يحاص غرماء الصحة وقال القاضي : هو قياس المذهب لنص أحمد في المفلس إنه إذا أقر وعليه دين ببينة يبدأ بالدين الذي بالبينة وبهذا قال النخعي و الثوري وأصحاب الرأي لأنه أقر بعد تعلق الحق بتركته فوجب أن لا يشارك المقر له من ثبت دينه ببينة كغريم المفلس الذي أقر له بعد الحجر عليه والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع ومن الإقرار لوارث ولأنه محجور عليه ولهذا لا تنفذ هباته وتبرعاته فلم يشارك من أقر له قبل الحجر ومن ثبت دينه ببينة كالذي أقر له المفلس وإن أقر لهما جميعا في المرض تساويا ولم يقدم السابق منهما لأنهما استويا في الحال فأشبها غريمي الصحة

مسألة : قال وإن أقر كوارث لم يلزم باقي الورثة قبوله
مسألة : قال : وإن أقر لوارث لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة
وبهذا قال شريح و أبو هاشم و ابن أذينة و النخعي و يحيى الأنصاري و أبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم وسالم وقال عطاء و الحسن و إسحاق و أبو ثور : يقبل لأن من صح الإقرار له في الصحة صح في المرض كالأجنبي ول الشافعي قولان كالمذهبين وقال مالك : يصح إذا لم يتهم ويبطل أن أتهم كمن له بنت وابن عم فاقر لإبنته لم يقبل وإن أقر لابن عمه قبل لأنه لا يتهم في أنه يزوي إبنته ويوصل المال إلى ابن عمه وعلة منع الإقرار التهمة فاختص المنع بموضعها ولنا أنه إيصال لما له إلى وارثه بقوله في مرض موته فلم يصح بغير رضي بقية ورثته كهبته ولأنه محجور عليه في حقه فلم يصح إقراره له كالصبيفي حق جميع الناس وفارق الأجنبي فإن هبته له تصح وما ذكره مالك لا يصح فإن التهمة لا يمكن إعتبارها بنفسها فوجب إعتبارها بمظنتها وهو الإرث وكذلك إعتبر في الوصية والتبرع وغيرهما

فصل : وإن أقر لإمرأته بمهر مثلها أو دونه صح
فصل : وإن أقر لإمرأته بمهر مثلها أو دونه صح في قولهم جميعا لا نعلم فيه مخالفا إلا الشعبي قال : لا يجوز إقراره لها لأنه إقرار لوارث ولنا أنه إقرار بما تحقق سببه وعلم وجوده ولم تعلم البراءة منه فأشبه ما لو كان عليه دين ببينة فأقر بأنه لم يوفه وكذلك إن اشترى من وارثه شيئا فأقر له بثمن مثله لأن القول قول المقر له في أنه لم يقبض ثمنه وإن أقر لإمرأته بدين سوى الصداق لم يقبل وإن أقر لها ثم أبانها ثم رجع تزوجها ومات في مرضه لم يقبل إقراره لها وقال محمد بن الحسن يقبل لأنها صارت إلى حال لا يتهم فيها فأشبه ما لو أقر المريض ثم برأ ولنا أنه إقرار لوارث في مرض الموت أشبه ما لو لم يبنها وفارق ما إذا صح من مرضه لأنه لا يكون مرض الموت

فصل : وإن أقر لوارث فصار غير وارث كرجل
فصل : وإن أقر لوارث فصار غير وارث كرجل أقر لأخيه ولا ولد له ثم ولد له ابن لم يصح إقراره له وإن أقر لغير وارث ثم صار وارثا صح إقراره له نص عليه أحمد في رواية ابن منصور إذا أقر لإمرأة بدين في المرض ثم تزوجها جاز إقراره لأنه غير متهم وحكي له قول سفيان في رجل له إبنان فأقر لأحدهما بدين في مرضه ثم مات الإبن وترك إبنا والأب حي ثم مات بعد ذلك جاز إقراره فقال أحمد : لا يجوز وبهذا قال عثمان التي وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الصورتين مخالفة لما قلنا وهو قول سفيان الثوري و الشافعي لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فكان الإعتبار فيه بحالة الموت كالوصية ولنا أنه قول تعتبر فيه التهمة فاعتبرت حال وجوده دون غيره كالشهادة ولأنه إذا أقر لغير وارث ثبت الإقرار وصح لوجوده من أهله خاليا عن تهمة فيثبت الحق به ولم يوجد مسقط له فلا يسقط وإذا أقر لوارث وقع باطلا لاقتران التهمة به فلا يصح بعد ذلك ولأنه إقرار لوارث فلم يصح كما لو إستمر الميراث وإن أقر لغير وارث صح واستمر كما لو إستمر عدم الإرث أما الوصية فإنها عطية بعد الموت فاعتبرت فيها حالة الموت بخلاف مسألتنا

فصل : وإن أقر لوارث وأجنبي يصل في حق الوارث
فصل : وإن أقر لوارث وأجنبي بطل في حق الوارث وصح في حق الأجنبي ويحتمل أن لا يصح في حق الأجنبي كما لو شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل وكما لو شهد لإبنه وأجنبي وقال أبو حنيفة : إن أقر لهما بدين من الشركة فاعترف الأجنبي بالشركة صح الإقرار لهما وإن جحدها صح له دون الوارث ولنا أنه أقر لوارث وأجنبي فيصح للأجنبي دون الوارث كما لو أقر بلفظين أو كما جحد الأجنبي الشركة وبفارق الإقرار الشهادة لقوة الإقرار ولذلك لا تعتبر فيه العدالة ولو أقر بشيء له فيه نفع كالإقرار بنسب موسر قبل ولو أقر بشيء يتضمن دعوى على غيره قبل فيما عليه دون ماله كما لو قال لإمرأته خلعتك على ألف بانت بإقراره والقول قولها في نفي العوض وإن قال لعبده : إشتريت نفسك مني بألف فكذلك

فصل : ويصح إقرار المريض بوارث
فصل : ويصح إقرار المريض بوارث في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه إقرار لوارث فأشبه الإقرار له بمال والأول أصح لأنه عند الإقرار غير وارث فصح كما لو لم يصر وارثا ويمكن بناء هذه المسألة على ما إذا أقر لغير وارث ثم صار وارثا فمن صحح الإقرار ثم صححه ههنا ومن أبطله أبطله وإن ملك إبن عمه فأقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته عتق ولم يرثه لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته وإذا بطلت الحرية سقط الإرث فصار توريثه سببا إلى إسقاط توريثه فأسقطنا التوريث وحده ويحتمل أن يرث لأنه حين الإقرار غير وارث فصح إقراره له كالمسألة قبلها

فصل : ويصح الإقرار من المريض بأحبال الأم
فصل : ويصح الإقرار من المريض بأحبال الأمة لأنه يملك ذلك فملك الإقرار به وكذلك كل ما ملكه ملك الإقرار به فإذا أقر بذلك ثم مات فإن بين إنه إستولدها في ملكه فولده حر الأصل وأمه أم ولد تعتق من رأس المال وإن قال من نكاح أو وطء شبهة لم تصر الأمة أم ولد وعتق الولد فإن كان من نكاح فعليه الولاء لأنه مسه رق وإن قال : من وطء شبهة لم تصر الأمة أم ولد وإن لم يتبين السبب فالأمة مملوكة لأن الأصل الرق ولم يثبت سبب الحرية ويحتمل أن تصير أم ولد لأن الظاهر إستيلادها في ملكه من قبل إنها مملوكته والولادة موجودة ولا ولاء على الولد لأن الأصل عدمه فلا يثبت إلا بدليل

فصل : الألفاظ التي يثبت بها الإقرار
فصل : في الألفاظ التي يثبت بها الإقرار إذا قال : له علي ألف أو قال له : لي عليك ألف فقال نعم أو أجل أو صدقت أو لعمري أو أنا مقر به أو بما ادعيت أو بدعواك كان مقرا في جميع ذلك لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق قال الله تعالى : { هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ قالوا : نعم } وإن قال أليس لي عندك ألف ؟ قال : بلى كان إقرارا صحيحا لأن بلى جواب للسؤال بحرف النفي قال الله تعالى : { ألست بربكم قالوا : بلى } وإن قال : لك علي ألف في علمي أو فيما أعلم كان مقرا به لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب وإن قال : إقضني الألف الذي لي عليك قال نعم كان مقرا به لأنه تصديق لما إدعاه وإن قال : إشتر عبدي هذا أو أعطني عبدي هذا فقال : نعم كان إقرارا لما ذكرنا وإن قال : لك علي ألف إن شاء الله تعالى كان مقرا به نص عليه أحمد وقال : أصحاب الشافعي : ليس بإقرار لأنه علق إقراره على شرط فلم يصح كما لو علقه على مشيئة زيد ولأن ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته
ولنا أنه وصل إقراره بما يرفعه كله ولا يصرفه إلى غير الإقرار فلزمه ما أقر به وبطل ما وصله به كما لو قال : له علي ألف إلا ألفا ولأنه عقب الإقرار بما لا يفيد حكما آخر ولا يقتضي رفع الحكم أشبه ما لو قال : له علي ألف في مشيئة الله تعالى وإن قال : له علي ألف إلا أن يشاء الله صح الإقرار لأنه أقر ثم علق رفع الإقرار على أمر لا يعلم فلم يرتفع وإن قال : لك علي ألف إن شئت أو إن شاء زيد لم يصح الإقرار وقال القاضي : يصح لأنه عقبه بما يرفعه فصح الإقرار دون ما يرفعه كاستثناء الكل وكما لو قال إن شاء الله
ولنا أنه علقه على شرط يمكن علمه فلم يصح كما لو قال : له علي ألف إن شهد بها فلان وذلك لأن الإقرار إخبار بحق سابق فلا يتعلق على شرط مستقبل ويفارق التعليق على مشيئة الله تعالى فإن مشيئة الله تعالى تذكر في الكلام تبركا وصلة وتفويضا إلى الله تعالى لا للإشتراط كقول الله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم } وقد علم الله أنهم سيدخلون بغير شك ويقول الناس صلينا إن شاء الله تعالى مع تيقنهم صلاتهم بخلاف مشيئة الآدمي الثاني : إن مشيئة الله تعالى لا تعلم إلا بوقوع الأمر فلا يمكن وقف الأمر على وجودها ومشيئة الآدمي يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطا بتوقف الأمر على وجودها والماضي لا يمكن وقفه فيتعين حمل الأمر ههنا على المستقبل فيكون وعدا لا إقرارا وإن قال : بعتك إن شاء الله تعالى أو زوجتك إن شاء الله تعالى فقال أبو إسحاق بن شاقلا لا أعلم خلافا عنه في أنه إذا قيل : له قبلت هذا النكاح ؟ فقال نعم إن شاء الله تعالى إن النكاح وقع به قال أبو حنيفة : ولو قال : بعتك بألف إن شئت فقال : قد شئت وقبلت صح لأن هذا الشرط من موجب العقد ومقتضاه فإن الإيجاب إذا وجد من البائع كان القبول إلى مشيئة المشتري وإختياره وإن قال : له علي ألفان إن قدم فلان لم يلزمه لأنه لم يقر بها في الحال وما لا يلزمه في الحال لا يصير واجبا عند وجود الشرط وإن قال : إن شهد فلان علي لك بألف صدقته لم يكن إقرارا لأنه يجوز أن يصدق الكاذب وإن قال : إن شهد بها فلان فهو صادق إحتمل أن لا يكون إقرارا لأنه علقه على شرط فأشبهت التي قبلها واحتمل أن يكون إقرارا في الحال لأنه يتصور صدقه إذا شهد بها إلا أن تكون ثابتة في الحال وقد أقر بصدقه وإن قال : له علي ألف إن شهد بها فلان لم يكن إقرارا لأنه معلق على شرط

فصل : وإن قال لي عليك ألف فقال أقر
فصل : وإن قال : لي عليك ألف فقال : أنا أقر لم يكن إقرارا لأنه وعد بالإقرار في المستقبل وإن قال : لا أنكر لم يكن إقرارا لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار فإن بينهما قسما آخر وهو السكوت عنهما وإن قال : لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا لذلك وإن قال : أنا مقر ولم يزد أحتمل أن يكون مقرا لأن ذلك عقيب الدعوى فينصرف إليها وكذلك إن قال : أقررت قال الله تعالى : { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا } ولم يقوموا أقررنا بذلك ولا زادوا عليه فكان منهم إقرارا واحتمل أن لا يكون مقرا لأنه يحتمل أن يريد غير ذلك مثل أن يريد أنا مقر بالشهادة أو ببطلان دعواك وإن قال : لعل أو عسى لم يكن مقرا لأنهما للترجي وإن قال : أظن أو أحب أو أقدر لم يكن إقرارا لأن هذه الألفاظ تستعمل للشك وإن قال : خذ أو إتزن لم يكن مقرا لأنه يحتمل خذ الجواب أو إتزن شيئا آخر وإن قال : خذها أو إتزنها أو هي صحاح ففيه وجهان أحدهما : ليس بإقرار لأن الصفة ترجع إلى المدعى ولم يقر بوجوبه ولأنه يجوز أن يعطيه ما يدعيه من غير أن يكون واجبا عليه فأمره بأخذها أولى أن لا يلزم منه الوجوب والثاني : يكون إقرارا لأن الضمير يعود إلى ما تقدم وإن قال : له علي ألف إذا جاء رأس الشهر أو إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فقال أصحابنا : الأول إقرار والثاني ليس بإقرار وهذا منصوص الشافعي لأنه في الأول بدأ بالإقرار والثاني ليس بإقرار ثم عقبه بما لا يقتضي رفعه لأن قوله إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المحل فلا يبطل الإقرار بأمر محتمل وفي الثاني بدأ بالشرط فعلق عليه لفظا يصلح للإقرار ويصلح للوعد فلا يكون إقرارا مع الإحتمال ويحتمل أنه لا فرق بينهما لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء فيكون فيهما جميعا وجهان

مسألة : قال والعارية مضمونة وإن لم يتعد فيها المستعير
كتاب العارية
مسألة : قال : والعارية مضمونة وإن لم يتعد فيها المستعير
العارية إباحة الإنتفاع بعين من أعيان المال مشتقة من عار الشيء إذا ذهب وجاء ومنه قيل للبطال عيار لتردده في بطالته والعرب تقول إعارة وعاره مثل أطاعه وطاعه والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع : أما الكتاب فقول الله تعالى : { ويمنعون الماعون } روي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا العواري وفسرها ابن مسعود فقال : القدر والميزان والدلو وأما السنة فما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في خطب عام حجة الوداع : العارية مؤداة والدين مقضي والمنحة مردودة والزعيم غارم ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب و [ روى صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه و سلم إستعار منه أدراعا يوم حنين فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة ] رواه أبو داود
وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها ولأنه لما جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ولذلك صحت الوصية بالأعيان والمنافع جميعا إذا ثبت هذا فإن العارية مندوب إليها وليست واجب في قول أكثر أهل العلم وقيل هي واجبة للآية ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها الحديث قيل يا رسول الله وما حقها ؟ قال : إعارة دلوها وإطراق فحلها ومنحة لبنها يوم وردها ] فذم الله تعالى مانع العارية وتوعده رسول الله صلى الله عليه و سلم بما ذكر في خبره
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ] رواه ابن المنذر وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه قال : [ ليس في المال حق سوى الزكاة ] و [ في حديث الأعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ماذا فرض الله علي من الصدقة ؟ قال : الزكاة فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع شيئا ] أو كما قال والآية فسرها ابن عمر والحسن البصري بالزكاة وكذلك زيد بن أسلم وقال عكرمة : إذا جمع ثلاثتها فله الويل إذا سها عن الصلاة وراءى ومنع الماعون ويجب رد العارية إن كانت باقية بغير خلاف ويجب ضمانها إن كانت تالفة تعدى فيها المستعير أو لم يتعد روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وإليه ذهب عطاء و الشافعي و إسحاق وقال الحسن و النخعي و الشعبي وعمر بن عبد العزيز و الثوري و أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي و ابن شبرمة : هي أمانة لا يجب ضمانها إلا بالتعدي لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على المستعير غير المغل ضمان ولأنه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة ] قالوا وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ العارية مؤداة ] يدل على أنها أمانة لقول الله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث صفوان : بل عارية مضمونة وروى الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ على اليد ما أخذت حتى تؤديه ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن غريب ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفردا بنفعه من غير إستحقاق ولا إذن في الإتلاف فكان مضمونا كالغاصب والمأخوذ على وجه السوم وحديثهم يرويه عمر بن عبد الجبار عن عبيد بن حسان بن عمرو بن شعيب وعمر وعبيد ضعيفان قاله الدارقطني ويحتمل أنه أراد ضمان المنافع والأجزاء وقياسهم منقوض بالمقبوض على وجه السوم

فصل : وإن شرط ففي الضمان لم يسقط
فصل : وإن شرط نفي الضمان لم يسقط وبهذا قال الشافعي وقال أبو حفص العكبري يسقط قال أبو الخطاب : أومأ إليه أحمد وهو قول قتادة و العنبري لأنه لو أذن في إتلافها لم يجب ضمانها فكذلك إذا أسقط ضمانها وقيل بل مذهب قتادة و العنبري إنها لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها فيجب لقول النبي صلى الله عليه و سلم لصفوان بل عارية مضمونة
ولنا أن كل عقد إقتضى الضمان لم يغيره الشرط كالمقبوض ببيع صحيح أو فاسد وما إقتضى الأمانة فكذلك كالوديعة والشركة والمضاربة والذي كان من النبي صلى الله عليه و سلم اخبار بصفة العارية وحكمها وفارق ما إذا أذن في الإتلاف فإن الإتلاف فعل يصح الإذن فيه ويسقط حكمه إذ لا ينعقد موجبا للضمان مع الإذن فيه وإسقاط الضمان ههنا نفي للحكم مع وجود سببه وليس ذلك للمالك ولا يملك الإذن فيه

فصل : وإذا انتفع بها وردها على صفتها
فصل : وإذا انتفع بها وردها على صفتها فلا شيء عليه لأن المنافع مأذون في إتلافها فلا يجب عوضها وإن تلف شيء من أجزائها التي لا تذهب بالاستعمال فعليه ضمانها لأن ما ضمن جملته ضمنت أجزاؤه كالمغضوب وأما أجزاؤها التي تذهب بالإستعمال كحمل المنشفة والقطيفة وخف الثوب بلبسه ففيه وجهان أحدهما : يجب ضمانه لأنها أجزاء عين مضمونة كما لو كانت مغصوبة ولأنها أجزاء يجب ضمانها لو تلفت العين قبل إستعمالها فتضمن إذا تلفت وحدها كسائر الأجزاء والثاني : لا يضمنها وهو قول الشافعي لأن الإذن في الإستعمال تضمنه فلا يجب ضمانه كالمنافع وكما لو أذن في إتلافها صريحا وفارق ما إذا تلفت العين قبل إستعمالها لأنه لا يمكن تمييزها من العين ولأنه إنما إذن في إتلافها على وجه الانتفاع فإذا تلفت العين قبل ذلك فقد فاتت على غير الوجه الذي أذن فيه فضمنها كما لو أجر العين المستعارة فإنه يضمن منافعها فإذا قلنا لا يضمن الأجزاء فتلفت العين بعد ذهابها بالإستعمال فإنها تقوم حال التلف لأن الأجزاء التالفة تلفت غير مضمونة لكونها مأذونا في إتلافها فلا يجوز تقويمها عليه وغن قلنا يجب ضمان الأجزاء قومت العين قبل تلف أجزائها وإن تلفت العين قبل ذهاب أجزائها ضمنها كلها بأجزائها وكذلك لو تلفت الأجزاء بإستعمال غير مأذون فيه مثل أن يعيره ثوبا ليلبسه فحمل فيه ترابا فإنه يضمن نقصه ومنافعه لأنه تلف بتعديه وإن تلف بغير تعد منه ولا إستعمال كتلفها لطول الزمان عليها ووقوع نار عليها فينبغي أن يضمن ما تلف منها بالنار ونحوها لأنه تلف لم يتضمنه الإستعمال المأذون فيه فأشبه تلفها بفعل غير مأذون فيه وما تلف بمرور الزمان عليه يكون حكمه حكم ما تلف بالإستعمال لأنه تلف بالإمساك المأذون فيه فأشبه تلفه بالفعل المأذون فيه

فصل : فأما ولد العارية فلا يجب ضمانه
فصل : فأما ولد العارية فلا يجب ضمانه في أحد الوجهين لأنه لم يدخل في الإعارة فلم يدخل في الضمان ولا فائدة للمستعير فيه فأشبه الوديعة ويضمنه في الآخر لأنه ولد عين مضمونة فيضمن كولد المغصوبة الأول أصح فإن ولد المغصوبة لايضمن إذا لم يكن مغصوبا وكذلك ولد العارية إذا لم يوجد مع أمه وإنما يضمن ولد المغصوبة إذا كان مغصوبا فلا أثر لكونه ولدا لها

فصل : ويجب ضمان العين بمثلها
فصل : ويجب ضمان العين بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال فإن لم تكن مثلية ضمنها بقيمتها يوم تلفها إلا على الوجه الذي يجب فيه ضمان الأجزاء التالفة بالإنتفاع المأذون فيه فإنه يضمنها بقيمتها قبل تلف أجزائها إن كانت قيمتها حينئذ أكثر وإن كانت أقل ضمنها بقيمتها يوم تلفها على الوجهين جميعا

فصل : وإن كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير
فصل : وإن كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير أو وكيله في قبضها ويبرأ بذلك من ضمانها وإن ردها إلى المكان الذي أخذها منه أو إلى ملك صاحبها لم يبرأ من ضمانها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يبرأ لأنها صارت كالمقبوضة فإن رد العواري في العادة يكون إلى أملاك أربابها فيكون مأذونا فيه من طريق العادة
ولنا أنه يردها إلى مالكها ولا نائبه فيها فلم يبرأ منها كما لو دفعها إلى أجنبي وما ذكره يبطل بالسارق إذا رد المسروق إلى الحرز ولا تعرف العادة التي ذكرها وإن ردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يديه كزوجته المتصرفة في ماله ورد الدابة إلى سائسها فقياس المذهب أنه يبرأ قاله القاضي لأن أحمد قال في الوديعة إذا سلمها المودع إلى امرأته لم يضمنها ولأنه مأذون في ذلك عرفا أشبه ما لو أذن فيه لطفا ومؤنة الرد على المستعير لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العارية مؤداة ] وقوله : [ على اليد ما أخذت حتى تؤديه ] وعليه ردها إلى الموضع الذي أخذها منه إلا أن يتفقا على ردها إلى غيره لأن ما وجب رده لزم رده إلى موضعه كالمغصوب

فصل : ولا تصح العارية إلا من جائز التصرف
فصل : ولا تصح العارية إلا من جائز التصرف لأنه تصرف في المال فأشبه التصرف بالبيع وتعقد بكل فعل أو لفظ يدل عليها مثل قوله أعرتك هذا أو يدفع إليه شيئا ويقول أبحتك الإنتفاع به أو خذ هذا فانتفع به أويقول أعرني هذا أو أعطنيه أركبه أو أحمل عليه ويسلمه إليه وأشباه هذا لأنه إباحة للتصرف فصح بالقول والفعل الدال عليه كإباحة الطعام بقوله وتقديمه إلى الضيف

فصل : وتجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة
فصل : وتجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها على الدوام كالدور والعقار والعبيد والجواري والدواب والثياب والحلي للبس والفحل للضراب والكلب للصيد وغير ذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم إستعار أدراعا وذكر غعارة دلوها وفحلها وذكر ابن مسعود عارية القدر والميزان فيثبت الحكم في هذه الأشياء وما عداها مقيس عليها إذا كان في معناها ولأن ما جاز للمالك إستيفاؤه من المنافع ملك إباحته إذا لم يمنع منه مانع كالثياب ولأنها أعيان تجوز إجارتها فجازت إعارتها كالثياب ويجوز إستعارة الدراهم والدنانير ليزن بها فإن استعارها لينفقها فهذا قرض وهذا قول أصحاب الرأي وقيل ليس هذا جائز ولا تكون العارية في الدنانير وليس له أن يشتري بها شيئا ولنا أن هذا معنى القرض فانعقد القرض به كما لو صرح به

فصل : ولا تجوز إعارة العبد المسلم الكافر
فصل : ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز تمكينه من إستخدامه فلم تجز إعارته لذلك ولا إعارة الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه ولا إعارة المرأة الجميلة لرجل غير محرمها إن كان يخلو بها أو ينظر إليها لأنه لا يؤمن عليها وتجوز إعارتها لإمرأة ولذي محرمها ولا تجوز إعارة العين لنفع محرم كإعارة الدار لمن يشرب فيها الخمر أو يبيعه فيها أو يعصي الله تعالى فيها ولا إعارة عبده للزمر أو ليسقيه الخمر أو يحملها له أو يعصرها أو نحو ذلك ويكره أن يستعير والديه لخدمته لأنه يكره له إستخدامهما فكره إستعارتهما لذلك

فصل : وتجوز الإعارة مطلقا ومعتبرا
فصل : وتجوز الإعارة مطلقا ومقيدا لأنها إباحة فجاز فيها ذلك كإباحة الطعام ولأن الجهالة إنما تؤثر في العقود اللازمة فإذا أعاره شيئا مطلقا أبيح له الإنتفاع به في كل ما هو مستعد له من الإنتفاع به فإذا أعاره مطلقا فله أن يزرع فيها ويغرس ويبني ويفعل فيها كل ما هي معدة له من الإنتفاع لأن الإذن مطلق وإن أعاره للغراس أو للبناء فله أن يزرع فيها ما شاء لأن ضرره دون ضررهما فكأنه استوفى بعض ما أذن له فيه وإن استعارها للزرع لم يغرس ولم يبن لأن ضررهما أكثر فلم يكن الإذن في القليل إذا في الكثير وإن إستعارها للغراس أو للبناء ملك المأذون فيه منهما دون الآخر لأن ضررهما مختلف فإن ضرر الغراس في باطن الأرض لانتشار العروق فيها وضرر البناء في ظاهرها فلم يكن الإذن في أحدهما إذنا في الآخر وإن استعارها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما هو أقل ضررا منها كالشعير والباقلا والعدس وله زرع ما ضرره كضرر الحنطة لأن الرضى بزراعة شيء رضى بضرره وما هو دونه وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه كالذرة والدخن والقطن لأن ضرره أكثر وحكم إباحة الإنتفاع في العارية كحكم الإنتفاع في الإجارة فيما له أن يستوفيه وما يمنع منه وسنذكر في الإجارة تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى وإن أذن له في زرع مرة لم يكن له أن يزرع أكثر منها وإن أذن له في غرس شجرة فانقلعت لم يكن له غرس أخرى وكذلك إن أذن له في وضع خشبة على الحائط فانكسرت لم يملك وضع أخرى لأن الإذن إذا اختص بشيء لم يتجاوزه

فصل : وإن استعار شيئا فله استيفاء منفعته بنفسه
فصل : وإن استعار شيئا فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله لأن وكيله نائب عنه ويده كيده وليس له أن يؤجره لأنه لم يملك المنافع فلا يصح أن يملكها ولا نعلم في هذا خلافا ولا خلاف بينهم أن المستعير لا يملك العين وأجمعوا على أن للمستعير إستعمال المعار فيما أذن له فيه وليس له أن يعيره غيره وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا : في الآخر له ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنه يملكه على حسب ما ملكه فجاز كما للمستأجر أن يؤجر قال أصحاب الرأي : إذا استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبسه فهو ضامن وإن لم يسم من بلبسه فلا ضمان عليه وقال مالك : إذا لم يعمل بها إلا الذي كان يعمل بها الذي أعيرها فلا ضمان عليه ولنا أن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كإباحة الطعام وفارق الإجارة لأنه ملك الإنتفاع على كل وجه فملك أن يملكها وفي العارية لم يملكها إنما ملك إستيفاءها على وجه ما أذن له فأشبه من أبيح له أكل الطعام فعلى هذا إن أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل وله أن يطالب من شاء منهما لأن الأول سلطه غيره على أخذ مال غيره بغير إذنه والثاني استوفاه بغير إذنه فإن ضمن الأول رجع على الثاني لأن الإستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن ضمن الثاني لم يرجع على الأول إلا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل أن يستقر الضمان على الأول لأنه غر الثاني ودفع إليه العين على أنه يستوفي منافعها بغير عوض وإن تلفت العين في يد الثاني إستقر الضمان عليه بكل حال لأنه قبضها على أن تكون مضمونة عليه فإن رجع على الأول على الثاني وإن رجع على الثاني لم يرجع على أحد

فصل : وإن أعاره شيئا وأذن له في إجارته مدة معلومة
فصل : وإن أعاره شيئا وأذن له في إجارته مدة معلومة أو في إعارته مطلقا أو مدة جاز لأن الحق لمالكه فجاز ما أذن فيه وليس له الرجوع بعد عقد الإجارة حتى ينقضي لأن عقد الإجارة لازم وتكون العين مضمونة على المستعير غير مضمونة على المستأجر لأن عقد الإجارة لا يوجب ضمانا وإن أجره بغير إذن لم تصح الإجارة ويكون على المستأجر الضمان وللمالك تضمين من شاء منهما على ما ذكرنا في العارية

فصل : ويجوز أن يستعير عبدا يرهنه
فصل : ويجوز أن يستعير عبدا يرهنه قال ابن المنذر : أجمعوا على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه عند رجل على شيء معلوم إلى وقت معلوم فرهن ذلك على ما أذن له فيه أن ذلك جائز وذلك لأنه استعاره ليقضي به حاجته فصح كسائر العواري ولا يعتبر العلم بقدر الدين وجنسه لأن العارية لا يعتبر فيها العلم وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي : يعتبر ذلك لأن الضرر يختلف بذلك ولنا أنها عارية لجنس من النفع فلم تعتبر معرفة قدره كعارية الأرض للزرع ولا يصير المعير ضامنا للدين وقال الشافعي : في أحد قوليه يصير ضامنا له في رقبة عبده لأن العارية ما يستحق به منفعة العين والمنفعة ههنا للمالك فدل على أنه ضمان
ولنا أنه أعاره ليقضي منها حاجته فلم يكن ضامنا كسائر العواري وإنما يستحق بالعارية النفع المأذون فيه وما عداه من النفع فهو لمالك العين وإن عين المعير قدر الدين الذي يرهنه به وجنسه أو محلا تعين لأن العارية تتعين بالتعيين فإن خالفه في الجنس لم يصح لأنه عقد لم يأذن له فيه أشبه ما لو لم يأذن في رهنه وكذلك إذا أذن له في محل فخالفه فيه لأنه إذا أذن له في رهنه بدين مؤجل فرهنه بحال فقد لا يجد ما يفكه به في الحال وإن أذن في رهنه بحال فرهنه بمؤجل فلم يرض أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل لم يصح وإن رهنه بأكثر مما قدره له لم يصح لأن من رضي بقدر من الدين لم يلزم أن يرضى بأكثر منه وإن رهنه بأنقص منه جاز لأن من رضي بعشرة رضي بما دونها عرفا فأشبه من أمر بشراء شيء بثمن فاشتراه بدونه وللمعير مطالبة الراهن بفكاك الرهن في الحال سواء كان بدين حال أو مؤجل لأن للمعير الرجوع في العارية متى شاء وإن حل الدين فلم يفكه الراهن جاز بيعه في الدين لأن ذلك مقتضى الرهن فإذا بيع في الدين أو تلف رجع السيد على الراهن بقيمته لأن العارية تضمن بقيمتها وإن تلف بغير تفريط فلا شيء على المرتهن لأن الرهن لا يضمن من غير تعد وإن استعار عبدا من رجلين فرهنه بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما لم تخرج لأنه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه بقضاء بعض الدين كما لو كان العبد لواحد

فصل : وتجوز العارية مطلقة ومؤمنة لأنها إباحة
فصل : وتجوز العارية مطلقة ومؤقتة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وللمعير الرجوع في العارية أي وقت شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة ما لم يأذن في شغله بشيء يتضرر بالرجوع فيه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : إن كانت مؤقتة فليس له الرجوع قبل الوقت وإن لم تؤقت له مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها لأن المعير قد ملكه المنفعة في مدة وصارت العين في يده بعقد مباح فلم يملك الرجوع فيها بغير إختيار المالك كالعبد الموصى بخدمته والمستأجر
ولنا أن المنافع المستقبلية لم تحصل في يده فلم يملكها بالإعارة كما لو لم تحصل العين في يده وأما العبد الموصى بخدمته فللموصي الرجوع ولم يملك الورثة الرجوع لأن التبرع من غيرهم وأما المستأجر فإنه مملوك بعقد معاوضة فيلزم بخلاف مسألتنا ويجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه لأن إباحة فكان لمن أبيح له تركه كإباحة الطعام

فصل : وإذا أطلق المدة في العارية
فصل : وإذا أطلق المدة في العارية فله أن ينتفع بها ما لم يرجع وإن وقتها فله أن ينتفع ما لم يرجع أو ينقضي الوقت لأنه إستباح ذلك بالإذن ففيما عدا محل الإذن يبقى على أصل التحريم فإن كان المعار أرضا لم يكن له أن يغرس ولا يبني ولا يزرع بعد الوقت أو الرجوع فإن فعل شيئا من ذلك لزمه قلع غرسه وبنائه وحكمه حكم الغاصب في ذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ليس لعرق ظالم حق ] وعليه أجر ما استوفاه من نفع الأرض على وجه العدوان ويلزمه القلع وتسوية الحفر ونقص الأرض وسائر أحكام الغصب لأنه عدوان

فصل : فإن أعاره شيئا لينتفع به انتفاعا
فصل : فإن أعاره شيئا لينتفع به إنتفاعا يلزم من الرجوع في العارية في أثنائه ضرر بالمستعير لم يجز له الرجوع لأن الرجوع يضر بالمستعير فلم يجز له الإضرار به مثل أن يعيره لوحا يرقع به سفينته فرقعها به ولجج بها في البحر لم يجز الرجوع ما دامت في البحر وله الرجوع قبل دخولها في البحر وبعد الخروج منه لعدم الضرر فيه وإن أعاره أرضا ليدفن فيها فله الرجوع ما لم يدفن فيها فإذا دفن لم يكن له الرجوع ما لم يبل الميت وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه جاز كما تجوز إعارة الأرض للبناء والغراس وله الرجوع ما لم يضعه وبعد وضعه ما لم يبن عليه لأنه لا ضرر فيه فإن بنى عليه لم يجز الرجوع لما في ذلك من هدم البناء وإن قال : أنا أدفع إليك أرش ما نقص بالقلع لم يلزم المستعير ذلك لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه ولا يجب على المستعير قلع شيء من ملكه بضمان القيمة وإن انهدم الحائط وزال الخشب عنه أو أزاله المستعير باختياره لم يملك إعادته سواء بنى الحائط بآلته أو بغيرها لأن العارية لا تلزم وإنما امتنع الرجوع قبل إنهدامه لما فيه من الضرر بالمستعير بإزالة المأذون في وضعه وقد زال ذلك وكذلك إذا سقط الخشب والحائط بحاله وإن أعاره أرضا لزراعة شيء فله الرجوع ما لم يزرع فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى أن ينتهي الزرع فإن بذل له قيمة الزرع ليملكه لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأن له وقتا ينتهي إليه فإن كان مما يحصد قصيلا فله الرجوع في وقت أمكان حصاده لعدم الضرر فيه وإن لم يكن كذلك لم يكن له الرجوع حتى ينتهي وإن أذن له في البناء والغراس فيها فله الرجوع قبل قلعه فإذا غرس وبنى فللمالك الرجوع فيما بين الغراس والبناء لأنه لم يتعلق به ملك المستعير ولا ضرر عليه في الرجوع منه فأشبه ما لو لم يبن في الأرض شيئا ولم يغرس فيها ثم إن اختار المستعير أخذ بنائه وغراسه فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر ذكره القاضي لأن المستعير رضي بذلك حيث أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه ويحتمل أن عليه تسوية الحفر لأن القلع باختياره فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه فلزمه تسوية الحفر كما لو خرب أرضه التي لم يستعرها وإن أبى القلع فبذل له المعير ما ينقص بالقلع أو قيمة غراسه وبنائه قائما ليأخذه المعير أجير المستعير عليه لأنه رجوع في العارية من غير أضرار وإن قال المستعير : أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يكن له لأن الغراس تابع والأرض أصل ولذلك يتبعها الغراس والبناء في البيع ولا تتبعهما وبهذا كله قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان إلا أن يكون أعاره مدة معلومة فرجع فيها قبل انقضائها لأن المعير لم يعره فكان عليه القلع كما لو شرطه عليه
ولنا أنه بنى وغرس بإذن المعير من غيرشرط القلع فلم يلزمه القلع من غير ضمان كما لو طالبه قبل انقضاء الوقت وقولهم لم يعره ممنوع فإن الغراس والبناء يراد للتبقية وتقدير المدة ينصرف إلى إبتدائه كأنه قال له : لا تغرس بعد هذه المدة فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص وامتنع المستعير عن القلع ودفع الأجرة لم يقلع لأن الإغارة تقتضي الإنتفاع من غير ضمان والإذن فيما يبقى على الدوام وتضر إزالته رضا بالإبقاء وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ليس لعرق ظالم حق ] يدل بمفهومه على أن العرق الذي ليس بظالم له حق فعند ذلك إن اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها ودفع إلى كل واحد منهما قدر حقه فيقال : كم قيمة الأرض غير مغروسة ولا مبنية فإذا قيل : عشرة قلنا وكم تساوي مغروسة ومبنية ؟ فإن قالوا : خمسة عشر قلنا : فللمعير ثلثا الثمن وللمستعير ثلثه وإن امتنعا عن البيع بقيا على حالهما وللمعير دخول أرضه كيف شاء والإنتفاع بها بما لا يضر الغراس والبناء ولا ينتفع بهما وليس لصاحب الغراس والبناء الدخول إلا لحاجة مثل السقي وإصلاح الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن فيما يعود بصلاحه وأخذ ثماره وسقيه وليس له دخولها للتفرج لأنه قد رجع في الإذن له ولكل واحد منهما بيع ما يختص به من الملك منفردا فيكون للمشتري مثل ما كان لبائعه وقال بعض أصحاب الشافعي : ليس للمستعير بيع الشجر لأن ملكه فيه غير مستقر بدليل أن للمعير أخذه متى شاء بقيمته قلنا : عدم إستقراره لا يمنع بيعه بدليل الشقص المشفوع والصداق قبل الدخول وفي جميع هذه المسائل متى كان المعير شرط على المستعير القلع عند رجوعه ورد العارية غير مشغولة لزمه ذلك لأن المسلمين على شروطهم ولأن العارية مقيدة غير مطلقة فلم تتناول ما عدا المقيد لأن المستعير دخل في العارية راضيا بالتزام الضرر الداخل عليه بالقلع وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافا وإما تسوية الحفر الحاصلة بالقلع فإن كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا وإلا لم يلزم لأنه رضي بضرر القلع من الحفر ونحوه حيث إشترط القلع ولم يذكر أصحابنا على المستعير أجرا في شيء من هذه المسائل إلا فيما إذا استعار أرضا للزرع فزرعها ثم رجع المعير فيها قبل كمال الزرع فإن عليه أجر مثله من حين رجع المعير لأن الأصل جواز الرجوع وإنما منع من القلع لما فيه من الضرر ففي دفع الأجر جمع بين الحقين فيخرج في سائر المسائل مثل هذا لوجود هذا المعنى فيه ويحتمل أن لا يجب الأجر في شيء من المواضع لأن حكم العارية باق فيه لكونها صارت لازمة للضرر اللاحق بفسخها والإعارة تقتضي الإنتفاع بغير عوض

فصل : وإذا استعار دابة ليركبها جاز
فصل : وإذا استعار دابة ليركبها جاز لأن إجارتها لذلك جائزة والإعارة أوسع لجوازها فيما لا تجوز إجارته مثل إعارة الكلب للصيد فإن استعارها إلى موضع فجاوزه فقد تعدى وعليه الأجرة للزيادة خاصة فإذا استعارها إلى طبرية فتجاوز إلى القدس فعليه أجر ما بين طبرية والقدس خاصة وإن اختلفا فقال المالك : أعرتكها إلى طبرية وقال المستعير : أعرتنيها إلى القدس فالقول قول المالك وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك : إن كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله وعليه الضمان
ولنا أن المالك مدعى عليه فكان القول قوله لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لكن اليمين على المدعى عليه ]

فصل : ومن استعار شيئا فانتفع به ظهر مستحقا
فصل : ومن استعار شيئا فانتفع به ثم ظهر مستحقا فلمالكه أجر مثله يطالب به من شاء منهما فإن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم لأنه غره بذلك وغرمه لأنه دخل على أن لا أجر له وإن رجع على المعير لم يرجع على أحد فإن الضمان إستقر عليه قال أحمد : في قصار دفع ثوبا إلى غير صاحبه فلبسه فالضمان على القصار دون اللابس وإن تلف فالقيمة تستقر على المستعير لأنه دخل على أن العين مضمونة عليه فإن ضمن المعير رجع على المستعير وإن ضمن المستعير لم يرجع على أحد لأن الضمان استقر عليه وإن نقصت العين بالإستعمال انبنى على ضمان النقص فإن قلنا : هو على المستعير فحكمه حكم القيمة وإن قلنا : هو على المعير فهو كالأجر على ما بيناه

فصل : إذا حمل السيل بذر رجل من أرض إلى أرض غيره
فصل : إذا حمل السيل بذر رجل من أرض إلى أرض غيره فنبت فيها لم يجبر على قلعه وقال أصحاب الشافعي : في أحد الوجهين يجبر على ذلك إذا طالبه رب الأرض به لأن ملكه حصل في ملك غيره بغير إذنه فأشبه ما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك جاره ولنا أن قلعه إتلاف للمال على مالكه ولم يوجد منه تفريط ولا يدوم ضرره فلا يجبر على ذلك كما لو حصلت دابته في دار غيره على وجه لا يمكن خروجها إلا بقلع الباب أو قتلها فإننا لا نجبره على قتلها ويفارق أغصان الشجرة فإنه يدوم ضرره ولا يعرف قدر ما يشغل من الهواء فيؤدي أجره إذا ثبت هذا فإنه يقر في الأرض إلى حين حصاده بأجر مثله وقال القاضي : ليس عليه أجر لأنه حصل في أرض غيره بغير تفريطه فأشبه ما لو باتت دابته في أرض إنسان بغير تفريطه وهذا بعيد لأن إلزامه تبقية زرع ما أذن فيه في أرضه بغير أجر ولا انتفاع إضرار به وشغل لملكه بغير إختياره من غير عوض فلم يجز كما لو أراد إبقاء بهيمته في دار غيره عاما ويفارق مبيتها لأن ذلك لا يجبر المالك عليه ولا يمنع من إخراجها فإذا تركها اختيارا منه كان راضيا به بخلاف مسألتنا ويكون الزرع لمالك البذر لأنه من عين ماله ويحتمل أن يكون حكم هذا الزرع حكم زرع الغاصب على ما سنذكره لأنه حصل في أرضه بغير إذنه فأشبه ما لو زرعه مالكه والأول أولى لأن هذا بغير عدوان وقد أمكن جبر حق مالك الأرض يدفع الأجر إليه وإن أحب مالكه قلعه فله ذلك وعليه تسوية الحفر وما نقصت الأرض لأنه أدخل النقص على ملك غيره لاستصلاح ملكه فأشبه المستعير وأما إن كان السيل حمل نوى فنبت شجرا في أرض غيره كالزيتون والنخيل ونحوه فهو لمالك النوى لأنه من نماء ملكه فهو كالزرع ويجبر على قلعه ههنا لأن ضرره يدوم فأجبر على إزالته كأغصان الشجرة المنتشرة في هواء ملك غير مالكها وإن حمل السيل أيضا بشجرها فنبت في أرض آخر كما كانت فهي لمالكها يجبر على إزالتها كما ذكرنا وفي كل ذلك إذا ترك صاحب الأرض المنتقلة أو الشجر أو الزرع لصاحب الأرض التي انتقل إليها لم يلزمه نقله ولا أجر ولا غير ذلك لأنه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه وكانت الخيرة إلى صاحب الأرض المشغولة به إن شاء أخذه لنفسه وإن شاء قلعه

فصل : وإذا اختلف رب الدابة وراكبها
فصل : وإذا اختلف رب الدابة وراكبها فقال الراكب : هي عارية وقال المالك : بل إكتريتها فإن كانت الدابة باقية لم تنقص لم يخل من أن يكون الإختلاف عقيب العقد أو بعد مضي مدة لمثلها أجر فإن كان عقيب العقد فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم عقد الإجارة وبراءة ذمة الراكب منها فيحلف ويرد الدابة إلى مالكها لأنها عارية وكذلك إن ادعى المالك إنها عارية وقال الراكب : بل إكتريتها فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرنا وإن كان الإختلاف بعد مضي مدة لمثلها أجر فادعى المالك الإجارة فالقول قوله مع يمينه وحكي ذلك عن مالك وقال أصحاب الرأي القول قول الراكب وهو منصوص الشافعي لأنهما إتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب وادعى المالك عوضا لها والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه فكان القول قوله ولنا أنهما اختلفا في كيفية إنتقال المنافع إلى ملك الراكب فكان القول قول المالك كما لو إختلفا في عين فقال المالك : يعتكها وقال الآخر : وهبتنيها ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها ولو إختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا ههنا وما ذكروه يبطل بهذه المسألة ولأنهما إتفقا على أن المنافع لا تنتقل إلى الراكب إلا بنقل المالك لها فيكون القول قوله في كيفية الإنتقال كالأعيان فيحلف المالك ويستحق الأجر وفي قدره وجهان أحدهما : أجر المثل لأنهما لو اتفقا على وجوبه واختلفا في قدره وجب أجر المثل فمع الإختلاف في أصله أولى والثاني : المسمى لأنه وجب بقول المالك ويمينه فوجب ما حلف عليه كالأصل وإن كان اختلافهما في أثناء المدة فالقول قول الراكب فيما مضى منها والقول قول المستعير فيما بقي لأن ما بقي بمنزلة ما لو اختلفا عقيب العقد وإن ادعى المالك في هذه الصورة إنها عارية وادعى الراكب أنها بأجر فالراكب يدعي استحقاق المنافع ويعترف بالأجر للمالك والمالك ينكر ذلك كله فالقول قوله مع يمينه فيحلف ويأخذ بهيمته وإن اختلفا في ذلك بعد تلف البهيمة قيل مضى مدة لمثلها أجر فالقول قول المالك سواء ادعى الإجارة أو الإعارة لأنه إن ادعى الإجارة فهو معترف للراكب ببراءة ذمته من ضمانها فيقبل إقراره على نفسه وإن ادعى الإعارة فهو يدعي قيمتها فالقول قوله لأنهما اختلفا في صفة القبض والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ على اليد ما أخذت حتى تؤديه ] فإذا حلف المالك إستحق القيمة والقول في قدرها قول الراكب مع يمينه لأنه ينكر الزيادة المختلف فيها والأصل عدمها وإن اختلفا في ذلك بعد مضي مدة لمثلها أجر وتلف البهيمة وكان الأجر بقدر قيمتها أو كان ما يدعيه المالك منهما أقل مما يعترف به الراكب فالقول قول المالك بغير يمين سواء ادعى الإجارة أو الإعارة إذ لا فائدة في اليمين على شيء يعترف له به ويحتمل أن لا يأخذه إلا بيمين لأنه يدعي شيئا لا يصدق فيه ويعترف له الراكب بما لا يدعيه فيحلف على ما يدعيه وإن كان ما يدعيه المالك أكثر مثل ان كانت قيمة البهيمة أكثر من أجرها فادعى المالك أنها عارية لتجب له القيمة وأنكر إستحقاق الأجرة وادعى الراكب أنها مكتراة أو كان الكراء أكثر من قيمتها فادعى المالك أنه أجرها ليجب له الكراء وادعى الراكب أنها عارية فالقول قول المالك في الصورتين لما قدمنا فإذا حلف استحق ما حلف عليه ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا

فصل : وإن قال المالك غصبتها
فصل : وإن قال المالك : غصبتها وقال الراكب : بل أعرتنيها فإن كان الإختلاف عقيب العقد والدابة قائمة لم يتلف منها شيء فلا معنى للإختلاف ويأخذ المالك بهيمته وكذلك إن كانت الدابة تالفة لأن القيمة تجب على المستعير كوجوبها على الغاصب وإن كان الإختلاف بعد مضي مدة لمثلها أجر فالإختلاف في وجوبه والقول قول المالك وهذا ظاهر قول الشافعي ونقل المزني عنه أن القول قول الراكب لأن المالك يدعي عليه عوضا الأصل براءة ذمته منه ولأن الظاهر من اليد أنها بحق فكان القول قول صاحبها
ولنا ما قدمنا في الفصل الذي قبل هذا بل هذا أولى لأنهما ثم اتفقا على أن المنافع ملك للراكب وههنا لم يتفقا على ذلك فإن المالك ينكر إنتقال الملك فيها إلى الراكب والراكب يدعيه والقول قول المنكر لأن الأصل عدم الإنتقال فيحلف ويستحق الأجر وإن قال المالك : غصبتها وقال الراكب : أجرتنيها فالإختلاف ههنا في وجوب القيمة لأن الأجر يجب في الموضعين إلا أن يختلف المسمى وأجر المثل والقول قول المالك مع يمينه فإن كانت الدابة تالفة عقيب أخذها حلف وأخذ قيمتها وإن كانت قد بقيت مدة لمثلها أجر والمسمى بقدر أجر المثل أخذه المالك لاتفاقهما على إستحقاقه وكذلك إن كان أجر المثل دون المسمى وفي اليمين وجهان وإن كان زائدا على المسمى لم يستحقه إلا بيمين وجها واحدا

كتاب الغصب
الغصب هو الإستيلاء على مال غيره بغير حق وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع : أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون } وقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } والسرقة نوع من الغصب وأما السنة فروى جابر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : في خطبته يوم النحر إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ] رواه مسلم وغيره وعن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين ] متفق عليه وروى أبو حرة الرقاشي عن عمه وعمرو بن يثربي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا يحل مال أمرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ] رواه أبو إسحاق الجوزجاني وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة وإنما اختلفوا في فروع منه إذا ثبت هذا فمن غصب شيئا لزمه رده ما كان باقيا بغير خلاف نعلمه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ على اليد ما أخذت حتى تؤديه ] ولأن حق المغصوب منه معلق بعين ماله وماليته ولا يتحقق ذلك إلا برده فإن تلف في يده لزمه بدله لقول الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ولأنه لما تعذر رد العين وجب رد ما يقوم مقامها في المالية ثم ينظر فإن كان مما تتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته كالحبوب والأدهان وجب مثله لأن المثل أقرب إليه من القيمة وهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والإجتهاد فكان ما طريقه المشاهدة مقدما كما يقدم النص على القياس لكون النص طريقه الإدراك بالسماع والقياس طريقة الظن والإجتهاد وإن كان غير متقارب الصفات وهو ما عدا المكيل والموزون وجبت قيمته في قول الجماعة وحكي عن العنبري يجب في كل شيء مثله لما روت جسرة بنت دجاجة [ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما رأيت صانعا مثل حفصة صنعت طعاما فبعثت به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخذني الأكل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت ؟ فقال : إناء مثل الإناء وطعام مثل الطعام ] رواه أبو داود و [ عن أنس أن إحدى نساء النبي صلى الله عليه و سلم كسرت قصعة الأخرى فدفع النبي صلى الله عليه و سلم قصعة الكاسرة إلى رسول صاحبة المكسورة وحبس المكسورة في بيته ] رواه أبو داود مطولا ورواه الترمذي نحوه وقال : حديث حسن صحيح ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إستسلف بعيرا ورد مثله
ولنا ما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل متفق عليه فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل ولأن هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها وتتباين صفاتها فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها فكانت أولى وإما الخبر فمحمول على أنه جوز ذلك بالتراضي وقد علم أنها ترضى بذلك

فصل : وما تتماثل أجزاؤه وتتقارب صفاته كالدراهم
فصل : وما تتماثل أجزاؤه وتتقارب صفاته كالدراهم والدنانير والحبوب والأدهان ضمن بمثله بغير خلاف قال ابن عبد البر : كل مطعوم من مأكول أو مشروب فجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته وأما سائر المكيل والموزون فظاهر كلام أحمد أنه يضمن بمثله أيضا فإنه قال في رواية حرب وإبراهيم بن هاني : ما كان من الدراهم والدنانير وما يكان ويوزن فعليه مثله دون القيمة فظاهر هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزن إلا أن يكون مما فيه صناعة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها والحلي من الذهب والفضة وشبهه والمنسوج من الحرير والكتان والقطن والصوف والشعر والمغزول من ذلك فإنه يضمن بقيمته لأن الصناعة تؤثر في قيمته وهي مختلفة فالقيمة فيه أحصر فأشبه غير المكيل والموزون وذكر القاضي أن النقرة والسبيكة من الإثمان والعنب والرطب والكمثرى يضمن بقيمته وظاهر كلام أحمد يدل على ما قلنا وإنما خرج منه ما فيه الصناعة لما ذكرنا ويحتمل أن يضمن النقرة بقيمتها لتعذر وجود مثلها إلا بتكسير الدراهم المضروبة وسبكها وفيه إتلاف فعلى هذا إن كان المضمون بقيمته من جنس الأثمان وجبت قيمته من غالب نقد البلد فإن كانت من غير جنسه وجبت بكل حال وإن كانت من جنسه فكانت موزونة وجبت قيمته وإن كانت أقل أو أكثر قوم بغير جنسه لئلا يؤدي إلى الربا وقال القاضي : إن كانت فيه صناعة مباحة فزادت قيمته من أجلها جاز تقويمه بجنسه لأن ذلك قيمته والصناعة لها قيمة وكذلك لو كسر الحلي وجب أرش كسره ويخالف البيع لأن الصناعة لا يقابلها العوض في العقود ويقابلها في الإتلاف ألا ترى أنها لا تنفرد بالعقد وتنفرد بضمانها بالإتلاف قال بعض أصحاب الشافعي : هذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم مثل القول الأول وهو الذي ذكره أبو الخطاب لأن القيمة مأخذوة على سبيل العوض فالزيادة فيه ربا كالبيع وكالنقص وقد قال أحمد في رواية ابن منصور إذا كسر الحلي يصلحه أحب إلي قال القاضي : وهذا محمول على أنهما تراضيا بذلك لا أنه على طريق الوجوب وهذا فيما إذا كانت الصناعة مباحة فإن كانت محرمة كالأواني وحلي الرجال لم يجز ضمانه بأكثر من وزنه وجها واحدا لأن الصناعة لا قيمة لها شرعا فهي كالمعدومة

مسائل : قال ومن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه
مسألة : قال : ومن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه وأجرتها إلى وقت تسليمها ومقدار نقصانها إن كان نقصها الغرس
الكلام في هذه المسألة في فصول :
الفصل الأول : إنه يتصور غصب العقار من الأراضي والدور ويجب ضمانها على غاصبها هذا ظاهر مذهب أحمد وهو المنصوص عن أصحابه وبه قال مالك و الشافعي و محمد بن الحسن وروى ابن منصور عن أحمد : فيمن غصب أرضا فزرعها ثم أصابها غرق من الغاصب غرم قيمة الأرض وإن كان شيئا من السماء لم يكن عليه شيء وظاهر هذا إنها لا تضمن بالغصب وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا يتصور غصبها ولا تضمن بالغصب وإن أتلفها ضمنها بالإتلاف لأنه لا يوجد فيها النقل والتحريم فلم يضمنها كما لو حال بينه وبين متاعه فتلف المتاع ولأن الغصب إثبات اليد على المال عدوانا على وجه تزول به يد المالك ولا يمكن ذلك في العقار ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ] رواه البخاري عن عائشة وفي لفظ [ من غصب شبرا من الأرض ] فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه يغصب ويظلم فيه ولأن ما ضمن في البيع وجب ضمانه في الغصب كالمنقول ولأنه يمكن الإستيلاء عليه على وجه يحول بينه وبين مالكه مثل أن يسكن الدار ويمنع مالكها من دخولها فأشبه ما لو أخذ الدابة والمتاع وأما إذا حال بينه وبين متاعه فما استولى على ماله فنظيره ههنا أن يحبس المالك ولا يستولي على داره وأما ما تلف من الأرض بفعله أو سبب فعله كهدم حيطانها وتغريقها وكشط ترابها وإلقاء الحجارة فيها أو نقص يحصل بغرسه أو بنائه فيضمنه بغير اختلاف في المذهب ولا بين العلماء لأن هذا إتلاف والعقار يضمن بالإتلاف من غير اختلاف ولا يحصل الغصب من غير إستيلاء فلو دخل أرض إنسان أو داره لم يضمنها بدخوله سواء دخلها بإذنه أو غير إذنه وسواء كان صاحبها فيها أو لم يكن وقال بعض أصحاب الشافعي : إن دخلها بغير إذنه ولم يكن صاحبها فيها ضمنها سواء قصد ذلك أو ظن أنها داره أو دار أذن له في دخولها لأن يد الداخل ثبتت عليها بذلك فيصير غاصبا فإن الغصب إثبات اليد العادية وهذا قد ثبتت يده بدليل أنهما لو تنازعا في الدار ولا بينة لهما حكم بها لمن هو فيها دون الخارج منها ولنا أنه غير مستول عليها فلم يضمنها كما لو دخلها بإذنه أو دخل صحراه ولأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمنه في العارية وهذا لا تثبت به العارية ولا يجب به الضمان فيها فكذلك لا يثبت به الغصب إذا كان بغير إذن
الفصل الثاني : أنه إذا غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها فطلب صاحب الأرض قلع غراسه أو بنائه لزم الغاصب ذلك ولا نعلم فيه خلافا لما روى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس لعرق ظالم حق ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن وروى أبو داود و أبو عبيد في الحديث : أنه قال فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلا غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة فاختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقضى للرجل بأرضه وقضى للآخر أن ينزع نخله قال : فلقد رأيتها تضرب في أصولها بالفؤس وإنها لنخل عم ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لا حرمة له في نفسه بغير إذنه فلزمه تفريغه كما لو جعل فيه قماشا وإذا قلعها لزمه تسوية الحفر ورد الأرض إلى ما كانت عليه لأنه ضرر حصل بفعله في ملك غيره فلزمته إزالته وإن أراد صاحب الأرض أخذ الشجر والبناء بغير عوض لم يكن له ذلك لأنه عين مال الغاصب فلم يملك صاحب الأرض أخذه كما لو وضع فيها أثاثا أو حيوانا وإن طلب أخذه بقيمته وأبى مالكه إلا القلع فله القلع لأنه ملكه فملك نقله ولا يجبر على أخذ القيمة لأنها معاوضة فلم يجبر عليها وإن اتفق على تعويضه عنه بالقيمة أو غيرها جاز لأن الحق لهما فجاز ما اتفقنا عليه وإن وهب الغاصب الغراس والبناء لمالك الأرض ليتخلص من قلعه وقبله المالك جاز وإن أبى قبوله وكان في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قبوله لما تقدم وإن لم يكن في قلعه غرض صحيح إحتمل أن يجبر على قبوله لأن فيه رفع الخصومة من غير غرض يفوت ويحتمل أن لا يجبر لأن فيه إجبارا على عقد يعتبر الرضى فيه وإن غصب أرضا وغراسا من رجل واحد فغرسه فيه فالكل لمالك الأرض فإن طالبه المالك بقلعه وفي قلعه غرض أجبر على قلعه لأنه فوت عليه غرضا مقصودا بالأرض فأخذ بإعادتها إلى ما كانت وعليه تسوية الأرض ونقصها ونقص الغراس لما ذكرنا وإن لم يكن في قلعه غرض لم يجبر على قلعه لأنه سفه فلا يجبر على السفه وقيل يجبر لأن المالك محكم في ملكه والغاصب غير محكم فإن أراد الغاصب قلعه ومنعه الحاكم لم يملك قلعه لأن الجميع ملك للمغصوب منه فلم يملك غيره التصرف فيه بغير إذنه

فصل : والحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس
فصل : والحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس فيها في هذا التفصيل جميعه إلا أنه يتخرج أنه إذا بذل مالك الأرض القيمة لصاحب البناء أجبر على قبولها إذا لم يكن في النقض غرض صحيح لأن النقض سفه والأول أصح لما روى الخلال بإسناده عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض ] ولأن ذلك معاوضة فلا يجبر عليها وإذا كانت الآلة من تراب الأرض وأحجارها فليس للغاصب النقض على ما ذكرنا في الغرس

فصل : وإن غصب دارا فجصصها وزوقها
فصل : وإن غصب دارا فجصصها وزوقها وطالبه ربها بإزالته وفي إزالته غرض لزمه إزالته وارش نقصها إن نقصت وإن لم يكن فيه غرض فوهبه الغاصب لمالكها أجبر على قبوله لأن ذلك صفة في الدار فأشبه قصارة الثوب ويحتمل أن لا يجبر لأنها أعيان متميزة فصارت بمنزلة القماش وإن طلب الغاصب قلعه ومنعه المالك وكان له قيمة بعد الكشط فللغاصب قلعه كما يملك قلع غراسه سواء بذل له المالك قيمته أو لم يبذل وإن لم يكن له قيمة ففيه وجهان أحدهما : يملك قلعه لأنه عين ماله والثاني : لا يملك لأنه سفه يضر ولا ينفع فلم يجبر عليه وإن بذل المالك له قيمته ليتركه

فصل : وإن غصب أرضا وكشط ترابها لزمه
فصل : وإن غصب أرضا فحفر فيها بئرا فطالبه المالك بطمها لزمه ذلك لأنه يضر بالأرض ولأن التراب ملكه نقله من موضعه فلزمه رده كتراب الأرض وكذلك إن حفر فيها نهرا أو حفر بئرا في ملك رجل بغير إذنه وإن أراد الغاصب طمها فمنعه المالك نظرنا فإن كان له غرض في طمها بأن يسقط عنه ضمان ما يقع فيها أو يكون قد نقل ترابها إلى ملك نفسه أو ملك غيره أو طريق يحتاج إلى تفريغه فله الرد لما فيه من الغرض وبهذا قال الشافعي وإن لم يكن له غرض في طم البئر مثل أن يكون قد وضع التراب في ملك المغصوب منه مما حفر وإذن فيه لم يكن له طمها في أحد الوجهين لأنه إتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله كما لو غصب نقرة فطبعها دراهم ثم أراد جعلها نقرة وبهذا قال أبو حنيفة و المزني وبعض الشافعية وقال بعضهم له : طمها وهو الوجه الثاني لنا لأنه لا يبرأ من الضمان بإبراء المالك لأنه إبراء مما لم يجب بعد وهو أيضا إبراء من حق غيره وهو الواقع فيها
ولنا أن الضمان إنما لزمه لوجود التعدي فإذا رضي صاحب الأرض زال التعدي فزال الضمان وليس هذا إبراء مما لم يجب وإنما هو إسقاط التعدي برضائه به وهكذا ينبغي أن يكون إذا لم يتلفظ بالإبراء ولكن منعه من طمها لأنه يتضمن رضاه بذلك

فصل : إن على الغاصب أجر الأرض منذ غصبها
الفصل الثالث : إن على الغاصب أجر الأرض منذ غصبها إلى وقت تسليمها وهكذا كل ما له أجر فعلى الغاصب أجر مثله سواء إستوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت لأنها تلفت في يده العادية فكان عليه عوضها كالأعيان وإن غصب أرضا فبناها دارا فإن كانت آلات بنائها من مال الغاصب فعليه أجر الأرض دون بنائها لأنه إنما غصب الأرض والبناء له فلم يلزمه أجر ماله وإن بناها بتراب منها وآلات للمغصوب منه فعليه أجرها مبنيه لأن الدار كلها ملك للمغصوب منه وإنما للغاصب فيها أثر الفعل فلا يكون في مقابلته أجر لأنه وقع عدوانا وإن غصب دارا فنقضها ولم يبنها فعليه أجر دار إلى حين نقضها وأجرها مهدومة من حين نقضها إلى حين ردها لأن البناء إنهدم وتلف فلم يجب أجره مع تلفها وإن نقضها ثم بناها بآلة من عنده فالحكم فيها كذلك وإن بناها بآلتها أو آلة من ترابها أو ملك المغصوب منه فعليه أجرها عرصة منذ نقضها إلى أن بناها وأجرها دارا فيما قبل ذلك وبعده لأن البناء للمالك وحكمها في نقض بنائها الذي بناه الغاصب حكم ما لو غصبها عرصة فبناها وإن كان الغاصب باعها فبناها المشتري أو نقضها ثم بناها فالحكم لا يختلف لكن للمالك مطالبة من شاء منهما والرجوع عليه فإن رجع على الغاصب رجع الغاصب على المشتري بقيمة ما تلف من الأعيان لأن المشتري دخل على أنه مضمون عليه بالعوض فاستقر ضمانه عليه وإن رجع المالك على المشتري رجع المشتري على الغاصب بنقص التالف ولم يرجع بقيمة ما تلف وهل يرجع كل واحد منهما على صاحبه الآخر ؟ على روايتين وليس له مطالبة المشتري بشيء من الأجر إلا بأجر مدة مقامها في يديه لأن يده إنما ثبتت عليها حينئذ

فصل : إن على الغاصب ضمان نقص الأرض
الفصل الرابع : أن على الغاصب ضمان نقص الأرض إن كان نقصها الغرس أو نقصت بغيره وهكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصا مستقرا كثوب تخرق وإناء تكسر وطعام سوس وبناء خرب ونحوه فإنه يردها وأرش النقص لأنه نقص حصل في يد الغاصب فوجب ضمانه كالقفير من الطعام والذراع من الثوب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا شق رجل لرجل ثوبا شقا قليلا أخذ أرشه وإن كان كثيرا فصاحبه بالخيار بين تسليمه وأخذ قيمته وبين إمساكه وأخذ أرشه وقد روي عن أحمد كلام يحتمل هذا فإنه قال في رواية موسى بن سعيد في الثوب : إن شاء شق الثوب وإن شاء مثله يعني والله أعلم أن شاء أخذ أرش الشق ووجهه أن هذه جناية أتلفت معظم منفعته فكانت له المطالبة بقيمته كما لو قتل شاة له وحكى أصحاب مالك عنه أنه إذا جنى على عين فأتلف غرض صاحبها كان المجني عليه بالخيار إن شاء رجع بما نقصت وإن شاء سلمها وأخذ قيمتها ولعل ما يحكى عنه من قطع ذنب حمار القاضي ينبني على ذلك لأنه أتلف غرضه به فإنه لا يركبه في العادة وحجتهم أنه أتلف المنفعة المقصودة من السلعة فلزمته قيمتها كما لو أتلف جميعها
ولنا أنها جناية على مال أرشها دون قيمته فلم يملك المطالبة بجميع قيمته كما لو كان الشق يسيرا ولأنها جناية تنقص بها القيمة فأشبه ما لو لم يتلف غرض صاحبها وفي الشاة تلف جميعها لأن الإعتبار في الإتلاف بالمجني عليه لا بغرض صاحبه لأن هذا إن لم يصلح لهذا صلح لغيره

فصل : وقدر الأرش قدر نقص القيمة في جميع الأعيان
فصل : وقدر الأرش قدر نقض القيمة في جميع الأعيان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى : أن عين الدابة تضمن بربع قيمتها فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل فقأ عين دابة لرجل عليه ربع قيمتها قيل له : فقأ العينين ؟ فقال : إذا كانت واحدة فقال عمر : ربع القيمة وأما العينان فما سمعت فيهما شيئا قيل له : فإن كان بعيرا أو بقرة أو شاة فقال : هذا غير الدابة هذا ينتفع بلحمه ننظر ما نقصها وهذا يدل على أن أحمد إنما أوجب مقدرا في العين الواحدة من الدابة وهي الفرس والبغل والحمار خاصة للأثر الوارد فيه وما عدا هذا يرجع إلى القياس واحتج أصحابنا لهذه الرواية بما روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في عين الدابة بربع قيمتها وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى شريح لما كتب إليه يسأله عن عين الدابة إنا كنا ننزلها منزلة الآدمي إلا أنه أجمع رأينا أن قيمتها ربع الثمن وهذا إجماع يقدم على القياس ذكر هذين أبو الخطاب في رؤوس المسائل وقال أبو حنيفة : إذا قلع عيني بهيمة تنتفع بها من وجهين كالدابة والبعير والبقرة وجب نصف قيمتها وفي إحداهما ربع قيمتها لقول عمر رضي الله عنه : أجمع رأينا على أن قيمتها ربع الثمن وروي عن أحمد في العبد أنه يضمن في الغصب بما يضمن به في الجناية ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنه ضمان لأبعاض العبد فكان مقدرا من قيمته كأرش الجناية ولنا أنه ضمان مال من غير جناية فكان الواجب ما نقص كالثوب وذلك لأن القصد بالضمان جبر حق المالك بإيجاب قدر المفوت عليه وقدر النقص هو الجابر ولأنه لو فات الجميع لوجبت قيمته فإذا فات منه شيء وجب قدره من القيمة كغير الحيوان وأما حديث زيد بن ثابت فلا أصل له ولو كان صحيحا لما احتج أحمد وغيره بحديث عمر وتركوه فإن قول النبي صلى الله عليه و سلم أحق أن يحتج به وأما قول عمر فمحمول على أن ذلك كان قدر نقصها كما روي عنه أنه قضي في العين القائمة بخمسين دينارا ولو كان تقديرا لوجب في العين نصف القيمة كعين الآدمي وأما ضمان الجناية على أطراف العبد فمعدول به عن القياس للإلحاق بالجناية على الحر والواجب ههنا ضمان اليد ولا تثبت اليد على الحر فوجب البقاء فيه على موجب الأصل وإلحاقه بسائر الأموال المغصوبة وقول أبي حنيفة : إن هذا في بهيمة الأنعام والدابة لا يصح لأن هذا القول مبني على قول عمر إنما هو في الدابة والدابة في العرف ما يعد للركوب دون بهيمة الأنعام

فصل : وإن غصب عبدا فجنى عليه جناية
فصل : وإن غصب عبدا فجني عليه جناية مقدرة الدية فعلى قولنا ضمان الغصب ضمان الجناية الواجب أرش الجناية كما لو جني عليه من غير غصب فنقضته الجناية أقل من ذلك أو أكثر وإن قلنا : ضمان الغصب غير ضمان الجناية وهو الصحيح فعليه أكثر الأمرين من أرش النقض أو دية ذلك العضو لأن ضمان كل واحد منهما وجد فوجب أكثرهما ودخل الآخر فيه فإن الجناية واليد وجدا جميعا فإن غصب عبدا يساوي ألفا فزادت قيمته فصار يساوي ألفين ثم قطع يده فنقص ألفا لزمه ألف ورد العبد لأن سبب زيادة السوق مع تلف العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع يده فوت نصفه فكأنه بقطع يده فوت نصفه وإن نقص ألفا وخمسمائة وقلنا : الواجب ما نقص فعليه ألف وخمسمائة ويرد العبد وإن قلنا ضمان الجناية فعليه ألف ورد العبد فحسب وإن نقص خمسمائة فعليه رد العبد وهل يلزمه ألف أو خمسمائة ؟ على وجهين

فصل : وإن غصب عبدا فقطع آخر يده
فصل : وإن غصب عبدا فقطع آخر يده فللمالك تضمين أيهما شاء لأن الجاني قطع يده والغاصب حصل النقص في يده فإن ضمن الجاني فله تضمينه نصف قيمته لا غير ولا يرجع على أحد لأنه لم يضمنه أكثر مما وجب عليه ويضمن الغاصب ما زاد على نصف القيمة إن نقص أكثر من النصف ولا يرجع بلى أحد وإن قلنا : إن ضمان الغصب ضمان الجناية أو لم ينقص أكثر من نصف قيمته لم يضمن الغاصب ههنا شيئا وإن اختار تضمين الغاصب وقلنا : إن ضمان الغصب كضمان الجناية ضمنه نصف القيمة ورجع بها الغاصب على الجاني لأن التلف خصل بفعله فاستقر الضمان عليه وإن قلنا : إن ضمان الغصب بما نقص فلرب العبد تضمينه بأكثر الأمرين لأن ما وجد في يده فهو في حكم الموجود منه ثم يرجع الغاصب على الجاني بنصف القيمة لأنها أرش جناية فلا يجب عليه أكثر منها

فصل : وإن غصب عبدا فقطع أذنه
فصل : وإن غصب عبدا فقطع أذنيه أو يديه أو ذكره أو أنفه أو لسانه أو خصييه لزمته قيمته كلها ورد العبد نص عليه أحمد وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة و الثوري : يخير المالك بين أن يصبر ولا شيء له وبين أخذ قيمته ويملكه الجاني لأن ضمان مال فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع ضمانه له كسائر الأموال
ولنا أن المتلف البعض فلا يقف ضمانه على زوال الملك عن جملته كقطع ذكر المدبر وكقطع إحدى يديه أو أذنيه ولأن المضمون هو المفوت فلا يزول الملك عن غيره بضمانه كما لو قطع تسع أصابع وبهذا ينفصل عما ذكروه فإن الضمان في مقابلة المتلف لا في مقابلة الجملة فأما إن ذهبت هذه الأعضاء بغير جناية فهل يضمنها ضمان الإتلاف أو بما نقص ؟ على روايتين سبق ذكرهما

فصل : وإن جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة
فصل : وإن جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة على الغاصب لأنه نقص في العبد الجاني لكون أرش الجناية يتعلق برقبته فكان مضمونا على الغاصب كسائر نقصه وسواء في ذلك ما يوجب القصاص أو المال ولا يلزمه أكثر من النقص الذي لحق العبد وإن جنى على سيده فجنايته مضمونة على الغاصب أيضا لأنها من جملة جناياته فكان مضمونا على الغاصب كالجناية على الأجنبي

فصل : إذا نقصت عبد المغصوب دون قيمته
فصل : إذا نقصت عين المغصوب دون قيمته فذلك على ثلاثة أقسام أحدها : أن يكون الذاهب جزءا مقدر البدل كعبد خصاه وزيت أغلاه ونقرة ضربها دراهم فنقصت عينها دون قيمتها فإنه يجب ضمان النقص فيضمن نقص العبد بقيمته ونقص الزيت والنقرة بمثلهما مع رد الباقي منهما لأن الناقص من العين له بدل مقدر فلزمه ما تقدر به كما لو أذهب الجميع الثاني : أن لا يكون مقدرا مثل إن غصب عبدا ذا سمن مفرط فخف جسمه ولم تنقص قيمته فلا شيء فيه سوى رده لأن الشرع إنما أوجب في هذا ما نقص من القيمة ولم يقدر بدله ولم تنقص قيمته فلا شيء فيه سوى رده لأن الشرع إنما أوجب في هذا ما نقص من القيمة ولم يقدر بدله ولم تنقص القيمة فلم يجب شيء بخلاف الصورة الأولى فإن الذاهب مقدر البدل فلم يسقط بدله الثالث : أن يكون النقص في مقدر البدل لكن الذاهب منه أجزاء غير مقصودة كعصير أغلاه فذهبت مائيته وانعقدت أجزاؤه فنقصت عينه دون قيمته ففيه وجهان أحدهما : لا شيء عليه سوى رده لأن النار إنما أذهبت مائيته التي يقصد ذهابها ولهذا تزداد حلاوته وتكثر قيمته فلم يجب ضمانها كسمن العبد الذي ينقص قيمته والثاني : يجب ضمانه لأنه مقدر البدل فأشبه الزيت إذا أغلاه وإن نقصت العين والقيمة جميعا وجب في الزيت وشبهه ضمان النقصين جميعا لأن كل واحد منهما مضمون منفردا فكذلك إذا اجتمعا وذلك مثل أن يكون رطل زيت قيمته درهم فأغلاه فنقص ثلثه فصار قيمة الباقي نصف درهم فعليه ثلث رطل وسدس درهم وإن كانت قيمة الباقي ثلثي درهم فليس عليه أكثر من ثلث رطل لأن قيمة الباقي لم تنقص وإن خصي العبد فنقصت قيمته فليس عليه أكثر من ضمان خصييه لأن ذلك بمنزلة ما لو فقأ عينيه وهل يجب في العصير ما نقص من القيمة أو يكون كالزيت ؟ على وجهين

فصل : وإن غصب عبدا فسين سمنا نقصت به قيمته
فصل : وإن غصب عبدا فسمن سمنا نقصت به قيمته أو كان شابا فصار شيخا أو كانت الجارية ناهدا فسقط ثدياها وجب أرش النقص لا نعلم فيه خلافا فإن كان العبد أمرد فنبتت لحيته فنقصت قيمته وجب ضمان نقصه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب ضمانه لأن الفائت لا يقصد قصدا صحيحا فأشبه الصناعة المحرمة ولنا أنه نقص في القيمة بتغير ضفته فيضمنه كبقية الصور

فصل : وإن نقص المغصوب نقصا غير مستقر
فصل : وإن نقص المغصوب نقصا غير مستقر كطعام ابتل وخيف فساده أو عفن وخشي تلفه فعليه ضمان نقصه وهذا منصوص الشافعي وله قول آخر أنه لا يضمن نقصه وقال القاضي : لا يلزمه بدله لأنه لا يعلم قدر نقصه وكلما نقص شيئا ضمنه لأنه يستند إلى السبب الموجود في يد الغاصب فكان كالموجود في يده وقال أبو الخطاب : يتخير صاحبه بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه وقال أبو حنيفة : يتخير بين إمساكه ولا شيء له أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ من قيمته لأنه لو ضمن النقص لحصل له مثل كيله وزيادة وهذا لا يجوز كما لو باع قفيزا جيدا بقفيز رديء ودرهم
ولنا أن عين ماله باقية وإنما حدث فيه نقص فوجب فيه ما نقص كما لو باع عبدا فمرض وقد وافق بعض أصحاب الشافعي على هذا في العفن وقال : لا يضمن ما نقص قولا واحدا ولا يضمن ما تولد منه لأنه ليس من فعله وهذا الفرق لا يصح لأن البلل قد يكون من غير فعله أيضا وقد يكون العفن بسبب منه ثم إن ما وجد في يد الغاصب فهو مضمون عليه لوجوده في يده فلا فرق وقول أبي حنيفة : لا يصح لأن هذا الطعام عين ماله وليس ببدل عنه وقول أبي الخطاب : لا بأس به

مسألة : قال وإن كان زرعها فأدركها والزرع قائم
مسألة : قال : وإن كان زرعها فأدركها وبها والزرع قائم كان الزرع لصاحب الأرض وعليه النفقة وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع فعليه أجرة الأرض
قوله : فأدركها ربها يعني استرجعها من الغاصب أو قدر على أخذها منه وهو معنى قوله استحقت يعني أخذها مستحقها فمتى كان هذا بعد حصاد الغاصب الزرع فإنه للغاصب لا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه نماء ماله وعليه الأجرة إلى وقت التسليم وضمان النقص ولو لم يزرعها فنقصت لترك الزرعة كأراضي البصرة أو نقصت لغير ذلك ضمن نقصها أيضا لما قدمنا في المسألة التي قبل هذه فأما إن أخذها صاحبها والزرع قائم فيها لم يملك إجبار الغاصب على قلعه وخير المالك بين أن يقر الزرع في الأرض إلى الحصاد ويأخذ من الغاصب أجر الأرض وأرش نقصها وبين أن يدفع إليه نفقته ويكون الزرع له وبهذا قال أبو عبيد وقال أكثر الفقهاء : يملك إجبار الغاصب على قلعه والحكم فيه كالغرس سواء لقوله عليه السلام : [ ليس لعرق ظالم حق ] ولأنه زرع في أرض غيره ظلما أشبه الغراس
ولنا ما روى نافع بن خديج قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وعليه نفقته ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن فيه دليل على أن الغاصب لا يجبر على قلعه لأنه ملك للمغصوب منه وروى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى زرعا في أرض طهير فأعجبه فقال : ما أحسن زرع طهير فقال : إنه ليس لطهير ولكنه لفلان قال : فخذوا زرعكم وردوا عليه نفقته ] قال رافع : فأخذنا زرعنا ورددنا عليه نفقته ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان فلم يجز إتلافه كما لو غصب سفينة فحمل فيها ماله وأدخلها البحر أو غصب لوحا فرقع به سفينة فإنه لا يجبر على رد المغصوب في اللجة وينتظر حتى ترسي صيانة للمال عن التلف كذا ههنا ولأنه زرع حصل في ملك غيره فلم يجبر على قلعه على وجه يضر به كما لو كانت الأرض مستعارة أو مشفوعة وفارق الشجر والنخل لأن مدته تتطاول ولا يعلم متى ينقلع من الأرض فانتظاره يؤدي إلى ترك رد الأصل بالكلية وحديثهم ورد في الغرس وحديثنا في الزرع فيجمع بين الحديثين ويعمل بكل واحد منهما في موضعه وذلك أولى من إبطال أحدهما إذا ثبت هذا فمتى رضي المالك بترك الزرع للغاصب ويأخذ منه أجر الأرض فله ذلك لأنه شغل المغصوب بماله فملك صاحبه أخذ أجره كما لو ترك في الدار طعاما أو أحجارا يحتاج في نقله إلى مدة وإن أحب أخذ الزرع فله ذلك كما يستحق الشفيع أخذ شجر المشتري بقيمته وفيما يرد على الغاصب روايتان إحداهما : قيمة الزرع لأنه بدل عن الزرع فيقدر بقيمته كما لو أتلفه ولأن الزرع للغاصب إلى حين انتزاع المالك له منه بدليل أنه لو أخذه قبل انتزاع المالك له كان ملكا له ولو لم يكن ملكا له لما ملكه بأخذه فيكون أخذ المالك له تملكا له إلا أن يعوضه فيجب أن يكون بقيمته كما لو أخذ الشقص المشفوع ويجب على الغاصب أجر الأرض إلى حين تسليم الزرع لأن الزرع كان محكوما له به وقد شمل به أرض غيره والرواية الثانية : أنه يرد على الغاصب ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث والسقى وغيره وهذا الذي ذكره القاضي وهذا ظاهر كلام الخرقي وظاهر الحديث لقوله عليه السلام : عليه نفقته وقيمة الشيء لا تسمى نفقة له والحديث مبني على هذه المسألة فإن أحمد إنما ذهب إلى الحكم استحسانا على خلاف القياس فإن القياس أن الزرع لصاحب البذر لأنه نماء عين ما له فأشبه ما لو غصب دجاجة فحضنت بيضا له أو طعاما فعلفه دواب له كان النماء له وقد صرح به أحمد فقال : هذا شيء لا يوافق القياس أستحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر ولذلك جعلناه للغاصب إذا استحقت الأرض بعد أخذ الغاصب له وإذا كان العمل بالحديث فيجب أن يتبع مدلوله

فصل : فإن كان الزرع مما يبقى أصوله في الأرض
فصل : فإن كان الزرع مما يبقى أصوله في الأرض ويجز مرة بعد أخرى كالرطبة والنعناع احتمل أن يكون حكمه ما ذكرنا لدخوله في عموم الزرع لأنه ليس له فرع قوي فأشبه الحنطة والشعير واحتمل أن يكون حكمه حكم الغرس لبقاء أصوله وتكرر أخذه ولأن القياس يقتضي أن يثبت لكل زرع مثل حكم الغرس وإنما ترك فيما تقل مدته للأثر ففيما عداه يبقى على قضية القياس

فصل : وإن غصب أرضا فغرسها فأثمرت
فصل : وإن غصب أرضا فغرسها فأثمرت فأدركها ربها بعد أخذ الغاصب ثمرتها فهي له وإن أدركها والثمرة فيها فكذلك لأنها ثمرة شجره فكانت له كما لو كانت في أرضه ولأنها نماء أصل محكوم به للغاصب فكان له كأغصانها وورقها ولبن الشاة وولدها وقال القاضي : هي لمالك الأرض إن أدركها في الغراس لأن أحمد قال في رواية علي بن سعيد : إذا غصب أرضا فغرسها فالنماء لمالك الأرض قال القاضي : وعليه من النفقة ما أنفقه الغارس من مؤنة الثمرة لأن الثمرة في معنى الزرع فكان لصاحب الأرض إذا أدركه قائما فيها كالزرع والأول أصح لأن أحمد قد صرح بأن أخذ رب الأرض الزرع شيء لا يوافق القياس وإنما صار إليه للأثر فيختص الحكم به ولا يعدى إلى غيره ولأن الثمرة تفارق الزرع من وجهين أحدهما : إن الزرع نماء الأرض فكان لصاحبها والثمر نماء الشجر فكان لصاحبه الثاني : إنه يرد عوض الزرع الذي أخذه مثل البذر الذي نبت منه الزرع مع ما أنفق عليه ولا يمكنه مثل ذلك في الثمر

فصل : وإن غصب شجرا فأثمر
فصل : وإن غصب شجرا فأثمر فالثمر لصاحب الشجر بغير خلاف نعلمه لأنه نماء ملكه ولأن الشجر عين ملكه نمى وزاد فأشبه ما لو طالت أغصانه وعليه رد الثمر إن كان باقيا وإن كان تالفا فعليه بدله وإن كان رطبا فصار تمرا أو عنبا فصار زبيبا فعليه رده وأرش نقصه إن نقص وليس له شيء بعمله فيه وليس للشجر أجرة لأن أجرتها لا تجوز في العقود فكذلك في الغصب ولأن نفع الشجر تربية الثمر وإخراجه وقد عادت هذه المنافع إلى المالك ولو كانت ماشية فعليه ضمان ولدها إن ولدت عنده ويضمن لبنها بمثله لأنه من ذوات الأمثال ويضمن أو بارها وأشعارها بمثله كالقطن

فصل : وإذا غصب أرضا فحكمها في جواز دخول غيره إليها
فصل : وإذا غصب أرضا فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب فإن كانت محوطة كالدار والبستان المحوط لم يجز لغير مالكها دخولها لأن ملك مالكها لم يزل عنها فلم يجز دخولها بغير إذنه كما لو كانت في يده قال أحمد : في الضيعة تصير غيضة فيها سمك لا يصيد فيها أحد إلا بإذنهم وإن كانت صحراء جاز الدخول فيها ورعي حشيشها قال أحمد : لا بأس برعي الكلأ في الأرض المغصوبة وذلك لأن الكلأ لا يملك بملك الأرض ويتخرج في كل واحدة من الصورتين مثل حكم الأخرى قياسا لها عليها ونقل عنه المروذي في رجل والداه في دار طوابيقها غصب لا يدخل على والديه وذلك لأن دخوله عليهما تصرف في الطوابيق المغصوبة ونقل عنه الفضل بن عبد الصمد في رجل له إخوة في أرض غصب يزورهم ويراودهم على الخروج فإن أجابوه وإلا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم يعني يزورهم بحيث يأتي باب دارهم ويتعرف أخبارهم ويسلم عليهم ويكلمهم ولا يدخل إليهم ونقل المروذي عنه أكره المشي على العبارة التي يجري فيها الماء وذلك لأن العبارة وضعت لعبور الماء لا للمشي عليها وربما كان المشي عليها يضر بها وقال أحمد : لا يدفن في الأرض المغصوبة لما في ذلك من التصرف في أرضهم بغير إذنهم وقال أحمد فيمن ابتاع طعاما من موضع غصب ثم علم رجع إلى الموضع الذي أخذه منه فرده وروي عنه أنه قال : يطرحه يعني على من ابتاعه منه وذلك لأن قعوده فيه حرام منهي عنه فكان البيع فيه محرما ولأن الشراء ممن يقعد في الموضع المحرم يحملهم على العقود والبيع فيه وترك الشراء منهم يمنع القعود وقال : لا يبتاع من الخانات التي في الطرق إلا أن لا يجد غيره كأنه بمنزلة المضطر وقال في السلطان : إذا بنى دارا وجمع الناس إليها أكره الشراء منها وهذا إن شاء الله تعالى على سبيل الورع لما فيه من الإعانة على الفعل المحرم والظاهر صحة البيع لأنه إذا صحت الصلاة في الدار المغصوبة في رواية وهي عبادة فما ليس بعبادة أولى وقال فيمن غصب ضيعة وغصبت من الغاصب فأراد الثاني ردها جمع بينهما يعني بين مالكها والغاصب الأول وإن مات بعضهم جمع ورثته إنما قال : هذا إحتياطا خوف التبعة من الغاصب الأول لأنه ربما طالب بها وادعاها ملكا باليد وإلا فالواجب ردها على مالكها وقد صرح بهذا في رواية عبد الله في رجل استودع رجلا ألفا فجاء رجل إلى المستودع فقال : إن فلانا غصبني الألف الذي استودعكه وصح ذلك عند المستودع فإن لم يخف التبعة وهو أن يرجعوا به عليه دفعه إليه

مسألة : قال ومن غصب عبدا أو أمة
مسألة : قال : ومن غصب عبدا أو أمة وقيمته مائة فزاد في بدنه أو بتعلم حتى صارت قيمته مائتين ثم نقص بنقصان بدنه أو نسيان ما علم حتى صارت قيمته مائة أخذه السيد وأخذ من الغاصب مائة
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : لا يجب عليه عوض الزيادة إلا أن يطالب بردها زائدة فلا يردها لأنه رد العين كما أخذها فلم يضمن قيمتها كنقص سعرها
ولنا أنها زيادة في نفس المغصوب فلزم الغاصب ضمانها كما لو طالبه بردها فلم يفعل وفارق زيادة السعر فإنها لو كانت موجودة حالة الغصب لم يضمنها والصناعة إن لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه ولذلك يضمنها إذا طولب برد العين وهي موجودة فلم يردها وأجريناها هي والتعلم مجرى السمن الذي هو عين لأنها صفة تتبع العين وأجرينا الزيادة الحادثة في يد الغاصب مجرى الزيادة الموجودة حال الغصب لأنها زيادة في العين المملوكة للمغصوب منه فتكون مملوكة له أيضا لأنها تابعة للعين فأما إن غصب العين سمينة أو ذات صناعة أو تعلم القرآن ونحوه فهزلت ونسيت فنقصت قيمتها فعليه ضمان نقصها لا نعلم فيه خلافا لأنها نقصت عن حال غصبها نقصا أثر في قيمتها فوجب ضمانها كما لو أذهب عضوا من أعضائها

فصل : إذا غصبها وقيمتها مائة فسمنت
فصل : إذا غصبها وقيمتها مائة فسمنت فبلغت قيمتها ألفا ثم تعلمت صناعة فبلغت ألفين ثم هزلت ونسيت فعادت قيمتها إلى مائة ردها ورد ألفا وتسعمائة وإن بلغت بالسمن ألفا ثم هزلت فبلغت مائة ثم تعلمت فبلغت ألفا ثم نسيت فعادت إلى مائة وردها ورد ألفا وثمانمائة لأنها نقصت بالهزال تسعمائة وبالنسيان تسعمائة وإن سمنت فبلغت ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم تعلمت فعادت إلى ألف ردها وتسعمائة لأن زوال الزيادة الأولى أوجب الضمان ثم حدثت زيادة أخرى من وجه آخر على ملك المغصوب منه فلا ينجبر ملك الإنسان بملكه وأما إذا بلغت بالسمن ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم سمنت فعادت إلى ألف ففيه وجهان أحدهما : يردها زائدة ويضمن نقص الزيادة الأولى كما لو كانا من جنسين فإن ملك الإنسان لا ينجبر بملكه لأن الزيادة الثانية غير الأولى فعلى هذا إن هزلت مرة ثانية فعادت إلى مائة ضمن النقصين بألف وثمانمائة والوجه الثاني : إنه إذا ردها سمينة فلا شيء عليه لأنه عاد ما ذهب فأشبه ما لو مرضت فنقصت ثم عوفيت أو نسيت صناعة ثم تعلمتها أو أبق العبد ثم عاد وفارق ما إذا زادت من جهة أخرى فإنه لم يعد ما ذهب وهذا الوجه أقيس لما ذكرنا من شواهده فعلى هذا لو سمنت بعد الهزال ولم تبلغ قيمتها إلى ما بلغت في السمن الأول أو زادت عليه ضمن أكثر الزيادتين وتدخل الأخرى فيها وعلى الوجه الأول يضمنها جميعا فأما إن زادت بالتعليم أو الصناعة ثم نسيت ثم تعلمت ما نسيته فعادت القيمة الأولى لم يضمن النقص الأول لأن العلم الثاني هو الأول فقد عاد ما ذهب وإن تعلمت علما آخر أو صناعة أخرى فهو كعود السمن فيه وجهان ذكر هذا القاضي وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب : متى زادت ثم نقصت ثم زادت مثل الزيادة الأولى ففي ذلك وجهان سواء كانا من جنس كالسمن مرتين أو من جنسين كالسمن والتعليم والأول أولى

فصل : وإن مرض المغصوب ثم برأ أو ابيضت عينه
فصل : وإن مرض المغصوب ثم برأ أو أبيضت عينه ثم ذهب بياضها أو غصب جارية حسناء فسمنت سمنا نقصها ثم خف سمنها فعاد حسنها وقيمتها ردها ولا ضمان عليه لأنه لم يذهب ماله قيمة والعيب الذي أوجب الضمان زال في يديه وكذلك لو حملت فنقصت ثم وضعت فزال نقصها لم يضمن شيئا فإن رد المغصوب ناقصا بمرض أو عيب أو سمن مفرط أو حمل فعليه أرش نقصه فإن زال عيبه في يدي مالكه لم يلزمه رد ما أخذ من أرشه لأنه استقر ضمانه برد المغصوب وكذلك إن أخذ المغصوب دون أرشه ثم زال العيب قبل أخذ أرشه لم يسقط ضمانه لذلك

فصل : زوائد الغصب في يد الغاصب
فصل : زوائد الغصب في يد الغاصب مضمونة ضمان الغصب مثل السمن وتعلم الصناعة وغيرها وثمرة الشجرة وولد الحيوان متى تلف شيء منه في يد الغاصب ضمنه سواء تلف منفردا أو تلف مع أصله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : لا يجب ضمان زوائد الغصب إلا أن يطالب بها فيمتنع من أدائها لأنها غير مغصوبة فلا يجب ضمانها كالوديعة ودليل عدم الغصب إنه فعل محرم وثبوت يده على هذه الزوائد ليس من فعله لأنه انبنى على وجود الزوائد في يده ووجودها ليس بفعل محرم منه
ولنا أنه مال المغصوب منه حصل في يده بالغصب فيضمنه بالتلف كالأصل وقولهم أن إثبات يده ليس من فعله لا يصح لأنه بإمساك الأم تسبب إلى إثبات يده على هذه الزوائد وإثبات يده على الأم محظور

فصل : وليس على الغاصب ضمان نقص القيمة
فصل : وليس على الغاصب ضمان نقص القيمة الحاصل بتغير الأسعار نص عليه أحمد وهو قول جمهور العلماء وحكي عن أبي ثور أنه يضمنه لأنه يضمنه إذا تلفت العين فيلزمه إذا ردها كالسمن
ولنا أنه رد العين بحالها لم ينقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شيء كما لو لم تنقص ولا نسلم أنه يضمنها مع تلف العين وإن سلمنا فلأنه وجبت قيمة العين أكثر ما كانت قيمتها فدخلت في التقويم بخلاف ما إذا ردها فإن القيمة لا تجب ويخالف السمن فإنه من عين المغصوب والعلم بالصناعة صفة فيها وههنا لم تذهب عين ولا صفة ولأنه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين وهي باقية كلها كما كانت ولأن الغاصب يضمن ما غصب والقيمة لا تدخل في الغصب بخلاف زيادة العين فإنها مغصوبة وقد ذهبت

فصل : ولو غصب شيئا فشقه نصفين
فصل : ولو غصب شيئا فشقه نصفين وكان ثوبا ينقصه القطع رده وأرش نقصه فإن تلف أحد النصفين رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص وإن لم ينقصه القطع رد الباقي وقيمة التالف لا غير وإن كانا باقيين ردهما ولا شيء عليه سوى ذلك وإن غصب شيئين ينقصهما التفريق كزوجي خف ومصراعي باب فتلف أحدهما رد الباقي وقيمة التالف وأرش نقصهما فإذا كانت قيمتهما ستة دراهم فتلف أحدهما فصارت قيمة الباقي درهمين رد الباقي وأربعة دراهم وفيه وجه آخر لا يلزمه إلا قيمة التالف مع رد الباقي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لم يتلف غيره ولأن نقص الباقي نقص قيمة فلا يضمنه كالنقص بتغير الأسعار والصحيح الأول لأنه نقص حصل بجنايته فلزمه ضمانه كشق الثوب الذي ينقصه الشق إذا تلف أحد شقيه بخلاف نقص السعر فإنه لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى وههنا فوت معنى وهو إمكان الإنتفاع به وهذا هو الموجب لنقص قيمته وهو حاصل من جهة الغاصب فينبغي أن يضمنه كما لو فوت بصره أو سمعه أو عقله أو فك تركيب باب ونحوه

فصل : وإن غصب ثوبا فلبسه فأبلاه
فصل : وإن غصب ثوبا فلبسه فأبلاه فنقص نصف قيمته ثم غلت الثياب فعادت بذلك قيمته كما كانت لزمه رده وأرش نقصه فلو غصب ثوبا قيمته عشرة فنقصه لبسه حتى صارت قيمته خمسة ثم زادت قيمته فصارت عشرة رده ورد خمسة لأن ما تلف قبل غلاء الثوب ثبتت قيمته في الذمة خمسة فلا يعتبر ذلك بغلاء الثوب ولا رخصه وكذلك لو رخصت الثياب فصارت قيمتها ثلاثة لم يلزم الغاصب إلا خمسة مع رد الثوب ولو تلف الثوب كله وقيمته عشرة ثم غلت الثياب فصارت قيمة الثوب عشرين لم يضمن إلا عشرة لأنها ثبتت في الذمة عشرة فلا تزداد بغلاء الثياب ولا تنقص برخصها

فصل : وإن غصب ثوبا أو زولبا
فصل : وإن غصب ثوبا أو زولبا فذهب بعض أجزائه كخمل المنشفة وزئبرة الثوب فعليه أرش نقصه وإن أقام عنده مدة لمثلها أجرة لزمه أجره سواء استعمله أو تركه وإن اجتما مثل أن أقام عنده مدة فذهب بعض أجزائه فعليه ضمانهما معا الأجر وأرش النقص سواء كان ذهاب الأجزاء بالإستعمال أو بغيره وقال بعض أصحاب الشافعي : إن نقص بغير الإستعمال كثوب ينقصه النشر فنقص بنشره وبقي عنده مدة ضمن الأجر والنقص وإن كان النقص من جهة الإستعمال كثوب لبسه وأبلاه ففيه وجهان أحدهما : يضمنهما معا والثاني : يجب أكثر الأمرين من الأجر وأرش النقص لأن ما نقص من الأجزاء في مقابلة الأجر ولذلك لا يضمن المستأجر تلك الأجزاء ويتخرج لنا مثل ذلك ولنا أن كل واحد منهما ينفرد بالإيجاب عن صاحبه فإذا اجتمعا وجبا كما لو أقام في يده مدة ثم تلف والأجرة تجب في مقابلة ما يفوت من المنافع لا في مقابلة الأجزاء ولذلك يجب الأجر وإن لم تفت الأجزاء وإن لم يكن للمغصوب أجر كثوب غير مخيط فلا أجر على الغاصب وعليه ضمان نقصه لا غير

فصل : إذا نقص المغصوب عند الغاصب ثم باعه فتلف
فصل : إذا نقص المغصوب عند الغاصب ثم باعه فتلف عند المشتري فله أن يضمن من شاء منهما فإن ضمن الغاصب ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف لأنه في ضمانه من حين غصبه إلى يوم تلف وإن ضمن المشتري ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين تلفه لأن ما قبل القبض لم يدخل في ضمانه وإن كان له أجرة فله الرجوع على الغاصب بجميعها وإن شاء رجع على المشتري بأجر مقامه في يده وبالباقي على الغاصب والكلام في رجوع كل واحد منهما على صاحبه نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى

فصل : وإذا غصب حنطه فضمنها أو شاة فذبحها وشواها
فصل : وإذا غصب حنطة فطحنها أو شاة فذبحها وشواها أو حديدا فعمله سكاكين وأواني أو خشبة فنجرها بابا أو تابوتا أو ثوبا فقطعه وخاطه لم يزل ملك صاحبه عنه ويأخذه وأرش نقصه إن نقص ولا شيء للغاصب في زيادته في الصحيح من المذهب وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : في هذه المسائل كلها ينقطع حق صاحبها عنها إلا أن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة إلا أن يدفع قيمتها فيملكها ويتصرف فيها كيف شاء وروى محمد بن الحكم عن أحمد ما يدل على أن الغاصب يملكها بالقيمة إلا أنه قول قديم رجع عنه فإن محمدا مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة واحتجوا بما روى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم زار قوما من الأنصار في دارهم فقدموا إليه شاة مشوية فتناول منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال : إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق فقالوا : نعم يا رسول الله طلبنا في السوق فلم نجد فأخذنا شاة لبعض الأنصار جيراننا ونحن نرضيهم من ثمنها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أطعموها الأسرى ] رواه أبو داود بنحو من هذا وهذا يدل على أن حق أصحابها انقطع عنها لولا ذلك لأمر بردها عليهم ولنا أن عين مال المغصوب منه قائمة فلزم ردها إليه كما لو ذبح الشاة ولم يشوها ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه فإذا فعله بملك غيره لم يزل عنه كما لو ذبح الشاة أو ضرب النقرة دراهم ولأنه لا يزيل الملك إذا كان بغير فعل آدمي فلم يزله إذا فعله آدمي كالذي ذكرناه فأما الخبر فليس بمعروف كما رووه وليس في رواية أبي داود ونحن نرضيهم عنها فإذا ثبت هذا فإنه لا شيء للغاصب بعمله سواء زادت العين أو لم تزد وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب : أن الغاصب يشارك المالك بالزيادة لأنها حصلت بمنافعه ومنافعه أجريت مجرى الأعيان فأشبه ما لو غصت ثوبا فصبغه والمذهب الأول ذكره أبو بكر و القاضي لأن الغاصب عمل في ملك غيره بغير إذنه فلم يستحق لذلك عوضا كما لو أغلى زيتا فزادت قيمته أو بنى حائطا لغيره أو زرع حنطة إنسان في أرضه وسائر عمل الغاصب فأما صبغ الثوب فإن الصبغ عين مال لا يزول ملك صاحبه عنه بجعله مع ملك غيره وهذا حجة عليه لأنه إذا لم يزل ملكه عن صبغه بجعله في ملك غيره وجعله كالصفة فلأن لا يزول ملك غيره بعمله فيه أولى فإن احتج بأن من زرع في أرض غيره يرد عليه نفقته قلنا : الزرع ملك للغاصب لأنه عين ماله ونفقته عليه تزداد به قيمته فإذا أخذه مالك الأرض احتسب له بما أنفق على ملكه وفي مسألتنا عمله في ملك المغصوب منه بغير إذنه فكان لاغيا على أننا نقول إنما تجب قيمة الزرع على إحدى الروايتين فأما إن نقصت العين دون القيمة رد الموجود وقيمة النقص وإن نقصت العين والقيمة ضمنهما معا كالزيت إذا غلاه وهكذا القول في كل ما تصرف فيه مثل نقرة ضربها دراهم أو حليا أو طينا جعله لبنا أو غزلا نسجه أو ثوبا قصره وإن جعل فيه شيئا من عين ماله مثل أن سمر الرفوف بمسامير من عنده فله قلعها ويضمن ما نقصت الرفوف وإن كان المسامير من الخشبة المغصوبة أو مال المغصوب منه فلا شيء للغاصب وليس له قلعها إلا أن يأمره المالك بذلك فيلزمه وإن كانت المسامير للغاصب فوهبها للمالك فهل يجبر على قبول الهبة ؟ على وجهين وإن استأجر الغاصب على عمل شيء من هذا الذي ذكرناه فالأجر عليه والحكم في زيادته ونقصه كما لو ولي ذلك بنفسه إلا أن يضمن النقص من شاء منهما فلو استأجر قصابا فذبح شاة فللمالك أخذها وأرش نقصها ويغرم من شاء منهما فإن غرم الغاصب لم يرجع على أحد إذا لم يعلم القصاب الحال وإن ضمن القصاب رجع على الغاصب لأنه غره وإن علم القصاب أنها مغصوبة فغرمه لم يرجع على أحد لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه عالما بالحال وإن ضمن الغاصب رجع على القصاب لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن استعار من ذبح له فهو كما لو استأجره

فصل : وإن غصب حبا فزرعه فصار زرعا
فصل : وإن غصب حبا فزرعه فصار زرعا أو نوى فصار شجرا أو بيضا فحضنه فصار فرخا فهو للمغضوب منه لأنه عين ماله نمى فأشبه ما تقدم ويتخرج أن يملكه الغاصب بناء على الرواية المذكورة في الفصل السابق وإن غصب دجاجة فباضت عنده ثم حضنت بيضها فصار فراخا فهم لمالكها ولا شيء للغاصب في علفها قال أحمد في طيرة جاءت إلى دار قوم فأفرخت عندهم : يرد فروخها إلى أصحاب الطيرة ولا شيء للغاصب فيما عمل وإن غصب شاة فأنزى عليها فحلا فالولد لصاحب الشاة لأنه من نمائها وإن غصب فحلا فأنزاه على شاته فالولد لصاحب الشاة لأنه يتبع الأم ولا أجرة له لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن عسب الفحل وإن نقصه الضراب ضر نقصه

فصل : وإن غصب دنانير أو دراهم من رجل وخلطها
فصل : وإن غصب دنانير أو دراهم من رجل وخلطها بمثلها لآخر فلم يتميزا صارا شريكين وقال أبو حنيفة : يملكها الغاصب وعليه غرامة مثلها لهما وإن خلطها بمثلها من ماله ملكها لأنه تعذر تسليمها بعينها فأشبه ما لو تلفت
ولنا أنه فعل في المغصوب على وجه التعدي لم يذهب بماليته فلم يزل ملك صاحبه عنه كذبح الشاة

فصل : وإن غصب عبدا فصار صيدا أو كسب شيئا
فصل : وإن غصب عبدا فصاد صيدا أو كسب شيئا فهو لسيده وإن غصب جارحا كالفهد والبازي فصاد به فالصيد لمالكه لأنه من كسب ماله فأشبه صيد العبد ويحتمل أنه للغاصب لأنه الصائد والجارحة آلة له ولهذا يكتفي بتسميته عند إرساله الجارح وإن غصب قوسا أو سهما أو شبكة فصاد به ففيه وجهان أحدهما : أنه لصاحب القوس والسهم والشبكة لأنه حاصل به فأشبه نماء ملكه وكسب عبده والثاني : للغاصب لأن الصيد حصل بفعله وهذه آلات فأشبه ما لو ذبح بسكين غيره فإن قلنا : هو للغاصب فعليه أجر ذلك كله مدة مقامه في يديه إن كان له أجر وإن قلنا : هو للمالك لم يكن له أجر في مدة اصطياده في أحد الوجهين لأن الأجر في مقابلة منافعه ومنافعه في هذه المدة عائدة إلى مالكه فلم يستحق عوضها على غيره كما لو زرع أرض إنسان فأخذ المالك الزرع بنفقته والثاني عليه أجر مثله لأنه استوفى منافعه أشبه ما لو لم يصد شيئا

مسألة : قال : ومن غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحق
مسألة : قال : ومن غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحد وأخذها سيدها وأولادها ومهر مثلها
وجملة ذلك أن الغاصب إذا وطيء الجارية المغصوبة فهو زان لأنها ليست زوجة له ولا ملك يمين فإن كان عالما بالتحريم فعليه حد الزنا لأنه لا ملك له ولا شبهة ملك وعليه مهر مثلها سواء كانت مكرهة أو مطاوعة وقال الشافعي : لا مهر للمطاوعة لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن مهر البغي ولنا أن هذا حق للسيد فلا يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنها حق يجب للسيد مع إكراهها فيجب مع مطاوعتها كأجر منافعها والخبر محمول على الحرة ويجب أرش بكارتها لأنه بدل جزء منها ويحتمل أن لا يجب لأن مهر البكر يدخل فيه أرش البكارة ولهذا يزيد على مهر الثيب عادة لأجل ما يتضمنه من تفويت البكارة وإن حملت فالولد مملوك لسيدها لأنه من نمائها وأجزائها ولا يلحق نسبه بالواطيء لأنه من زنا فإن وضعته حيا وجب رده معها وإن أسقطته ميتا لم يضمن لأننا لا نعلم حياته قبل هذا هذا قول القاضي وهو الظاهر من مذهب الشافعي عند أصحابه وقال القاضي أبو الحسين : يجب ضمانه بقيمته لو كان حيا نص عليه الشافعي لأنه يضمنه لو سقط بضربته وما ضمن بالإتلاف ضمنه الغاصب بالتلف في يده كأجر العين والأولى إن شاء الله تعالى أن يضمنه بعشر قيمة أمه لأنه الذي يضمنه به بالجناية فيضمنه به في التلف كالأجزاء وإن وضعته حيا حصل مضمونا في يد الغاصب كالأم فإن مات بعد ذلك ضمنه بقيمته وإن نقصت الأم بالولادة ضمن نقصها ولم ينجبر بالولد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : ينجبر نقصها بولدها
ولنا أن ولدها ملك للمغصوب منه فلا ينجبر به نقص حصل بجناية الغاصب كالنقص الحاصل بغير الولادة وإن ضرب الغاصب بطنها فألقت الجنين ميتا فعليه عشر قيمة أمه وإن ضرب بطنها أجنبي ففيه مثل ذلك وللمالك تضمين أيهما شاء فإن ضمن الغاصب رجع على الضارب وإن ضمن الضارب لم يرجع على احد لأن الإتلاف وجد منه فاستقر الضمان عليه وإن ماتت الجارية فعليه قيمتها أكثر ما كانت ويدخل في ذلك أرش بكارتها ونقص ولادتها ولا يدخل فيه ضمان ولدها ولا مهر مثلها وسواء في هذه الأحكام كلها حالة الإكراه أو المطاوعة لأنها حقوق لسيدها فلا تسقط بمطاوعتها وأما حقوق الله تعالى كالحد عليها والتعزيز في موضع يجب فإن كانت مطاوعة على الوطء عالمة بالتحريم فعليها الحد إذا كانت من أهله واإثم وإلا فلا

فصل : وإن كان الغاصب جاهلا بتحريم ذلك
فصل : إن كان الغاصب جاهلا بتحريم ذلك لقرب عهده بالإسلام أو ناشئا ببادية بعيدة يخفي عليه مثل هذا فاعتقد حل وطئها أو اعتقد أنها جاريته فأخذها ثم تبين أنها غيرها فلا حد عليه لأن الحد يدرأ بالشبهات وعليه المهر وأرش البكارة وإن حملت فالولد حر لاعتقاده أنها ملكه ويلحقه النسب لموضع الشبهة وإن وضعته ميتا لم يضمنه لأنه لم يعلم حياته ولأنه لم يحل بينه وبينه وإنما وجب تقويمه لأجل الحيلولة وإن وضعته حيا فعليه قيمته يوم إنفصاله لأنه فوت عليه رقه باعتقاده ولا يمكن تقويمه حملا فقوم عليه أول حال إنفصاله لأنه أول حال إمكان تقويمه ولأن ذلك وقت الحيلولة بينه وبين سيده وإن ضرب الغاصب بطنها فألقت جنينا ميتا فعليه غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه لا يرث الضارب منها شيئا لأنه أتلف جنينا حرا وعليه للسيد عشر قيمة أمة لأن الإسقاط لما اعتقب الضرب فالظاهر حصوله به وضمانه للسيد ضمان المماليك ولهذا لو وضعته حيا قومناه مملوكا وإن كان الضارب جنبيا فعليه غرة دية الجنين الحر لأنه محكوم بحريته وتكون موروثة عنه وعلى الغاصب للسيد عشر قيمة أمه لأنه يضمنه ضمان المماليك وقد فوت رقه على السيد وحصل التلف في يديه والحكم في المهر والأرش والأجر ونقص الولادة وقيمتها على ما مضى إذا كانا عالمين لأن هذه حقوق الآدميين فلا تسقط بالجهل والخطأ كالدية

مسألة : قال وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشترك
مسألة : قال : وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري وأولدها وهو لا يعلم ردت الجارية إلى سيدها ومهر مثلها وفدى أولاده بمثلهم وهم أحرار ورجع بذلك كله على الغاصب
وجملة ذلك أن الغاصب إذا باع الجارية فبيعه فاسد لأنه يبيع مال غيره بغير إذنه وفيه رواية أخرى إنه يصح ويقف على إجازة وقد ذكرنا ذلك في البيع وفيه رواية ثالثة إن البيع يصح وينفذ لأن الغصب في الظاهر تتطاول مدته فلو لم يصح تصرف الغاصب أفضى إلى الضرر بالمالك والمشتري لأن المالك لا يملك ثمنها والمشتري لا يملكها والتفريع على الرواية الأولى والحكم في وطء المشتري كالحكم في وطء الغاصب إلا أن المشتري إذا ادعى الجهالة قبل منه بخلاف الغاصب فإنه لا يقبل منه إلا بشرط ذكرناه ويجب رد الجارية إلى سيدها وللمالك مطالبة أيهما شاء بردها لأن الغاصب أخذها بغير حق وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ على اليد ما أخذت حتى تؤديه ] وللمشتري أخذ مال غيره بغير حق أيضا فيدخل في عموم الخبر ولأن مال غيره في يده وهذا لا خلاف فيه بحمد الله تعالى ويلزم المشتري المهر لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح وعليه أرش البكارة ونقص الولادة وإن ولدت منه فالولد حر لاعتقاده أنه يطأ مملوكته فمنع ذلك إنخلاق الولد رقيقا ويلحقه نسبه وعليه فداؤهم لأنه فوت رقهم على سيدهم باعتقاده حل الوطء هذا الصحيح في المذهب وعليه الأصحاب وقد نقل ابن منصور عن أحمد : أن المشتري لا يلزمه فداء أولاده وليس للسيد بدلهم لأنهم كانوا في حال العلوق أحرارا ولم يكن لهم قيمة حينئذ قال الخلال : أحسبه قولا لأبي عبد الله أول والذي أذهب إليه أنه يفديهم وقد نقله ابن منصور أيضا وجعفر بن محمد وهو قول أبي حنيفة و الشافعي ويفديهم ببدلهم يوم الوضع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يجب يوم المطالبة لأ ولد المغصوبة لا يضمنه عند إلا بالمنع وقبل المطالبة لم يحصل منع فلم يجب وقد ذكرنا فيما مضى أنه يحدث مضمونا فيقوم يوم وضعه لأنه أول حال أمكن تقويمه واختلف أصحابنا فيما يفديهم به فنقل الخرقي ههنا : أن يفديهم بمثلهم والظاهر أنه أراد بمثلهم في السن والصفات والجنس والذكورية والأنوثية وقد نص عليه أحمد وقال أبو بكر عبد العزيز : يفديهم بمثلهم في القيمة وعن أحمد في رواية ثالثة : أنه يفديهم بقيمتهم وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وهو أصح إن شاء الله تعالى لأن الحيوان ليس بمثلي فيضمن بقيمته كسائر المتقومات ولأنه أو أتلفه ضمنه بقيمته وقد ذكرنا وجه هذه الأقوال في غير هذا الموضع وقول الخرقي رجع بذلك كله على الغاصب يعني بالمهر وما فدى به الأولاد لأن المشتري دخل على أن يسلم له الأولاد وأن يتمكن من الوطء بغير عوض فإذا لم يسلم له ذلك فقد غره البائع فرجع به عليه فأما الجارية إذا ردها لم يرجع ببدلها لأنها ملك المغصوب منه رجعت إليه لكنه يرجع على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه وإن كانت قد أقامت عنده مدة لمثلها أجر في تلك المدة فعليه أجرها وإن اغتصبها بكرا فعليه أرش بكارتها وإن نقصتها الولادة أو غيرها فعليه أرش نقصها وإن تلفت في يده فعليه قيمتها وكل ضمان يجب على المشتري فللمغصوب منه أن يرجع به على من شاء منهما لأن يد الغاصب سبب يد المشتري وما وجب على الغاصب من أجر المدة التي كانت في يده أو نقص حدث عنده فإنه يرجع به على الغاصب وحده لأن ذلك كان قبل يد المشتري فإذا طالب المالك المشتري بما وجب في يده وأخذه منه فأراد المشتري الرجوع به على الغاصب نظرت فإن كان المشتري حين الشراء علم أنها غير مغصوبة لم يرجع بشيء لأن موجب الضمان وجد في يده من غير تغرير وإن لم يعلم فذلك على ثلاثة أضرب : ضرب : لا يرجع به وهو قيمتها إن تلفت في يده وأرش بكارتها وبدل جزء من أجزائها لأنه دخل مع البائع على أن يكون ضامنا لذلك بالثمن فإذا ضمنه لم يرجع به وضرب يرجع به وهو بدل الولد إذا ولدت منه لأنه دخل معه في العقد على أن لا يكون الولد مضمونا عليه ولم يحصل من جهته إتلاف وإنما الشرع أتلفه بحكم بيع الغاصب منه وكذلك نقص الولادة وضرب : اختلف فيه وهو مهر مثلها وأجر نفعها فهل يرجع به على الغاصب ؟ فيه روايتان إحداهما : يرجع به وهو قول الخرقي لأنه دخل في العقد على أن يتلفه بغير عوض فإذا غرم عوضه رجع به كبدل الولد ونقص الولادة وهذا أحد قولي الشافعي
والثانية : لا يرجع به وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه غرم ما استوفى بدله فلا يرجع به كقيمة الجارية وبدل أجزائها وهذا القول الثاني للشافعي وإن رجع بذلك كله على الغاصب فكل ما لو رجع به على المشتري لا يرجع به على الغاصب إذا رجع به على الغاصب رجع به الغاصب على المشتري وكل ما لو رجع به على المشتري رجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه الغاصب لم يرجع به على المشتري ومتى ردها حاملا فماتت من الوضع فإنها مضمونة على الواطيء لأن التلف بسبب من جهته

فصل : ومن استكره امرأة على الزنا فعليه الحد
فصل : ومن استكره امرأة على الزنا فعليه الحد دونها لأنها معذورة وعليه مهرها حرة كانت أو أمة فإن كانت حرة كان المهر لها وإن كانت أمة كان لسيدها وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب المهر لأنه وطء يتعلق به وجوب الحد فلم يجب به المهر كما لو طاوعته ولنا أنه وطء في غير ملك سقط فيه الحد من الموطوءة فإذا كان الواطيء من أهل الضمان في حقها وجب عليه مهرها كما لو وطئها بشبهة وأما المطاوعة فإن كانت أمة وجب مهرها لأنه حق لسيدها فلا يسقط برضاها وإن كانت حرة لم يجب لها المهر لأن رضاءها اقترن بالسبب الموجب فلم يوجب كما لو أذنته في قطع يدها أو إتلاف جزء منها وروي عن أحمد رواية أخرى : أن الثيب لا مهر لها وإن أكرهت نقلها ابن منصور وهو اختيار أبي بكر والصحيح الأول لأنها مكرهة على الوطء الحرام فوجب لها المهر كالبكر ويجب أرش للبكارة مع المهر كما لو قدمنا

فصل : إذا أجر الغاصب المغصوب فالإجارة بأصله
فصل : إذا أجر الغاصب المغصوب فالإجارة باطلة على إحدى الروايات كالبيع ولمالكه تضمين أيهما شاء أجر مثلها فإن ضمن المستأجر لم يرجع بذلك لأنه دخل في العقد على أنه يضمن المنفعة إلا أن يزيد أجر المثل على المسمى في العقد فيرجع بالزيادة ويسقط عنه المسمى في العقد وإن كان دفعه إلى الغاصب رجع به وإن تلفت العين في يد المستأجر فلمالكها تغريم من شاء منهما قيمتها فإن غرم المستأجر فله الرجوع بذلك على الغاصب لأنه دخل معه على أنه لا يضمن العين ولم يحصل له بدل في مقابلة ما غرم هذا إذا لم يعلم بالغصب وإن علم لم يرجع على أحد لأنه دخل على بصيرة وحصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه فإن غرم الغاصب الأجر والقيمة رجع بالأجر على المستأجر على كل حال ويرجع بالقيمة إن كان المستأجر عالما بالغصب وإلا فلا وهذا قول الشافعي و محمد بن الحسن في الفصل كله وحكي عن أبي حنيفة : أن الأجر للغاصب دون صاحب الدار وهذا فاسد لأن الأجر عوض المنافع المملوكة لرب الدار فلم يملكها الغاصب كعوض الأجزاء

فصل : وإن أودع المغصوب أو وكل رجلا في بيعه
فصل : وإن أودع المغصوب أو وكل رجلا في بيعه ودفعه إليه فتلف في يده فللمالك تضمين أيهما شاء أما الغاصب فلأنه حال بين المالك وبين ملكه وأثبت اليد العادية عليه والمستودع والوكيل لإثباتهما أيديهما على ملك معصوم بغير حق فإن غرم الغاصب وكانا غير عالمين بالغصب استقر الضمان عليه ولم يرجع على أحد وإن غرمهما رجعا على الغاصب بما غرما من القيمة والأجر لأنهما دخلا على أن لا يضمنا شيئا من ذلك ولم يحصل لهما بدل عما ضمنا وإن علم أنها مغصوبة استقر الضمان لأن التلف حصل تحت أيديهما من غير تغرير بهما فاستقر الضمان عليهما فإن غرما شيئا لم يرجعا به وإن غرم الغاصب رجع عليهما لأن التلف حصل في أيديهما وإن جرحها الغاصب ثم أودعها أو ردها إلى مالكها فتلفت بالجرح استقر الضمان على الغاصب بكل حال لأنه هو المتلف فكان الضمان عليه كما لو باشرها بالإتلاف في يده

فصل : وإن أعار العين المغصوب فتلفت عند المستعير
فصل : وإن أعار العين المغصوبة فتلفت عند المستعير فللمالك تضمين أيهما شاء أجرها وقيمتها فإن غرم المستعير مع علمه بالغصب لم يرجع على أحد وإن غرم الغاصب رجع على المستعير وإن لم يكن علم بالغصب فغرمه لم يرجع بقيمة العين لأنه قبضها على أن يكون مضمونة عليه وهل يرجع بما غرم من الأجر ؟ فيه وجهان أحدهما : يرجع لأنه دخل على أن المنافع له غير مضمونة عليه والثاني : لا يرجع لأنه انتفع بها فقد استوفى بدل ما غرم وكذلك الحكم فيما تلف من الأجزاء بالإستعمال وإذا كانت العين وقت القبض أكثر قيمة من يوم التلف فضمن الأكثر فينبغي أن يرجع بما بين القيمتين لأنه دخل على أنه لا يضمنه ولم يستوف بدله فإن ردها المستعير على الغاصب فللمالك أن يضمنه أيضا لأنه فوت الملك على مالكه بتسليمه إلى غير مستحقه ويستقر الضمان على الغاصب إن حصل التلف في يديه وكذلك الحكم في المودع وغيره

فصل : وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان
فصل : وإن وهب المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان على المتهب فمهما غرم من قيمة العين أو أجزائها لم يرجع به على أحد لأن التلف حصل في يديه ولم يغره أحد وكذلك أجر مدة مقامه في يديه وأرش نقص إن حصل وإن لم يعلم فلصاحبها تضمين أيهما شاء فإن ضمن المتهب رجع على الواهب بقيمة العين والأجزاء لأنه غره وقال أبو حنيفة : أيهما ضمن لم يرجع على الآخر
ولنا أن المتهب دخل على أن تسلم له العين فيجب أن يرجع بما غرم من قيمتها كقيمة الأولاد فإنه وافقنا على الرجوع بضمانه فإما الأجرة والمهر وأرش البكارة فهل يرجع به المتهب على الواهب ؟ فيه وجهان وإن ضمنه الواهب فهل يرجع به على المتهب ؟ فيه وجهان

فصل : وتصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي
فصل : وتصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي على ما ذكرنا من الروايتين احداهما : بطلانها والثانية : صحتها ووقوفها على إجازة المالك وذكر أبو الخطاب : أن في تصرفات الغاصب الحكمية رواية إنها تقع صحيحة وسواء في كل العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والحج أو العقود كالبيع والإجارة والنكاح وهذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المالك فأما ما اختار المالك إبطاله وأخذ المعقود عليه فلم نعلم فيه خلافا وأما ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أن الغاصب تطول مدته وتكثر تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير وربما عاد الضرر على المالك فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح لمالك والعوض بنمائه وزيادته له والحكم ببطلانه يمنع ذلك

فصل : وإذا غصب أثمانا أو عروضا فباعها
فصل : وإذا غصب أثمانا فاتجر بها أو عروضا فباعها واتجر بثمنها فقال أصحابنا الربح للمالك والسلع المشتراة له وقال الشرف أبو جعفر و أبو الخطاب : إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك قال الشريف وعن أحمد أنه يتصدق به وإن اشترى في ذمته ثم نقد الأثمان فقال أبو الخطاب : يحتمل أن يكون الربح للغاصب وهو قول أبي حنيفة و الشافعي في أحد قوليه لأنه إشترى لنفسه في ذمته فكان الشراء له والربح له وعليه بدل المغصوب وهذا قياس قول الخرقي ويحتمل أن يكون الربح للمغصوب منه لأنه نماء ملكه فكان له كما لو اشترى بعين المال وهذا ظاهر المذهب وإن حصل خسران فهو على الغاصب لأنه نقص حصل في المغصوب وإن دفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرنا وليس على المالك من أجر العامل شيء لأنه لم يأذن له في العمل في ماله وأما الغاصب فإن كان المضارب عالما بالغصب فلا أجر له لأنه متعد بالعمل ولم يغره أحد وإن لم يعلم بالغصب فعلى الغاصب أجر مثله لأنه استعمله عملا بعوض لم يحصل له فلزمه أجره كالعقد الفاسد

مسألة : قال ومن غصب شيئا ولم يقدر على رده
مسألة : قال : ومن غصب شيئا ولم يقدر على رده لزمت الغاصب القيمة فإن قدر عليه رده وأخذ القيمة
وجملته أن من غصب شيئا يعجز عن رده كعبد أبق أو دابة شردت فللمغصوب منه المطالبة ببدله فإذا أخذه ملكه ولم يملك الغاصب العين المغصوبة بل متى قدر عليها لزمه ردها ويسترد قيمتها التي أداها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : يخير المالك بين الصبر إلى إمكان ردها فيستردها وبين تضمينه إياها فيزول ملكه عنها وتصير ملكا للغاصب لا يلزمه ردها إلا أن يكون دفع دون قيمتها بقوله مع يمينه لأن المالك ملك البدل فلا يبقى ملكه على المبدل كالبيع ولأنه تضمين فيما ينقل الملك فيه فنقله ما لو خلط زيته بزيته
ولنا أن المغصوب لا يصح تملكه بالبيع فلا يصح بالتضمين كالتالف ولأنه غرم ما تعذر عليه رده بخروجه عن يده فلا يملكه بذلك كما لو كان المغصوب مدبرا وليس هذا جمعا بين البدل والمبدل لأنه ملك القيمة لأجل الحيلولة لا على سبيل العوض ولهذا إذا رد المغصوب إليه رد القيمة عليه ولا يشبه الزيت لأنه يجوز بيعه ولأن حق صاحبه انقطع عنه لتعذر رده أبدا إذا ثبت هذا فإنه متى قدر على المغصوب رده ونماه المنفصل والمتصل وأجر مثله إلى حين دفع بدله وهل يلزمه أجره من حين دفع بدله إلى رده ؟ فيها وجهان أصحهما لا يلزمه لأنه استحق الإنتفاع ببدله الذي أقيم مقامه فلم يستحق الإنتفاع به وبما قام مقامه كسائر ما عداه والثاني : له أجر لأن العين باقية على ملكه والمنفعة له ويجب على المالك رد ما أخذه بدلا عنه إلى الغاصب لأنه أخذه بالحيلولة وقد زالت فيجب رد ما أخذ من أجلها إن كان باقيا بعينه ورد زيادته المتصلة كالسمن ونحوه لأنها تتبع في الفسوخ وهذا فسخ ولا يلزم رد زيادته المنفصلة لأنها وجدت في ملكه ولا تتبع في الفسوخ فأشبهت زيادة المبيع المردود بعيب وإن كان البدل تالفا رد مثله أو قيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال

فصل : وإن غصب عصيرا فصار خمرا فعليه مثل العصير
فصل : وإن غصب عصيرا فصار خمرا فعليه مثل العصير لأنه تلف في يديه فإن صار خلا وجب رده وما نقص من قيمة العصير ويسترجع ما أداه من بدله وقال بعض أصحاب الشافعي : يرد الخل ولا يسترجع القيمة لأن العصير تلف بتخمره فوجب ضمانه وإن عاد خلا كما لو هزلت الجارية السمينة ثم عاد سمنها فإنه يردها وأرش نقصها
ولنا أن الخل عين العصير تغيرت صفته وقد رده فكان له استرجاع ما أداه بدلا عنه كما لو غصبه فغصبه منه غاصب ثم رده عليه وكما لو غصب حملا فصار كبشا وأما السمن الأول فلنا فيه منع وإن سلمناه فالثاني غير الأول بخلاف مسألتنا

فصل : وإن غصب شيئا ببلد فلقيه ببلد آخر
فصل : وإذا غصب شيئا ببلد فلقيه ببلد آخر فطالبه به نظرت فإن كان أثمانا لزمه دفعها إليه لأن الأثمان قيم الأشياء فلا يضر إختلاف قيمتها وإن كانت غيرها وكانت من المثليات وقيمته في البلدين واحدة أو كانت قيمته في بلد الغصب أكثر لزمه إداء مثله لأنه لا ضرر عليه وكذلك إن كانت قيمته مختلفة إلا أنه لا مؤونة لحمله فله المطالبة بمثله لأنه أمكنه رد المثل من غير ضرر يلحقه وإن كان لحمله مؤنة وقيمته في البلد الذي غصبه فيه أقل فليس عليه رده ولا رد مثله لأننا لا نكلفه مؤنة النقل إلى بلد لا يستحق تسليمه فيه وللمغصوب منه الخيرة بين الصبر إلى أن يستوفيه في بلده وبين المطالبة في الحال بقيمته في البلد الذي غصبه فيه لأنه تعذر رده ورد مثله وإن كان من المتقومات فله المطالبة بقيمته في البلد الذي غصبه فيه ومتى قدر على رد العين المغصوبة ردها واسترجع بدلها على ما ذكرناه في المسألة قبل هذا

مسألة : قال : ولو غصبها حاملا فولدت في يده ثم مات الولد
مسألة : قال : ولو غصبها حاملا فولدت في يده ثم مات الولد أخذها سيدها وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته
الكلام في هذه المسألة في أمرين أحدهما : إنه إذا غصب حاملا من الحيوان أمة أو غيرها فالولد مضمون وكذلك لو غصب حائلا فحملت عنده وولدت ضمن ولدها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : لا يجب ضمان الولد في الصورتين لأنه ليس بمغصوب إذ الغصب فعل محظور ولم يوجد فإن الموجود ثبوت اليد عليه وليس ذلك من فعله لأنه انبنى على وجود الولد ولا صنع له فيه
ولنا أن ما ضمن خارج الوعاء ضمن ما فيه كالدرة في الصدفة والجوز واللوز ولأنه مغصوب فيضمن كالأم فإن الولد إما أن يكون مودوعا في الأم كالدرة في الحقة وإما أن يكون كأجزائها وفي كلا الموضعين الإستيلاء على الظرف والإستيلاء على الجملة إستيلاء على الجزء المظروف فإن أسقطته ميتا لم يضمنه لأنه لا تعلم حياته ولكن يجب ما نقصت الأم عن كونها حاملا وأما إذا حدث الحمل فقد سبق الكلام فيه الأمر الثاني : أنه يلزمه رد الموجود من المغصوب وقيمة التالف فإن كانت قيمة التالف لا تختلف من حين الغصب إلى حين الرد ردها وإن كانت تختلف نظرنا فإن كان اختلافهما لمعنى فيه من كبر وصغر وسمن وهزال وتعلم ونسيان ونحو ذلك من المعاني التي تزيد بها القيمة وتنقص فالواجب القيمة أكثر ما كانت لأنها مغصوبة في الحال التي زادت فيها والزيادة لمالكها مضمومة على الغاصب على ما قررناه فيما مضى فإن كانت زائدة حين تلفها لزمته قيمتها حينئذ لأنه كان يلزمه ردها زائدة فلزمته قيمتها كذلك وإن كانت زائدة قبل تلفها ثم نقصت عند تلفها لزمه قيمتها حين كانت زائدة لأنه لو ردها ناقصة للزمه أرش نقصها وهو بدل الزيادة فإذا ضمن الزيادة مع ردها ضمنها عند تلفها فإن كان اختلافها لتغير الأسعار لم يضمن الزيادة لأن نقصان القيمة لذلك لا يضمن مع رد العين فلا يضمن عند تلفها وحمل القاضي قول الخرقي على ما إذا اختلفت القيمة لتغير الأسعار وهو مذهب الشافعي لأن أكثر القيمتين فيه للمغصوب منه فإذا تعذر ردها ضمنها كقيمة يوم التلف وإنما سقطت القيمة مع رد العين والمذهب الأول لما ذكرنا وتفارق هذه الزيادة زيادة المعاني لأن تلك تضمن مع رد العين فكذلك مع تلفها وهذه لا تضمن مع رد العين فكذلك مع تلفها وقولهم أنها سقطت برد العين لا يصح لأنها لو وجبت لما سقطت بالرد كزيادة السمن والتعلم قال القاضي : ولم أجد عن أحمد رواية بأنها تضمن بأكثر القيمتين لتغير الأسعار فعلى هذا تضمن بقيمتها يوم التلف رواه الجماعة عن أحمد وعنه أنها تضمن بقيمتها يوم الغصب وهو قول أبي حنيفة و مالك لأنه الوقت الذي أزال يده عنه فيلزمه القيمة حينئذ كما لو أتلفه
ولنا أن القيمة إنما تثبت في الذمة حين التلف لأن قبل ذلك كان الواجب رد العين دون قيمتها فاعتبرت تلك الحالة كما لو لم تختلف قيمته وما ذكروه لا يصح لأن إمساك المغصوب غصب فإنه فعل يجب عليه تركه في كل حال وما روي عن أحمد من اعتبار القيمة بيوم الغصب فقال الخلال جبن أحمد عنه كأنه رجع إلى قوله الأول

فصل : وإن كان المغصوب من المثليات فتلف وجب رد مثله
فصل : وإن كان المغصوب من المثليات فتلف وجب رد مثله فإن فقد المثل وجبت قيمته يوم إنقطاع المثل وقال القاضي : تجب قيمته يوم قبض البدل لأن الواجب المثل إلى حين قبض البدل بدليل أنه لو وجد المثل بعد فقده لكان الواجب هو دون القيمة وقال أبو حنيفة و مالك وأكثر أصحاب الشافعي : تجب قيمته يوم المحاكمة لأن القيمة لم تنتقل إلى ذمته إلا حين حكم بها الحاكم
ولنا أن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل فاعتبرت القيمة حينئذ كتلف المتقوم ودليل وجوبها حينئذ أنه يستحق طلبها واستيفاءها ويجب على الغاصب أداؤها ولا ينفي وجوب المثل لأنه معجوز عنه والتكليف يستدعي الوسع ولأنه لا يستحق طلب المثل ولا استيفاءه ولا يجب على الآخر إداؤه فلم يكن واجبا كحالة المحاكمة وأما إذا قدر على المثل بعد فقده فإنه يعود وجوبه لأنه الأصل قدر عليه قبل أداء البدل فأشبه القدرة على الماء بعد التيمم ولهذا لو قدر عليه بعد المحاكمة وقبل الاستيفاء لاستحق المالك طلبه وأخذه وقد روي عن أحمد في رجل أرطالا من كذا وكذا أعطاه على السعر يوم أخذه لا يوم يحاسبه وكذلك روي عنه في حوائج البقال عليه القيمة يوم الأخذ وهذا يدل على أن القيمة تعتبر يوم الغصب وقد ذكرنا ذلك في الفصل قبل هذا ويمكن التفريق بين هذا وبين الغصب من قبل أن ما أخذه ههنا بإذن مالكه ملكه وحل له التصرف فيه فتثبت قيمته يوم ملكه ولم يتغير ما ثبت في ذمته بتغير قيمته ما أخذه لأنه ملكه والمغصوب ملك للمغصوب منه والواجب رده لا قيمته وإنما تثبت قيمته في الذمة يوم تلفه أو انقطاع مثله فاعتبرت القيمة حينئذ وتغيرت بتغيره قبل ذلك فأما إن كان المغصوب باقيا وتعذر رده فأوجبنا رد قيمته فإنه يطالبه بقيمته يوم قبضها لأن القيمة لم تثبت في الذمة قبل ذلك ولهذا يتخير بين أخذها والمطالبة بها وبين الصبر إلى وقت إمكان الرد ومطالبة الغاصب بالسعي في رده وإنما يأخذ القيمة لأجل الحيلولة بينه وبينه فيعتبر ما يقوم مقامه ولأن ملكه لم يزل عنه بخلاف غيره

مسألة : قال وإذا كان للمغصوب أجره فعلى الغاصب رده
مسألة : قال : وإذا كان للمغصوب أجرة فعلى الغاصب رده وأجر مثله مدة مقامه في يديه
هذه المسألة تشتمل على حكمين أحدهما : وجوب رد المغصوب والثاني : رد أجرته : أما الأول فإن المغصوب متى كان باقيا وجب رده لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ على اليد ما أخذت حتى ترده ] رواه أبو داود و ابن ماجه و الترمذي وقال حديث حسن وروى عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا جادا ومن أخذ عصا أخيه فليردها ] رواه أبو داود يعني أنه يقصد المزح مع صاحبه بأخذ متاعه وهو جاد في إدخال الغم والغيظ عليه ولأنه أزال يد المالك عن ملكه بغير حق فلزمه إعادتها وأجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان باقيا بحاله لم يتغير ولم يشتغل بغيره فإن غصب شيئا فبعده لزم رده وإن غرم عليه أضعاف قيمته لأنه جنى بتبعيده فكان ضرر ذلك عليه فإن قال الغاصب خذ مني أجر رده وتسلمه مني ههنا أو بذل له أكثر من قيمته ولا يسترده لم يلزم المالك قبول ذلك لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كالبيع وإن قال المالك : دعه لي في مكانه الذي نقلته إليه لم يملك الغاصب رده لأنه أسقط عنه حقا فسقط وإن لم يقبله كما لو أبرأه من دينه وإن قال رده لي إلى بعض الطريق لزمه ذلك لأنه يلزمه جميع المسافة فلزمه بعضها المطلوب وسقط عنه ما أسقطه وإن طلب منه حمله إلى مكان آخر في غير طريق الرد لم يلزم الغاصب ذلك سواء كان أقرب من المكان الذي يلزمه رده إليه أو لم يكن لأنه معاوضة وإن قال دعه في مكانه واعطني أجر رده لم يجبر على إجابته لذلك ومهما اتفقا عليه من ذلك جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما

فصل : وإن غصب شيئا فشغله بملكه
فصل : وإن غصب شيئا فشغله بملكه كخيط خاط به ثوبا أو نحوه أو حجرا بنى عليه نظرنا فإن بلي الخيط أو انكسر الحجر أو كان مكانه خشبة فتلفت لم يؤخذ برده ووجبت قيمته لأنه صار هالكا فوجبت قيمته وإن كان باقيا بحاله لزمه رده وإن انتقض البناء وتفصل الثوب وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب رد الخشبة والحجر لأنه صار تابعا لملكه يستضر بقلعه فلم يلزم رده كما لو غصب خيطا فخاط به جرح عبده
ولنا أنه مغصوب أمكن رده ويجوز له فوجب كما لو بعد العين ولا يشبه الخيط الذي يخاف على العبد من قلعه لأنه يجوز له رده لما في ضمنه من تلف الآدمي ولأن حاجته إلى ذلك تبيح أخذه ابتداء بخلاف البناء وإن خاط بالخيط جرح حيوان فذلك على أقسام ثلاثة أحدها : أن يخيط به جرح حيوان لا حرمة له كالمرتد والخنزير والكلب العقور فيجب نزعه ورده لأنه لا يتضمن تفويت ذي حرمة فأشبه ما لو خاط به ثوبا والثاني : أن يخيط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي فإن خيف من نزعه الهلاك أو إبطاء برئه فلا يجب نزعه لأن الحيوان آكد حرمة من عين المال ولهذا يجوز له أخذه مال غيره ليحفظ حياته وإتلاف المال لتبقيه وهو ما يأكله وكذلك الدواب التي لا يؤكل لحمها كالبغل والحمال والأهلي الثالث : أن يخيط به جرح حيوان مأكول فإن كان ملكا لغير الغاصب وخيف تلفه بقلعه لم يقلع لأن فيه أضرارا بصاحبه ولا يزال الضرر بالضرر ولا يجب إتلاف مال من لم يجن صيانة لمال آخر وإن كان الحيوان للغاصب فقال القاضي : لا يجب رده لأنه يمكن ذبح الحيوان والإنتفاع بلحمه وذلك جائز وإن حصل فيه نقص على الغاصب فليس ذلك بمانع من وجوب رد المغصوب كنقص البناء لرد الحجر المغصوب وقال أبو الخطاب : فيه وجهان أحدهما : هذا والثاني : لا يجب قلعه لأن للحيوان حرمة في نفسه وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذبح الحيوان لغير أكله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ويحتمل أن يفرق بين ما يعد للأكل من الحيوان كبهيمة الأنعام والدجاج وأكثر الطير وبين ما لا يعد له كالخيل والطير المقصود صوته فالأول يجب ذبحه إذا توقف رد المغصوب عليه والثاني : لا يجب لأن ذبحه إتلاف له فجرى مجرى ما لا يؤكل لحمه ومتى أمكن رد الخيط من غير تلف الحيوان أو تلف بعض أعضائه أو ضرر كثير وجب رده

فصل : وإن غصب فصلا فأدخله داره فكبر
فصل : وإن غصب فصيلا فأدخله داره فكبر ولم يخرج من الباب أو خشبة وأدخلها دراه ثم بنى الباب ضيقا لا يخرج منه إلا بنقضه وجب نقضه ورد الفصيل والخشبة كما ينقض البناء لرد الساجة فإن كان حصوله في الدار بغير تفريط من صاحب الدار نقض الباب وضمانه على صاحب الفصيل لأنه لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الدار وأما الخشبة فإن كان كسرها أكثر ضررا من نقض الباب فهي كالفصيل وإن كان أقل كسرت ويحتمل في الفصيل مثل هذا فإنه متى كان ذبحه أقل ضررا ذبح وأخرج لحمه لأنه في معنى الخشبة وإن كان حصوله في الدار بعدوان من صاحبه كرجل غصب دارا فأدخلها فصيلا أو خشبة أو تعدى على إنسان فأدخل داره فرسا ونحوها كسرت الخشبة وذبح الحيوان وإن زاد ضرره على نقض البناء لأن سبب هذا الضرر عدوانه فيجعل عليه دون غيره ولو باع دارا فيها خوابي لا يخرج إلا بنقض الباب أو خزائن أو حيوان وكان نقض الباب أقل ضررا من بقاء ذلك في الدار أو تفصيله أو ذبح الحيوان نقض وكان إصلاحه على البائع لأنه لتخليص ماله وإن كان أكثر ضررا لم ينقض لأنه لا فائدة فيه ويصطلحان على ذلك إما بأن يشتريه مشتري الدار أو غير ذلك

فصل : وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة
فصل : وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة فقال أصحابنا : حكمها حكم الخيط الذي خاط به جرحها ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر من قيمة الحيوان ذبح الحيوان وردت إلى مالكها وضمان الحيوان على الغاصب إلا أن يكون الحيوان آدميا وفارق الخيط لأنه في الغالب أقل قيمة من الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففي ذبح الحيوان رعاية حق المالك برد عين ماله إليه ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه وإن ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يمكن إخراجها إلا بذبح الشاة ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل وكان ضمان نقصها على صاحب الجوهرة لأنه لتخليص ماله إلا أن يكون التفريط من صاحب الشاة بكون يده عليها فلا شيء لصاحب الجوهرة لأن التفريط من صاحب الشاة فالضرر عليه وإن أدخلت رأسها في قمقم فلم يمكن إخراجه إلا بذبحها وكان الضرر في ذبحها أقل ذبحت وإن كان الضرر في كسر القمقم أقل كسر القمقم وإن كان التفريط من صاحب الشاة فالضمان عليه وإن كان التفريط من صاحب القمقم بأن وضعه في الطريق فالضمان عليه وإن لم يكن منهما تفريط فالضمان على صاحب الشاة إن كسر القمقم لأن كسر لتخليص شاته وإن ذبحت الشاة فالضمان على صاحب القمقم لأنه لتخليص قمقمه فإن قال من عليه الضمان منهما أنا أتلف مالي ولا أغرم شيئا للآخر فله ذلك لأن إتلاف مال الآخر إنما كان لحقه وسلامة ماله وتخليصه فإذا رضي بتلفه لم يجز إتلاف غيره وإن قال لا أتلف مالي ولا أغرم شيئا لم نمكنه من إتلاف مال صاحبه لكن صاحب القمقم لا يجبر على شيء لأن القمقم لا حرمة له فلا يجبر صاحبه على تخليصه وأما صاحب الشاة فلا يحل له تركها لما فيه من تعذيب الحيوان فيقال له إما أن تذبح الشاة لتريحها من العذاب وإما أن تغرم القمقم لصاحبه إذا كان كسره أقل ضررا ويخلصها لأن ذلك من ضرورة إبقائها أو تخليصها من العذاب فلزمه كعلفها وإن كان الحيوان غير مأكول إحتمل أن يكون حكمه حكم المأكول فيما ذكرنا واحتمل أن يكسر القمقم وهو قول أصحابنا لأنه لا نفع في ذبحه ولا هو مشروع وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذبح الحيوان لغير أكله ويحتمل أن يجري مجرى المأكول في أنه متى كان قتله أقل ضررا وكانت الجناية من صاحبه قتل لأن حرمته معارضة لحرمة الآدمي الذي يتلف ماله والنهي عن ذبحه معارض بالنهي عن إضاعة المال وفي كسر القمقم مع كثرة قيمته إضاعة للمال والله أعلم

فصل : وإن غصب دينارا فوقع في محبرته
فصل : وإن غصب دينارا فوقع في محبرته أو أخذ دينار غيره فسها فوقع في محبرته كسرت ورد الدينار كما ينقض البناء لرد الساجة وكذلك إن كان درهما أو أقل منه وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه والضمان عليه لأنه لتخليص ماله وإن غصب دينارا فوقع في محبرة آخر يفعل الغاصب أو غير فعله كسرت لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لأنه السبب في كسرها وإن كان كسرها أكثر ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم تكسر وإن رمى إنسان ديناره في محبرة غيره عدوانا فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لأن صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لإزالة ضرر عدوانه عن نفسه وعلى الغاصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها ويحتمل أن يجبر على كسرها لرد عين مال الغاصب ويضمن الغاصب قيمتها كما لو غرس في أرض غيره ملك حفر الأرض بغير إذن المالك لأخذ غرسه ويضمن نقصها بالحفر وعلى كلا الوجهين لو كسرها الغاصب قهرا لم يلزمه أكثر من قيمتها

فصل : وإن غصب لوحا فرقع به سفينة
فصل : وإن غصب لوحا فرقع به سفينة فإن كانت على الساحل لزم قلعه ورده وإن كانت في لجة البحر واللوح في أعلاه بحيث لا تغرق بقلعه لزم قلعه وإن خيف غرقها بقلعه لم يقلع حتى تخرج إلى الساحل ولصاحب اللوح طلب قيمته فإذا أمكن رد اللوح استرجعه ورد القيمة كما لو غصب عبدا فأبق وقال أبو الخطاب إن كان فيها حيوان له حرمة أو مال لغير الغاصب لم يقلع كالخيط وإن كان فيها مال للغاصب أو لا مال فيها ففيها وجهان أحدهما : لا يقلع والثاني : يقلع في الحال لأنه أمكن رد المغصوب فلزم وإن أدى إلى تلف المال كرد الساجة المبني عليها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
ولنا أنه أمكن رد المغصوب من غير إتلاف فلم يجز الإتلاف كما لو كان فيها مال غيره وفارق الساجة في البناء فإن لا يمكن ردها من غير إتلاف

فصل : وإذا غصب شيئا فخلطه بما يمكن تمييزه منه
فصل : وإذا غصبر شيئا فخلطه بما يمكن تمييزه منه كحنطة بشعير أو سمسم أو صغار الحب بكبار أو زبيب أسود بأحمر لزمه تمييزه ورده وأجر المميز عليه وإن لم يكن تمييز جميعه وجب تمييزه ما أمكن وإن لم يمكن تمييزه فهو على خمسة أضرب :
أحدها : أن يخلطه بمثله من جنسه كزيت بزيت أو حنطة بمثلها أو دقيق بمثله أو دنانير أو دراهم بمثلها فقال ابن حامد : يلزمه مثل المغصوب منه وهو ظاهر كلام أحمد لأنه نص على أنه يكون شريكا به إذا خلطه بغير الجنس فيكون تنبيها على ما إذا خلطه بجنسه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي إلا في الدقيق فإن تجب قيمته لأنه عندهم ليس بمثلي وقال القاضي : قياس المذهب أنه يلزمه مثله إن شاء منه وإن شاء من غيره لأنه تعذر عليه رد عين ماله بالخلط فأشبه ما لو تلف لأنه لا يتميز له شيء من ماله
ولنا أنه قدر على دفع بعض ماله إليه مع رد المثل في الباقي فلم ينتقل إلى المثل في الجميع كما لو غصب صاعا فتلف نصفه وذلك لأنه إذا دفع إليه منه فقد دفع إليه بعض ماله وبدل الباقي فكان أولى من دفعه من غيره
الضرب الثاني والثالث والرابع : أن يخلطه بخير منه أو دونه أو بغير جنسه فظاهر كلام أحمد أنهما شريكان يباع الجميع ويدفع إلى كل واحد منهما قدر حقه لأنه قال في رواية أبي الحارث في رجل له رطل زيت وآخر له رطل شيرج اختلطا يباع الدهن كله ويعطى كل واحد منهما قدر حصته وذلك لأننا إذا فعلنا ذلك أوصلنا إلى كل واحد منهما عين ماله وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يرجع إلى البدل وإن نقص المغصوب عن قيمته منفردا فعلى الغاصب ضمان النقص لأنه حصل بفعله وقال القاضي : قياس المذهب أنه يلزم الغاصب مثله لأنه صار بالخلط مستهلكا وكذلك لو اشترى زيتا فخلطه زيته ثم أفلس صار البائع كأسوة الغرماء ولأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ماله فكان له بدله كما لو كان تالفا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا اختلطا من غير غصب فأما المغصوب فقد وجد من الغاصب ما منع المالك من أخذ حقه من المثليات مميزا فلزمه مثله كما لو أتلفه إلا أنه إن خلطه بخير منه وبذل لصاحبه مثل حقه منه لزمه قبوله لأنه أوصل إليه بعض حقه بعينه وتبرع بالزيادة في مثل الباقي وإن خلطه بدون منه فرضي المالك بأخذ قدر حقه منه لزم الغاصب بذله لأنه أمكنه رد بعض المغصوب ورد مثل الباقي من غير ضرر وقيل لا يلزم الغاصب ذلك لأن حقه انتقل إلى الذمة فلم يجبر على غير مال وإن بذله للمغصوب منه فأباه لم يجبر على قبوله لأنه دون حقه وإن تراضيا بذلك جار وكان المالك متبرعا بترك بعض حقه وإن اتفقا على أن يأخذ أ : ثر من حقه من الرديء أو دون حقه من الجيد لم يجز لأنه ربا لأنه يأخذ الزائد في القدر عوضا عن الجودة وإن كان بالعكس فرضي دون حقه من الرديء أو سمح الغاصب فدفع أكثر من حقه من الجيد جاز لأنه لا مقابل للزيادة وإنما هي تبرع مجرد وإن خلطه بغير جنسه فتراضيا على أن يأخذ أكثر من قدر حقه أو أقل جاز لأنه بدله من غير جنسه فلا تحرم الزيادة بينهما
الضرب الخامس : أن يخلطه بما لا قيمة له كزيت خلطه بماء أو لبن شابه بماء فإن أمكن تخليصه خلصه ورد نقصه وإن لم يمكن تخليصه أو كان ذلك يفسده رجع عليه بمثله لأنه صار كالهالك وإن لم يفسده رده ورد نقصه وإن احتيج في تخليصه إلى غرامة لزم الغاصب ذلك لأنه بسببه ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو ما ذكرنا

فصل : وإن غصب ثوبا فصبغه
فصل : وإن غصب ثوبا فصبغه لم يخل من ثلاثة أقسام أحدهما : أن يصبغه بصبغ له الثاني : أن يصبغه بصبغ للمغصوب منه الثالث : أن يصبغه بصبغ لغيرهما والأول لا يخلو من ثلاثة أحوال أحدها : أن يكون الثوب والصبغ بحالها لم تزد قيمتهما ولم تنقص مثل إن كانت قيمة كل واحد منهما خمسة فصارت قيمتهما بعد الصبغ عشرة فهما شريكان لأن الصبغ عين مال له قيمة فإن تراضيا بتركه لها جاز وإن باعاه فثمنه بينهما نصفين
الحال الثاني : إذا زادت قيمتها فصارا يساويان عشرين نظرت فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق كانت الزيادة لصاحب الثوب وإن كانت لزيادة الصبغ في السوق فالزيادة لصاحبه وإن كانت لزيادتهما معا فهي بينهما على حسب زيادة كل واحد منهما فإن تساويا في الزيادة في السوق تساوي صاحباهما فيهما وإن زاد أحدهما ثمانية والآخر اثنين فهي بينهما كذلك وإن زادا بالعمل فالزيادة بينهما لأن عمل الغاصب زاد به في الثوب والصبغ وما عمله في المغصوب للمغصوب منه إذا كان أثرا وزيادة مال الغاصب له وإن نقصت القيمة لتغير الأسعار لم يضمنه الغاصب لما تقدم وإن نقص لأجل العمل فهو على الغاصب لأنه بتعديه فإذا صار قيمة الثوب مصبوغا خمسة فهو كله لمالكه ولا شيء للغاصب لأن النقص حصل بعدوانه فكان عليه وإن صارت قيمته سبعة صار الثوب بينهما لصاحبه خمسة أسباعه ولصاحب الصبغ سبعاه وإن زادت قيمة الثوب في السوق فصار يساوي سبعة ونقص الصبغ فصار يساوي ثلاثة وكانت قيمة الثوب مصبوغا عشرة فهو بينهما لصاحب الثوب سبعة ولصاحب الصبغ ثلاثة وإن ساوى إثني عشر قسمت بينهما لصاحب الثوب نصفها وخمسها وللغاصب خمسها وعشرها وإن انعكس الحال فصار الثوب يساوي في السوق ثلاثة والصبغ سبعة انعكست القيمة فصار لصاحب الصبغ ههنا ما كان لصاحب الثوب في التي قبلها ولصاحب الثوب ما كان لصاحب الصبغ لأن زيادة السعر لا تضمن فإن أراد الغاصب قلع الصبغ فقال أصحابنا له : ذلك سواء أضر بالثوب أو لم يضر ويضمن نقص الثوب إن نقص وبهذا قال الشافعي : لأنه عين ماله فملك أخذه كما لو غرس في أرض غيره ولم يفرق أصحابنا بين ما يهلك صبغه بالقلع وبين ما لا يهلك وينبغي أن يقال ما يهلك بالقلع لا يملك قلعه لأنه سفه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يمكن من قلعه إذا تضرر الثوب بقلعه لأنه قال في المشتري إذا بنى أو غرس في الأرض المشفوعة فله أخذه إذا لم يكن في أخذه ضرر وقال أبو حنيفة : ليس له أخذه لأن فيه أضرارا بالثوب المغصوب فلم يمكن منه كقطع خرقة منه وفارق قلع الغرس لأن الضرر قليل يحصل به نفع قلع العروق من الأرض وإن اختار المغصوب منه قلع الصبغ ففيه وجهان أحدهما : يملك إجبار الغاصب عليه كما يملك إجباره على قلع شجره من أرضه وذلك لأنه شغل ملكه بملكه على وجه أمكن تخليصه فلزمه تخليصه وإن استضر الغاصب كقلع الشجر وعلى الغاصب ضمان نقص الثوب وأجر القلع كما يضمن ذلك في الأرض والثاني : لا يملك إجباره عليه ولا يمكن من قلعه لأن الصبغ يهلك بالإستخراج وقد أمكن وصول الحق إلى مستحقه بدونه بالبيع فلم يجبر على قلعه كقلع الزرع من الأرض وفارق الشجر فإنه لا يتلف بالقلع قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد ولعله أخذ ذلك من قول أحمد في الزرع وهذا مخالف للزرع لأن له غاية ينتهي إليها ولصاحب الأرض أخذه بنفقته فلا يمتنع عليه استرجاع أرضه في الحال بخلاف الصبغ فإنه لا نهاية له إلا تلف الثوب فهو أشبه بالشجر في الأرض ولا يختص وجوب القلع في الشجر بما لا يتلف فإنه يجبر على قلع ما يتلف وما لا يتلف ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه لم يجبر على قبوله لأنه إجبار على بيع ماله فلم يجبر عليه كما لو بذل له قيمة الغراس ويحتمل أن يجبر على ذلك إذا لم يقلعه قياسا على الشجر والبناء في الأرض المشفوعة والعارية وفي الأرض المغصوبة إذا لم يقلعه الغاصب ولأنه أمر يرتفع به النزاع ويتخلص به أحدهما من صاحبه من غير ضرر فأجبر عليه كما ذكرنا وإن بذل الغاصب قيمة الثوب لصاحبه ليملكه لم يجبر على ذلك كما لو بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لمالكها في هذه المواضع وإن وهب الغاصب الصبغ لمالك الثوب فهل يلزمه قبوله ؟ على وجهين أحدهما : يلزمه لأن الصبغ صار من صفات العين فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه الثاني : لا يجبر لأن الصبغ عين يمكن إفرادها فلم يجبر على قبولها وظاهر كلام الخرقي أنه يجبر لأنه قال في الصداق إذا كان ثوبا فغصبه فبذلت له نصفه مصبوغا لزمه قبوله وإن أراد المالك بيع الثوب وأبي الغاصب فله بيعه لأنه ملكه فلا يملك الغاصب منعه من بيع ملكه بعدوانه وإن أراد الغاصب بيعه لم يجبر المالك على بيعه لأنه متعد فلم يستحق إزالة ملك صاحب الثوب عنه بعدوانه ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه
القسم الثاني : أن يغصب ثوبا وصبغا من واحد فيصبغه به فإن لم تزد قيمتهما ولم تنقص ردهما ولا شيء عليه وإن زادت القيمة فهي للمالك ولا شيء للغاصب ولأنه إنما له في الصبغ أثر لا عين وإن نقصت بالصبغ فعلى الغاصب ضمان النقص لأنه بتعديه وإن نقص لتغير الأسعار لم يضمنه
القسم الثالث : أن يغصب ثوب رجل وصبغ آخر فيصبغه به فإن كانت القيمتان بحالهما فهما شريكان بقدر مالهما وإن زادت فالزيادة لهما وإن نقضت بالصبغ فالضمان على الغاصب ويكون النقص من صاحب الصبغ لأنه تبدد في الثوب ويرجع به على الغاصب وإن نقص لنقص سعر الثياب أو سعر الصبغ أو لنقص سعرهما لم يضمنه الغاصب وكان نقص مال كل واحد منهما من صاحبه وإن أراد صاحب الصبغ قلعه أو أراد ذلك صاحب الثوب فحكمهما حكم ما لو صبغه الغاصب بصبغ من عنده على ما مر بيانه وإن غصب عسلا ونشاء وعقده حلواء فحكمه حكم ما لو غصت ثوبا فصبغه على ما ذكر فيه
الحكم الثاني : إنه متى كان للمغصوب أجر فعلى الغاصب أجر مثله مدة مقامه في يديه سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب هذا هو المعروف في المذهب نص عليه أحمد في رواية الأثرم وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يضمن المنافع وهو الذي نصره أصحاب مالك وقد روى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن غصب دارا فسكنها عشرين سنة لا أجترئ أن أقول عليه سكنى ما سكن وهذا يدل على توقفه عن إيجاب الأجر إلا أن أبا بكر قال : هذا قول قديم لأن محمد بن الحكم مات قيل أبي عبد الله بعشرين سنة واحتج من لم يوجب الأجر بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] وضمانها على الغاصب ولأنه استوفى منفعة بغير عقد ولا شبهة ملك فلم يضمنها كما لو زنا بإمرأة مطاوعة
ولنا أن كل ما ضمنه بالإتلاف في العقد الفاسد جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف كالأعيان ولأنه أتلف متقوما فوجب ضمانه كالأعيان أو نقول مال متقوم مغصوب فوجب ضمانه كالعين فأما الخبر فوارد في البيع ولا يدخل فيه الغاصب لأنه لا يجوز له الإنتفاع بالمغصوب بالإجماع ولا يشبه الزنا لأنها رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض ولا عقد يقتضي العوض فكان بمنزلة من أعاره داره ولو أكرهها عليه لزمه مهرها والخلاف فيما له منافع تستباح بعقد الإجارة كالعقار والثياب والدواب ونحوها فأما الغنم والشجر والطير ونحوها فلا شيء فيها لأنه لا منافع لها يستحق بها عوض ولو غصب جارية ولم يطأها ومضت عليها مدة تمكن الوطء فيها لم يضمن مهرها لأن منافع البضع لا تتلف إلا بالاستيفاء بخلاف غيرها ولأنها لا تقدر بزمن فيكون مضي الزمان يتلفها بخلاف المنفعة

فصل : إذا غصب طعاما فأطعمه غيره للمالك تضمين أيهما شاء
فصل : إذا غصب طعاما فأطعمه غيره فللمالك تضمين أيهما شاء لأن الغاصب حال بينه وبين ماله والآكل أتلف مال غيره بغير إذنه وقبضه عن يد ضامنه بغير إذن مالكه فإن كان الآكل عالما بالغصب استقر الضمان عليه لكونه أتلف مال غيره بغير إذن عالما من غير تغرير فإذا ضمن الغاصب رجع عليه وإن ضمن الآكل لم يرجع على أحد وإن لم يعلم الآكل بالغصب نظرنا فإن كان الغاصب قال له : كله فإنه طعامي استقر الضمان عليه لاعترافه بأن الضمان باق عليه وإنه لا يلزم الآكل شيء وإن لم يقل ذلك ففيه روايتان إحداهما : يستقر الضمان على الآكل وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في الجديد لأنه ضمن ما أتلف فلم يرجع به على أحد والثانية : يستقر الضمان على الغاصب لأنه غر الآكل وأطعمه على أنه لا يضمنه وهذا ظاهر كلام الخرقي لقوله في المشتري للأمة يرجع بالمهر وكل ما غرم على الغاصب وأيهما استقر عليه الضمان فغرمه لم يرجع على أحد فإن غرمه صاحبه رجع عليه وإن أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالما أنه طعامه بريء الغاصب وإن لم يعلم وقال له الغاصب : كله فإنه طعامي استقر الضمان على الغاصب لما ذكرنا وإن كانت له بينة بأنه طعام المغصوب منه وإن لم يقل ذلك بل قدمه إليه وقال : كله أو قال : قد وهبتك إياه أو سكت فظاهر كلام أحمد أنه لا يبرأ لأنه قال في رواية الأثرم في رجل له قبل رجل تبعة فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية فلم يعلم فقال : كيف هذا ؟ هذا يرى أنه هدية يقول له : هذا لك عندي وهذا يدل على أنه لا يبرأ ههنا يأكل المالك طعامه بطريق الأولى لأنه ثم رد إليه يده وسلطانه وههنا بالتقديم إليه لم تعد إليه اليد والسلطان فإنه لا يتمكن من التصرف فيه بكل ما يريد من أخذه وبيعه والصدقة به فلم يبرأ الغاصب كما لو علفه لدوابه ويتخرج أن يبرأ بناء على ما مضى إذا أطعمه لغير مالكه فإنه يستقر الضمان على الآكل في إحدى الروايتين فيبرأ ههنا بطريق الأولى وهذا مذهب أبي حنيفة وإن وهب المغصوب لمالكه أو أهداه إليه فالصحيح أنه يبرأ لأنه قد سلمه إليه تسليما صحيحا تاما وزالت يد الغاصب وكلام أحمد في رواية الأثرم وارد فيما إذا أعطاه عوض حقه على سبيل الهدية فأخذه المالك على هذا الوجه لا على سبيل العوض فلم تثبت المعاوضة ومسألتنا فيما إذا رد إليه عين ماله وأعاد يده التي أزالها وإن باعه إياه وسلمه إليه بريء من الضمان لأنه قبضه بالابتياع والإبتياع يوجب الضمان وإن أقرضه إياه برئ أيضا لذلك وإن أعاره إياه بريء أيضا لأن العارية توجب الضمان وإن أودعه إياه أو آجره إياه أو رهنه أو أسلمه عنده ليقصره أو يعلمه لم يبرأ من الضمان إلا أن يكون عالما بالحال لأنه لم يعد إليه سلطانه إنما قبضه على أنه أمانة وقال بعض أصحابنا : يبرأ لأنه عاد إلى يده وسلطانه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والأول أولى لو أباحه إياه فأكله لم يبر فههنا أولى

فصل : وإذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب
فصل : إذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب ولا بينة لأحدهما فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته فلا يلزمه ما لم يقم عليه به حجة كما لو ادعى عليه دينا فأقر ببعضه وكذلك إن قال المالك : كان كاتبا أو له صناعة فأنكر الغاصب فالقول قوله كذلك فإن شهدت له البينة بالصفة ثبتت وإن قال الغاصب : كانت فيه سلعة أو أصبع زائدة أو عيب فأنكر المالك فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك والقول قول الغاصب في قيمته على كل حال وإن اختلفا بعد زيادة قيمة المغصوب في وقت زيادته فقال المالك : زادت قبل تلفه وقال الغاصب : إنما زادت قيمة المتاع بعد تلفه فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته وإن شاهدنا العبد معيبا فقال الغاصب : كان معيبا قبل غصبه وقال المالك : تعيب عندك فالقول قول الغاصب لأنه غارم ولأن الظاهر أن صفة العبد لم تتغير وإن غصبه خمرا ثم قال صاحبه : تخلل عندك وأنكر الغاصب فالقول قوله لأن الأصل بقاؤه على ما كان وبراءة الذمة وإن اختلفا في رد المغصوب أورد مثله أو قيمته فالقول قول المالك لأن الأصل عدم ذلك واشتغال الذمة به وإن اختلفا في تلفه فادعاه الغاصب وأنكره المالك فالقول قول الغاصب لأنه أعلم بذلك وتتعذر إقامة البينة عليه فإذا حلف فللمالك المطالبة ببدله لأنه تعذر رد العين فلزم بدلها كما لو غصب عبدا فأبق وقيل ليس له المطالبة بالبدل لأنه لا يدعيه وإن قال غصبت مني حديثا فقال : بل عتيقا فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم وجوب الحديث وللمالك المطالبة بالعتيق لأنه دون حقه

فصل : وإذا باع عبدا فادعى إنسان على البائع أنه غصبه
فصل : وإذا باع عبدا فادعى إنسان على البائع أنه غصبه العبد وأقام بذلك بينة أنتقض البيع ورجع المشتري على البائع بثمنه وإن لم تكن بينة فأقر البائع والمشتري بذلك فهو كما لو قامت به بينة وإن أقر البائع وحده لم يقبل في حق المشتري لأنه لا يقبل إقراره في حق غيره ولزمت البائع قيمته لأنه حال بينه وبين ملكه ويقر العبد في يد المشتري لأنه ملكه في الظاهر وللبائع أحلافه ثم إن كان البائع لم يقبض الثمن فليس له مطالبة المشتري به لأنه لا يدعيه ويحتمل أن يملك مطالبته بأقل الأمرين من الثمن أو قيمة العبد لأنه يدعي القيمة على المشتري والمشتري يقر له بالثمن فد اتفقا على إستحقاق أقل الأمرين فوجب ولا يضر اختلافهما في السبب بعد اتفاقهما على حكمه كما لو قال : لي عليك ألف من ثمن مبيع فقال : بل ألف من قرض وإن كان قد قبض الثمن فليس للمشتري استرجاعه لأنه لا يدعيه ومتى عاد العبد إلى البائع بفسخ أو غيره وجب عليه رده على مدعيه وله استرجاع ما أخذ منه وإن كان إقرار البائع في مدة الخيار له انفسخ البيع لأنه يملك فسخه فقبل إقراره بما يفسخه وإن أقر المشتري وحده لزمه رد العبد ولم يقبل إقراره على البائع ولا يملك الرجوع عليه بالثمن إن كان قبضه ويلزمه دفعه عليه إن كان لم يقبضه وإن أقام المشتري بينة بما أقر به قبلت وله الرجوع بالثمن وإن أقام البائع بينة إذا كان هو المقر نظرنا فإن كان في حال البيع قال : بعتك عبدك هذا أو ملكي لم تقبل بينته لأنه يكذبها وتكذبه وإن لم يكن قال ذلك قبلت لأنه يبيع ملكه وغير ملكه وإن أقام المدعي البينة سمعت ولا تقبل شهادة البائع له لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا وإن أنكراه جميعا فله أحلافهما إن لم تكن له بينة قال أحمد في رجل يجد سرقته بعينها عند إنسان قال : هو ملكه يأخذه اذهب إلى حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به ويتبع المبتاع من باعه ] رواه هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة وموسى بن السائب ثقة

فصل : وإن كان المشتري اعتق العبد فأقرا جميعا
فصل : وإن كان المشتري أعتق العبد فأقرا جميعا لم يقبل ذلك وكان العبد حرا لأنه قد تعلق به حق لغيرهما فإن وافقهما العبد فقال القاضي : لا يقبل أيضا لأن الحرية يتعلق بها حق الله تعالى ولهذا لو شهد شاهدان بالعتق مع اتفاق السيد والعبد على الرق سمعت شهادتهما ولو قال رجل : أنا حر ثم أقر بالرق لم يقبل إقراره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يبطل العتق إذا اتفقوا كلهم ويعود العبد إلى المدعي لأنه مجهول النسب أقر بالرق لمن يدعيه فصح كما لو لم يعتقه المشتري ومتى حكمنا بالحرية فللمالك تضمين أيهما شاء قيمته يوم عتقه ثم إن ضمن البائع رجع على المشتري لأنه أتلفه وإن رجع على المشتري لم يرجع على البائع إلا بالثمن لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن مات العبد وخلف مالا فهو للمدعي لا تفاقهم على أنه له وإنما منعنا رد العبد إليه لتعلق حق الحرية به إلا أن يخلف وارثا فيأخذه ولا يثبت الولاء عليه لأحد لأنه لا يدعيه أحد وإن صدق المشتري البائع وحده رجع عليه بقيمته ولم يرجع المشتري بالثمن وبقية الأقسام على ما مضى

فصل : وإذا باع عبدا أو وهبه ثم ادعى إني فعلت ذلك
فصل : وإذا باع عبدا أو وهبه ثم ادعى إني فعلت ذلك قبل أن أملكه وقد ملكته الآن بميراث أو هبة من مالكه فيلزمك رده علي لأن البيع الأول والهبة باطلان وإن أقام بذلك بينة نظرت فإن كان قال حين البيع والهبة هذا ملكي أو بعتك ملكي هذا وكان في ضمنه إقرار بأنه ملكه نحو أن يقول قبضت ثمن ملكي أو أقبضته ملكي ونحو ذلك لم تقبل البينة لأنه مكذب لها وهي تكذبه وإن لم يكن كذلك قبلت الشهادة لأن الإنسان يبيع ويهب ملكه وغير ملكه

فصل : إذا جنى العبد المغصوب جناية أوجبت القصاص
فصل : إذا جنى العبد المغصوب جناية أوجبت القصاص فاقتص منه فضمانه على الغاصب لأنه قد تلف في يديه فإن عفي عنه على مال تعلق ذلك برقبته وضمان ذلك على الغاصب لأنه نقص حدث في يده فلزمه ضمانه لأن ضمان العبد ونقصه على سيده ويضمنه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته كما يفيده سيده وإن جنى على ما دون النفس مثل أن قطع يدا فقطعت يده قصاصا فعلى الغاصب ما نقص العبد بذلك دون أرش اليد لأن اليد ذهبت بسبب غير مضمون فأشبه ما لو سقطت وإن عفي عنه على مال تعلق أرش اليد برقبته وعلى الغاصب أقل الأمرين من قيمته أو أرش اليد فإن زادت جناية العبد على قيمته ثم إنه مات فعلى الغاصب قيمته يدفعها إلى سيده فإذا أخذها تعلق أرش الجناية بها لأنها كانت متعلقة بالعبد فتعلقت ببدله كما أن الرهن إذا أتلفه متلف وجبت قيمته وتعلق الدين بها فإذا أخذ ولي الجنابة القيمة من المالك رجع المالك على الغاصب بقيمة أخرى لأن القيمة التي أخذها استحقت بسبب كان في يد الغاصب فكانت من ضمانه ولو كان العبد وديعة فجنى جناية استغرقت قيمته ثم إن المودع قتله بعد ذلك وجبت عليه قيمته وتعلق بها أرش الجناية فإذا أخذها ولي الجناية لم يرجع على المودع لأنه جنى وهو غير مضمون عليه ولو أن العبد جنى في يد سيده جناية تستغرق قيمته ثم غصبه غاصب فجنى في يده جناية تستغرق قيمته بيع في الجنايتين وقسم ثمنه بينهما ورجع صاحب العبد على الغاصب بما أخذه الثاني منهما لأن الجناية كانت في يده وكان للمجني عليه أولا أن يأخذه دون الثاني لأن الذي يأخذه المالك من الغاصب هو عوض ما أخذه المجني عليه ثانيا فلا يتعلق به حقه ويتعلق به حق الأول لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه فإن مات هذا العبد في يد الغاصب فعليه قيمته تقسم بينهما ويرجع المالك على الغاصب بنصف القيمة لأنه ضامن للجناية الثانية ويكون للمجني عليه أولا أن يأخذه لما ذكرناه

مسألة : قال : من أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا فلا غرم عليه
مسألة : قال : من أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا فلا غرم عليه وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه
وجملة ذلك أنه لا يجب ضمان الخمر والخنزير سواء كان متلفه مسلما أو ذميا لمسلم أو ذمي نص عليه أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهريق مسكرا لمسلم أو لذمي خمرا فلا ضمان عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : يجب ضمانهما إذا أتلفهما على ذمي قال أبو حنيفة إن كان مسلما بالقيمة وإن كان ذميا بالمثل لأن عقد الذمة إذا عصم عينا قومها كنفس الآدمي وقد عصم خمر الذمي بدليل أن المسلم يمنع من إتلافها فيجب أن يقومها ولأنها مال لهم يتمولونها بدليل منا روي عن عمر رضي الله عنه أن عامله كتب إليه إن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب إليه عمر : ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر ثمنها وإذا كانت مالا وجب ضمانها كسائر أموالهم
ولنا أن جابر روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] متفق على صحته وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة ولأن ما لم يكن مضمونا في حق المسلم لم يكن مضمونا في حق الذمي كالمرتد ولأنها غير متقومة فلا تضمن كالميتة ودليل أنها غير متقومة أنها غير متقومة في حق المسلم فكذلك في حق الذمي فإن تحريمها ثبت في حقها وخطاب النواهي يتوجه إليها فما ثبت في حق أحدهما ثبت في حق الآخر ولا نسلم أنها معصومة بل متى أظهرت حلت إراقتها ثم لو عصمها ما لزم تقويمها فإن نساء أهل الحرب وصبيانهم معصومين غير متقومين وقولهم أنها مال عندهم ينتقض بالعبد المرتد فإنه مال عندهم وأما حديث عمر فمحمول على أنه أراد ترك التعرض لهم وإنما أمر بأخذ عشر أثمانها لأنهم إذا تبايعوا وتقابضوا حكمنا لهم بالملك ولم ننقضه وتسميتها أثمانا مجاز كما سمى الله تعالى ثمن يوسف ثمنا فقال : ( وشروه بثمن بخس ) وأما قول الخرقي وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه فلان كل ما اعتقدوا حله في دينهم مما لا أذى للمسلمين فيه من الكفر وشرب الخمر واتخاذه ونكاح ذوات المحارم لا يجوز لنا التعرض لهم فيه إذا لم يظهروه لأننا التزمنا إقرارهم عليه في دارنا فلا نعرض لهم فيما التزمنا تركه وما أظهروه من ذلك تعين إنكاره عليهم فإن كان خمرا جازت إراقته وإن أظهروا صليبا أو طنبورا جاز كسره وإن أظهروا كفرهم أدبوا على ذلك ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين

فصل : وإن غصب من ذمي صخرا لزمه ردها
فصل : وإن غصب من ذمي خمرا لزمه ردها لأنه يقر على شربها وإن غصبها من مسلم لم يلزم ردها إراقتها لأن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أيتام ورثوا خمرا فأمره بإراقتها وإن أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها لأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ] ولأن ما حرم الإنتفاع به لم يجب ضمانه كالميتة والدم فإن أمسكها في يده حتى صارت خلا لزم ردها على صاحبها لأنها صارت خلا على حكم ملكه فلزم ردها إليه فإن تلفت ضمنها له لأنها مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب وإن أراقها فجمعها إنسان فتخللت عنده لم يلزمه رد الخل لأنه أخذها بعد إتلافها وزوال اليد عنها

فصل : وإن غصب كلبا يجوز اقتناؤه وجب رده
فصل : وإن غصب كلبا يجور اقتناؤه وجب رده لأنه يجور الإنتفاع به واقتناؤه فأشبه المال وإن أتلفه لم يغرمه وإن حسبه مدة يلزمه أجر لأنه لا تجوز إجارته وإن غصب جلد ميتة فهل يجب رده ؟ على وجهين بناء على الروايتين في طهارته بالدبغ فمن قال بطهارته أوجب رده لأنه يمكن إصلاحه فهو كالثوب النجس ومن قال لا يطهر لم يوجب رده لأنه لا سبيل إلى إصلاحه فإن أتلفه أو أتلف ميتة بجلدها لم يضمنه لأنه لا قيمة له بدليل أنه لا يحل بيعه وإن دبغه الغاصب لزم رده إن قلنا بطهارته لأنه كالخمر إذ تخللت ويحتمل أن لا يجب رده لأنه صار مالا بفعله بخلاف الخمر وإن قلنا لا يطهر لم يجب رده لأنه لا يباح الإنتفاع به ويحتمل أن يجب رده إذا قلنا يباح الإنتفاع به في اليابسات لأنه نجس يباح الإنتفاع به أشبه الكلب وكذلك قبل الدبغ

فصل : وإن كسر صليبا أو مزمارا أو طنبورا
فصل : وإن كسر صليبا أو مزمارا أو طنبورا أو صنما لم يضمنه وقال الشافعي : إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه وقال أبو حنيفة : يضمن
ولنا أنه لا يحل بيعه فلم يضمنه كالميتة والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ] متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ بعثت بمحق القينات والمعازف ]

فصل : وإن كسر آنية من ذهب أو فضة
فصل : وإن كسر آنية من ذهب أو فضة لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه يضمن فإن مهنا نقل عنه فيمن هشم على غيره إبريقا فضة عليه قيمته يصوغه كما كان قيل له أليس قد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن اتخاذها ؟ فسكت والصحيح أنه لا ضمان عليه نص عليه أحمد في رواية المروذي فيمن كسر إبريق فضة لا ضمان عليه لأنه أتلف ما ليس بمباح فلم يضمنه كالميتة ورواية مهنا تدل على أنه رجع عن قوله ذلك لكونه سكت حين ذكر السائل تحريمه ولأن في هذه الرواية أنه قال يصوغه ولا يحل له صناعته فكيف يجب ذلك

فصل : وإن كسر آنية من الخمر
فصل : وإن كسر آنية الخمر ففيها روايتان إحداهما : يضمنها لأنه مال يمكن الإنتفاع به ويحل بيعه فيضمنها كما لو لم يكن فيها خمر ولأن جعل الخمر فيها لا يقتضي سقوط ضمانها كالبيت الذي جعل مخزنا للخمر والثانية : لا تضمن لما روى الإمام أحمد في مسنده [ حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة ابن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال : اغد علي بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته كلها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته ] وروي عن أنس قال : كنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب وأبا عبيدة شرابا من فضيخ فأتانا آت فقال : إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الدنان فاكسرها وهذا يدل على سقوط حرمتها وإباحة إتلافها فلا يضمنها كسائر المباحات

فصل : ولا يثبت الغصب فيما ليس بمال
فصل : ولا يثبت الغصب فيما ليس بمال الحر فإنه لا يضمن بالغصب إنما يضمن بالإتلاف وإن أخذ حرا فحبسه عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال وإن استعمله مكرها لزمه أجر مثله لأنه استوفى منافعه وهي متقومة فلزمه ضمانها كمنافع العبد وإن حبسه مدة لمثلها أجر ففيه وجهان : أحدهما : يلزمه أجر تلك المدة لأنه فوت منفعته وهي مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد والثاني : لا يلزمه لأنها تابعة لما لا يصح غصبه فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه ولأنها تلفت تحت يديه فلم يجب ضمانها كما ذكرنا ولو منعه العمل من غير حبس لم يضمن منافعه وجها واحدا لأنه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحر أولى ولو حبس الحر وعليه ثياب لم يلزمه ضمانها لأنها تابعة لما لم تثبت اليد عليه في الغصب وسواء كان كبيرا أو صغيرا وهذا كله مذهب أبي حنيفة و الشافعي

فصل : وأم الولد مضمونة بالغصب
فصل : وأم الولد مضمونة بالغصب وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا تضمن لأن أم الولد لا تجري مجرى المال بدليل أنه لا يتعلق بها حق الغرماء فأشبهت الحر
ولنا أن ما يضمن بالقيمة يضمن بالغصب كالقن ولأنها مملوكة فأشبهت المدبرة وفارقت الحرة فإنها ليست مملوكة ولا تضمن بالقيمة

فصل : وإذا فتح قفصا على طائر فطار
فصل : وإذا فتح قفصا على طائر فطار أو حل دابته فذهبت ضمنها وبه قال مالك وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا ضمان عليه إلا أن يكون أهاجهما حتى ذهبا وقال أصحاب الشافعي : إن وقفا بعد الحل والفتح ثم ذهبا لم يضمنهما وإن ذهبا عقيب ذلك ففيه قولان واحتجا بأن لهما اختيارا وقد وجدت منهما المباشرة ومن الفاتح سبب غير ملجيء فإذا اجتمعا لم يتعلق الضمان بالسبب كما لو حفر بئرا فجاء عبد لإنسان فرمى نفسه فيها
ولنا أنه ذهب بسبب فعله فلزمه الضمان كما لو نفره أو ذهب عقيب فتحه وحله والمباشرة إنما حصلت ممن لا يمكن إحالة الحكم عليه فيسقط كما لو نفر الطائر وأهاج الدابة أو أشلى كلبا على صبي فقتله أو أطلق نارا في متاع إنسان فإن للنار فعلا لكن لما لم يمكن إحالة الحكم عليها كان وجوده كعدمه ولأن الطائر وسائر الصيد من طبعه النفور وإنما يبقى بالمانع فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه فكان ضمانه على من أزال المانع كمن قطع علاقة قنديل فوقع فانكسر وهكذا لو حل قيد عبد فذهب أو أسير فأفلت وإن فتح القفص وحل الفرس فبقيا واقفين فجاء إنسان فنقرهما فذهبا فالضمان على منفرهما لأن سببه أخص فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر وإن وقع طائر إنسان على جدار فنفره إنسان فطار لم يضمنه لأن تنفيره لم يكن سبب فواته فإنه كان ممتنعا قبل ذلك وإن رماه فقتله ضمنه وإن كان في داره لأنه كان يمكنه تنفيره بغير قتله وكذلك لو مر الطائر في هواء وداره فرماه فقتله ضمنه لأنه لا يملك منع الطائر من هواء داره فهو كما لو رماه في هواء دار غيره

فصل : ولو حل زقا فيه مائع فاندفق ضمنه
فصل : ولو حل زقا فيه مائع فاندفق ضمنه سواء خرج في الحال أو خرج قليلا قليلا أو خرج منه شيء بل أسفله فسقط أو ثقل أحد جانبيه فلم يزل يميل قليلا قليلا حتى سقط أو سقط بريح أو بزلزلة الأرض أو كان جامدا فذاب بشمس لأنه تلف بسبب فعله وقال القاضي : لا يضمن إذا سقط بريح أو زلزلة ويضمن فيما سوى ذلك وهو قول أصحاب الشافعي ولهم فيما إذا ذاب بالشمس وجهان واحتجوا بأن فعله غير ملجيء والمعنى الحادث مباشرة فلم يتعلق الضمان بفعله كما لو دفعه إنسان
ولنا أن فعله سبب تلفه ولم يتخلل بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه فوجب عليه الضمان كما لو خرج عقيب فعله أو مال قليلا قليلا وكما لو جرح إنسانا فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية فإنه يضمن وأما إن دفعه إنسان فإن المتخلل بينهما مباشرة يمكن الإحالة عليها بخلاف مسألتنا ولو كان جامدا فأدنى منه آخر نارا فأذابه فسال فالضمان على من أذابه لأن سببه أخص لكون التلف يعقبه فأشبه المنفر مع فاتح القفص وقال بعض الشافعية : لا ضمان على واحد منهما كسارقين نقب أحدهما وأخرج آخر المتاع وهذا فاسد لأن مدني النار الجأه إلى الخروج فضمنه كما لو كان واقفا فدفقه والمسألة حجة عليه فإن الضمان على مخرج المتاع من الحرز والقطع حد لا يجب إلا بهتك الحرز وأخذ المال جميعا ثم أن الحد يدرأ بالشبهات بخلاف الضمان ولو أذابه أحدهما أولا ثم فتح الثاني رأسه فاندفق فالضمان على الثاني لأن التلف تعقبه وإن فتح زقا مستعلي الرأس فخرج بعض ما فيه واستمر خروجه قليلا قليلا فجاء آخر فكنسه فاندفق فضمان ما خرج بعد التكنيس على المكنس وما قبله على الفاتح لأن فعل الثاني أخص كالجارح والذابح

فصل : وإن حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت
فصل : وإن حل رباط سفينة فذهبت أو غرقت فعليه قيمتها سواء تعقب فعله أو تراخى والخلاف فيها كالخلاف في الطائر في القفص

فصل : إذا أوقد في ملكه نارا أو في موات فطارت إلى دار جاره فأحرقها
فصل : إذا أوقد في ملكه نارا أو في موات فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها لم يضمن إذا كان فعل ما جرت به العادة من غير تفريط لأنه غير متعد ولأنها سراية فعل مباح فلم يضمن كسراية القود وفارق من حل زقا فاندفق لأنه متعد بحله ولأن الغالب خروج المائع من الزق المفتوح وليس الغالب سراية هذا الفعل المعتاد إلى تلف مال غيره وإن كان ذلك بتفريط منه بأن أجج نارا تسري في العادة لكثرتها أو في ريح شديدة تحملها أو فتح ماء كثيرا يتعدى أو فتح الماء في أرض غيره أو أوقد في دار غيره ضمن ما تلف به وإن سرى إلى غير الدار التي أوقد فيها والأرض التي الماء فيها لأنها سراية عدوان أشبهت سراية الجرح الذي تعدى به وإن أوقد نارا فأيبست أغصان شجرة غيره ضمنها لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان في هوائه فلا يضمنها لأن دخولها عليه غير مستحق فلا يمنع من التصرف في داره لحرمتها وهذا الفصل مذهب الشافعي كما ذكرنا سواء

فصل : وإن ألقت الربح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه
فصل : وإن ألقت الريح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده فلزمه حفظه كاللقطة وإن لم يعرف صاحبه فهو لقطة تثبت فيه أحكامها وإن عرف صاحبه لزمه إعلامه فإن لم يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير إذنه من غير تعريف فصار كالغاصب وإن سقط طائر في داره لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محظوظ بنفسه وإن دخل برجه فأغلق علي الباب ناويا إمساكه لنفسه ضمنه لأنه أمسك مال غيره لنفسه فهو كالغاصب وإلا فلا ضمان عليه لأنه يتصرف في برجه كيف شاء فلا يضمن مال غيره بتلفه ضمنا لتصرفه الذي لم يتعد فيه

فصل : إذا أكلت بهيمة حشيش قوم
فصل : إذا أكلت بهيمة حشيش قوم ويد صاحبها عليها لكونه معها ضمن وإن لم يكن معها لم يضمن ما أكلته وإذا استعار من رجل بهيمته فأتلفت شيئا وهي في يد المستعير فضمانه على المستعير سواء أتلفت شيئا لمالكها أو لغيره لأن ضمانه يجب باليد واليد للمستعير وإن كانت البهيمة في يد الراعي فأتلفت زرعا فالضمان على الراعي دون صاحبها لأن إتلافها للزرع في النهار لا يضمن إلا بثبوت اليد عليها واليد للراعي دون المالك فكان الضمان عليه كالمستعير وإن كان الزرع للمالك فإن كان ليلا ضمن أيضا لأن ضمان اليد أقوى بدليل أنه يضمن به في الليل والنهار جميعا

فصل : إذا شهد بالغصب شاهدان
فصل : إذا شهد بالغصب شاهدان فشهد إحداهما أنه غصبه يوم الخميس وشهد آخر أنه غصبه يوم الجمعة لم تتم البينة وله أن يحلف مع أحدهما وإن شهد أحدهما أنه أقر بالغصب يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر ببعضه يوم الجمعة ثبتت البينة لأن الإقرار وإن اختلف رجع إلى أمر واحد وإن شهد أنه أقر أنه غصبه يوم الخميس وشهد الآخر أنه غصبه يوم الجمعة لم تثبت البينة أيضا وإن شهد له واحد وحلف معه ثبت الغصب فلو كان الغاصب حلف بالطلاق أنه لم يغصبه لم نوقع طلاقه لأن الشاهد واليمين بينة في المال لا في الطلاق والله أعلم

كتاب الشفعة
وهي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه من يد من انتقلت إليه وهي ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روي [ عن جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ] متفق عليه ول مسلم قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذن فهو أحق به ول البخاري : إنما جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وأما الإجماع فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والإستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه ولا نعلم أحدا خالف هذا إلا الأصم فإنه قال لا تثبت الشفعة لأن في ذلك إضرارا بأرباب الأملاك فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا ابتاعه لم يبتعه ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك وهذا ليس بشيء لمخالفته الآثار الثابتة والإجماع المنعقد قبله والجواب عما ذكره من الشفعة من الشراء الثاني : أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فيسقط استحقاق الشفعة واشتقاق الشفعة من الشفع وهو الزوج فإن الشفيع كان نصيبه منفردا في ملكه فبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به وقيل اشتقاقها من الزيادة لأن الشفيع يزيد المبيع في ملكه

مسألة : قال أبو القاسم ولا يجب الشفعة إلا للشريك القاسم
مسألة : قال أبو القاسم : ولا يجب الشفعة إلا للشريك المقاسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة
وجملة ذلك أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل إذ هي إنتزاع ملك المشتري بغير رضاء منه واجبار له على المعاوضة مع ما ذكره الأصم لكن أثبتها الشرع لمصلحة راجحة فلا تثبت إلا بشروط أربعة أحدها : أن يكون الملك مشاعا غير مقسوم فأما الجار فلا شفعة له وبه قال عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار و الزهري و يحيى الأنصاري و أبو الزناد و ربيعة و المغيرة بن عبد الرحمن و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال ابن شبرمة و الثوري و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم بالجوار وقال أبو حنيفة : يقدم الشريك فإن لم يكن وكان الطريق مشتركا كدرب لا ينقذ تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب فإن لم يأخذوا ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة وقال العنبري : وسوار تثبت بالشركة في المال وبالشركة في الطريق واحتجوا بما روى أبو رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ الجار أحق بصقبه ] رواه البخاري و أبو داود وروى الحسن عن سمرة إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ جار الدار أحق بالدار ] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الترمذي في حديث جابر [ الجار أحق بداره ينتظر به إذا كان غائبا إذا كان طريقهما واحد ] وقال حديث حسن ولأنه إتصال ملك يدوم ويتأبد فتثبت الشفعة به كالشركة ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ] وروى ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب - أو عن أبي سلمة أو عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها ] رواه أبو داود ولأن الشفعة ثبتت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه وبيان إنتفاء المعنى هو إن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق وهذا لا يوجد في المقسوم فأما حديث أبي رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب القرب يقال بالسين والصاد قال الشاعر
( كوفية نازح محلتها ... لا أمم دارها ولا صقب )
فيحتمل أنه أراد بإحسان جاره وصلته وعيادته ونحو ذلك وخبرنا صريح صحيح فيقدم وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال فحديث سمرة يرويه عنه الحسن ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة قاله أصحاب الحديث قال ابن المنذر : الثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديث جابر الذي رويناه وما عداه من الأحاديث فيها مقال على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإنه جار أيضا ويسمى كل واحد من الزوجين جارا قال الشاعر :
( أجارتنا بيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه )
قال الأعشى : وتسمى الضرتان جارتين لإشتراكهما في الزوج قال حمل بن مالك : كنت بين جارتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها وهذا يمكن في تأويل حديث أبي رافع أيضا
إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة قال أحمد في رواية ابن القاسم : في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة وقال في رواية أبي طالب وعبد الله ومثنى فيمن لا يرى الشفعة بالجوار وقدم إلى الحاكم فأنكر لم يحلف إنما هو اختيار وقد اختلف الناس فيه قال القاضي : إنما هذا لأن يمين المنكر ههنا على القطع والبت ومسائل الإجتهاد مظنونة فلا يقطع ببطلان مذهب المخالف ويمكن أن يحمل كلام أحمد ههنا على الورع لا على التحريم لأنه يحكم ببطلان مذهب المخالف ويجوز للمشتري الإمتناع به من تسليم المبيع فيما بينه وبين الله تعالى

فصل : أن يكون المبيع أرضا لأنها التي تبقى على الدوام
فصل : الشرط الثاني أن يكون المبيع أرضا لأنها التي تبقى على الدوام ويدوم ضررها وأما غيرها فينقسم قسمين أحدهما : تثبت فيه الشفعة تبعا للأرض وهو البناء والغراس يباع مع الأرض فإنه يؤخذ بالشفعة تبعا للأرض بغير خلاف في المذهب ولا نعرفه فيه بين من أثبت الشفعة خلافا وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط وهذا يدخل فيه البناء والأشجار القسم الثاني : ما لا تثبت فيه الشفعة تبعا ولا مفردا وهو الزرع والثمرة الظاهرة تباع مع الأرض فإنه لا يؤخذ بالشفعة مع الأصل وبهذا قال الشافعي : وقال أبو حنيفة و مالك : يؤخذ ذلك بالشفعة مع أصوله لأنه متصل بما فيه الشفعة فيثبت فيه الشفعة تبعا كالبناء والغراس ولنا أنه لا يدخل في البيع تبعا فلا يؤخذ بالشفعة كقماش الدار وعكسه البناء والغراس وتحقيقه أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضى المشتري فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة لأنها تتبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض وأما ما بيع مفردا من الأرض فلا شفعة فيه سواء كان مما ينقل كالحيوان والثياب والسفن والحجارة والزرع والثمار أو لا ينقل كالبناء والغراس إذا بيع مفردا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن الحسن و الثوري و الأوزاعي و العنبري و قتادة و ربيعة و إسحاق لا شفعة في المنقولات واختلف عن مالك و عطاء فقالا مرة كذلك ومرة قالا الشفعة في كل شيء حتى في الثوب قال ابن أبي موسى وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجارة والسيف والحيوان وما في معنى ذلك قال أبو الخطاب وعن أحمد رواية أخرى أن الشفعة تجب في البناء والغراس وإن بيع مفردا وهو قول مالك لعموم قوله عليه السلام [ الشفعة فيما لم يقسم ] ولأن الشفعة وضعت لدفع الضرر وحصول الضرر بالشركة فيما لاينقسم أبلغ منه فيما ينقسم ولأن ابن أبي مليكة روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الشفعة في كل شيء ]
ولنا أن قول النبي صلى الله عليه و سلم [ الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدد وصرفت الطرق فلا شفعة ] لا يتناول إلا ما ذكرناه وإنما أراد ما لا ينقسم من الأرض بدليل قوله [ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ] ولأن هذا مما لا يتباقى على الدوام فلا تجب فيه الشفعة كصبرة الطعام وحديث ابن أبي مليكة مرسل لم يرو في الكتب الموثوق بها والحكم في الغراف والدولاب والناعورة كالحكم في البناء فأما إن بيعت الشجرة مع قرارها من الأرض مفردة عما يتخللها من الأرض فحكمها حكم ما لا ينقسم من العقار ولأن هذا مما لا ينقسم على ما سنذكره ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال لأن القرار تابع لها فإذا لم تجب الشفعة فيها مفردة لم تجب فيه تبعها وإن بيعت حصة من علو دار مشترك نظرت فإن كان السقف الذي تحته لصاحب السفل فلا شفعة في العلو لأنه بناء مفرد وإن كان لصاحب العلو فكذلك لأنه بناء منفرد لكونه لا أرض له فهو كما لو لم يكن السقف له ويحتمل ثبوت الشفعة لأن له قرارا فهو كالسفل

فصل : أن يكون المبيع فيما يمكن قسمته
فصل : الشرط الثالث : أن يكون المبيع مما يمكن قسمته فأما ما لا يمكن قسمته من العقار كالحمام الصغير والرحى الصغيرة والعضادة والطريق الضيقة والعراص الضيقة فعن أحمد فيها روايتان إحداهما : لا شفعة فيه وبه قال يحيى بن سعيد وربيعة و الشافعي والثانية : فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة و الثوري و ابن سريج وعن مالك كالروايتين ووجه هذا عموم قوله عليه السلام : [ الشفعة فيما يقسم ] وسائر الألفاظ العامة ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره والأول ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ] والمنقبة الطريق الضيق رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : لا شفعة في بئر ولا فحل ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها ويمكن أن يقال إن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من أحداث المرافق الخاصة ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم وقولهم أن الضرر ههنا أكثر لتأبده قلنا إلا أن الضرر في محل الوفاق من غير جنس هذا الضرر وهو ضرر الحاجة إلى أحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية وفي الشفعة ههنا ضرر غير موجود في محل الوفاق وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق فأما ما أمكن قسمته مما ذكرنا كالحمام الكبير الواسع البيوت بحيث إذا قسم لم يستضر بالقسمة وأمكن الانتفاع به حماما فإن الشفعة تجب فيه وكذلك البئر والدور والعضائد متى أمكن أن يحصل من ذلك شيآن كالبئر ينقسم بئرين يرتقي الماء منهما وجبت الشفعة وكذلك إن كان مع البئر بياض أرض بحيث يحصل البئر في أحد النصيبين وجبت الشفعة أيضا لأنه تمكن القسمة وهكذا الرحى إن كان لها حصن يمكن قسمته بحيث يحصل الحجر في أحد القسمين أو كان فيها أربعة أحجار دائرة يمكن أن ينفرد كل واحد منهما بحجرين وجبت الشفعة وإن لم يمكن إلا بأن يحصل لكل واحد منهما ما لم يتمكن من إبقائها رحى لم تجب الشفعة فأما الطريق فإن الدار إذا بيعت ولها طريق في شارع أو درب نافذ فلا شفعة في تلك الدار ولا في الطريق لأنه لا شركة لأحد في ذلك وإن كان الطريق في درب غير نافذ ولا طريق للدار سوى تلك الطريق فلا شفعة أيضا لأن إثبات ذلك يضر بالمشتري لأ الدار تبقى لا طريق لها وإن كان للدار باب آخر يستطرق منه أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى طريق نافذ نظرنا في الطريق المبيع مع الدار فإن كان ممرا لاتمكن قسمته فلا شفعة فيه وإن كان تمكن قسمته وجبت الشفعة فيه لأنه أرض مشتركة تحتمل القسمة فوجبت فيه الشفعة كغير الطريق ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال لأن الضرر يلحق المشتري بتحويل الطريق إلى مكان آخر مع ما في الأخذ بالشفعة من تفويت صفقة المشتري وأخذ بعض المبيع من العقار دون بعض فلم يجز كما لو كان الشريك في الطريق شريكا في الدار فأراد أخذ الطريق وحدها والقول في دهليز الجار وصحته كالقول في الطريق المملوك وإن كان نصيب المشتري من الطريق أكثر من حاجته فذكر القاضي : أن الشفعة تجب في الزائد بكل حال لوجود المقتضي وعدم المانع والصحيح أنه لا شفعة فيه لأن في ثبوتها تبعيض صفقة المشتري ولا يخلو من الضرر

فصل : أن يكون شقصا مستقلا بعوض
فصل : الشرط الرابع : أن يكون شقصا منتقلا بعوض وأما المنتقل بغير عوض كالهبة بغير ثواب والصدقة والوصية والإرث فلا شفعة فيه في قول عامة أهل العلم منهم مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن مالك رواية أخرى في المنتقل بهبة أو صدقة أن فيه الشفعة ويأخذه الشفيع بقيمته وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى لأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشركة وهذا موجود في الشركة كيفما كان والضرر اللاحق بالمتهب دون ضرر المشتري لأن إقدام المشتري على شراء الشقص وبذله ماله فيه دليل حاجته إليه فانتزاعه منه أعظم ضررا من أخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه ولنا أنه انتقل بغير عوض أشبه بالميراث ولأن محل الوفاق هو البيع والخبر ورد فيه وليس غيره في معناه لأن الشفيع يأخذه من المشتري بمثل السبب الذي انتقل به إليه ولا يمكن هذا في غيره ولأن الشفيع يأخذ الشقص بثمنه لا بقيمته وفي غيره يأخذه بقيمته فافترقا فأما المنتقل بعوض فينقسم قسمين أحدهما : ما عوضه المال كالبيع فهذا فيه الشفعة بغير خلاف وهو في حديث جابر فإن باع ولم يؤذنه فلو أحق به وكذلك كل عقد جرى مجرى البيع كالصلح بمعنى البيع والصلح عن الجنايات الموجبة للمال والهبة المشروط فيها الثواب المعلوم لأن ذلك بيع ثبتت فيه أحكام البيع وهذا منها وبه يقول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا : لا تثبت الشفعة في الهبة المشروط فيها ثواب حتى يتقابضا لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض فأشبهت البيع بشرط الخيار
ولنا أنه يملكها بعوض هو مال فلم يفتقر إلى القبض في استحقاق الشفعة كالبيع ولا يصح ما قالوه من اعتبار لفظ الهبة لأن العوض صرف اللفظ عن مقتضاه وجعله عبارة عن البيع خاصة عندهم فإنه ينعقد بها النكاح الذي لا تصح الهبة فيه بالاتفاق القسم الثاني : ما انتقل بعوض غير المال نحو أن يجعل الشقص مهرا أو عوضا في الخلع أو في الصلح عن دم العمد فظاهر كلام الخرقي أنه لا شفعة فيه لأنه لم يتعرض في جميع مسائله لغير البيع وهذا قول أبي بكر وبه قال الحسن و الشعبي و أبو ثور وأصحاب الرأي حكاه عنهم ابن المنذر واختاره وقال ابن حامد : تجب فيه الشفعة وبه قال ابن شبرمة و الحارث العكلي و مالك و ابن أبي ليلى و الشافعي ثم اختلف بم يأخذه فقال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى : يأخذ الشفص بقيمته قال القاضي : هو قياس قول ابن حامد لأننا لو أوجبنا مهر المثل لقومنا البضع على الأجانب وأضررنا بالشفيع لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى لتسامح الناس فيه في العادة بخلاف البيع وقال الشريف أبو جعفر قال ابن حامد : إن كان الشقص صداقا أو عوضا في خلع أو متعة في طلاق أخذه الشفيع بمهر المرأة وهو قول العكلي و الشافعي لأنه ملك الشقص ببدل ليس له مثل فيجب الرجوع إلى قيمة البدل في الأخذ بالشفعة كما لو باعه بعرض واحتجوا على أخذه بالشفعة بأنه عقار مملوك بعقد معاوضة فأشبه البيع
و
fdلنا أنه مملوك بغير مال أشبه الموهوب والموروث ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل لما ذكره مالك وبالقيمة لأنها ليست عوض الشقص فلا يجوز الأخذ بها كالموروث فيتعذر أخذه ولأنه ليس له عوض يمكن الأخذ به فأشبه الموهوب والموروث وفارق البيع فإنه أمكن الأخذ بعوضه فإن قلنا إنه يؤخذ بالشفعة وطلق الزوج قبل الدخول بعد عفو الشفيع رجع بنصف ما أصدقها لأنه موجود في يدها بصفته وإن طلقها بعد أخذ الشفيع رجع بنصف قيمته لأن ملكها زال عنه فهو كما لو باعته وإن طلق قبل علم الشفيع ثم علم ففيه وجهان أحدهما : حق الشفيع مقدم لأن حقه أسبق لأنه يثبت بالبيع وحق الزوج بالطلاق والثاني : حق الزوج أولى لأنه ثبت بالنص والإجماع والشفعة ههنا لا نص فيها ولا إجماع فأما إن عفا الشفيع ثم طلق الزوج فرجع في نصف الشقص لم يستحق الشفيع الأخذ منه وكذلك إن جاء الفسخ من قبل المرأة فرجع الشقص كله إلى الزوج لم يستحق الشفيع أخذه لأنه عاد إلى المالك لزوال العقد فلم يستحق به الشفيع كالرد بالعيب وكذلك كل فسخ يرجع به الشقص إلى العاقد كرده بعيب أو مقايلة أو اختلاف المتبايعين أو رده لغبن وقد ذكرنا في الإقالة رواية أخرى أنها بيع فتثبت فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة فعلى هذا لو لم يعلم الشفيع حتى تقايلا فله أن يأخذ من أيهما شاء وإن عفا عن الشفعة في البيع ثم تقايلا فله الأخذ بها

فصل : وإذا أجنى جنايتين عمدا وخطأ فصالحه
فصل : وإذا جنى جنايتين عمدا وخطأ فصالحه منهما على شقص فالشفعة في نصف الشقص دون باقيه وبه قال أبو يوسف و محمد وهذا على الرواية التي نقول فيها إن موجب العمد القصاص عينا وإن قلنا موجبه أحد شيئين وجبت الشفعة في الجميع وقال أبو حنيفة : لا شفعة في الجميع لأن في الأخذ بها تبعيض الصفقة على المشتري
ولنا أن ما قابل الخطأ عوض عن مال فوجبت فيه الشفعة كما لو انفرد ولأن الصفقة جمعت ما تجب فيه الشفعة وما لا تجب فيه فوجبت فيما تجب فيه دون الآخر كما لو اشترى شقصا وسيفا وبهذا الأصل يبطل ما ذكره وقول أبي حنيفة أقيس لأن في الشفعة تبعيض الشقص على المشتري وربما لا يبقى منه إلا ما لا نفع فيه فأشبه ما لو أراد أحد الشفيعين أخذ بعضه مع عفو صاحبه بخلاف مسألة الشقص والسيف وأما إذا قلنا أن الواجب أحد شيئين فباختياره الصلح سقط القصاص وتعينت الدية فكان الجميع عوضا عن المال

فصل : ولا تثبت الشفعة في بيع الخيار مثل انقضائه
فصل : ولا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل إنقضائه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما وحده أيهما كان وقال أبو الخطاب : يتخرج أن تثبت الشفعة لأن الملك انتقل فتثبت الشفعة في مدة الخيار كما بعد انقضائه وقال أبو حنيفة : إن كان الخيار للبائع أولهما لم تثبت الشفعة حتى ينقضي لأن في الأخذ بها إسقاط حق البائع من الفسخ وإلزام البيع في حقه بغير رضائه ولأن الشفيع إنما يأخذ من المشتري ولم ينتقل الملك إليه وإن كان الخيار للمشتري فقد انتقل الملك إليه ولا حق لغيره فيه والشفيع يملك أخذه بعد لزوم البيع واستقرار فلأن يملك ذلك قبل لزومه أولى وعامة ما يقدر ثبوت الخيار له وذلك لا يمنع الأخذ بالشفعة كما لو وجد به عيبا ول الشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه مبيع فيه الخيار فلم تثبت فيه الشفعة كما لو كان للبائع وذلك لأن الأخذ بالشفعة يلزم المشتري بالعقد بغير رضائه ويوجب العهدة عليه ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن فلم يجز كما لو كان الخيار للبائع فإننا إنما منعنا من الشفعة لما فيه من إبطال خيار البائع وتفويت حق الرجوع عليه في عين مالهما وهما في نظر الشرع على السواء وفارق الرد بالعيب فإنه إنما ثبت لاستدراك الظلامة وذلك يزول بأخذ الشفيع فإن باع الشفيع حصته في مدة الخيار عالما ببيع الأول سقطت شفعته وثبتت الشفعة فيما باعه للمشتري الأول في الصحيح من المذهب وفي وجه آخر أنه يثبت للبائع بناء على الملك في مدة الخيار لمن هو منهما وإن باعه قبل علمه بالبيع فكذلك وهو مذهب الشافعي لأن ملكه زال قبل ثبوت الشفعة ويتوجه على تخريج أبي الخطاب أن لا تسقط شفعته فيكون له على هذا أخذ الشقص من المشتري الأول للمشتري الأول أن يأخذ الشقص الذي باعه الشفيع من مشتريه لأنه كان شريكا للشفيع حين بيعه

فصل : وبيع المريض كبيع الصحيح
فصل : وبيع المريض كبيع الصحيح في الصحة وثبوت الشفعة وسائر الأحكام إذا باع بثمن المثل سواء كان لوارث أو غير وارث وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا يصح بيع المريض مرض الموت لوارثه لأنه محجور عليه في حقه فلم يصح بيعه كالصبي
ولنا أنه إنما حجر عليه في التبرع في حقه فلم يمنع الصحة فيما سواه كالأجنبي إذا لم يزد على التبرع بالثلث وذلك لأن الحجر في شيء لا منع صحة غيره كما أن الحجر على المرتهن في الرهن لا يمنع التصرف في غيره والحجر على المفلس في ماله لا يمنع التصرف في ذمته فإما بيعه بالمحاباة فلا يخلو اما أن يكون لوارث أو لغيره فإن كان لوارث بطلت المحاباة لأنها في المرض بمنزلة الوصية والوصية لوارث لا تجوز ويبطل البيع في قدر المحاباة من المبيع وهل يصح فيما عداه ؟ على ثلاثة أوجه أحدها : لا يصح لأن المشتري بذل الثمن في كل المبيع فلم يصح في بيعه كما لو قال بعتك هذا الثوب بعشرة فقال قبلت البيع في نصفه أو قال قبلته بخمسة أو قال قبلت نصفه بخمسة ولأنه لم يمكن تصحيح البيع على الوجه الذي تواجبا عليه فلم يصح كتفريق الصفقة الوجه الثاني : أنه يبطل البيع في قدر المحاباة ويصح فيما يقابل الثمن المسمى وللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ لأن الصفقة تفرقت عليه وللشفيع أخذ ما صح البيع فيه وإنما قلنا بالصحة لأن البطلان إنما جاء من المحاباة فاختص بما يقابلها الوجه الثالث : أنه يصح في الجميع ويقف على إجازة الورثة لأن الوصية للوارث صحيحة في أصح الروايتين وتقف على إجازة الورثة فكذلك المحاباة له فإن أجازوا المحاباة صح البيع في الجميع ولا خيار للمشتري ويملك الشفيع الأخذ به لأنه يأخذ بالثمن وإن ردوا بطل البيع في قدر المحاباة وصح فيما بقي ولا يملك الشفيع الأخذ قبل إجازة الورثة وردهم لأن حقهم متعلق بالمبيع فلم يملك إبطاله وله أخذ ما صح البيع فيه وإن اختار المشتري الرد في هذه الصورة وفي التي قبلها واختار الشفيع الأخذ بالشفعة قدم الشفيع لأنه لا ضرر على المشتري وجرى مجرى المعيب إذا رضيه الشفيع بعيبه القسم الثاني : إذا كان المشتري أجنبيا والشفيع أجنبي فإن لم تزد المحاباة على الثلث صح البيع وللشفيع الأخذ بها بذلك الثمن لأن البيع حصل به فلا يمنع منها كون المبيع مسترخصا وإن زادت على الثلث فالحكم فيه حكم أصل المحاباة في حق الوارث وإن كان الشفيع وارثا ففيه وجهان أحدهما : له الأخذ بالشفعة لأن المحاباة وقعت لغيره فلم يمنع منها تمكن الوارث من أخذها كما لو وهب غريم وارثه مالا فأخذه الوارث والثاني : يصح البيع ولا تجب الشفعة وهو قول أصحاب أبي حنيفة لأننا لو أثبتناها جعلنا للموروث سبيلا إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة ويفارق الهبة لغريم الوارث لأن استحقاق الوارث الأخذ بدينه لا من جهة الهبة وهذا استحقاقه بالبيع الحاصل من موروثه فافترقا ولأصحاب الشافعي في هذا خمسة أوجه وجهان كهذين والثالث : أن البيع باطل من أصله لإفضائه إلى إيصال المحاباة إلى الوارث وهذا فاسد لأن الشفعة فرع للبيع ولا يبطل الأصل ببطلان فرع له وعلى الوجه الأول ما حصلت للوارث المحاباة إنما حصلت لغيره ووصلت إليه بجهة الأخذ من المشتري فأشبه هبة غريم الوارث الوجه الرابع : ان للشفيع أن يأخذ بقدر ما عدا المحاباة بقدره من الثمن بمنزلة هبة المقابل للمحاباة لأن المحاباة بالنصف مثلا هبة للنصف وهذا لا يصح لأنه لو كان بمنزلة هبة النصف ما كان للشفيع الأجنبي أخذ الكل لأن الموهوب لا شفعة فيه الوجه الخامس : أن البيع يبطل في قدر المحاباة وهذا فاسد لأنها محاباة لأجنبي بما دون الثلث فلا تبطل كما لو لم يكن الشقص مشفوعا

فصل : ويملك للشفيع الشقص بأخذه بكل لفظ يدل على أخذه
فصل : ويملك الشفيع الشقص بأخذه بكل لفظ يدل على أخذه بأن يقول قد أخذته بالثمن أو تملكته بالثمن أو نحو ذلك إذا كان الثمن والشقص معلومين ولا يفتقر إلى حكم حاكم وبهذا قال الشافعي وقال القاضي و أبو الخطاب : يملكه بالمطالبة لأن البيع السابق سبب فإذا انضمت إليه المطالبة كان كالإيجاب في البيع انضم إليه القبول وقال أبو حنيفة : يحصل بحكم الحاكم لأنه نقل للملك عن مالكه إلى غيره قهرا فافتقر إلى حكم الحاكم كأخذ دينه
ولنا أنه حق ثبت بالنص والإجماع فلم يفتقر إلى حاكم كالرد بالعيب وما ذكروه ينتقض بهذا الأصل ويأخذ الزوج نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ولأنه مال يتملكه قهرا فملكه بالأخذ كالغنائم والمباحات وباللفظ الدال على الأخذ لأنه بيع في الحقيقة لكن الشفيع يستقل به فانتقل باللفظ الدال عليه وقولهم يملك بالمطالبة بمجردها لا يصح لأنه لو ملك بها لما سقطت الشفعة بالعفو بعد المطالبة ولوحب أنه إذا كان له شفيعان فطلبا الشفعة ثم ترك أحدهما أن يكون للآخر أخذ قدر نصيبه ولا يملك أخذ نصيب صاحبه إذا ثبت هذا فإنه إذا قال قد أخذت الشقص بالثمن الذي تم عليه العقد وهو عالم بقدره وبالمبيع صح الأخذ وملك الشقص ولا خيار له ولا للمشتري لأن الشقص يؤخذ قهرا والمقهور لا خيار له والآخذ قهرا لا خيار له أيضا كمسترجع المبيع لعيب في ثمنه أو الثمن لعيب في المبيع وإن كان الثمن مجهولا أو الشقص لم يملكه بذلك لأنه بيع في الحقيقة فيعتبر العلم بالعوضين كسائر البيوع وله المطالبة بالشفعة ثم يتعرف مقدار الثمن من المشتري أو من غيره والمبيع فيأخذه بثمنه ويحتمل أن له الأخذ مع جهالة الشقص بناء على بيع الغائب

فصل : وإذا أراد الشفيع أخذ الشقص وكان في يد المشتري أخذه منه
فصل : وإذا أراد الشفيع أخذ الشقص وكان في يد المشتري أخذه منه وإن كان في يد البائع أخذه منه وكان كأخذه من المشتري هذا قياس المذهب وهو قول أبي حنيفة لأن العقد يلزم في بيع العقار قبل قبضه ويدخل المبيع في ملك المشتري وضمانه ويجوز له التصرف فيه بنفس العقد فصار كما لو قبضه المشتري وقال القاضي : ليس له أخذه من البائع ويجبر الحاكم المشتري على قبضه ثم يأخذه الشفيع منه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الشفيع يشتري الشقص من المشتري فلا يأخذه من غيره وبنوا ذلك على أن البيع لا يتم إلا بالقبض فإذا فات القبض بطل العقد وسقطت الشفعة

فصل : إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشترك
فصل : إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري ففيه وجهان أحدهما : للشفيع الأخذ بالشفعة وهو قول أبي حنيفة و المزني والثاني : ليس له الأخذ بها ونصره الشريف أبو جعفر في مسائله وهو قول مالك و ابن شريح لأن الشفعة فرع للبيع ولم يثبت فلا يثبت فرعه ولأن الشفيع إنما يأخذ الشقص من المشتري وإذا أنكر البيع لم يمكن الأخذ منه ووجه الأول أن البائع أقر بحقين حق للشفيع وحق للمشتري فإذا سقط حق المشتري بإنكاره ثبت حق الشفيع كما لو أقر بدار لرجلين فأنكر أحدهما ولأنه أقر للشفيع أنه مستحق لأخذ هذه الدار والشفيع يدعي ذلك فيوجب قبوله كما لو أقر أنها ملكه فعلى هذا يقبض الشفيع من البائع ويسلم إليه الثمن ويكون درك الشفيع على البائع لأن القبض منه ولم يثبت الشراء في حق المشتري وليس للشفيع ولا للبائع محاكمة المشتري ليثبت البيع في حقه وتكون العهدة عليه لأن مقصود البائع الثمن وقد حصل من الشفيع ومقصود الشفيع أخذ الشقص وضمان العهدة وقد حصل من البائع فلا فائدة في المحاكمة فإن قيل أليس لو ادعى على رجل دينا فقال آخر أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه ولا تخاصمه لا يلزمه قبوله فهل لا قلتم ههنا كذلك ؟ قلنا في الدين عليه منة في قبوله من غير غريمه وههنا بخلافه ولأن البائع يدعي أن الثمن الذي يدفعه الشفيع حق للمشتري عوضا عن هذا المبيع فصار كالنائب عن المشتري في دفع الثمن والبائع كالنائب عنه في دفع الشقص بخلاف الدين فإن كان البائع مقرا بقبض الثمن من المشتري بقي الثمن الذي على الشفيع لا يدعيه أحد لأن البائع يقول هو للمشتري والمشتري يقول لا استحقه ففيه ثلاثة أوجه أحدها : أن يقال للمشتري أما أن تقبضه وأما تبرئ منه والثاني : يأخذه الحاكم عنده والثالث : يبقى في ذمة الشفيع وفي جميع ذلك متى ادعاه البائع أو المشتري دفع إليه لأنه لأحدهما وان تداعياه جميعا فأقر المشتري بالبيع وأنكر البائع أنه لم يقبض منه شيئا فهو للمشتري لأن البائع قد أقر له به ولأن البائع إذا أنكر القبض لم يكن مدعيا هذا الثمن لأن البائع لا يستحق على الشفيع ثمنا إنما يستحقه على المشتري وقد أقر بالقبض منه وأما المشتري فإنه يدعيه وقد أقر له باستحقاقه فوجب دفعه إليه

مسألة : قال ومن لم يطالب بالشفعة في وقعت علمه بالبيع فلا شفعة له
مسألة : قال : ومن لم يطالب بالشفعة في وقت علمه بالبيع فلا شفعة له
الصحيح في المذهب أن حق الشفعة على الفور إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع وإلا بطلت نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم وهذا قول ابن شبرمة و البتي و الأوزاعي و أبي حنيفة و العنبري و الشافعي في أحد قوليه وحكي عن أحمد رواية ثانية أن الشفعة على التراخي لا تسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى من عفو أو مطالبة بقسمة ونحو ذلك وهذا قول مالك وقول الشافعي إلا أن مالكا قال : تنقطع بمضي سنة وعنه بمضي مدة يعلم أنه تارك لها لأن هذا الخيار لا ضرر في تراخيه فلم يسقط بالتأخير كحق القصاص وبيان عدم الضرر أن النفع للمشتري باستغلال المبيع وإن أحدث فيه عمارة من غراس أو بناء فله قيمته وحكي عن ابن أبي ليلى و الثوري أن الخيار مقدر بثلاثة أيام وهو قول الشافعي لأن الثلاث حد بها خيار الشرط فصلحت حدا لهذا الخيار والله أعلم
ولنا ما روى ابن السلماني عن أبيه عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الشفعة كحل العقال ] - وفي لفظ أنه قال : - [ الشفعة كنشطة العقال إن قيدت ثبتت وإن تركت فاللوم على من تركها ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الشفعة لمن واثبها ] رواه الفقهاء في كتبهم لأنه خيار لدفع الضرر عن المال فكان على الفور كخيار الرد بالعيب ولأن إثباته على التراخي يضر المشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ويمنعه من التصرف بعمارة خشية أخذه منه ولا يندفع عنه الضرر بدفع قيمته لأن خسارتها في الغالب أكثر من قيمتها مع تعب قلبه وبدنه فيها والتحديد بثلاثة أيام تحكم لا دليل عليه والأصل المقيس عليه ممنوع ثم هو باطل بخيار الرد بالعيب وإذا تقرر هذا فقال ابن حامد : يتقدر الخيار بالمجلس وهو قول أبي حنيفة فمتى طالب في مجلس العلم ثبتت الشفعة وإن طال لأن المجلس كله في حكم حالة العقد بدليل أن القبض فيه لما يشترط فيه القبض كالقبض حالة العقد وظاهر كلام الخرقي أنه لا يقتدر بالمجلس بل متى بادر فطالب عقيب علمه وإلا بطلت شفعته وهذا ظاهر كلام أحمد وقول ل الشافعي لما ذكرنا من الخبر والمعنى وما ذكروه يبطل بخيار الرد بالعيب فعلى هذا متى أخر المطالبة عن وقت العلم لغير عذر بطلت شفعته وإن أخرها لعذر مثل أن يعلم ليلا فيؤخره إلى الصبح أو لشدة جوع أو عطش حتى يأكل ويشرب أو لطهارة أو إغلاق باب أو ليخرج من الحمام أو ليؤذن ويقيم ويأتي بالصلاة وسنتها أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها لم تبطل شفعته لأن العادة تقديم هذه الحوائج على غيرها فلا يكون الإشتغال بها رضى بترك الشفعة إلا أن يكون المشتري حاضرا عنده في هذه الأحوال فيمكنه أن يطالبه من غير اشتغاله عن أشغاله فإن شفعته تبطل بتركه المطالبة لأن هذا لا يشغله عنها ولا تشغله المطالبة عنه فأما مع غيبته فلا لأن العادة تقديم هذه الحوائج فلم يلزمه تأخيرها كما لو أمكنه أن يسرع في مشيه أو يحرك دابته فلم يفعل ومضى على حسب عادته لم تسقط شفعته لأنه طلب بحكم العادة وإذا فرغ من حوائجه مضى على حسب عادته إلى المشتري فإذا لقيه بدأ بالسلام لأن ذلك السنة وقد جاء في حديث من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ثم يطالب وإن قال بعد السلام بارك الله لك في صفقة يمينك أو دعا له بالمغفرة ونحو ذلك لم تبطل شفعته لأن ذلك يتصل بالسلام فيكون من جملته والدعاء له بالبركة في الصفقة دعاء لنفسه لأن الشقص يرجع إليه فلا يكون ذلك رضى وإن اشتغل بكلام آخر أو سكت لغير حاجة بطلت شفعته لما قدمنا

فصل : فإن أجبره بالبيع فخبر فصدقه ولم يطالب بالشفعة
فصل : فإن أجبره بالبيع مخبر فصدقه ولم يطالب بالشفعة بطلت شفعته سواء كان المخبر ممن يقبل خبره أو لا يقبل لأن العلم قد يحصل بخبر من لا يقبل خبره لقرائن دالة على صدقه وإن قال لم أصدقه وكان المخبر ممن يحكم بشهادته كرجلين عدلين بطلت شفعته لأن قولهما حجة تثبت بها الحقوق وإن كان ممن لا يعمل بقوله كالفاسق والصبي لم تبطل شفعته وحكي عن أبي يوسف أنها تسقط لأنه خبر يعمل به في الشرع في الإذن في دخول الدار وشبهه فسقطت به الشفعة كخبر العدل
ولنا أنه خبر لا يقبل في الشرع فأشبه قول الطفل والمجنون وإن أخبره رجل عدل أو مستور الحال سقطت شفعته ويحتمل أن لا تسقط ويروى هذا عن أبي حنيفة وزفر لأن الواحد لا تقوم به البينة
ولنا أنه خبر لا تعتبر فيه الشهادة فقبل من العدل كالرواية والفتيا وسائر الأخبار الدينية وفارق الشهادة فإنه يحتاط لها باللفظ والمجلس وحضور المدعى عليه وإنكاره ولأن الشهادة يعارضها إنكار المنكر وتوجب الحق عليه بخلاف هذا الخبر والمرأة في ذلك كالرجل والعبد كالحر وقال القاضي : هما كالفاسق والصبي وهذا مذهب الشافعي لأن قولهما لا يثبت به حق
ولنا أن هذا خبر وليس بشهادة فاستوى فيه الرجل والمرأة والعبد والحر كالرواية والأخبار الدينية والعبد من أهل الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص وهذا مما عداها فأشبه الحر

فصل : إذا أظهر المشترك أن الثمن أكثر من وقع العقد به
فصل : إذا أظهر المشتري أن الثمن أكثر مما وقع العقد به فترك الشفيع الشفعة لم تسقط الشفعة بذلك وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي و مالك إلا أنه قال بعد أن يحلف ما سلمت الشفعة إلا لمكان الثمن الكثير وقال ابن أبي ليلى : لا شفعة له لأنه سلم ورضي
ولنا أنه تركها للعذر فإنه لا يرضاه بالثمن الكثير ويرضاه بالقليل وقد لا يكون معه الكثير فلم تسقط بذلك كما لو تركها لعدم العلم وكذلك إن أظهر أن المبيع سهام قليلة فبانت كثيرة أو أظهر أنهما تبايعا بدنانير فبان أنها دراهم أو بدراهم فبانت دنانير وبهذا قال الشافعي وزفر وقال أبو حنيفة وصاحباه : إن كانت قيمتهما سواء سقطت الشفعة لأنهما كالجنس الواحد
ولنا أنهما جنسان فأشبها الثياب والحيوان ولأنه قد تملك بالنقد الذي وقع به البيع دون ما أظهره فيتركه لعدم ملكه له وكذلك إن أظهر أنه اشتراه بنقد فبان أنه اشتراه بعرض أو بعرض فبان أنه بنقد أو بنوع من العرض فبان أنه بغيره أو اشتراه مشتر فبان أنه اشتراه لغيره أو أظهر أنه اشتراه لغيره فبان أنه اشتراه له أو أنه اشتراه لإنسان فبان أنه اشتراه لغيره لأنه قد يرضى شركة إنسان دون غيره وقد يحابي إنسانا أو يخافه فيترك لذلك وكذلك إن أظهر أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى نصفه بنصفه أو أنه اشترى نصفه بثمن فبان أنه اشترى جميعه بضعفه أو أنه اشترى الشقص وحده فبان أنه اشتراه هو أو غيره أو أنه اشتراه هو وغيره فبان أنه اشتراه وحده لم تسقط الشفعة في جميع ذلك لأنه قد يكون له غرض فيما أبطنه دون ما أظهره فيترك لذلك فلم تسقط شفعته كما لو أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أقل منه فأما إن أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أنه اشتراه بأكثر أو أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى به بعضه سقطت شفعته لأن الضرر فيما أبطنه أكثر فإذا لم يرض به بالثمن القليل مع قلة ضرره فالكثير أولى

فصل : وإن لقيه الشفيع في غير بلده فلم يطالبه
فصل : وإن لقيه الشفيع في غير بلده فلم يطالبه وقال إنما تركت المطالبة لأطالبه في البلد الذي فيه البيع أو المبيع أو لأخذ الشقص في موضع الشفعة سقطت شفعته لأن ذلك ليس بعذر في ترك المطالبة فإنها لا تقف على تسليم الشقص ولا على حضور البلد الذي هو فيه وإن قال نسيت فلم أذكر المطالبة أو نسيت البيع سقطت شفعته لأنها خيار على الفور فإذا أخره نسيانا بطل كالرد بالعيب وكما لو أمكنت المعتقة زوجها من وطئها نسيانا ويحتمل أن لا تسقط المطالبة لأنه تركها لعذر فأشبه ما لو تركها لعدم علمه بها وإن تركها جهلا باستحقاقه لها بطلت كالرد بالعيب

فصل : وإذا قال الشفيع للمشتري بعنى ما اشتريت
فصل : وإذا قال الشفيع للمشتري بعني ما اشتريت أو قاسمني بطلت شفعته لأنه يدل على رضاه بشرائه وتركه للشفعة وإن قال صالحني على مال سقطت أيضا وقال القاضي : لا تسقط لأنه لم يرض بإسقاطها وإنما رضي بالمعاوضة عنها ولم تثبت المعاوضة فبقيت الشفعة
ولنا أنه رضي بتركها وطلب عوضها فيثبت الترك المرضي به ولم يثبت العوض كما لو قال بعني فلم يبعه ولأن ترك المطالبة بها كاف في سقوطها فمع طلب عوضها أولى ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين فإن صالحه عنها بعوض لم يصح وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يصح لأنه عوض عن إزالة ملك فجاز أخذ العوض عنه كتمليك امرأة أمرها
ولنا أنه خيار لا يسقط إلى مال فلم يجز أخذ العوض عنه كخيار الشرط ويبطل ما قاله بخيار الشرط وأما الخلع فهو معاوضة عما ما ملكه بعوض وههنا بخلافه

فصل : وإن قال آخذ نصف الشقص سقطت شفعته
فصل : وإن قال آخذ نصف الشقص سقطت شفعته وبهذا قال محمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي وقال أبو يوسف : لا تسقط لأن طلبه ببعضها طلب بجميعها لكونها لا تتبعض ولا يجوز أخذ بعضها
ولنا أنه تارك لطلب بعضها فيسقط ويسقط باقيها لأنها لا تتبعض ولا يصح ما ذكره فإن طلب بعضها ليس بطلب لجميعها وما لا يتبعض لا يثبت حتى يثبت السبب في جميعه كالنكاح ويخالف السقوط فإن الجميع يسقط بوجود السبب في بعضه كالطلاق والعتاق

فصل : وإن أخذ الشقص بثمن مغصوب
فصل : وإن أخذ الشقص بثمن مغصوب ففيه وجهان أحدهما : لا تسقط شفعته لأنه بالعقد استحق الشقص بمثل ثمنه في الذمة فإذا عينه فيما لا يملكه سقط التعيين وبقي الإستحقاق في الذمة فأشبه ما لو أخر الثمن أو كما لو اشترى شيئا آخر ونقد فيه ثمنا مغصوبا والثاني : تسقط شفعته لأن أخذه للشقص بما لا يصح أخذه به ترك له وإعراض عنه فتسقط الشفعة كما لو ترك الطلب بها

فصل : ومن وجبت له الشفعة فباع نصيبه عالما بذلك
فصل : ومن وجبت له الشفعة فباع نصيبه عالما بذلك سقطت شفعته لأنه لم يبق له ملك يستحق به ولأن الشفعة ثبتت له لإزالة الضرر الحاصل بالشركة عنه وقد زال ذلك ببيعه وإن باع بعضه ففيه وجهان أحدهما : تسقط أيضا لأنها استحقت بجميعه فإذا باع بعضه سقط ما تعلق بذلك من استحقاق الشفعة فيسقط باقيها لأنها لا تتبعض فيسقط جميعها بسقوط بعضها كالنكاح والرق وكما لو عفي عن بعضها والثاني : لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع لو انفرد فكذلك إذا بقي وللمشتري الأول الشفعة على المشتري الثاني في المسألة الأولى وفي الثانية إذا قلنا تسقط شفعة البائع الأول لأنه شريك في المبيع وإن قلنا لا تسقط شفعة البائع فله أخذه الشقص من المشتري الأول وهل للمشتري الأول شفعة على المشتري الثاني ؟ فيه وجهان أحدهما : له الشفعة لأنه شريك فإن الملك ثابت له يملك التصرف فيه بجميع التصرفات ويستحق نماءه وفوائده واستحقاق الشفعة به من فوائده والثاني : لا شفعة له لأن ملكه يوجد بها فلا تؤخذ الشفعة به ولأن ملكه متزلزل ضعيف فلا يستحق الشفعة به لضعفه والأول أقيس فإن استحقاق أخذه منه لا يمنع أن يستحق به الشفعة كالصداق قبل الدخول والشقص الموهوب للولد فعلى هذا للمشتري الأول الشفعة على المشتري الثاني سواء أخذ منه المبيع بالشفعة أو لم يؤخذ وللبائع الثاني إذا باع بعض الشقص الأخذ من المشتري الأول في أحد الوجهين فأما إن باع الشفيع ملكه قبل علمه بالبيع الأول فقال القاضي : تسقط شفعته أيضا لما ذكرناه ولأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه فصار كمن اشترى معيبا فلم يعلم عيبه حتى زال أو حتى باعه فعلى هذا حكمه حكم ما لو باع مع علمه سواء فيما إذ باع جميعه أو بعضه وقال أبو الخطاب : لا تسقط شفعته لأنها ثبتت له ولم يوجد منه رضى بتركها ولا ما يدل على إسقاطها والأصل بقاؤها فتبقى وفارق ما إذا علم فإن بيعه دليل على رضاه بتركها فعلى هذا للبائع الثاني أخذ الشقص من المشتري الأول فإن عفي عنه فللمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني وإن أخذ منه فهل للمشتري الأول الأخذ من الثاني ؟ على وجهين

مسألة : قال : ومن كان غائبا وعلم بالبيع في وقت قدومه
مسألة : قال : ومن كان غائبا وعلم بالبيع في وقت قدومه فله الشفعة وإن طالت غيبته
وجملة ذلك أن الغائب له شفعة في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن شريح و الحسن و عطاء وبه قال مالك و الليث و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و العنبري وأصحاب الرأي وروى عن النخعي : ليس للغائب شفعة وبه قال الحارث العكلي والبتي : إلا للغائب القريب لأن إثبات الشفعة له يضر بالمشتري ويمنع من استقرار ملكه وتصرفه على حسب اختياره خوفا من أخذه فلم يثبت ذلك كثبوته للحاضر على التراخي ولنا عموم قوله عليه السلام : [ الشفعة فيما لم يقسم ] وسائر الأحاديث ولأن الشفعة حق مالي وجد سبه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة وضرر المشتري يندفع بإيجاب القيمة له كما في الصور المذكورة إذا ثبت هذا فإنه إذا لم يعلم بالبيع إلا وقت قدومه فله المطالبة وإن طالت غيبته لأن هذا الخيار يثبت لإزالة الضرر عن المال فتراخي الزمان قبل العلم به لا يسقطه كالرد بالعيب ومتى علم فحكمه في المطالبة حكم الحاضر في أنه إن طالب على الفور استحق وإلا بطلت شفعته وحكم المريض والمحبوس وسائر من لم يعلم البيع لعذر حكم الغائب لما ذكرنا

مسألة : قال : وإن علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته
مسألة : قال : وإن علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته فلا شفعة له
ظاهر هذا أنه متى علم الغائب بالبيع وقدر على الإشهاد وعلى المطالبة فلم يفعل أن شفعته تسقط سواء قدر على التوكيل أو عجز عنه أو سار عقيب العلم أو أقام وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب في الغائب له الشفعة إذا بلغه أشهد وإلا فليس له شيء وهو وجه ل الشافعي والوجه الآخر لا يحتاج إلى الإشهاد لأنه إذا ثبت عذره فالظاهر أنه ترك الشفعة لذلك قبل قوله فيه
ولنا أنه قد يترك الطلب للعذر وقد يترك لغيره وقد يسير لطلب الشفعة وقد يسير لغيره وقد قدر أن يبين ذلك بالإشهاد فإذا لم يفعل سقطت شفعته كتارك الطلب مع حضوره وقال القاضي : إن سار عقيب علمه إلى البلد الذي فيه المشتري من غير إشهاد احتمل أن لا تبطل شفعته لأن ظاهر سيره أنه للطلب وهو قول أصحاب الرأي و العنبري وقول ل الشافعي وقال أصحاب الرأي : له من الأجل بعد العلم قدر السير فإن مضى الأجل قبل أن يبعث أو يطلب بطلت شفعته وقال العنبري : له مسافة الطريق ذاهبا وجائيا لأن عذره في ترك الطلب ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة وقد ذكرنا وجه قول الخرقي ولا خلاف في أنه إذا عجر عن الإشهاد في سفره أن شفعته لا تسقط لأنه معذور في تركه فأشبه ما لو ترك الطلب لعذره أو لعدم العلم ومتى قدر على الإشهاد فأخره كان كتأخير الطلب للشفعة إن كان لعذر لم تسقط الشفعة وإن كان لغير عذر سقطت لأن الإشهاد قائم مقام الطلب ونائب عنه فيعتبر له ما يعتبر للطلب ومن لم يقدر إلا على إشهاد من لا تقبل شهادته كالصبي والمرأة والفاسق فترك الإشهاد لم تسقط شفعته بتركه لأن قولهم غير معتبر فلم يلزم إشهادهم كالأطفال والمجانين وإن لم يجد من يشهده إلا من لا يقدم معه إلى موضع المطالبة فلم يشهد فالأولى أن شفعته لا تبطل لأن إشهاده لا يفيد فأشبه إشهاد من لا تقبل شهادته فإن لم يجد إلا مستوري الحال فلم يشهدهما احتمل أن تبطل شفعته لأن شهادتهما يمكن إثباتها بالتزكية فأشبها العدلين ويحتمل أن لا تبطل لأنه يحتاج في إثبات شهادتهما إلى كلفة كثيرة وقد لا يقدر على ذلك فلا تقبل شهادتهما وإن أشهدهما لم تبطل شفعته سواء قبلت شهادتهما أو لم تقبل لأنه لم يمكنه أكثر من ذلك فأشبه العاجز عن الإشهاد وكذلك إن لم يقدر إلا على إشهاد واحد فأشهده أو ترك إشهاده

فصل : إذا شهد على المطالبة ثم أخر القدوم مع إمكانه
فصل : إذا أشهد على المطالبة ثم أخر القدوم مع إمكانه فظاهر كلام الخرقي أن الشفعة بحالها وقال القاضي : تبطل شفعته وإن لم يقدر على المسير وقدر على التوكيل في طلبها فلم يفعل بطلت أيضا لأنه تارك للطلب بها مع قدرته عليه فسقطت كالحاضر أو كما لو لم يشهد وهذا مذهب الشافعي إلا أن لهم فيما إذا قدر على التوكيل فلم يفعل وجهين أحدهما : لا تسقط شفعته لأن له غرضا بأن يطالب لنفسه لكونه أقوم بذلك أو يخاف الضرر من جهة وكيله بأن يقر عليه برشوة أو غير ذلك فيلزمه إقراره فكان معذورا
ولنا أن عليه في السفر ضررا لالتزامه كلفته وقد يكون له حوائج وتجارة ينقطع عنها وتضيع بغيبته والتوكيل إن كان يجعل لزمه غرم وإن كان بغير جعل لزمته منة ويخاف الضرر من جهته فاكتفى بالإشهاد فأما إن ترك السفر لعجزه عنه أو لضرر يلحقه فيه لم تبطل شفعته وجها واحدا لأنه معذور فأشبه من لم يعلم وإن لم يقدر على الإشهاد وأمكنه السفر أو التوكيل فلم يفعل بطلت شفعته لأنه تارك للطلب بها مع إمكانه من غير وجود ما يقوم مقام الطلب فسقطت كما لو كان حاضرا

فصل : ومن كان مريضا مرضا لا يمنع المطالبة
فصل : ومن كان مريضا مرضا لا يمنع المطالبة كالصداع اليسير والألم القليل فهو كالصحيح وإن كان مرضا يمنع المطالبة كالحمى وأشباهها فهو كالغائب في الإشهاد والتوكيل وأما المحبوس فإن كان محبوسا ظلما أو بدين لا يمكنه أداؤه فهو كالمريض فإن كان محبوسا بحق يلزمه أداؤه وهو قادر عليه فهو كالمطلق إن لم يبادر إلى المطالبة ولم يوكل فيها بطلت شفعته لأنه تركها مع القدرة عليها

مسألة : قال فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة أو أكثر
مسألة : قال : فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة أو أكثر كان له أن يطالب بالشفعة من شاء منهم فإن طالب الأول رجع الثاني بالثمن الذي أخذ منه والثالث على الثاني
وجملة ذلك أن المشتري إذا تصرف في المبيع قبل أخذ الشفيع أو قبل علمه فتصرفه صحيح لأنه ملكه وصح قبضه له ولم يبق إلا أن الشفيع ملك أن يتملكه عليه وذلك لا يمنع من تصرفه كما لو كان أحد العوضين في البيع معيبا لم يمنع التصرف في الآخر والموهوب له يجوز له التصرف في الهبة وإن كان الواهب ممن له الرجوع فيه فمتى تصرف فيه تصرفا صحيحا تجب به الشفعة مثل إن باعه فالشفيع بالخيار إن شاء فسخ البيع الثاني وأخذه بالبيع الأول بثمنه لأن الشفعة وجبت له قبل تصرف المشتري وإن شاء أمضى تصرفه وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني لأنه شفيع في العقدين فكان له الأخذ بما شاء منهما وإن تبايع ذلك ثلاثة فله أن يأخذ المبيع بالبيع الأول وينفسخ العقدان الأخيران وله أن يأخذه بالثاني وينفسخ الثالث وحده وله أن يأخذه بالثالث ولا ينفسخ شيء من العقود فإذا أخذه من الثالث دفع إليه الثمن الذي اشترى به ولم يرجع على أحد لأنه وصل إليه الثمن الذي اشترى به وإن أخذ من الثاني الثمن دفع إليه الذي اشترى به ورجع الثالث عليه بما أعطاه لأنه قد انفسخ عقده وأخذ الشقص منه فيرجع بثمنه على الثاني لأنه أخذه منه وإن أخذ بالبيع الأول دفع إلى المشتري الأول الثمن الذي اشترى به وانفسخ عقد الآخرين ورجع الثالث على الثاني بما أعطاه ورجع الثاني على الأول بما أعطاه فإذا كان الأول اشتراه بعشرة ثم اشتراه الثاني بعشرين ثم اشتراه الثالث بثلاثين فأخذه بالبيع الأول دفع إلى الأول عشرة وأخذ الثاني من الأول عشرين وأخذ الثالث من الثاني ثلاثين لأن الشقص إنما يؤخذ من الثالث لكونه في يده وقد انفسخ عقده فيرجع بثمنه الذي ورثه ولا نعلم في هذا خلافا وبه يقول مالك و الشافعي و العنبري وأصحاب الرأي وما كان في معنى البيع مما تجب به الشفعة فهو كالبيع فيما ذكرنا وإن كان مما لا تجب به الشفعة فهو كالهبة والوقف على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

فصل : وإن تصرف المشتري في الشقص بما لا تجب به الشفعة
فصل : وإن تصرف المشتري في الشقص بما لا تجب به الشفعة كالوقف والهبة والرهن وجعله مسجدا فقال أبو بكر : للشفيع فسخ ذلك التصرف ويأخذه بالثمن الذي وقع البيع به وهو قول مالك و الشافعي وأصحاب الراي لأن الشفيع ملك فسخ البيع الثاني والثالث مع إمكان الأخذ بهما فبأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى ولأن حق الشفيع أسبق وجنبته أقوى فلم يملك المشتري أن يتصرف تصرفا يبطل حقه ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حق الغير كما لو وقف المريض أملاكه وعليه دين فإنه إذا مات رد الوقف إلى الغرماء والورثة فيما زاد على ثلثه بل لهم إبطال العتق فالوقف أولى وقال القاضي المنصوص عن أحمد في رواية علي بن سعيد وبكر بن محمد : إسقاط الشفعة فيما إذا تصرف بالوقف والهبة وحكي ذلك عن الماسرجسي في الوقف لأن الشفعة إنما تثبت في المملوك وقد خرج هذا عن كونه مملوكا وقال ابن أبي موسى : من اشترى دارا فجعلها مسجدا فقد استهلكها ولا شفعة فيها ولأن في الشفعة ههنا إضرارا بالموهوب له والموقوف عليه لأن ملكه يزول عنه بغير عوض ولا يزال الضرر بالضرر بخلاف البيع فإنه إذا فسخ البيع الثاني رجع المشتري الثاني بالثمن الذي أخذ منه فلا يلحقه ضرر ولأن ثبوت الشفعة ههنا يوجب رد العوض إلى غير المالك وسلبه عن المالك فإذا قلنا بسقوط الشفعة فلا كلام وإن قلنا بثبوتها فإن الشفيع يأخذ الشقص ممن هو في يده ويفسخ عقده ويدفع الثمن إلى المشتري وحكي عن مالك أنه يكون للموهوب له لأنه يأخذ ملكه
ولنا أن الشفيع يبطل الهبة ويأخذ الشقص بحكم العقد الأول ولو لم يكن وهب كان الثمن له كذلك بعد الهبة المفسوخة

فصل : فإن جعله صداقا أو عوضا في خلع أو صلح
فصل : فإن جعله صداقا أو عوضا في خلع أو صلح عن دم عمد انبنى ذلك على الوجهين في الأخذ بالشفعة فإن قايل البائع المشتري أو رده عليه بعيب فللشفيع فسخ الإقالة والرد والأخذ بالشفعة لأن حقه سابق عليهما ولا يمكنه الأخذ معهما وإن تحالفا على الثمن وفسخا البيع فللشفيع أن يأخذ الشقص بما حلف عليه البائع لأن البائع مقر بالبيع بالثمن الذي حلف عليه ومقر للشفيع باستحقاق الشفعة بذلك فإذا بطل حق المشتري بإنكاره لم يبطل حق الشفيع بذلك وله أن يبطل فسخهما ويأخذ لأن حفه أسبق

فصل : وإن اشترى شقصا بعبد ثم وجد بائع الشقص
فصل : وإن اشترى شقصا بعبد ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيبا فله رد العبد واسترجاع الشقص ويقدم على حق الشفيع لأن في تقديم حق الشفيع أضرارا بالبائع بإسقاط حقه من الفسخ الذي استحقه والشفعة لا تثبت لإزالة الضرر فلا تثبت على وجه يحصل بها الضرر فإن الضرر لا يزال بالضرر وقال أصحاب الشافعي : في أحد الوجهين يقدم حق الشفيع لأن حقه أسبق فوجب تقديمه كما لو وجد المشتري بالشقص عيبا فرده
ولنا أن في الشفعة إبطال حق البائع وحقه أسبق لأنه استند إلى وجود العيب وهو موجود حال البيع والشفعة ثبتت بالبيع فكان حق البائع سابقا وفي الشفعة إبطاله فلم تثبت ويفارق ما إذا كان الشقص معيبا فإن حق المشتري إنما هو في استرجاع الثمن وقد حصل له من الشفيع فلا فائدة في الرد وفي مسألتنا حق البائع في استرجاع الشقص ولا يحصل ذلك مع الأخذ بالشفعة فافترقا فإن لم يرد البائع العبد المعيب حتى أخذ الشفيع كان له رد العبد ولم يملك استرجاع المبيع لأن الشفيع ملكه بالأخذ فلم يملك البائع إبطال ملكه كما لو باعه المشتري لأجنبي فإن الشفعة بيع في الحقيقة ولكن يرجع بقيمة الشقص لأنه بمنزلة التالف والمشتري قد أخذ من الشفيع قيمة العبد فهل يتراجعان ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يتراجعان لأن الشفيع أخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد وهو قيمة العبد صحيحا لا عيب فيه بدليل أن البائع إذا علم بالعيب ملك رده ويحتمل أن يأخذه بقيمته معيبا لأنه إنما أعطى عبدا معيبا فلا يأخذ قيمة غير ما أعطى والثاني : يتراجعان لأن الشفيع إنما يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص فإذا قلنا يتراجعان فأيهما كان ما دفعه أكثر رجع بالفضل على صاحبه وإن لم يرد البائع العبد ولكن أخذ أرشه لم يرجع المشتري على الشفيع بشيء لأنه إنما دفع إليه قيمة العبد غير معيب وإن أدى قيمته معيبا رجع المشتري عليه بما أدى من أرشه وإن عفا عنه ولم يأخذ أرشا لم يرجع الشفيع عليه بشيء لأن البيع لازم من جهة المشتري لا يملك فسخه فأشبه ما لو حط عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد وإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع أو هبة أو إرث أو غيره فليس للبائع أخذه بالبيع الأول لأن ملك المشتري زال عنه وانقطع حقه منه وانتقل حقه إلى القيمة فإذا أخذها لم يبق له حق بخلاف ما لو غصب شيئا لم يقدر على رده فأدى قيمته ثم قدر عليه فإنه يرده لأن ملك المغصوب لم يزل عنه

فصل : ولو كان ثمن الشقص مكيلا أو موزونا فتلف قبل قبضه
فصل : ولو كان ثمن الشقص مكيلا أو موزونا فتلف قبل قبضه بطل البيع وبطلت الشفعة لأنه تعذر التسليم فتعذر إمضاء العقد فلم تثبت الشفعة كما لو فسخ البيع في مدة الخيار بخلاف الإقالة والرد بالعيب وإن كان الشفيع قد أخذ الشقص فهو كما لو أخذه في المسألة التي قبلها لأن لمشتري الشقص التصرف فيه قبل تقبيض ثمنه فأشبه ما لو اشتراه منه أجنبي

فصل : وإن اشترى شقصا بعبد أو ثمن معين
فصل : وإن اشترى شقصا بعبد أو ثمن معين فخرج مستحقا فالبيع باطل ولا شفعة فيه لأنها إنما تثبت في عقد ينقل الملك إلى المشتري وهو العقد الصحيح فأما الباطل فوجوده كعدمه فإن كان الشفيع قد أخذ بالشفعة لزمه رد ما أخذ على البائع ولا يثبت ذلك إلا ببينة أو إقرار من الشفيع والمتبايعين فإن أقر المتبايعان وأنكر الشفيع لم يقبل قولهما عليه وله الأخذ بالشفعة ويرد العبد على صاحبه ويرجع البائع على المشتري بقيمة الشقص وإن أقر الشفيع والمشتري دون البائع لم تثبت الشفعة ووجب على المشتري رد قيمة العبد على صاحبه ويبقى الشقص معه يزعم أنه للبائع والبائع ينكره ويدعي عليه وجوب رد العبد والبائع ينكره فيشتري الشقص منه ويتبارآن وإن أقر الشفيع والبائع وأنكر المشتري وجب على البائع رد العبد على صاحبه ولم تثبت الشفعة ولم يملك البائع مطالبة المشتري بشيء لأن البيع صحيح في الظاهر وقد أدى ثمنه الذي هو ملكه في الظاهر وإن أقر الشفيع وحده لم تثبت الشفعة ولا يثبت شيء من أحكام البطلان في حق المتبايعين فأما إن اشترى الشقص بثمن في الذمة ثم نقد الثمن فبان مستحقا كانت الشفعة واجبة لأن البيع صحيح فإن تعذر قبض الثمن من المشتري لإعساره أو غيره فللبائع فسخ البيع ويقدم حق الشفيع لأن الأخذ بها يحصل للمشتري ما يوفيه ثمنا فتزول عسرته ويحصل الجمع بين الحقين فكان أولى

فصل : وإذا وجبت الشقصة وقض القاضي بها
فصل : وإذا وجبت الشفعة وقضى القاضي بها والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري فقال البائع للشفيع أقلني فأقاله لم تصح الإقالة لأنها تصح بين المتبايعين وليس بين الشفيع والبائع بيع وإنما هو مشتر من المشتري فإن باعه إياه صح البيع لأن العقار يجوز التصرف فيه قبل قبضه

مسألة : قال وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة
مسألة : قال : وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة
وجملة ذلك أنه إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء منهم الحسن و عطاء و مالك و الأوزاعي و الشافعي و سوار و العنبري وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى : لا شفعة له وروي ذلك عن النخعي و الحارث العكلي لأن الصبي لا يمكنه الأخذ ولا يمكن انتظاره حتى يبلغ لما فيه من الأضرار بالمشتري وليس للولي الأخذ لأن من لا يملك العفو لا يملك الأخذ ولنا عموم الأحاديث ولأن خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فيثبت في حق الصبي كخيار الرد بالعيب قولهم لا يمكن الأخذ غير صحيح فإن الولي يأخذ بها كما يرد المعيب قولهم لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها وبالرد بالعيب فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو ويمكنه الرد ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظرا له وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه تضييع ولأن العفو إسقاط لحقه والأخذ إستيفاء له ولا يلزم من ملك الولي إستيفاء حق المولي عليه ملك إسقاطه بدليل سائر حقوقه وديونه وإن لم يأخذ الولي انتظر بلوغ الصبي كما ينتظر قدوم الغائب وما ذكروه من الضرر في الإنتظار يبطل بالغائب إذا ثبت هذا فأن ظاهر قول الخرقي أن للصغير إذا كبر الأخذ بها سواء عفا عنها الولي أو لم يعف وسواء كان الحظ في الأخذ بها أو في تركها وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور له الشفعة إذا بلغ فاختار ولم يفرق وهذا قول الأوزاعي و زفر و محمد بن الحسن وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها سواء كان له الحظ فيها أو لم يكن فلم يسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها وقال أبو عبد الله بن حامد : إن تركها الولي لحظ الصبي أو لأنه ليس للصبي ما يأخذها به سقطت وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأن الولي فعل ما له فعله فلم يجز للصبي نقضه كالرد بالعيب ولأنه فعل ما فيه الحظ للصبي فصح كالأخذ مع الحظ وإن تركها لغير ذلك لم تسقط وقال أبو حنيفة : تسقط بعفو الولي عنها في الحالين لأن من ملك الأخذ بها ملك العفو عنها كالمالك وخالفه صاحباه في هذا لأنه أسقط حقا للمولي عليه لاحظ له في إسقاطه فلم يصح كالإبراء وإسقاط خيار الرد بالعيب ولا يصح قياس الولي على المالك لأن للمالك التبرع والإبراء وما لا حظ له فيه بخلاف الولي

فصل : فأما الولي فإن كان للصبي حظ في الأخذ بها
فصل : فأما الولي فإن كان للصبي حظ في الأخذ بها مثل أن يكون الشراء رخيصا أو بثمن المثل وللصبي مال لشراء العقار لزم وليه الأخذ بالشفعة لأن عليه الإحتياط له والأخذ بما فيه الحظ فإذا أخذ بها ثبت الملك للصبي ولم يملك نقضه بعد البلوغ في قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي : ليس للولي الأخذ بها لأنه لا ملك العفو عنها فلا يملك الأخذ بها كالأجنبي وإنما يأخذ بها الصبي إذا كبر ولا يصح هذا لأن خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فملكه الولي في حق الصبي كالرد بالعيب وقد ذكرنا فساد قياسه فيما مضى فإن تركها الولي مع الحظ فللصبي الأخذ بها إذا كبر ولا يلزم الولي لذلك غرم لأنه لم يفوت شيئا من ماله وإنما ترك حصيل ما له الحظ فيه فأشبه ما لو ترك شراء العقار مع الحظ في شرائه وإن كان الحظ في تركها مثل أن يكون المشتري قد غبن أو كان في الأخذ بها يحتاج إلى أن يستقرض ويرهن مال الصبي فليس له الأخذ لأنه لا يملك فعل ما لا حظ للصبي فيه فإن أخذ فهل يصح ؟ على روايتين إحداهما : لا يصح ويكون باقيا على ملك المشتري لأنه اشترى له ما لا يملك شراءه فلم يصح كما لو اشترى بزيادة كثيرة على ثمن المثل أو اشترى معيبا يعلم عيبه ولا يملك الولي المبيع لأن الشفعة تؤخذ بحق الشركة ولا شركة للولي ولذلك لو أراد الأخذ لنفسه لم يصح فأشبه ما لو تزوج لغيره بغير إذنه فإنه يقع باطلا ولا يصح لواحد منهما كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي والرواية الثانية : يصح الأخذ للصبي لأنه يشتري له ما يندفع عنه الضرر به فصح كما لو اشترى معيبا لا يعلم عيبه والحظ يختلف ويخفى فقد يكون له حظ في الأخذ بأكثر من ثمن المثل لزيادة قيمة ملكه والشقص الذي يشتريه بزوال الشركة أو لأن الضرر الذي يندفع بأخذه كثير فلا يمكن اعتبار الحظ بنفسه لخفائه ولا بكثرة الثمن لما ذكرناه فسقط اعتباره وصح البيع

فصل : وإذا باع وصى الأيتام فباع لأحدهم نصيبا في شركة آخر
فصل : وإذا باع وصي الأيتام فباع لأحدهم نصيبا في شركة آخر كان له الأخذ للآخر بالشفعة لأنه كالشراء له وإن كان الوصي شريكا لمن باع عليه لم يكن له الأخذ لأنه متهم في بيعه ولأنه بمنزلة من يشتري لنفسه من مال يتيمه ولو باع الوصي نصيبه كان له الأخذ لليتيم بالشفعة إذا كان له الحظ فيها لأن التهمة منتفية فإنه لا يقدر على الزيادة في ثمنه لكون المشتري لا يوافقه ولأن الثمن حاصل له من المشتري كحصوله من اليتيم بخلاف بيعه مال اليتيم فإنه يمكنه تقليل الثمن ليأخذ الشقص به فإذا رفع الأمر إلى الحاكم فباع عليه فللوصي الأخذ حينئذ لعدم التهمة وإن كان مكان الوصي أب فباع شقص الصبي فله أن يأخذه بالشفعة لأن له أن يشتري من نفسه مال ولده لعدم التهمة وإن بيع شقص في شركة حمل لم يكن لوليه أن يأخذ له بالشفعة لأنه لا يمكن تمليكه بغير الوصية وإذا ولد الحمل ثم كبر فله الأخذ بالشفعة كالصبي إذا كبر

فصل : وإذا عفا ولي الصبي عن شفعته التي له فيها حظ
فصل : وإذا عفا ولي الصبي عن شفعته التي له فيها حظك ثم أراد الأخذ بها فله ذلك في قياس المذهب لأنها لم تسقط بإسقاطه ولذلك ملك الصبي الأخذ بها إذا كبر ولو سقطت لم يملك الأخذ بها ويحتمل أن لا يملك الأخذ بها لأن ذلك يؤدي إلى ثبوت حق الشفعة على التراخي وذلك على خلاف الخبر والمعنى ويخالف أخذ الصبي بها إذا كبر لأن الحق يتجدد له عند كبره فلا يملك تأخيره حينئذ وكذلك أخذ الغائب بها إذا قدم فأما إن تركها لعدم الحظ فيها ثم أراد الأخذ بها والأمر على ما كان لم يملك ذلك كما لم يملكه ابتداء وإن صار فيها حظ أو كان معسرا عند البيع فأيسر بعد ذلك انبنى ذلك على سقوطها بذلك فإن قلنا : لا تسقط وللصبي الأخذ بها إذا كبر فحكمها حكم ما فيه الحظ وإن قلنا : تسقط فليس له الأخذ بها بحال لأنها قد سقطت على الإطلاق فأشبه ما لو عفا الكبير عن شفعته

فصل : والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصبي سواء
فصل : والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصبي سواء لأنه محجور عليه لحظه وكذلك السفيه لذلك وأما المغمى عليه فلا ولاية عليه وحكمه حكم الغائب والمجنون ينتظر أفاقته وأما المفلس فله الأخذ بالشفعة والعفو عنها وليس لغرمائه الأخذ بها لأن الملك لم يثبت لهم في أملاكه قبل قسمتها ولا إجباره على الأخذ بها لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كسائر المعاوضات وليس لهم إجباره على العفو لأنه إسقاط حق فلا يجبر عليه وسواء كان له حظ في الأخذ بها أو لم يكن لأنه يأخذ في ذمته وليس بمحجور عليه في ذمته لكن لهم منعه من دفع ماله في ثمها لتعلق حقوقهم بماله فأشبه ما لو اشترى في ذمته شقصا غير هذا ومتى ملك الشقص المأخوذ بالشفعة تعلقت حقوق الغرماء به سواء أخذه برضاهم أو بغير لأنه مال له فأشبه ما لو اكتسبه وأما المكاتب فله الأخذ والترك وليس لسيده الإعتراض عليه لأن التصرف يقع له دون سيده فأما المأذون له في التجارة من العبيد فله الأخذ بالشفعة لأنه مأذون له في الشراء وإن عفا عنها لم ينفذ عفوه لأن الملك لسيده ولم يأذن له في إبطال حقوقه وإن أسقطها السيد سقطت ولم يكن للعبد أن يأخذ لأن للسيد الحجر عليه ولأن الحق قد أسقطه مستحقه فيسقط بإسقاطه

فصل : وإذا بيع شقص في شركه مال المضار به
فصل : وإذا بيع شقص في شركة مال المضاربة فللعامل الأخذ بها إذا كان الحظ فيها فإن تركها فلرب المال الأخذ لأن مال المضاربة ملكه ولا ينفذ عفو العامل لأن الملك لغيره فلم ينفذ عفوه كالمأذون له وإن اشترى المضارب بمال المضاربة شقصا في شركة رب المال فهل لرب المال فيه شفعة على وجهين مبنيين على شراء رب المال من مال المضاربة وقد ذكرناهما وإن كان المضارب شفيعه ولا ربح في المال فله الأخذ بها لأن الملك لغيره وإن كان فيه ربح وقلنا : لا يملك بالظهور فكذلك وإن قلنا : يملك بالظهور ففيه وجهان كرب المال ومذهب الشافعي في هذا كله على ما ذكرنا فإن باع المضارب شقصا في شركته لم يكن له أخذه بالشفعة لأنه متهم فأشبه شراءه من نفسه

فصل : ولا شفعة بشركة الوقف
فصل : ولا شفعة بشركة الوقف ذكره القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب فيه كالمجاور وغير المنقسم ولأننا إن قلنا : هو غير مملوك فالموقوف عليه غير مالك وإن قلنا : هو مملوك فملكه غير تام لأنه لا يفيد إباحة التصرف في الرقبة فلا يملك به ملكا تاما وأبو الخطاب : إن قلنا هو مملوك وجبت به الشفعة لأنه مملوك بيع في شركته شقص فوجبت به الشفعة كالطلق ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة كالطلق فوجبت فيه كوجوبها في الطلق وإنما لم يستحق بالشفعة لأن الأخذ بها بيع وهو مما لا يجوز بيعه

مسألة : قال : وإذا زرع في الأرض فللشفيع الأخذ بالشفعة
مسألة : قال : وإذا بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه إلا أن يشاء المشتري أن يأخذ بناءه فله ذلك إذا لم يكن في أخذه ضرر
وجملته أنه يتصور بناء المشتري وغرسه في الشقص على وجه مباح في مسائل منها : أن يظهر المشتري أنه وهب له أو أنه اشتراه بأكثر من ثمنه أو غير ذلك مما يمنع الشفيع من الأخذ بها فيتركها ويقاسمه ثم يبني المشتري ويغرس فيه ومنها : أن يكون غائبا فيقاسمه وكيله أو صغيرا فيقاسمه وليه ونحو ذلك ثم يقدم الغائب أو يبلغ الصغير فيأخذ بالشفعة وكذلك إن كان غائبا أو صغيرا فطالب المشتري الحاكم بالقسمة فقاسم ثم قدم الغائب وبلغ الصغير فأخذه بالشفعة بعذ غرس المشتري وبنائه فأن المشتري قلع غرسه وبنائه إن اختار ذلك لأنه ملكه فإذا قلعه فليس عليه تسوية الحفر ولا نقص الأرض ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه غرس وبنى في ملكه وما حدث من النقص إنما حدث في ملكه وذلك مما لا يقابله ثمن وظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحاصل بالقلع لأنه اشترط في قلع الغرس والبناءعدم الضرر وذلك لأنه نقص دخل على ملك غيره لأجل تخليص ملكه فلزمه ضمانه كما لو كسر محبرة غيره لإخراج ديناره منها وقولهم أن النقص حصل في ملكه ليس كذلك فأن النقص الحاصل بالقلع إنما هو في ملك الشفيع فأما نقص الأرض الحاصل بالغرس والبناء فلا يضمنه لما ذكروه فإن لم يختر المشتري القلع فالشفيع بالخيار بين ثلاثة أشياء ترك الشفعة وبين دفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع الأرض وبين قلع الغرس والبناء ويضمن له ما نقص له ما نقص بالقع وبهذا قال الشعبي و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و مالك و الليث و الشافعي و البتي و سوار و إسحاق وقال حماد بن أبي سليمان و الثوري و أصحاب الرأي : يكلف المشتري القلع ولا شيء له لأنه بنى فيما استحق غيره فأشبه الغاصب ولأنه بنى في حق غيره بغير إذنه فأشبه ما لو بانت مستحقة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك ولأنه بنى في ملكه الذي تملك بيعه فلم يكلف قلعه مع الأضرار كما لو لم يكن مشفوعا وفارق ما قاسوا عليه فإنه بنى في ملك غيره ولأنه عرق ظالم حق بخلاف مسألتنا فإنه غير ظالم فيكون له حق
إذا ثبت هذا فإنه لا يمكن إيجاب قيمته مستحقا للبقاء في الأرض لأنه لا يستحق ذلك ولا قيمته مقلوعا لأنه وجبت قيمته مقلوعا لملك قلعه ولم يضمن شيئا ولأنه قد يكون مما لا قيمة له إذا قلعه ولم يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة فالظاهر أن الأرض تقوم وفيها الغراس والبناء ثم تقوم خالية منهما فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء فيدفعه الشفيع إلى المشتري إن أحب أو ما نقص منه إن اختار القلع لأن ذلك هو الذي زاد بالغرس والبناء ويحتمل أن يقوم الغرس والبناء مستحقا للترك بالإجرة أو لأخذه بالقيمة إذا امتنعا من قلعه لإإن كان للغرس وقت يقلع فيه فيكون له قيمة وإن قلع قبله لم يكن له قيمة أو تكون قيمته قليلة فاختار الشفيع قلعه قبل وقته فله ذلك لأنه يضمن النقص فيجبر به ضرر المشتري سواء كثر النقص أو قل ويعود ضرر كثرة النقص على الشفيع وقد رضي باحتماله وإن غرس أو بنى مع الشفيع أو وكيله في المشاع ثم أخذه الشفيع فالحكم في أخذ نصيبه من ذلك كالحكم في أخذ جميعه بعد المقاسمة

فصل : وإن زرع في الأرض فللشفيع الأخذ بالشفعة
فصل : وإن زرع في الأرض فللشفيع الأخذ بالشفعة ويبقي زرع المشتري إلى أوان الحصاد لأن ضرره لا يتباقى ولا أجرة عليه لأنه زرعه في ملكه ولأن الشفيع اشترى الأرض وفيها زرع للبائع فكان له مبقي إلى الحصاد بلا أجرة كغير المشفوع وإن كان في الشجر ثمر ظاهر أثمر في ملك المشتري فهو له مبقي إلى الجذاذ كالزرع

فصل : وإذا نمى المبيع في يد المشتري
فصل : وإذا نمى المبيع في يد المشتري لم يخل من حالين أحدهما : أن يكون نماء متصلا كالشجر إذا كثر أو ثمرة غيز ظاهرة فإن الشفيع يأخذه بزيادته لأن هذه زيادة غير متميزة فتبعت الأصل كما لو رد بعيب أو خيار أو إقالة فإن قبل : فلم لا يرجع الزوج في نصفه زائدا إذا طلق قبل الدخول ؟ قلنا : لأن الزوج يقدر على الرجوع بالقيمة إذا فاته الرجوع بالعين وفي مسألتنا إذا لم يرجع في الشقص سقط حقه من الشفعة فلم يسقط حقه من الأصل لأجل ما حدث من البائع وإذا أخذ الأصل تبعه نماؤه المتصل كما ذكرنا في الفسوخ كلها
الحال الثاني : أن تكون الزيادة منفصلة كالغلة والأجرة والطلع المؤير والثمرة الظاهرة فهي للمشتري لا حق للشفيع فيها لأنها حدثت في ملكه وتكون للمشتري مبقاة في رؤس النخل إلى الجذاذ لأن أخذ الشفيع من المشتري شراء ثان فيكون حكمه ما لو اشترى برضاه فإن اشتراه وفيه طلع غير مؤبر فأبره ثم أخذه الشفيع أخذ الأصل دون الثمرة ويأخذ الأرض والنخيل بحصتهما من الثمن كما لو كان المبيع شقصا وسيفا

فصل : وإن تلف الشقص أو بعضه في يد المشتري
فصل : وإن تلف الشقص أو بعضه في يد المشتري فهو من ضمانه لأنه ملكه تلف في يده ثم إن أراد الشفيع الأخذ بعد تلف بعضه أخذ الموجود بحصته من الثمن سواء كان التلف بفعل الله تعالى أو بفعل آدمي وسواء تلف باختيار المشتري كنقصه للبناء أو بغير اختياره مثل أن انهدم ثم إن كانت الأنقاض موجودة أخذها مع العرصة بالحصة وإن كانت معدومة أخذ العرصة وما بقي من البناء هذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم وهذا قول الثوري و العنبري و أبي يوسف وقول الشافعي وقال أبو عبد الله بن حامد : إن كان التلف بفعل آدمي كما ذكرنا وإن كان بفعل الله تعالى كانهدام البناء بنفسه أو حريق أو غرق فليس للشفيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن أو يترك وهذا قول أبي حنيفة وقول الشافعي لأنه متى كان النقص بفعل آدمي رجع بدله إلى المشتري فلا يتضرر ومتى كان بغير ذلك لم يرجع إليه شيء فيكون الأخذ منه إضرارا به والضرر لا يزال بالضرر
ولنا أنه تعذر على الشفيع أخذ الجميع وقدر على أخذ البعض فكان له الحصة من الثمن كما لو تلف بفعل آدمي سواء أو كما لو كان له شفيع آخر أو نقول أخذ بعض ما دخل معه في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف وأما الضرر فإنما حصل بالتلف ولا صنع للشفيع فيه والذي يأخذه الشفيع يؤدي ثمنه فلا يتضرر المشتري بأخذه وإنما قلنا : يأخذ الأنقاض وإن كانت منفصلة لأن استحقاقه للشفعة كان حال عقد البيع وفي تلك الحال كان متصلا إتصالا ليس مآله إلى الإنفصال وانفصاله بعد ذلك لا يسقط حق الشفعة ويفارق الثمرة غير المؤيرة إذا تأبرت فإن مآلها إلى الإنفصال والظهور فإذا ظهرت فقد انفصلت فلم تدخل في الشفعة وإن نقصت القيمة مع بقاء صورة المبيع مثل ان انشق الحائط واستهدم البناء وشعث الشجر وبارت الأرض فليس له إلا الأخذ بجميع الثمن أو الترك لأن هذه المعاني لا يقابلها الثمن بخلاف الأعيان ولهذا قلنا : لو بني المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه ولو زاد المبيع زيادة متصلة دخلت في الشفعة

مسألة : قال : وإن كان الشراء وقع بعين أو ورقة
مسألة : قال : وإن كان الشراء وقع بعين أو ورق أعطاه الشفيع مثل ذلك وإن كان عرضا أعطاه قيمته
وجملته أن الشفيع يأخذ الشقص من المشتري بالثمن الذي استقرعليه العقد لما روي في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ هو أحق بالثمن ] رواه إبو إسحاق الجوزجاني في كتابه ولأن الشفيع إنما استحق الشقص بالبيع فكان مستحقا له بالثمن كالمشتري فإن قيل : أن الشفيع استحق أخذه بغير رضى مالكه فينبغي أن يأخذه بقيمته مالمضطر يأخذ طعام غيره قلنا : المضطر استحق أخذه بسبب حاجة خاصة فكان المرجع في بدله إلى قيمته والشفيع استحقه لأجل البيع ولهذا لو انتقل بهبة أو ميراث لم يستحق الشفعة وإذا استحق ذلك بالبيع وجب لأن يكون بالعوض الثابت بالبيع إذا ثبت هذا فانا نظر في الثمن فإن كان دنانير أو دراهم أعطاه الشفيع مثله وإن كان مما لا مثل له كالثياب والحيوان فإن الشفيع يستحق الشقص بقيمة الثمن وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول أصحاب الرأي و الشافعي وحكي عن الحسن وسوار أن الشفعة لا تجب ههنا لأنها تجب بمثل الثمن وهذا لا مثل له فتعذر الأخذ فلم يجب كما لو جهل الثمن
ولنا أنه أحد نوعي الثمن فجاز أن نثبت به الشفعة في البيع كالمثل وما ذكروه لا يصح لأن المثل يكون من طريق الصورة ومن طريق القيمة كبدل المتلف فأما إن كان الثمن من المثليات غير الأثمان كالحبوب والأدهان فقال أصحابنا يأخذه الشفيع بمثله لأنه من ذرات الأمثال فهو كالأثمان وبه يقول أصحاب الرأي و أصحاب الشافعي ولأن هذا مثل عن طريق الصورة والقيمة فكان أولى من المماثل في أحدهما ولأن الواجب بدل الثمن فكان مثله كبدل القرضوالمتلف

فصل : ويستحق الشفيع الشقص بالثمن الذي استقر عليه
فصل : ويستحق الشفيع الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد فلو تبايعا بقدر ثم غيراه في زمن الخيار بزيادة أو نقص ثبت ذلك التغيير في حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد وإنما يستحق بالثمن الذي هو ثابت حال استحقاقه ولأن زمن الخيار بمنزلة حالة العقد والتغيير يلحق بالعقد فيه لأنهما على اختيارهما فيه كما لو كانا في حال العقد فأما إذا انقضى الخيار وانبرم العقد فزادا أو نقصا لم يلحق بالعقد لأن الزيادة بعده هبة يعتبر لها شروط الهبة والنقص إبراء مبتدأ ولا يثبت ذلك في حق الشفيع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يثبت النقص في حق الشفيع دون الزيادة وإن كانا عنده يلحقان بالعقد لأن الزيادة تضر الشفيع فلم يملكها بخلاف النقص وقال مالك : إن بقي ما يكون ثمنا أخذ به وإن حط الأكثر أخذه بجميع الثمن الأول
ولنا أن ذلك يعتبر بعد استقرار العقد فلم يثبت في حق الشفيع كالزيادة ولأن الششفيع استحق الأخذ بالثمن الأول قبل التغيير فلم يؤثر التغيير بعد ذلك فيه كالزيادة وما ذكروه من العذر غير صحيح لأن ذلك لو لحق العقد لزم الشفيع وإن أضربه كالزيادة في مدة الخيار ولأنه حط بعد لزوم العقد فأشبه حط الجميع أو الأكثر عند مالك

فصل : وإن كان الثمن مما تجب قيمته فإنها تعتبر وقت البيع
فصل : وإن كان الثمن مما تجب قيمته فإنها تعتبر وقت البيع لأنه وقت الإستحقاق ولا اعتبار بعد ذلك بالزيادة والنقص وإن كان فيه خيار اعتبرت القيمة حين انقضاء الخيار واستقرار العقد لأنه حين استحقاق الشفعة وبهذا قال الشافعي وحكي عن مالك أنه يأخذه بقيمته يوم المحاكمة وليس بصحيح لأن وقت الاستحقاق وقت العقد وما زاد بعد ذلك حصل في ملك البائع فلا يقوم للمشتري وما نقص فمن مال البائع فلا ينقص به حق المشتري

فصل : وإذا كان الثمن مؤجلا أخذه الشفيع بذلك الأجل
فصل : وإذا مان الثمن مؤجلا أخذه الشفيع بذلك الأجل إن كان مليئا وإلا أقام ضمينا مليئا وأخذ وبه قال مالك و عبد الملك و إسحاق وقال الثوري : لا يأخذها إلا بالنقد حالا وقال أبو حنيفة لا يأخذها إلا بثمن حال أو ينتظر مضي الأجل ثم يأخذ وعن الشافعي كمذهبنا ومذهب أبي حنيفة لأنه لا يمكنه الأخذ بالمؤجل لأنه يفضي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمة الشفيع والذمم لا تتماثل وإنما يأخذ بمثله ولا يلزمه أكثر مما يلزم المشتري ولا بسلعة بمثل الثمن إلى الأجل لأنه إنما يأخذه بمثل الثمن أو القيمة والسلعة ليست واحدة منهما فلم يبق إلا التخيير
ولنا أن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته والتأجيل من صفاته ولأن الحلول زيادة على التأجيل فلم يلزم الشفيع كزيادة القدر وما ذكروه من اختلاف الذمم فإننا لا نوجبها حتى توجد الملاءة في الشفيع أو في ضمينه بحيث ينحفظ المال فلا يضر اختلافهما فيما وراء ذلك كما لو اشترى الشقص بسلعة وجبت قيمتها ولا يضر اختلافهما ومت أخذه الشفيع بالأجل فمات الشفيع أو المشتري وقلنا يحل الدين بالموت حل الدين على الميت منهما دون صاحبه لأن سبب حلوله الموت فاختص بمن وجد في حقه

فصل : وإذا باع شقصا مشفوعا ومعه ما لا شفعة فيه
فصل : وإذا باع شقصا مشفوعا ومعه مالا شفعة فيه كالسيف والثوب في عقد واحد ثبتت الشفعة في الشقص بحصته من الثمن دون ما معه فيقوم كل واحد منهما ويقسم الثمن على قدر قيمتهما فما يخص الشقص يأخذه الشفيع وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ويحتمل أن لا تجب الشفعة لئلا تتبعض صفقة المشتري وفي ذلك إضرار به فأشبه ما لوأراد الشفيع أخذ بعض الشقص وقال مالك تثبت الشفعة فيهما لذلك
ولنا أن السيف لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فلم يؤخذ بالشفعة كما لو أفرده وما يلحق المشتري من الضرر فهو ألحقه بنفسه بجمعه في العقد بين ما تثبت فيه الشفعة وما لا تثبت ولأن في أخذ الكل ضررا بالمشتري أيضا لأنه ربما كان غرضه في إبقاء السيف له ففي أخذه منه إضرار به من غير سبب يقتضيه

فصل : وإذا باع شقصين من أرضين صفقة واحدة لرجل واحد
فصل : وإذا باع شقصين من أرضين صفقة واحدة لرجل واحد والشريك في أحدهما غير الشريك في الآخر فلهما أن يأخذا ويقتسما الثمن على قدر القيمتين وإن أخذ أحدهما دون الآخر جاز ويأخذ الشقص الذي في شركته بحصته من الثمن ويتخرج أن لا شفعة له كالمسألة التي قبلها وليس له أخذهما معا لأن أحدهما لا شركة له فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فجرى مجرى الشقص والسيف وإن كان الشريك فيهما واحدا فله أخذهما وتركهما لأنه شريك فيهما وإن أحب أحدهما دون الآخر فله ذلك وهذا منصوص الشافعي ويحتمل أنه لا يملك ذلك ومتى اختاره سقطت الشفعة فيهما لأنه أمكنه أخذ المبيع كله فلم يملك أخذ بعضه كما لو كان شقصا واحدا ذكره أبو الخطاب وبعض أصحاب الشافعي
ولنا أنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين ولأنه لو جرى مجرى الشقص الواحد لوجب - إذا كانا شريكين فترك أحدهما سفعته - أن يكون للآخر أخذ الكل والأمر بخلافه

فصل : ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على الثمن
فصل : ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على الثمن لأن في أخذه بدون دفع الثمن إضرارا بالمشتري ولا يزال الضرر بالضرر فإن أحضر رهنا أو ضمينا لم يلزم المشتري قبوله لأن في تأخير الثمن ضررا فلم يلزم المشتري ذلك كما لو أراد تأخير ثمن حال فإن بذل عروضا عن الثمن لم يلزمه قبوله لأنها معاوضة لم يجبر عليها وإذا أخذ بالشفعة لم يلزم المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن فإن كان موجودا سلمه وإن تعذر في الحال قال أحمد في رواية حرب : ينظر الشفيع يوما أو يومين بقدر ما يرى الحاكم فإذا كان أكثر فلا وهذا قول مالك
وقال ابن شبرمة و أصحاب الشافعي : ينظر ثلاثا لأنها آخر حد القلة فإن أحضر الثمن وإلا فسخ عليه وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يأخذ بالشفعة ولا يقضي القاضي بها حتى يحضر الثمن لأن الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري فلا يستحق ذلك إلإ لإحضار عوضه كتسليم المبيع
ولنا أنه تملك للمبيع بعوض فلا يقف على إحضار العوض كالبيع وأما التسليم في البيع فالتسليم في الشفعة مثله وكون الأخذ بغير اختيار المشتري يدل على قوته فلا يمنع من اعتباره في الصحة فإذا أجلناه مدة فأحضر الثمن فيها وإلا فسخ الحاكم الأخذ ورده إلى المشتري وهكذا لو هرب الشفيع بعد الأخذ والولى أن للمشتري الفسخ من غير حاكم لأنه فات شرط الأخذ ولأنه تعذر على البائع الوصول إلى الثمن فملك الفسخ كغير من أخذت الشفعة منه وكما لو أفلس الشفيع ولأن الأخذ بالشفعة لا يقف على حكم الحاكم فلا يقف فسخ الأخذ بها على الحاكم كفسخ غيرها من البيوع وكالرد بالعيب ولأن وقف ذلك على الحاكم يفضي إلى الضرر بالمشتري لأنه قد يتعذر عليه إثبات ما يدعيه وقد يصعب عليه حضور مجلس الحاكم لبعده أو غير ذلك فلا يشرع فيها ما يفضي إلى الضرر ولأنه لو وقف الأمر على الحاكم لم يملك الأخذ إلا بعد إحضار الثمن لئلا يفضي إلى هذا الضرر وإن أفلس الشفيع خير المشتري بين الفسخ وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن كالبائع إذا أفلس المشتري

فصل : لا يحل الإحتيال لإسقاط الشفعة
فصل : لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة وإن فعل لم تسقط قال أحمد في رواية إسماعيل ابن سعيد وقد سألته عن الحيلة في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شيء من الحيل في ذلك ولا في إبطال حق مسلم وبها قال أبو أيوب و ابو خيثمة و ابن أبي شيبة و أبو إسحاق الجوزجاني وقال عبد الله بن عمر : من يخدع الله يخدعه وقال أيوب السختياني : أنهم ليخادعون الله كما يخادعون صبيا لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي
ومعنى الحيلة أن يظهروا في البيع شيئا لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطئون في الباطن على خلافه : مثل أن يشتري شقصا يساوي عشرة دنانير بألف درهم ثم يقضيه عنها عشرة دنانير أو يشتريه بمائة دينار ويقضيه عنها مائة درهم أو يشتري البائع من المشتري عبدا قيمته مائة بألف في ذمته ثم يبيعه الشقص بالألف أو يشتري شقصا بألف ثم يبرئه البائع من تسعمائة أو يشتري جزءا من الشقص بمائة ثم يهب له البائع باقيه أو يهب الشقص للمشتري ويهب المشتري له الثمن أو يعقد البيع بثمن مجهول المقدار كحفنة قراضة أو جوهرة معينة أو سلعة معينة غير موصوفة أو بمائة درهم ولؤلؤة وأشباه هذا فهذا كله إذا وقع من غير تحيل سقطت الشفعة وإن تحيلا به على إسقاط الشفعة لم تسقط ويأخذ الشفيع الشقص في الصورة الأولى بعشرة دنانير أو قيمتها من الدراهم وفي الثانية بمائة درهم أو قيمتها ذهبا وفي الثالثة بقيمة العبد المبيع وفي الرابعة بالباقي بعد الإبراء وهو المائة المقبوضة وفي الخامسة يأخذ الجزء المبيع من الشقص بقسطه من الثمن ويحتمل أن يأخذ الشقص كله بجميع الثمن لأنه إنما وهبه بقية الشقص عوضا عن الثمن الذي اشترى به جزءا من الشقص وفي السادسة يأخذ بالثمن الموهوب وفي سائر الصور المجهول ثمنها يأخذه يمثل الثمن أو بقيمته إن لم يكن مثلها إذا كان الثمن موجودا وإن لم يوجد عينه دفع إليه قيمة الشقص لأن الأغلب وقوع العقد على الأشياء بقيمتها وقال أصحاب الرأي و الشافعي : يجوز ذلك كله وتسقط به الشفعة لأنه لم يأخذ بما وقع البيع به فلم يجز كما لو لم يكن حيلة
ولنا في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أدخل فرسا بين فرسين ولم يأمن أن يسبق فليس بقمار وإن أمن أن يسبق فهو قمار ] رواه أبو داود وغيره فجعل إدخال الفرس المحلل قمارا في الموضع الذي يقصد به إباحة إخراج كل واحد من المتسابقين جعلا مع عدم معنى المحلل فيه وهو كونه بحال يحتمل أن يأخذ سبقيهما وهذا يدل على إبطال كل حيلة لم يقصد بها إلا إباحة المحرم مع عدم المعنى فيها
واستدل أصحابنا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بادنى الحيل ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله اليهود أن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه ] متفق عليه ولأن الله تعالى ذم المخادعين له بقوله : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } والحيل مخادعة وقد فسخ الله تعالى الذين اعتدوا في السبت قردة بحيلتهم فإن روي أنهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ومنهم من يحفر جبابا ويرسل الماء إليها يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعت في الشباك والجباب فيدعونها إلى لية الأحد فيأخذونها ويقولون ما اصطدنا يوم السبت شيئا فمسخهم لله تعالى بحيلتهم وقال تعالى : { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } قيل يعني به أمة محمد صلى الله عليه و سلم أي لتتعظ بذلك أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيجتنبوا مثل ما فعل المعتدون ولأن الحيلة خديعة وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تحل الخديعة لمسلم ] ولأن الشفعة وضعت لمنع الضرر فلو سقطت بالتحيل للحق الضرر فلم تسقط كما لو أسقطها المشتري بالبيع والوقف وفارق ما لم يقصد به التحيل لأنه لا خداع فيه ولا قصد به إبطال حق والأعمال بالنيات فإن اختلفا هل وقع شيء من هذا حيلة أو لا ؟ فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه أعلم بنيته وحاله
إذا ثبت هذا فإن الغرر في الصورتين الأولين على المشتري لشرائه ما يساوي عشرة بمائة وما يساوي مائة درهم بمائة دينار وأشهد على نفسه أن عليه ألفا فربما طالبه بذلك فلزمه في ظاهر الحكم وفي الثالثة الغرر على البائع لأنه اشترى عبدا يساوي مائة بألف وفي الرابعة على المشتري لأنه اشترى شقصا قيمته مائة بألف وكذلك في الخامسة لأنه اشترى بعض الشقص بثمن جميعه وفي السادسة على البادي منهما بالهبة لأنه قد لا يهب له الآخر شيئا فإن خالف أحدهما ما تواطآ عليه فطالب صاحبه بما أظهراه لزمه في ظاهر الحكم لأنه عقد البيع مع صاحبه بذلك مختارا فأما بينه وبين الله تعالى فلا يحل لمن غرصا حبه الأخذ بخلاف ما تواطآ عليه لأن صاحبه إنما رضي بالعقد للتواطؤ فمع فواته لا يتحقق الرضى به

مسألة : قال : وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري
مسألة : قال : وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري إلا أن يكون للشفيع بينة
وجملته أن الشفيع والمشتري إذا اختلفا في الثمن فقال المشتري : اشتريه بمائة فقال الشفيع : بل بخمسين فالقول قول المشتري لأنه العاقد فهو أعرف بالثمن ولأن الشقص ملكه فلا ينزع من يده بالدعوى بغير بينة وبهذا قال الشافعي فإن قيل : فلا قلتم القول قول الشفيع لأنه غارم ومنكر للزيادة فهو كالغاصب والمتلف والضامن لنصيب شريكه إذا اعتق ؟ قلنا : الشفيع ليس بغارم لأنه لا شيء عليه وإنما يريد أن يملك الشقص بثمنه بخلاف الغاصب والمتلف والمعتق فأما إن كان للشفيع بينة حكم بها وكذلك إن كان للمشتري بينة حكم بها واستغنى عن يمينه ويثبت ذلك بشاهد ويمين وشهادة رجل وإمرأتين ولا تقبل شهادة البائع لأنه إذا سهد للشفيع كان متهما لأنه يطلب تقليل الثمن خوفا من الدرك عليه وإن أقام كل واحد منهما بينة احتمل تعارضهما لأنهما يتنازعان فيما وقع عليه العقد فيصيران كمن لا بينة لهما وذكر الشريف أن البينة بينة الشفيع ويقتضيه مذهب الخرقي لأن بينة الخارج عنده مقدمة على بينة الداخل والشفيع هو الخارج وهذا قول أبي حنيفة وقال صاحباه : البينة بينة المشتري لأنها تترجح بقول المشتري فإنه مقدم على قول الشفيع ويخالف الخارج والداخل لأن بينة الداخل يجوز أن تكون مستندة إلى يده وفي مسألتنا البينة تشهد على نفس العقد كشهادة بينة الشفيع
ولنا أنهما بينتان تعارضتا فقدمت بينة من لا يقبل قوله عند عدمها كالداخل والخارج ويحتمل أن يقرع بينهما لأنهما يتنازعان في العقد ولا يد لهما عليه فصارا كالمتنازعين عينا في يد غيرهما

فصل : وإن قال المشتري لا أعلم مبلغ الثمن فالقول قوله
فصل : وإن قال المشتري لا أعلم مبلغ الثمن فالقول قوله لأن ما يدعيه ممكن لجواز أن يكون اشتراه جزافا أو بثمن نسبي مبلغه ويحلف فإذا حلف سقطت الشفعة لأنها لا تستحق بغير بذل ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدعيه فإن ادعى أنك فعلت ذلك تحيلا على إسقاط الشفعة فعليه اليمين على نفي ذلك

فصل : فإن اشترى شقصا بعوض واختلفا في قيمته
فصل : فإن اشترى شقصا بعوض واختلفا في قيمته فإن كان موجودا عرضاه على المقومين وإن تعذر إحضاره فالقول قول المشتري كما لو اختلفا في قدر الثمن وإن ادعى جهل قيمته فهو هلى ما ذكرنا فيما إذا ادعى جهل ثمنه وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص فقال المشتري أنا أحدثته وأنكر الشفيع فالقول قول المشتري لأنه ملكه والشفيع يريد تملكه عليه فالقول قول المالك

فصل : إذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء
فصل : إذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلي أخذه بالشفعة فأنه يحتاج إلى تحرير دعواه فيحدد المكان الذي فيه الشقص ويذكر قدر الشقص والثمن ويدعي الشفعة فيه فإذا فعل ذلك سئل المدعي عليه فإن أقر لزمه وإن أقر لزمه وإن أنكر وقال إنما انهيته أو ورثته فلا شفعة لم فيه فالقول قول من ينفيه كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة فإن حلف بريء وإن نكل قضي عليه وإن قال لا تستحق علي شفعة فالقول قوله مع يمينه ويكون يمينه على حسب قوله في الإنكار وإذا نكل وقضي عليه بالشفعة عرض عليه الثمن فإن أخذه دفع إليه وإن قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه أحدهما : يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشتري فيندفع إليه كما لو أقر له بدار فأنكرها والثاني : أن يأخذه الحاكم فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه المشتري ومتى ادعاه دفع إليه والثالث : يقال له أما أن تقضيه وإما أن تبرىء منه كسيد المكاتب إذا جاءه المكاتب بمال المكاتبة فادعى أنه حرام اختار هذا القاضي وهذا مفارق للمكاتب لأن سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذي أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد دعوى سيده تحريم ما أتاه به وهذا لا يطلب الشفيع بشيء فلا ينبغي أن يكلف إبراء مما لا يدعيه والوجه الأول أولى إن شاء الله تعالى

فصل : وإن قال اشتريته لفلان وكان حاضرا
فصل : وإن قال اشتريته لفلان وكان حاضرا استدعاه الحاكم وسأله فإن صدقه كان الشراء له والشفعة عليه وإن قال هذا ملكي ولم أشتره انتقلت الخصومة إليه وإن كذبه حكم بالشراء لمن اشتراه وأخذ منه بالشفعة وإن كان المقر له غائبا أخذه الحاكم ودفعه إلى الشفيع وكان الغائب على حجته إذا قدم لأننا لو وقفنا الأمر في الشفعة إلى حضور المقر له لكان في ذلك إسقاط الشفعة لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب وإن قال اشتريته لأبني الطفل أو لهذا الطفل وله عليه ولاية ففيه وجهان :
أحدهما : لا تثبت الشفعة لأن الملك ثبت للطفل ولا تجب الشفعة بإقرار الولي عليه لأنه إيجاب حق في مال صغير بإقرار وليه
والثاني : تثبت لأنه يملك الشراء له فصح إقراره فيه كما يصح إقراره بعيب في مبيعه فأما إن ادعى عليه شفعة في شقص فقال هذا لفلان الغائب أو لفلان الطفل ثم أقر بشرائه له لم تثبت فيه الشفعة إلا أن يثبت ببينة أو يقدم الغائب ويبلغ الطفل فيطالبهما بها لأن الملك يثبت لهما بإقراره به فإقراره بالشراء بعد ذلك إقرار في ملك غيره فلا يقبل بخلاف ما إذا قر بالشراء ابتداء لأن الملك ثبت لهما بذلك الإقرار المثبت للشفعة فثبتا جميعا وإن لم يذكر سبب الملك لم يسأله الحاكم عنه ولم يطالب ببيانه لأنه لو صرح بالشراء لم تثبت به شفعة فلا فائدة في الكشف عنه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا

فصل : وإذا ادعى رجل على رجل شفعة في شقص اشتراه
فصل : وإذا ادعى رجل على شفعة في شقص اشتراه فقال ليس له ملك في شركتي فعلى الشفيع إقامة البينة إنه شريك وبه قال أبو حنيفة ومحمد الشافعي وقا أبو يوسف : إذا كان في يده استحق به الشفعة لذلك لأن الظاهر من اليد الملك
ولنا أن الملك لا يثبت بمجرد اليد وإذا لم يثبت الملك الذي يستحق به الشفعة لم تثبت ومجرد الظاهر لا يكفي كما لو ادعى ولد أمة في يده فإن ادعى أن المدعي يعلم أنه شريك فعلى المشتري اليمين أنه لا يعلم ذلك لأنهما يمين على نفي فعل الغير فكان على العلم كاليمين على نفي دين الميت فإذا حلف سقطت دعواه وإن نكل قضي عليه

فصل : وإذا كانت دارين حاضر وغائب
فصل : وإذا كانت دار بين حاضر وغائب فادعى الحاضر على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه منه وأنه يستحقه بالشفعة فصدقه فللشفيع أخذه بالشفعة لأن من في يده العين يصدق في تصرفه فيما في يديه وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان أحدهما : ليس له أخذه لأن هذا إقرار على غيره
ولنا إنه أقر بما في يده فقبل إقراره كما لو أقر بأصل ملكه وهكذا لو ادعى عليه إنك بعت نصيب الغائب بإذنه وأقر له الوكيل كان كإقرار البائع بالبيع فإذا قدم الغائب فأنكر البيع أو الإذن في البيع فالقول قوله مع يمينه وينتزع الشقص ويطالب بأجره من شاء منهما ويستقر الضمان على الشفيع لأن المنافع لأن المنافع تلفت تحت يده فإن طالب الوكيل رع على الشفيع وإن طالب الشفيع لم يرجع على أحد وإن ادعى على الوكيل إنك اشتريت الشقص الذي في يدك فأنكر وقال إنما انا وكيل فيه أو ستودع له فالقول قوله مع يمينه فإن كان للمدعي بينة حكم بها وبهذا قل ابا حنيفة لا يرى القضاء على الغالب لأن القضاء ههنا على الحاضر بوجوب الشفعة عليه واستحقاق انتزاع الشقص من يده وحصل القضاء على الغالب ضمنا فإن لم تكن بينة وطلب الشفيع يمينه فنكل عنها احتمل ان يقضي عليه لانه لو اقر لقضي عليه فكذلك اذا نكل واحتمل ان لا يقضي عليه لان قضاء على الغالب يغير بينة ولا إقرار من الشقص في يده

فصل : إذا ادعى على شريكه أنك أشتريت نصيبك من عمرو
فصل : إذا ادعى على شريكه انك اشتريت نصيبك من عمرو فلي شفعته فصدقه عمرو فأنكر الشريك وقال بل ورثته من أبي فأقام المدعي بينة أنه كان ملك عمرو لم تثبت الشفعة بذلك وقال محمد : تثبت ويقال له إما أن تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع منهما لأنهما شهدا بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع
ولنا أنهما لم يشهدا بالبيع وإقرار عمرو على المنكر بالبيع لأنه إقرار على غيره فلا يقبل في حقه ولا تقبل شهادته عليه وليس الشفعة من حقوق العقد فيقبل فيها قول البائع فصار بمنزلة ما لو حلف أني ما اشتريت الدار فقال من كانت الدار ملكا له : أنا بعته إياها لم يقبل عليه في الحنث ولا يلزم إذا أقر البائع بالبيع والشقص في يده فأنكر المشتري الشراء لأن الذي في يده الدار مقر بها للشفيع ولا منازع له فيها سواه وههنا من الدار في يده يدعيها لنفسه والمقر بالبيع لا شيء في يده ولا يقدر على تسليم الشقص فافترقا

فصل : وإذا كانت دار بين رجلين
فصل : وإذا كانت دار بين رجلين فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يستحق ما في يديه بالشفعة سألناهما متى ملكتماها ؟ فإن قالا : ملكناها دفعة واحدة فلا شفعة لأحدهما على الآخر لأن الشفعة إنما تثبت بملك سابق في ملك متجدد بعده وإن قال كل واحد منهما ملكي سابق ولأحدهما بينة بما إدعاه قضي له وإن كان لكل واحد منهما بينة قدمنا أسبقهما تاريخا وإن شهدت بينة كل واحد منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا وإن لم تكن لواحد منهما بينة نظرنا إلى السابق بالدعوى فقدمنا دعواه وسألنا خصمه فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر فإن حلف سقطت دعوى الأول ثم تسمع دعوى الثاني على الأول فإن أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعا وإن ادعى الأول فنكل الثاني عن اليمين قضينا عليه ولم نسمع دعواه لأن خصمه قد استحق ملكه وإن حلف الثاني ونكل الأول قضينا عليه

فصل : إذا اختلف المتبايعان في الثمن
فصل : إذا اختلف المتبايعان في الثمن فادعى البائع أن الثمن ألفان وقال المشتر هو ألف فأقام البائع بينة أن الثمن ألفان أخذهما من المشتري وللشفيع أخذه بالألف لأن المشتري مقر له باستحقاقه بألف ويدعي أن البائع ظلمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن حكم الحاكم عليه بألفين أخذه الشفيع بهما لأن الحاكم إذا حكم عليه بالبينة بطل فوله وثبت ما حكم به الحاكم
ولنا أن المشتري مقر بأن هذه البينة كاذبة وأنه ظلمه بألف فلم يحكم له به وإنما حكم بها للبائع لأنه لا يكذبها فإن قال المشتري صدقت البينة وكنت أنا كاذبا أو ناسيا ففيه وجهان أحدهما : لا يقبل رجوعه لأنه رجوع عن إقرار تعين به حق آدمي غيره فأشبه ما لو أقر له بدين والثاني : يقبل قوله وقال القاضي هو قياس المذهب عندي كما لو أخبر في المرابحة بثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر قبل قوله مع يمينه بل ههنا أولى لأنه قد قامت البينة بكذبه وحكم الحاكم بخلاف قوله فقبل رجوعه عن الكذب وإن لم تكن للبائع بينة فتحالفا فللشفيع أخذه بما حلف عليه وإن أراد أخذه بما حلف عليه المشتري لم يكن له ذلك لأن للبائع فسخ البيع وأخذه بما قال المشتري يمنع ذلك ولأنه يفضي إلى إلزام العقد بما حلف عليه المشتري ولا يملك ذلك فإن رضي المشتري بأخذه بما قال البائع جاز وملك الشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه المشتري لأن حق البائع من الفسخ قد زال فإن عاد المشتري فصدق البائع وقال الثمن ألفان وكنت غالطا فهل للشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه ؟ فيه وجهان كما لو قامت به بينة

فصل : وإن اشترى شقصا له شفيعان
فصل : وإن اشترى شقصا له شفيعان فادعى على أحد الشفيعين أنه عفا عن الشفعة وشهد له بذلك الشفيع الآخر قبل عفوه عن شفعته لم تقبل شهادته لأنه يجر إلى نفسه نفعا وهو توفر الشفعة عليه فإذا كانت ردت شهادته ثم عفا عن الشفعة ثم أعاد تلك الشهادة لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد زوالها كشهادة الفاسق إذا ردت ثم تاب وأعادها لم تقبل ولو لم يشهد حتى عفا قبلت شهادته لعدم التهمة ويخلف المشتري مع شهادته ولو لم تكن بينة فالقول قول المنكر مع يمينه وإن كانت الدعوى على الشفيعين معا فحلفا ثبتت الشفعة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر نظرنا في الحالف فإن صدق شريكه في الشفعة في أنه لم بعف لم يحتج إلى يمين وكانت الشفعة بينهما لأن الحق له فإن الشفعة تتوفر عليه إذا سقطت شفعة شريكه وإن ادعى أنه عفا فنكل قضى له بالشفعة كلها وسواء ورثا الشفعة أو كانا شريكين وإن شهد أجنبي بعفو أحد الشفيعين واحتيج إلى يمين معه قبل عفو الآخر حلف وأخذ الكل بالشفعة وإن كان بعده حلف المشتري وسقطت الشفعة وإن كانوا ثلاثة شفعاء فشهد إثنان منهم على الثالث بالعفو بعد عفوهما قبلت وإن شهدا قبله ردت وإن شهدا بعد عفو أحدهما وقبل عفو الآخر ردت شهادة غير العافي وقبلت شهادة العافي وإن شهد البائع بعفو الشفيع بعد قبض الثمن قبلت شهادته وإن كان قبله ففيه وجهان أحدهما : تقبل لأنهما سواء عنده والثاني : لا تقبل لأنه يحتمل أن يكون قصد ذلك ليسهل إستيفاء الثمن لأن المشتري يأخذه من الشفيع فيسهل عليه وفاؤه أو يتعذر على المشتري الوفاء لفلسه فيستحق إسترجاع المبيع وإن شهد لمكاتبه بعفو أو شهد بشراء شيء لمكاتبه فيه شفعة لم تقبل لأن المكاتب عبده فلا تقبل شهادته له كمدبره ولأن ما يحصل للمكاتب ينتفع به السيد لأنه إن عجز صار له وإن لم يعجز سهل عليه الوفاء له وإن شهد على مكاتبه بشيء من ذلك قبلت شهادته لأنه غير متهم فأشبه الشهادة على ولده

مسألة : قال : وإن كانت دار بين ثلاثة
مسألة : قال : وإن كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللآخر سدسها فباع أحدهم كانت الشفعة بين النفسين على قدر سهامهما
الصحيح في المذهب أن الشقص المشفوع إذا أخذه الشفعاء قسم بينهم على قدر أملاكهم اختاره أبو بكر وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين وعطاء وبه قال مالك و سوار و العنبري و إسحاق و أبو عبيد وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية ثانيه أنه يقسم بينهم على عدد رؤوسهم اختارها ابن عقيل وروى ذلك عن النخعي والشعبي وبه قال ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و الثوري و أصحاب الرأي لأن كل واحد منهم لو انفرد لا ستحق الجميع فإذا اجتمعوا تساووا كالبنين في الميراث وكالمعتقين في سراية العتق
ولنا أنه حق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الأملاك كالغلة ودليلهم ينتقض بالإبن والأب أو الجدة بالجد مع الأخوة والفرسان مع الرجالة في الغنيمة وبأصحاب الديون والوصايا إذا نقص ماله عن دين أحدهم أو الثلث عن وصية أحدهم وفارق الأعيان لأنه إتلاف والإتلاف يستوي فيه القليل والكثير كالنجاسة تلقى في مائع وأما البنون فإنهم تساووا في التسبب وهو البنوة فتساووا في الإرث بها فنظيره في مسألتنا تساوي الشفعاء في سهامهم فعلى هذا ننظر مخرج سهام الشركاء كلهم فنأخذه منها سهام الشفعاء فإذا علمت عدتها قسمت السهم المشفوع عليها ويصير العقار بين الشفعاء على تلك العدة كما يفعل في مسائل الرد سواء ففي هذه المسألة التي ذكر الخرقي مخرج سهام الشركاء ستة فإن باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة لصاحب الثلث سهمان وللآخر سهم فالشفعة بينهم على ثلاثة ويصير العقار بينهم أثلاثا لصاحب الثلث ثلثاه وللآخر ثلثه وإن باع صاحب الثلث كانت بين الآخرين أرباعا لصاحب النصف ثلاثة أرباعه وللآخر ربعه وإن باع صاحب السدس كانت بين الآخرين أخماسا لصاحب النصف ثلاثة أخماسه وللآخر خمساه وعلى الرواية الاخرى يقسم الشقص المشفوع بين الآخرين نصفين على كل حال فإن باع صاحب النصف قسم النصف بين شريكيه لكل واحد الربع فيصير لصاحب الثلث ثلث وربع وللآخر ربع وسدس وإن باع صاحب الثلث صار لصاحب النصف الثلثان وللآخر الثلث وإن باع صاحب السدس فلصاحب الثلث نصف وربع ولصاحب الثلث ربع وسدس والله أعلم

فصل : ولو ورث أخوان درارا أو اشترياهابينهما نصفين ز
فصل : ولو ورث أخوان دارا أو اسشترياها بينهما نصفن أو غير ذلك فمات أحدهما عن ابنين فباع أحدهما نصيبه فالشفعة بين أخيه وعمه وبهذا قال أبو حنيفة و المزني و الشافعي في الجديد وقال في القديم : أن أخاه أحق بالشفعة وبه قال مالك لأن أخاه أخص بشركته من العم لاشتراكهما في سبب الملك
ولنا أنهما شريكان حال ثبوت الشفعة فكانت بينهما كما لو ملكوا كلهم بسبب واحد ولأن الشفعة تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل على شركائه بسب شركته وهذا يوجد في حق الكل وما ذكروه لا أصل له ولم يثبت إعتبار الشرع له في موضع والإعتبار بالشركة لا بسببها وهل تقسم بين العم وابن أخيه نصفين أو على قدر ملكيهما ؟ على روايتين وهكذا لو اشترى رجل نصف دار ثم اشترى ابناه نصفها الآخر أو ورثاه أو اتهباه أو وصل إليهما بسبب من أسباب الملك فباع أحدهما نصيبه أو ورث ثلاثة دارا فباع أحدهم نصيبه من إثنين ثم باع أحد المشترين نصيبه فالشفعة بين جمع الشركاء وكذلك لو مات رجل وخلف ابنتين وأختين فباعت إحدى الأختين نصيبها أو احدى الإبنتين فالشفعة بين جميع الشركاء ولو مات رجل وخلف ثلاثة بنين وأرضأ فمات أحدهم عن ابنين فباع أحد العمين نصيبه فالشفعة بين أخيه وابني أخيه ولو خلف ابنين وأوصي بثلثه لإثنين فباع أحد الوصيين أو أحد الإبنين فالشفعة بين شركائه كلهم ولمخالفينا في هذه المشائل اختلاف يطول ذكره

فصل : وإن كان المشتري شريكا فللشفيع الآخر أن يأخذ بقدر نصيبه
فصل : وإن كان المشتري شريكا فللشفيع الآخر أن يأخذ بقدر نصيبه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن الحسن والشعبي والبتي لا شفعة للآخر لأنها تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل وهذا شركته متقدمة فلا ضرر في شرائه وحكى ابن الصباغ عن هؤلاء أن الشفعة كلها لغير المشتري ولا شيء للمشتري فيها لأنها تستحق عليه فلا يستحقها على نفسه
ولنا أنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو اشترى أجنبي بل المشتري أولى لأنه قد ملك الشقص المشفوع وما ذكرناه للقول الأول لا يصح لأن الضرر يحصل بشراء هذا السهم المشفوع من غير نظر إلى المشتري وقد حصل شراؤه والثاني لا يح أيضا لأننا نقول إنه يأخذ من نفسه بالشفعة وإنما يمنع الشريك أن يأخذ قدر حقه بالشفعة فيبقى على ملكه ثم لا يمتنع أن يستحق الإنسان على نفسه لأجل تعلق حق الغير به ألا ترى أن العبد المرهون إذا جنى على عبد آخر لسيده ثبت للسيد على عبده أرش الجناية لأجل تعلق حق المرتهن به ولو لم يكن رهنا ما تعلق به إذا ثبت هذا فإن المشتري أخذ قدر نصيبه لا غير أو العفو وإن قال له المشتري قد أسقطت شفعتي فخذ الكل أو اترك لم يلزمه ذلك ولم يصح إسقاط المشتري لأن ملكه استقر على قدر حقه فجرى مجرى الشفيعين إذا أخذ بالشفعة ثم عفا أحدهما عن حقه وكذلك إذا حضر أحد الشفيعين فأخذ جميع الشقص بالشفعة ثم حضر الآخر فله أخذ النصف من ذلك فإن قال الأول خذ الكل أو دع فإني قد أسقطت شفعتي لم يكن له ذلك فإن قيل : هذا تبعيض للصفقة على المشتري قلنا : هذا التبعيض اقتضاه دخوله في العقد فصار كالرضى منه به كما قلنا في الشفيع الحاضر إذا أخذه جميع الشقص وكما لو اشترى شقصا وسيفا

مسألة : قال فإن ترك أحدهما شفعته
مسألة : قال : فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو بترك
وجملته أنه إذا كان الشقص بين شفعاء فترك بعضهم فليس للباقين إلا أخذ الجميع أو ترك الجميع وليس لهم أخذ البعض قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على هذا وهذا قول مالك و الشافعي و أصحاب الرأي ولأن في أخذ البعض أضرارا بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه والضرر لا يزال بالضرر لأن الشفعة إنما تثبت على خلاف الأصل دفعا لضرر الشريك الداخل خوفا من سوء المشاركة ومؤنة القسمة فإذا أخذ بعض الشقص لم يندفع عنه الضرر فلم يتحقق المعنى المجوز لمخالفة الأصل فلا تثبت ولو كان الشفيع واحدا لم يجز له أخذ بعض المبيع لذلك فإن فعل سقطت شفعته لأنها لا تتبعض فإذا سقط بعضها سقط جميعها كالقصاص وإن وهب بعض الشركاء نصيبه من الشفعة بعض شركائه أو غيره لم يصح لأن ذلك عفو وليس بهبة فلم يصح لغير من هو عليه كالعفو عن القصاص

فصل : فإن كان الشقصاء غائبين لم تسقط الشفعة لموضع القدر
فصل : فإن كان الشفعاء غائبين لم تسقط الشفعة لموضع العذر فإذا قدم أحدهم فليس له أن يأخذ إلا الكل أو يترك لأنا لا نعلم اليوم مطالبا سواه ولأن في أخذه البعض تبعيضا لصفقة المشتري فلم يجز ذلك كما لو لم يكن معه غيره ولا يمكن تاخير حقه إلى أن يقدم شركاؤه لأن في التأخير إضرارا بالمشتري فإذا أخذ الجميع ثم حضر آخر قاسمه إن شاء أو عفى فيبقي للأول لأن المطالبة إنما وجدت منهما فإن قاسمه ثم حضر الثالث قاسمهما إن أحب أو عفا فيبقي للأولين فإن نمى الشقص في يد الأول نماء منفصلا لم يشاركه فيه واحد منهما لأنه انفصل في ملكه فأشبه ما لو انفصل في يد المشتري قبل الأخذ بالشفعة وكذلك إذا أخذ الثاني فنمى في يده نماء منفصلا لم يشاركه الثالث فيه وإن خرج الشقص مستحقا فالعهدة على المشتري يرجع الثلاثة عليه ولا يرجع أحدهم على الآخر فإن الأخذ وإن كان من الأول فهو بمنزلة النائب عن المشتري في الدفع إليهما والنائب عنهما في دفع الثمن إليه لأن الشفعة مستحقة عليه لهم وهذا ظاهر مذهب الشافعي وإن امتنع الأول من المطالبة حتى يحضر صاحباه أو قال آخذ قدر حقي ففيه وجهان أحدهما : يبطل حقه لأنه قدر على أخذ الكل وتركه فأشبه المنفرد والثاني : لا يبطل لأنه تركه لعذر وهو خوف قدوم الغائب فينتزعه منه والترك لعذر لا يسقط الشفعة بدليل ما لو أظهر المشتري ثمنا كثيرا فترك لذلك ثم بان بخلافه فإن ترك الأول شفعته توفرت الشفعة على صاحبيه فإذا قدم الول منهما فله أخذ الجميع على ما ذكرنا في الأول فإن أخذ الأول بها ثم رد ما أخذه بعيب فكذلك وبهذا قال الشافعي وحكي عن محمد بن الحسن أنها لا تتوفر عليهما وليس لهما أخذ نصيب الأول لأنه لم يعف وإنما رد نصيبه لأجل العيب فأشبه ما لو رجع إلى المشتري ببيع أو هبة
ولنا أن الشفيع فسخ ملكه ورجع إلى المشتري بالسبب الأول فكان لشريكه أخذه كما لو عفا ويفارق عوده بسببب آخر لأنه عاد غير الملك الأول الذي تعلقت به الشفعة

فصل : وإذا حضر الثاني بعد أخذ الأول فأخذ نصف الشقص منه
فصل : وإذا حضر الثاني بعد أخذ الأول فأخذ نصف الشقص منه واقتسما ثم قدم الثالث فطالب بالشفعة وأخذ بها بطلت القسمة لأن هذا الثالث إذا أخذ بالشفعة كان كأنه مشارك في حال القسمة لثبوت حقه ولهذا لو باع المشتري ثم قدم الشفيع كان له إبطال البيع فإن قيل : فكيف تصح القسم وشريكهما الثالث غائب ؟ قلنا : يحتمل أن يكون وكل في القسم قبل البيع أو قبل علمه أو يكون الشريكان رفعا ذلك إلى الحاكم وطالباه بالقسمة عن الغائب فقاسمهما وبقي الغائب على شفعته فإن قيل : فكيف تصح مقاسمتهما للشقص وحق الثالث ثابت فيه ؟ قلنا : ثبوت حق الشفعة لا يمنع التصرف بدليل أنه يصح بيعه وهبته وغيرهما ويملك الشفيع إبطاله كذا ههنا إذا ثبت هذا فإن الثالث إذا قدم فوجد أحد شريكيه غائبا أخذ من الحاضر ثلث ما في يده لأنه قدر ما يستحقه ثم إن قضى له القاضي على الغائب أخذ ثلث ما في يده أيضا وإن لم يقض له انتظر الغائب حتى يقدم لأنه موضع عذر

فصل : إذا أخذ الأول الشقص كله بالشفعة
فصل : إذا أخذ الأول الشقص كله بالشفعة فقدم الثاني فقال لا آخذ منك نصفه بل أقتصر على قدر نصيبي وهو الثلث فله ذلك لأنه اقتصر على بعض حقه وليس فيه نبعيض الصفقة على المشتري فجاز كترك الكل فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده فيضيفه إلى ما في يد الأول ويقتسمانه نصفين فتصح قسمة الشقص من ثمانية عشر سهما لأن الثالث أخذ حقه من الثاني ثلث الثلث ومخرجه تسعة فضمه إلى الثلثين وهي ستة صارت سبعة ثم قسما السبعة نصفين لا تنقسم فاضرب اثنين في تسعة تكن ثمانية عشر للثاني أربعة أسهم ولكل واحد من شريكيه سبعة وإنما كان كذلك لأن الثاني ترك سدسا كان له أخذه وحقه منه ثلثاه وهو التسع فتوفر ذلك على شريكه في الشفعة فللأول والثالث أن يقولا نحن سواء في الإستحقاق ولم يترك واحد منا شيئا من حقه فنجمع ما معنا فنقسمه فيكون على ما ذكرنا وإن قال الثاني أنا آخذ الربع فله ذلك لما ذكرنا في التي قبلها فإذا قدم الثلث أخذ منه نصف سدس وهو ثلث ما في يده فضمنه إلى ثلاثة الأرباع وهي تسعة يصير الجميع عشرة فيقتسمانها لكل واحد منهما خمسة وللثاني سهمان وتصح من إثني عشر

فصل : إذا اشترى رجل من رجلين شقصا فللشفيع أخذ نصيب أحدهما
فصل : إذا اشترى رجل من رجلين شقصا فللشفيع لأخذ نصيب أحدهما دون الآخر وبهذا قال الشافعي وحكي عن القاضي أنه لا يملك ذلك وهو ذلك وهو قول أبي حنيفة و مالك لئلا تتبعض صفقة المشتري
ولنا أن عقد الإثنين مع واحد عقدان لأنه مشتر من كل واحد منهما ملكه بثمن مفرد فكان للشفيع أخذه كما لو أفرده بعقد وبهذا ينفصل عما ذكروه وإن اشترى إثنان نصيب واحد فللشفيع أخذ نصيب أحد المشتريين وبه قال مالك و الشافعي و أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه وقال في الأخرى يجوز له ذلك بعد القبض ولا يجوز قبله لأنه قبل القبض تتبعض صفقة البائع
ولنا أنهما مشتريان فجاز للشفيع لأخذ نصيب أحدهما كما بعد القبض وما ذكره لا نسلمه على أن المشتري الآخر يأخذ نصيبه فلا يكون نبعيضا فإن باع إثنان من إثنين فهي أربعة عقود وللشفيع أخذ الكل أو ما شاء منهما

فصل : فإذا باع شقصا لثلاثة دفعة واحدة
فصل : فإذا باع شقصا لثلاثة دفعة واحدة فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة وله أن يأخذ من أحدهم وله أن يأخذ من إثنين دون الثالث لأن عقد كل منهما منفرد فلا يتوقف الأخذ به على الأخذ بما في العقد الاخر كما لو كانت متفرقة فإذا أخذ نصيب واحد لم يكن للآخرين مشاركته في الشفعة لأن ملكهما لم يسبق ملك من أخذ نصيبه ولا يستحق الشفعة إلا بملك سابق فأما إن باع نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود متفرقة ثم علم الشفيع فله أيضا أن يأخذ الثلاثة وله أن يأخذ ما شاء منها وإن أخذ نصيب الأول لم يكن للآخرين مشاركته في شفعته لأنهما لم يكن لهما ملك حين بيعه وإن أخذ نصيب الثاني وحده لم يمل الثالث مشاركته لذلك ويشاركه الأول في شفعته لأن ملكه سابق لشراء الثاني فهو شريك حال شرائه ويحتمل أن لا يشاركه لأن ملكه حال شراء الثاني يستحق أخذه بالشفعة فلا يكون سببا في استحقاقها وإن أخذ من الثالث وعفا عن الأولين ففي مشاركتهما له وجهان وإن أخذ من الثلاثة ففيه وجهان أحدهما : أنه لا يشاركه أحد منهم لأن أملاكهم قد استحقها بالشفعة فلا يستحق عليه بها شفعة والثاني : يشاركه الثاني في شفعة الثالث وهذا قول أبي حنيفة و بعض أصحاب الشافعي لأنه كان مالكا صحيحا حال شراء الثالث ولذلك استحق مشاركته إذا عفا عن شفعته فكذلك إذا لم يعف لأنه إنما استحق الشفعة بالملك الذي صار به شريكا لا بالعفو عنه ولذلك قلنا في الشفيع إذا لم يعلم بالشفعة حتى باع نصيبه فله أخذ نصيب المشتري الأول وللمشتري الأول أخذ نصيب المشتري الثاني وعلى هذا يشاركه الأول في شفعة الثاني والثالث جميعا فعلى هذا إذا كانت دار بين إثنين نصفين فباع أحدهما نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود في كل عقد سدسا فلللشفيع السدس الأول وثلاثة أرباع الثاني وثلاثة أخماس الثالث وللمشتري الأول ربع السدس الثاني وخمس الثالث وللمشتري الثاني خمس الثالث فتصح المسألة من مائة وعشرين سهما للشفيع الأول مائة وسبعة أسهم وللثاني تسعة وللثالث أربعة وإن قلنا : أن الشفعة على عدد الرؤوس فللمشتري الأول نصف السدس الثاني وثلث الثالث وهو نصف التسع فتصح من ستة وثلاثين للشفيع تسعة وعشرون وللثاني خمسة وللثالث سهمان

فصل : دار بين أربعة أرباعا باع ثلاثة منهم في عقود متفرقة
فصل : دار بين أربعة أرباعا باع ثلاثة منهم في عقود متفرقة ولم يعلم شريكهم ولا بعضهم ببعض فللذي لم يبع الشفعة في الجميع وهل يستحق البائع الثاني والثالث الشفعة فيما باعه البائع الأول والثاني ؟ على وجهين وكذلك هل يستحق الثالث الشفعة فيما باعه الأول والثاني ؟ على وجهين وهل يستحق مشتري الربع الأول الشفعة فيما باعه الثاني والثالث ؟ على ثلاثة أوجه أحدها : يستحقان لأنهما مالكان حال البيع والثاني : لا حق لهما لأن ملكهما متزلزل يستحق أخذه بالشفعة فلا تثبت به والثالث : إن عفا عنهما أخذا وإلا قلنا : يشترك الجميع فللذي لم يبع ثلث كل ربع لأن له شريكين فصار له الربع مضمونا إلى ملكه فكمل له النصف وللبائع والمشتري الأول الثلث لكل واحد منهما السدس لأنه شريك في شفعة بيع واحد وتصح من إثني عشر

فصل : وإذا باع الشريك نصف الشقص لرجل
فصل : وإن باع الشريك نصف الشقص لرجل ثم باعه بقيته في صفقة أخرى ثم علم الشفيع فله أخذ المبيع الأول والثاني وله أخذ أحدهما دون الثاني لأن لكل عقد حكم نفسه فإن أخذ الأول لم يشاركه في شفعته أحد وإن أخذ الثاني فهل يشاركه المشتري في شفعته بنصيبه الأول ؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها : يشاركه فيها وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأنه شريك وقت البيع الثاني بملكه الذي اشتراه أولا والثاني : لا يشاركه لأن ملكه على الأول لم يسترق لكون الشفيع يملك أخذه والثالث : إن عفا الشفيع عن الأول شاركه في الثاني وإن أخذ بهما جميعا لم يشاركه وهذا مذهب الشافعي لأنه إذا عفا عنه استقر ملكه فشاركه به بخلاف ما إذا أخذ فإن قلنا : يشارك في الشفعة ففي قدر ما يستحق وجهان أحدهما : ثلثه والثاني : نصفه بناء على الروايتين في قسمة الشفعة على قدر الأملاك أو عدد الرؤوس فإذا قلنا : يشاركه فعفا له عن الأول صار له ثلث العقار في أحد الوجهين وفي الآخر ثلاثة أثمانه وباقيه لشريكه وإن لم يعف عن الأول فله نصف سدسه في أحد الوجهين وفي الآخر ثمنه والباقي لشريكه وإن باعه الشريك الشقص في ثلاث صفقات متساوية فحكمه حكم ما لو باعه لثلاثة أنفس على ما شرحناه ويستحق ما يستحقون وللشفيع ههنا مثل ماله مع الثلاثة والله أعلم

وإذا كانت دار بين ثلاثة فوكل أحدهم شريكه في بيع نصيبه
فصل : وإذا كانت دار بين ثلاثة فوكل أحدهم شريكه في بيع نصيبه فباعهما لرجل واحد فلشريكهما الشفعة فيهما وهل له أخذ أحد النصيبين دون الآخر ؟ فيه وجهان أحدهما : له ذلك لأن المالك إثنان فهما بيعان فكان له أخذ نصيب أحدهما كما لو توليا العقد والثاني : ليس له ذلك لأن الصفقة واحدة وفي أخذ أحدهما تبعيض الصفقة على المشتري فلم يجز كما لو كانا لرجل واحد وإن وكل رجل رجلا في شراء نصف نصيب أحد الشركاء فاشترى الشقص كله لنفسه ولموكله فلشريكه أخذ نصيب أحدهما لأنهما مشتريان فأشبه ما لو وليا العقد والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها إن أخذ أحد النصيبين لا يفضي إلى تبعيض صفقة المشتري ولأنه قد يرضى شركة أحد المشترين دون الآخر بخلاف التي قبلها فإن المشتري واحد

مسألة : قال وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع
مسألة : قال : وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع
قال : يعني أن الشفيع إذا أخذ الشقص فظهر مستحقا فرجوعه بالثمن على المشتري ويرجع المشتري على البائع وإن وجده معيبا فله رده على المشتري أو أخذ أرشه منه والمشتري يرد على البائع أو يأخذ الأرش منه سواء قبض الشقص من المشتري أو من البائع وبهذا قال الشافعي وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي : عهدة الشفيع على البائع لأن الحق ثبت له بإيجاب البائع فكان رجوعه عليه كالمشتري وقال أبو حنيفة : إن أخذه من المشتري فالعهدة عليه وإن أخذه من البائع فالعهدة عليه لأن الشفيع إذا أخذه من البائع تعذر قبض المشتري فينفسخ البيع بين البائع والمشتري فكان الشفيع آخذا من البائع مالكا من جهته فكانت عهدته عليه
ولنا أن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري ثم يزول الملك من المشتري إلى الشفيع بالثمن فكانت العهدة عليه كما لو أخذه منه ببيع ولأنه ملكه من جهة المشتري بالثمن فملك رده عليه بالعيب كالمشتري في البيع الأول وقياسه على المشتري في جعل عهدته على البائع لا يصح لأن المشتري ملكه من البائع بخلاف الشفيع وأما إذا أخذه من البائع فالبائع نائب عن المشتري في التسليم المستحق عليه ولو انفسخ العقد بين المشتري والبائع بطلت الشفعة لأنها استحقت به

فصل : وحكم الشفيع في الرد بالعيب حكم المشتري من المشتري
فصل : وحكم الشفيع في الرد بالعيب حكم المشتري من المشتري وإن علم المشتري بالعيب ولم يعلم الشفيع فللشفيع رده على المشتري أو أخذ أرشه منه وليس للمشتري شيء ويحتمل أن لا يملك الشفيع أخذ الأرش لأن الشفيع يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد فإذا أخذ الأرش فما أخذه بالثمن عالما بعيبه فلم يثبت له رد ولا أرش كالمشتري إذا علم العيب والمشتري قد اشتغنى عن الرد لزوال ملكه عن المبيع وحصول الثمن له من الشفيع ولم يملك الأرش لأنه استدرك ظلامته ورجع إليه جميع ثمنه فأشبه ما لو رده على البائع ويحتمل أن يملك أخذ الأرش لأنه عوض عن الجزء الفائت من المبيع فلم يسقط بزوال ملكه عن املبيع كما لو اشترى قفيزين فتلف أحدهما وأخذ الآخر فعلى هذا ما يأخذه من الأرش يسقط عن الشفيع من الثمن بقدره لأن الشقص يجب عليه بالثمن الذي استقر عليه العقد فأشبه ما لو أخذ الأرش قبل أخذ الشفيع منه وإن علما جميعا فليس لواحد منهما رد ولا أرش لأن كل واحد منهما دخل على بصيرة ورضي ببذل الثمن فيه بهذه الصفة وإن لم يعلما فللشفيع رده على المشتري وللمشتري رده على البائع فإن لم يرده الشفيع فلا يرده المشتري لما ذكرنا أولا وإن أخذ الشفيع أرشه من المشتري فللمشتري أخذه من البائع وإن لم يأخذ منه شيئا فلا شيء للمشتري ويحتمل أن يملك أخذه على الوجه الذي ذكرناه فإذا أخذه فإن كان الشفيع لم يسقطه عن المشتري سقط عنه من الثمن بقدره لأنه الثمن الذي استقر عليه البيع وسكوته لا يسقط حقه وإن أسقطه عن المشتري توفر عليه كما لو زاده على الثمن باختياره فأما إن اشتراه بالبراءة من كل عيب فالصحيح من المذهب أن لا يبرأ فيكون كأنه لم يبرأ إليه من شيء وفيه رواية أخرى أنه يبرأ إلا أن يكون البائع علم بالعيب فدلسه واشترط البراءة فعلى هذه الرواية إن علم الشفيع باشتراط البراءة فحكمه حكم المشتري لأنه دخل على شراءه فصار كمشتر كان اشترط البراءة وإن لم يعلم ذلك فحكمه حكم ما لو علمه المشتري دون الشفيع

مسألة : قال : والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها
مسألة : قال : والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها
وجملة ذلك أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بها لم يخل من احالين أحدهما : أن يموت قبل الطلب بها فتسقط ولا تنتقل إلى الورثة قال أحمد : الموت يبطل به ثلاثة أشياء : الشفعة والحد إذا مات المقذوف والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار لم يكن للورثة هذه الثلاثة الأشياء إنما هي بالطلب فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد إني على حقي من كذا وكذا وأني قد طلبته فإن مات بعده كان لوارثه الطلب به وروي سقوطه بالموت عن الحسن و ابن سيرين و الشعبي و النخبي وبه قال الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي وقال مالك و الشافعي و العنبري : يورث قال أبو الخطاب : ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب
ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول فأما خيار الرد بالعيب فإنه لاستدراك جزء فات من المبيع الحال الثاني : إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة قولا واحدا ذكره أبو الخطاب وقد ذكرنا نص أحمد عليه لأن الحق يتقرر بالطلب ولذلك لا يسقط بتأخير الأخذ بعده وقبله يسقط وقال القاضي : يصير الشقص ملكا للشفيع بنفس المطالبة وقد ذكرنا أن الصحيح غير هذا فإنه لو صار ملكا للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على حسب مواريثهم لأنه حق مالي موروث فينتقل إلى جميعهم كسائر الحقوق المالية وسواء قلنا الشفعة على قدر الأملاك أو على عدد الرؤوس لأن هذا ينتقل إليهم من موروثهم فإن ترك بعض الورثة حقه توفر الحق على سائر الورثة ولم يكن لهم أن يأخذوا إلا الكل أو يتركوا كالشفعاء إذا عفا بعضهم عن شفعته لأنا لو جوزنا أخذ بعض الشقص المبيع تبعضت الصفقة على المشتري وهذا ضرر في حقه

فصل : وإن أشهد الشفيع على مطالبته بها العذر ثم مات لم تبطل
فصل : وإن أشهد الشفيع على مطالبته بها للعذر ثم مات لم تبطل وكان للورثة الملطالبة بها نص عليه أحمد لأن الإشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه فلم تسقط الشفعة بالموت بعد كنفس الطلب

فصل : وإذا بيع شقص له شفيعان
فصل : وإذا بيع شقص له شفيعان فعفا أحدهما عنها وطالب الآخر بها ثم مات المطالب فورثه العافي فله أخذ الشقص بها لأنه وارث لشفيع مطالب بالشفعة فملك الأخذ بها كالأجنبي وكذلك لو قذف رجل أمهما وهي ميتة فعفا أحدهما فطالب الآخر ثم مات الطالب فورثه العافي ثبت له استيفاؤه بالنيابة عن أخيه الميت إذا قلنا بوجوب الحد بقذفها

فصل : ولو مات مفلس وله شقص فباع شريكه
فصل : ولو مات مفلس وله شقص فباع شريكه كان لورثته الشفعة وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : لا شفعة لهم لأن الحق انتقل إلى الغرماء
ولنا أنه بيع في شركة ما خلفه موروثهم شقص فكان لهم المطالبة بشفعته كغير المفلس ولا نسلم أن التركة انتقلت إلى الغرماء بل هي للورثة بدليل أنها لو نمت أو زاد ثمنها لحسب على الغرماء في قضاء ديونهم وإنما تعلق حقهم به فلم يمنع ذلك من الشفعة كما لو كان لرجل شقص مرهون فباع شريكه فإنه يستحق الشفعة به ولو كان للميت دار فبيع بعضهم في قضاء دينه لم يكن للورثة شفعة لأن البيع يقع لهم فلا يستحقون الشفعة على أنفسهم ولو كان الوارث شريكا للموروث فبيع نصيب الموروث في دينه فلا شفعة أيضا لأن نصيب الموروث انتقل بموته إلى الوارث فإذا بيع فقد بيع ملكه فلا يستحق الشفعة على نفسه

فصل : ولو اشترى رجل شقص مشفوعا ووصى به ثم مات
فصل : ولو اشترى شقصا مشفوعا ووصى به ثم مات فللشفيع أخذه بالشفعة لأن حقه أسبق من حق الموصى له فإذا أخذه دفع الثمن إلى الورثة وبطلبت الوصية لأن الموصي به ذهب فبطلت الوصية له كما لو تلف ولا يستحق الموصى له بدل لأنه لم يوص إلا بالشقص وقد فات بأخذه
ولو وصى رجل لإنسان بشقص ثم مات فبيع في تركته شقص قبل قبول الموصى له فالشفعة للورثة في الصحيح لأن الموصى به لا يصير للوصي إلا بعد القبول ولم يوجد فيكون باقيا على ملك الورثة ويحتمل أن يكون للوصي إذا قلنا : أن الملك ينتقل إليه بمجرد الموت فإذا قبل الوصية استحق المطالبة لأننا تبينا أن الملك وإنما يتبين ذلك بقبوله فإن قبل تبينا أنه كان له وإن رد تبينا أنه كان للورثة ولا تستحق الورثة المطالبة أيضا لذلك ويحتمل أن لهم المطالبة لأن الأصل عدم القبول وبقاء الحق لهم ويفارق الموصى له من وجهين أحدهما : أن الأصل عدم القبول منه والثاني : أنه يمكنه أن يقبل ثم يطالب بخلاف الوارث فإنه لا سبيل له إلى فعل ما يعلم به ثبوت الملك له أو لغيره فإذا طالبوا ثم قبل الوصي الوصية كانت الشفعة له ويفتقر إلى الطلب الأول يتبين أنه من غير المستحق وإن قلنا بالرواية الأولى فطالب الورثة بالشفعة فلهم الأخذ بها وإذا قبل الوصي أخذ الشقص الموصى به دون الشقص المشفوع لأن الشقص الموصى به إنما انتقل إليه بعد الأخذ بشفعته فأشبه ما لو أخذ بها الموصي في حياته وإن لم يطالبوا بالشفعة حتى قبل الموصي به فلا شفعة للموصى له لأن البيع وقع قبل ثبوت الملك به وحصول شركته وفي ثبوتها للورثة وجهان بناء على ما لو باع الشفيع نصيبه قبل علمه ببيع شريكه

فصل : ولو اشترى رجل شقص ثم أرتد فقتل أو مات
فصل : ولو اشترى رجل شقصا ثم ارتد فقتل أو مات فللشفيع أخذه بالشفعة لأنها وجبت بالشراء وانتقاله إلى المسلمين بقتله أو موته لا يمنع الشفعة كما لو مات على الإسلام فورثه ورثته أو صار ماله لبيت المال لعدم ورثته والمطالب بالشفعة وكيل بيت المال

فصل : وإذا اشترى المرتد شقصا فتصرفه موقوف
فصل : وإذا اشترى المرتد شقصا فتصرفه موقوف فإن قتل على ردته أو مات عليها تبينا أن شراءه باطل ولا شفعة فيه وإن أسلم تبينا صحته وثبوت الشفعة فيه وقال أبو بكر : تصرفه غير صحيح في الحالين لأن ملكه يزول بردته فإذا أسلم عاد إليه تمليكا مستأنفا
وقال الشافعي و أبو يوسف : تصرفه صحيح في الحالين وتجب الشفعة فيه ومبنى الشفعة ههنا على صحة تصرف المرتد ويذكر في غير هذا الموضع وإن بيع شقص في شركة المرتد وكان المشتري كافرا فأخذ بالشفعة انبنى على ذلك أيضا لأن أخذه بالشفعة شراء للشقص من المشتري فأشبه شراءه لغيره وإن ارتد الشفيع المسلم وقتل بالردة أو مات عليها انتقل ماله إلى المسلمين فإن كان طالب بالشفعة انتقلت أيضا إلى المسلمين ينظر فيها الإمام أو نائبه وإن قتل أو مات قبل طلبها بطلت شفعته كما لو مات على إسلامه ولو مات الشفيع المسلم ولم يخلف وارثا سوى بيت المال انتقل نصيبه إلى المسلمين إن مات بعد الطلب وإلا فلا

مسألة : قال وإن أذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة
مسألة : قال : وإن أذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك
وجملة ذلك أن الشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع فقال قد أذنت في البيع أو أسقطت شفعتي أو ما أشبه ذلك لم تسقط وله المطالبة بها متى وجد البيع هذا ظاهر المذهب وهو مذهب مالك و الشافعي و البتي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد ما يدل على أن الشفعة تسقط بذلك فإن إسماعيل بن سعيد قال : قلت ل أحمد ما معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من كان بينه وبين أخيه ربعة فأراد بيعها فليعرضها عليه ] وقد جاء بعض الحديث [ ولا يحل له إلا أن يعرضها عليه ] إذا كانت الشفعة ثابتة له ؟ فقال : ما هو ببعيد من أن يكون على ذلك وأن لا تكون له الشفعة وهذا قول الحكم و الثوري و أبي عبيد و أبي خيثمة وطائفة من أهل الحديث
قال ابن المنذر : وقد اختلف فيه عن أحمد فقال مرة تبطل شفعته وقال مرة لا تبطل واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من كان له شركة في أرض ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ] ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ومن شاء ترك ] فلا يكون لتركه معنى ومفهوم قوله فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به أنه إذا باعه بإذنه لا حق له ولأن الشفعة ثبتت في موضع الإتفاق على خلاف الأصل لكونه يأخذ ملك المشتري من غير رضائه ويجبره على المعاوضة به لدخوله مع البائع في العقد الذي أساء فيه بإدخاله الضرر على شريكه وتركه الإحسان إليه في عرضه عليه وهذا المعنى معدوم ههنا فإنه قد عرضه عليه وامتناعه من أخذه دليل على عدم الضرر في حقه ببيعه وإن كان فيه ضرر فهو أدخله على نفسه فلا يستحق الشفعة كما لو أخر المطالبة بعد البيع
ووجه الأول أنه إسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له أو أسقطت المرأة صداقها قبل التزويج وأما الخبر فيحتمل أنه أراد العرض عليه ليبتاع ذلك أن أراد فتخف عليه المؤنة ويكتفي أخذ المشتري الشقص لا إسقاط حقه من شفعته

فصل : إذا توكل الشفيع في البيع لم تسقط شفعته
فصل : إذا توكل الشفيع في البيع لم تسقط شفعته بذلك سواء كان وكيل البائع أو المشتري ذكره الشريف وأبو الخطاب وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال القاضي وبعض الشافعية : إن كان وكيل البائع فلا شفعة له لأنه تلحقه التهمة في البيع لكونه يقصد تقليل الثمن ليأخذ به بخلاف وكيل المشتري وقال أصحاب الرأي : لا شفعة لوكيل المشتري بناء على أصلهم أن الملك ينتقل إلى الوكيل فلا يستحق على نفسه
ولنا أنه وكيل فلا تسقط شفعته كالآخر ولا نسلم أن الملك ينتقل إلى الوكيل إنما ينتقل إلى الموكل ثم لو انتقل إلى الوكيل لما ثبتت في ملكه إنما ينتقل في الحال إلى الموكل فلا يكون الأخذ من نفسه ولا الإستحقاق عليها وأما التهمة فلا تؤثر لأن الموكل وكله مع علمه بثبوت شفعته راضيا بتصرفه مع ذلك فلا يؤثر كما لو أذن لوكيل في الشراء من نفسه فعلى هذا لو قال لشريكه بع نصف نصيبي مع نصف نصيبك ففعل ثبتت الشفعة لكل واحد منهما في المبيع من نصيب صاحبه وعند القاضي تثبت في نصيب الوكيل دون نصيب الموكل

فصل : وإن ضمن الشفيع العهدة للمشتري أو شرط له الخيار
فصل : وإن ضمن الشفيع العهدة للمشتري أو شرط له الخيار فاختار إمضاء العقد لم تسقط شفعته وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : تسقط لأن العقد تم به فأشبه البائع إذا باع بعض نصيب نفسه ولنا أن هذا سبب سبق وجوب الشفعة فلم تسقط به الشفعة كالإذن في البيع والعفو عن الشفعة قبل تمام البيع وما ذكروه لا يصح فإن البيع لا يقف على الضمان ويبطل بما إذا كان المشتري شريكا فإن البيع قد تم به وتثبت له الشفعة بقدر نصيبه

فصل : وإذا كانت دار بين ثلاثة فقارض واحد منهم
فصل : وإذا كانت دار بين ثلاثة فقارض واحد منهم أحد شريكيه بألف فاشترى به نصف نصيب الثالث لم تثبت فيه شفعة في أحد الوجهين لأن أحد الشريكين رب المال والآخر العامل فهما كالشريكين في المتاع فلا يستحق أحدهما على الآخر شفعة وإن باع الثالث باقي نصيبه لأجنبي كانت الشفعة مستحقة بينهم أخماسا لرب المال خمساها وللعامل خمساها ولمال المضاربة خمسها بالسدس الذي له فيجعل مال المضاربة كشريك آخر لأن حكمه متميز عن مال كل واحد منهما

فصل : فإن كانت الدار بين ثلاثة أثلاثا
فصل : فإن كانت الدار بين ثلاثة أثلاثا فاشترى أجنبي نصيب أحدهم فطالبه أحد الشريكين بالشفعة فقال إنما اشتريته لشريكك لم تؤثر هذه الدعوى في قدر ما يستحق من الشفعة بين الشريكين نصفين سواء اشتراها الأجنبي لنفسه أو للشريك الآخر وإن ترك المطالب بالشفعة حقه منها بناء على هذا القول ثم تبين كذبه لم تسقط شفعته وإن أخذ نصف المبيع لذلك ثم تبين كذب المشتري وعفا الشريك وعن شفعته فله أخذ نصيبه من الشفعة لأن اقتصاره على أخذ النصف بني على خبر المشتري فلم يؤثر في إسقاط الشفعة واستحق أخذ الباقي لعفو شريكه عنه وإن امتنع من أخذ الباقي سقطت كلها لأنه لا يملك تبعيض صفقة المشتري ويحتمل أن لا يسقط حقه من النصف الذي أخذه ولا يبطل أخذه له لأن المشتري أقر بما تضمن استحقاقه لذلك فلا يبطل برجوعه عن إقاراه وإن أنكر الشريك كون الشراء له وعفا عن شفعته وأصر المشتري على الإقرار للشريك به فللشفيع أخذ الكل لأنه لا منازع له في استحقاقه وله الإقتصار على النصف لإقرار المشتري له باستحقاق ذلك

فصل : وإن قال الشفيعين للمشتري شراؤك باطل
فصل : وإن قال الشفيعين للمشتري شراؤك باطل وقال الآخر هو صحيح فالشفعة كلها للمعترف بالصحة وكذلك إن قال ما اشتريته إنما اتبهبته وصدقه الآخر أنه اشتراه فالشفعة للمصدق بالشراء لأن شريكه مسقط لحقه باعترافه أنه لا بيع صحيح ولو احتال المشتري على اسقاط الشفعة بحيلة لا تسقطها فقال أحد الشفيعين قد سقطت الشفعة توفرت على الآخر لاعتراف صاحبه بسقوطها ولو توكل أحد الشفيعين في البيع أو الشراء أو ضمن عهدة المبيع أو عفا عن الشفعة قبل البيع وقال لا شفعة لي لذلك توفرت على الآخر وإن اعتقد أن له شفعة وطالب بها فارتفع إلى حاكم فحكم بأنه لا شفعة له توفرت على الآخر لأنها سقطت بحكم الحاكم فأشبه ما لو سقطت بإسقاط المستحق

فصل : إذا ادعى على آخر ثلث داره فأنكر ثم صالحه
فصل : إذا ادعى على آخر ثلث داره فأنكر ثم صالحه عن دعواه بثلث دار أخرى صح ووجبت الشفعة في الثلث المصالح به لأن المدعي يزعم أنه محق في دعواه وأن ما أخذه عوض عن الثلث الذي ادعاه حكم دعواه ووجبت الشفعة ولا شفعة على المنكر في الثلث المصالح عنه لأنه يزعم انه على ملكه لم يزل وإنما دفع ثلث داره إلى المدعي اكتفاء لشره ودفعا لضرر الخصومة واليمين عن نفسه فلم تلزمه فيه شفعة وإن قال المنكر للمدعي خذ الثلث الذي تدعيه بثلث دارك ففعل فلا شفعة على المدعي فيما أخذه وعلى المنكر الشفعة في الثلث الذي أخذه لأنه يزعم أنه أخذه عوضا عن ملكه الثابت له وقال اصحاب الشافعي : تجب الشفعة في الثلث الذي أخذه المدعي أيضا لأنها معاوضة من الجانبين بشقصين فوجبت الشفعة فيهما كما لو كانت بين مقرين
ولنا أن المدعي يزعم أن ما أخذه كان ملكا له قبل الصلح ولم يتجدد له عليه ملك وإنما استنقذه بصلحه فلم تجب فيه شفعة كما لو أقر له به

فصل : إذا كانت دار بين ثلاثة اثلاثا فاشترى أحدهم نصيب أحد شريكين
فصل : إذا كانت دار بين ثلاثة أثلاثا فاشترى أحدهم نصيب أحد شريكيه ثم باعه لأجنبي ثم علم شريكه فله أن يأخذ بالعقدين وله الأخذ بأحدهما لأنه شريك فيهما فإن أخذ بالعقد الثاني أخذ جمع ما في يد مشتريه لأنه لا شريك له في شفعته وإن أخذ بالعقد الأول ولم يأخذ بالثاني أخذ نصف المبيع وهو السدس لأن المشتري شريكه في شفعته ويأخذ نصفه من المشتري الأول ونصفه من المشتري الثاني لأن شريكه لما اشترى الثلث كان بينهما نصفين لكل واحد منهما السدس فإذا باع الثلث من جميع ما في يده وفي يده ثلثان فقد باع نصف ما في يده والشفيع يستحق ربع ما في يده وهو السدس فصار منقسماص في يديهما نصفين فيأخذ من كل واحد منهما نصفه السدس ويدفع ثمنه إلى الأول ويرجع المشتري الثاني على الأول بربع الثمن الذي اشترى به وتكون المسألة من اثني عشر ثم ترجع إلى أربعة للشفيع نصف الدار ولكل واحد من الآخرين الربع وإن أخذ بالعقدين أخذ جميع ما في يد الثاني وربع ما في يد الأول فصار له ثلاثة أرباع الدار ولششريكه الربع ويدفع إلى الأول نصف الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثلاثة أرباع الثاني ويرجع الثاني على الأول بربع الثمن الثاني لأن يأخذ نصف ما اشتراه الأول وهو السدس فيدفع إليه نصف الثمن لذلك وقد صار نصف هذا النصف في يد الثاني وهو ربع ما في يده فيأخذه منه ويرجع الثاني على الأول بثمنه وبقي المأخوذ من الثاني ثلاثة أرباع ما اشتراه فأخذها منه ودفع إليه ثلاثة أرباع الثمن وإن كان المشتري الثاني هو البائع الأول لحكم على ما ذكرنا لا يختلف وإن كانت الدار بين الثلاثة أرباعا لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها بينهما فاشترى صاحب النصف من أحد شريكيه ربعه ثم باع ربعا مما في يده لأجنبي ثم علم شريكه فأخذ بالبيع الثاني أخذ جميعه ودفع إلى المشتري ثمنه وإن أخذ بالبيع الأول وحده أخذ ثلث المبيع وهو نصف سدس لأن المبيع كله ربع فثلثه نصف سدس يأخذ ثلثه من المشتري الأول وثلثه من الثاني ومخرج ذلك من ستة وثلاثين النصف ثمانية عشر ولكل واحد منهما تسعة فلما اشترى صاحب النصف تسعة كانت شفعتها بينه وبين شريكه الذي لم يبع أثلاثا لشريكه ثلثها ثلاثة فلما باع صاحب النصف ثلث ما في يده حصل في المبيع من الثلاثة ثلثها وهو سهم بقي في يد البائع منها سهمان فترد الثلاثة إلى الشريك ويصير في يده اثنا عشر وهي الثلث ويبقى في يد المشتري الثاني ثمانية وهي تسعان وفي يد صاحب النصف ستة عشر وهي أربعة أتساع ويدفع الشريك الثمن إلى المشتري الأول ويرجع المشتري الثاني عليه بتسع الثمن الذي اشترى به لأنه قد أخذ منه تسع مبيعه وإن أخذ باعقدين أخذ من الثاني جميع ما في يده وأخذ من الأول نصف التسع وهو سهمان من ستة وثلاثين فيصير في يده عشرون سهما وهي خمسة أتساع ويبقى في يد الأول ستة عشر سهما وهي أربعة أتساع ويدفع إليه ثلث الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثمانية أتساع الثمن ويرجع الثاني على الأول بتسع الثمن الثاني

فصل : إذا كانت دار بين ثلاثة لزيد نصفها ولعمرو ثلثها
فصل : إذا كانت دار بين ثلاثة لزيد نصفها ولعمرو ثلثها ولبكر سدسها فاشترى بكر من زيد ثلث الدار ثم باع عمرا سدسها ولم يعلم عمرو بشراء الثلث ثم علم فله المطالبه بحقه من شفعة الثلث وهو ثلثاه وذلك تسعا الدار فيأخذ من بكر ثلثي ذلك وقد حصل ثلثه الباقي في يد بشرائه للسدس فيفسخ بيعه فيه ويأخذه بشفعة البيع الأول ويبقي من مبيعه خمسة أتساعه لزيد ثلث شفعته فيقسم بينهما أثلاثا وتصح المسألة من مائة واثنين وستين سهما الثلث المبيع أربعة وخمسون سهما لعمرو وثلثاها بشفعته ستة وثلاثون سهما يأخذ ثلثيها من بكر وهي أربعة وعشرون سهما وثلثها في يده أثنا عشر سهما والسدس الذي اشتراه سبعةةوعشرون سهما قد أخذ منها اثني عشر بالشفعة بقي منها خمسة عشر له ثلثاها عشرة ويأخذ منها زيد خمسة فحصل لزيد اثنان وثلاثون سهما ولبكر ثلاثون سهما ولعمرو مائة سهم وذلك نصف الدار وتسعها ونصف تسع تسعها ويدفع إلى بكر ثلثي الثمن في البيع الأول وعليه وعلى زيد خمسة أتساع الثمن الباقي بينهما أثلاثا وإن عفا عمرو عن شفعة الثلث فشفعة السدس الذي اشتراه بينه وبين زيد أثلاثا ويحصل لعمرو أربعة أتساع الدار لزيد تسعاها ولبكر ثلثها وتصح من تسعة وإن باع بكر السدس لأجنبي فهو كبيعه إياه لعمرو إلا أن لعمرو العفو عن شفعته في السدس بخلاف ما إذا كان هو المشتري فإن لا يصح عفوه عن نصيبه منها وإن باع بكر الثلث لأجنبي فلعمرو ثلثا شفعة المبيع الأول وهو التسعان يأخذ ثلثهما من بكر وثلثهما من المشتري الثاني وذلك تسع وثلث تسع يبقي في دي الثاني سدس وسدس تسع وهو عشرة من أربعة وخمسين بين عمرو وزيد أثلاثا وتصح أيضا من مائة واثنين وستين ويدفع عمرو إلى بكر ثلثي ثمن مبيعه ويدفع هو وزيد إلى المشتري الثاني ثمن خمسة أسباع مبيعه بينهما أثلاثا ويرجع المشتري الثاني على بكر بثمن أربعة أتساع مبيعه وإن يعلم عمرو حتى باع مما في يده سدسا لم تبطل شفعته في أحد الوجوه وله أن يأخذ بها كما لو لم يبع شيئا الثاني : تبطل شفعته كلها والثالث : تبطل في قدر ما باع وتبقى فيما لم يبع وقد ذكرنا توجيه هذه الوجوه فأما شفعة ما باعه ففيها ثلاثة أوجه أحدها : أنها بين المشتري الثاني وزيد وبكر أرباعا للمشتري نصفها ولكل واحد منهما ربعها على أملاكهم حين بيعه والثاني : أنها بين زيد وبكر على أربعة عشر سهماص لزيد تسعة ولبكر خمسة لأن لزيد السدس ولبكر سدس يستحق منه أربعة أتساعه بالشفعة فيبقى معه خمسة أتساع السدس ملكه مستقر عليها فأضفناه إلى سدس زيد وقسمنا الشفعة على ذلك ولم نعط المشتري الثاني ولا بكرا بالسهام المستحقة بالشفعة شيئا لأن الملك عليها غير مستقر والثالث : إن عفا لهم عن الشفعة استحقوا بها وإن أخذت بالشفعة لم يستحقوا بها شيئا ولإن عفا عن بعضهم دون بعض استحق المعفو عنه بسهامه دون المعفو عنه وما بطلت الشفعة فيه ببيع عمرو فهو بمنزلة المعفو عنه فيخرج في قدره وجهان ولو استقصينا فروع هذه المسألة على سبيل البسط لطال وخرج إلى الإملال

فصل : وإذا كانت دار بين أربعة أرباعا فاشترى اثنان منهم نصيب أحدهم
فصل : وإذا كانت دار بين أربعة أرباعا فاشترى اثنان منهم نصيب أحدهم استحق الرابع الشفعة عليهما واستحق كل واحد من المشترين الشفعة على صاحبه فإن طالب كل واحد منهم بشفعته قسم المبيع بينهم أثلاثا وصارت الدار بينهم كذلك وإن عفا الرابع وحده قسم المبيع بين المشترين نصفين وكذلك إن عفا الجميع عن شفعتهم فيصير لهما ثلاثة أرباع الدار وللرابع بحاله وإن طالب الرابع وحده أخذ منهما نصف المبيع لأن كل واحد منهما له من الملك مثل ما للمطالب فشفعة مبيعه بينه وبين شفيعه نصفين فيحصل للرابع ثلاثة أثمان الدار وباقيها بينهما نصفين وتصح من ستة عشر وإن طالب الرابع وحده أحدهما دون الآخر قاسمه الثمن نصفين فيحصل للعفو عنه ثلاثة أثمان والباقي بين الرابع والآخر نصفين وتصح من ستة عشر وإن عفا أحد المشتريين ولم يعف الآخر ولا الرابع قسم مبيع المعفو عنه بينه وبين الرابع نصفين ومبيع الآخر بينهم أثلاثا فيحصل للذي لم يعفو عنه ربع وثلث ثمن وذلك سدس وثمن والباقي بين الآخرين نصفين وتصح من ثمانية وأربعين وإن عفا الرابع عن أحدهما ولم يعف أحدهما عن صاحبه أخذ ممن لم يعفو عنه ثلث الثمن والباقي بينهما نصفين ويكون الرابع كالعافي في التي قبلها ويصح أيضا من ثمانية وأربعين وإن عفا الرابع واحدهما عن الآخر ولم يعف الآخر فلغير العافي ربع وسدس والباقي بين العافيين نصفين لكل واحد منهما سدس ثمن وتصح من أربعة وعشرين وما يفرع من المسأئل فهو مساق ما ذكرنا

مسألة : قال : ولا شفعة لكافر على مسلم
مسألة : قال : ولا شفعة لكافر على مسلم
وجملة ذلك أن الذمي إذا باع شريكه شقصا لمسلم فلا شفعة له عليه روي ذلك عن الحسن والشعبي وروى عن شريح وعمر بن عبد العزيز أن له الشفعة وبه قال النخعي و أياس بن معاوية و حماد بن أبي سليمان و الثوري و مالك و الشافعي و العنبري و أصحاب الرأي لعموم قوله عليه السلام : [ لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه وإن باعه ولم يؤذن فهو أحق به ] ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى في المسلم والكافر كالرد بالعيب
ولنا ما روى الدار في كتاب العلل بإسناده عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا شفعة لنصراني ] وهذا يخص عموم ما احتجوا به ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص فلم يجب للذمي على المسلم كالزكاة ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الاستعلاء في البنيان يحققه أن الشفعة إنما ثبتت للمسلم دفعا للضرر عن ملكه فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم دفع ضرر الذمي فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي لعموم الأدلة الموجبة لأنها إذا ثبتت في حق المسلم مع عظم حرمته ورعاية حقه فلأن تثبت على الذمي مع دناءته أولى وأخرى

فصل : وتثبت للذمي على الذمي له
فصل : وتثبت للذمي على الذمي لعموم الأخبار ولأنهما تساويا في الدين والحرمة فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلم على المسلم ولا نعلم في هذا خلافا وإن تبايعوا بخمر أو خنزير وأخذ الشفيع بذلك لم ينقص ما فعلوه وإن كان التقابض جرى بين المتبايعين دون الشفيع وترافعوا إلينا لم نحكم له بالشفعة وبهذا قال الشافعي وقال أبو الخطاب أن تبايعوا بخمر وقلنا هي مال حكمنا لهم بالشفعة وقال أبو حنيفة تثبت الشفعة إذا كان الثمن خمرا لأنها مال لهم فأشبه ما لو تبايعوا بدراهم لكن إن كان الشفيع ذميا أخذه بمثله وإن كان مسلما أخذه بقيمة الخمر
ولنا أنه عند بيع بخمر فلم تثبت فيه الشفعة كما لو كان بين مسلمين ولأنه عقد بثمن محرم أشبه البيع بالخنزير والميتة ولا نسلم أن الخمر مال لهم فغن الله تعالى حرمه كما حرم الخنزير واعتقادهم حله لا يجعله مالا كالخنزير وإنما لم ينقص عقدهم إذا تقابضوا لأننا لا نتعرض لما فعلوه مما يعتقدونه في دينهم ما لم يتحاكموا إلينا قبل تمامه ولو تحاكموا إلينا قبل التقابض لفسخناه

فصل : فأما أهل البدع فمن حكم باسلامه فله الشفعة
فصل : فأما أهل البدع فمن حكم بإسلامه فله الشفعة لأنه مسلم فتثبت له الشفعة كالفاسق بالأفعال ولأن عموم الأدلة يقتضي ثبوتها لكل شرك فيدخل فيها
وقد روي حرب أن أحمد سئل عن أصحاب البدع هلى لهم شفعة ؟ ويروي عن ادريس أنه قال : ليس للرافضة شفعة فضحك وقال : أراد أن يخرجهم من الإسلام فظاهر هذا إنه أثبت لهم الشفعة وهذا محمول على غير الغلاة منهم وأما من غلا كالمعتقد أن جبريل غلط في الرسالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم وإنما أرسل إلى علي ونحوه ومن حكم بكفره من الدعاة إلى القول بخلق القرآن فلا شفعة له لأن الشفعة إذا لم تثبت للذمي الذي يقر على كفره فغيره أولى

فصل : وتثبت الشفعة للبدوي على القروي
فصل : وتثبت الشفعة للبدوي على القروي وللقروي على البدوي في قول أكثر أهل العلم وقال الشعبي و البتي : لا شفعة لمن لم يسكن المصر
ولنا عموم الأدلة واشتراكهما في المعنى المقتضي لوجوب الشفعة

فصل : لا شفعة في أرض السواد
فصل : قال أحمد في رواية حنبل : لا نرى في أرض السواد شفعة وذلك لأن أرض السواد موقوفة وقفها عمر رضي الله عنه على المسلمين ولا يصح بيعها والشفعة إنما تكون في البيع وكذلك الحكم في سائر الأرض التي وقفها عمر رضي الله عنه وهي التي فتحت عنوة في زمنه ولم يقسمها كأرض الشام وأرض مصر وكذلك كل أرض فتحت عنوة ولم تقسم بين الغانمين إلا أن يحكم ببيع ذلك حاكم أو يفعله الإمام أو نائبه فإن فعل ذلك ثبتت فيه الشفعة لأنه فصل مختلف فيه ومتى حكم الحاكم في المختلف فيه بشيء نفذ حكمه والله أعلم

كتاب المساقات
فصل : المساقاة أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره وإنما سميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي لأنهم يستقون من الآبار فسميت بذلك والأصل في جوازها السنة والإجماع أما السنة فما روى عبد الله بن عمر ( رض ) قال : [ عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ] حديث صحيح متفق عليه وأما الإجماع فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه : [ عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ] حديث صحيح متفق عليه وأما الإجماع فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه : عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم واشتهر ذلك فلم ينكره منكر فكان إجماعا فإن قيل : لا نسلم أنه لم ينكره منكر فإن عبد الله بن عمر راوي حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال : كنا نخابر أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن المخابرة وهذا يمنع تنعقاد الإجماع ويدل على نسخ حديث إبن عمر لرجوعه عن العمل به إلى حديث رافع قلنا : لا يجوز حمل حديث رافع على ما يخالف الإجماع ولا حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء بعده ثم من بهدهم فكيف يتصور نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن شيء ثم يخالفه ؟ أم كيف يعمل بذلك في عصر الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهي عن النبي صلى الله عليه و سلم وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبرهم فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والإجماع وعلى أنه قد روي في تفسير خبر رافع عنه ما يدل على صحة قولنا فروى البخاري بإسناده قال : كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فتهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ وروى تفسيره أيضا بشيء غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جدا قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن حديث رافع بن خديج نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المزارعة فقال رافع : روي عنه في هذا ضروب كأنه يريد أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه وقال طاوس : إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني النبي صلى الله عليه و سلم لم ينه عنه ولكن قال : [ لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما ] رواه البخاري و مسلم وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه وكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي صلى الله عليه و سلم حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعده بخبر لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره ؟ ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن شيء من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه وأما غير ابن عمر فقد أنكر على رافع ولم يقبل حيثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل على ذلك فغن كثيرا من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الإستئجار عليه وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتجون إلى الثمر ففي تجويز المساقاة دفع للحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئتين فجاز ذلك كالمضاربة بالأثمان

مسألة : وتجوز المساقاة في النخل والشجر
مسألة : قال أبو القاسم : فتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر
وجملة ذلك أن المساقاة جائزة في جميع الشجر المثمر هذا قول الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب و سالم و الثوري و الأوزاعي و أبو يوسف و محمد و إسحاق و أبو ثور وقال داود : لا يجوز إلا في النخيل لأن الخبر إنما ورد بها فيه وقال الشافعي : لا يجوز إلا في النخيل والكرم لأن الزكاة تجب في ثمرتها وفي سائر الشجر قولان أحدهما : لا تجوز فيه لأن الزكاة لا تجب في نمائه فأشبه ما لا ثمرة له وقال أبو حنيفة و زفر : لا تجوز بحال لأنها اجارة بثمرة لم تخلق أو أجارة بثمرة مجهولة أشبه اجارة نفسه بثمرة غير الشجر الذي يسقيه
ولنا السنة والإجماع ولا يجوز التعويل على ما خالفهما وقولهم أنها إجارة غير صحيح إنما هو عقد على العمل في المال ببعض نمائه فهو كالمضاربة وينكسر ما ذكروه بالمضاربة فإنه يعمل في المال بنمائه وهو معدوم مجهول وقد جاز بالإجماع وهذا في معناه ثم قد جوز الشارع العقد في الإجارة على المنافع المعدومة للحاجة فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة للحاجة مع أن القياس إنما يكون في الحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه أو المجمع عليه ؟ فأما في إبطال نص وخرق إجماع بقياس نص آخر فلا سبيل إليه وأما تخصيص ذلك بالنخيل أو به وبالكرم فيخالف عموم قوله : [ عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ] وهذا عام في كل ثمر ولا تكاد بلدة ذات أجار تخلو من شجر غير النخيل وقد جاء في لفظ بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخيل والشجر ولأنه شجر يثمر كل حول فأشبه النخيل والكرم ولأن الحاجة تدعوا إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر لكثرته فجازت المساقاة عليه كالنخل ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة ولا أثر له فيها وإنما العلة ما ذكرناه

فصل : فأما ما لا تمر له من الشجر كالصفصاف
فصل : فأما ما لا ثمر له من الشجر كالصفصاف والجوز ونحوهما أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والأرز فلا تجوز المساقاة عليه وبه قال مالك و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولأن المساقاة إنما تكون بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة له إلا أن يكون مما يقصد ورقه كالتوت والورد فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر لأنه نماء يتكرر كل عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له مثل حكمه

فصل : وإن ساقاه على ثمرة موجودة
فصل : وإن ساقاه على ثمرة موجودة فذكر أبو الخطاب فيها روايتين إحداهما : تجوز وهو اختيار أبي وهو قول مالك و أبي يوسف و محمد و أبي ثور و أحد قولي الشافعي لأنها إذا جازت في المعدومة مع كثرة الغرر فيها فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى وإنما تصح إذا بقي من العمل ما يستزاد به الثمرة كالتأبير والسقي وإصلاح الثمرة فإن بقي ما لا تزيد به الثمرة كالجذاذ ونحوه لم يجز بغير خلاف والثانية : لا تجوز وهو القول الثاني للشافعي لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص فإن النبي صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر أو زرع ولأن هذا يفضي إلى أن يستحق بالعقد عوضا موجودا ينتقل الملك فيه عن رب المال إلى المساقي فلم يصح كما لو بدا صلاح الثمرة ولأنه عقد على العمل في المال ببعض نمائه فلم يجز بعد ظهور النماء كالمضاربة ولأن هذا جعل العقد إجارة بمعلوم ومجهول فلم يصح كما لو استأجره على العمل بذلك
وقولهم : أنه أقل غررا قلنا : قلة الغرر ليست من المقتضى للجواز ولا كثرته الموجودة في محل النص مانعة فلا تؤثر قلته شيئا والشرع ورد به على وجه لا يستحق العامل فيه عوضاص موجودا ولا ينتقل إليه من ملك رب المال شيء وإنما يحدث النماء الموجود على ملكهما على ما شرطاه فلم تجز مخالفة هذا الموضوع ولا إثبات عقد ليس في معناه إلحاقا به كما لو بدا صلاح الثمرة كالمضاربة بعد ظهور الربح

فصل : المساقاة لا تصح إلا على جزء معلوم
فصل : فأما قول الخرقي بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر فيدل على شيئين أحدهما : أن المساقاة لا تصح إلا على جزء معلوم من الثمرة مشاع كالنصف والثلث لحديث ابن عمر عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها وسواء قل الجزء أو كثر فلو شرط للعامل جزءا من مائة جزء وجعل جزءا منها لنفسه والباقي للعامل جاز ما لم يفعل ذلك حيلة وكذلك إن عقده على أجزاء معلومة كالخمسين وثلاثة أثمان أو سدس ونصف سبع ونحو ذلك جاز وإن عقد جزء منهم كالسهم والجزء والنصيب والحظ ونحوه لم تجز لأنه إذا لم يكن معلوما لم تمكن القسمة بينهما ولو ساقاه على آصع معلومة أو جعل مع الجزء المعلوم آصعا لم تجز لأنه ربما لم يحصل ذلك أو لم يحصل غيره فيستضرب رب الشجر أو ربما كثر الحاصل فيستضر العامل وإن شرط له ثمر نخلات بعينها لم تجز لأنها قد لا تحمل فتكون الثمرة كلها لرب المال وقد لا تحمل غيرها فتكون الثمرة كلها للعامل ولهذه العلة نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المزارعة التي يجعل فيها لرب الأرض مكانا معينا وللعامل مكانا معينا
قال رافع : كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه فمتى شرط شيئا من هذه الشروط الفاسدة فسدت المساقاة والثمرة كلها لرب المال لأنها نماء ملكه وللعامل أجر مثله كالمضاربة الفاسدة الثاني : أن الشرط للعامل لأنه إنما يأخذ بالشرط فالشرط يراد لأجله ورب المال يأخذ بماله لا بالشرط فإذا قال ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة صح وكان الباقي لرب المال وإن قال على أن لي ثلث الثمرة فقال ابن حامد : يصح والباقي للعامل وقيل : لا يصح وقد ذكرنا تعليل ذلك في المضاربة وإن اختلفا في الجزء المشروط لمن هو منهما فهو للعامل لأن الشرط يراد لأجله كما ذكرنا

فصل : إذا كان في البستان شجر من أجناس
فصل : إذا كان البستان شجر من أجناس كالتين والزيتون والكرم والرمان فشرط للعامل من كل جنس قدرا كنصف ثمر التين وثلث الزيتون وربع الكرم وخمس الرمان أو كان فيه أنواع من جنس فشرط من كل نوع قدرا وهما يعلمان قدر كل نوع صح لأن ذلك كأربعة بساتين ساقاه على كل بستان بقدر مخالف للقدر المشروط من الآخر وإن لم يعلما قدره أو لم يعلم أحدهما لم يجز لأنه قد يكون أكثر ما في البستان من النوع الذي شرط فيه القليل أو أكثره مما شرط فيه الكثير ولو قال : ساقيتك على هذين البستانين بالنصف من هذا والثلث من هذا صح لأنها صفقة واحدة جمعت عوضين فصار كأنه قال بعتك داري هاتين بألف وهذه بمائة وإن قال بالنصف من أحدهما والثلث من الآخر لم يصح لأنه مجهول لا يدري أيهما الذي يستحق نصفه ولا الذي يستحق ثلثه ولو ساقاه على بستان واحد نصفه هذا بالنصف ونصفه هذا بالثلث وهما متميزان صح لأنهما كبساتين

فصل : وإن كان البستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا
فصل : وإن كان البستان لاثنين فساقيا عاملا واحدا على ان له نصف نصيب أحدهما وثلث نصيب الآخر والعامل عالم بنصيب كل واحد منهما جاز لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان ولو أفرد كل واحد منهما بعقد كان له أن يشرط ما اتفقا عليه وإن جهل نصيب كل واحد منهما لم يجز لأنه غرر فأنه قد يقل نصيب من شرط النصف فيقل حظه وقد يكثر فيتوفر حظه فأما إن شرطا قدرا واحدا من مالهما جاز وإن لم يعلم قدر ما لكل واحد منهما لأنها جهالة لا غرر فيها ولا ضرر فصار كما لو قالا بعناك دارنا هذه بألف ولم يعلم نصيب كل واحد منهما جاز لأنه أي نصيب كان فقد علم عوضه وعلم جملة المبيع فصح كذلك ههنا ولو ساقى واحد اثنين جاز ويجوز أن يشرط لهما التساوي في النصيب ويجوز أن يشرط لأحدهما أكثر من الآخر

فصل : ولو ساقاه ثلاث سنين
فصل : ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في الأولى النصف وفي الثانية الثلث وفي الثالثة الربع جاز لأن قدر ماله في كل سنة معلوم فصح كما لزو شرط له من كل نوع قدرا

فصل : ولو دفع إلى رجل بستانا فقال ما زرعت فيه من حنطة
فصل : ولو دفع إلى رجل بستانا فقال مكا زرعت فيه من حنطة فلي ربعه وما زرعت من شعير فلي ثلثه وما زرعت من باقلا فلي نصفه لم يصح لأن ما يزرعه من كل واحد من هذه الأصناف مجهول القدر فجرى مجرى ما لو شرط له في المساقاة ثلث هذا النوع الآخر وهو جاهل بما فيه منهما وإن قال إن زرعتها حنطة فلي ربعها وإن زرعتها شعيرا فلي ثلثه وإن زرعتها باقلا فلي نصفه لم يصح أيضا لأنه لا يدري ما يزرعه فاشبه ما لو قال بعتك بعشرة صحاح أو أحد عشرة مكسرة وفيه وجه آخر أنه يصح بناء على قوله في الإجارة إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فأنه يصح في المنصوص عنه فيخرج ههنا مثله وإن قال ما زرعنها من شيء فلي نصفه صح لأن النبي صلى الله عليه و سلم ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ولو جعل له في المزارعة ثلث الحنطة ونصف الشعير وثلثي الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع إما بتقدير البذر وإما بتقدير المكان وتعيينه أو بمساحته مثل إن قال تزرع هذا المكان حنطة وهذا شعيرا وتزرع مدين حنطة ومدين شعيرا أو تزرع قفيزا حنطة وقفيزين شعيرا جاز لأن كل واحد من هذه طريق إلى العلم فاكتفى به

فصل : وإن ساقاه على أنه وإن سقى سيحا فله الثلث
فصل : وإن ساقاه على أنه إن سقى سيحا فله الثلث وإن سقى بكلفة فله النصف لم يصح لأن العمل مجهول والنصيب مجهول وهو في معنى بيعتين في بيعة ويتخرج أن يصح قياسا على مسألة الإجارة ولو قال لك الخمسان إن كانت عليك خسارة وإن لم يكن عليك خسارة فلك الربع لم يصح نص عليه أحمد وقال : هذا شرطان في شرط وكرهه وهذا في معنى المسألة التي قبلها ويخرج فيها مثل ما خرج فيها ولو ساقاه في هذا الحائط بالثلث على أن يساقيه في الحائط الآخر بجزء معلوم لم يصح لأنه شرط عقدا في عقد فصار في معنى بيعتين في بيعة كقوله بعتك ثوبي على أن تبيعني ثوبك وإنما فسد لمعنيين أحدهما : أنه شرط في العقد عقدا آخر والنع الحاصل بذلك مجهول فكأنه العوض في مقابلة معلوم ومجهول الثاني : أن العقد الآخر لا يلزمه بالشرط فيسقط الشرط وإذا سقط وجب رد الجزء الذي تركه من العوض لأجله وذلك مجهول فيضير الكل مجهولا

فصل : وإن ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من ثمر
فصل : وإن ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين فجعل له الثلثين من الثمرة صح وكان السدس حصته من المساقات فصار كأنه قال ساقيتك على نصيبي بالثلث وإن ساقاه على أن تكون الثمرة بينهما نصفين أو على أن يكون العامل الثلث فهي مساقة فاسدة لأن العامل يستحق نصفها بملكه ولم يجعل له في مقابلة عمله شيئا وإذا شرط له الثلث فقد شرط أن غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه ويستعمله بلا عوض فلا يصح فإذا عمل في الشجر بناء على هذا كانت الثمرة بينهما نصفين بحكم الملك ولا يستحق العامل بعمله شيئا لأنه تبرع به لرضاء بالعمل بغير عوض فأشبه ما لو قال له أنا أعمل فيه بغير شيء وذكر أصحابنا وجها آخر أنه يستحق أجر مثله لأن المساقاة تقتضي عوضا فلا تسقط برضاه بإسقاطه كالنكاح ولم يسلم له العوض فيكون له أجر مثله
ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعا فلم يستحق عوضا كما لو لم يعقد المساقاة ويفارق النكاح لوجهين أحدهما : أن عقد النكاح صحيح فوجب به العوض لصحته وهذا فاسد لا يوجب شيئا والثاني : أن الإبضاع لا تستباح بالبذل والإباحة والعمل ههنا يستباح بذلك ولأن المهر في النكاح لا يخلو من أن يكون واجبا بالعقد أو بالإصابة أو بهما فإن وجب بالعقد لم يصح قياس هذا عليه لوجهين أحدهما : أن النكاح صحيح وهذا فاسد والثاني : أن العقد ههنا لا يوجب ول أوجب لأوجب قبل العمل ولا خلاف أن هذا لا يوجب قبل العمل شيئا وإن وجب بالإصابة لم يصح القياس عليها لوجهين أحدهما : أن الإصابة لا تستباح بالإباحة والبذل بخلاف العمل والثاني : أن الإصابة لو خلت عن العقد لأوجبت وهذا بخلافه وإن وجب بهما امتنع القياس لهذه الوجوه كلها فأما إن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معا فالمساقاة فاسدة والثمرة بينهما على قدر ملكيهما ويتقاصان العمل إن تساويا فيه وإن كان لأحدهما فضل نظرت فإن كان قد شرط له فضل ما في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل وإن لم يشترط له شيء فلا شيء له إلا على الوجه الذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه

فصل : وتصح المساقاة على البعد من الشجر
فصل : وتصح المساقاة على البعل من الشجر كما تجوز فيما يحتاج إلى سقي وبهذا قال مالك : ولا نعلم فيه خلافا عند من يجوز المساقاة لأن الحاجة تدعوا إلى المعاملة في ذلك كدعائها إلى المعاملة في غيره فيقاس عليه وكذلك الحكم في المزارعة

فصل : ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية
فصل : ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها كالبيع فإن ساقاه على بستان بغير رؤية ولا صفة لم يصح لأنه عقدج على مجهول فلم يصح كالبيع وإن ساقاه على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على غير معين كالبيع

فصل وتصح المساقاة بلفظ المساقاة دوما يؤدي معناه
فصل : وتصح المساقاة بلفظ المساقاة وما يؤدي معناها من الألفاظ نحو عاملتك وفالحتك واعمل في بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وما أشبه هذا لأن القصد المعني فإذا أتى به بأي لفظ دل عليه صح كالبيع وإن قال استأجرتك لتعمل لي في هذا الحائط حتى تكمل ثمرته بنصف ثمرته ففيه وجهان أحدهما : لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن الإجارة يشترط لها كون العوض معلوما والعمل معلوما وتكون لازمة والمساقاة بخلافه والثاني : يصح وهو أقيس لأنه مؤد للمعنى فصح به العقد كسائر الالفاظ المتفق عليها
وقد ذكر أبو الخطاب أن معنى قول أحمد تجوز إجارة الأرض ببعض الخارج منها المزارعة على أن البذر والعمل من العامل وما ذكر من شروط الإجارة إنما بعتبر في الإجارة الحقيقية أما إذا أريد بالإجارة المزارعة فلا يشترط لها غير شرط المزارعة

فصل : ويلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة
فصل : ويلزم العامل باطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها مثل حرث الأرض تحت الشجر والبقر التي تحرث وآلة الحرث وسقى الشجر واستقاء الماء وإصلاح طرق الماء وتنقيتها وقطع الحشيش المضر والشوك وقطع الشجر اليابس وزبار الكرم وقطع ما يحتاج إلى قطعه وتسوية الثمرة وإصلاح الإجاجين وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول النخل وإدارة الدولاب والحفظ للثمر في الشجر وبعده حتى يقسم وإن كان مما يسمس فعليه تشميسه وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل كسد الحيطان وإنشاء الأنهار وعمل الدولاب وحفر بئره وشراء ما يلقح به وعبر بعض أهل العلم عن هذ بعبارة أخرى فقال كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل وما لا يتكرر فهو على رب المال وهذا صحيح في العمل فأما شراء ما يلقح به فهو على رب المال وإن تكرر لأن هذا ليس من العمل فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا : هي على رب المال لأنها ليست من العمل فأشبهت ما يلقح به والأولى أنها على العامل لأنها تراد للعمل فأشبهت بقر الحرث ولأن استقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه وإن احتاج إلى بهيمة كغيره من الأعمال
وقال بعض أصحاب الشافعي : ما يتعلق بصلاح الأصول والثمرة معا كالكسيح للنهر والثور هو على من شرط عليه منهما وإن أهمل شرط ذلك على أحدهما لم تصح المساقات وقد ذكرنا ما يدل على أنه على العامل فأما تسميد الأرض بالزبل إن احتاجت إليه فشراء ذلك على رب المال لأنه ليس من العمل فجرى مجرى ما يلقح به وتفريق ذلك في الأرض على العامل كالتلقيح وإن أطلقا العقد ولم يبينا ما على كل واحد منهما فعلى كل واحد منهما ما ذكرنا أنه عليه وإن شرطا ذلك تأكيدا وإن شرطا على أحدهما شيئا مما يلزم الآخر فقال القاضي و أبو الخطاب : لا يجوز ذلك فعلى هذا تفسد المساقاة وهو مذهب الشافعي لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال
وقد روي عن أحمد ما يدل على صحة ذلك فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما فأن شرطه على العامل جاز وهذا مقتضى كلام الخرقي في المضاربة لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد ولا مفسدة فيه فصح كتأجيل الثمن في المبيع وشرط الرهن والضمين والخيار فيه لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد من العمل معلوما لئلا يفضي إلى التنازع والتواكل فيختل العمل وأن لا يكون ما على رب المال أكثر العمل لأن العامل يستحق بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل كان وجود عمله كعدمه فلا يستحق شيئا

فصل فأما الجذاذ والحصاد واللقاط فهو على العامل
فصل : فأما الجذاذ والحصاد واللقاط فهو لى العامل نص أحمد عليه في الحصاد وهو مذهب الشافعي لأنه من العمل فكان على العامل كالتشميس وروي عن أحمد الجذاذ أنه شرط على العامل فجائز لأن العمل عليه وإن لم يشرطه فعلى رب المال بحصته ما يصير إليه فظاهر هذا أنه جعل الجذاذ عليهما وأجاز اشتراطه على العامل وهو قول بعض الشافعية وقال محمد بن الحسن تفسد المساقاة بشرطه على العامل لأنه شرط ينافي مقتضى العقد واحتج من جعله عليهما بأنه يكون بعد تكامل الثمرة وانقضاء المعاملة فأشبه نقله إلى منزله
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم دفع خيبر إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم ولأن هذا من العمل فيكون عليه كالتشميس وما ذكروه يبطل بالتشميس ويفارق النقل إلى المنزل فأنه يكون بعد القسمة وزوال العقد فأشبه المخزن

فصل : وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال
فصل : وإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فهو كشرط عمل رب المال لأن عملهم كعمله فإن يد الغلام كيد مولاه وقال أبو الخطاب : فيه وجهان أحدهما : كما ذكرنا والثاني : يجوز لأن غلمانه ماله فجاز أن تعمل تبعا لماله كثور الدولاب وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها وأما رب المال لا يجوز جعله تبعا وهذا قول مالك و الشافعي و محمد بن الحسن فإذا شرط غلمانا يعملون معه فنفقتهم على ما يشترطان عليه فإن أطلقا ولم يذكرا نفقتهم فهي على رب المال وبهذا قال الشافعي وقال مالك : نفقتهم على المساقي ولا ينبغي أن يشرطها على رب المال لأن العمل على المساقي فمؤنة من يعمله عليه كمؤنة غلمانه
ولنا أنه مملوك رب المال فكانت نفقته عليه عند الإطلاق كما لو أجره فإن شرطها على العامل جاز ولا يشترط تقديرها وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن يشترط تقديرها لأنه اشترط عليه ما لا يلزمه فوجب أن يكون معلوما كسائر الشروط
ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها ولا يجب ذكر صفاتها فلم يجب تقديرها ولا بد من معرفة الغلمان المشترط عملهم برؤية أو صفة تحصل بها معرفتهم كما في عقد الإجارة

فصل : وإن شرط العامل أن أجر الأجراء
فصل : وإن شرط العامل أن أجر الأجراء الدين يحتاج إلى الإستعانة بهم من الثمرة وقدر الأجرة لم يصح لأن العمل عليه فإذا شرط أجره من المال لم يصح كما لو شرط لنفسه أجر عمله وإن لم يقدره فسد لذلك ولأنه مجهول ويفارق هذا ما إذا اشترط المضارب أجر ما يحتاج إليهم من الحمالين ونحوهم لأن ذلك لا يلزم العامل فكان على المال ولو شرط أجر ما يلزمه عمله بنفسه لم يصح كمسألتنا

فصل : المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة
فصل : ظاهر كلام أحمد أن المساقاة والمزارعة من العقود الجائزة أومأ إليه في رواية الأثرم وسئل عن الأكار يخرج نفسه من غير أن يخرجه صاحب الضيعة فلم يمنعه من ذلك ذكره الشيخ أبو عبد الله ابن حامد وهو قول بعض أصحاب الحديث وقال بعض أصحابنا : هو عقد لازم وهو قول أكثر الفقهاء لأنه عقد معاوضة فكان لازما كالإجارة ولأنه لو كان جائزا جاز لرب المال فسخه إذا أدركت الثمرة فيسقط حق العامل فيستضر
ولنا ما روى مسلم بإسناده عن ابن عمر أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نقركم على ذلك ما شئنا ] ولو كان لازما لم يجز بغير تقدير مدة ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم ينقل عنه أنه قدر لهم ذلك بمدة ولو قدر لم يترك نقله لأن هذا مما يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله وعمر رضي الله عنه أجلاهم من الأرض وأخرجهم من خيبر ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم فيها ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزا كالمضاربة وفارق الإجارة لأنها بيع فكانت لازمة كبيع الأعيان ولأن عوضها مقدر معلوم فأشبهت البيع وقياسهم ينتقض بالمضاربة وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة فقياسها عليها أولى وقولهم : إنه يفضي إلى أن رب االمال يفسخ بعد إدراك الثمرة قلنا : إذا ظهرت الثمرة فهي تظهر على ملكهم فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولا غيره كما لو فسخ المضاربة بعد ظهور الربح فعلى هذا لا يفتقرإلى ضرب مدة ولذلك لم يضرب النبي صلى الله عليه و سلم ولا خلفاؤه رضي الله عنهم لأهل خيبر مدة معلومة حين عاملوهم ولأنه عقد جائز فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة وسائر العقود الجائزة ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه وعلى العامل تمام العمل كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد ظهور الربح وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شيء له لأنه رضي بإسقاط حقه فصار كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح وعامل الجعالة إذا فسخ قبل إتمام عمله وإن فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة فعليه أجر المثل للعامل لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق بع العوض فأشبه ما لو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالبا فلولا الفسخ لظهرت الثمرة فملك نصيبه منها وقد قطع ذلك بفسخه فأشبه فسخ الجعالة بخلاف المضاربة فانه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر كان العمل عليها في الإبتداء من أسباب ظهورها والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا فأما إن قلنا : إنه عقد لازم فلا يصح إلا على مدة معلومة وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور : يصح من غير ذكر مدة ويقع على سنة واحدة وأجازه بعض أهل الكوفة استحسانا لأنه لما شرط له جزء من الثمرة كان ذلك دليلا على أنه أراد مدة تحصل الثمرة فيها ولنا أنه عقد لازم فوجب تقديره بمدة كالإجارة ولأن المساقاة أشبه بالإجارة لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها ولأنها إذا وقعت مطلقة لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها لأنه يفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته فيصير كالمالك ولا يمكن تقديره بالسنة لأنه تحكم وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة فعلى هذا لا تتقدر أكثر المدة بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت وقد قيل لا يجوز أكثر من ثلاثين سنة وهذا تحكم وتوقيت لا يصار إلا بنص أو إجماع فأما أقل المدة فيتقدر بمدة تكمل الثمرة فيها فلا يجوز على أقل منها لأن المقصود أن يشتركا في الثمرة ولا يوجد في أقل من هذه المدة فإن ساقاة على مدة لا تكمل فيها الثمرة فالمساقاة فاسدة فإذا عمل فيها فظهرت الثمرة ولم تكمل فله أجر مثله في أحد الوجهين وفي الأخر لا شيء له لأنه رضي بالعمل بغير عوض فهو كالمتبرع والأول أصح لأن هذا لم يرض إلا بعوض وهو جزء من الثمرة وذلك الجزء موجود غير أنه لا يمكن تسيمه إليه فلما تعذر دفع العوض الذي اتفقا عليه إليه كان جر مثله كما في الإجارة الفاسدة وفارق المتبرع فإنه رضي بغير شيء وإن لم تظهر الثمرة فلا شيء له في أصح الوجهين لأنه رضي بالعمل بغير عوض وإن ساقاة إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالبا فلم يحمل تلك السنة فلا شيء للعامل لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء الذي اشترط جزؤه فأشبه المضاربة إذا لم يربح فيها وإن ظهرت الشمرة ولم تكمل فله نصيبه منها وعليه إتمام العمل فيها كما لو انفسخت قبل كمالها وإن ساقاه إلى مدة يحتمل أن يكون للشجر ثمرة ويحتمل أن لا يكون ففي صحة المساقاة وجهان أحدهما : تصح لأن الشجر يحتمل أن يحمل ويحتمل أن لا يحمل والمساقاة جائزة فيه والثاني : لا يصح لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم تصح كالسلم في مثل ذلك ولأن ذلك غرر أمكن التحرز عنه فلم يجز العقد معه كما لو شرط ثمر نخلة بعينها وفارق ما إذا شرط مدة تكمل فيها الثمرة فأن الغالب أن الشجر يحمل واحتمال أن لا يحمل نادر لم يمكن التحرز عنه فإن قلنا : العقد صحيح فله حصته من الثمر فإن لم يحمل فلا شيء له وإن قلنا : هو فاسد استحق أجر المثل سواء حمل أو لم يحمل لأنه لم يرض بغير عوض ولم يسلم له العوض فكان له العوض وجها واحدا بخلاف ما لو جعل الأجل إلى مدة لا يحمل في مثلها غالبا ومتى خرجت الثمرة قبل انقضاء الأجل فله حقه منها إذا قلنا : بصحة العقد وإن خرجت بعده فلا حق له فيها ومذهب الشافعي في هذا قريب مما ذكرنا

فصلان : ولا يثبت في المساقاة خيار الشرط
فصل : ولا يثبت في المساقة خيار الشرط لأنها إن كانت جائزة فالجائز مستغن بنفسه عن الخيار فيه وإن كانت لازمة فإذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه وهو العمل فيها وأما خيار المجلس فلا يثبت إن كانت جائزة لما تقدم وإن كانت لازمة فعلى وجهين أحدهما : لا يثبت لأنها عقد لا يشترط فيه قبض العوض ولا يثبت فيه خيار الشرط فلا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح والثاني : يثبت لأنه عقد لازم يقصد به المال أشبه البيع
فصل : ومتى قلنا : بجوازها لم يفتقر إلى ضرب مدة لأن إبقاءها إليهما وفسخها جائز لكل واحد منهما متى شاء فلم تحتج إلى مدة كالمضاربة وإن قدرها بمدة جاز لأنه لا ضرر في التقدير وقد تبينا جواز ذلك في المضاربة والمساقاة مثلها وتنفسخ بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه لسفه كقولنا : في المضاربة فإذا مات العامل أو رب المال انفسخت المساقاة فكان الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما على ما أسلفناه وإن قلنا بلزومها لم ينفسخ العقد ويقوم الوارث مقام الميت منهما لأنه عقد لازم فأشبه الإجارة لكن إن كان الميت العامل فأبى وارثه القيام مقامه لم يخبر لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق التي على موروثه إلا ما أمكن دفعه من تركته والعمل ليس مما يمكن ذلك فيه فعلى هذا يستأجر الحاكم من التركة من يعمل العمل فإن لم تكن له تركة أو تعذر الإستئجار منها فلرب المال الفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فيثبت الفسخ كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه ثم إن كانت الثمرة قد ظهرت بيع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لأجر ما بقي من العمل واستؤجر من يعمل ذلك وإن احتيج إلى بيع الجميع بيع ثم لا يخلو أما أن تكون الثمرة قد بدا صلاحها أو لم يبد فإن كانت قد بدا إصلاحها خير المالك بين البيع والشراء فإن اشترى نصيب العامل جاز وإن اختار بيع نصيبه أيضا باعه وباع الحاكم نصيبه العامل وإن أبى البيع والشراء باع الحاكم نصيب العامل وحده وما بقي على العامل من العمل يكتري عليه من يعمله وما فضل لورثته وإن كان لم يبد صلاحها خير المالك أيضا فإن بيع لأجنبي لم يجز إلا بشرط القطع ولا يجوز بيع نصيب العامل وحده لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع نصيب المالك فيقف إمكان قطعه على قطع ملك غيره وهل يجوز شراء المالك لها ؟ على وجهين وهكذا الحكم إذا انفسخت المساقاة بموت العامل لقولنا بجوازها وأبى الوارث العمل وإن اختار رب المال البقاء على المساقاة لم تنفسخ إذا قلنا : بلزومها ويستأذن الحاكم في الإنفاق على الثمرة ويرجع بما أنفق فإن عجز عن استئذان الحاكم فأنفق محتسبا بالرجوع وأشهد على الإنفاق بشرط الرجوع رجع بما أنفق وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه مضطر وإن أمكنه استئذان الحاكم فأنفق بينة الرجوع من غير استئذانه فهل يرجع بذلك ؟ على وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وإن تبرع بالإنفاق لم يرجع بشيء كما لو تبرع بالصدقة والحكم فيما إذا أنفق على الثمرة بعد فسخ العقد إذا تعذر بيعها كالحكم ههنا سواء

فصل : وإن هرب العامل فلرب المال الفسخ
فصل : وإن هرب العامل فلرب المال الفسخ لأنه عقد جائز وإن قلنا : بلزومه فحكمه حكم ما لو مات وأبي وارثه أن يقوم مقامه إلا أنه إن لم يجد الحاكم له مالا وأمكنه الاقتراض عليه من بيت المال أو غيره فعل وإن لم يمكنه ووجد من يعمل بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة فعل فإن لم يجد فلرب المال الفسخ أما الميت فلا يقترض عليه لأنه لا ذمة له

فصل : والعامل أمير والقول قوله فيما يدعيه من هلاك
فصل : والعامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك وما يدعى عليه من خيانة لأن رب المال ائتمنه بدفع ماله إليه فهو كالمضارب فإن أتهم حلف فإن ثبتت خيانته بإقرار أو ببينة أو نكوله ضم إليه من يشرف عليه فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب مالك : لا يقام غيره مقامه بل يحفظ منه لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة
ولنا أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه فاستوفيت بغيره كما لو هرب ولا نسلم إمكان استيفاء المنافع منه لأنه لا يؤمن من تركها ولا يوثق منه بفعلها ولا نقل أن له فسخ المساقاة وإنما لم يمكن حفظها من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها لأن الأمانة قد تعذرت في حقك فلا يلزم رب المال ائتمانك وفارق فسخه بغير الخيانة فأنه لا ضرر على رب المال وههنا يفوت ماله

فإن عجز عن العمل لضعفه مع أمانته ضم إليه غيره
فصل : فإن عجز عن العمل لضعفه مع أمانته ضم إليه غيره ولا ينزع من يده لأن العمل مستحق عليه ولا ضرر في بقاء يده عليه وإن عجز بالكلية أقام مقامه من يعمل والأجرة عليه في الموضعين لأن عليه توفية العمل وهذا من توفيته

فصل : وإن اختلفا في الجزء المشروط للعامل
فصل : وإن اختلفا في الجزء المشروط للعامل فالقول قول رب المال ذكره ابن حامد وقال مالك : القول قول العامل إذا ادعى ما يشبه لأنه أقوى سببا لتسلمه للحائط والعمل وقال الشافعي : يتحالفان وكذلك إن اختلفا فيما تناولته المساقاة من الشجر
ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل فيكون القول قوله لقوله عليه السلام [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] فإن كان مع أحدهما بينة حكم بها وإن كان مع كل واحد منهما بينة ففي أيهما تقدم بينته ؟ وجهان بناء على بينة الداخل والخارج فإن كان الشجر لإثنين فصدق أحدهما العامل وكذبه الآخر أخذ نصيبه من مال المصدق فإن شهد على المنكر قبلت شهادته إذا كان عدلا لأنه لا يجر إلى نفسه نفعا ولا يدفع ضررا ويحلف مع شاهده وإن لم يكن عدلا كانت شهادته كعدمها ولو كان العامل إثنين ورب المال واحدا فشهد أحدهما على صاحبه قبلت شهادته أيضا لما ذكرنا

فصل : ويملك العامة حصته من الثمرة بظهورها
فصل : ويملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فلو أتلفت كلها إلا واحدة كانت بينهما وهذا أحد قولي الشافعي والثاني يملكه بالمقاسمة كالقراض
ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه كسائر الشروط الصحيحة ومقتشاه كون الثمرة بينهما على كل حال لأنه لو لم يملكها قبل القسمة لما وجبت القسمة ولا ملكها كالأصول وأما القراض فأنه يملك الربح فيه بالظهور كمسألتنا ثم الفرق بينهما أن الربح وقاية لرأس المال فلم يملك حتى يسلم رأس المال لربه وهذا ليس بوقاية لشيء ولذلك لو تلفت الأصول كلها كانت الثمرة بينهما فإذا ثبت هذا فأنه يلزم كل واحد منهما زكاة نصيبه إذا بلغت حصته نصابا نص عليه أحمد في المزارعة وإن لم تبلغ النصاب إلا بجمعهما لم تجب لأن الخلطة لا تؤثر في غير المواشي في الصحيح وعنه أنها تؤثر ههنا فيبدأ بإخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي وإن كانت حصة أحدهما تبلغ نصابا دون الآخر فعلى من بلغت حصته نصابا الزكاة دون الآخر يخرجها بعد المقاسمة إلا أن يكون لمن لم تبلغ حصته نصابا ما يتم به النصاب من موضع أخر فتجب عليهما جميعا الزكاة وكذلك إن كان لأحدهما ثمر من جنس حصته يبلغان بمجموعهما نصابا فعليه الزكاة في حصته وإن كان أحد الشريكين ممن لا زكاة عليه كالمكاتب والذمي فعلى الآخر زكاة حصته إن بلغت نصابا وبهذا كله قال مالك و الشافعي وقال الليث : إن كان شريكه نصرانيا أعلمه أن الزكاة مؤداة في الحائط ثم يقاسمه بعد الزكاة ما بقي
ولنا أن النصراني لا زكاة عليه فلا يخرج من حصته شيء كما لو انفرد بها وقد روى أبو داود في السنن عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود خيبر أيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق قال جابر : خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق وزعم أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق

فصل : وإن ساقاه على أرض خراجية فالخراج على رب المال
فصل : وإن ساقاه على أرض خراجية فالخراج على رب المال لأنه يجب على الرقبة بدليل أنه يجب سواء أثمرت الشجرة أو لم تثمر ولأن الخراج يجب أجرة للأرض فكان على رب المال كما لو استأجر أرضا وزارع غيره فيها وبهذا قال الشافعي وقد نقل عن أحمد في الذي يتقبل الأرض البيضاء ليعمل عليها وهي من أرض السواد يتقبلها من السلطان فعلى من يقبلها أن يؤدي وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر وهذا معناه والله أعلم : إذا دفع السلطان أرض الخراج إلى رجل بعملها ويؤدي خراجها فأنه يبدأ فيؤدي خراجها ثم يزكي ما بقي ذكره الخرقي في باب الزكاة ولا تنافي بين ذلك وبين ما ذكرنا ههنا إن شاء الله تعالى

مسألة : قال : ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم
مسألة : قال : ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم
يعني إذا شرط جزءا معلوما من الثمرة ودراهم معلومة كعشرة ونحوها لم يجز بغير خلاف لأنه ربما لم يحدث من النماء ما يساوي تلك الدراهم فيتضرر رب المال ولذلك منعنا من اشتراط أقفزة معلومة ولو شرط له دراهم منفردة عن الجزء لم يجز لذلك ولو جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه فيها أو ثمر شجر غير الشجر الذي ساقاه عليه أو شرط عليه عملا في غير الشجر الذي ساقاه عليه أو عملا في غير السنة فسد العقد سواء جعل ذلك كل حقه أو بعضه أو جميع العمل أو بعضه لأنه يخالف موضوع المساقاة إذ موضوعها أن يعمل في شجر معين بجزء مشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل

فصل : وإذا ساقى رجلا أو زارعة فعامل العامل غيره على الأرض
فصل : وإذا ساقى رجلا أو زارعه عامل العامل غيره على الأرض والشجر لم يجز ذلك وبهذا قال أبو يوسف و أبو ثور وأجازه مالك : إذا جاء برجل أمين ولنا أنه عامل في المال بجزء من نمائه فلم يجز أن يعامل غيره فيه كالمضارب ولأنه إنما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره كالوكيل فأما إن استأجر أرضا فله أن يزارع غيره فيها لأنها صارت منافعها مستحقة له فملك المزارعة فيها كالمالك والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج وكذلك يجوز لمن في يده أرض خراجية أن يزارع فيها لأنه بمنزلة المستأجر لها وللموقوف عليه أن يزارع في الوقف ويساقي على شجره لأنه إما مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم في هذا خلافا عند من أجار المساقاة والمزارعة والله أعلم

فصل : وإذا ساقاه على ودي النخل أو صفار الشجر
فصل : وإذا ساقاه على ودي النخل أو صفار الشجر إلى مدة يحمل فيها غالبا ويكون له فيها جزء من الثمرة معلوم صح لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر ونصيبه يقل وهذا لا يمنع صحتها كما لو جعل له سهما من ألف سهم وفيه الأقسام التي ذكرنا في كبار النخل والشجر وهي أننا إن قلنا : المساقاة عقد جائر لم نحتج إلى ذكر مدة وإن قلنا هو لازم ففيه ثلاثة أقسام أحدها : أن يجعل المدة زمنا يحمل فيه غالبا فيصبح فإن حمل فيها فله ما شرط له وإن لم يحمل فيها فلا شيء له والثاني : أن يجعلها إلى زمن لا يحمل فيه غالبا فلا يصح وإن عمل فيها فهل يستحق الأجر ؟ على وجهين وإن حمل في المدة لم يستحق ما جعل له لأن العقد وقع فاسدا فلم يستحق ما شرط فيه والثالث : أن يجعل المدة زمنا يحتمل أن يحمل فيها ويحتمل أن لا يحمل فهل يصح ؟ على وجهين فإن قلنا : لا يصح استحق الأجر وإن قلنا : يصح فحمل في المدة استحق ما شرط له وإن لم يحمل فيها لم يستحق شيئا وإن شرط نصف الثمرة ونصف الأصل لم يصح لأن موضوع المساقاة أن يشتركا في النماء والفائدة فإذا شرط اشتراكهما في الأصل لم يجز كما لو شرط في المضاربة اشتراكهما في رأس المال فعلى هذا يكون له أجر مثله وكذلك لو جعل له جزءا من ثمرتها مدة بقائها لم يجز وإن جعل له ثمرة عام بعد مدة المساقاة لم يجز لأنه يخالف موضوع المساقاة

فصل : وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه
فصل : وإن ساقاه على شجر يغرسه ويعمل فيه حتى يحمل ويكون له جزء من الثمرة معلوم صح أيضا والحكم فيه كما لو ساقاه على صغار الشجر على ما بيناه وقد قال أحمد في رواية المروذي في رجل قال لرجل أغرس في أرضي هذه شجرا أو نخلا فما كان من غلة فلك بعمل كذا وكذا سهما من كذا وكذا فأجاره واحتج بحديث خيبر في الزرع والنخيل لكن بشرط أن يكون الغرس من رب الأرض كما يشترط في الزارعة كون البذر من رب الأرض فإن كان من العامل خرج على الروايتين فيما إذا اشترط البذر في المزارعة من العامل وقال القاضي : المعاملة باطلة وصاحب الأرض بالخيار بين تكليفه قلعها ويضمن له أرش نقصها وبين إقرارها في أرضه ويدفع إليه قيمتها كالمشتري إذا غرس في الأرض التي اشتراها ثم جاء الشيع فأخذها وإن اختار العامل قلع شجره فله ذلك سواء بذل له القيمة أو لم يبذلها لأنه ملكه فلم يمنع تحويلة وإن اتفقا على إبقاء الغراس ودفع أجر الأرض جاز ولو دفع أرضا إلى رجل يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجز على ما سبق ويحتمل الجواز بناء على المزارعة فأن المزارع يبذر في الأرض فيكون الزرع بينه وبين صاحب الأرض وهذا نظيره وإن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما فالمعاملة فاسدة وجها واحدا وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد ولا نعلم فيه مخالفا لأنه شرط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه الشجر والنخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما

فصل : وإن ساقاه على شجر فبان مستحقا بعد العمل
فصل : وإن ساقاه على شجر فبان بعد العمل أخذه وبه وثمرته لأنه عين ما له ولا حق للعامل في ثمرته لأنه عمل فيها بغير إذن مالكها ولا أجر عليه لذلك وله أجر مثله على الغاصب لأنه غره واستعمله فلزمه الأجر كما لو غصب نقرة فاستأجر من ضربها دراهم وإن شمس الثمرة فلم تنقص أخذها ربها وإن نقصت فلبها أرش نقصها ويرجع به على من شاء منهما ويستقر ذلك على الغاصب وإن استحقت بعد أن اقتسماها وأكلاها فلربها تضمين من شاء منهما فإن ضمن الغاصب فله تضمينه الكل وله تضمينه قدر نصيبه ويضمن العامل قدر نصيبه لأن الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان الجميع فإن ضمنه الكل رجع على العامل بقدر نصيبه لأن التلف وجد في يده فاستقر الضمان عليه ويرجع العامل على الغاصب بأجر مثله ويحتمل أن لا يرجع الغاصب على العامل بشيء لأنه غره فلم سرجع عليه كما لو أطعم إنسانا شيئا وقال له : كله فأنه طعامي ثم تبين أنه مغصوب وإن ضمن العامل احتمل أنه لا يضمنه إلا نصيبه خاصة لأنه ما قبض الثمرة كلها وإنما كان مراعيا لها وحافظا فلا يلزمه ضمانها ما لم يقبضها ويحتمل أن يضمنه الكل لأن يده ثبتت على الكل مشاهدة بغير حق فإن ضمنه الكل رجع العامل على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مثله وإن ضمن كل واحد منهما ما صار إليه رجع العامل على الغاصب بأجر مثله لا غير وإن تلفت الثمرة في شجرها أو بعد الجذاذ قبل القسمة فمن جعل العامل قابضا لها بثبوت يده على حائطها قال : بلزمه ضمانها ومن لا يكون قابضا إلا بأخذ نصيبه منها قال : لا يلزمه الضمان ويكون على الغاصب

باب المزارعة
مسألة : قال : وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض
معنى المزارعة دفع الأرض إلى إلى من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم قال البخاري قال أبو جعفر : ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وابن سيرين وممن رأى ذلك سعيد ابن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابنه وأبو يوسف ومحمد وروي ذلك عن معاذ والحسن وعبد الرحمن بن يزيد قال البخاري : وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكرهها عكرمة ومجاهد والنخعي وأبو حنيفة
وروي عن ابن عباس الأمران جميعا وأجازها الشافعي في الأرض بين النخيل إذا كان بياض الأرض أقل فإن كان أكثر فعلى وجهين ومنعها في الأرض البيضاء لما روى رافع بن خديج قال : كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية رسول الله صلى الله عليه و سلم أنفع قال : قلنا ما ذاك ؟ قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كانت له أرض فليزرعها ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى ] وعن ابن عمر قال : ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعنا رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها وقال جابر : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المخابرة وهذه كلها أحاديث صحاح متفق عليها
والمخابرة المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير الأكار وقيل المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسرا فروى البخاري عن جابر قال : كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من كانت له أرض فليزرعها أو لمنحها فإن لم يفعل فيمسك أرضه ] وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المخابرة قلت : وما المخابرة قال : [ أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع ]
ولنا ما روى ابن عمر قال : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ] متفق عليه وقد روى ذلك ابن عباس وجابر بن عبد الله
صلى الله عليه و سلم وقال أبو جعفر : عامل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليم يعطون الثلث والربع وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا عمل به وعمل به أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بعده فروى البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم عامل اهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع اوثمر فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسقا ثمرا وعشرون وسقا شعيرا فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يقطع لهن من الأرض والماء أو يمضي لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الأوسق فكانت عائشة اختارت الأرض ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما شيء عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد فكيف يجوز نسخه ومتى كان نسخه ؟ فإن نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف عمل به بعد نسخه وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاؤه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها ؟ فأين كان راوي النسخ حتى لم يذكره ولم يخبرهم به ؟
فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه أحدها : أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده فإنه قال كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على ان لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين الثاني : أن خبره في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة ولم يدل حديثه عليها أصلا وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا لأن القصة واحدة رويت بالأفاظ مختلفة فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر
الثالث : أن أحاديث رافع مضطربة جا مختلفة اختلافا كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف يقدم على مثل حديثنا ؟
قال الإمام أحمد : حديث رافع ألوان وقال أيضا : حديث رافع ضروب وقال ابن المنذر : قد جاءت الأخبار عن رافع لعلل تدل على أن النهي كان لذلك منها : الذي ذكرناه ومنها خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس قال زيد بن ثابت : أنا أعلم بذلك منه وإنما سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلين قد اقتتلا فقال : [ إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع ] رواه أبو داود و الأثرم وروى البخاري عن عمرو بن دينار قال : قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها قال : أن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينه عنها ولكن قال : أن بمنح أحدكم أخاه خير من أن ياخذ عليها خراجا معلوما ]
ثم أن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها ما لا يختلف في فساده كما قد بينا وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية الجواب الرابع : أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع لوجب حمله على أنه منسوخ لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر لكونه معمولا به من جهة النبي صلى الله عليه و سلم إلى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين فمتى كان نسخه ؟ وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فغنه قد روى حديث خيبر أيضا فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخا بقصة خيبر لإستحالة نسخها كما ذكرنا وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت فإن قال أصحاب الشافعي : تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء جمعا بينهما قلنا : هذا بعيد لوجوه خمسة أحدها : أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتي منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه الثاني : أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه وما ذكرناه دل عليه بعض الروايات وفسره الراوي له بما ذكرناه وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث والجمع بينهما يحمل بعضها على ما فسره روايه به أولى من التحكم بما لا دليل عليه الثالث : أن قولهم يفضي إلى تققيد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده الرابع : أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنته ومعانيها وهو أولى من قول من خالفهم الخامس : أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه فأن أبا جعفر روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة وعن الخلفاء الأربعة وأهليهم وفقهاؤ الصحابة واستمرار ذلك وهذا مما لا يجوز خفاؤه ولم ينكره من الصحابة منكر فكان إجماعا وما روى في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم لا يسوغ لأحد خلافه والقياس يقتضيه فأن الأرض عين تنمي بالعمل فيها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها كالأثمان في المضاربة والنخل في المساقاة أو نقول أرض فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخيل ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها والعمل عليها والأكرة يحتجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل الحاجة ههنا آكد لأن الحاجة إلىالزرع آكد منها إلى غيره لكونه مقتاتا ولكون الأرض لا ينتفع بها إلا بالعمل عليها بخلاف المال ويدل على ذلك قول راوي حديثهم نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أمر كان لنا نافعا والشارع لا ينهي عن المنافع وإنما ينهي عن المضار والمفاسد فيدل ذلك على غلط الراوي في المنهي عنه وحصول المنفعة فيما ظنه منهيا عنه إذا ثبت هذا فأن حكم المزارعة حكم المساقاة في أنها إنما تجوز بدزء للعامل من الزرع وفي جوازها ولزومها وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها

فصل : وإذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض
فصل : وإذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض فساقاة على الشجر وزارعه الأرض التي بين الشجر جاز سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد وقال : قد دفع النبي صلى الله عليه و سلم خيبر على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة فإذا قال ساقيتك على الشجر وزارعتك على الأرض بالنصف جاز وإن قال عاملتك على الأرض والشجر على النصف جاز لأن المعاملة تشملهما ولإن قال زارعتك الأرض بالنصف وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من الشجر ويجعل له في كل نوع قدرا وإن قال ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لأن المزارعة مساقاة من حيث أنها تحتاج إلى السقي فيها لحاجة الشجر إليه وقال أصحاب الشافعي : لا يصح لأن المساقاة لا تتناول الأرض وتصح في النخل وحده وقيل ينبني على تفريق الصفقة
ولنا أنه عبر عن عقد يشاركه في المعنى المشهور به في الإشتقاق فصح كما لو عبر بلفظ البيع في السلم ولأن المقصود المعنى وقد علم بقرائن أحواله وهكذا إن قال في الأرض البيضاء ساقيتك على هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها فأما إن قال ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل في العقد وليس للعامل أن يزرع وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو يوسف : للداخل زرع البياض فإن تشارطا أن ذلك بينهما فهو جائز وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع البياض لم يصلح لأن الداخل يسقي لرب الأرض فتلك زيادة ازدادها عليه
ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضا منفردة

فصل : وإن زارعه أرضا فيها شجرات يسيره
فصل : وإن زارعه أرضا فيها شجرات يسيره لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر واجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل لأنه يسير فيدخل تبعا ولنا أنه اشترط الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث

فصل : وإن أجره بياض أرض وسقاه على الشجر
فصل : وإن أجره بياض أرض وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز أفراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع والإجارة ويحتمل أن لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها أو قبل بدو صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في إبطال الحيل

مسألة : قال إذا كان البذر من رب الأرض
مسألة : قال : إذا كان البذر من رب الأرض
ظاهر المذهب أن المزارعة إنما تصح إذا كان البذر من رب الأرض والعمل من العامل نص عليه أحمد في رواية جماعة واختاره عامة الأصحاب وهو مذهب ابن سيرين و الشافعي و إسحاق لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة
وقد روى عن أحمد ما يدل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فغنه قال في رواية مهنا في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون ويقومون على الشجر على ان له النصف ولهم النصف فلا بأس بذلك وقد دفع النبي صلى الله عليه و سلم خيبر على هذا فأجاز دفع الأرض لزرعها من غير ذكر البذر فعلى أيهما أخرج البذر جاز وروي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من أهل الحديث وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
وروى عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل ولعلهم أرادوا أنه يجوز أن يكون من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولا ثالثا والدليل على صحة ما ذكرنا قول ابن عمر دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يهود خيبر وأرضها على أن يعملوها من اموالهم ولرسول الله صلى الله عليه و سلم شطر ثمرتها
وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها أخرجها البخاري فجعل عملها من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئا آخر وظاهره أن البذر من أهل خيبر والأصل المعول عليه في المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم أن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لنقل ولم يجز الإخلال بنقله ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعا فأن البخاري روى عنه أنه عامل الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا فظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا فإن قيل : هذا بمنزلة بيعتين في بيعة فكيف يفعله عمر رضي الله عنه ؟ قلنا : يحتمل أنه قال ذلك ليخيرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقدا عقده معه معينا كما لو قال في البيع إن شئت بعتكه بعشرة صحاح وإن شئت بأحد عشر مكسورة فاختار أحدهما فعقد البيع معه عليه معينا ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع إقرار عمر الدمشقي على ذلك وعلمه به جرى مجرى العقد ولهذا روي عن أحمد رحمه الله صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص والإجماع الذين ذكرناهما فكيف يعمل به ؟ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان وبدن صاحب أحدهما

فصل : فإن كان البذر منهما نصفين
فصل : فإن كان البذر منهما نصقين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها لأنها إن كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وإن كانت فاسدة فلكل واحد منهما بقدر بذره لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء وإن قلنا من شرط صحتها إخراج رب المال البذر فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل وإن شرطا التفاضل في الزرع وقلنا بصحتها فالزرع بينهما على ما شرطاه ولا تراجع بينهما وإن قلنا بفسادها فالزرع بينهما على قدر بذرهما ويتراجعان كما ذكرنا وكذلك إن تفاضلا في البذر وشرطا التساوي في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل

فصل : فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرض
فصل : فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرضي هذه بنصف بذرك ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله لم يصح لأن المنفعة غير معلومة وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو دار لم يجز ويكون الزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض وإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا تختلف معه ومعرفة البذر جاز وكان الزرع بينهما ويحتمل أن لا يصح لأن لبذر عوض في الإجارة فيشترطقبضه كما لو كان مبيعا وما حصل فيه قبض وإن قال أجرتك نصف أرضي بنصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر فهي كالتي قبلها إلا أن الزرع يكون بينهما على كل حال

مسألة : قالفإن اتفق على أن يأخذ رب الأرض
مسألة : قال : فإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره يقتسما ما بقي لم يجز
وكانت للمزارع أجرة مثله وكذلك يبطل أن أخرج المزارع البذر ويصير الزرع للمزارع وعليه أجرة الأرض أما إذا اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره فلا يصح لأنه كأنه اشترط لنفسه قفزانا معلومة وذلك شرط فاسد تفسد به المزارعة لأن الأرض ربما لا يخرج منها إلا تلك القفزان فيختص رب المال بها وربما لا تخرجها الأرض وأما إذا أخرج المزارع البذر فهو مبني على الروايتين في صحة هذا الشرط
وقد ذكر الخرقي أنه فاسد فإذا أخرج المزارع البذر فسدت كما لو أخرج العامل في المضاربة رأس المال من عنده ومتى فسدت المزارعة فالزرع لصاحب البذر لأنه عين ما له بنقلب من حال إلى حال وينمو فصار كصغار الشجر إذا غرس فطال والبيضة إذا حضنت فصارت فرخا والبذر ههنا من المزارع فكان الزرع له وعليه أجر الأرض لأن ربها إنما بذلها له بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها النابتة يزرعها على صاحب الزرع ولو فسدت والبذر من رب الأرض كان الزرع له وعليه أجر مثل العامل لذلك وإن كان البذر منهما فالزرع بينهما ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على صاحبه من أجر مثل الأرض التي فيها نصيب العامل وأجر العامل بقدر عمله في نصيب صاحب الأرض

فصل : وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه
فصل : وإن زارعه على أن لرب الأرض زرعا بعينه وللعامل زرعا بعينه مثل أن يشترط لأحدهما زرع ناحية وللآخر زرع أخرى أو يشترط أحدهما ما على السواقي والجداول إما منفردا أو مع نصيبه فهو فاسد بإجماع العلماء لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ ولأنه يؤدي إلى تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه

فصل : والشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة
فصل : والشروط الفاسدة في المساقاة والمزارعة تنقسم قسمين أحدهما : ما يعود بجهالة نصيب كل واحد منهما مثل ما ذكرنا ههنا أو أن يشترط أحدهما نصيبا مجهولا أو دراهم معلومة أو أقفزة معينة أو انه إن سقى سيحا فله كذا وإن سقى بكلفة فله كذا فهذا يفسدها لأنه يعود إلى جهالة المعقود عليه فأشبه البيع بثمن مجهول والمضاربة مع جهالة نصيب أحدهما وإن شرط البذر من العامل فالمنصوص عن أحمد فساد العقد لأن الشرط إذا فسد لزم كون الزرع لرب البذر لكونه نماء ماله فلا يحصل لرب الأرض شيء منه ويستحق الأجر وهذا معنى الفساد فأما إن شرط ما لا يفضي إلى جهالة الربح كعمل رب المال معه أو عمل العامل في شيء آخر فهل تفسد المساقاة والمزارعة ؟ يخرج على روايتين بناء على الشرط الفاسدفي البيع والمضاربة

فصل : وإن دفع بذره إلى صاحب الأرض ليزرعه
فصل : وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ليزرعه في أرلاضه ويكون ما يخرج بينهما فهو فاسد أيضا لأن البذر ليس من رب الأرض ولا من العامل ويكون الزرع لصاحب البذر وعليه أجر الأرض والعمل وإن قال صاحب الأرض لرجل : أنا أزرع الأرض ببذري وعواملي ويكون سقيها من مائك والزرع بيننا ففيها روايتان إحداهما : لا يصح اختارها القاضي لأن موضوع المزارعة على أن يكون من أحدهما الأرض ومن الآخر العمل وليس من صاحب الماء أرض ولا عمل ولا بذر ولأن الماء لا يباع ولا يستأجر فكيف تصح المزارعة به ؟ والثانية : يصح اختارها أبو بكر ونقلها عن أحمد يعقوب بن بختان وحرب لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع فجاز أن يكون من أحدهما كالأرض والعمل والأول أصح لأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص لما ذكرناه

فصل : وإن اشترك ثلاثة من احدهم الأرض ومن الآخر البذر من الآخر البقر
فصل : وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على أن ما رزق الله بينهم فعملوا فهذا عقد فاسد نص عليه في رواية أبي داود ومهنا وأحمد بن القاسم وذكر حديث مجاهد في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحدهم : علي الفدان وقال الآخر : قبلي الأرض وقال الآخر : قبلي البذر وقال الآخر : قبلي العمل فجعل النبي صلى الله عليه و سلم الزرع لصاحب البذر وألغى صاحب الأرض وجعل لصاحب العمل كل يوم درهما ولصاحب الفدان شيئا معلوما فال أحمد : لا يصح والعمل على غيره وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وعن واصل بن أبي جميل عن مجاهد وقال في آخره فحدثت به مكحولا فقال : ما يسرني بهذا الحديث وصيفا وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرناها في صدر الفصل وهما فاسدان لأن موضوع المزارعة على ان البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو ههنا من واحد منهما وليست شركة لأن الشركة تكون بالأثمان وإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شيء من ذلك ههنا وليست إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة وعوض معلوم وبهذا قال مالك و الشافعي و أصحاب الرأي فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنها دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي : يتصدق بالفضل والصحيح أن النماء لصاحب البذر ولا تلزمه الصدقة به كسائر ماله ولو كانت الأرض لثلاثة فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم وأعوانهم على خلافا لأن أحدهم لا يفضل صاحبيه بشيء

فصل : وإذا زرع رجلا وأجره أرضه ليزرعها
فصل : وإذا زارع رجلا وآجره أرضه فزرعها وسقط من الحب شيء فنبت في تلك الأرض عاما آخر فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبي داود و محمد بن الحارث وقال الشافعي هو لصاحب الحب لأنه عين ما له فهو كما لو بذره قصدا
ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه من بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه ولهذا أبيح التقاطه ورعيه ولا نعلم خلافا في إباحة التقاط خلفه الحصادون من سنبل وحب وغيرهما فجرى ذلك مجرى نبذه على سبيل الترك له وصار كالشيء التافه يسقط منه كالثمرة واللقمة ونحوهما والنوى لو التقطه إنسان فغرسه كان له دون من سقط منه كذا ههنا

فصل : تجوز إجارة الأرض بالورق والذهب
فصل : في إجارة الأرض تجوز إجارتها بالورق والذهب وسائر العروض سوى المطعوم في قول أكثر أهل العلم قال أحمد : فلما اختلفوا في الذهب والورق وقال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن اكتراء الأرض وقتا معلوما جائز بالذهب والفضة روينا هذا القول عن سعيد و رافع بن خديج و ابن عمر و ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و عروة و القاسم و سالم و عبد الله بن الحارث و مالك و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي عن طاوس و الحسن كراهة ذلك لما روى رافع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن كراء المزارع ] متفق عليه
ولنا [ أن رافعا قال : أما بالذهب والورق فلم ينهنا يعني النبي صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه ول مسلم [ أما بشيء معلوم مضمون فلا بأس ] و [ عن حنظلة بن قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كراء الأرض قال : فقلت بالذهب والفضة ؟ قال إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس ] متفق عليه و [ عن سعد قال : كنا نكري الأرض بما على السواقي وما سعد بالماء منها فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة ] رواه أبو داود ولأنها عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها كالدور والحكم في العروض كالحكم في الأثمان وأما حديثهم فقد فسره الراوي بما ذكرنا عنه فلا يجوز الإحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فإن راويهما واحد وقد رواه عاما وخاصا فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث والقياس وقول أكثر أهل العلم
فأما إجارتها بطعام فتنقسم ثلاثة أقسام أحدها : أن يؤجرها بمطعوم غير الخارج منها معلوم فيجوز نص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير و عكرمة و النخعي و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ومنع منه مالك حتى منع إجارتها باللبن والعسل وقد روي عن أحمد أنه قال : ربما تهيبته قال القاضي : هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز والحجة ل مالك ما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى ] رواه أبو داود و ابن ماجة و [ روى ظهير بن رافع قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما تصنعون بمحاقلكم ؟ قلت نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من الثمر أو الشعير قال : لا تفعلوا إزرعوها أو امسكوها ] متفق عليه وروى أبو سعيد قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المحاقلة استكراء الأرض بالحنطة ]
ولنا قول رافع فأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به ولأنه عوض معلوم مضمون لا يتخذ وسيلة إلى الربا فجازت إجارتها به كالأثمان وحديث ظهير بن رافع قد سبق الكلام عليه في المزارعة على أنه يحتمل النهي عن إجارتها بذلك إذا كان خارجا منها ويحتمل النهي عنه إذا آجرها بالربع والأوسق وحديث أبي سعيد يحتمل المنع من كرائها بالحنطة إذا اكتراها لزرع الحنطة
القسم الثاني : إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يزرع فيها كإجارتها بقفزان حنطة لزرعها فقال أبو الخطاب : فيها روايتان إحداهما : المنع وهي التي ذكرها القاضي مذهبا وهي قول مالك لما تقدم من الأحاديث ولأنها ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها لأنه يجعل مكان قوله زارعتك آجرتك فتصير مزارعة بلفظ الإجارة والذرائع معتبرة والثانية : جواز ذلك اختارها أبو الخطاب وهو قول أبو حنيفة و الشافعي لما ذكرنا في القسم الأول ولأن ما جازت إجارته بغير المطعوم جازت به كالدور
القسم الثالث : إجارتها بجزء مشاع مما يخرج منها كنصف وثلث وربع فالمنصوص عن أحمد جوازه وهو قول أكثر الأصحاب واختار أبو الخطاب أنها لا تصح وهو قول أبو حنيفة و الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله لما تقدم من الأحاديث في النهي من غير معارض لها ولأنها إجارة بعوض مجهول فلم تصح كإجارتها بثلث ما يخرج من أرض أخرى ولأنها إجارة لعين ببعض نمائها فلم تجز كسائر الأعيان ولأنه لا نص في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص فإن النصوص إنما وردت بالنهي عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصا والمنصوص على جوازه إجارتها بذهب أو فضة أو شيء مضمون معلوم وليست هذه كذلك فأما نص أحمد في الجواز فيتعين حمله على المزارعة بلفظ الإجارة فيكون حكمها حكم المزارعة في جوازها ولزومها وفيها يلزم العامل ورب الأرض وسائر أحكامها والله أعلم

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي

  : أدوات الإعراب المؤلف: ظاهر شوكت البياتي أدوات الأعراب تأليف ظاهر شوكت البياتي  الإهداء إلى صديقي الصدوق: طه هاشم الدليمي الذ...